مجلة الرسالة/العدد 1000/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1000/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 09 - 1952



ذيول الحادث

عن الإنجليزية

بينما كان رئيس الشرطة غارقا في أفكاره، مستسلما لتأملاته يتبع بنظره تموجات الدخان الصاعدة من لفافة تبغ كان يدخنها، دخل عليه زائر بادي الاضطراب، شاحب اللون، غائر العينين يخيل لمن رآه أنه يشكو أرقا طويلا، وكان يمشي متثاقلا كأنه ينوء بحمل سر خطير. . فتهالك على مقعد أمام الرئيس، وابتدأ الحديث من غير تحية ولا سلام:

- إذا لم يخطئ ظني، فإن رجالك يتحرون دار المستر (جين أرنوت) ليقفوا على آثار الجاني، بعد أن عثروا على قتيلين: أحدهما رجل ملقى على الأرض، والثاني زوج صاحب الدار ملقاة فوق مقعد. . .

فقاطعه الرئيس قائلا:

- أصبت. . ويبدو لي أنك تعلم عن الحادث الشيء الكثير

- نعم. نعم أرجو أن تدعني أنتهج الخطة التي أريد في سوق الخبر إليك، لأني صحبت أرنوت سنوات كان لي فيها خير رفيق. . فقد حدثت هذه الجريمة المزدوجة ليلة البارحة، وكانت نتيجة حتمية لعذاب نفساني برح بأرنوت منذ شهور. .

ولكنه لم يكن قد تذوق منتهى العذاب إلا بعد وقوع الجريمة. . فاجتاحته عاصفة من الآلام النفسية، ليس في وسعه أن يتحملها. . فهل تعلم - أيها الرئيس - عنها شيئا؟

فهز الرئيس رأسه نفيا وهو يحدق في الزائر العجيب الذي استمر يقول:

- إن أرنوت رجل ذو ثراء واسع ومصالح عديدة متنوعة تتطلب - غالبا - غيابه عن المدينة عدة أيام لتدبير شؤونها وللوقوف على سير أمورها. أما داره فإنه لم يدخر وسعا في تأثيثها على أحسن ما يكون، لتكون صالحة من كل الوجوه لسكن زوجة. . . تلك الفتاة الجميلة الساحرة التي خلبت لبه عند أول نظرة. . . فقال الرئيس مقاطعا:

- ولم تقص علي كل هذه الأمور؟ أما الزائر فاسترسل في حديثه في شيء من الدهشة. .

- تمهل قليلا أيها الرئيس فستعلم كل شيء. . . فقد كانت زوج أرنوت امرأة فتانة الجمال، وهي المرأة الوحيدة التي أسرت أرنوت بسهام لحظها، فجن بها من أول نظرة وصار يعرف للعيش طعما إلا بقربها. . وبعد لأي وفق في الاقتران بها. . فهو لا يضن عليها بحاجة مهما غلت، ولا يقصر في أمرها مهما عز إن كان فيهما ما يبعث السرور إلى تلك الحبيبة الساحرة. . . ولكن نيران الغيرة التهبت في صدره فجأة، فقد كان يغار عليها من كل عين ترنو إليها غير عينينه، ومن كل رجل يبادلها الحديث سواه. . ولم يكن ذلك لأنه لا يأمن جانبها، أو لأنه يشك في عفتها وطهارتها، بل لأنه كان يحبها حبا يقرب من العبادة ويعتقد أن أقرانه من أصحاب الجاه يحسدونه لأنه يملك هذه الدرة الغالية المتلألئة في داره.

إن أرنوت أيها الرئيس رجل من طراز خاص، فإنه بالرغم من هذه العاطفة الجامحة التي تعتلج في صدره لم يبد على وجهه أثر لهذا الشعور المضني. . بل كثيرا ما كان يبدو هادئاً رابط الجأش محتفظا بسكونه وفي باطنه عراك عنيف بين عقله وغيرته. . وهو في هذه الحال يتصور أن أحلى أمنياته أن يلبي أي طلب تسأله إياه. . .

