مجلة الرسالة/العدد 1010/سليمان العبسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1010/سليمان العبسي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 11 - 1952



في ديوانه (مع الفجر)

للأستاذ احمد الفخري

خلني أصهر الحياة شيدا=وأذيب الوجود في إيماني

ربما مزقت أناشيدي الحم_راء بعض القبةدعن أوطاني

أنا لو أستطيع أرسلت أنفا_سي شواظا من مارج ودخان

أهكذا تنصرم الأيام كاللمحة الخاطفة؟ أحقاً تسع سنين قد مضت على لقائنا الأول؟ تاالله لكان ذلك كان بالأمس. . ولئن استطاع أن يفرق الزمانشملنا فهو اعجز من أن يهزم الذكريات. . ذكريات تلك اللحظات الحالمات. . وهل هن من حلم الحياة إلا يقظةالعمر!

يا لحظة النشوان لا تعبري ... ما أنت إلا عمري السرمدي

في صالة الاستراحة في دار المعلمين العالية ببغداد كانت عيون منجذبة إلى فتى جالس وحده، كانوا يحدقون النظر به ثم يتهامسون فيما بينهم حتى رابني أمره فسألتهم ما شأنه؟ فقالوا - وملؤهم إعجاب - هذا فتى نابغة من لاجئ (الإسكندرونة) رحمها الله، وهو شاعر جبار، فزاد اهتمامي به، وتأملته فإذا شاب هزيل الجسم، كليل البصر يضع على عينيه منظار لا يلائم شبابه الغض، ونظرت إلى عينيه فبدتا أول وهلة زجاجتين زرقاوين خابيتين لا تعرفان الاستقرار، فلما أمعنت النظر لمحت من ورائهما بريقا عميقا لم تستطع النظارة ولا قصر النظر إطفاءه.

ذلكم وهو سليمان العبسي شاعر الشباب الرقيق وشاعر الفتوة العربية بحق، ذلكم الذي صهرته عواطفه وإذا بته مآسي هذا الوطن المتلاحقة، سليمان الذي يقول:

ألقيت في الإعصار روحي ... وسقيت من قلبي جروحي

أنا لست أغنية الهوى ... بل صرخة الأمل الذبيح

والذي يقول:

أنا لو أنني خلقت جماداً ... كنت أولى قذائف البركان

وبعد فعسير على أيها القارئ أن انقد شعر سليمان نقدا علميا منظما لأني لا أستطيع أ اجرد حديثي من عاطفتي وأي عاطفة هي! لقد مزجتنا الآلام ووحدت سيرنا الآمال وعشنا بضع سنين نحيا حياة واحدة تحمل من صميمها من حاضرة شكوى مشتركة وتطل بنا على المستقبل من منظار واحد.

ومجمل ما يجب ذكره أن أقول إنا بتنا نمقت الأقوال نود لو بالأعمال اعتضنا عنها أو كما يقول سليمان في مقدمة ديوانه (ما زلت أوثر أن أحيا على أن أسجل) فكانت حياته شعراً وكان شعرا هذه الحياة الفنية الفتية الغنية بحب الوطنيين (القلب) وطننا الأصغر (والأمة العربية) وطننا الاكبر، وهولا يرى الأول إلا صورة مصغرة من الثاني، وهي ممهدة ومغذية. . ولهذا فأنت لا تفتا تجد في ديوانه انتقالاً رائعاً من الغزل إلى الحماسة تفسره لك هذه العقيدة النبيلة، اسمعه يقول في موشحه (لمن أذوب ألحاني):

لو كنت حراً لأسكرت الوجود على

أنغام حبي. . . وأفنيت الصبا قبلا. . .

استسمج الحسن، بل أستغفر الغزلا

ماذا؟ أأرقص فوق النعش قد حملا

جثمان شعبي فيه، ضاحكا، جذلا؟

أأستحيل كغيري نحوه خشبا؟

وأسخط الله، والتاريخ، والعربا!

لي من هواك. . . جناح سوف أقتحم

برج النضال به، والهول يحتدم. . .

هذى (القيود) التي حولى ستنحطم

لا قدس للحب في أرض ولا حرم

ما نقلت فوقها (مستعمراً) قدم. .

قولي لمن تنكر (الذوبان) ما ارتكبا. . .

هل تأمن النمر المطعون أن يثبا؟

وبعد أن يقول من موشحه (جنة الفن) في أسمهان:

يؤثر الفن لو نسينا (المكانا) واختصرنا. . . بقبلتين (الزمانا)

ما وهبنا الشباب؛ والعنفوانا

لنداري جراحنا، وأسانا

لن تراني يا قلب أشكو سنانا

خضبته كف الهوى بوريدي

لن يراني اللهيب غير وقود. . .

أسمعه بعد ذلك يقول:

حرقة أنت في فؤاد الغناء

أن تنامي عن الكؤوس الظماء

قبل أن تشهدي مع الصحراء

يوم عرس الحرية الزهراء

قبل أن تصدحي بلحن (الجلاء)

وتهزي به رفات الحدود

يوم نمشي على حطام القيود

وليس أصدق في تمثيل فكرته هذه وشدة تعلقه بها واعتزازه من وصيته في نشيده لشبله (معن)، وهل اشد إخلاصاً من نصيحة الكبد بضعة منها؟

وعدا. . . إذاعبق الجما ... ل ورفت الغيد الحسان

وتموجت شعل الشبا ... ب وصاح فيها العنفوان

ولويت أعطاف الحني ... ن فطار من يدك الغنان

فاشرب على نخب (الحيا ... ة) فإن ظامئها جبان

وأحب ملء الروح من ... طلقا. . وللحذر الهوان

وإذاتفجرت الحقود. . ... وزمجر البلد المهان

ورأيت أرضك ها هنا ... (ناب) وثمة (أفعوان)

وتكلم الأحرار فالآفا ... ق نار أو دخان

فأخضب طريقك باللهي ... ب وأنت في يده سنان ذلكم سليمان: قلب ناضر ملؤه الحب والجمال، وشباب ثائر تتقاذفه الآلام والآمال، فهو بين يأس (أو شبه يأس) لولا جلال التاريخ ووقدة العزيمة لذهب بالأمل، وأمل لولا عزة الماضي وعمق جذوره لخبت جذوته واستحال رماداً، وروح قرارته خضم مائج لا يستقر، وكيف يستقر وفتوة الشباب تذكية ونكبات الضاد تمر به إعصاراً أهوج!

