مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/العبقري العظيم شارتكوف
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 59/العبقري العظيم شارتكوف
(نزف إلى عشاق الفن من علية القوم وصفوة المهذبين وأحسن البشر وذلك هوظهور نابغة عظيم في فن التصوير كلنا يعرف أن بيننا وجوها حسانا فتانة ولكن لي بيننا من المصورين من هوكفيل بفضل عبقريته ونبوغه أن يخلد جمال هذه الوجوه على ألواح التصوير ليمتع بها أحفادنا وذريتنا على مدى الأزمان كما نتمتع بها نحن الآن. ولقد شاء الله أن يجبر هذا الفقر ويسد هذه الحاجة فأرسل إلينا مصورا نابغة قد اكتملت فيه مزايا المصور البارع وصفاته فلتفرح اليوم كل غانية مليحة ولينعم بالها ولينشرح صدرها ولتأمن على محاسنها من الزوال وعلى ملاحاتها من الفناء ولتعلم أنه يوجد اليوم من هوقادر على نقلها إلى اللوحة بحذافيرها وجملتها غير مشوهة ولا مبتورة ولا منقوصة ولا مسلوبا منها أدنى ذرة من حسن وحلاوتها - بل ستبدوعلى اللوحة رافلة في أبهج حلل ملاحتها وبهجتها فتانة الشكل مأنوسة الظرف معشوقة الدل خلابة الأنس رشيقة القد وثابة كاليعسوب بين أزاهر الربيع.
وكذلك رب الأسرة يستطيع بفضل هذا النابغة أن يرى نفسه محفوفا بأسرته وأولاده. فيا أيها الناس على اختلاف درجاتكم وطبقاتكم وحرفكم ومهنكم اهرعوا جميعا كيفما وأينما كنتم إلى أمير الصناعة وسلطان الفن! اهرعوا إلى (متحفه البديع بشارع. . . عطفة. . . نمرة. .) تجدوا هنالك من ثمرة ريشته ما يزري بنفائس الفحلين (تيتان) و (فانديك) ولا يقل عن بدائع الساحرين (روفائيل) و (ليونارد) و (أفنسي) فوالله لقد أصبحنا لا ندري أي محاسن الأستاذ شارتكوف أحق بإعجابنا وأولى! دقة الصنع والمطابقة للأصل أوبهاء الرونق ووضاءة الطلاوة والمائية وإشراق الديباج أوبهجة الصبغة وحسن التلوين. رعاك الله أيها النابغة وحرسك وحماك. لقد ربحت صفقتك وفاز سهمك وقد هبت ريحك وثقب نجمك. فليعش شارتكوف!)
ولما قرأ المصور ذلك المقال في الجريدة امتلأ طربا وانتفخ زهوا وعجبا وبرقت أسرته. وأشرقت صفحته. لقد ذكره على صفحات الجرائد السيارة وهذا أمر جديد عليه. لقد تلا تلك الأسطر مرارا وتكرارا وأمتع ما في الأمر مقارنته بفحول الصناعة: (تيتان وفانديك وليونارد ودافنسي وروفائيل) فلقد هز ذلك من عطفه وزاد من تيهه وصلفه فانبرى يجوب أرجاء الغرفة جذلان مرحا فآنا يجلس على كرسي وآن يثب من مقعده فيدور كالنشوان أكناف المكان وآنا ينطرح على أريكة وآنا على وسادة - وأثناء هذا كله يدبر في نفسه كيف يستقبل الزوار ويعامل الزبائن ذكورا وإناثا. ثم عمد إلى لوح التصوير وتناول الريشة فجر بها جرة سريعة على اللوح ليمرن يده على الخفة والرشاقة.
