مجلة الرسالة/العدد 10/سفروت الحاوي
مجلة الرسالة/العدد 10/سفروت الحاوي
كان بمدينة بور سعيد رجل اسمه (سفروت الحاوي) يتردد على المقاهي فيعرض ألعابه السيماوية وحيله السحرية على الجالسين لقاء ما يجودون به عليه، وكان سفروت هذا لبقاً فكه الحديث سريع الخاطر قلما يخلو له أسبوع من حيلة جديدة، وبذلك اكتسب رزقا حسده عليه بنو مهنته.
وأهالي بور سعيد كما يعلم القراء اشتهروا بأنه قلما وجد لسان في شرق الأرض أو غربها لم يلموا منه ببعض مفردات. ولكن سفروت هذا فاق أهل بلده في ذلك فقد وهبه الله هبة اللغات فكان يتفاهم في لغتين، ويشرح حيله ويطلب أجره في تسع لغات.
كان سفروت رجلا طويل القامة نحيلا أسمر اللون، زينت له أمه أذنه اليمنى بحلقة فضية لأنه عاش لها بعد خمسة ماتوا في طفولتهم. وكان يسر في جلباب من السكرونة عليه معطف طويل محشو الجيوب وينادي بصوت طلق قوي:
(أنا سفروت الحاوي، أنا الحاوي سفروت، اطلع البيضة من الكتكوت، جلا جلا جلا جلا جلا ويترجم ذلك أو شبهه إلى ألسن مختلفة بينما (يفنط) أوراق اللعب بين يديه بمهارة نادرة.
وأغنى الله سفروت الحاوي جزاء استقامته وذكائه واقتصاده فجلب من ألمانيا لعباً سيماوية ثمينة واتخذ له صبية وسيمة الوجه جذابة القد أسمها بهية، وانتشرت شهرته بين أصحاب المقاهي والملاهي في بور سعيد فاستأجروه لإحياء ليال خاصة أدرت عليه وعليهم الربح الكثير.
وزاد طموح سفروت فبدل ثوبه الوطني ببدلة سوداء على مثال أبناء حرفته الغربيين، وأرسل شعره طويلا قائماً، واتخذ لنفسه لقب (بروفيسير)، ثم انتقل إلى القاهرة يشتغل بها في موسم السواح، ويتركها إلى الإسكندرية وغيرها من المصايف في موسم الحر.
كان سفروت كعادة الحواة يبدأ ألعابه بالمألوف من الحيل مثل كسر البيض ووضعه في إناء أمام النظارة، ثم إخراجه صحيحاً من آذانهم، ويتدرج من ذلك إلى الصعب العجيب مثل أكل الخرق البالية وقصائص الورق، وإخراجها من فمه أعلاما للدول المختلفة وهكذا حتى ينتهي إلى أصعب ألعابه وهي لعبة صندوق الإخفاء الألماني العجيب الذي اشتراه بمبلغ كبير.
وأمر هذا الصندوق يظهر غريبا للمتفرجين، وبيانه إن سفروتا يأتي ببهية فيقيدها بالسلاسل والأغلال ويضعها في صندوق أمام المتفرجين، كان قد طلب إليهم فحصه قبل ذلك.
ويوصد الحاوي الصندوق بالأقفال ويربطه بالأحبال ويقف عليه، فيكفهر وجهه، ويقف شعر رأسه، ويتمتم ويتلو تعاويذ سليمان على الجن الحمراء، ويأمرهم سفروت أن يحولوا جسم بهية إلى المادة الهيولية. عندئذ يتصاعد من الصندوق بخار أحمر فينزل الحاوي عنه ويفتحه فلا ترى أثراً للفتاة فيه. ويقفل سفروت الصندوق ثانية، ويقف عليه فيكفهر وجهه ويقف شعر رأسه، ويدعو سليمان فتحضر الجن ثانية، فيأمرهم أن يسترجعوا جسم بهية، وينزل الدخان الأحمر من سقف المسرح ويفتح الحاوي الصندوق فإذا ببهية في أصفادها كما كانت.