فأوقفه الرئيس عن الحديث بإيماء من يده وقال: أراك ملما بحياته الخاصة إلى حد بعيد

فأجاب الزائر: كنت صديقا مخلصا له ومطلعا على جل أموره فأحنى الرئيس رأسه موافقا واستمر الزائر يقول:

- كانت لأرنوت صديق يدعى (بول ليس) ألزم له من ظله، مجتمعا مدرسة واحدة من زمن الطفولة وبقيا صديقين وفيين حتى ساعة الجريمة. . وكان (ليس) أعزب وقد تم تعارفه بزوج صديقه بعد اقترانه مباشرة، ولم يكن أحد ليدري ما يخبئه القدر وراء تعارفهما. . أخذ (ليس) يرعى زوجة صديقة ويصحبها إلى أماكن اللهو والتسلية في غياب ذلك الصديق أرنوت الذي كان كثيرا ما كانت تستدعي أعماله هذا الغياب. . ولما نمى إليه هذا الأمر، تصنع الرضا أمامها، ولكنه في الحقيقة بدأ يرتاب في صديقه (ليس) تحت وطأة تلك الغيرة الملتهبة في صدره، وكان وجهه الهادئ الرزين، وابتسامته الرقيقة، يخفيان تحتها هذا الشك القاتل. . تذكر أيها الرئيس أن أرنوت رجل كسائر الرجال يعرف الكثيرين ممن غدروا بأصدقائهم وخانوا شرفهم. . . وقد يعترض أحد الناس قائلا: أن أرنوت كان مخطئا في ارتيابه ما دام واثقا من صديقه، ومؤمنا بطهارة زوجه وعفتها. . . ولكن أيها الرئيس نحن - أنا وأنت - نعلم أن الغيرة عامل نفساني يثور لأقل وهم وأدنى شك وبقى أرنوت يحترق بين اللهيبين يحس بنار الجحيم تضطرم بين ضلوعه لم يظهر أرنوت أي أثر لهذا الشك بل تمالك شعوره التام حيالهما، وأخذ يعاملهما كما عاملهما من قبل، ولكنه كان ينتظر وينتظر. . . ويفتح أذنيه لكل كلمة تدور بينهما عسى أن يجد بها رأي قاطع، وأخذ يراقب كل إيماءه أو حركة ويؤول كل لفظة بما يلائم شكه. فقاطعه الرئيس قائلا.

- ولم لم تحاول تخفيف هذه الحال عن صديقك؟

فأجاب الزائر:

- إن أرنوت لم يكن يزحزحه أي رأي أو نصيحة عن شكه، أنه آمن بهذا الشك إيمانا مطلقا. .

وفي يوم آب أرنوت إلى داره بعد سفرة شاقة فحادثته زوجة عن (ليس) ورعايته لها، حتى تولاه غضب عظيم فصرخ:

- أراك تبذلين له من العناية أكثر مما يستحق. . . بل أكثر مني. .

وولكن أجابته بابتسامة هادئة ثم قالت:

- إنك تهينني يا أرنوت. .

فقد كانت أيها الرئيس معتزة بكرامتها. . . ومن ذلك الحين أخذ أرنوت يتحين الفرص ليفاجئهما في خيانته كما يعتقد. ولما طال به الزمن أخذ يعد العدة لفخ يوقعهما به متلبسين بالخيانة. . فأعلن أرنوت لزوجه أن أمراً استدعى سفره إلى خارج المدينة. . وصحبها عند المساء إلى غرفة النوم وأشعل لفافة من التبغ وجلسا يتحادثان فقال أرنوت:

- هل يزورك (ليس) هذا المساء؟ وانتظر جوابها وهو يحدق في دخان اللفافة المتموج تجنبا لأي أثر قد يبدو في عينيه

فأجابته:

- لا أعلم. . فإنه يزورنا من غير موعد

ونهض بعدها أونوت وودع زوده وهي في حلة المساء أشبه بالزهرة الندية الفواحة وذهب إلى غرفته يجمع بعض أوراقه وغادر عن الدار. . إلى سفرته المزعومة. . وما ابتعد قليلا حتى اختبأ في منعطف إحدى الطرق يترقب. . فبان له شبح من بعيد دنا من باب الدار وولج إلى الداخل. . ذلك الشبح أيها الرئيس هو (ليس) بعينيه أما أرنوت فأخذ يهدئ من روعه ويتغلب على شعوره حتى عاوده الهدوء. . . ومكث في مخبئه مدة يتأهب فيها للمفاجأة المنتظرة. ثم قفز إلى الشارع ومضى إلى داره. وكان صديقه وزوجه جالسين في المقصف يتسامران بحشمة ووقار حين اندفع إليهما أرنوت ووقف يحدق فيهما. فصرخت الزوجة: أرنوت! بعد أن غلبتها الدهشة لهذه العودة المفاجئة. . . أما (ليس) فقال:

- أهلا بك يا أرنوت ماذا عاد بك من السفر؟ فكتم أرنوت غضبه وأجاب:

- لم أدرك القطار. . وهنا صاح الرئيس بالزائر. .

