مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/روح الإسلام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/روح الإسلام

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1919



الفصل الثاني

أصول هذا الدين الحنيف وآدابه

لكي يكون لهذا الدين روح ثابتة محفوظة باقية وضع محمد لمبادئه وتعاليمه بضعة أركان وفرائض أهمها ما يأتي (1) الصلاة، (2) الصيام. (3) الزكاة ورابعتها الحج.

إن إيمان الإنسان بالقوة العالية التي تحيط بكل شيء وعجزه في معركة الكون وتقديره بركة الله ورحمته، كل أولئك تجعله يصب مشاعر نفسه والإحساس المستفيض في حبة قلبه. من ألفاظ وكلم من الشكر والقنوت والحب أو الندامة والإنابة والضراعة والابتهال لربه الرحمن الرحيم وليست الصلاة إلا لغة العواطف التي تملأ شغاف القلب الإنساني على أن هذه العواطف لا تزال ترجع إلى تهذيب عظيم. فإن المتوحش الهمجي إذا لم يجد مجيباً لضراعته، محققاً لابتهالاته لا يلبث أن يعمد إلى تأديب معبوده والانتقام من الرب الذي اتخذه لنفسه وضربه بالسياط. ولكن كل نظام ديني وعقيدة منظمة مهذبة لا تزال تعترف بفضل الصلوات. وإن كان يغلب على الكثير منها روح الخرافة والشعوذة ويضعف فيها المظهر الروحاني الخلقي، ثم تجد بعض الأديان خلواً من العنصر الروحاني بتة.

فقد كان المجوس والصابئة يعيشون متوفرين على الصلوات مخلدين إلى العبادات وكان المجوسي يصلي ويدعو الله إذا عطس وإذا قلم أظافره أو قص شعر رأسه أو هيأ الخوان. أو أعد مائدة الطعام ليل نهار. وعند إشعال المصباح أو المشكاة ولئن كانت الفكرة الروحانية تجري في قلوب القليلين منهم. فلم يكن لها أثر ما في أذهان العامة وسواد القوم. وقد كان للمجوس صيغتان من العبادة صيغة مقصورة على الطبقات الكبيرة من رجال الدين وأخرى لا يشترك فيها إلا العوام وحثالة الناس.

ولم تشتمل الشريعة الموسوية على قوانين خاصة بالصلاة، ولم تنص إلا على أنه عند دفع العشور للقساوسة وتقديم المواليد والأطفال الصغار إلى البركة تؤدى صيغة من صيغ الصلوات إذ كان الوالد أو رب العشيرة يسأل يهوذا أو إسرائيل البركة. ولكن بفضل نشر فكرة أكثر روحانية عن الله بين اليهود وأقطابهم وأساتذتهم لم يلبث اليهود أن أدركوا المعنى الجوهري للصلاة من أنها نجوى بين الله والناس، وكان من فضل الزمن والطق والعادات عند خلو الدين الموسوي من قانون معين واضح عن شرائط الصلاة وأركانها أ، اليهود أصبحوا شعباً يحتفظ بتأدية الصلوات، وإذ ذاك ضربت مواقيت للعبادة، وعينت ساعات، وهي ثلاث في اليوم، في التاسعة والثانية عشر والثالثة. على أ، الاحتياج إلى عون القساوسة والكهنة والافتقار إلى نموذج انحدر من صاحب الشريعة نفسه وصيغة أخذت عنه ذاته، لم يلبثا أن جعلا من الصلاة عند السواد لأعظم من اليهود عملاً آلياً لا أكثر ولا أقل.