في غد ذلك اليوم دق عليه الباب. فأسرع إلى فتحه. ودخلت سيدة تصحبها فتاة في الثامنة عشر من العمر وهي ابنتها يتبعهما خادم في زي خدام الأمراء وقالت السيدة (أنت المصور شارتكوف؟)
فانحنى الفتى إجابة
قالت السيدة (لقد كتب عنك شيء كثير في الجرائد اليومية ويزعمون أن صورك هي الغاية القصوى في الصناعة وبأسمى درجة الكمال) ثم رفعت نظارتها إلى عينيها وأسرعت كرة الطرف في جدران المكان ولم يكن عليها البتة فقالت (ولكن أين الصور؟)
قال المصور بلهجة المرتبك المتحير (الصور آتية في الطريق لأني انتقلت بالأمس إلى هذا المكان. ولم أتمكن بعد من نقل جميع أمتعتي)
فصوبت السيدة نحونظارتها لما لم تجد شيئا سواه تحدق إليه وقالت (أظنك كنت في إيطاليا مهد الفن وكعبة الصناعة؟)
قال المصور (كلا لم أذهب إلى هنالك ولكني عازم على الذهاب يوما ما. هاك كرسيا يا سيدتي فتفضلي بالجلوس لأني أخالك متعبة)
قالت السيدة (شكرا لك! لست بمتعبة فلقد جلست طويلا بالمركبة ها هوتصويرك! لقد أبصرته أخيرا
وهنا أسرعت السيدة إلى الحائط المقابل وصوبت نظارتها إلى صوره ورسومه ومناظره ونقوشه وكانت كلها قائمة على أرض الغرفة مسندة إلى الجدار (يا الله ما أعجب وما أغرب وما أفتن وما أخلب! هلمي إلى هنا يا ليزا. تعالي يا ليزا. انظري هذا رسم غرف على طريقة المصور القديم الخالد الذكر (تينيرز). انظري يا ليزا. انظري؟ ألا ترين كيف أجاد المصور تمثيل الرثاثة والبلى والقدم وهيئة التشوش والاضطراب والتناثر والتبعثر - وكيف أتقن تصوير الغبار. انظري إلى الغبار يا ليزة. ما هذه الإجادة والإحسان! ثم انظري ها هنا - هذه صورة امرأة تغسل وجهها ما أحلى وجهها وانظري هنا أيضا. هذه صورة غلام صغير خادم في كساء أزرق. وهكذا أنت لا تقتصر على تصوير الأشخاص الذين يطلبون إليك تصويرهم بل تتناول كل شيء وتذهب في مناحي الصناعة كل مذهب حسب ما يوحي به خاطرك ويلهمك شيطانك - هذه والله هي العبقرية الصادقة)
قال الفتى ما هذه وحقك إلا حثالة من سقط المتاع لا قيمة لها ولا خير فيها وإنما جل ما فيها إنها تمرينات وتجارب)
قالت السيدة خبرني عن رأيك في مصوري هذا العصر. أليس الحق أنه لا يوجد بينهم أمثال الفحول الأقدمين والنوابغ الغابرين أمثال تيتان وليونارد ودافنسي)
أجل أنت لا ترى في أعمال العصريين ما امتاز به القدماء من قوة اللون ومن ذلك - ذلك الشيء المسمى - قبح الله هذه اللغة الروسية الجافة اليابسة الفقيرة لغة الهمج المتوحشين أنا لا أستطيع أن أعبر عن خواطري بهذه اللغة البربرية) الحقيقة إن السيدة كان أكثر كلامها بالفرنسية شأن غيرها من أفراد الطبقة الارستقراطية وكانت من عشاق التصوير المولعين بالفن قد طافت بنظاراتها جميع أنحاء إيطاليا وزارت جميع ما بها من متاحف الصور - واستأنفت الحديث فقالت ولكن خبرني عن المسيونول المصور العصري الشهير ما رأيك فيه وما حكمك عليه؟ لله دره! ما أدق صناعته وما أعظم براعته! أظن أن وجوه صوره أملأ بالمعاني حتى من وجوه المصور الكبير (تيتان) ألا تعرف المسيونول؟)
قال شارتكوف ومن هونول؟)
قالت السيدة (المسيونول لله هوأي نابغة عظيم! لقد صور ابنتي هذه إذ كان سنها اثنى عشر عاما. لا بد لك من أن تزورنا في دارنا وأنت يا ليزا إذا شرفنا الأستاذ فلا تنسي أن تطلعيه على محفظة صورك. وبعد فلتعرف يا سيدي أن مجيئنا هنا الآن هومن أجل أن تشرع في أخذ صورتها للتوواللحظة)
قال الفتى (وإني لعلى تمام الاستعداد) ثم أقام منصة كان قد هيأ بها لوحة من قبل ذلك استعدادا لمثل هذه الطوارئ وتناول صحن الألوان وأثبت بصره في وجه الفتاة الجميلة. ولوكان شارتكوف ثاقب النظر صادق الفراسة عليما بحركات النفس البشرية ونزعات الروح الآدمية لقرأ في صفحة ذلك الوجه أمارات افتتان وشغف طفولي بالمراقص والملاهي وأمارات ملل وسآمة من الاشتغال المضجر الكريه بعدة فنون قد فرضتها عليها أمها ابتغاء تهذيبها وترقية مداركها ولكن شارتكوف لم ير أدنى شيء من هذا كله. بل كل ما رآه هوذلك الوجه الحلوالجميل الذي هوأجذب الأشياء لريشته. وهنا عرته الفرح وهزت الطرب لسنوح هذه الفرصة المعينة على إظهار ما قد كمن من أسرار الحذق والمهارة في ريشته التي لم يتح لها حتى الساعة من الوجوه إلا كل خشن غليظ مقبوح السحنة فرأى بعين خياله ما توه ما سوف تحويه الصورة التي يهم برسمها من محاسن الإتقان والإبداع.