حدث ذات مرة في موسم (رأس البر) أن تعاقد مدير فندق كبير مع (البروفيسير سفروت) على إحياء سبع ليال لتسلية المصيفين مقابل أجر طيباً فأمر الحاوي أن يبني له مسرح خاص في ردهة الفندق الكبيرة، وبدأ لياليه كالعادة، حتى كانت الليلة الثالثة ففي هذه الليلة بعد أن انتهى من لعبة الصندوق وبينما كان يجمع أدواته من المتفرجين ويعطيهم ما كان قد استعاره منهم أثناء الحفلة أعترضه رجل قصير القامة، بدين الجسم، يلمع العرق على وجهه الأسمر الأصفر، رجل من أقباط الصعيد في زعبوط أسود وعمامة سوداء يخاله الناظر من تجار الكسبة أو العجوة.
تقدم الرجل من سفروت خجلاً متردداً فقال: (نكتة اللعبة دي!. . . نكتة تمام يا أخينا). فوافق سفروت على قول الرجل ببرود وأدب مصطنع، ثم مضى إلى غيره، ذلك أن الناس كثيراً ما كانوا يأتون إليه بعد الحفلات يخبرونه أنهم يعلمون سر ألعابه أو أن ما فعله قد رأوه منذ سنوات أو ليلحوا عليه كي يعلمهم السر في حيلة أعجبتهم إلى غير ذلك من سخف كثيراً ما سايرهم فيه أو صرفهم عنه بسحرية غير جارحة، إذ لم يكن من الكياسة أن يجفو لهم في القول وعليهم مدار رزقه.
وتبع القبطي الحاوي وهو يردد في شيء من الذهول: نكتة جوي والله عبارة الصندوق دي!. . . . نكتة جوى. (فقال سفروت مستهزئاً! (إذا كان أعجبك فلم لا تشتري لك واحداً يا معلم! فلم يدرك الصعيدي أن الحاوي يهزأ به إذ كان يفكر في أمر ملك عليه انتباهه.
انتهى سفروت وخرج كعادته يتمشى على شاطئ البحر ليريح نفسه من عناء العمل وليستنشق هواء الليل قبل أن يذهب إلى فراشه فإذا بالقبطي يقتفي أثره ويبادر بحديث الصندوق.
_ لا تؤاخذني يا حضرة. . . . أنا عاوز أكلمك، أنت أولاً أسمك إيه؟
_ خدامك سفروت
_ عاشت الأسامي يا سي سفروت. . . . تعرف ياسي سفروت عبارة الصندوج دي مش نكته جوى جوي برده!
- إياك أنت تكون اهتديت لسرها بنباهتك من ساعة ما سبتك؟
_ لألأ! مش غرضي.
وأدرك سفروت من لهجة محدثه أنه يحاول أن يكتسب صداقته؛ وكانت الليلة مقمرة، فلما نظر رأى عيني القبطي تلمعان بانفعال غريب فحدثته نفسه (ماذا يريد هذا الرجل مني؟) ولكن محدثه قطع عليه تفكيره.
- بجه مش تفتكر أن تخيبة المرة اللي معاك دي يخصر اللعبة بعض شيء؟
- برده يا خواجه لك حق، لكن يعني أمال حخبي مين؟
- ليه ما تخبيش واحد من المتفرجين؟ أهو ده يكون نكته تمام.
وأندهش سفروت من هذا الاقتراح الشاذ وأجاب ساخراً
- يبقى نكتة أوي إذا كان واحد يرضى يوالس معايه! طبعاً إذا كنت أنت متطوع يبقى كويس. دا حتى ما يبقاش فيه فائدة للصندوق. الزعبوط بتاعك ده كفاية أوي، الزعبوط ده يخبي دستة. ثم ضحك مقهقهاً.
- ما تآخذنيش يامعلم! أنا راجل أحب الهزار.