أما تعاليم المسيح وهي الخطوة الثانية التي خطتها الإنسانية إلى تهذيب الروح الدينية في الإنسان فقد احتوت الروح والجوهر والمعنى الحقيقي للصلاة. وقد جعلها صاحب الشريعة المسيحية فريضة عملية. بأن وضع هو بنفسه لها النموذج ونصب نفسه لها القدوة. وجاء هو بالصيغة. وقد احتذى حواريوه الأولون حذوه فألقوا الأهمية الكبرى حول وجوب عبادة الله وشكرانه ولكن الحاجة إلى قاعدة متينة تسترشد بها الجماهير على مدة الزمن ومر الأجيال وكر الدهور تركت المسيحيين بلا هاد يضيء لهم السبيل إلى الصلاة الصحيحة وجعلتهم خاضعين للقساوسة إذ احتكر هؤلاء الحق في تحديد العدد والمدة والنصوص الواجبة للصلوات ومن هذا نشأت الطقوس الكثيرة والمجالس والمجامع التي تنعقد لحل شؤون الدين. والنظر في اعترافات الضمائر والوجدانات. ومن هنا نشأت عبادة الرهبنة الكسلى البليدة واحتشاد الجموع العظيمة من أهل المسيحية في الكنائس في يوم واحد من أيام الأسبوع لسد العجز الذي حصل لهم من طعام الأرواح في الستة الأيام الباقية. ومن هنا صار القسيس الذي كان معناه في الأصل (الخادم للدين) بمثابة وارث الإمارة الدينية عن المسيح.

وقد انتهت جميع هذه المناقص والضلات إلى الحد البعيد وبلغت أقصاها في القرن السابع من الميلاد إذ ظهر محمد النبي العربي فبدأ ينادي العالم إلى سنة منقحة مهذبة من الأديان فلما سن للصلاة سنناً وقواعد. أدرك نزوع الروح الإنسانية إلى صب حبها لله وشكرها للخالق في عبارات وكلم فجعل تأدية هذه الفريضة على مواقيت محدودة وبذلك وضع النظام لها للمحافظة عليها وحمايتها من الزيغ. ومنع الأفكار من أن تضل فتهيم في وادي المادة والمحسوس.

ودق كتب كاتب من كتاب الإنكليز عن الصلاة والعبادة في الإسلام فقال من أكبر مفاخر الإسلام أن معابده لا تقوم ولا تشاد بالأيدي وأن فرائضه وشعائره يصح أن تؤدى في أي مكان من أرض الله أو تحت سمائه كذلك تعلم أن أي مكان يعبد فيه الله بإخلاص وإيمان طاهر مقدس. وأن المسلم إذا كان في داره أو خارج داره وآذنت الساعة بالصلاة لا يني يصب مشاعر نفسه في خطاب موجز رهيب موجه لله عز وجل.

ولا يتعب المسلم الإطالة في الصلاة، لأنها تجري في روح واحدة وهي الخشوع لله، وتمجيد الرحمن والشكر للغفار الوهاب والركون إلى مغفرته، والثقة برحمته ولم تؤت المسيحية من عظمة روح العبادة واضطلاع النفوس بعاطفة التسبيح مثل ما أوتي الإسلام وقد أجمع الرواة وتضافرت الأسانيد وهي المؤرخ الصادق والمحدث الثقة عن الماضي على شرح كيف كان النبي يبكي في الصلاة في حرارة عاصفة واشتعال العبادة في فؤاده وكيف كان ابن عمه الفتى النبيل والسيد العظيم يسترسل في صلاته ويستأنى في عبادته حتى تتخدر أطرافه وتكل قدماه من أثر السجود.

والإسلام بعد ذلك لا يعترف بطوائف من القساوسة ونظام الكهنوت ولا يأذن لقوم باحتكار رعاية الدين. وقصرها على أنفسهم. ولا يسمح لفريق بالتفرد بالبركة الإلهية وحق التوسط بين الله والناس. بل إن كل روح تناجي خالقها بلا وساطة وسيط. ولا سمسرة سمسار ولا حاجة بالمسلمين إلى تقريب القرابين للظفر بالقربى من الله. بل كل فرد هو قسيس نفسه. وليس في إسلام محمد رجل أسمى من رجل. وفرد يفضل فرداً بل الجميع سواء.

وقد شكا كتاب الغرب من العقلاء تعقد الصلوات في الإسلام وتشعبها وكثرتها ولكن الشرعة التي وضعها القرآن هي من السهولة والبساطة والوضوح والجلاء بحيث تشاء فهي تنص النصوص على مطالب الإيمان وأركان الدين. ولكن قلما توضع قواعد وأحكاماً محدودة لطريقة تأديتها. على أن النبي هو الذي استن عدة شعائر للمحافظة على الصلوات.

