مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/أبطال الحرية
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/أبطال الحرية
الزعيم كوشيوسكو البولوني
ننشر تحت هذا العنوان كلما سنحت الفرصة، وواتانا الزمن، تاريخ أولئكم العظماء الذين وقفوا في طليعة شعوبهم، وسعوا سعيهم للنهوض بأممهم، وأسالوا مهجهم في سبيل إعلاء كلمة بلادهم، ومنحها الحقوق المقدسة التي أراد الله بالناس أن يكونوا في هذا الكوكب الأرضي ناساً بها، وجعلها المزية الأولى، واللازمة الواجبة للحياة، أولئكم البطال الذين إذا ذكرت أسماؤهم على أفواه أهل جلدتهم هزت قلوبهم هزاً، وأرسلت روح الملائكية تشع في حنايا أفئدتهم أولئك الذين يقفون يوم يحشد الله الناس أمام عزته الإلهية صفاً صفاً ويحشرهم جنداً محضرين، في الصفوف الأولى ممن الإنسانية خلف مواقف الأنبياء والمرسلين، وفي المكان السامي الذي أعده الرحمن لهداة الإنسانية ورسله الذين هذبوا من جوانب الحياة، بلا رسالة تنزلت عليهم ولا كتاب جاؤوا به، وإنما قاموا ووحي الله ينهض في جنوبهم، ونور السماء يضيء في أضلاعهم فكانوا أبطال الأرض الذين ظهروا أرجاءها من ذلال الظلم، ومفسدة حكم الإنسان للإنسان.
ولسنا نجد شخصية من تاريخ عظماء الدنيا وثبت في بلد من أغرب بلاد الله، هي أحق أن نبدأ بذكر ما كان منها لبلادها من شخصية الزعيم كوشيوسكو بطل بولونيا العجيب فتلكم أجمل صورة من صور أبطال الشعوب، ظهرت في أروع زمن من أزمان الدنيا، وهو الزمن الذي اجتمعت فيه فرنسا وبولونيا وأمريكا في صعيد واحد للاشتراك في حرب الحرية.
في المدرسة الحربية بفرسوفيا عاصمة البلاد البولونية، حوال عام 1768 كان شاب بولوني يمشي في أفنية الدار ويخطر في رحاب المعهد، يشار إليه بالبنان ويوصف بأن لا مثيل له ولا ضريب في حميته للعمل وتوفره على الدرس والبحث، فبينما كان فتية المدرسة وقرناؤه في المعهد، يلهون ويمرحون، ويرتعون ويجرون في مراكض الشباب، كان يجري من المدرسة إذ ينصرف الطلاب إلى حجرته، فينكب ليالي طوالاً لا يغمض له جفن على دراسة كتب الرياضة والتاريخ وكان إذا عاكسه النوم وأخذ الكرى بمعاقد جفنيه يحاول طرده، ويتحيل الحيل للخلاص منه، فيضع قدميه في صبارة الشتاء في ماء مثلج، ولم يشأ بعد أن استطالت به العادة أن ينقع برنامجه ويهذب من خططه، إلا على أن ينام إذا انتصف الليل، وينهض من نومه في الساعة الثالثة من الصبح.
أما اللهو والتماس الابتسامة النسائية الحلوة في المرقص، وافتقاد النظرات النواعس من عيون الحسان في المقصف، والجلوس حول المائدة الخضراء تحت حمى القمار، فأي عار كان يراه في ذلك وأي معاب وأي ذام بل كانت بولونيا بولونيا المنكودة المعذية التي تعيش إذ ذاك أسوأ العيس، في الدرك الأسفل من الحياة، إذ وقعت فريسة بين ثلاث دول من الدول الجارحة بروسيا والنمسا والروسيا. وكانت تلك المملكة الأسيفة مفتحة معرضة لكل مغير فاتح. لا حول لها في داخليتها ولا قوة. لا تملك إلا ماضيها الفخم الرائع الجليل. والمفخرة الكبرى بأنها كانت قروناً وأجيالاً السور المنيع الناهض حيال أوروبا يمنع الإغارة الشرقية من ناحية تركيا والتي ظلت أبداً جميلة رفيعة فارسية كريمة. أرض الشعر ومملكة الشمس - تلك كانت الرؤيا التي تتراءى لذلك الفتة الملتهب المتوقد الجياش العاطفة، في أحلامه، وبولونيا كانت الحلم الذي يتجلى له في نجواه ومنامه. وجعل يصيح في أعماق فؤاده. ترى من الذي ينقذها وما السبيل إلى خلاصها! فإذا بلغت به النجوى إلى هذا الحد لم يلبث أن يتحمس فيرفع قبضة يده إلى الخريطة المعلقة فوق الجدار، والمصور الجغرافي الذي تلوح منه الدول الثلاث المفترسة بلاده العزيزة مهدداً مغضباً حانقاً. ثم يعود بعد أن تخفت حدة خلقه فيسقط إلى قراءة كتب فلوطرخس ويدفن وجهه في صفحات كتاب العظماء.
