مجلة الرسالة/العدد 1010/شلر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1010/شلر

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1952



للكاتب الكبير توماس كارليل

ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت

- 6 -

إننا نجد شلر في تصادمه مع مواطنيه المثل الأعلى في سموه الخلقي، وهذا السمو هو الرابطة الوحيدة التي كانت تشده بمجتمع زمانه، وقد اظهر كل النبل مع أعدائه وأصدقائه على حد سواء، وعلى انه لم يدخل قط في مجادلات وترهات عصره، وبالرغم من مشاهدته واسفه على إسفافالأدب في زمنه لم يشهد حربا مكشوفة عليه وإنما يلمح إلى ذلك عن بعد كما هي الحال في كتابات (متون) ولذا نراه لا يتطرق إلا إلى السماء عدد قليل من معاصريه، لأنه لم يقصد الناس في هجومه وإنما كان يقصد الأفكار المعوجة والآراء الفجة. وفي كتابه (دراسة عن برغر) - هذا الكتاب الذي أسهب الناس فما الحديث عنه وعلقوا عليه شتى التعليقات، والذيانزل اشد الضربات في الشاعر المسكين (برغل) إلا أن شلر لم يقصد منه إثارة أي عداء ضد برغر - بل على العكس حاول أن يظهر فيه احترامه لفن الشاعر وتجربةلفهمه، لأنه لم يعن بالمنازعة مع برغر أو اي شخص آخر لم يقصد أي كسب رضا الجمهور، وقد كان حائزاً عليه بدرجة عالية لأنه لم يقدر هذا الرضا الجمهور، وقد قال في المعنى في فقرة جلية يعرفها قراء الإنجليز (إن الفنان في لحقيقة هو ابن عصره، لكن وارحمتاه له أن هو اصبح تلميذ هذا الفكر، فخير له لو اختطفته يد إحدى الآلهة وهولا يزال رضيعاً من حضن أمه لتربية في عصر آخر احسن فيشب ويبلغ مبلغ الرجال تحت سماء الإغريق القصية، وحالما يدرك هذا المبلغ فله أن يرجع إلى بلاده غريباً في سيمائه ليس ليسرها بوجود، بل يطهرها كأحد أبناء اغاممنون المرعبين) وعلى كل، فشلر لم يكن عنده اثر من آثار الغرور أو حتى الكبرياء لان شعوره الذاتي المتواضع كان أهم ميزة من ميزات عبقريته التي كانت ضمنية غير ظاهرة عليه، فلم يكن للمقت أو للغضب محل في نفسه اللهمإلا ضد الخرافات والإسفاف، وعنده تصبح الكراهية شيئا مقدسا، كما أن الزهو العاتي لم يكن له اثر في نظرته، أما تجهمه فكان يشبه تجهم أبولو الذي كان يقضي على الأفعى بنظرة واحدة من نظراته وكلمة أخرى يمكننا أن نقول في شلر ما نقوله في أفراد قلائل من أي قطر كان: لقد كان خادم من خدام معبد الحق وقد قام بمثل هذا الواجب خير قيام، ووليكن وحدها كافية للشادة به. ولقد اتفق سلوك شلر العقلي مع سلوكه الأخلاقي اتفاقاً دائماً؛ فكان بسيطاً في عظمة، سامياً في عدم تكبر، تقياً في عدم إسفاف، غيور في عدم حسد. وكانت الحساسية النبيلة والمشاركة المخلصة مع الطبيعة في جميع تقلباتها تنعشه فيه ميت الرجاء؛ إلا أن ذلك لم يكن مدعما بقابلية إبداعية. ولكن الطبيعة بما فيها من معنى وجمالكانت محدودة بصور قليلة لدى بصيرته، وكان اهتمامه يتركز في نوع خاصمن الصور، هي اقرب إلى العاطفة القاسية الشجية، وهذا ما كان يمكنه أن يمثله خير تمثيل كشاعر وكمفكر. ويمكننا أن نقول: أن موسيقاه كانت موسيقى سماوية حقة، لكن في نغمات رتيبة غير متنوعة وفي إيقاع بسيط، ولكن الانسجام في الترتيل مفقود فيها. ولا نكران بان شلر في أيامه الأخيرة، على الأقل، أدراك أسلوباً شعرياً باهراً صافياً في المجال الخالدة من الفن، ولكن هذه الموهبة ظلت جزئية، لأنها كانت نتاجاً لبعض قابلياته المكدودة أكثر من كونها نتاجاً ذاتياً لطبيعته الكلية، فعلى قمة المحرقة يوجد لهيب ابيض ولكن المواد ليست كلها ملتهبة إذا لم نقل غير مشتعلة. لا بل يظهر لنا أن الشعر إجمالاً لم يكن موهبته الرئيسية، كان عبقريته كانت منهمكة في التأملات الفلسفية والبيانية اكثر من الشعر. وإلى النهاية كانت هناك خشونة فيه مما يجعل عدم انصهاره في بودقة الشعر أمراً لا مفر منه. وهكذا لم تكن عبقريته قيثارة (بولية) تعزف عليها الرياح كما تشاء تصنع لحناً حراً، بل آلة موسيقية علمية إذا ما عزفت عزفاً فنياً أنتجت نغمات بديعة ولو بصورة محدودة. ومن المحتمل أن جزءاً يسيراً من مواهبه انكشف لنا، لأننا يجب أن نعلم بأنه لم يحظ بما حظي به إلا بعد جهد جهيد وتعب شديد، وانه استدعى إلى العالم الآخر وهو لما يبلغ منتصف العمر. وعلى كل حال، فنحن على قدر ما نجد فيه من المواهب مجبرون على الاعتراف بان أهم هذه المواهب كان هذا الإدراك العميق الدقيق الذي نجده في كل مؤلفاته. لقد كان لديه خيال ذهني واسع الأفق وقابلية فلسفية إدراكية عميقة، ومع ذلك فان البساطة وعدم الشمول ظاهران في كل هذا.