وإن طريقة التعميد في الديانة المسيحية. وكذلك عادة الدهانات التي كان يتبعها قدماء المصريين واليهود ورجال الدين في نحل الشرق القديمة وأديان الغرب البالية تدل على الأهمية التي كان يعقدها أولئك القوم على التطهر الخارجي والنظافة السطحية. فلما جاء محمد احتفظ بهذه الشعائر. واستمسك بهذه السنة ولكنه لم يرتض الطهارة الخارجية وحدها.

بل علم الناس أن النظافة الظاهرية والتطهر البدني لا يقتضيان الإيمان الصادق والعبادة المطمئنة وأنه لا بد من تطهر الروح بجانب طهارة البدن. ولا غناء عن خشوع النفس وغسل أردانها في سبيل القربة من الله.

ولكي يبقى مهد الإسلام حياً باقياً في ذاكرة العالم الإسلامي، علم محمد قولوه أن يولوا وجوههم شطر مكة وجعلها القبلة التي شهدت الضياء الأول من نور الحق الجديد ورأى ببصيرة النبي الآثر العظيم الذي يحدث من تحديد بقعة عامة تجتمع عندها على كر الأدهار عواطف أهل دينه والمؤمنين بعهده فوصى المسلمين أن يولوا وجوههم عند الصلاة صوب الكعبة. وفي هذا يقول ستانلي لين بول:

إن مكة للمسلم بمثابة أورشليم للإسرائيلي فهي تعيد إليه قروناً وأجيالاً من الذكريات. وتحمل المسلم فتعود به إلى مهد إيمانه ودينه ومولد نبيه. وتذكره عهد النضال الذي كان بين الدين القديم والدين الجديد. وتحطيم الأصنام وكسر شوكة الأوثان وتأسيس دين الله الواحد القهار. بل فوق كل هذا تدعوه إلى ا، يذكر أن أخوانه المسلمين جميعاً يعبدون الله موجهين وجوههم صوب المكان الذي ولى هو وجهه نحوه. وأنه ليس إلا فرداً في شركة من المؤمنين. تربطهم جميعاً عقيدة واحدة. وتجري في نفوسهم آمال واحدة. يقدس الفرد منهم ايقدس الجمع. ويجتمعون على عبادة إله واحد. وقد دل محمد باحتفاظه بذكر المهد الأول للإسلام على علمه الواسع. ونفاذ بصيرته وتمكنه من معرفة النزعات الدينية الصحيحة في الإنسان!.

إن فريضة الصوم وجدت بين جميع الأمم ولكن ينبغي أن نقول أن المعنى الذي كان يفهم منها والفكرة التي كانت تلتصق بها في العالم القديم وفي أهل الدين الغابرين جميعاً بلا استثناء هي أدنى إلى التعذيب منها إلى قمع الشهوات. حتى أن فكرة الصوم في الشريعة اليهودية لم تلبث أن نمت حتى أصبح يفهم منها أن الصيام ليس إلا المغالاة في تعذيب النفس وسومها العذاب الشديد والرهق العظيم، ومنهم أخذ المسيح هذه الفكرة كذلك. وقد كان استمساك عيسى بهذه الفريضة الباعث الذي جعل الصوم عند المسيحيين فريضة مقدسة ولكن الفكرة السائدة لدى أهل المسيحية عامة من ناحية الصلاة هي أنها الصوم يقصد به إلى التكفير والاقتداء بالمسيح على أن وسائل تعذيب البدن طواعية واختياراً كانت شائعة في أهل المسيحية شيوعها في كثير من الأديان الأخرى. ولكن تلك العذابات الجثمانية كانت تنتهي في أغلب الأحايين بقتل القوة الذهنية وهدم القوة الجثمانية. والذهاب بالنشاط وإحداث ضرب من البلادة والمرض العقلي والزهد الممقوت. ولكن المقصد من الصوم في الإسلام ليس إلا قمع الشهوات بالاحتماء من إشباع الشهوة مدة معينة من الوقت وحرمان النفس مباهج الحواس، وتوجيه الروح الحيوانية في الإنسان إلى سبيل صحية نقية طاهرة.