- ولكن الرجل الغريب الأطوار تجاهل وقاحة الحاوي أو هو لم يسمعه فقد نظر حوله كمن يريد أن يستوثق من عيون رقيب، ثم أدنى فمه من أذن محدثه هامساً. اسمع! أنا راضي، أنا أتفق وياك. وتلفت حوله في انفعال عصبي ووضع يده في عبه وأخرج منها محفظة نقوده فاخذ ورقة ذات خمسة جنيهات وهو يهمس.
- ما تفتكرشييا سي سفروت أني مجنون، يمكن أطواري تظهر غريبة لك شوية، لكن أنا مش مجنون. أنا عاوز أتعلم اللعبة دي، وآدي خمسة جنيه علشان تعلمهالي ونعملها بكرة سوى قدام الناس وساور الحاوي الشك في سلامة عقل الرجل، ولكن المال أغراه فبينما هو يقلب الأمر على وجوهه إذا صوت إمرأة يرتفع في وحشة الليل حوله.
- بولص!! بولص!
ونظر سفروت فإذا المرأة طويلة هزيلة في حبرة سوداء مقبلة عليهما.
وارتبك الرجل القبطي ارتباكاً واضحاً وظهر عليه الخوف، فقال مسرعاً:
- اسمع! دي مراتي أنا لازم أروح. أنا لازم أروح حالا. أنت اتفقت ولا لأ؟ فأخذ الحاوي الورقة من يد الرجل قائلاً:
- مادمت أنت عاوز كده مفيش بأس.
- يمكن تقابلني بكره الساعة تسعة الصبح علشان تعلمني؟
فرضي سفروت وانصرف الرجل إلى زوجته مسرعا كأنما هو يحرص أن لا تكشف عن صفة محدثه.
وفي اليوم التالي في الساعة المحدودة قابل الحاوي بولص وعلمه كيف يهبط قاع الصندوق مع الجزء الذي تحته من خشب المسرح بالضغط على زر خفي بأحد جوانبه، وكيف يفك أغلاله ويربطها بعد ذلك وكيف يرفع القاع إلى ما كان عليه.
وكان بولس برغم بدانته، وغرابة أطواره، وزعبوطه، ذكيا سريع الفهم تعلم في وقت قصير وأتقن اللعبة إتقان صبية الحاوي.
وكانت الحفلة في المساء وقام سفروت بألعابه كعادته الا انه كان كلما نظر إلى بولص رأى عينيه شاخصتين نحوه كأنما يربطهما بالحاوي خيط، فشعر بوساوس مقلقة وتوترت أعصابه وترك بهية تقوم بدور لا تحتاج فيه إليه فانسرق إلى البار وشرب بعضاً من الوسكي ثم رجع يعاود ألعابه.
وأتى دور الصندوق ولسفروت من حدة الذهن وجرأة الخمر ما ألهمه هذه الديباجة:
اعمل أمام حضرتكم الليلة أيها السيدات والسادة، ما لم يعمله حاو في العالم أجمع لا قبلي ولا بعدي، فإرضاء لزبائننا الكرام اتصلت قبل الحفلة بخادمي من الجن الأحمر المدعو جنجلوت. . . لا تضحكوا أيها السيدات، نعم، خادمي جنجلوت الخفيف الذي سخره لي سليمان. وبعد الجهد الجهيد أيها السيدات والسادة رضى جنجلوت أن يأخذ أحد حضرات المتفرجين هذه الليلة ويحوله إلى المادة الهيولية ويصطحب روحه في نزهه سماوية.
من منكم أيها السيدات والسادة يحب أن يخاطر هذه المخاطرة؟ من عنده الشجاعة والإقدام؟. . . ألو ألو. . . الا أونا الا دوه. . . دقيقتين فسحة بين الكواكب يا سيدتي الو؟. . . حضرتك؟ لا؟ طيب تعالي أنت يا ست يا أم برقع، لأ؟ طيب بلاش لأ يا سعادة البيه، انت ثقيل شويه على جنجلوت أنت يا أفندي يا صغير؟ بقي ما فيش حد يجبر بخاطر جنجلوت الجني الخفيف الضريف؟ ألو الو ألا أونا الا دوه. . . ما فيش في الصالة واحد شجاع.
