مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/الموت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 50/الموت

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1919



مخافة الموت غريزة بشرية أحسن دواء لها أن يذكر الإنسان أن للحياة بداية كما أن لها نهاية، فلقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاًَ مذكوراً، ومع ذلك فإن هذا لم يضره ولم يعنه ولم يأبه له ولم يكترث، فلماذا يعني ويهتم ويتأفف من أنه سيجيء عليه حين من الدهر لا يكون شيئاً مذكوراً. إنه ليس بودي إن كنت حياً أرزق منذ مائتي عام أو أثناء عهد الملكة اليصابات. فلماذا يسؤوني ويؤلمني أني لن أكون على قيد الحياة بعد مائتي عام - في عهد لا أدري من!.

ليس الموت إلا عودة إلى الحالة التي كنا عليها قبل مولدنا التي لا نستطيع اعتبارها إلا فرجة لنا وخلاصة للنفس وإطراحاً لأعباء همومها، فلقد كانت هذه الحالة عيداً لنا وكنا بخير لم ندع إلى الظهور على مسرح الحياة للبس الحلل الزاهية أو الأطمار البالية - للضحك أو للبكاء - لاستحسان الجماهير حركاتنا وأعمالنا أو لاستهجانهم إيانا.

ولكنا كنا راقدين في زوايا الفقدان وكهوف العدم بمعزل عن الأذى، وقد نمنا ملايين القرون لا نريد أن نستيقظ آمنين مطمئنين خالين من الهم والأسى مدة ذلك العدم الطويل في نومة أهدأ وأعمق من نومة الطفولة ملفوفين في رداء من أنعم التراب وألينه. ومع ذلك ترانا نظل وأخوف مخاوفنا أن نعود إلى هذه الحالة - إلى الراحة النهائية إلى دار الخلاص من الأحزان والمصائب بعد حياة تعسة شقية كلها كرب وضيق آمال كاذبة ومخاوف باطلة.

ليس في فكرة حياة سابقة لميلادنا من عوامل التشويق والترغيب مثل الذي يشعر به المرء نحو حياة مستقبلة تجيء بعد حلول الأجل. فلقد يسرنا أنا بدأنا الحياة حين بدأناها ولا يسوؤنا أننا لم نبدأها قبل ذلك فحسبنا ما عانينا وكابدنا وما كافحنا وجاهدنا مدة عمرنا القصير. فلا ضير علينا أنا لم نشهد حرب طروادة ولم نبصر مصرع هكتور وآخيل ولم نر اليونان تدحر الفرس في ثرموبولي. فحسبنا أن نقرأ أنباء ذلك في الكتب والأسفار ونقف ننظر إلى البحر الهائل الذي يفصل ما بيننا وبينها. تلك العصور كانت في بكرة الدهر وطفولة الدنيا إذ كان العالم لم تمهد به أسباب الراحة والرخاء بعد فإن تكن الحياة إذ ذاك فأخذنا العدد لقطع مراحل العيش فنحن لا نرى خساراً علينا في فقدنا الستة الآلاف الأعوام التي سلفت قبل ظهورنا. ولا نشعر نحو ذلك بأدنى اهتمام أو اكتراث. ولا نتوجع ونتفجع لأنا لم نر كرنفال الحياة الأكبر يسير أمامنا موكبه العظيم الهائل طول تلك المدة وإن كان يحزننا أننا سنجبر على ترك موقفنا قبل مرور سائر الموكب.

وقد يقال في تعليل ذلك الفرق أن قد نعلم من الأخبار المنقولة والروايات المأثورة ما جرة في عهد الملكة اليصابات بل في عهد دارا واسكندر بل في عهد الآشوريين والفينيقين. ولكن لا سبيل لنا إلى معرفة ما سيحدث في المستقبل إلا انتظارنا الحوادث وتوقعنا الوقائع. وعلى قدر جهلنا بالغيب واحتجابه عن ظنوننا وأوهامنا يكون فرط تطلعنا إليه وتشوفنا نحوه. ولكن هذا التعليل خطأ محض لأنه لو كان حقيقة لكنا لا نزال نتطلع إلى عمل سياحة في أراضي جرينلندة أو رحلة إلى القمر ونحن لا نرغب البتة في هذا ولا ذاك كذلك لا رغبة لنا البتة في الإفضاء إلى غيوب المستقبل والاطلاع على أسراره إلا أن نجعل ذلك علة إلى استطالة أعمارنا. فنحن لا يهمنا أن نكون أحياء بعد مائة أو ألف عام إلا كما يهمنا أن نكون قد عشنا قبل ميلادنا بمثل هذه المدة ولكن الحقيقة والواقع هو أن كل إنسان يود لو أن الساعة الحاضرة تصبح أبدية سرمدية أجل كلنا يود أن يبقى كما هو وأن الدنيا تبقى كما هي لتمده بأسباب النعيم واللذة.

