مجلة الرسالة/العدد 1011/محنة الأدب في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1011/محنة الأدب في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 11 - 1952



للأستاذ منصور جاب الله

إن محنة الأدب في مصر إنما تتجلى في هذه الضائقة التي يكابدها الأدباء، والأدباء المصريون بوجه خاص، فلقد أتى على مصر حين من الدهر كانت فيه ملتحدا لأدباء العروبة وملاذا للناطقين بالضاد في سائر الأقطار

ولقد أينعت شجرة الأدب في مصر، وتشابكت أغصانها وتهدلت أفنانها ورفت ظلالها حتى كادت تسع الناس جميعا، ثم إذا بهذه الشجرة الفينانه تذوى أغصانها وتتزايل ظلالها فإذا نحن من الأدب في صحراء جرداء

ومنذ بضعة عشر عاما سألنا شيخا من شيوخ الأدب هو المرحوم السيد مصطفى صادق الرافعي عن سبب تمسكه (بوظيفته) الصغيرة في محكمة طنطا، قلنا له: هلا احترفت الأدب وحده؟ أذن لجنيت من ورائه الذهب النضار وضحك الأديب العظيم وهو يقول: هيهات ذهب ما هنالك. . لو اقتصر عملي على الأدب وحده أذن لمت جوعا، ولما كان لي هذا الاسم المدوي الذي يطالعك في الصحف صباحا ومساء!

ولقد حسبنا الأستاذ الرافعي يومها جانحا إلى المغالاة، أو مائل إلى ناحية المزاح حتى قام على ما يقول من صميم الواقع شهيد وبصرنا بأدباء من الفحول قصروا جهدهم على الأدب فكان الجوع لهم مشربا وأداما

وقلنا مرة لشيخنا الأستاذ عبد العزيز البشري - رحمه الله - وهو في أوج شهرته ومجده: أن أمهات الصحف تتراكض خلفك تستكتبك المقال بكذا وكيت، وعملك الحكومي يحول بينك وبين كثير من وجوه الرأي التي قد لا تأمن حين إبدائها جوانب الزلل، فإذا أنت تنحين عن المنصب الحكومي، أمنت ما كنت تخاف، وأقبلت عليك جميع الصحف مشتاقة تجرر أذيالها

وأطال الشيخ البشري الصمت ثم اقبل علي يقول في مرارة: يا بني إن الصحافة إنما تقبل علي لأنني في غنى عنها، فإذا ما احتجت إليها فسوف تزول عني ازورارا وتنفر مني نفارا. إن الصحافة - مثلها مثل الدنيا - تقبل على من لا يريدها، وتطوي كشحا عن مريدها! والله لقد صدق صديقنا البشري فيما قال! وإن كاتب هذه السطور لم يتعظ بنصح الخريت المجرب فوقع في المحظور ودفع الثمن باهضا غاليا

وتحرير الخبر أنني حين كنت (موظفا) حكوميا استكتبتني صحيفتان كانت لهما مكانة وكان لهما قراء، وكان الأجر الذي أتتقاضاه منهما مجتمعتين يفوق اجري من الوظيفة فطوع لي ذلك أن أهجر العمل الحكومي - بإغراء من إحدى الصحيفتين - فهل يعرف القارئ ماذا حدث بعد ذلك؟

أدركت الجريدة الأولى أنه لم يعد لي عمل حكومي، وأن ظهري اصبح غير مسنود، فحملتني على ترك العمل بها، ولم آس على ذلك كثيرا لقد كان الأجر الذي أخذه من الصحيفة الأخرى كافيا، بيد أنه لم يمض على هجري الصحيفة الأولى إلا بضع اشهر حتى بدا للجريدة الأخرى أن تستغني عن (خدمتي) وكذلك أصبحت فارغا من العمل في فترة لا تبلغ العام منذ أن استقلت من الوظيفة الحكومية. أدركت عند إذ مبلغ نصيحة الشيخ عبد العزيز البشري من الصدق، وأن الصحافة بالنسبة للأديب إنما هي كالدنيا بالنسبة لرجل الدنيا

وأتلفت اليوم حوالي فأرى جهابذة الأدب أقلامهم معطلة وكان ينبغي أن يغترفوا الذهب من الإناء الذي يضيق دونهم ويتسع لصعاليك الصحافة على حد تعبير المرحوم الأستاذ مصطفى الرافعي، أو هلافيت الصحافة بتعبير الأستاذ العقاد!

