مجلة الرسالة/العدد 10/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 10/الكتب
شعر ونثر
وحي الأربعين. للأستاذ عباس محمود العقاد
ثورة الأدب. للدكتور محمد حسبن هيكل بك
عليّ دين ثقيل للأستاذ العقاد حيل بيني وبين أدائه إلى الآن. ويظهر أني لن أستطيع أن أؤديه جملة فلا بد من تأديته أقساطا. فبين يدي كتب ثلاثةقرأتها وأعجبت بها ولي فيها آراء وأحب أن أذيعها. وهي كتاب الأستاذ عن ابن الرومي وكتابه عن جوت وديوانه الأخير وحي الأربعين.
ولسست ادري لماذا آثرت أن يكونقضائي لهذا الدين عكسيا فابدأ بآخر هذه الكتب الثلاثة ظهوراً. ولعلي إنما آثرت البدء بوحي الأربعين لأنه شعر، ولأن الوقوف عند الشعر والشعراء عذب لذيذ للكتاب الذين لا يحسنون قرض الشعر. فهم يجدون في قراءته ونقده وتحليله لذة لا يجدونها في قراءة النثر ونقده وتحليله. ولعلي إنما آثرت البدء بهذا الديوان لأن نقده أيسر من نقد الكتابين الآخرين. أيسر علي، وأيسر على الشاعر الكبير نفسه. فلن يكون بيننا جدال طويل ولا قصير. ولن نحتاج إلى أن نرجع إلى كتب الأدب والتاريخ لنثبت رأيا أراه ويخالفني العقاد فيه أو رأياًيراه العقاد ولا أقره عليه. وإنما هي آراء وخواطر تثيرها فينفسي قراءة هذا الديوان وسأعرضها على العقاد وعلى قرائه الذين نقدوه والذين قرظوه دون أن أحاول أن أفرضها على أحد فرضا أو أن أتعصب لها أو أن أجادل عنها. ودون أن يكون للعقاد وأنصاره وخصومه أن ينكروا هذه الآراء أو يجادلوا فيها لأنها آراء تتصل بالذوق وتتصل بمزاج الكاتب وطبيعته وتأثره بالفن الجميلأكثر مما تتصل بالحقائق المقررة أو الأمور التي يكثر فيها الجدال والنضال.
وما أظن أن أحدا يطمع في أن يفرض علي ذوقا غير ذوقي أو طبيعة غير طبيعتي أو تأثر بالفن الجميل غير تأثري به لمن شاء أن يرضى ولمن شاء أن يسخط وأنا أوثر بالطبع رضى الناس على سخطهم ولكن إيثاري لهذا الرضى شيء وظفري به شيء آخر.
ولعلي آخر الأمر إنما آثرت البدء بهذا الديوان لان كلام الناس قد كثر فيه ولأن جدالهم قد أشتد من حوله ولأن نقاده قد غلوا حتى جاوزوا القصد وأنصاره قد أسرفوا حتى جاروا عن الحق فأحببت أن أقول في هذا الديوان كلمة، لا أقول أنها تقر الأمر في نصابه، وترد المختلفين إلى الوفاق، فليس إلى ذلك منه سبيل. ولكنها قد تصور رأى جماعة من المنصفين الذين لا يرضون عن آثار العقاد ولا ينكرونها لأنهم يغلون في حب العقاد أو يغلون فيبغضه، بل لأنهم ينظرون إليها من حيث هي آثار فنية خالصة تلائم أذواقهم أحيانا فيرضون، وتنافر أذواقهم حينا فينكرون. ومن حق هؤلاء الناس أن تصور آراؤهم وتظهر مذاهبهم في آثار كاتب مهما يقل فيه خصومه، فلن يستطيعوا أن ينكروا عليه البراعة، وشاعر مهما يقل أعداؤه فلن يستطيعوا أن يجحدوا حظه من الاجادة، وتوفيقه إلى شيء كثير جدا من الإبداع.
وأريد أن أقف وقفة قصيرة عند هذه الصفحات التيقدمها العقاد بين يدي ديوانه هذا لأقره في غير تحفظ، على ما ذهب إليه فيها من إن بين المجددين قوما يقلدون في التجديد، فيخطئون الفهم ويعدون الصواب ويتورطون في أحكام على الشعر والفن، لا خطر لها ولا غناء. وأن أقره أيضا في غير تحفظ على ما ذهب إليه في هذه الصفحات من أن للشاعر المجدد أن يطرق الفنون التي طرقها القدماء دون أن يمس ذلك تجديده أو يغض ذلك من براعته، بل قد يكون من الحق عليه أن يطرق هذه الفنون فيجددها ويبعث فيها حياة ملائمة للعصر والبيئة ولميول الجيل الذي يعيش الشاعر فيه.
فليس المدح عيبا من حيث هو مدح، وليس المدح فنا يجب أن يموت وإنما المدح فن من فنون الشعر لا بد من بقائه ما بقي الشعر، وما بقي بين الناس من يجيد ويحسن، وما بقي بين الناس من يرضى عن الإجادة ويحمد الإحسان للمحسنين. والهجاء فن من فنون الشعر لابد من أن يبقى ما بقي في الناس من يسيء وما بقي في الناس من يحب نقدا المفسد وتقويم المسيء. وقل في مثل ذلك في غير المدح والهجاء من هذه الفنون التي طرقها القدماء من العرب وغير العرب لا ينبغي أن تزول ولا أن تهجر، وإنما ينبغي أن تتطور لتلائم غيرها من أساليب الحياة العقلية والفنية التي يحياهاالناس على اختلاف البيئات والعصور.