كلنا يود أن يحرز اللذة الحالية ويستبقها ويستديمها إلى نهايتها القصوى ويكره جداً أن يراها تسلب منه وتنتزع فيبقى مكانها خالياً ثم يعوض بها بدلاً فديدنه في ذلك قول القائل:

خذ زمانك ما أعطاك مغتنماً ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره

فالعمر كالكاس تستحلى أوائله ... لكنما ربما مجت أواخره

إن الحزن والكمد واللوعة والحرقة هي في ألم الفراق وفي مضاضة الاستلاب والانتزاع وفقد المألوف والمحبوب وترك الأوطار والأماني غير مقضية والآمال والأماني غير محققة ينتج من ذلك أن حب الحياة هو علاقة وألفة وليس بغريزة مستقلة. فمجرد الكينونة لا يفي بحاجة الإنسان الفطرية ولا يشفي رغبته الطبيعية. وإنما الذي فيه قضاء لحاجته وشفاء لرغبته هو الكينونة في مكان وزمان وظروف خاصة بعينها. فنحن نؤثر الوجود في هذا الآن - في هذه الجزيرة، من بحر الحياة على أن نختار أي حين مستقبل أو نقتطع سلخة من الوقت قدرها ستون عاماً من الأبد.

فهذا دليل على أن تشبثنا بالحياة ليس متوقفاً على مجرد الوجود أو الوجود بحالة طيبة - ولكنا ميالون بالفطرة أشد الميل إلى البقاء على ما نحن فيه من الظروف والأحوال كما هي. فالجبلى لا يترك صخرته. ولا الهمجي عشته، كما أنا لا نحب أن نتخلى عما نخن فيه من منهج العيش الخصيص بنا بكل ما فيه من آفات ومزايا ومحاسن ومساويء ولو أعطينا بدله أي عيشة أخرى مهما كانت، وما أحسب أن في الدنيا إنساناً يرضى أن يتبادل العيش والحياة مع آخر مهما بلغت عيشة هذا الثاني من النعيم والرغد والسعادة فلأسهل علينا أن لا نكون مطلقاً من أن نكون غير أنفسنا. إني أعرف أناساً يبلغ من بسطة أرواحهن وفرط تطاولها أنهم يودون لو يعيشون ثلاثمائة عام ليروا إلى أي ذروة من النفوذ والقوة تصل أمريكا هلال هذه المدة. فهذه غاية وراء أقصى مطامح. ومع ذلك لا أنكر أني أود البقاء إلى أن أرى دولة البوربون تنهار فتنهدم وتضمحل فتنعدم. وكلما عجل إليها انقضاء ذلك كان أشهى إلى قلبي وأندى على كبدي.

من شيمة الفتيان والشباب أنهم لا يذكرون الفناء ولا يهجس ببالهم أنهم سيموتون مطلقاً قد يتصور أحدهم أن غيره من الناس يموت وقد يوافق على المذهب القائل بأن:

كل حي لاق الحمام فمودي ... ما لحي مؤمل من خلود

باعتباره نظرة معنوية ولكن يصعب عليه جداً أن يطبق هذه النظرية على نفسه. وذلك أن ميعة الشباب وحدته ونشاطه وشرته وجيشان مرجل الصبا في جوفه وغليانه. واحتدام تنوره وفورانه - كل ذلك مناقض لفكرة الهرم والموت فهو ينفر بالفتى عن هذه الفكرة ويشرد.