وقالت السيدة (إني أريدها أن ترسم في ثوب ساذج بسيط وبين الظلال الخضر مثل الرياض والخمائل وعلى مسافة منها قطيع من الأنعام حتى لا يرى أنها ممن يغشين حفلات المراقص والمآدب. فإني أعلم يقينا أن مراقصنا ومآدبنا تقتل الملكات الذهنية وتميت كل أثر باق من أثار الإحساس الرقيق والشعور الحي فوا حزنا وولهفا على ما باد واندثر من عيشة التبسط وحياة السذاجة!) يا للأسف لقد كان وجه السيدة ووجه ابنتها ينمان عن إدمانهما غشيان المراقص والمآدب إلى حد أنهما أصبحتا تشبهان تمثالين من الشمع.
شرع شارتكوف في العم فأجلس الفتاة الجلسة المطابقة لأصول الفن ثم تدبر مليا حتى أوضح لنفسه الفكرة الأساسية وحددها وأخذ يهز فرشته ويحركها في الهواء يجدد بذلك النقط الجوهرية في ذهنه. وبعد ذلك ابتدأ فأتم رسم الهيكل في ساعة. ولم اطمئن إلى ذلك وسر به شرع في التصوير. وحين إذ افتتن بالعمل افتتانا وسحر به سحرا حتى نسي كل شيء - نسي وجود السيدتين ذاتهما - إلى حد أنه صار يبدومنه تلك الخصائص الصناعية التي لا يحب رجال الفن أن يطلع عليها الناس كتلك الحركات الجثمانية وتلك الأصوات الغريبة وتلك الهمهمة والغمغمة والطنين والصفير الذي يأتيه الفنيون حالة أنهما كهم في العمل بكلياتهم وجزئياتهم. بل لقد نسي مركزه إلى حد أنه أمسك رأس الفتاة الارستقراطية فرفعها بيديه وكانت قد نكست من التعب:
قالت السيدة (حسبنا اليوم هذا) قال المصور ناسيا نفسه (كلا. بل نستمر برهة أخرى) قالت السيدة مخرجة من جيبها ساعة ذهبية صغيرة (كلا لقد آن أن تقف. ليزا! الساعة الثالثة! لقد تأخرنا كثيرا)
قال شارتكوف بسذاجة وسلامة نية وبلهجة الطفل المتضرع المتذلل: دقيقة دقيقة - فقط لحظة لحظة أخرى) ولكن السيدة لم تكن ميالة هذه المرة إلى الإذعان لرغباته الفنية. على أنها وعدته إطالة المكث المرة التالية.
قال الفتى في نفسه (هذا شيء يغيظني جدا لقد بدأ العمل أن يستقيم وينتظم وبدأت أن أشعر بحلاوته ولذته) وهنا أحس بكمد وحرقة وتذكر أنه لما كان يعيش عيشته الفقيرة بمحله القديم لم يكن ثمة من يقطع عليه سلة عمله ولذته أو يقفه من شغله. ألم يكن صبيه نيكيتا يجلس كالصنم لا يتحرك ولوبقي ألف عام لقد كان يسمح لك أن تستمر في تصويره كما تشاء وتهوى بل لقد كان يغط في نومه على الهيئة التي تجلسه عليها. وهكذا طرح الفتى الفرشة وصحن الألوان على مقعد وهوساخط متبرم. ووقف أمام الصورة حنقاً مغتاظاً.
ولكن استمرار السيدة واقفة في الغرفة أيقظته من غفلته فاعتذر لها عن شرود ذهنه ثم شيعا إلى الباب وعند انصرافها وابنتها دعته إلى تناول الغداء في دارها الأسبوع التالي، فانقلب إلى غرفته فرحا مستبشراً. لقد فتنته السيدة الارسطوقراطية وابنتها إذ كان لم يزل حتى تلك الساعة يخال أمثالها من أهل هذه الطبقات أبعد منالا من الكواكب وإن الله لم يخلقهن إلا لامتطاء فاخر المركبات يشرفن منها على الصعاليك أمثاله إشرافه الكبر والخيلاء. والآن قد شاهد بعينيه إحدى العجائب بل المعجزات إذ تدلت إليه من ذلك الفلك الأعلى بعض تلك الكواكب وهبطت عليه من ذلك الملكوت الأسمى بعض تلك الملائكة فسلمتا عليه وكلمتاه وها هويرسم صورة إحداهما وقد دعتاه للغداء في قصرها الفاخر الارسطقراطي. لقد تملكه نوعا غريب من السرور وراح من فرط الطرب نشوان يترنح ولقد وكأن نفسه بأكلة شهية فوق العادة في ذلك اليوم وبجلسة في دار التمثيل ونزهة في مركبة لا داعي لها مطلقا.
