مجلة الرسالة/العدد 1008/زوجتي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1008/زوجتي

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 10 - 1952



للأستاذ علي الطنطاوي

قال لي صديق، معروف بجمود الفكر، وعبادة العادة، والذعر من كل خروج عليها أو تجديد فيها. قال:

- أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول أنها من أعقل النساء وأفضلهن؟ هل سمعت أن أحدا كتب عن زوجته؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح بذكرها، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا، حتى لقد منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة، وزيارة قبرها جهاراً. وملك بن الريب لما عد من يبكي عليه من النساء قال:

فمنهن أمي وابنتاها وخالتي ... وباكية أخرى تهيج البواكيا

فلم يقل وامرأتي. . وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ أهلنا. ولم يكن يقول أحد منهم: زوجتي؛ بل كان يقول: أهل البيت وأم الأولاد، والجماعة، والأسرة، وأمثال هذه الكنايات. أفترغب عن هذا كله، وتدع ما يعرف الناس، وتأتي ما ينكرون؟

- قلت: نعم!

فكاد يصعق من دهشته مني، وقال:

- أتقول نعم بعد هذا كله؟

- قلت: نعم! مرة ثانية. أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك؟ ولماذا يكتب المحب عن الحبيبة وهي زوج بالحرام، ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته بالحلال؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج؟ والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟

إن الناس يقرءون كل يوم المقالات والفصول الطوال عن مآسي الزواج وشروره، فلم لا يقرءون مقالة واحدة في وخيراته؟

ولست بعد أكتب عن زوجتي وحدها؛ ولكني كما هوجو يقول: (إني إذ أصف عواطفي أبا، أصف عواطف الآباء)

لم أسمع زوجا يقول أنه مستريح سعيد، وإن كان في سعيداً مستريحاً، لأن الإنسان خلق كفوراً، لا يدرك النعم إلا بعد زوالها؛ ولأنه ركب من الطمع، فلا يزال كلما نعمة يطمع ف أكثر منها فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها. يشكو الأزواج أبداً نسائهم ولا يشكر أحدهم المرأة ماتت، وانقطع حبله منها أمله فيها؛ فإنه يذكر حسناتها ويعرف فضائلها. أما أنا فإني أقول من الآن - تحدثاً وإقرارا بفضله - إني سعيد في زواجي وإني مستريح.

وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج، طالب للسعادة فيه، فلينتفع بتجارب من لم يجرب وليسمع وصف الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا أولها: إني لم أخطب إلى قوم لا أعرفهم، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم. . فينكشف لي بالمخالطة خلاف عنهم، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره حسن ظني، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني، واطلعت على في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي. إذ رب رجل يشهد له الناس بأنهم أفكه الناس، وإنه زينة المجالس ونزهة المجامع، وهو في بيته أثقل الثقلاء. ورب سمح هو في أهله سمج، وكريم في أسرته بخيل، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره. .

تزوجت بنتا أبوها ابن عمي لح، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن. وأمها بنت المحدث الأكبر، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسيني رحمه الله. فهي عريقة الأبوين، موصولة النسب من الجهتين.

والثاني: أني اخترتها من طبقة مثل طبقتنا. فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض، وهو قاض وأنا قاض، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا، وهذا هو الركن الوثيق في صرح السعادة الزوجية، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين.

والثالث: أني انتقيتها متعلمة تعليما عاديا، شيئا تستطيع به أن تقرأ وتكتب، وتمتاز من العاميات الجاهلات، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاما من صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك، وتذوق ما تقرأ من الكتب والمجلات، لا تبلغها المتعلمات، وأنا أعرفهن وكنت إلى ما قبل سنتين ألقي دروسا في مدارس البنات، على طالبات هن على أبواب البكالوريا، فلا أجدهن أفهم منها، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم، يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه. ولست أنفر الرجال من التزويج بالمتعلمات، ولكني أقرر - مع الأسف - أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه، يسئ على الغالب إلى أخلاق الفتاة وطباعها، ويأخذ منها الكثير من مزاياها وفضائلها، ولا يعطيها إلا قشورا من العلم لا تنفعها في حياتها، ولا تفيدها زوجا ولا أما. والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن تكون زوجة سعيدة وأما.