ولكني وقفت مفكرا بعض الشيء عند هذا التعريف الذي أراد العقاد أن يعرف به الشعر حين يقول: (وان من أراد أن يحصر الشعر في تعريف محدود لكمن يريد أن يحصر الحياة نفسها في تعريف محدود، فالشاعر لا ينبغي أن يتقيدالا بمطلب واحد يطوي فيه جميع المطالب، وهو (التعبير الجميل عن الشعور الصادق) وكل ما دخلفي هذا الباب، باب التعبير الجميل عن الشعور الصادق، فهو شعر وان كان مديحا أو هجاء أو وصفا للإبل والأطلال وكل ما خرج عن هذا الباب فليس بشعر وان كان قصة أو وصف طبيعة أو مخترع حديث).
فالشعر عند العقاد كالحياة ليس إلى حصره ولا إلى تحديده من سبيل، أو هو كالحياة يحصر ويحدد إذا أمكن حصر الحياة أو تحديدها. ولكن العقاد بعد ذلك يعرف الشعر بأنه التعبير الجميل عن الشعور الصادق وهو بهذا التعريف نفسه قد حدد الشعر وجعله أضيق من الحياة. فليست الحياة كلها تعبيرا جميلا عن شعور صادق بل في الحياة شعور غير صادق يعبر عنه تعبير غير جميل، وفيها شعور كاذب يعبر عنه تعبيرا جميلا، وفيها شعور صادق يعبر عنه أحيانا تعبيراً جميلا وتعبيرا غير جميل. وإذا فليس الشعر كالحياة لا سبيل إلى حصره بل ليس الشعر كالحياة يحصر كما تحصر الحياة ويحدد كما تحدد الحياة. وإنما الشعر لون من ألوان الحياة وتحديده ليسمستحيلا ولا عسيرا وآية ذلك أن العقاد نفسه قد حاول هذا التحديد فعرف الشعر بأنه التعبير الجميل عن الشعور الصادق وجعل كل ما يدخلفي هذا الباب شعرا مهما يكنجوهره وكلما يخرج من هذا الباب لم يجعله شعراً مهما يكن شكله وصورته وموضوعه.
وأظن إن العقاد لم يوفق في هذا التعريف فماذا أراد بالتعبير الجميل اهو المنظوم أو المنثور؟ أم هما المنظوم والمنثور معاً؟ فان تكن الأولى فقد يدخل في تعريف الشعر من الكلام ما ليس منه وإن تكن الثانية، فقد يخرج الشعر المنظوم كله من هذا التعريف، وإن تكن الثالثة فكل كلام جميل يصف شعورا صادقا فهو شعر. وإذا ففيما تقسيم الكلام إلى شعر ونثر؟. سيقول العقاد إن هذا التقسيم قديم لا غناء فيه ولكن العقاد نفسه لم يسم نثره شعرا ولم يطلق لفظ الديوان الا على كلامه المنظوم. ووحي الأربعين فيما اعلم نظم كله لا نثر فيه الا الشرح والتفسير. فالتعريف إذا من هذه الناحية بعيد كل البعد عن الدقة التي يعرف بها العقاد. ويزداد هذا البعد إذا توسعت بعض الشيء في معنى التعبير الجميل، والموسيقى تعبير جميل، والغناء تعبير جميل. فكل فن جميل إذا، فهو شعر، وهذا كلام يقوله الكتاب حين يتجوزون أو حين لا يحرصون على التحقيق. فأما إذا أرادوا الإصابة والدقة فلا بد لهم من أن يلاحظوا فيه الوزن والقافية أو الوزن دون القافية أو الانسجام الموسيقي على كل حال. وهذا الشعور الصادق ما هو وما عسى أن يكون وهليطمئن العقاد حقا إلى أن كل ما يصفه الشعراء فيجيدون وصفه إنما هو نتيجة لشعور صادق حقا، أليس من الشعراء من يجيد الوصف لطائفة من العواطف، لا يجدها ولا يشعر بها شعورا صادقا وإنما هو يعرفها ويحسن معرفتها ويواتيه الفن فيجيد وصفها ويعبر عنها تعبيراً جميلا. وأظن العقاد يوافقني على إن المعرفة الجيدة شئ والشعور الصادق شئ آخر. والعقاد يعرف من غير شك هذا المثل الذي ضربه ارسطاطليس لبراعة الشعراء في التناقض وهو مثل بندار حين طلب إليه أن يمدح بغلا ولميعجبه الأجر، فاستكبر وذم البغل. فلما ضوعف له الأجر، جعل هذا البغل فرساً ذات جناحين. ومن المؤكد أن بندار لم يكن يشعرشعورا صادقا لا بمحاسن هذا البغل ولا بعيوبه وإنما كان يعرف هذه المحاسن والعيوب، وأعانه فنه فصورها تصويرا بديعا.