وفي اليم التالي عادت السيدة الارسطوقراطية بابنتها فأجلسهما ثم نشر اللوحة بمهارة وشرع يرسم. وكان صحوالهواء وإشراق الجومما أعانه وساعده على إتقان عمله. فرأى في جلسته المليحة من عديد المحاسن ما لوأثبته في اللوحة لأكسب الصورة أنفس قيمة. ورأى أنه إذا نقل إلى اللوحة بغاية الدقة كلما عرضته الطبيعة على عينيه الآن من مظاهر الحسن والملاحة إذن لأخرج للناس ملحة بديعة وحسنة رائعة وآية ومعجزة عند ذلك وثب قلبه طربا إذ رأى أنه قد شرع يبرز على اللوحة من كامل المحاسن ما قد خفي على الأبصار ودق عن الأنظار. استحوذ العمل على جميع مشاعره ومداركه وجعل يبصر صورة الفتاة تتكون على اللوحة ويرى محاسن وجهها البديع وبشرتها الصافية الشفافة تنموتحت ريشته. ولم يفته أدنى لمحة أوظل مما اشتملت عليه صورة الفتاة حتى ولوصفرة خفيفة كانت تشوب بياضها ولا زرقة شفافة تحت الجفنين ولما هم أن يثبت على اللوحة خالا أسود كان على جبين الفتاة صاحت الأم قائلة (مهلا مهلا! لماذا ترسم هذا؟ لا حاجة بنا والله إلى ذلك. ثم خبرني عن هذه الصفرة ما أغراك بإظهارها في الصورة؟ وما هذه الزرقة تحت الجفن؟ وأي ثمرة فيها وما الفائدة منها؟
وهنا شرع المصور يبين للسيدة أن هذا تقتضيه أصول الصناعة وأن ما تستهجنه الآن من هذه الهنات الصفراء والزرقاء ستحمده فيما بعد عند كمال الرسم إذ تراه ضروريا لإظهار محاسن الصورة وأبراز ما تطوى عليه من معني الرقة والحلاوة ولكن السيدة عارضته وناقضته وكذبت أقواله. وقالت بئس والله ما حاولت أن تكدر به صفاء الصورة من هناتك الصفراء والزرقاء لقد شوهت حسنها وأذهبت رونقها. إن غرك ما رأيت اليوم على محيا ابنتي من آثار السهر والتعب فحسبت هذه الصفرة خلقة وما علمت أنه طارئ لا يلبث أن يزول فتنجاب سحابته عن أبهى لون وأصفى بشرة، ثم أمرته أن يسرع إلى محوما أثبتت يداه من تلك الجريمة.
فبدأ والحزن ملء قلبه أن يمحوذلك فسرت السيدة بذلك واستمر شارتكوف في التصوير على الطريقة المتبعة العادية الخالية من روعة الإبداع والإتقان والتخيل والافتتان المجردة من كل أثر للحذق واللوزعية والبراعة والعبقرية. فسرت السيدة بذلك. بنقطة طول ما استغرقت من الزمن. فقالت له لقد بلغها سريع اليد وأنه ربما أكمل الصورة في جلستين فكيف أنفق فيها كل هذا الوقت. ولم ينتهي منها بعد فوجم الفتى حائرا لا يدري كيف يجيبها على هذا الاعتراض ثم نهضت السيدتان وهمتا بالانصراف وألقى المصور فرشته جانبا وشيعهما إلى الباب ولبث بعد ذهابهما كئيبا مغتما ينظر إلى الصورة بمقلة ملؤها الأسف برهة طويلة.
