مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/باب النقد
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/باب النقد
ديوان ابن الرومي
ما كاد عدد البيان الذي نبهنا فيه إلى شرح هذا الديوان ينتهي إلى الأدباء حتى تتابعت إلينا كتبهم ورسائلهم يستزيدوننا فيها من القول ويسألوننا يسط الكلام عن معاني الشاعر وإصلاح ما زل فيه قلم الشارح الجليل، فتناولنا الكتاب ولم نكد نتصفح جانباً قليلاً منه حتى سئمت النفس وفتر النشاط وكاد القلم يترضض من كثرة ما عثرنا به ومن كثرة ما فتح لنا الشارح من الحفر. . .
ونحن مبينون شيئاً مما استدركناه على أن نتجاوز عن الهفوات الصغيرة وما إليها من الهنات التي يمكن تأويلها والتمحل في مناقشتها والمماراة فيها، ونترك ما وراء ذلك من سائر الكتاب لمن عساه يتفرغ له من الأدباء وأهل الاطلاع فإن وقتنا وصبرنا كلاهما لا يتسع لما بقى والله أعلم به كم هو وما هو؟
قال ابن الرومي ص 6
وجاهل أعرضت عن جهله ... حتى شكا كفى عن الشكوى
قال الشارح: أي ورب سفيه صددت عن سفهه ولم أشكه حتى شكى امتناعي عن أن أشكوه: وليس كذلك المعنى، إنما يريد الشاعر أنه أعرض عن جهل هذا الجاهل فلم يجبه ولم يأبه له ولا تألم لهجائه فصار عدم تألمه لذلك السفيه ألماً وهذا معني مشهور وهو الذي أراده بشار بن برد حين قال - هجوت جريراً في حداثتي فلم يجبني ولو أجابني لكنت أشعر العرب. (وفي صفحة 7)
إن من السلوى لخيلولة ... توهمني البلوى به بلوى
قال الشارح: السلوى ما يسلى الإنسان ويصرف عنه همومه ثم قال في معنى البيت إن مما يزيل عني الكدر في أمره أني ظننت أنه بلوى حقيقية فإذا أنا واهم وهو تفسير مضطرب كما ترى وصواب البيت (إن من البلوى لخيولة) يريد الشاعر أنه لو توهم أن ابتلاءه بهذا الجاهل مما يصح أن يعد في البلاء لكانت هذه الخيلولة هي البلوى على الحقيقة لأن الرجل سفلة مستهلك لا يقام له وزن ولو على الظن (وقال ابن الرومي صفحة 8)
وما فاته في الصوم فطر لأنه ... مدارس علم والدارس غذاء ولا فاته في الفطر صوم لأنه ... مواصل صوم عقبتاه سواء
قال الشارح: المعنى أنه لا يقطع الصوم في غير رمضان وكل نوبة من صومه مماثلة للنوبة الأخرى. . . قلنا فكأن الرجل صائم الدهر مواصل في صومه فإذا كان كذلك فما مماثلة كل نوبة من صومه للنوبة الأخرى؟ إنما أراد الشاعر أن ممدوحه على صومه في رمضان يفطر النفس لأن الدرس غذاء الروح وعلى فطره في غير رمضان صائم اللسان عن الفحش والهجر والهذر وصائم النفس عن المعاصي وثواب هذا الصوم يعدل ثواب الآخر.