وكلنا يعلم إن الشعراء والخطباء يروضون أنفسهم على مدح الشيء وذمه، فيجيدون في المدح والذم جميعا ويعبرون عنهما تعبير جميلا دون أن يكون شعورهم بها صادق من غير شك، أو كاذبا من غير شك، وإنما هي البراعة الفنية الخالصة. وإذا فصدق الشعور قد يكون مزايا الشعر ومحاسنه، ولكنه لن يكون ركنا من أركان الشعر ولو قد جعلنا صدق الشعور ركناً من أركان الشعر لأسقطنا أكثر الشعراء من تاريخ الأدب في جميع اللغات. ولم يخطئ القدماء حين قالوا أن أعذب الشعر أكذبه. ولم يخطئ ارسطاطليس حين أباح للشعراء ما لم يبح للخطباء من الإسراف والإغراق. فلا بد إذا من ان يحقق العقاد تعريفه هذا للشعر ومن أن يحقق جزأيه جميعاً. ومع ذلك فهلل يصدق هذا التعريف على وحي الأربعين بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الديوان كله تعبير جميل عن شعور صادق.
أما إن شعور العقاد بكل ما وصفه في ديوانه صادق فشيء أحسه في قوة لا تقبل الشك ولا الريب، ولكن بالقياس إلى بعض الأبواب. بالقياس إلى هذه الأبواب التي تظهر فيها شخصية العقاد ظهورا واضحا كل الوضوح. بالقياس إلى باب الغزل، مثلا هذا الذي تظهر فيه للعقاد شخصية خفية الظل جداً، حلوة الروح جداً، محبة للحياة جداً، مقبلة على اللذة جداً، في حب لها واقتصاد فيها. انظر إلى هذه الأبيات:
ياله من فم ... يالها من شفة!
يا لشهد بها ... كدت أن أرشفه
يا لزهر بها ... كدت أقطفه
حلوة ويحها! ... غضة مرهقة
حسرتي بعدها ... حسرة متلفة
ألست ترى فيها شخصية تحب الحياة وتكلف بها، وتحب اللذة وتوشك أن تسرع اليها، لولا أن شيئاً يصدها عنها صداً ويردها فترتد كارهة آسفة. وانظر إليه كيف وفق إلى الإبداع في تصوير هذه المعاني السهلة المألوفة، في لفظ جميل عذب كله أنيق، وكيف استطاع أن يصور من وراء هذه المعاني اليسيرة المألوفة، التي يجدها الناس جميعاً، ويراها الناس جميعاً، معنى آخر ليس يسيراً، ولا مألوفاً ولا شائعاً بين الناس وإنما هو مقصور على الذين يسلطون العقل على الحس ويحكمون الإرادة في العاطفة، ويجدون لذة في الرغبة الحادة يمسكها الحرمان الشديد. فالعقاد مفتون بصاحبته، مفتون بهذا الفم وهذه الشفة، شديد الظمأ إلى شدها، شديد الميل إلى زهرها، يود ولكنه لا يفعل، ويكاد ولكنه لا يحقق. ويجد لذة قوية في هذا الحب، وفي هذا الحرمان، يخرج عن طور اللذة الغرامية المألوفة إلى طور اللذة الفلسفية الخالصة.
في هذه الأبيات تظهر شخصية العقاد كما هي خفية جداً تهفو إلى الجمال وتصبو إليه، رزينة جداً تؤثر أن يكون استمتاعها بالجمال عقليا لا إثم فيه ولا جناح.
في هذه الأبيات تظهر براعة العقاد ويظهر كل ما يملأ قلب العقاد من غناء، يجمع بين الحلاوة والقوة، ويغري المغنين بتلحينها. في هذه الأبيات يتحققتعريف العقاد للشعر فهي تعبير جميل عن شعور صادق.
وقل مثل هذا في هذين البيتين وهما عندي من اجمل الشعر وأرقاه، وهما عندي يمثلان العقاد تمثيلا صادقا. يمثلان جموحه وتمرده، ويمثلان وداعتهوطمأنينته.
لا أرى الدنيا على نور الضحى ... حبذا الدنيا على نور العيون
هي كالراووق للنور فلا ... صفو الا صفوها العذب المصون فانظر إليه كيف نفر وشذ وجمح في الشطر الأول من البيت الأول. فلم ير الدنيا على نور الضحى كما يراها الناس جميعا، ولم يألفها على هذا النور كما يألفها الناس جميعا. ثم انظر إليه كيف ثاب وأناب وهدأ واطمأن وأحب هذه الدنيا، ولكن في نور العيون بعد أن اختصرت وهذبت ونفيت عنها الأعراض، واستبقيت منها الخلاصة الخالصة والصفو الذي برئ من كل كدر، حبذ الدنيا على نور العيون. ثم انظر إليه كيف فسر حبه لهذه الدنيا المصفاة في هذا البيت الجميل:
هي كالراووق للنور فلا ... صفو الا صفوها العذب المصون
فالعقادفي هذين البيتين لا يحب الدنيا المبتذلة التي يرخصها نور الضحى ويبيحها للناس جميعاً. وإنما يحب الدنيا المصونة الممتازة التي يحتويها نور العيون ولا يبيحها الا لطبقة خاصة من الناس هم الشعراء.