فإذا استرسل به الفكر برهة في وادي التأملات والتصورات فعرضت له فكرة الموت بدا له الشبح المخوف على مسافة كأقصى ما ينصوره الذهن تنحسر دون غايتها الأوهام، ثم ما أبعد الخلاف وما أشد التناقض بين بطء قدوم هذا الشبح الغامض المبهم وتراخي مسيره وثقل حركته وبين ساعتنا الحاضرة من اللهو والطرب والمراح وأحلام المنى وفرحة الأمل! فنحن نرقب أقصى حافة الأفق وأنأى مرمى الحدق ثم نقول في أنفسنا أي مسافة مترامية الأنحاء متنراخية الأرجاء لا بد من طيها قبل أن تبلغ غاية سفرنا البعيد ونلقي عصا التساير على ساحل الحياة. هذا ما نقوله لأنفسنا ونحدث به ضمائرنا وبينا نحن كذلك إذا بالضباب تحت أقدامنا من حيث لا نشعر ولا نتوقع وإذا بظلمات الهرم تلفنا وتغشانا. ماذا جرى؟ لقد اختلط شطرا العمر إحداهما بالآخر وامتزجا وتداخلا واندمجا وإذا بالطرفين الأقصيين قد تلاقيا ولم نستمتع بتلك الفترة اللذيذة التي كانت تتراءى بينهما لعين خيالنا والتي كنا نعول عليها ونعتمد وبدل الذي كنا ننتظره من خريف الكهولة وحدائقه الحواء وأوراقه الصفراء وأزاهيره اللمياء وأصائله الذهبية وشمسه المدنفة العليلة التي آذنت بالمغيب وقد نفضت على الأفق الغربي ورساً مزعزعاً:

ولاحظت النوار وهي مريضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا

وظلت عيون النور تخضل بالندى ... كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا3

يلاحظها صوراً إليها روانيا ... ويلحظن ألحاظاً من الشجو خشعا

كما لاحظت عواده عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا

وبدلاً من ظلال عشيات هذا الخريق المنتظر المملوءة بأصداء الشباب الراحل وهمسات الأبدية القادمة الممسكة الأرجاء المعطرة الجوانب بما لا يزال يعبق بأردانها من نفحات لذات الصبا الدابر والنعيم الغابر وما لا يزال يهب عليها من عوالم الذكرى من شذا عهد الشباب وعصر اللهو والبطالة - بدلاً من ذلك كله لا نبصر إلا ضباباً بارداً ثلجياً يلف كل شيء ويغشى جميع الكون بعد انقضاء الشباب وذهاب روحه. وحينذاك نظل بحالة إذا نظرنا أمامنا وجدنا قفراً خراباً وأسوأ من ذلك أنا إذا التفتنا وراءنا وجدنا تلك المناعم والمطارب التي كان يكسوها الصبا بهجة ورونقاً وتلوح لعين الشباب بديعة رائعة جميلة قد عادت في عين الشيخوخة غثة تافهة حقيرة وعلى ذلك أن ملاذ حياتنا قد بليت ورثت وذهبت في فيافي الزمن أو لعلها قد حولت نحونا جوانبها المقفرة ونواحيها الجدبة الموحشة. أو لعل ما كابدناه من ضرباتها المتولية وصدماتها المتواترة قد أوهنتنا. ونهكتنا وأبلتنا فلم تترك بنا رغبة أو ارتياحاً لملاقاتها بعين الذكرى. ولا غرو فأي لذة في استثارة الأدواء الكمينة ونبش الأوجاع الدفينة فمن ثم ترانا لا نريد أن نجدد شبابنا كما تتجدد للظى السعير جلود أهل جهنم فحسبنا ما جرى وكفانا. فدع الشجرة الساقطة لات تقمها. وأغلق الكتاب واختم الحساب لا تفتحه ولا تفض ختامه آخر الأبد.