ذلطكم الفتى الذي حدثناكم عنه كان يدعى سادي كوشيوسكو، الوطني ذا القلب الحديدي ولد هذا الفتى في اليوم الثاني عشر من شره فبراير عام 1764 في نوفومبرودك وعاش في ذلك الإقليم جميع عهد طفولته في الهواء (الطلق) والجو السجسج العليل والريف القروي الهادئ، بين أبيه وهو رجل من أهل الشرف والجندية، هجر العالمن وغادر عيش الجند، وأسلحة القتال، وأخلد إلى العزلة والحياة الساكنة، وبين أمه وأختين صغيرتين.
وكان له عم شيخ جعل يعود العشيرة الفينة بعد الفينة فيقضي أشهراًُ معهم ويعلم الطفل الرياضة والرسم واللغة الفرنسية، وزار يوماً صديق من أصدقاء أبيه، وهو البرنس آدم زارتوريسكي وكان رفيق الوالد في الجندية - بيت هذه الأسرة فرأى كوشيوسكو وراعه ما قرأ في وجه ذلك الصبي من أسطر القوة والإرادة، وتنبأ بما يضطرم في فؤاده من اللهيب، ويستعر من العاطفة، ولم يكن الصبي كوشيوسكو جميلاً على فتنة جمال، ولم تطن تقاطيع وجهه رائعة متناسبة، ولكن أي قدر عظيم، وقوة هائلة، كانا يتجليان على ذلك الوجه الروماني المعذب، كأنما جميع معارف ذلك الوجه تريد أن تقول (إنا من أولئك الذين يولدون ليكونوا أبطال المبادئ المقدسة، وليضعوا حياتهم في أيديهم، ولا يختموها إلا غزاة عظماء، أو معذبين شهداء).
وبفضل حماية ذلك الأمير زارتوريسكي دخل الفتى المدرسة الحربية فلما كان عام 1770 كان من بين الفتية الأربعة الذين انتخبهم الملك لتأدية سياحة خارج البلاد على نفقته، فسافر إلى باريس ودرس دهراً في الأكاديمية الحربية بفرسايل ثم تلقن في مدينة برست فن الحصون والاستحكامات والفنون البحرية، وهناك في فرنسا يوم كان بها عام 1773 سمع النبأ المخيف الهائل، الذي كان من صحته في ريب أيام نشأته الأولى، وهو نبأ تقسيم وطنه العزيز بين روسيا - وهي التي أصابت نصيب الأسد من الفريسة - وبين النمسا وبروسيا، فعاد إلى فرسوفيا عاصمة بولونيا حزيناً متألماً مجروح الكبد، وانزوى في نفسه، وأخلد إلى العزلة، وراح يمشي وحيداً متوحشاً نافراً مجتوياً العالم، غاضباً من الدنيا، حتى جعل يرفض الدعوات إلى الولائم، والذهاب إلى المآدب، ولا يلقى الناس، ولا يجلس في مجالسهم، بل قصر ساعات يومه على النظر والتفكير في شؤون فرقة الظوبجية التي عهد الملك إليه تقلد مقاليدها، والإخلاء إلى أبحاثه الحربية.