نقول أدمن المصور كرة الطرف إلى تلك الصورة ثم تمثل لعين خياله ما كان أثبته أولا في الصورة ثم محاه من تلك الملامح الجميلة والمخايل الأنيقة والشمائل الرقيقة والمعاني الدقيقة وتلك الألوان اللطيفة والظلال الخفيفة. ولما أن شغلت ذهنه واستغرقت لبه هذه الخيالات نحى الصورة جانبا وأحضر مكانها صورة ثرية تمثل الآلهة سايكي وكان قد رسمها من قبل رسما تحضيريا أوليا. وكانت صورة وجه مليح حسن التلوين ذي ملامح منتظمة دقيقة ولكنها باردة لم تستضيء بنور الحياة. فشرع الفتى يكسو ذلك الوجه بهجة الحياة ويبعث في صفحتيه شعاع رونقها بإعارته إياه ما كان يموج في ذهنه من أشباح تلك البدائع والمحاسن والروائع والمحاسن والملاحات التي كانت أخذتها عينه من وجه الفتاة الارسطوقراطية وجمعتها ألحاظه من حديقة جمالها الناضر. وخميلة حسنها الزاهر. فلم يبقى من تلك الملامح والمخايل والمعاني والشمايل والألوان والظلال إلا ما أخذ يظهر في تلك الصورة الجديدة (صورة سايكي الأثرية) في أبهى منظر وأجمل مظهر.
كذلك دبت الروح في (سايكي) فبدأت تحيى. وأخذت أفكار المصور تتقمص صورة ظاهرة. وانتقل وجه الفتاة الأرسطوقراطية إلى (سايكي) وبقي في الصورة مع ذلك الآلهة مما جعل للصورة معنى فذا وفتنة خاصة. وانهمك شارتكوف في عمله ولبث أياما عدة مستغرق الجهد في إتقانه فلما عادت السيدتان إليه فاجأتاه عاكفاً عليه منهمكا فيه فلم يتمكن من إزاحة الصورة وإخفائها. ولما أبصرتا الصورة هللتا وكبرتا وصاحتا دهشة وعجبا. وصفقتا بأيديهن إعجابا وطربا.
وقالت الأم (ليزة انظري! ما أقرب الشبه! يا للروعة ويا للجلال! لقد والله أحسنت إذ أبزتها في حالة يونانية! هذا والله غاية الإحسان والإبداع!) فحار المصور في أمره ولم يدر كيف يصحح خطأ السيدتين ويزيل غرورهما فقال وهومطرق الرأس خجلا (هذه يا سيدتي ليست صورة ابنتك بل صورة (سايكي) فقالت السيدة وقد فتنتها الصورة ابنتي قي هيئة (سايكي) حسن بديع والله آية في الإجادة والإتقان!)
ثم تهلل وجهها وأشرق وجه الفتاة أيضاً وأشرق
واسترسلت الأم قائلة (لا تنكري يا ليزة أن هيئة (سايكي) أحب الهيئات إليك أن ترسمي فيها وحلية (سايكي) أحب الحليات إليك أن تظهر صورتك يها ما أصوب هذا الرأي وما أصح هذه الفكرة! ثم ما أبدع الرسم وما أروعه! ولكإنه والله من ريشة (كوريجيو) ذاته. وما شأنه عندي أنه ليس من صنعة (تيتان) أو (فانديك) فأنا وإن كنت قرأت عنك في الصحف وسمعت بك في المحافل لم أك أحسب أنك قد بلغت في الفن هذه الغاية ولن أدعك والله حتى تصورني أيضا).
والظاهر أن الشيخة العجوز مالت إلى أن ترسم أيضاً في هيئة (سايكي) أوشبه ذلك).
فقال المصور في نفسه (ماذا أصنع معهما؟ إذا كانتا تأبيان إلا تأويل الصورة على هذا المعنى وقد أصرتا على ذلك إصرارا فلأجعلن الأمر كما تساءان) ثم قال بصوت مسموع (تفضلي بالجلوس يا سيدتي الصغيرة كيما أصلح من الرسم ههنا وههنا).
قالت السيدة (ويحي! إني أخشى أن تصنع الآن كما صنعت من قبل. حذار من تحسيناتك وتهذيباتك!).
ولكن المصور أدرك أن السيدة تشير إلى مسألة الصفرة فطمأن قلبها من هذه الناحية وأكد لها أن كل ما يريده هومضاعفة ما في العينين من بريق ولألاء ومن فتنة وحلاوة، والحقيقة أن الفتى كان خجلاً مما قد أضطر إليه من الاعتراف بأن صورة (سايكي) هي صورة الفتاة فأراد أن يقرب الشبه بينها وبين الفتة قدر الإمكان لئلا يتهمه أحد بالتملق المجرد من الخجل المملوء بالوقاحة وقلة الحياء.
فأعمل ريشته في اللوحة وبعد برهة بدأت ملامح الفتاة المصغرة تزداد وضوحاً في الصورة.