وقد شبه بعض الشعراء الحياة باستكشاف طريق كلما تقدمنا به ازداد ضيقاً وظلمة ولم يترك لنا مجالاً للرجوع فيه من حيث أتيناه، وفي نهايته نختنق لانبهار النفس على أني شخصياً لا أشتكي كثافة الجو كلما دنوت من النهاية ولكني أشتكي قلة الأنيس وفقد العماد والمستند. فياويلتا إني أمد يدي أبتغي ما أركن غليه وأتشبث به فلا أجد، بل أراني في عالم من المعنويات، أرى خريطة الحياة تنشر عارية خالية أمامي وأرى شبح الموت يتمشى في القفر الخراب لاستقبالي لقد كنت لا أبصر ذلك الشبح في صباي لتزاحم أفواج المرئيات والعواطف على قلبي وبصري ولاعتراض شخص الأمل بيني وبين الشبح المخوف يقول لي (لا تكترث لذلك الشيخ الهرم ولا تحفل) أما وربك لو كنت عشت عيشة سعيدة رغداً لما حفلت بالموت ولا باليت. ولكن كيف لا أحفل بالممات ولا أبالي وما قضيت من عيشتي وطراً ولا بلغت أملاً. لقد خانتني الآمال الكذابة وخدعتني الأماني الخلابة ثم راحت وهي تسخر مني وتهزأ وإني ليعز علي أن أترك الحياة ولم أر الإنسانية تظفر بأقل ما كنت أرجو لها في صباي من الأوطار والمآرب، أو ترقى إلى أدنى ما كنت أبغي لها من منازل السمو ومراتب الكمال كما أني لا يسرني أن أموت ولم أترك ورائي مؤلفاً جليلاً أو مصنفاً سامياً نبيلاً. وبودي فوق ذلك أن ألقي لدى فراش الردى إذا جاءت سكرة الموت وأخذ الحمام بالكظم صديقاً صدوقاً ورفيقاً رفيقاً يشيع جنازتي ويحثو تراب حفرتي. فبهذه الشروط ألقى الحمام مستسلماً إن لم أكن مرتاحاً وأكتب على قبر (شاكرٌ راضٍ) ولكني قد قتلت نفسي تفكيراً وتأملاً فيعز علي أن يذهب كل هذا التفكير والتأمل ضياعاً. وإني إذا استدبرت ماضي خيل إلي كأنما قضيت عمري نائماً في حلم علىسفح جبل العلوم حيث جعلت أتغذى بالكتب والأسفار والآراء والأفكار لا يصل مسمعي من ضجة العالم وجلبة الإنسانية المحتشدة في الحضيض إلا صدى أقدامهم ودوي ضوضائهم فلما انتبهت من هذه الحالة المبهمة (الشفقية) بضجة موكب الإنسانية السائر تحت قدمي آنست رغبة في النزول إلى عالم الحقائق للدخول في حلبة ذاك السباق، ولكني أخشى أن يكون وقت ذلك قد فات وأنه أولى لي أن أعود إلى خيالاتي الكتيبة وأحلامي المدرسية. وما لي ولأهل هذا العالم لست منهم ولا هم مني وما كنت لأروعهم بغرابة منظري وشذوذ فكري وإني كأصحاب الكهف لو طلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.

ليس عجيباً أن ادكار الموت وتأمل معناه يصبح أكتر تردداً على خواطرنا كلما ازددنا منه دنواً وإن عباب الحياة يزداد جزراً وانكشافاً كلما برد في عروقنا دم الشباب وجف فيه معينه. وأنه كلما أبصرنا جمع ما يكتنفنا ويحيط بنا من الكائنات عرضة للطوارئ والظروف والصدف وصروف الزمان وتقلبات الحدثان، وكلما رأينا قوانا تخور ومحاسننا تزول وآمالنا تبيد وشهواتنا تموت وخلاننا تدرج فتقبر - كلما رأينا ذلك دبت إلينا تدريجياً فكرة الفناء وبدأنا نشعر أننا هالكون.

في الذاهبين الأول ... ين من القرون لنا بصائر

لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر

أرى الناس يضيفون إلى مخافتهم الطبيعية من الموت نوعاً من الألم لا لزوم له ولا ضرورة - وأعني بذلك ما يظهرون من التوجع للفجيعة التي ستصيب أهلهم وأقاربهم لفقدهم إياهم. فلو كان الأمر مقصوراً على هذا فجدير بنا أن نريح أنفسنا من هذه الوجهة فإن مصاب أهلنا لموتنا أخف وأهون مما نتصور ولقد رأيت أن ما يكتب عادة على قبر الميت من أمثال هذه العبارة (تعزوا ولا تحزنوا علي يا أولادي الأعزاء ويا زوجتي الحبيبة) يعمل به دائماً وذلك أننا لا نترك بموتنا في المجتمع ذلك الفراغ الهائل الذي تخيله إلينا أنانيتنا تعظيماً لأنفسنا الضئيلة وتعزية لها بما توهمنا من اهتمام الغير بنا واكتراثهم لنا. أجل إن الفراغ الذي نتركه حتى في أسرتنا ليس من العظمة كما نحسب. فلقد رأيت الثلمة تسد والجرح يندمل في أقرب مما نتوهم.