ولا عجب أن يقع هذا الشاب المعتزل الوحيد إذ ذاك فيحب ويحتبل في أشراك الهوة، كان هو الحب الوحيد الذي أدركه في حياته، وذلك أن الكونت زامويسكي أقام سنة 1776 حفلة رقص عظيمة في يوم عيد الملك ودعا جميع ضباط المملكة إليها فلم يستطع كوشيوسكو أن يفر من هذه (السخرة) الدنيوية أو يتنصل من هذه الضريبة الاجتماعية فلم يكد يضع قدميه في بهو البيت المشرق بالأنوار حتى التقى نظره بوجه فتاة بولونية على فتنة عظيمة، وكانت الفتاة ابنة الجنرال العظيم سوستوسكي مارشال ولاية ليثوانيا. فلم يلبث أن وقع في حبها، كما ينتظر من تلك النار التي تحترق في خبايا قلب ملتهب مثل قلبه، فالتقى بها مرة أخرى، وأعاد اللقاء مرات، ورأى في أثناء ذلك أن حبه متبادل بينه وبين الفتاة قم لم يلبث أن تحطم فؤاده إذ سافر الجنرال وابنته عائدين إلى ليثوانيا.
ففي العام التالي: وبعد سنة محزونة قضاها في كاراكوفيا ساقت الأقدار كوشيوسكو إلى الانتقال إلى ليثوانيا مع المعسكر وتعين ياورا للمارشال، وقضى ذلك له بأن يقيم في القصر، وهنا اشتدت وقدة الحب، وحميت نار العاطفة، وتمكنت منه حتى وقع يوماً على قدميه أمام المارشال الوالد يطلب يد ابنته، ويبكي ويتضرع، فلم يلق من الرجل إلا هزة كتف سخرية واستكبار، ورفضاً مؤلماً مهيناً، إذ زعموا أن الفتى من بيت صغير، وأسرة غير عريقة في المحتد والشرف!! ومن ذ ذلك اليوم أقاموا حوله الحراس والحفاظ، فاحتج واستنكر، وفكر أخيراً في خطف الفتاة، ورضيت هي به مختطفاً، بعد أن أبوها عليه زوجاً كريمة، وفي ليلة حالكة عاشقة رومانية ساكنة هرب العاشقان وانطلقا مبتعدين أميالاً، فرحين بالنجاة، محبورين بالسعادة، ولكن لم يلبث أن تقلص ظل هذا الفرح، إذ أحاط الجند بهما بالرصاص والنار فشهر كوشيوسكو سيفه ولقيهم لقاء المستميت، وناهدهم مناهدة الشهم المستأيس وقتل منهم خلقاً كثيراً، وخر مضرجاً بدمه لا يعي ما حوله، فلما أفاق من غشيته، لم يجد الفتاة بجانبه، فقام يتعثر في مشيته، ومشى متسانداً متحاملاً حتى بلغ بيت صديقه الشاعر الجندي نيمسويك فطلب دواة وقلماً وقرطاساً وأرسل في الحال استقالته من الجيش إلى فرسوفيا، فبعد أيام معدودات غادر بولونيا وهو لا يحمل من ذكريات ذلك الحب الأليم إلا منديلاً واحداً ذا رائحة وعبق.
كانت المستعمرات الأمريكية إذ ذاك قد رفعت في وجه إنجلترا علم الاستقلال، ولما كان كوشيوسكو قد ولد للدفاع عن الحرية في أي بلد من بلاد الله، وتحت كل سماء تظل الأرض، وفي سبيل أي شعب من شعوب الدنيا، غادر كوشيوسكو فرنسا قاصداً أميركا فبلغها في اليوم الخامس من شهر يوليو عام 1778 وقدم نفسه إلى البطل العظيم واشنطن، فانبرى ذلك القائد الكبير يسأله ماذا جاء بك أيها الفتى إلينا؟ فلم يكن جواب كوشيوسكو إلا أن قال: جئت لأحارب متطوعاً في سبيل حرية أمريكا!.
فقال واشنطن: فيم تصلح أيها الرجل؟.