وهو من بعد أن سار سددت خطاء حماسة الشباب وحرارة الحياة، وهوان تكلم نطق الحب، حب تلكم الحياة الفتية المتدفقة المتألمة في كلامه، فما الحياة وما الحب إلا للوطنين القلب والضاد، وحسبه في هذين الغرضين - وقد أسراه - أن ينتقل بين أفنان لا حدود لرياضها وأن يضرب في لج لا ساحل لعبابه: الحب والبطولة - يا أخي القارئ - وقد أهدى إليهما ديوانه لأنه استوحاه منهما - الحب والبطولة حسب الشباب شبابا فهما الحياة بأجمل وأوسع وأقوى معانيها؛ وهل الفن إلا تعبير حساس عن الحياة؟

(لمحة هزت نشيدي فانطلق ... رعشة حيناً وحيناً زلزلة)

والحياة الخالدة هي أمنية كل حي فان وفقدانها سر شقاء الخيام. . ولكن سليمان خلد نفسه في خالدين. . وهل أروع من أن يخلد الإنسان ذاته في وطنه الصغير (القلب) وفي وطنه الأكبر (أمته)؟ وهل أحر لوعة من أن يشكو الإنسان مصيبته في أحدهما إلى الآخر؟

عروس الشعر. . . ما انفسح الخيال

على دنيا. . . هي السحر الحلال

ولا نديت على الظمأ الرمال

ولا غنى فم. . . لولا الجمال

قصيدة الكون أنت. . . وما أخال

ربابا في يمين الآلهات

يصاغ بها لرقته مثال

عروس الشعر معذرة القصيد

إذا ما جن في وتري نشيدي

تمرد أن ينام. . . على (القيود)

فراح يهز أجفان (العبيد) ليفتحها على ذل السجود. . .

فإذ شعبي موات في موات

وإذ وطني: همود في همود

وهو في هذين المضمارين قد أرضى جميع نقاد الفن وإن لم يعتمد ذلك لأنه لم ينصت إلا إلى أوتار قلبه، أرضى في حبه أرباب الفن للفن كما أرضى معارضيهم في سمو توجيهه (وحرية) أوتاره.

أنا ما نظمت الشعر بل ... ذوبت رنات القيود

وعصفت. إذ هتف الهوى. ... ناراً على شفة الجليد

فأما الحب، وأما دفقات الشباب؛ وأما خفقات الفؤاد، فما أعرف شابا أديبا مثل سليمان أحسن نجواهن فسحر، وغنى بألحانهن فأطرب وأسكر، وهل الحياة إلا الحب؟

هي الدنيا، وهل فيها ... - إذالم نهو - ما يسبى

إذا رضى الغرام عليك فأمن جانب الرب

وهل عمر الشباب إلا: -

عمر الورد قصير. . . فلندع

كل ما في الروض يغرق في المراح

ليس في ثغر الأقاحي متسع

لسوى القبلة من ثغر الأقاح

وإن هذا الغناء وإن شابهت أنغامه أنغام الخيام إلا إنها أشد اتصالاً بينبوع الحياة، وليس وراء مرحها وإغراقها في اللذة جمرات يأس، بل هي نقية صافية لأنها من معين الخلود:

علمتني طرق السما ... ء فجن شعري بالسماء

وهتفت بي - والأرض تجذب ناظري: - إلى العلاء

فهوت على قدمي، خلف السحب، أشباح الفناء

وإذاالخلود. . . على فمي ... كأس تفجر بالغناء. . .

لا تحذري. . . لم يحطمنا سوى الحذر

لا تحسبي غير لقيانا من العمر. . .

ألقي بروحك في أرجوحة القدر

وعانقيني على إطلالة القمر. . .

أنقل على شرفات الخلد أقدامي

وأسكر الملأ الأعلى بأنغامي. . .

لا تأسفي للدجى إما تريه فني

في تمتمات النشاوى مصرع الزمن

دعي هواجس هذا الكون في كفن

يخلو لهن ذوو (الآراء) والفطن

واستنشديني فقد باتت تعذبني

أنشودة لم أتممها ولا عجبا

صدري يضيق بألحاني وإن رحبا. .

إذن فلينهل من هذا الكوثر قبل أن يفقده، وليمنع منه أحياناً ليشعر بألم الحرمان فما هذا الألم إلا صورة من اللذة الخالدة. .

أقفلت أنفاسي على جمرة ... لفاحة. . . تلهب ما تلهب

ورحت أستعذب آلامها ... والألم الخلاق يستعذب

في غد تخبو رؤانا الزاهية ... لم لا نشعلها قبل الغد؟

في غد. . تمضي الأماني الحالية ... والأغاني بددا في بدد

سنبسم للجراح على الجراح

ونسقيهن ألحان المراح

ويحملنا الشباب بلا جناح

إلى أحلامنا الخضر الفساح

إلى دنيا منضرة النواحي. . .

هناك إذاافترشت النيرات

غفوت على أغاريدي وراحي

البقية في العدد القادم أحمد الفخري