سيعرض عن ذكري وتنسى مودي ... ويحدث بعدي للخليل خليل

بل أعجب من ذلك أن الفراغ الذي نتركه ربما عدا أحياناً في نظر الأسرة أفضل وأنفع من وجودنا وما أحكم ما قال الشافعي في هذا المعنى:

ستألف فقدان الذي قد فقدته ... كإلفك وجدان الذي أنت واجد

ألم تر إلى الناس كيف يظلون رائحين في الطرقات والشوارع في غد يوم وفاتنا كما كانوا يفعلون في أمسه والمجتمع بحاله وعلى عهده لا يرى فيه أدنى نقص ولا يحس. لقد كنا ونحن أحياء نحسب أن الدنيا لم تخلق إلا لنا، وأن الأرض لم تأخذ زينتها وزخرفها إلا لتقر أعيننا، وتشرح صدورنا، والسماء لم ترصع بسبائك اللجين ولم تزين بمصابيح الفلك إلا لتبهج نفوسنا وتنير سبلنا. وإن كل ما في الكون وكل ما تقل الغبراء وتظل الخضراء لم يوجد إلا لمنفعتنا ولذتنا فما بال العالم كعهده وعلى حاله بعد ما سكت نبضنا وعدنا جثة هامدة وجمرة خامدة لقد زلنا وما زالت من النجم لمعته ولا من الروض نضرته.

أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف

إن الطبيعة لا تحزن وكذلك الجماهير الجماعات لا رحمة عندها ولا حنان ولا رثاء. وأنها لا تأبه لي ولا لك كما لو كنا من سكان المريخ أو أهل القمر. وليس عجيباً نسيان العالم إيانا عقب مغادرتنا مسرح الحياة لأنهم لم يكادوا يشعروا بنا ونحن فوقه وليس الأمر مقصوراً على أن أسماءنا لا تعرف في بلاد الصين بل الحقيقة أنه لم يسمع بها في الشارع المجاور لنا ولا في الزقاق المصاقب. فإذا كانت هذه منزلتنا لدى المجتمع الإنساني ونحن أحياء فماذا عسى تكون منزلتنا عنده ونحن عظام نخرة ورمة بالية. وما كان (لحفنة من التراب) أن تثور في وجه العامل لأنه لا يأبه لها، أو تشاحن الملأ وتقاتله لأنه لا يشعر لوجودها. ولو أن لها لساناً ينطق لقالت (أيتها الدنيا اذهبي لشأنك! دوري دورتك في الأثير الأزرق وتشكلي لكل عصر شكلاً وتلوني لكل جيل لوناً - فلن يكون بيني وبينك اتصال أو احتكاك البتة).

إن ما يبديه الناس من هذا التشبث الصبياني بالحياة من حيث هي فكرة ومعنى إنما هو نتيجة هذه المدنية الحديثة المصطنعة، فلقد كان الناس في القديم يغشون ساحات الحروب ويغامسون القحم والأهوال والمهالك ويخاطرون بالأرواح لأدنى سبب وأتفه عله ويلقون بأنفسهم في المتالف من أجل غرض فذ أو بغية واحدة فإذا لم يظفروا بها عادت الحياة وهي عبء فادح عليهم ونكبة ومصيبة لا تطاق ولا تحتمل. أما الآن فقد تغيرت الحال. وأصبح جل همنا من الحياة وأقصى بغيتنا من العيش هو التفكير والتأمل، وعاد أهم ملاهينا وشهواتنا هو قراءة الروايات والأشعار والقصص الجديدة - وهذا ما نستطيع إتيانه على مهل وفي هينة وتحت ظلال الأمن والسلام والطمأنينة.