ثم أهدى لنا الفواكه شتى ... والتحيات جل ذاك عطاء
قال الشارح: هكذا في الأصل ولعله قسم يعني أقسم بالتحيات أن هذا العطاء جليل: والصواب كالتحيات وهذا ظاهر لأن الفواكه كأنها تحايا الفصول وما زال الناس يحيي بها بعضهم بعضاً، وعلى أنها والتحيات فلم لا تكون معطوفة على الفواكه عطف تفسير (وفي صفحة 11) بعد قول الشاعر في صفة الموز:
يشهد الله أنه لطعام ... خرمي يغازل الحسناء
وهو البيت الذي صححناه في العدد الماضي:
نكهة عذبة وطعم لذيذ ... شاهداً نعمة على نعماء
والصواب على ما يظهر أن الشطر (ساعدا نعمة إلى نعماء) ومن عادة ابن الرومي أن يكرر ألفاظه ومعانيه وأساليبه كما اتفق كثيراً وقد قال في صفحة 44:
ما تعرفت مذ تعيفت طيري ... غير نعماء ظاهرت نعماء
فهذه هي مساعدة النعمة للنعمة التي أرادها في البيت والمعنى أن نكهة الموز العذبة وطعمه اللذيذ ساعدا نعمة المغازلة الخرمية. . . إلى نعمة الحس والتمتع به، (وفي صفحة 12).
إني للحقيق بالشبع السا ... ئغ من أكله وإن كان ماء
قال الشارح: يعني أنني الجدير بأن أشبع من أكله الهنيء وإن كانت مادته مائية قليلة الغذاء: وما نعرف أحداً يقول إن مادة الموز قليلة قوام الغذاء بل الموز كثير التغذية حتى قدروا أن مقداراً منه كمقدار من اللحم سواء، وإنما غرض الشاعر أن هذا الموز لحسن إساغته وانسرابه في مجاري الحلوق لا يقال في شبعت من أكله وإنما الحق أن يقال من شربه لأنه على ذلك أشبه بالماء منه بالطعام (وفي صفحة 18) في معاتبة أبي القاسم الشطرنجي.
أترى الضربة هي التي غيب ... خلف خمسين ضربة في وحاء
قال شارحنا: الذي أراه أن الخلف هنا بضم الخاء اسماً من الاخلاف وهو التكذيب في المستقبل والوحاء العجلة والإسراع ومعنى البيت أترى أن الضربة والنكاية التي هي في الغيب ولم تحصل بعد مخلفة لعاداتك في خمسين ضربة حصلت قبلها وكلها في غاية العجلة والإسراع، وهذا عجيب من الشيخ وكان خليقاً به إذ يجهل لعب الشطرنج أن يفزع إلى أخ له من خريجي دار العلوم وأحد أساتذة آداب اللغة القائمين بدراستها في إحدى المدارس العالية اليوم قد حذق الشطرنج وشأى فيه شأواً بعيداً وكاد يلزّ مع أبي القاسم هذا في قرن فيسأله عما يقصد إليه الشاعر، ولو أن الشيخ لم يعود نفسه شرح أبيات القصيدة من القصائد حتى يستوعبها كلها لرأى تفسير هذا البيت في صفحة 26 عند قوله:
أترى كل ما ذكرت جلياً ... وسواه من غامض الأنحاء
ثم يخفى عليك أني صديق ... ربما عز مثله في الغلاء
فالشاعر يريد أن صاحبه الشطرنجي يرى الضربة الأخيرة التي تقتل الشاه ويكون عندها الفصل في اللعب من وراء خمسين ضربة يرمي بها خصمه دراكاً لا يتأمل ولا يفكر لقوة ذهنه ومهارته وبصره بأوضاع الشطرنج وحفظه لهجاء هذه الرقعة، وتلك من صفة أبطال هذه الساحة لا يشتهرون إلا بالحفظ وسرعة اللعب مع الإصابة والسداد (وفي صفحة 19 - في الشطرنجي أيضاً -).
قال الشيخ: ومعنى البيت على ما يظهر لي أنك تعلي من تشاء وتضع من تشاء.