أما تعذيب البدن وإرهاقه الإرهاق الذي لا جدوى منه ولا موجب له فمحرم في الإسلام، منهي عنه، وذلك أن الصوم فريضة على أقوياء الجسوم وأهل الجلد والبأس والصحة ليكون وسيلة لهم إلى تطهير الروح بوضع حد لشهوة البدن وبحرمان الجثمان أما الضعفاء والمرضى الذين في سفر أو طلاب العلم ودراس الجهاد الأكبر والنساء في المحيض فقد أغناهم الدين عن الصوم وأعفاهم من فريضته.

فإذا نحن ذكرنا ما كان من نهم اليونان القدماء وشهوانية الرومان والفرس وإغراق عرب الجاهلية الأولى في اللهو وإفراطهم في الشهوات ومباهج البدن، وضروب الحيوانية، والشرور والمناقص، فلا نلبث أن ندرك قيمة هذه الفريضة ونتبين نفعها وصلاحها لقمع شهوات الإنسان، ولا سيما بين الشعوب التي لم تصب حظاً عظيماً من المدنية.

على أ، الصوم في الإسلام كما اقتضت حكمة القرآن مقصور على النهار وللمسلم في الليل أن ينعش جهازه البدني بالاعتدال في تناول الطعام والشراب وتمتيع جثمانه في غير محرم أو إثم وهذه شرعة سهلة لا يراد بها قتل النشاط، وإحداث البلاهة والجنون، وقد قرر علماء الإسلام وأساطينه ومشرعوه بوجوب تطهير الذهن في خلال الصوم من الأفكار الشريرة والخواطر الآثمة. وعدم الاقتصار على تطهير البدن.

لم يسبق الإسلام دين من الأديان سن شرعة للصدقات وإيتاء الأرامل واليتامى والمساكين، ووضع مبادئها من بين أركان الدين وأدمجها في الفرائض وخصها بجزء عظيم من أصوله، ولقد كانت المسيحية الأولى أعياد تسمى أعياد الصدقات، ولكن أمثال هذه الأعياد كانت تتوقف على إرادة الناس، ولذلك كان تأثيرها ضعيفاً عرضياً لا يلبث أن يزول، ود أثبت التاريخ أن تلك الأعياد التي كان يتصدق فيها أهل المسيحية الأولى لم تلبث أن أبطلت بعد زمن قصير من سنها واشتراعها وتقريرها.

ولكن كل فرد ملزم شرعاً في الإسلام أن يخص جزءاً معيناً من نشبه ومالة في سبيل إعانة المساكين وأهل الحاجة، وهذا الجزء مقدر بواحد من أربعين من قيمة العقار أو النشب أو الأملاك أو أرباح التجارة وما إلى ذلك جميعاً على أن الصدقات لا تجب إلا إذا بلغت الثروة مقداراً معيناً وكانت ملك صاحبها عاماً كاملاً ولا تستحق الزكاة عن الإبل التي تبتذل في زراعة الأرض، أو في حمل الأثقال وإذا انتهى شهر رمضان وحل يوم عيد الفطر رضخ كل رب عشيرة بصدقات عن نفسه وأفراد بيته والضيف الذي أفطر ونام في بيته خلال شهر الصوم.

وقد عين القرآن أهل الحاجة الذين تجب لهم الزكاة والصدقات، ولعل أحسن ما في الإسلام أنه جاء بمبادئ عيسى من ناحية التصدق والإحسان على الفقير فجعلها في قوانين محدودة وألبسها لباس السنة والتشريع.