فإذا أردت، ويجب أن تريد دائماً مع العقاد، أن تتجاوز هذا المعنى الظاهر الذي يفهمه كل ذي حظ من الأدب، إلى الرمز الذي يريد إليه العقاد. وإذا ذهبت، ويجب أن تذهب دائماً مع العقاد، مذهب الرمزيين الذين يدلون بالقليل على الكثير وبالواضح على الخفي، فسترى إن هذين البيتين على قلتهما وقصرهما وضيقهما يسعان كل شيء ويصوران نفس الشاعر ونظرها إلى كل شيء. فالعقاد لا يحب الابتذال وإنما يحب الامتياز. ولا بأس عليه من ذلك ولا جناح عليه فيه، فالشاعر الذي يستحق هذا الاسم أرستقراطي بطبعه، وان كان أقدر الناس على تصوير الديمقراطية وفهمها وامدادها بالحياة.
وأكاد لا أشك في أن شعور العقاد صادق في كل هذا الباب من الديوان، ولو أني ذهبت أحلل الجيد من هذا الباب، وكله جيد، لما فرغت من التحليل في فصل ولا في فصول. وكم كنت أود لو أتيح لي أن أقف عند هذه القصيدة البديعة التي يسميها العقاد (المعاني الحية)، أو عند هذه الآية الشعرية التي يسميها العقاد (الغزل الفلسفي). أو عند هذه الآية الأخرى من بين الموشحات وهي التي سماها العقاد (ليلة البدر). فقد أجتمع للعقاد في هذه القصائد الثلاث من محاسن الشعر الرائع ما لم يجتمع له في غيرها من قصائد هذا الديوان. أجتمع له صدق الشعور وعلوه وصدق التصوير ودقته، وصدق الحس وامتيازه، وجمال اللفظ الذي لا غبار عليه، وأجتمع له التوفيق إلى المعاني النادرة التي قلما يقع عليها الشعراء عندنا، والمهارة في تأدية هذه المعاني بحيث يخدع عنها القراء والسامعين فيخيل إليهم أنهم يقرءون أو يسمعون شيئا مألوفا. وهم يقرءون ويسمعون كلاما من أندر الكلام وأنفسه وأعلاه. كلاما لا يصدر إلا عن شاعر حقا. أجتمع له في هذه القصائد جمال التعبير وصدق الشعور، وكاد يجتمع له جمال التعبير وصدق الشعور في كلهذا الباب لولا ألفاظ تنبو عن سمعي وأحسبها تنبو عن سمع كثير من الناس كلفظ المأرف في قوله:
لك وجه كأنه طابع الصد ... ق على صفحة الزمان المأرف
فلست ادري لماذا لا أحب هذه الكلمة في هذا البيت، ولما اشعر بأنها قلقة لا تستقر في مكانها الا كرها، ولما اشعر بأنها صغيرة ضئيلة بالقياس إلى الزمان. وكلفظ الطين الذي أنكره غيري من النقاد على العقاد في قوله في القبلة:
هي كأس من كؤوس الخالدين ... لم يشبها المزج من ماء وطين
فأنا لا أناقش في المعنى ولا اعتدي عليه بمحاولة إفساده أو الغض منه. ولكن ذوقي هذا الذي تأثر بأدبنا العربي القديم ينفر، بل يفر من هذا الطين الذي يقرن بالقبلة. وأنا أفهم إن يعتذر الشاعر بصحة المعنى ودقته وامتيازه وارتفاعه من مألوف الناس، ولكني مع ذلك لا أطمئن إلى هذا الطين الذي تقرن به القبلة، أو يقرن بها. وهنا تظهر خصلة من خصال العقاد التي تميزه من غيره من الشعراء المعاصرين. فهو من شعراء المعاني الذين يحرصون اشد الحرص على تصحيح معانيهم وتجويدها وتميزها والارتفاع بها عن المألوف، ولكنهم لا يتكلفون مع الألفاظ ما يتكلفونه مع المعاني من تخير وتدقيق في التخير ومن تحرج وغلو في التحرج. هم اتباع المعاني وهم يزعمون أن الألفاظ يجب أن تتبعهم وان تدين لهم، وهم لا يطلبون إلى الألفاظ الا أن تؤدي لهم معانيهم وتعرب عنها إعراباً صحيحاً لا لبس فيه. فان أتيح لها مع ذلك أن تكون جميلة جذلة ورقيقة وعذبة فذاك وإلا فليس عليهم بأس ولا جناح. ولكن العقاد خليق بإحدى اثنتين: فإما أن يصلح تعريفه للشعر فلا يشترط جمال التعبير وإما أن يصلح مذهبه في الشعر فيكون احرص على تجويد اللفظ وتجميله وتزيينه في السمع والقلب مما هو الآن. وأنا أؤثر له الثانية، فليس من الحق في شيء أن الشعر يستطيع أن يستغني عن جمال اللفظ بجمال المعنى وروعته ولعله يستطيع أن يستغني بجمال اللفظ عن جمال المعنى أحياناً. فالشعر موسيقى أولا، وهو إذا متجه إلى السمع، فإذا استطاع، أن يخدع السمع بجمال اللفظ وانسجامه، فقد يستطيع أن يخدع القلب والعقل وقد يستطيع أن يكتفي بالسمع وحده. والخير كل الخير أن يوفق الشاعر إلى الملائمة بين جمال اللفظ وجمال المعنى. والعقاد يوفق إلى هذه الملائمة كثيراً ولكنها تخطئه أحياناً.