والرابع: أني لم أبتغ الجمال ولم أجعله هو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن الجمال ظل زائل؛ لا يذهب جمال الجميلة، ولكن يذهب شعورك به، وانتباهك إليه، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق من لسن على حظ من الجمال، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق، حين قال لزوجه النوار في القصة المشهورة: ما أطيبك حراما وأبغضك حلالاً!

والخامس: أن صلتي بأهل المرأة لم يجاوز إلى الآن، بعد ثمن قرن من الزمان، الصلة الرسمية: الود والاحترام المتبادل، وزيارة الغب، ولم أجد من أهلها ما يجد الأزواج من الاحماء من التدخل في شؤونهم، وفرض الرأي عليهم، وقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان، فما دخل أحد منهم يوما في رضانا ولا في سخطنا.

وقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي، وصارت لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال، لانتهت بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.

والسادس: أننا لم نجعل بداية أيامنا عسلاً، كما يصنع أكثر الأزواج، ثم يكون باقي العمر حنظلاً مراً وسماً زعافاً، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي، حتى إذا قبلت مضطرة به، وصبرت محتسبة عليه، عدت أريها من حسن خلقي، فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطاً.

والسابع: أنها لم تدخل جهازاً، وقد اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين الأزواج، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفا عليه، أو أن يسرقه ويخفيه، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى صورية فتثير بذلك الرجل.

والثامن: أني تركت ما لقيصر لقيصر، فلم أدخل في شؤونها في ترتيب الدار وتربية الأولاد؛ وتركت هي لي ما هو لي، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة عمامة الزوج وأخذها مكانه، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها الرأي في طريقة كنس الدار، وأسلوب تقطيع الباذنجان، ونمط تفصيل الثوب.

والتاسع: أني لا أكتمها أمراً ولا تكتمني، ولا أكذب عليها ولا تكذبني، أخبرها بحقيقة وضعي المالي، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به، وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه، وتعود أولادنا الصدق والصراحة، واستنكار الكذب والاشمئزاز منه.

ولست والله أطلب من الإخلاص والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها. فهي من النساء الشرقيات اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن. للرجل والأولاد، تجوع لنأكل نحن، وتسهر لننام، وتتعب لنستريح، وتفنى لنبقى، هي أول أهل الدار قياماً، وآخره مناماً، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر، همها إراحتي وإسعادي. إن كنت أكتب أو كنت نائماً أسكتت الأولاد، وسكنت الدار، وبعدت عني كل منغص أو مزعج. تحب من أحب، وتعادي من أعادي. إن حرص النساء على رضا الناس كان حرصها على إرضائي. وإن كان مناهن حلية أو كسوة فغن أكبر مناها أن تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.

تحب أهلي، ولا تفتأ تنقل لي كل خير عنهم. إن قصرت في بر أحد منهم دفعتني، وإن نسيت ذكرتني، حتى إني لأشتهي أن يكون بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس، أتسلى به، فلا أجد إلا الود والحب، والإخلاص من الثنتين، والوفاء من الجانبين. إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية، التي لا تعرف من دنياها إلا زوجها وبيتها، والتي يزهد بعض الشباب فيها، فيذهبون إلى أوربة أو أميركا ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت الإبط، امرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها تصلح خادمة للمرأة الشرقية؛ ولكنه فساد الأذواق، وفقد العقول، واستشعار الصغار، وتقليد الضعيف للقوي. يحسب أحدهم أنه تزوج امرأة من أميركا، وأي امرأة؟ عاملة في شباك السينما، أو في مكتب الفندق، فقد صاهر طرمان وملك ناطحات السحاب، وصارت له القنبلة الذرية، ونقش اسمه على مثال الحرية. .

إن نساءنا خير نساء الأرض، وأوفاهن لزوج، وأحناهن على ولد، وأشرفهن نفساً، وأطهرهن ذيلاً، وأكثرهن طاعة وامتثالاً وقبولاً لكل نصح نافع وتوجيه سديد. وإني ما ذكرت بعض الحق في مزايا زوجتي إلا لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية (وكدت أقول الشامية المسلمة، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي، بعد أن هداني!

دمشق

علي الطنطاوي