ونحن إذا نظرنا في قديم التواريخ والقصص قبل أن يؤثر الأدب الحديث تأثيره في شؤون البشر وأحوالهم بإدخال روح الفتور والبلادة عليها - رأينا أن الأبطال والبطلات كانوا يرتقبون الفرص للمخاطرة بأرواحهم بغير باعث سوى مجرد احتدام نار الحمية والحماس في قلوبهم. وما يجيش بنفوسهم من حميا الفتوة وغلواء البأس والمراح والهمة. لقد كان أولئك الأبطال يتمادون في ولوعهم بأمر ما ويلجون في شغفهم بوطر من الأوطار حتى يبلغوا بهذا الولوع والشغف أقصى درجات الجنون فيبذلون في سبيل إدراكه كل غال ونفيس من مال وروح إذ يرون كل ما عداه بخساً خسيساً بل حثالة ونفاية. فهم يتهافتون على سرير الموت كأنه سرير العرس. ويضحون بلا أدنى تأسف ولا تندم أنفسهم وغيرهم على منسك (مذبح) الغرام أو الشرف أو العقيدة أو غير ذلك مما يكون قد تملك قلوبهم من الوجدانات والعواطف. ألم تر إلى روميو كيف قذف (بزورقه المتعب المنهوك) على صخرة الموت لما رأى أنه قد فقد معشوقته جولييت وكيف طوقته هي بذراعيها في سكرة الموت وتبعته إلى ساحل الفناء. لقد كانت الفكرة تستولي على نفس الرجل فتستبد بها وتطرد كل ما عداها - ثم تصبح الحياة - بدون تحقيق تلك الفكرة - شيئاً تافهاً غثاً بل بغيضاً كريهاً. ورأيي أن مثل هذه الحياة أشرف وأجل من حياتنا لأن فيها من قوة الخيال وحدة الشعور والإحساس وصرامة العزيمة وشدة الجرأة على المخاطر والأهوال ما لا نظير له في حياتنا الموصومة بالجبن والحذر والنكوص والنكول والفتور والتراخي وحب البقاء من أجل ذاته الحقيرة الخسيسة القليلة القيمة. وإنه لخير لنا وأكثر بطولة أن نرمي إلى غرض جميل أو جليل فإذا أخطأنا المرمى وبؤنا بالفشل والخيبة تحملنا تبعة مخاطرتنا بجلد وقوة ورجولة - من أن نجدد عقد إيجارنا لحياة متعبة مضجرة مسئومة مملولة خالية من المتاع واللذة ومن السحر والفتنة قد يجوز أن نخسرها بعد ذلك في مشاجرة مرذولة من جراء غرض خسيس عديم القيمة، أفلا ترى فيما وصفناه من الاستخفاف بالموت والجرأة على مهاجمة شيئاً من روح التضحية والاستشهاد ونوعاً من سطوة التوحش وعرام الهمجية المعجبة الرائعة؟ ألم يكن للدين دخل في ذلك؟ - وما بالك بتلك العقيدة الخالصة التي تملأ المرء يقيناً بحياة آخرة تتضاءل إزاءها الحياة الدنيا حتى ترى المجاهد أو العاشق أو الفارس يهون عليه أن يخلع هذا الرداء الترابي ويلقي بروحه العارية في أحضان الأبدية وهذا ما يحجم عنه الفيلسوف العصري شكاً وريبة. وجبناً ورهبة مع كل ما يفخر به من حكمته ولبه وقضاياه المنطقية ونظرياته الفلسفية - أسلحة عاجزة يصبح بفضها أضعف قلباً وأوهن ركناً من المرأة. وخلاصة القول أن أحسن دواء لمخافة الموت هو أن يقدر الإنسان حياته حق قدرها. فإذا كان جل همه من البقاء هو التمادي والاسترسال في أهوائه المتقلبة الطائشة الجائرة وشهواته القذرة الأليمة المضادة فأولى له أن يمضي على عجل وإذا كان حبه الحياة لما ينشد من خيرها ويرجوا من نفعها فلن يجد في فراقها شديد عناء ولا كبير ألم.

وليم هازلت

إلف هذا الهواءِ في الأنف ... س أن الحِمامَ مُرُّ المذاق

والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق

المتنبي