تخطئه حين ينسى نفسه، ويعمد إلى الفلسفة ويريد أن يكون فيلسوفاً موضوعياً إن صح هذا التعبير، يعرض علينا الآراء الفلسفية في نفسها ومن حيث هي دون أن يبعث فيها شيئاً من شخصيته، أو من حياته كأنه العالم يقرر أصلاً من أصول العلم أو قانوناً من قوانينه. في هذه الحالة يتقن العقاد معانيه، ويصححها تصحيحاً لا غبار عليه. ولكن هذا الإتقان والتصحيح يستغرق جهده أو أكثره، ولا يكاد يبقي له الا ما يمكنه من النظم. وإذا شاعرنا مفكر من الطبقة الأولى ولكن نظمه يشبه نظم أبي العلاء، تنقصه السلاسة والنصاعة وصفاء الديباجة، وهذا الانسجام الذي يخلب سمعك ويملك عليك أمرك ويجعلك نهباً للشاعر يلقي في روعك ما يشاء.
كل هذه الخواطر تخطر لك حين تقرأ القسم الأول من وحي الأربعين. وأحب أن أكون منصفاً فلا يكاد الإنسان أن ينظر في هذا الديوان وفي غيره من دواوين العقاد، حتى يعجببالشاعر إعجاباً لا حد له، لأنه رفع نفسه ورفع الشعر معه إلى عالم لم يتعود شعراء العرب أن يعيشوا فيه، لا أكاد استثني منهم الا أبا العلاء. فالموضوعات التي يقصد إليها العقاد وينظم فيها الشعر موضوعات عالية كلها رفيعة، حتى إذا هبط العقاد إلى حيث يعيش الناس وشاركهم فيما تعودا أن يقرضوا الشعر فيه من الفنون لم يلبث أن يرتفع بهذه الفنون، ويحلق بها في جو لا يكاد يرقى إليه الطرف. وأكاد اجزم بأن العقاد لو استقامت له الألفاظ وأسمحت له اللغة، لمااستطاع أحد في هذه الأيام أن يساميه. ولكن لغته لا تمكنه من الأسف الشديد من أن يستمر محلقاً في الجو بل تثقل عليه وتثقل على معانيه وتضطره إلى الهبوط، فيهبط ومن حقه ان يظل عالياً. وهل يأذن العقاد في أن أنكر عليه خصلة أخرى في وحي الأربعين وهي هذه الشروح التي يقدمها بين يدي طائفة من قصائده الفلسفية والتي تترك في النفس أثراً مؤلماً ثقيلاً إلى حد ما، وتخيل إلى القارئ إن الشاعر قد تخير بعض الموضوعات الفلسفية التي طرقها الناس من قبله وأتقنوها بحثاً ودرساً فنظمها، ونظمها في غير توفيق إلى الوضوح فقدم هذا الشرح بين يديها وجعل شعره أشبه بالمتون منه بالشعر حقاً.
إن الذين يقرءون شعر العقاد ويذوقونه هم المثقفون المستنيرون، الذين تعودا أن يقرءوا الشعر وأن يفهموه، وأن يقرءوا شعراً أصعب من شعر العقاد وأشد منه إمعاناً في الغموض، فيستطيع العقاد أن يحسن بهم الظن وان يخلي بينهم وبين شعره ليفهموه كما يريدون وكما يستطيعون. وليسس على العقاد بأس أن يفهم شعره أحياناً على غير ما أراد هو فمن يدري. لعله أن يكون هو مخطئا وأن يكون قارئه مصيباً، ومن يدري لعله يعود إلى شعره يقرأه فيفهم منه غير ما كان أراد، قد يكون هذا عيباً في النثر ولكنه مزية من مزايا الشعر الرائع، ولو أن لي أن اقترح على العقاد لطلبت إليه أن يلغي هذه الشروح الفلسفية في الطبعة الثانية من هذا الديوان، إن لم تكن قد تمت. فأني اعلم أن الطبعة الأولى قد نفذت منذ حين.
ولست أدري لما لا أريد أن أقف، وأن أختم هذا الحديث دون أن آخذ العقاد بملاحظة أخرى أود أن يقدرها ويفكر فيها، وهي: أن التجديد في الشعر يتناول الألفاظ ويتناول المعاني من غير شك، ولكنه خليق أن يتناول الوزن أيضاً فلكل نفس مذهبها في التفكير، ومذهبها في التعبير، ولكلل نفس موسيقاها أيضاً. وإذا صدق هذا بالقياس إلى الأفراد فهو صادق بالقياس إلي الأجيال. والعقاد يعلم إن كل نهضة في الشعر خليقة بهذا الاسم تستتبع تغييرا في الوزن، واستحداثاً لفنون جديدة من التوقيع. كان ذلك في شعرنا العربي في الشرق وفي الأندلس. وكان ذلك في غير شعرنا من الأمم، وكنت أحب أن يكون ذلك في شعرنا الحديث، وكنت احب أن يكون العقاد من السابقين اليه، ولست يائسا من ذلك فان العقاد رجل خصب النفس قوي الحس دقيق الشعور واخلق بمن تجتمع له هذه الخصال، ويكون له معها خيال قوي بعيد المدى أن يجدد في الشعرفيحسن التجديد، وان يتجاوز التجديد في الألفاظ والمعاني إلي التجديد في الأوزان والقوافي.
اعترف بأني قرأت وحي الأربعين مرتين وأني أود لو أقرأه مرة ومرة، وأني واثق بأني سأجد في قراءته المقبلة من اللذة والمتاع ما يجعلني فيها راغبا وعليها حريصاً.