فكان جوابه: جربني تر ما تريد
فدفع به واشنطن إلى فرقة من جيوش الأميركان لا مهارة لديها ولا فن فأبلى البلاء الحسن وأظهر البراعة التامة في شؤون الحرب، فلما انتصر في موقعة هائلة راح الزعيم الفرنسي بطل الحرية يسأل: من ذا يكون هذا الرجل الذي أبلى البلاء الحسن في هذه الموقعة!، فأجابه أحد ضباط أركان حرب الجيش ذلكم شاب فتى شهم مغوار بولوني الجنسية، أظنه يدعى، إن لم يخطئني حدسي الفتى كوشيوسكو فأجمع لافاييت على أن يرى هذا الشاب، فلما أمسى المساء راح يتنقل في المضارب، وينطلق من مضرب إلى مضرب، حتى دخل عليه في خيمته فألقاه وقد علاه التراب والدم، يفترش الثرى، ويمتهد الخشن من الأرض، ومنذ ذلك العهد راح الرجلان رسولا الحرية كوشيوسكو ولافاييت صديقين حميمين إلى الأبد.
وانتهى وطيس القتال عام 1783 وظفرت أمريكا بنعمة الحرية والاستقلال بعد أن كان لهذا الزعيم البولوني العظيم فيها شأن يذكر، حتى أن واشنطن قبل أن يعتزل العمل، ويأوي إلى السكون والوحدة في بيته في مونت فرنوف أبي إلا أن يصافح يد ذلك الرجل البطل، وينادي به قائداً من قواد المدفعية، وعرضت عليه الولايات المتحدة لقب الوطني، وأذنت له في الجنسية الأمريكية، واستعدت لأن توظف له وظيفة شهرية مذكورة، وأقطعته أملاكاً واسعة وإيراداً عظيماً فلم يشأ كوشيوسكو أن يبقى في أمريكا، وهزه الحنين إلى وطنه، فسافر إلى ساحل فرنسا، ومن الهافر أسرع إلى بلوغ بولونيا، وقد سبقه إليها مجد مؤثل، وذكر طائر مطير البرق وأشعة الشمسي فاستقبله الجيش أي استقبال، ولكنه لم يطأ بقدميه أرض وطنه، حتى عاد إليه الرثاء لحالها، فأوى إلى عزلته الأولى، ولم يلبث أن أثار إذ ذاك حرباً عواناً على الروسيا التي أبت إلا أن تجعل من أمته شعباً ذليلاً مستكيناً متطامناً وأكره جيوش الروس مرات على التقهقروأوقع بهم القتل والذبح، وانطلقت حميته في قلوب جنده فما تركت قلباً إلا وقعت فيه، ولكن أين لهذا الرجل الوحيد، وجنده القلائل، القبل بتلك الجيوش العظيمة، ولذلك لا غرو أن ينهزم آخر الأمر، وكان من ذلك أن اتفقت الدول الثلاث على تقسيم بولونيا للمرة الثانية.
فلم يكن لكشيوسكو الحزين العاجز المتألم أن يقف يشاهد هذا التقسيم اشنيع في وطنه وهو مشبك الذراعين، ينظر صامتاً لا يحرك يداً، بل لم تشأ عيناه أن تنظر إلى ذلك الغزو البطيء الذي أعده الروس لوطنه ويرى قومه في ذل الإسار ويشهد أبناء وطنه يساقون إلى الخسف، مشردين في رؤوس الجبال، معتصمين بالغاب الكثيفة، هاربين لواذاً من الطغاة، ورأت كاترين قيصرة الروس هذه الحمية في ذلك الرجل، الذي كان الوطنية مجسمة، والشرف ممثلاً، فشاءت أن تغريه بالمال، وظنت أن المفاتن والإغراءات قد تطفئ شعلة الوطنية في فؤاده، وتكسبه إلى صفوفها، وتشتري وطنيته بثمن بخس دراهم معدودات، وحسب أن إنعامها عليه بألقاب الشرف وأسامي النبل قد تحدث فتنتها فيه، وتطمسي على بصيرته فلا يرى، على أن كوشيوسكو لم يكن خلق لأمثال هذا الخزي، ولم ترتض طبيعته هذا العار المشنوء البغيض، فلا غرو إذا رفض مشمئزاً وهاجر أصدقاءه الجند، واعتزلهم وهو يصيح: رباه. . رباه أعني مرة أخرى أشهر سيفي لأجل وطني فتوجه إذ ذاك إلى دريسدن، ثم إلى لينبرج وهناك تلقى شهادة تثبت أنه فرنسوي الأصل، وهذا الإثبات منحته إياه لجنة الدفاع الوطني في مجلسها الذي انعقد في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس عام 1792. وعند ذلك قضى عاماً فارسياً جواباً أفاقاً فطاف ألمانيا طولها والعرض، وانحدر إلى إيطاليا فراح فيها ضالاً طوافاً هائماً يحمل وطنه في فؤاده ويتحسر على حالة أبناء أرضه، ويرتقب الفرصة التي تمكنه من الدفاع عنها مرة ثانية.
