مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/حول نهضة المرأة المصرية
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 48/حول نهضة المرأة المصرية
للمرأة أثر بين في حال الجماعة يعترف به الأكثرون، وبقدر رقيها وتهذيبها يكون ذلك الأثر، فإما نزاعاً إلى التقدم في سبيل الكمال، أو مدعاة للتقهقر والهوى.
فعلى الأمة التي تريد نهوضاً يكسبها مكاناً عليناً بين الأمم الأخرى أن تعنى بتهذيب نسائها، وليس أبسط من تلك الحقيقة ولا أسهل منها فهماً، إذ أن تربية المرأة خطوة كبرى في سبيل تهذيب البنين، فالأبناء في طراءة العمر أي في الدور الذي ترسخ في أذهانهم التعاليم التي يتلقونها يقضون أكثر الوقت في رعاية الأمهات ولئن شذ في ذلك بعض الأسر فسلموا أمر الرعاية للمربيات فلا أقل من أن تكون للأم مهمة الرقابة.
وأرى أن النهضة الحالية - وهي التي استفزتني لطرق هذا الموضوع - ليست دليل بدء حياة جديدة كما قال أكثر من كتبوا في هذه الأيام بل هي مظهر عادي من حياة طيبة راقية موجودة فعلاً، وهذه الحياة لا تضن بأن تدلي ببرهان وجودها في كل ظرف تطلب ذلك.
ويلوح لي أن بعض الكاتبين يغالون في وصف شقاء المرأة وتقييدها، وعندي أن هؤلاء يعيشون في عالم الخيال إذ المرأة المصرية مستمتعة في الواقع بكل ما ينعم به الرجل من الحرية ولها حرمة مرعية عند زوجها ورأي محترم في عشيرتها.
خير للأمة أن يعمد قادتها ومرشدوها إلى بيان أسباب النجاح، وطرق الرقي، وأيها أسهل منالاً وأوفق لحالنا من الإكثار في التقبيح والإفراط في الملام.
لأن هذه النغمة - نغمة الندب والعويل - تهيج من غير أن ترشد فمن عرفها ووقف على كنهها أنكرها ومن تنبه بها هاج وتمرد على سنته الأولى فإذا به يجد الطريق الآخر ظلاماً فيخشى إن هو سار فيه أن يعتسف، فيقف حائراً متلدداً، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
مثل أولئك الغلاة في سلوكهم كمثل رجل يسكن مع أخوته الصغار فإذا بالمنزل يحترق ذات ليلة من إحدى جهاته فبدلاً من أن يأخذ بيدهم إلى منجاة من الناحية الأخرى يقصر نفسه على الصياح النارالنار حتى بعد استيقاظهم فيقف الصغار مذهولين حتى تلتهمهم النار جميعاً.
علينا واجب نؤديه في هذا السبيل. علينا أن نبذل النصح خالصاً لما يجب على لامرأة عمله، علينا أن نشرح كيف ترتقي المرأة.
أعود إلى حال المرأة المصرية متبسطاً مع القراء في شرحه حتى نفهمه جيداً ثم نق الوسائل أنجع في السير إلى الأمام، وأيها أولى بنا، إذ أن ناجع الدواء متوقف على معرفة الداء.
المرأة المصرية ريفية أم حضرية؟
أما في الأرياف فترى سفوراً لم تشبه حتى اليوم خبائث المدينة، وتتجلى لك مشاركة المرأة للرجل في العمل في أسمى مظاهرها فبينما هي تقدم لزوجها طعام الصباح البسيط إذ بها بعد خروجه تعد له الغذاء ثم تلحقه في حقله تساعده في الأعمال بأكثر أنواعها إذا لزم ذلك، وتجالسه وتبدي آراءها بكل صراحة، ورأيها في الغالب محترم وفي أكثر الأحوال مأخوذ به ولها الحرية التامة في اختيار حاجات المنزل، وكثيرات منهن يأخذن بأسباب التجارة، وكثيراً ما ينجحن وفيهن الماهرات في الأخذ والعطاء.