أهي المصادفة التي أردت أن أتحدث عن العقاد وعن هيكل في مقال واحد، أم هو تشابه قوي أو ضعيف بين هذين الأديبين دعاني إلى أن اجمع بينهما في هذا الفصل، وإن كان الاختلاف بينهما شديدا مغرقا في الشدة.
أما الذي لا اشك فيه فهو إن ظهور ثورة الأدب ليس هو الذي دعاني إلي الجمع بين هذين الأديبين فقد كنت أستطيع أن افرد لكل واحد منهما فصلاً ولعلي لو فعلت أرحت القارئ وأرحت نفسي من الإطالة ولعلي لو فعلت فرغت لكل واحد منهما فوفيته بعض حقه من النقد والثناء. ولكني وجدت نفسي مدفوعاً إلى أن انظمهما في سلك واجمعهما في فصل. وابحث بعد ذلك عما دفعني إلى هذا. وأظن انه الشعور الذي كنت أجده حين كنت انتقل من شعر العقاد إلى نثر هيكل، ومن نثر هيكل إلى شعر العقاد. فقد كان يخيل ألي أني انتقل بين أديبين مختلفين غاية الاختلاف. وإنما كنت انتقل من شعر كثيراً ما يشبه النثر إلى نثر كثيرا ما يشبه الشعر وكلاهما يمتاز بالخصب والثروة والعمق وكلاهما يمتاز بهذه الديباجة التي ينقصها الصفاء في كثير من الاحيان، وكلاهما يمتاز بإيثار المعاني وإعمال الألفاظ إلى حد بعيد. وهل أنا في حاجة إلى أن اصف هيكلا، واحمد فيه قلبه الزكي وعقله القوي، وبصيرته النافذة وفهمه الصحيح لحقائق الأشياء التي يعرض لها بالبحث والدرس. وهل أنا في حاجة إلى أن اصف هذا الخصب المدهش الذي يحار الإنسان في وصفه وفي تصويره، كلما فكر في هذه الجهود الهائلة التي يبذلها هيكل في غير انقطاع ولا تواني ولا فتور، والتي تستطيع مع هذا كله أن تحتفظ بقوة متشابهة لا يكاد يظهر فيها التفاوت ولا يكاد يعرض لها الضعف، فهيكل صاحب صحيفة يشرف عليها ويدير امورها، ويكتب فيها فصلا في كل يوم على اقل تقدير، وهو عضو في حزب سياسي يشارك زملائه فيما يعملون ويتحدث إليهم كل يوم في السياسة، إذا كان الصباح، وإذا كان المساء. وهو أديب يقرأ فيكثر القراءة وينوعها ويحسن تنويعها. يقرأ في الأدب العربي، ويقرأ في الأدب الانكليزي، ويقرأ في الأدب الفرنسي، ويقرأ في السياسة، ويقرأ في التاريخ، والغريب انه لا يكره أن يقرأ في علوم القانون وإن كان من رجال القانون وهو على هذا كله يكتب في الأدب في موضوعات مختلفة منه، يكتب في الأدب الإنشائي فإذا هو يصف فيبدع في الوصف، وإذا هو يقص فيجيد القصص، ويكتب في الأدب الوصفي فإذا هو ينقض الشعر وينقض النثر، ويوفق في هذا النقد إلى خير ما يطمع فيه الناقدون، وهو على هذا كله أب وزوج لا يبخل على أسرته بحقها عليه وهو صديق لا يبخل على أصدقائه بحقوقهم عليه. وهو رجل له مكانته الظاهرة في حياتنا الاجتماعية والسياسية، وهو ينهض بما تستتبعه هذه المكانة من حقوق وواجبات. الغريب مع هذا كله أنك تلقاه فإذا هو رجل هادئ مطمئن كأنه أفاق منذ حين قصير من نوم مريح، فهو لم ينشط كل النشاط بعد ولكنه بعيد كل البعد عن الخمود والفتور، ولا تكاد تتحدث إليه دقائق حتى يفتنك ويروعك فكأنك تتحدث إلى جني ولكنه جني عذب الروح لذيذ الحديث.
هذا هو هيكل. فالذي لا يقضي الإنسان عجبا من قدرته على الإنتاج المتصل، في السياسة وفي أي سياسة، في الأدب وفي أي أدب، دون أن يظهر عليه ضعف أو إعياء أو شئ يشبه الملل.