فلم يلبث أن وثب رجل من عرض العامة في بولونيا، وطني من الصفوف الأولى من الوطنيين المتقدمين حمية وإخلاصاً لبلده، صانع حبال يدعى كلينسكي، فجمع عشرين ألف صانع من صناع الحبال والخياطين والنساجين، فلما سمع السفير الروسي ريبنسين بنبأ هذا الثائر، حاول عبثاً أن يهدئ من ثائرته ويطفيء مفيه حميته للقتلا والدفاع عن الوطن، حتى دعاه آخر الأمر فلما مثل هذا الرجل العامي بين يديه، جعل ينظر إلى السفير نظرة اعتيادية ساكنة لا تدل على شيء من الاكتراث أو الخوف بل هي إمارة الاستخفاف والهدوء فلم يكن من هذا السفير الذي كان ملك بولونيا نفسه يرتعب منه ويفرق من خشيته، إلا أن قال مغضباً: أيها الرجل ألا تدري أمام من أنت الآن واقف؟ ولم يكد يتم عبارته حتى فك أزرار معطفه فإذا بسترته مفعمه بالأوسمة العديدة والنياشين!
وراح يصرخ في البولوني: إذن فانظر وارتعب!
ولكن لم يكن من ذلكالعامل البسيط إلا أن قال: لا أرى إلا نجوماً صناعية في صدرك، ولكن أرى مثلها في السماء، يا صاحب الفخامة، ولهذا لا أرتعب ولا أرتعد!.
واستثارت وحشية الروس القوم إلى القتال، إذ أصر مندوب القيصرة كاترين على أن يخفض عدد الجيش البولوني من ثلاثين ألف مقاتل إلى سبعة عشر لا أكثر، وكان يعني ذلك الأمر تجريد الوطن من السلاح، أو قل معناه العجز ثم الموت السريع!.
فثار الجيش البولوني واحتدم غيظه، ونهض منكراً هذا النير الثقيل حتى أن قائد فرقة الفرسان رفض في اليوم الثاني عشر من شهر مارس عام 1794 أن يسلم أسلحته وانطلق مفلتاً من فرسوفيا حمي الأنف كبير الإباء، والتحم في موقعة دموية وجند البروسيان إذ أرادوا أن يحموه الطريق، ويمنعوه السبيل، واحتل راوا وانحدر إلى كاركوفيا وكانت الساعة التي كان أهل بولونيا يرقبونها ارتقاب الصديان للماء الزلال، قد دقت إذ ذاك وأذنت، فلما كان الثالث والعشرون من ذلك الشهر، كان كوشيوسكو في بهرة الجند والجيش، وكان قدومه ليلاً فلم ينم أحد من الأهلين ولم يشتمل سرير من السرر على الراقدين فيه، بل لقد كانت ليلة ساهرة ما يغمض فيها جفن، وما يتنزل النوم فيها على محجر أو عين، وقد أشعلت ألوف من المصابيح، ومشى القوم بألوف من المشاعل، وقد تردد في جميع أرجاء المدينة صوت عظيم أجش هائل يقول في واحد ليحيى كوشيوسكو ليحيى منقذ البلاد ليحيى المخلص، مسيح الوطن ولكن الرجل لم تشكره مشمولة ذلك الترحيب الحار البديع، بل أبى أن يضيع دقيقة واحدة وإنما هرع إلى إدارة محافظة المدينة وأقفل جميع أبواب كاركوفيا وجمع كل ما وصل إلى يده من الأسلحة، وأوحى إلى مجلس الشيوخ أن يجتمع بكل سرعة، فاجتمع وقدم إليه