- صه! لا بد أنك قابلت أرنوت بعد الجريمة

- نعم

- وهل تعلم مقره الآن؟

- نعم. هذا ما كان يحز في نفسي ليلة البارحة حتى أرقني فقد كنت أعمل الرأي من أجله. . وللسبب نفسه تجدني أحادثك بشأنه.

- وأين يقيم الآن؟

- إنه لا يستطيع الفرار فأنتظر. . اعتذر أرنوت لهما وغادر الغرفة، وهما في ذهول عظيم إلى غرفة النوم عله يجد دليلا يؤيد ظنونه. وأخيرا وجد ما يبتغي. . وجد رمادا متخلفا عن لفافة تبغ على المنضدة. . وجد الأثر الذي ينم على وجود (ليس) هذه الغرفة مع زوجه. . . واندفع إليهما راكضا شاهرا مسدسه هرول إليهما ليطفئ تلك النيران المتأججة في صدره. . . دخل إليهما بهذه الحال ففاجأه (ليس) واقفا يقول:

إني ذاهب الآن على موعد لا أستطيع التخلف عنه ولكن أرنوت صاح به:

- انتظر! لي كلمة معك. . ثم رفع ذراعيه إلى أعلى وتوقدت عيناه شرراً كأن به جنه وانهال عليهما شتما وسبا، فأنقلب وحشا ظامئاً لشرب الدماء بعد أن غمرته موجة من الظلام الدامس ليس فيها إلا نيران الحقد والغيرة وهما ينظران إليه مشدوهين حتى صاح (ليس):

أرنوت! أرنوت! كفى، هل جننت؟ رباه! إني لا أسمح لك أن ترمي زوجك بالخيانة وهي منها براء. .

ولكن أرنوت انتفض فجأة، وصوب مسدسه نحوه. . . ودوى طلق ناري ترنح (ليس) على أثره وسقط جثة هامدة. . . ثم دوى صوت أرنوت كالرعد القاصف قائلا:

- انظري إلى عشيقك. ها هو ذا جثة لا حراك بها، أنظريه فأجابته بصوت ضعيف مرتجف:

إنه يعتقد ذلك! ثم شحب لونها واهتزت كأنها ريشة في مهب الرياح وصرخت بفزع:

- أتمم يا أرنوت عملك! أكمل يا أرنوت صنيعك!

فارتجف أرنوت يحزه ألم للثأر لشرفه المثلوم، ووجه المسدس إلى زوجته وأطلق النار. . ترنحت المسكينة قليلا ثم سعلت وانفجر الدم بغزارة من فمها وسقطت على الأرض هاتفة: أرنوت! أرنوت! ولفظت أنفاسها.

نظر إليهما أرنوت بعد أن عاود هدوءه وأشبع رغبة نفسه في الانتقام وأطفأ نيران الغيرة، فعاد ذلك الرجل الهادئ الرزين. . فتحركت بقية من حبه في سويداء قلبه فأندفع إلى الزوجة وهي ملقاة على الأرض وانتشلها بين يديه ووضعها على مقعد بقربه وشبك ذراعيها فوق صدرها. . ولكنه لم يجروء على إلقاء النظرة الأخيرة عليها فأطفأ النور. ثم. . ثم غادر الغرفة ينوي الرحيل من المدينة حالا. ولما مر بغرفة النوم لاحظ أنها لا تزال مضيئه فعول على إطفاء نورها. . أندفع إلى تلك الغرفة وهو محتفظ بشعوره متمالك نفسه، وسرعان ما وقع بصره على شيء أعمته غيرته الجامحة عن رؤيته قبل الجريمة فقذف بنفسه عليه. . . أنه عقب لفافة تبغ تحت تلك المنضدة. . فانتشله ونظر إلى علامته، فاضطرب واهتزت أوصاله وزفر زفرة كادت تقضي عليه. . إنها العلامة الموجودة على لفافات التبغ التي اعتاد تدخينها والتي يحفظ علبتها بدرج خاص مقفل، مفتاحه لا يفارق جيبه أبداً. . . ولكن ما مضى فات وذهبت نفسان بريئتان من غير ذنب. فقد تجلت الحقيقة له، فإن ذلك الدليل كان عقب لفافته التي تركها قبل سفرته المزعومة. .

في تلك اللحظة الرهيبة استمرت بين جوانبه نيران الإثم وحز قلبه الألم الممض. . .

وهنا أحس الزائر بأنه يكاد يختنق فعالج الكلام في صوت كأنه الحشرجة وقال:

- نعم أيها الرئيس، تلك اللفافة كانت لي فقفز الرئيس واقفا على قدميه وراء مكتبه وصرخ:

- لك! - نعم - ليساعدني الله - أنا جين أرنوت!

س. ع