وكان شلر ينظر إلى الأعالي بدلا من أن يحدق فيما حوله. وكان يهتم اهتماما خاصا بالأمور الفلسفية البعيدة والتأملات الفنية وقيمة الإنسان ومصيره. ولم يعن بمصالح الإنسان وأعماله الآتية. ومع ذلك فهذه الأخيرة - كما تظهر لنا - ذات قيمة لا محدودة، لان ابسط مظهر من مظاهر الطبيعة، وخصوصا الطبيعة الحية، ما هو إلا نموذج ومطلع من مطالع الروح غير المرئية التي تعمل في الطبيعة. وليس من شئ تافه في الكون، بل أن اصغر شئ يمكن أن يعتبر نافذة نظر من خلالها إلى إلا محدود. ولم ينظر شلر كمفكر وكشاعر اكثر من نظرة عابرة إلى مثل هذه الأشياء، سواء كان ذلك في مناقشته أوفي عرضه للطبيعة وتصويره لها. فالشيء العادي ظل عادياً بالنسبة إليه، وإذا نظر إليه نظرة مثالية فذلك بصورة ميكانيكية ليس للوحي فيها أي مكان، وليس عن طريق التطلع الفلسفي الشعري، هذا الطريق الذي يفتح مجاهل الجمال في كل صفة من صفاته، بل عن طريق استنتاج هذه الصفات بانتقاء ما هو وضاء بارز منها وترك الباقي تذروه الرياح.

وفي هذا يختلف شر اختلافاً بينا عن الشعراء العظام وخصوصاً عن معاصره العظيم جوته، وهذه العظمة الفكرية - على ما هي عليه من قيمة وأهمية - عظمة بسيطة تسحر البصر لأول وهلة ولكنها لا تلبث أن تفقد الكثير من جلالها. فليس النظر إلى المجردات العلوية صعباً بمقدار الصعوبة التي نواجهها في النظر بعطف إلى مشاكلنا الاتية، والحكيم هو من يرشدنا ويساعدنا في أمور حياتنا اليومية، وقد يجوز أن يكون حكيما كذلك من يرشدنا إلى النظر إلى الحقائق القديمة نظرة أكاديمية شكلية، ولكننا نريد أن نرى الحكمة في أشكالها المكشوفة البينة، لأننا قد نجد في الأمثال كثيراً من الحكمة الواقعية أكثر من مما نجد في النظم الفلسفية والمدارس الأدبية. فكتاباته المبكرة وكل كتاباته تقريباً تمتاز بهذا الترف الأرستقراطي وهذا الزهو المجرد. فهو إما أن يكون تجريدياً أو نظامياً في تأملاته أو نراه متعلقاً ببعض الأفكار المعترف بها، غير عابئ بالنظر إلى ما يحيط به أو بالنظر إلى نهر الحياة المتعدد الألوان، وإذا نظر إلى ذلك فمن خلال كوة ضيقة. ففلسفته في التاريخ تستند على اعتبار كمال الإنسان نتيجة من نتائج التنظيمات الاجتماعية والمؤسسات الدينية، يستبين ذلك في شعره، فهو يدور في نطاق الأمور القديمة المعروفة من أمثال جنون الحب , والعظمة العاطفية، والحماسة في الدفاع عن الحرية وما شابه. نجد ذلك في كتابه (دون كارلوس)، هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره مرحلة انتقال ونقطة تحول بين فترتين من حياته: المبكرة والمتأخرة، وفي هذا الكتاب نجد البطلة المحبوبة (بوزا) تظهر محلقة في الأجواء، مضيئة صافية نقية وباردة وجافة كالمنارة البحرية. وقد عرف شلر نفسه بان العظمة لا تكمن هنا. وبجهد لا كلل فيه ولا ملل تمكن شلر من التخفيف من غلواء تحليقه وتوسيع رقعة منطقته الأرضية بالهبوط إليها، وقد حدث ذلك في بنجاح منقطع النظير، كما تشهد بذلك أشعاره وأكبر دليل على ذلك قصيدته (نشيد الأجراس)، وهي قصيدة عظيمة بلغت مبلغ الإعجاز في بلاغتها وفي عرضها. ما مأساته (وليم تل). وهي آخر مؤلفاته - فهي في أسلوبها وروحها من احسن ما كتب في الدراما. أما قصوره الوحيد - كما قلنا سابقا - فهو عدم تنازله واختلاطه بالمجتمع، ومما له علاقة وثيقة بهذا القصور سبباً ونتيجة، هو فقدانه روح المزح والملاطفة، هذه الروح التي تعبر عن المشاعر العامة، فينظمها الشعراء شعراً عذباً مستساغاً، فالشاعر المازح يرى الحياة العامة وحتى الوضيعة منها بمنظار المرح والحب، لان كل شئ موجود له سحره الخاص.

للكلام صلة

يوسف عبد المسيح ثروت