عصا القائد العام للجيوش البولونية، وخول له سلطة عرفية تامة، وفي جنح ذلك الليل، أمر بتجنيد شباب الشعب وفتيانه، بلا تمييز قوم دون قوم، أو إعفاء أبناء طبقة دون طبقة، وحدد السن من الثامنة عشرة إلى السابعة والعشرين ولم يكد ينبثق الفجر، وتبدو جيوش النور من المشرق حتى تعاهد القائد كوشيوسكو وجنده على الموت في سبيل الدفاع عن الوطن. فلما طلع النهار ألقى أمر بجمع ما في الخزائن العمومية من الأموال، ومصادرة ما في القصور من الكنوز وجمع الثروات الأهلية، وصادر بعد ذلك أموال الخونة المارقين، فاجتمع له من كل ذلك في بضع ساعات نصف مليار حشدها لقضية الحرية والاستقلال، ولم يلبث قليلاً حتى ترددت أصداء هذه النهضة في جميع أنحاء بولونيا، فهجر الصناع مصانعهم وغادر العمال الأعمال التي فيها يمتهنون أنفسهم ويبتذلون، وهرعوا يطلبون الزعيم كوشيوسكو وفيهم من يحملون الفؤوس، وآخرون يشهرون المطارق والمعاول وأهطع القرويون والمدنيون والحضريون مشهرين سيوفاً، أو متنكبين رماحاً، وهجر الفلاحون في الحقول محارثهم ومناجلهم وتسلحوا بألوان من الأسلحة وكان كوشيوسكو إنما يريد من كل أسرة تتركب من خمسة أفراد فرداً واحداً، ولكنه رأى المتطوعين ينسلون إليه من كل مكان عارضين عليه نفائسهم وحياتهم مسترخصة في سبيل الحرية، وخامت النساء حلاهن، وهرعن يطلبن نصيباً من القتال، فما أروع منظر بولونيا يومذاك، وما أفتن ذلك القبس السماوي الإلهي الذي تجلى في أفقها!! وكذلك انتصر كوشيوسكو في المعارك الأولى، وشق طريقه إلى فرسوفيا ففتحها على صرخات الجيوش (كوشيوسكو والحرية) ولكن أبى القضاء إلا أن تغلب الكثرة، وينتصر الأكثرون نفيراً فسقطت في أيديهم كركوفيا في أيدي الروس، ولم يبق للبولونيين إلا الدفاع عن فرسوفيا، فلما كان اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر خرج كوشيوسكو من فرسوفيا في عشرين ألف مقاتل وأرد أن يخطب جيوشه ويلقي إليهم كلمة واحدة هي كلمة (التوديع) إذ راح يصيح في ذلك الحشد العظيم رفاقي الشجعان! وأخوان السلاح الأعزاء، هل تريدون أن تنقذوا معي الوطن، وتحتفظوا بالعهد الذي عاهدنا، وهو الانتصار أو الموت والبوار، فمن كان منكم متردداً، أو ذا قلب هواء، أو مزعزع الحمية، فليخرج من الصفوف ويلقي السلاح جانباً، ونحن آذنون له في أن يعود إلى داره وعشيرته التي تأويه! فلم يخرج من الصف رجل واحد! بل صاح الجميع نحن معك أيها القائد إلى الموت، وعلى مشرق الضياء أقسم كوشيوسكو إلا أن ينقذ الوطن أو ليموتن، وانطلق القوم في أثره يهتفون الأنشودة الأهلية التي مطلعها بولونيا لن تموت.
