مجلة الرسالة/العدد 1008/الإسلام في موكب الإصلاح
مجلة الرسالة/العدد 1008/الإسلام في موكب الإصلاح
الحكم الوراثي
للأستاذ محمد عبد الله السمان
كانت وثبة الجيش المباركة إيذانا بنهاية حكم إقطاعي جائر. ظلت مصر السنين الطوال ترزح بسببه تحت أعباء ثقال من العنت والإرهاق والشقاء. وتتجرع كؤوسا فائضات من البؤس والأسى والعناء، ولم تكتب وثبة الجيش المباركة نهاية ذلك الحكمالإقطاعي المنقرض إلا وهي مؤمنة بفساده، وبضرورة هدمه من أساسه، لتقيم على أنقاضه نظاما صحيحا يعتمد على أسس سليمة تحقق الخير للشعب والوطن على السواء.
ومن الحقائق التي لا تحتاج إلى نقاش، أن الحكم الإقطاعي المنقرض لم يشد أزره في الماضي المنصرم سوى نظام الحكم الوراثي، الذي كان شرا كله على مصر وطنا وشعبا، فقد كان يخيل إلى الجالس على العرش أن مصر ضيعة له، وان شعبهاعبيد نعمته، كما قدر له أن يظل في جبروته مطمئنا، وفي عدوانه آمنا، لا يرهب الشعب ولا يخشى ثورته، لأن الشعب الذي لم يجلسه على العرش لا يقوى على خلعه عنه، ولأن الشعب الذي اغتصبت بلاده لتكون إقطاعية يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، لا يقوى على انتزاع السلطة من المفروضين على حكم بلادهم فرضاً.
ونظام الحكم الوراثي نظام إقطاعي محض، نكبت به بلاد الشرق، وفي مقدمتها مصر، فقد ضلت الأسرة العلوية تحكمها حكما وراثيا خلال قرن ونصف قرن، فنهبت ما نهبت من خيراتها، وسرقت ما سرقت من أراضيها، وحولت مجرى الثراء إلى أفرادها، حتى بلغوا القمة من الثراء بينما هوى الشعب إلى الدرك الأسفل من الفاقة، ولم تهب لهذا الشعب المغلوب على أمره لحظة من الحرية حتى يرى النور، ولا ذرة من الرخاء حتى يلمس السعادة، لأن الحرية كانت وقفا على الأمراء يجعلون منها حصنا لمجونهم وترفهم وعربدتهم، ولأن السعادة كانت حقا مقدسا لهم وحدهم، ينعمون بها، ويمرحون في ظلها، ويلتمسون بها حياة الدعة ودنيا الأرستقراطية البلهاء!
واليوم يرقب الشعب المصري، ويرقب العالم أجمع معه باهتمام ما جرت الأمور في مصر، وإلى أي نظام ستتجه في حكمها، ولم يعتقد الشعب المصري، ولا الدول المخلصة من د العالم، ولا الدول المخلصة من دول العالم، أن نظام الحكم الوراثي سينال لدى المسئولين شيئاً من العطف، وما قام الجيش الباسل بثورته إلا ليقوض أركان الفوضى التي كانت أثرا من آثاره. لقد كان كل من سبق (فاروقاً) إلى الجلوس على العرش طاغية، وسيكون - لا قدر الله - كل من سيخلف فاروقا طاغية أيضا، وكأن مصر لن تتفرغ إلا لمشاهدة الكفاح بين الشعب والطاغية المتربع على العرش، وهي في مسيس الحاجة إلى الاستقرار لتبلغ المكانة الجديرة بها، وليصل شعبها إلى حيث يعيش كريماً أبياً.
ولا ريب في أن القضاء على نظام الحكم الوراثي، خطوة موفقة يرحب بها الإسلام ويفسح لها صدره، لأنه نظام قائم على أسس متراقصة من الباطل، فهو يعتبر الملك في درجة الآلهة، ويعتبر الملك فوق القانون، ويخول لأسرته أن تعيث في الأرض فسادا دون أن يجرؤ القانون على مجرد سؤالها، وهو نظام يفرض على الشعب الوارث للملك ولو كان مخبولاً أو معتوهاً أو فاجراً أو عربيداً.
ولهذا كله ينكر الإسلام أشد الإنكار على هذا النظام المعتل لأن الإسلام أقوى وأعدلمن أن يرضى لإنسان - كائناً من كان - أن يكون فوق القانون، بل إنه يعتبر مسئولية الحاكم أشق من مسئولية العامة، لأنه راع لابد أن يسأل عن رعيته، ولا يعفيه القانون من العقاب ولا أسرته إذا فعلوا ما يستحقون عليه العقاب وهاهو ذا كتاب الله يخاطب محمداً (ص):
. . . (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً، إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
وهاهو ذا محمد (ص) يخاطب من حوله في أحرج ساعات الموت:
(إلا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد).
وهاهو ذا (ص) يخاطب أسامة حين جاءه يشفع في حد من حدود الله:. . لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!