وصاحت الأم وقد دب الرعب إلى فؤادها وخشيت أن يشتد الشبه جداً (حسبك وكفى!) فأمسك المصور مضطراً. وأخذت الأم الصورة. وأجزلت له الجزاء فأوسعته جنيهات وابتسامات وضحكات ومصافحات وتقريضات وتملقات وهلم جرا.
أحدثت الصورة ضجة في المدينة. وجعلت السيدة تعرضها على معارفها وجاراتها وزوارها فكان الجميع يفتنون بها ويعجبون بقدرة المصور الذي مع احتفاظه بالشبه ضاعف جمال الأصل. وهذه الملاحظة الأخيرة كانت مدفوعة بباعث من الحسد.
وتكاثرت عقب ذلك الأشغال على شارتكوف وتراكمت وازدحمت. وكأن أهل المدينة كلهم قد أحبوا أن يرسمهم هذا المصور النابغة فكان لا يغبه الزائرون ولا يبرحون يقرعون بابه. وبما عد هذا نافعا من بعض الوجوه إذ كان يمنحه فرصة الإطلاع على عدد جم من وجوه شتى. ولكنهم كانوا جميعا - ويا للأسف - أناسا صعاب المراس إذ لم يعدوأن كانوا إما رجلا مشغولا مستعجلا أوسيدا أرسطوقراطيا من أهل اللهووالترف والبطالة وهذا أكثر الناس شغلا وأشدهم عجلا وأقلهم لذلك صبرا. فكان الجميع بلسان واحد يطلبون أن تكون الصورة جيدة سريعة الإنجاز فرأي شارتكوف أنه من المستحيل عليه إنجاز أعماله وأنه لا بد من الاعتياض عن الإجادة والإتقان والإبداع والإحسان بالخفة والعجلة وذلك بأخذ الملامح الإجمالية وقلة بذل العناية وإضاعة المجهودات في التفاصيل الجزئية والدقائق الفنية.
أضف إلى ذلك ما ضايقه وأعياه من كثرت مطالب الزبائن ومختلف شروطهم فأما السيدات فكنا يحتمن عليه أن يتجلى الذكاء والفضيلة في صورهن. وأن تمحى كل الحروف والزوايا فتجعل مواضعها مستديرة، وأن تسوى الغضون وتملس الخشونات بل تزال البتة، وخلاصة القول أن تجعل وجوههن من فرط الجمال والحسن بحيث يبهت لها كل راء عجبا. ويستهام بها كل ناظر حبا. وكن إذا جلسن أمامه للتصوير تكلفن من النظرات وتصنعن من الهيئات وكسون وجوههن من غرائب المعاني وأعاجيب الآيات ما ملأه دهشة وعجبا. فواحدة تتكلف إظهار الحزن والكآبة وأخرى تتصنع إبداء الإطراق والتفكير وثالثة تحاول تصغير فمها مهما كلفها ذلك فهي تبالغ في ضمه وجمعه حتى يبدوأخيرا في حجم رأس الدبوس. وهن بالرغم من ذلك يكلفنه الاحتفاظ بالشبه والتزام سنن الطبيعية. ولم يكن الرجال أحسن خطة من النساء ولا أفضل سيرة. إذ كان أحدهم يطلب أن يعار وجهه جلال القياصرة. وشمم الجبابرة. وآخر يريد أن تعار عينيه نظرة الفلاسفة أولحظة الأساقفة. واقترح عليه مرة ضابط من فرقة الحرس الملوكي أن يجعل عينيه في الصورة أريكة لإله الحرب (المريخ) أوعرينة لأسد الوغى (أخيل) وجاء مرة قاض بالمحاكم فسأله أن يرقم آية العدل على جبينه وأن يضع يده في الصورة فوق كتاب مكتوب على غلافه بالقلم العريض (العدل أساس الملك).
هذه الطلبات العاجلة والاشتراطات الصعبة كانت في أول الأمر تربك المصور وتلقيه في أضيق ورطة وحيرة ولكنه بعد شيء من الدربة والمران عرف كيف يعالجها ويحتال لها حتى صار لا يحفل بها ولا يعبأ. فإذا التقى برجل من عشاق الشهرة الحربية لم يكن أسهل عليه من أن يشعل في عينيه بركانا. ويصبغ شفتيه دما أرجوانا. وإذا عبر بامرئ من عشاق العبقرية الشعرية. لم يتردد في أن يكسوأعطافه شمائل بيرونية وإذا صادف من السيدات من يطمحن إلى مشابهة نموذجات الحسن (اسبازيا) و (كورين) و (أندين) أجابهن إلى ذلك على الفور فلقى في الصورة من خزانة خياله مقدارا وافرا من الملاحات مم لا بأس فيه ولا ضير منه ويغتفر من أجله ما قد يقترفه من إفساد الشبه.