والحكمة التي أدخلت على الإسلام ميقاتاً مضروباً للحج كل عام إلى مكة ومقام الكعبة لم يكن منها إلا أن بثت في دين محمد روح الإخاء والائتلاف والود والامتزاج على كثرة اختلافات الفرق الدينية ومنازعات أهل النحل. فإن أعين العالم الإسلامي إذ تستقر على تلك القبلة العامة، إنما تحيي في صدر كل مسلم شعلة من القبس السماوي الذي أنار العالم وذهب بظلمات الجاهلية الأولى، وهنا نرى حكمة ذلك المشرع صاحب الرسالة والوحي تسطع وتشرق علينا في وجوهنا إذا نحن تدبرنا الشروط اللازمة لإنفاذ الحج والقيام بهذه الفريضة وهي بلوغ الرشد والعقل والبصيرة والحرية التامة الكاملة واستطاعة دفع نفقات النقلة والطعام في السفر ومكنة طالب الحج من الإنفاق على بيته في غيابه في الحج وسهولة الطريق إليه وامتناع المشقة والعنت في السفر.

ولما كانت العرب في الجاهلية يستمسكون بتقاليد وشعائر دقيقة تكاد تكون أشبه شيء بالشعائر البراهيمية في شدتها ودقتها، وذلك من ناحية صلاحية ضروب من الأطعمة والأكل وفساد أخرى فقد نصح النبي لأهل ملته أن يعتقدوا بأن كل لحم أو طعام محلل، إلا أشياء حرمها ونهى عن أكلها وورد ذكرها في القرآن وأما الخمر والميسر وهما الآفتان الوبيلتان اللتان طاحتا بالجماعات المسيحية، وكانتا حرباً على كثير من أهل الطبائع الدنيا والنفوس الغثة الضعيفة فقد حرمهما الإسلام تحريماً قاطعاً، ونهى عنهما النهي المطلق، على أن ليس في جميع الشعائر التي وضعت للعالم، والتعاليم التي لقيت لتهذيب أهل الدنيا، تعاليم ولا شعائر هي أسهل منالاً وأحنف مقصداً وأوفق للطبائع وأدعى لتقدم الناس وتزكية نفوسهم من تعاليم النبي العربي لأن القواعد القليلة التي سنها للشعائر الدينية، لم يراع فيها إلا استتباب النظام في الجماعات الإسلامية وتأسيس المساواة والاتحاد والولاء ولكنها لم تكن من الصلابة بحيث لا تقبل مرونة ولا ترتضي ليناً وتهذيباً بل أذن في التجاوز عن نصوصها والتنصل من قيودها في عدة وجوه من مرض أو بواعث أخرى، لأن القرآن يقول يريد الله بكم اليسر لأن الإنسان خلق ضعيفاً وإذا كان محمد قد أحاط تعاليمه بطائفة من السنن والشرائع والتقاليد فإنما كان ذلك منه ليؤدي فكرة محسوسة عن الدين لعامة البشر. وقد وضع عيسى سنتين اثنتين، التعميد والعشاء الرباني، ولو أنه عاش أكثر مما عاش في الأرض لأضاف عليها وحشد لها وحشدها. ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنه لو كان عاش لرأى أن يضع دينه على قاعدة نظامية أكثر مما هي عليه، ولأقام تعاليمها على جدار متين، وهذا النقص الأساسي في المسيحية هو في الحق السبب الجوهري الذي بعث المسيحيين على إنشاء مجالس الكهنوت، ومجامع أهل الدين، وإنشاء النحل والمذاهب والعقائد المختلفة الألوان والآراء والبنود والنصوص التي تتحطم وتتهدم إذا مسها العقل أو عالجها التفكير المتخلص من القيود وهكذا ترك المسيح عمله غير تام. وأبقى لمصلح آخر غيره واجب تنظيم مبادئ الخلق والآداب الاجتماعية وأنت فتعلم أن علاقتنا مع الله أمر يخص الضمائر وأما علاقتنا بالمخلوق فيجب أن تسن لها آداب عامة وقوانين محدودة، وليس في الدنيا نفوذ أو سلطان هو أدعى إلى ضمان إنفاذ هذه الآداب، وإطاعة تلك القوانين، من سلطان الأديان، وينبغي أن لا نعد