وهؤلاء يسعدن غالباً في زواجهن من أجل عاملين قويين:
(1) القناعة والصراحة التي يصحبان السذاجة غالباً، فالصفة الأولى تبعد بصاحبتها عن التغالي في النقد، والصفة الثانية تساعدها على رفض من يعرض عليها ولا تراه صالحاً.
(2) تمكنها من رؤية الرجل في أدوار متعددة من أدوار العمر فتستطيع درسه والحكم في أمره.
وأفراح الريف بسيطة لا تبذير فيها، وتلك محمدة حبذا لو عمت فشملت المدن.
ومن عرف أن الريفية تبذل جهدها في تعليم بنتها كل ما تعلم من واجبات الحياة حكم لأول وهلة أن تلك الأم لو تعلمت لكان لها أثر كبير ظاهر في تكميل بناتها وتهذيبهن.
وليس في أخلاق الريفيات ما يؤاخذن عليه إلا ما كان من خروجهن في الجنائز وعادة الندب الممقوتة.
تلك مجموعة من أخلاق الريفيات تبين حال المرأة القروية، فيها الحسن والقبيح شرحتها بقدر ما يصل إليه علمي وبصفتي قروياً يعني على الدوام بدرس ما حوله وها هي نتيجة أبحاثي فيما يختص بأكثرية الريفيات. وهناك أقلية تختلف في حالها اختلافاً بيناً أرجئ بسط حالها وتعيين علاجه إلى مما بعد تقرير علاج الأكثرية.
يتضح لمن قرأ تلك الملاحظات أن أقرب وسيلة للنهوض بالمرأة الريفية أولاً هو تعميم التعليم بعد تنقيح نظمه الحالية التي أثبتت التجارب فسادها وعدم ملاءمتها للعصر الحاضر بشرط أن تكون روح النظام المنشود محببة للعمل حاثة عليه داعية إلى كرم الأخلاق مفهمة للمرأة حقيقة واجبها.
(2) أن يقوم العقلاء وأصحاب النفوذ بمنع النساء من الخروج في الجنائز.
وإني لأذكر لهذه المناسبة ما رأيت في بعض قرى الأرياف فإنهم منعوا خروج السيدات في الجنائز على تلك الحالة المرذولة وأبطلوا التعديد والندب.
(3) أن تفرد أقسام خاصة في المساجد ليسمع النساء الوعظ والإرشاد في أيام الجمع.
هنا أقف قليلاً أسكت دمعة طفرت بالرغم مني لذكرى باحثة البادية رحمها الله، تلك التي كانت تملأ البلاد نصحاً وتعد في سبيل النهوض أكبر قائد فقد سبقتني إلى هذين الاقتراحين في المؤتمر المصري المنعقد سنة 1911.
أما حال الأقلية التي أشرت غليها فهي:
تنقسم تلك الأقلية إلى قسمين القسيم الأول يقضي أغلب الوقت في المدن الكبرى مع أسرهن ويتعلمن كما تتعلم فتيات المدن وهن إن كن أقل سفوراً من القرويات غير أن علمهن ووقوفهن على أسرار كثير من العلوم الحديثة وواجبات الحياة الاجتماعية بديل مما فقد ولهذا أدعهن في صف نساء المدن لأن حالهن واحد.
أما القسم الثاني فهو المظلوم حقاً: وهو الذي يجب الإسراع في تحريره وعلاج أسقامه؟ تلك أقلية من الأسر الريفية أكثر مالاً أو أقوى عصبية من سواها نرى أن عزها في الحجاب الشاق ومنهن من يجبرن على المكث في منازلهن حتى يبقين غير عالمات بشيء مما يحيط بهن ولو اقتصر الحال على ذلك لسكتنا ولكنه يتعداه إلى تحقير التعليم فيرون من العاب الذميم تعليم الفتيات.
من هنا تذهب الفتاة ضحية الجهل والظلم.
وفي المقالة الآتية إن شاء الله تتمة الموضوع
محمد محمود جلال