والإسلام يعتبر الحكم من حق المسلمين جميعاً، يولون من يرضونه لدينه وخلقه، ولا يمكن أن يقر احتكار أسرة من الأسر له، ولم يكن في استطاعة محمد (ص) أن يؤثر بالخلافة من بعده واحداً من بني هاشم عصبيته، بل ولم يكن في استطاعته أن يوصي بالخلافة من بعده لأي إنسان. ولقد حدث حين عرض الرسول نفسه على بني عامر أن قال له أحدهم: (أ رأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك. أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. .)
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يستطيعوا أن يؤثروا بالخلافة من بعدهم أحدا من عصبياتهم ولا أن يفرضوا على المسلمين واحدا من ذوي رحمهم، لان إيمانهم يحول دون أن يخالفوا صاحبهم، أو يحدثوا حدثاً في الإسلام ليشعلوا الفتنة. وأي فتنة أكبر من الحكم الوراثي البغيض، والاستبداد بوضع هو من حق المسلمين على السواء؟
نعم، حدث أن أشار أبو بكر على المسلمين بعمر، كما أشار عمر على المسلمين باختيار واحد من ستة من كبار الصحابة. . مات رسول الله (ص) وهو عنهم راض، وهم (عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام) وان يشهد الانتخاب عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، حدث هذا وذاك من أبي بكر وعمر، ولكن لم يكن إلا من قبيل النصح والإشارة، لا من قبيل الفرض والإكراه، ولولا أن أبا بكر لمس الموافقة من المسلمين بالإجماع لما كان عمر خليفة، ولولا أن عمر لمس الموافقة من المسلمين بالإجماع لما كان واحد من الستة خليفة، وقد كان يمكن التكلم في حق أبي بكر وعمر، لو أن واحدا منهما أوصى بالخلافة لواحد من أبناءه، ولكن لم يحدث شيء من هذا.
لقد زين المغيرة بن شعبة لعمر أن يستخلف ابنه من بعده فأبى وهو يقول: (لا إرب لنا في أموركم، وما حمدتها فأرغب فيها لأحد من بيتي، إن كان خيرا فقد أصبنا منه، وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد).
ولقد أشير علي كرم الله وجهه وهو يجود بنفسه أن يوصي بالخلافة فقال: (لا آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر بأمور دنياكم)
أما ما حدث في عهد معاوية من استبداده بالأمر وجعله وراثياً من بعده، فلم يكن من الإسلام في شيء، وليس من الحكمة الخوض في هذه المسألة الدقيقة، ولقد يكون معاوية قد تأول فأخطأ وقد يكون قد استبد بالأمر دون تأول، والمهم أن يفهم أن الإسلام يقرر النظم الصالحة، وليس مسئولاً بعد هذا عن استبداد ولاة الأمور ولا يلقي المسئولية إلا على عاتق الرعية المتخاذلة المستضعفة.
ولقد كان عمر بن عبد العزيز واحداً من عصبية معاوية، ولكنه لم يرض عن نظام الحكم الوراثي لأنه لا يعتمد على مشورة المسلمين، وحين آل إليه الأمر بالوراثة صعد المنبر ثم قال:
(أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي مني فيه ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعة، فاختاروا لأنفسكم) فتصارع من بالمسجد وقالوا بصوت واحد: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ولولا هذا الإجماع في الرضا ما قبل أن يكون خليفة بالوراثة، وهو يعلم أن في الحكم الوراثي خروجا عن نظم الإسلام.
وبعد - فإن باستطاعة مصر اليوم أن تتخلص من أوحال الماضي وأوزاره، ولم يصنع هذه الأوحال والأوزار إلا الملكية، التي أثبتت خلال قرن ونصف قرن من الزمن أنها أصل الفساد في كل ما أصاب مصر من التأخر، وأصاب شعبها من التقهقر، ولقد كانت هذه الملكية عقبة في سبيل الإسلام حتى لم يستطع من فوق أرض مصر أن يؤدي رسالته ويجهر بها، فهي التي قدمت للشعب المصري المسلم - وعلى أيدي فجرة بعض رجال الدين - إسلاماً زائفاً هزيلاً لا يمت إلى الإسلام الصحيح بصلة، إسلاماً زائفاً هزيلاً يترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ويدع ولاة الأمور يستبدون ويفجرون ويبطشون، ويقنع الشعب بالصبر والمصابرة، والتسليم والمسالمة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولاً.
نحن دولة مسلمة، ولا يمكن أن نتهاون في هذه الحقيقة ولو بذلنا آخر قطرة من دمائنا، ومن حق الإسلام علينا أن نجهر بالحق لا نخاف في الله لومة لائم، ومن الحق الذي يجب علينا أن نجهر به اليوم، هو أن الإسلام لا يقر الملكية الوراثية بحال من الأحوال، فليتدبر هذا جيدا المسئولون وغير المسئولين.
محمد عبد الله السماق