الدين مجموعة تعاليم وعظات تنحدر إلى عامة الناس من ذوائب منابر الخطباء والوعاظ ولا أن نرى الدين عقيدة تغذي أهل الأذهان الخيالية التي تعيش على الأحلام وإنما ينبغي أن نعتبر الدين قانون الحياة كلها، وأن نعد الغرض الأكبر منه السمو بالإنسانية إلى الكمال الذي هو الغاية من الوجود، فإذا كان هذا هكذا فإن الدين الذي يضع المبادئ الأساسية للأخلاق ومجموعة الفضائل ووالفرائض الأدبية على قاعدة منظمة، ويسن القوانين للروابط الاجتماعية والفرائض الإنسانية ويقربنا رويداً رويداً باتفاقه والفطرة ومشيه وسمو الذهن وعمله على تهذيب القلب، من الكمال الأعظم - لي إلا ديناً خليقاً بالاحترام والإكبار وقد امتاز الإسلام وتفردت شخصيته بأنه يجمع في صميمه جميع المبادئ العالية والسنن السامية في الأديان القديمة وكل ما يمشي مع العقل ويتابع الغريزة، وترتضيه الفطرة الإنسانية وليس الإسلام فقط شريعة تحتوي طائفة من القواعد الأدبية القائمة على المعرفة الصحيحة لفطرة الإنسان ولكنه كذلك سن طائفة من السنن لتهذيب العقل، والضمير ولهذا كانت موافقة مبادئ الإسلام لجميع العصور ولجميع الأمم والشعوب واتفاقها ونور العقل وهدى اللب وتخلصها من العقائد الغامضة التي ترسل ظلامها على الحقائق الأولى المتأصلة في الصدور الإنسانية ليست إلا دلائل على أن الإسلام هو الخطوة الأخيرة التي خطتها الدنيا في ترقية المشاعر الدينية في الإنسان والذين جهلوا المغزى التاريخي المراد من كل مبدأ من مبادئه قد أدى بهم الجهل إلى أن قالوا بأن خشونة تلك المبادئ ومخالفتها لأساليب الفكر الحديث، ومناقضتها للمدنيات الحاضرة ينبغي أن تحرم الإسلام من أي حق في الانتشار والذيوع في الدنيا عامة، ولكن النظر ملياً إلى المغزى التاريخي الذي يفهم من الشرائع والمبادئ الإسلامية، والتسامح قليلاً في البحث والإنصاف في الدرس والفحص لا يلبثا أن يزيلا هذا الفهم السيئ الممقوت فإن صلاحية الإسلام واتساعه وذيوعه وقبوله جميع الآداب الأخلاقية كثيراً ما أسيء فهمها أو أخذت على غير حقائقها أو أخفاها تعصب الأديان المنافسة له، والإسلام من بين جميع أديان الدنيا التي سيطرت على ضمائر الإنسانية هو الدين الفذ الذي جمع بين تلك الآراء التي أنشأت في عصور مختلفة من حياة البسر مصدر سلوك الناس، وأقامت قانوناً يضبط أفعالهم، وبين الشعور بمكان الإنسان وإدراك الطبيعة الإجرامية فيه، فإن اعتقاد المسلم بأنه سيحاسب على ما اجترح، ويجزى بما فعلته يداه، يبعثه على إنكار ذاته ويوحي إليه عاطفة المحبة العامة، والإحسان إلى الناس جميعاً، واعتقاده في العناية الإلهية وفي رحمة الله وحبه وقدرتنه التي وسعت كل شيء يسوقه إلى التواضع أمام الديان، والاستكانة والخشوع إزاء الخالق، ويغريه بتأدية تلك الفضائل الجبارة العظيمة التي تطالب مؤديها بأصعب الأمور، وتحمله العنت والرهق، كالصبر والاستسلام والثبات أمام البلاء الذي يبتلى به الله الناس، وهذه الفضائل هي التي دعت كثيرين من الكتاب إلى اتهام الإسلام بأن فضائله مرهقة تعذيبية أليمة وتجعل المسلم يسائل ضميره ويلح في الحكم عليه وأخذه بالزجر والنهر ويدرس البواعث التي تغريه ويستريب بمقدرته أمام عظمة الكون، ويركن إلى عناية الله، في المعركة القائمة بين الشر والخير.