وكذلك أصبح شارتكوف مصور (الطبقات العليا) منغمسا في حومة النعيم والترف. يحضر الولائم والمآدب ويتأنق في اللباس وينادي علنا بأن المصور لا تنبغي له حياة العزلة والخلوة بل يجب عليه أن يخالط الطبقة الأرسطوقراطية احتفاظا بكرامة حرفته فليس له أن يحط من شأن الصناعة بالحط من شأن نفسه كأن يظهر أمام الناس في الهيئة البذة والثياب الرثة أويكون خشن الجانب وعر الناحية فضا غليظ الطبع.
هذا ولقد حف منزله بمظاهر الأبهة والفخامة فاتخذ الغلمان والحجاب واتخذ تلاميذ من أبناء علية القوم وجعل يغير ثيابه ويبدل زيه عشر مرات في اليوم ويكوي ضفائره ويلوي غدائره ويجمل شخصه بكل صنوف الحلي والزينة ليعجب النساء ويبهرهن. وخلاصة القول أنه قد أصبح من المستحيل على كل إنسان أن يتبين فيه ذلك المصور المتواضع الخشوع الذي كان يعمل ويكد خاملا مغمورا في حجرته الحقيرة بشارع (أوستروف).
والآن أصبح ينتقد الفن وأهله ويصدر أحكامه عليهم فكان يصرح أن الأساتذة الأقدمين كانت حظوظهم أكثر من أقداركم. وأنهم نالوا من الشهرة فوق قيمتهم وأخطارهم. وأن رفائيل نفسه لم يجد التلوين في جميع صوره. وأن تصاويره لم تنل شهرتها العظيمة إلا من طريق النقل والرواية وأن ميخائيل أنجلوكان نفاجا فخورا إذ كان خلوا من الرقة والحلاوة. وأن من أراد البهجة والرونق ودقة الشكل والتلوين فليطلبها في تصاوير العصريين أهل الجبل الحاضر. وفي هذا أشارة وتلميح بالبداهة إلى نفسه. وكان يقول أيضاً في موضوع السرعة - التي أصبح هومن طليعة المبرزين فيها - ما أكثر عجبي من المصور الذي يكد نفسه ويجهدها ويحملها في التصوير عنتا ونصبا وينفق الجم الكثير من مجهوده وزمنه.
مثل هذا وربك لا يكون إلا دعيا ضعيفا. عاجزا متخلفة سخيفا. وما هومن الفن في شيء ولا أراه قد أوتي أدنى شيء من العبقرية. وأين هوـ لادردره من العبقرية. تلك والله حليفة السرعة قرينة الجرأة والعجلة. العبقرية تتدفق تدفقا وتندفع اندفاعا. هاك صورة من صنعي أكملتها في يومين وهذا لوجه أتممته في بضع ساعات وهذا في ساعة أونحوها. وليس الفن في مذهبي إضافة نقطة إلى نقطة وجمع خط إلى خط. ليس هذا بفن المصورين ولكنها (مهنة المبيضين والنقاشين) على هذا النحوكان يخطب في زواره ووافدوا داره. وكان هؤلاء يعجبون بسرعة يده وجرأتها ويصيحون (يا للحذق ويا للبراعة؟ هكذا هكذا النبوغ هكذا فلتكن العبقرية! انظروا كيف يتحدث؟ انظروا كيف من فمه تفيض الحكمة وكيف في عينه يتألق بريق الذكاء والألمعية. حقا إنا لنبصر في وجهه معنى غريبا خارقا).
لقد سر المصور أن يسمع عن نفسه أمثال هذا الكلم. وكان إذا نشرت الجرائد عنه تقريظا أبدى فرحة الصغار. بالطبل والمزمار. وإن كان هونفسه الذي اشترى ذلك التقريظ بالدرهم والدينار. وكان يقص من أوراق تلك الجرائد القطعة المسطرة بتقاريظه فيحملها في جيبه أينما حل وارتحل فيحتال لعرضها على أبصار خلاته وأخدانه كما لوكان ذلك قد جاء صدفة واتفاقا.