أصبحت ذات يوم لا أكاد اسم صاحبي يتلو علي صحيفة من صحف الصباح الا سمعت إعلانا في هذه الصحيفة عن كتاب لهيكل جديد هو (ثورة الأدب) وكان الإعلان أمريكيا لا عهد لهيكل بمثله. فهيكل من انشط الناس في الأدب والسياسة ولكنهم من أشدهم فتورا في الإعلان. فقلت يجب أن يكون هيكل قد تغير ذلك فليس عهدي به بعيدا، يجب أن يكون شيء من حوله قد تغير، يجب أن يكون الله قد رزقه عفريتا في الإعلان كما هو عفريت في الإنتاج. وما هي الا ساعة أو ساعتان حتى اقبل رسول يحمل ألي نسخة من الكتاب. وكنت اعرف هيكلا بطيئا في إهداء كتبه وكثيرا ما لمته في ذلك، وكثيرا ما أسرفت في الإلحاح لأظفر بنسختي مما كان يصدر من الكتب. فلم ازدد أمام هذه السرعة وهذا النظام الا دهشا، وما زلت إلى الآن دهشا لأني لم افهم بعد مصدر هذه السرعة وهذا النظام في الإهداء والإعلان. ومهما يكن من شئ فقد أسرعت فأعلنت كتاب هيكل إلى الناس في الكوكب كما أعلنته الصحف الأخرى، ثم أسرعت فبدأت في قراءة الكتاب. ولم يخفني عنوانه، أما لأن صديقي هيكلا لا يخيف مهما يثر، وأما لان الثورة مهما تكن لا تخيفني. ولم احتج إلى هذا التفسير الذي خيل إلى هيكل انه محتاج اليه، ليفهم الناس عنه هذا العنوان. فأي غرابة في أن يسمي أي كتاب في الأدب الآن (ثورة الأدب). وهل حياة الأدب العربي في هذه الأيام الا ثورة متصلة. نحن ثائرون حين ننشئ ونحن ثائرون حين نصف ونحن ثائرون حين ننقد. كل إنتاجنا الأدبي ثورة حتى الذين يسمون أنفسهم محافظي ويلحون في المحافظة ويتمدحون بها ويبتغون بها الوسيلة عند الذين يحبونها ويستغلونها. هؤلاء أنفسهم ثائرون يفرون من القديم الذي يحرصون عليه، يريدون أن يؤيدوه فإذا هم يجددونه ويغيرونه ويكفي أن تقرأ حتى في نور الإسلام وهي المجلة الرسمية للأزهر. فسترى فيها ثورة ومحاولة للتجديد، وحرصا على أن يظهر شيوخ الأزهر حين يفكرون ويكتبون ملائمين للعصر الذي يعيشون فيه. حياتنا الأدبية كلها ثورة إذا وكل كتاب نكتبه في الأدب فهو ثورة الأدب، لذلك لم اقف طويلا عند العنوان وإنما أسرعت فمضيت في قراءة الكتاب.
لم أجد في الكتاب شيئا جديداً وأرجو أن الا يغضب هيكل فالكتاب كله جديد ولكني أعرفه لا لأني قرأت كثيرا من فصوله حين نشرت في السياسة اليومية أو الأسبوعية بل لأني قرأته وسأقرأه كله في هيكل كما لقيته أو تحدثت إليه. فالكتاب صورة مطابقة اشد المطابقة وأصدقها وأجملها لنفس الكاتب. تقرأ في الكتاب فترى هيكلا وتسمع له وقد تنكر الرأي من آرائه فتهم بأن تتحدث بإنكارك هذا إلى هيكل كأنه جالس إليك تراه وتسمع منه وتريد أن تأخذ معه في الحديث. ليس في الكتاب شئ جديد وهو لذلك من اخطر الكتب واشدها غدرا لك ومكرا بك تمضي فيه فيخيل إليك انك تمضي في كلام مألوف ولكنك لا تكاد تفكر قليلا فيما تقرأ، أو لا تكاد تلح في القراءة، حتى يفتح لك هذا الكتاب أبواباً ويبسط أمامك آفاقا ما كنت تعرفها أو تفكر فيها من قبل وإذ كل شئ جديد، وإذ كل شئ طريف، وإذا الكاتب يخدعك ويمكر بك وان لم يرد خداعاً ولا مكراً.
أريد أن أعطي قارئ الرسالة فكرة دقيقة عن هذا الكتاب بشرط أن لا ألخصه ولا أحلله لا لأني لم اقرأه كما ظن هيكل بصديقنا المازني بل لأن تلخيصه يفسده ويذهب بجماله وقيمته الصحيحة وكيف تلخص في فصل واحد كتاباً يتناول التجديد والتقليد في الأدب ويتناول القصص والتمثيل ويتناول الأدب القومي ويحاول الإنتاج في هذا الأدب القومي، كيف تريد أن تلخص هذا الكتاب على اختلاف ما فيه من ثمرات وألوان. لقد حاول صديقنا المازني أن يلخصه فلم يوفق ولولا أن هيكلا شك في قراءته للكتاب لما تكلف المازني هذه المحاولة. أريد أذن أن أعطي قارئ الرسالة فكرة دقيقة عن هذا الكتاب دون أن ألخصه، ولعلي أوفق إن لاحظت أن لهذا الكتاب ناحيتين فهو تاريخ صحيح دقيق للأدب العربي المصري في هذه الأعوام الأخيرة من جهة وهو فلسفة أدبية رفيعة موضوعها أدبنا الحديث من جهة أخرى. فإذا كنت تريد أن تعرف كيف نشأت الخصومة عندنا بين القديم والجديد وكيف تطورت والى أين انتهت وما المؤثرات المختلفة التي ألحت عليها فقوتها حيناً وأضعفتها حيناً آخر، وإذا كنت تريد أن تعرف مقدار ما كسبنا من أنفسنا من شخصية قوية أو ضعيفة في فنون الأدب على اختلافها في الشعر والنثر رسائل وقصصا وتمثيلا. وإذا كنت تريد أن تعرف الصورة التي نرسمها لأنفسنا من الأدب القومي، والحقيقة التي استطعنا أن ننتهي إليها من هذا الأدب فأنت واجد هذا كله في هذا الكتاب. وأنت واجد في هذا كله قصصاً هيكلياً ممتعاً بديعاً. ثم إذا كنت تريد أن تجعل الأدب موضوعاً للتفكير والفلسفة كما يجعل الفلاسفة الطبيعة وما بعد الطبيعة موضوعاً لفلسفتهم وتفكيرهم فيحللون ويعللون ويشرحون ويفسرون ويتنبئون فستجد هذا كله في هذا الكتاب. فقد حلل هيكل وعلل، وقد شرح هيكل وفسر، وقد أرخ هيكل وتنبأ، ووفق هيكل إلى كثير جدا من الحق في هذا كله.