ولو كان للأدباء حظ، أو لو كان للأدب ذاته كيان مادي لاعتمد على هذا الكيان أمثال العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم فإن الأدب الصحيح كان خليقا أن يحمل على متنه هذا الثالوث العظيم فلا يحتاج الأول لأن يكون عضوا في الشيوخ ولا يحتاج الثاني لكي يكون وزيرا ولا يحتاج الأخير لكي يكون مديرا لدار الكتب،

إن الأدب لم يستطع أن يحمل هؤلاء الأدباء الأفذاذ في سفينته الجارية، بله أدباء الدرجة الثانية، وأدباء الطبقة الثالثة ومن دونهم

والصحافة الآن هي الوسيلة لنشر الأدب، ذلك لأن الجريدة اليومية أو المجلة الأسبوعية تكون عادة في متناول العامة لرخص ثمنها، وليس كذلك الكتاب الذي لا بتداوله في العادة إلا خاصة المتأدبين، ولكن الصحافة جنت على الأدب، أو جنت على (فنيته) كما قال الرافعي، فلم يعد الأديب هو الذي يوجه القارئ كما كان الأمر من قبل، وإنما صار القارئ وصاحب الصحيفة هو الذي يوجه الكاتب الأديب، فقد أمست الصحف مثل حوانيت البادلين والبزازين يقبل عليها (الزبائن) بمقدار ما فيها من تزويقات ومظاهر خلابة لا غناء فيها ولا طائل من ورائها، ذلك لأن قارئ اليوم لا يحب الدسم ولا الطعام المركز، وإنما هو يقنع بالشطائر الخفيفة وإن كان ضررها على الصحة بليغا، ونقصد بالصحة صحة العقل والذهن ذلك لأن جيل هذه الأيام إنما يعني بصحة الأجسام ويطرح صحة العقول؟

وكذلك انحطت الصحافة بالأدب والأديب الناجح هو الذي يجاري الجمهور ويتملق غرائزه، فإذا عدمت الجريدة هذا النوع من الأدباء فإنها لا تعدم (المخبر) الذي يجيء كل يوم بأبشع أحداث الجنايات، وأطرف أخبار الطلاق

أني لأذكر أن أديبا نابها انتسب إلى إحدى الصحف، وسمعت أحد المعلقين يقول: إنه لا يصلح لهذا العمل، فتساءلت لماذا؟ فقيل لي: لأنه أديب - كذا والله! - فهتفت: يا قوم أفيكون المقتضى مانعا؟ ولقد كان الأمر كذلك في الواقع، فلم تمض إلا بضعة أشهر حتى استغنت الصحيفة عن الأديب المشهور واستعاضت عنه بشاب أُمي لا يحسن القراءة والكتابة ولكنه أخصائي في أنباء الفضائح والتشهير والتشنيع!

ومنذ أشهر أتصل بي أن أديب لامع الاسم موفور الكرامة سوف يعين رئيسا لتحرير إحدى الجرائد، فاستبعدت الخبر قياسا على ما علمته من التضاد بين الأدب والصحافة، وصح حدسي، فإن أديبنا سئل في ذلك فأجاب ونعم ما أجاب (أن الصحيفة التي أكون رئيسا لتحريرهالم تخلق بعد) ذلك لأن الصحافة لا تبغي أن يديرها الأدباء، وإنما تريد أن يكون الأدباء تبعا لها وصدق حدسي مرة أخرى حين اختارت هذه الجريدة لرياسة تحريرها صعلوك من صعاليك الصحافة!

أما بعد، فإن الأدب في مصر يعاني اليوم محنة بالغة الشدة. ولست في هذا متشائم، ولا أحب أن يشيع الشؤم، وإنما أريد أن ابصر رعاة العهد الجديد المجيد بحال الأدب الذي هو عماد كل أمة، فالأدب هو ضرام الثورة وشعارها، ولو بقيت سوق الأدب على كسادها، وانصرف الأدباء عن غشيانها، فقل على الأمة العفاء ثم العفاء!

منصور جاب الله