وازدادت شهرة شارتكوف وتكاثرت عليه الطلبات والأعمال فاشتد ملله من تشابهها وتمثله وكان قد كاد يحفظ أشكالها عن ظهر قلبه. فكان يرسم الآن زبائنه بلا أدنى جهد ولا مشقة فيضع على اللوحة الخطوط والتعاريج الأولية ويلقي بها إلى تلاميذه ليكملوها. وكان ما يعرض عليه الآن من وجوه موظفي الحكومة والضباط ورجال السياسة ليس فيها مجالا فسيحا لريشته فنالها الوهن والعجز وكلال الحد وفقدت الحذق والمهارة والبراعة وأصبحت عاجزة عن تصوير الأشكال الرائعة وإبراز العواطف الشديدة والشهوات العنيفة وكذلك فقد لذة تصوير المناظر التمثيلية وعلاقاتها الفنية الرائعة. ولم يبق أمامه سوى الملابس الرسمية والأزياء العسكرية التي تنطفئ إزاءها جذوة الفن في صدر المصور وتبريد حرارته ويفر الخيال منها فرارا. وكذلك انعدمت منها كل مزية فنية من صوره حتى مزاياه الخاصة الشخصية وإن بقي لتلك الصور رواجها وشهرتها لدى أهل المدينة جميعا اللهم ما عدا ذوي الخبرة والدراية فهؤلاء كانوا إذا عرضت عليهم أحدث مصنوعات شارتكوف هزوا أكتافهم تسخطا واشمئزازا أما من كان قد عرف المصور في عهد صباه فهذا كان يحار في أمره ويعجب
أين ذهبت تلك العبقرية التي كانت تبدوشواهدها وتظهر مخايلها في عنفوان شبابه وأول أمره وكيف يتفق أن يطفأ لهيب العبقرية في الرجل عندما يبلغ أشده وتستتم فحولته.
ولكن شارتكوف السادر في غوايته، الممعن في ضلالته الثمل من خمرة زهوه وخيلائه المخال في بردة كبره وغلوائه كان في غفلة عن الحق الأبلج الصراح أصم عن كل عايب وقداح فبلغ في غروره سن الكهولة والحكمة والنهي والوقار وأصبح شديد الكدنة حاظي البضع شحيما لحيما، وكان لا يزال يقرأ في الجرائد نابغتنا العظيم أندريه شارتكوف فخر بلادنا وبديع زماننا أندريه شارتكوف وأصبح يعرض عليه المناصب العالية في جامعات الحكومة وتندل عليه الدعوات لرئاسة الامتحانات واللجان وأخذ في هذا الدور ينادي بعكس آرائه الأولى في قدماء المصورين فبدل أن كان يمتقص منهم جعل الآن يزكيهم ويقرظهم لا عن تمام اقتناع وعقيدة بل ليحط بذلك من أقدار الناشئين من مصوري العصر ويغض من أبصارهم ويكسر من شوكاتهم امتقاصا منهم وازدراء بهم.
وأخيرا دنت حياته من السن التي يضمحل فيها كل بواعث الهمة والمضاء والحدة والتي فيها يضعف سلطان الحسن على الفؤاد فلا تشمل فتنه حميا الشباب ضراما ولا يؤجج سحره فتوة الصبا صبوة وغراما. والتي تصبح فيه بقايا الشهوات الخامدة لا تتأثر بشيء ولا تتحرك لشيء سوى موسيقى الذهب الرنان ورخيم جرسه الفتان. ولما كانت الشهرة لا يمكن أن تكون مصدر لذة وسرور الذي نغتصبها اغتصابا ويستلبها استلابا بلا حق ولا جدارة لذلك اتجهت عواطف الرجل وأمياله إلى المال فأصبح الذهب بغيته وشهوته وأمنيته ومقصوده ومعبوده ومصدر آماله وآلامه وأفراحه وأتراحه فتكاثرت بدرات النقود وصرر البنكنوت في خزائنه، وأصبح كجميع من يبتليهم الله بتلك النعمة الفظيعة مجردا من كل إحساس وعاطفة إلا حب الذهب ولكن في هذه النقطة من تاريخه وسيرته حدث حادث كدر صفاء عيشته وقلب نظام حياته.
في ذات يوم وجد شارتكوف على مائدة رقعة من (المجمع التصويري) يسأله فيها المجمع باعتباره عضوا فاضلا من أعضائه أن يحضر ليبدي رأيه بشأن صورة أرسلها من إيطالية مصور روسي يقطن تلك البلاد إتقانا للفن واستيفاء لقواعده وأصوله. وهذا المصور قد كان أحد زملاء شارتكوف في عهد الحداثة والصبا ومازال مولعا بالفن منذ نعومة أظفاره وقد انقطع إليه طول عمره ووهب في سبيله النفس والنفيس واحتمل من أجله هجرة الأوطان.
وفرقة الأهل والإخوان وأسرع إلى مدينة روما - تلك التي يثب فؤاد عاشق الفن طربا لدى ذكر اسمها.