واستبسل القوم في الدفاع ولكن الجيوش العظيمة التي وقفت حيالهم جعلت تنقص من أعدادهم شيئاً فشيئاً حتى لم يبق لكوشيوسكو من جنده إلا خلق قليل، ولكنه جعل يقاتل ويثب ويناضل، وهو في لباس الجندي البسيط ولكن هل كانت تغني عنه شرذمته القليلة إزاء تلك الغابات الإنسانية المتكاثفة المتحركة، ولهذا لا غرو أن يقع في المعركة الأخيرة جريحاً، إذ طارت قنبلة فالتهمت كتفه، وتلقى ثلاث طعنات من الأسنة في صدره، وكاد القوزاق أن يجهزوا عليه، لو لم يعرفه رجل من جيش العدو فصاح بهم أن لا يقتلوه، فحمل إلى قائد الروس فلما رأى العدو منظره الرائع بكوا واستعبروا، وانحنو خاشعين أمام هذه الوطنية الهائلة الجبارة التي أبت إلا أن تقاتل ملايين من الناس في سبيل إبائها وشرفها.
ماتت بولونيا إذ ذاك بانهزام ذلكم القائد، فأراد أن يعتزمل أرض وطنه فأوى إلى فرنسا، حيث قضى أخريات أيامه، فتلقته باريس عند قدمه باحتفال مهيب. وفي المأدبة التي أدبت تكريماً له، وقد تذاكر المدعون الشقاء الذي حل بأهل بولونيا نديت عينه بالدموع وانفجرت بصبيب العبرات، فلما رفع الكأس ليشرب نخب فرنسا (عاجله القوم فقاطعوه صائحين) بل لنشرب نخب دموع كوشيوسكو العظيمة!
وأرادت الأندية السياسية أن تحتاط به وتلزم رفقته، ولكنه أبى إلا أن يعود إلى عزلته الأولى يوم كان في مطارف الشباب لأن العزلة هي الملجأ الوحيد الذي يستريح فيه الأبطال الذين خانتهم الأقدار، وتنكر لهم الزمن، وأرادت مدام دي ستايل وهي من هي ومكانها معروف في دولة الأدب، أن تتنازل عن كل شيء في الحياة في سبيل أن تجلس إليه وتدنو منه وتتسمع إلى حديثه، ولكنه لما كان يعلم من حبها لألمانيا، وإعجابها بالعظمة البروسية، لم يعجب بها ولم يمكنها من بغيتها، فإذا جلس في مجلس، أو حضر في ندوة، وأعلن الخادم قدوم مدام دي ستايل، لم يكن من ذل الرجل العظيم الجبار إلا أن يأخذ قبعته وعصاه وينطلق من المجلس هارباً.
واجتمع به القيصر ألكسندر في باريس وطلب أن يحادثه، فلما تم له ذلك راح الكسندر يسأله: ماذا ترى من الوسائل الواجبة لسعادة بولونيا فلم يجب كوشيوسكو على سؤاله بل مشى إلى خريطة أوروبا المعلقة فوق الجدار فوضع إصبعه على نهر الدنيبر ثم على نهر الدوينا ولم يفه ببنت شفة، فأدرك القيصر مراده ووعده خيراً.
وفي شهر أكتوبر عام 1817 أصيب كوشيوسكو بمرض خطير، فدعا إليه المسجل ووصى بجميع ممتلكاته إلى فلاحي قريته، وخص شيئاً منها لتربية اللقطاء، فلما اشتدت عليه العلة، صاح قائلاً: الآن قد شفيت وطلب أن يجيئوا له بسيفه الذي كان يقاتل به في معارك الوطن فلما وضع أمام عينيه أخذه إلى فمه فقبله طويلاً ولثمه لثمات حادة، وإذ ذاك اشتدت الحمى، وهو لا يفتأ ثغره مبتسماً.
فلما حل اليوم الخامس عشر من الشهر، أحس أنه اليوم الأخير من حياته فنادى إليه أصحابه فقبلهم جميعاً وودعهم آخر توديع ثم سقطت رأسه على الوسادة، ثم نام نومة الأبد!.
على أننا قبل أن نختم هذا التاريخ المبكي الأسيف، لا بد أن نذكر أنه قبل منيته بأيام، وقع له نبأ مفرح، وذلك أن الفتاة التي اختطفها في شبيبته ثم استلبت منه كتبت إليه تقول، أنها قد أصبحت أرملة وأنها ستطير إليه حتى تلقاه. ولكن لما وصلت الحبيبة القديمة كان الحبيب القديم قد مات.