وقد كانت الشرائع التي وضعها بعض الأديان وسنت بها فرائض، وأقامت أعمالاً معينة وواجبات، خلواً مما يجعل هذه الشرائع سهلة الإنفاذ ممكنة التأدية، ذلولاً عن الاختبار، وكانت مفتقرة إلى معرفة طبيعة الإنسان تبدو عليها طبيعة الأحلام والأوهام، وتتجلى عليها إمارات الخيال وطلب الكمال من ناحية الوهم والحلم، ولذلك لم تلبث عند تطبيقها في معركة الحياة أن ظهرت بلا جدوى، عقيمة لا نفع منها، وأنت تعلم أن مقدار دين من الأديان من السهولة واللين وإمكان التنفيذ، وسلطانه على العلاقات التي تربط الناس بالناس، في الحياة اليومية، وأثره في الجماهير، وسيطرته على الجماعات، هي الوجوه الحقيقية التي يمكن للناس أن يحكموا على صلاحيته ورجاحة شرائعه، ونحن لا ننظر إلى العقول الشواذ العظيمة والألباب السامية الراقية على مستوى العقول العامة، لنتبين أثر دين من الأديان، بل إنما ننظر ونبحث ونجيل البصر في الجماهير والجماعات لندرك أثره فيهم وموقعه من قلوبهم، ولنرى ما كان من عمق سلطانه عليهم ومقدار السمو الذي يسمو بهم ولنبحث فيما إذا كانت شرائعه قد ألهمتهم معرفة الحق من الباطل، والخير من الشر، ولنتبين هل يصلح هذا الدين سكان أبعد البلاد، وآهلة الأقطار المعتزلة في أركان الدنيا، إذا هو حمل إليهم، وشاع فيهم، أو هل يُسف بهم، ويهوي إلى الدرك الأسفل، ويحط من مكانهم، وهذه هي الأسئلة التي ما نفتأ نسألها إزاء كل دين نريد أن ندرك مكانه من الرجاحة والصلاح.

فإذا أردت أن تطبق جميع ذلك على الإسلام ألفيت هذا الدين يجمع بين مبادئ كمالية من السمو بحيث لا يدرك علاؤه، ومبادئ عقلية حقيقية منطقية تقبل التطبيق وترتضي التنفيذ والعمل بها والاسترشاد. ولم ينكر الإسلام الطبيعة الإنسانية ولم يدخل في دروب بعيدة عن المحسوس والواقع والمعقول. بل كان مبدؤه الأول الارتفاع بالإنسانية إلى حدود الكمال المطلق. وكان سبيله إلى بلوغ ذلك الكمال بإدراك أن طبيعة الإنسان في هذه الحياة ناقصة. فإذا لم تقل مبادئ الإسلام (إذا ضربك أخوك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) وإذا أدنت بمعاقبة المسيء على قدر إساءته. فقد علمت الناس كذلك فضيلة العفو والمغفرة والصفح والخير والرفق ومقابلة الشر بالخير. ولم تكن هذه المبادئ العالية باعثة عواطف كاذبة، وتصنع باطل، ورياء من رياء العاطفة. بل ما فتئت عند المسلم الحق المؤمن برسالة محمد المنفذ لوصاياه وتعاليمه هي مبادئ الحياة المحققة المنفذة.

ذلك إسلام محمد، فهو ليس عقيدة ورأياً ومذهباً لا غير. بل هو حياة تعاش ودين العمل خير العمل والتفكير خير لتفكير والقول خير القول. دين مؤسس على الحب الإلهي. والحسنة العامة والمساواة التامة بين الناس أمام رب الكون.

ولئن كان أساتذة الإسلام في عهدنا قد أطفأوا شيئاً من مجد ذلك السيد النبي العظيم حتى ليصبح الإنسان كذلك كتاباً من نقائص وعيوب الإسلام في عهده الحاضر فإن ذلكم الدين الذي يقيم منار الحق والعدل، يستحق أن يعترف به محبو الإنسانية وطلاب الخير للعالم الإنساني.