مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/طرفة أدبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/طرفة أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 5 - 1912



قال أبو نواس حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا بأرض بني فزارة في أوان الربيع نزلنا منزلاً بإزاء باديتهم ذا روض أريض ونبت غريض وتُرب كترب الكافور حتى اكتست الأرض بجميم نبتها الزاهر وأتزرت بمحض عشبها الناضر والتحفت بأنواع زخرفها الباهر بما يقصُر عنه النمارق المصفوفة ولا يداني زهرتها الزرابي المبثوثة فراقت بنضرتها الأبصار وارتاحت لزبرجها القلوب واشتاقت إلى نسيمها الصدور وابتهجت ببهائها النفوس فما لبثنا أن أقبلت السماء فأشفقت بربابها وتدانى من الأرض ركام حتى إذا كان كما قال عبيد بن الأبرص:

دان سف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح

همت السماء برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم هتنت حتى إذا تركت الربى كالوهاد رياً تقشعت فأقلعت وقد عادت الغدران مترعة تدفق والقيعان ناضرة تألق تحدق بحدايق مونقة ورياض رائقة وغياض من عرفها فايحة تتحاك بأنواع النور الغض الذي إذا هممت بتشبيهه بشيء حسن اضطرك حسنه إلى رده إليه. فإذا تقت إلى تضوع طيب لم تجد معولاً في الذكاء إلا عليه. فسرجت طرفي رامقاً في أحسن منظر واستنشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر ثم قلت لزميلي ويحك امض بنا إلى هذه الخيمات فلعلنا نلقى بعض من نؤثر عنه خبراً نرجع به إلى بغداد فلما انتهينا إلى أولها إذا نحن بخباء على بابه جارية مبرقعة ترنو بطرف مريض لجفون وسنان النظر قد شي فتوراً وملئ سحراً قد مدت يداً كأنها لسان طائر بأطراف كالمداري وخضاب كأنه عنم ثم جاءت الريح فرفعت عن برقعها فإذا بيضة نعام تحت رئال فقلت لصاحبي أما والله أنها ترنو عن مقلة لا رقية لسليمها ولا براءة لسقيمها فاستنطقها قال كيف السبيل إلى ذلك قلت اسسقها ماء فدنا منها فاستسقاها فقالت:

نعم ونعيم عين وإن نزلتما فالرحب والسعة ثم قامت تتهادى في مشيها كأنها خوط بان أو قضيب خيزران تتثنى فتجر خلفها كالغرارتين فراعني والله ما رأيت منها فأتت بالماء فأخذته فشربت منه وصبت باقيه ثم قلت وصاحبي أيضاً عطشان فأخذت الإناء ودخلت الخباء ثم قلت لصاحبي متعرضاً لكشف وجهها من الذي يقول:

إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع

يريك عيون الدمى غرة ... ويكشف عن منظر أشنع فمضت بسرعة وأتت ونزعت الرقع وتقنعت بخمار أسود وهي تقول:

ألا حي ربي معشراً قد أراهما ... ألما ولما يصدقا مبتغاهما

هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممن سقاهما

يذمان تلباس البراقع ضلة ... كما ذم تجر سلعة مشتراهما

فشبهت كلامها بعقد در وهي من سلكه فهن ينتثرن منه بنغمة عذبة رخيمة رطبة لو خوطب بها الصم الصلاد لانبجست بالرطوبة منطقها وعذوبة ألفاظها كما قال ذو الرمة:

ولما تلاقينا جرت من عيوننا ... دموع كففنا غربها بالأصابع

ونلنا سقاطاً من حديث كأنه ... جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع

ووجه يظلم في نوره ضياء العقول وتتلف في روعته مهج النفوس وتعزب عن إدراكه أصالة الرأي ويحار في محاسنه البصر كما قال الأول:

فدقت وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنت

ولم اتمالك أن خررت ساجداً وأطلت من غير تسبيح فقالت أرفع رأسك غير مأجور وامض لشأنك غير موزور ولا تذما بعدها برقعاً فربما يكشف عما يطرد الكري ويحل القوى من غير بلوغ أرب ولا أدراك مطلب ولا قضاء وطر وليس إلا الحين المطلوب والقدر المكتوب والأمل المكذوب فبقيت والله معقود اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لطريق الصواب فالتفت إلى صاحبي وقال لي لما رأى هلعي كالمسلى لي عما أذهلني ما هذه الخفة لوجه برق لك بارقة حسن لعلك ما تدري ما تحته أما سمعت قول ذي الرمة:

على وجه ميّ مَسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا

فقالت الأم ذهبت لا أب لك كلا والله لأنا بقوله أشبه وأنشدت:

منعمة حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتج الروادف أهضم

لها بشر صاف وعين مريضة ... وأحسن أيماء بأحسن معصم

ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها أو جاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد حسا ماء الذهب يهتز على مثل كثيب نقا وصدر كالوديلة عليه كالرمانتين أو كحقى عاج يملأ يد اللامس وخصر مطوي الأندماج تهتز على كفل رجراج لو رمت به عقدة لانعقد وصرة مستديرة يقصر فهمي عن بلوغ وصفها من تحتها أجثم جاثم كجبهة ليث حادر وساقان خدلجتان تخرسان الرنين ثم قالت أعاراً تري قلت لا ولكن سبب القدر المتاح وتعجيل هم يعقبه سقم فخرجت عجوز من الخباء فقالت يا هذا امض لشأنك فإن قتيلها مطول لا يودي وأسيرها مكبول لا يفدي فقالت دعيه فله مثل غيلان:

فالا يكن إلا معلل ساعة ... قليل فأني نافع لي قليلها

ثم قالت العجوز:

فمالك منها غير أنك ناكح ... بعينك عينها فهل ذاك نافع

فنحن كذلك إذ ضرب طبل الرحيل فانصرفنا مبادرين بكمد قاتل وكرب داخل وحسرة كامنة وأنا أقول:

يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... حتى تشحط بينهن قتيل

أحللت قلبي من هواك محلة ... ما حلها المشروب والأكول

بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحير التشبيه والتمثيل

فوق القصيرة والطويلة فوقها ... دون السمين ودونها المهزول

فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين مررنا بذلك المنزل وقد تضاعف نواره وتزايد حسنه وكملت بهجته فقلت لصاحبي امض بنا لصاحبتنا فلما أشرفنا على الخيام ونحن دونها نسير في روضة من تلك الرياض في وقت فيه قد طلعت الغزالة ولها عين كأعين نجل شرقت بدموعها على قضب زبرجد فهبت الصبا فصبت لها الأغصان فتمايلت تمايل النشوان الطرب فصعدنا ربوة وهبطنا وهدة فإذا بها بين خمس لا تصلح أن تكون خادمة لإحداهن وهن يحنين من نوار ذلك الثمر ويتقلبن على ما تغتنم من عشبه فلما أن أتينا وقفنا فقلت السلام فقالت من بينهن وعليك السلام وقصت عليهن قصتي قلن لها ويلك أما زودته شيئاً يتعلل به من جوي البرحاء فقالت زودته يأساً حاصراً ورأياً حاضراً فابتدرت أنضرهن خداً وأرشقهن قداً وأبرعهن طرفاً فقالت والله ما أحسنت بدأ ولا أجملت عوداً ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه في الود وأني لأحسبه لك وامقاً وإلى لقائك شائقاً فما عليك بإسعافه بطلبته وإنصافه في مودته وأن المكان لخال وأن معك من لا ينم عليك فقالت والله ما أفعل من ذلك شيئاً أو تفعليه قبلي وتشركيني في حلوه ومره فقالت لها الأخرى تلك إذاً قسمة ضيزي تعشقين أنت فتزهين ويذل لك فتمنعين الرفد ثم تأمرينني ما يكون شهوة ولذة ومني سخرة ما أنصفت في القول ولا أجملت في الفعل فاقبلن إلي وقلن إلى ما قصدت قلت لتبريد غلة وإطفاء لوعة أحرقت الكبد وأذابت الجسد واستبطنت الحشا فمنعت القرار ووصلت الليل بالنهار قلن لي فهل قلت في ذلك شيئاً قلت نعم وأنشدتهن:

حججت رجاء الفوز بالأجر قاصداً ... لحط ذنوب من ركوب الكبائر

فأبت كما آب الشقي بخفه ... حنين ولم أوجر بتلك المشاعر

دهتني بعينيها وبهجة وجهها ... فتاة كضوء الشمس وسنى النواظر

من اللاء لو تبدو لرمة ميت ... لعاد إلى الأحياء في جرم ناشر

منعمة لو كان للبدر نورها ... لكان منيراً للنجوم الزواهر

من البيض تنميها فزارة للعلا ... وأهل المعالي من سليم وعامر

فإن نولت نلت الأماني كلها ... وإن لم تنلني زرت أهل المقابر

فقلن اقترعن فوقعت القرعة على أملحهن فضربن أزاري على باب غار فعدلت إليه وأبطأن عني قليلا وأنا أتشوق إلى واحدة منهن إذ دخل عليّ أسود كأنه سارية بيده هراوة وهو منقط مثل ذراع البكر فقلت ما تريد فقال أفعل بك الفاحشة فخفت وصحت بصاحبي فخلصني منه ولما يكد فخرجت من الغار وإذا بهن يتعادين إلى الخيمات كأنهن أللآلي ينحدرن من سلك وهن يتضاحكن ومعهن قلبي يجرونه بينهن فانصرفت وأنا أخزي من ذات النحيين.