اظلم هيكلا واظلم نفسي إن قلت أن إعجابي بكتابه يمكن أن يحد فهو مرآة صافية نقية صادقة لحياتنا الأدبية منذ وضعت الحرب الكبرى أوزارها ولكني أظلم هيكلا، وأظلم نفسي إن قلت أني راض عن كتابه كل الرضا، مقر بكل ما جاء فيه. فبين هيكل وبيني خصومة قديمة ما أرى أنها تنتهي لأنه لا يريد أن ينهيها. ولغة هيكل هي موضوع هذه الخصومة. فهيكل من أصحاب المعاني بين الشعراء، وهيكل يهمل لغته إهمالا شديدا ويتورط في ألوان من الخطأ واضطراب الأسلوب، يدنيه أحيانا من الابتذال، والغريب انه لا يضيق بذلك ولا يجد به بأسا، ولا يعترف بأنه يسيء إلى نفسه والى أدبه معا. ولست أريد أن أحصى عليه هذه العيوب ولا أن اضرب لها الأمثال فهو لا ينكرها ولا يراها عيوبا، ولعله يتمدح بها أحيانا وهو مخطئ من غير شك. فان من المؤلم أن تبدو معانيه الجميلة الرائعة في ثياب رثة بالية في كثير من الأحيان. وهيكل كالسيل إذا عرض لموضوع اندفع فيه فجاء بالجيد الكثير ولكنه لا يسلم أحيانا من الغثاء. فكثيرا ما يتورط في الخطأ لأنه يسرع ولا يتكلف التحقق والتثبيت في بعض مسائل التاريخ. أنظر إليه في المقدمة يريد أن يذكر الأوديسا فيذكر الإلياذة ويضيفها إلى اليونان. والإلياذة هي قصيدة فرجيل، وهيكل يعلم ذلك حق العلم ولكنه نسى وصحح كتابه ولم يخطر له أن يتحقق مما يكتب. وانظر إليه في موضوع آخر حين يذكر تحرر الفرنسيين من آثار اليونان والرومان في القرن السابع عشر، كيف يذكر لابروير وموليير وهو يعلم حق العلم أن أولهما تأثر من غير شك بتيوفرايست، وإن الثاني تأثر من غير شك بتيرانس وبلوت. وتستطيع أن تأخذ هيكلا بطائفة غير قليلة من هذا الخطأ الذي مصدره الإهمال والسرعة، وشيء من الازدراء لتحقيق المحققين. ولو أني عرفت أن هيكلا يحفل بنقد الناقدين، أو نصح الناصحين لألححت عليه في أن يتخذ لفصوله الأدبية مصفاة، إن صح هذا التعبير، يصفى بها ما يكتب فيزيل منه الخطأ اللغوي ويزيل منه الإهمال في بعض الحقائق التاريخية.
أمتفق أنا بعد هذا كله مع هيكل في آرائه كلها حول القديم والجديد؟ ما أظن الا إننا نتفق في أكثرها ونختلف في أقلها. ولعل اختلافنا أن يكون ناشئاً من شيئين أحدهما هذا الإهمال الذي آخذ به هيكلا. والذي يدفعه إلى المبالغة ويضطره إلى التقصير أحياناً. والثاني أن هيكلا رجل أديب، ولكن اشتغاله المتصل بالسياسة قد أثر في تصوره للأشياء وحكمه عليها بعض الشيء. فهو يسرف حين يسئ الظن بما يكتبه الأوربيون عنا حين يمسون حياتنا الأدبية، فما أظن أن (جيب) وأمثاله يتخذون السياسة وأهوائها مقياساً لدراساتهم الأدبية، وهو يسرف حين يحسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج. ولكنه رجل سياسي حين يكتب في الأدب، يريد أن يدافع عن مصر والشرق كما يفعل في السياسة، ويريد أن يرضي المصريين والشرقيين كما يفعل في السياسة. أما أنا فأريد أن أدافع عن مصر والشرق ولكن بشرط أن لا يورطني هذا في تغيير الحقائق العلمية أو مسها بشيء من التشويه ولو قليلا. فالحق آثر عندي من أي شئ ومن أي إنسان.
أما بعد فمهما نأخذ به كتاب هيكل هذا، فلن نغض منه ولن يستطيع أحد أن ينكر أن هيكلا هو المؤرخ العربي للأدب العصري الحديث. وانه قد فرض بذلك نفسه، لا أقول على هذا الجيل وحده، بل أقول على الأجيال المقبلة أيضاً. وأنا واثق كل الثقة بأن كتابه هذا سيصبح من المصادر القيمة للذين يريدون أن يدرسوا أدبنا المصري في نهضته هذه الحاضرة.
طه حسين