وظل المتفرجون بين ذلك يضحكون ولكن سرعان ما اعتراهم الصمت والدهشة إذ رأوا أحدهم يرتقي المسرح فعلا، وفي هذا السكون ارتفع صوت المرأة ذات الحبرة السوداء كما ارتفع في وحشة الليلة الماضية.
- بولص!!! بولص بولص!!! ارجع هنا.
صوت وحشي جهوري تفضح نبراته قسوة قلبها وأنانيتها. وتبينت أغلبية أهل الفندق بولص تاجر الصعيدي المتيسر والرجل الصامت المنعزل مع زوجته القبيحة، دائماً في شرفة الفندق الغربي. وتهامسوا فيما بينهم يرقبون بدهشة ما يحدث، وهابت نفوسهم إذ رأوا شبه جنون في عيني الرجل ورأوا العرق يتصبب غزيرا من وجه الأسمر الأصفر. ولكن سرعان ما وجدت أنظار الخلعاء ما يثير الضحك في هيئة الرجل التعس، فنادى أحدهم ما تخافيش يا ستي ده المعلم بولص يخوف العفاريت ونادى آخر.
- حاسب يابولص لا الجن يركبك وقال ثالث: ما تتطرفشى يا معلم في السماء لحسن عزرائيل يشوفك.
وغير ذلك مما تقهقه له الجماهير ولا يكاد الفرد يبتسم له. وكررت المرأة أنا بأقول ارجع يا بولص. فلم يكن بذلك من أثر سوى إسراف الناس بالضحك.
قيد الحاوي بولص بالسلاسل والأغلال وأقفل الصندوق بالأقفال والحبال ووقف عليه واكفر وجهه ووقف شعر رأسه وتمتم وهمهم وحضرت الجن وتصاعد البخار الأحمر فنزل عن الصندوق وفتحه فوجده فارغاً كما يجب. حدث ذلك طبعاً بين قهقهة الناس وهتافاتهم.
واقفل سفروت الصندوق ثانية الخ. حتى نزل الدخان الأحمر من سقف المسرح، فرفع الغطاء ولكن بولص لم يرجع إليه! ارتبك الحاوي واقفل على عجل قائلا لنفسه (ربما لم أعطه الزمن الكافي) وشغل المتفرجين بلعبة أخرى بسيطة برهةً ما، ثم فتح الصندوق ثانية ولكن الصندوق بقي فارغا.
أدركت النضارة عدم وجود بولص فارتفع همسهم إلى ضجيج وتساءل البعض صائحا: فين المعلم بولص؟: أوع ليكون اختنق الرجل في الصندوق الخ الخ. .
فتحدث إليهم سفروت بحضور ذهنه المعتاد عن صعوبة رجوع بعض الأجسام من اللامادة إلى المادة، وخصوصا أجسام أهل الصعيد، حتى إذا استوثق انه أعطى الرجل ما يكفي من الوقت فتح الصندوق ثالثة ولكن بغير جدوى!!
لغط الناس وهاجوا وتسابق الشباب منهم يفحصون الصندوق ويعبثون بأدوات الحاوي، الذي أسرع إلى تحت المسرح يبحث عن بولص بغير نتيجة، وعلم مدير الفندق أيضا بالخبر فجزع وأرسل رجاله يبحثون. ولما رجع سفروت إلى الردهة اندفعت إليه المرأة ذات الحبرة السوداء اندفاع الأعاصير في أمشير وقد بلغ منها الغضب أشده.
- ازاي يعني تأخذ راجل طويل عريض تحويه! هي الدنيا سايبه ولا ايه!؟ مسخرة وقلة أدب!!
- يا ستي بس اهدي شوية دلوقت ايبان.
- يبان؟ أنا عاوزة جوزي دلوقت حالاً.
- هو أنا قلت له تعالى، ما هو هو اللي جه من نفسه.
- أبدا أنت حويته أنت راجل متختشيش.