وليس هذا المعنى مما يقصد إليه مثل ابن الرومي، إنما يريد الشاعر أن صاحبه لقوته في اللعب وثقته بنفسه يترك لخصمه رخا أو فرزانا ويناقله بالباقي ومع ذلك لا يغلبه خصمه، بل يزداد شدة استعلاء كما تقول لمن هو أضعف منك أصارعك بيد واحدة وأنت تستعمل يديك معاً، وعلى ذلك يكون اشتقاق يحط من الحطيطة لا من الحط وكثيرون من المشهورين في اللعب بالشطرنج لا يلعبون إلا كذلك أي بدون رخ أو بدون فرزان ولا يزالون كذلك إلى اليوم.
وفي صفحة 20
وأرى أن رقعة الأدم الأح ... مر أرض علائها بدماء
قال الشارح في معنى عللتها: يعني وأظن أن سطح الشطرنج الذي لونه أحمر أرض أهرقت عليها الدماء لتلهيها بها: ولا معنى لهذا التعليل والصواب بللتها كما هو ظاهر.
وفي صفحة 21 - في هذه اللعبة أيضاً -
تقتل الشاه حيث شئت من الرق ... عة طباً بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينك في الدس ... ت ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظه ... ر بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرناً يولي ... وهو يردي فوارس الهيجاء
قال الشيخ: الدست المقصود به هنا صدر الرقعة: وليس ذلك صحيحاً بل الدست الرقعة نفسها وهو في الأصل دست القمار، يقولون للغالب تم له الدست وللمغلوب ثم عليه الدست فابن الرومي يصف صاحبه في هذه الأبيات بأنه لحفظه وذكائه يلعب على الغائب، وهذه صفة جماعة اشتهروا في تاريخ الشطرنج وعلى ذلك قوله في صفحة 22.
تقرأ الدست ظاهراً فتؤدي ... هـ جميعاً كأحفظ القراء
قال الشارح: أي تقرأ الرقعة عن ظهر قلب فتلقيها إلقاءً جيداً الخ: ولا معنى لهذا وإنما هو ما يسمى في بعض كتب الأدب التي تتكلم عن الشطرنج باللعب على الغائب أو اللعب غائباً وكيفية ذلك أن أقوى الخصمين يستدبر الشطرنج فلا ينظر إليه ولا يرى كيف ينقل خصمه بل يكتفي برسم الرقعة وما عليها في ذهنه لأن ذلك في حافظته من كثرة اللعب والمران عليه ثم ينقل الخصم فيقال لهذا الغائب بنظره عن اللعب نقل كذا فيتمثل النقل في ذهنه ثم يشير بما يريد وهكذا حتى تكون الغلبة له أخيراً مع أنه لم ينظر شيء، ويقال إن في مصر اليوم من يلعب بهذه الصفة بعد أن يحكموا رباط عينيه، ولعل أحداً من القراء يوافينا بحقيقة ذلك.
وقال في هذه الصفحة:
رؤية لإخلاج فيها ولولا ... ذاك لم تأت صحبة ابن بغاء
وهو موسى وصاحب السيف والجي ... ش وركن الخلافة الغلباء قال الشارح في شرح موسى: لعله يريد أنه الحاكم الأعظم صاحب الكلمة النافذة على حد قول الشاعر.
إذا جاء موسى وألقى العصا ... فقد بطل السحر والساحر
الخ الخ: وهذا عجيب جداً بل أعجب من كل ما مضى فما هو موسى العصا ولا هو الحاكم الأعظم وإنما هو موسى بن بغا القائد التركي، وبغاء بفتح الباء لا بالضم كما ضبط الشارح هو أبوه وهو صاحب وصيف المشهور وفيهما وفي المستعين يقول الشاعر:
خليفة في قفص ... بين وصف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
وفي صفحة 26 - أترى كل ما ذكرت جلياً البيتين -
قال الشارح: المعنى أترى كل كلامي واضحاً وغيره خفياً الخ: وذلك تابع للخطأ الذي سبق بيانه في صفحة 18 وإنما غرض الشاعر أترى ما ذكرته جلياً وترى سواه أيضاً من الأمور الغامضة ثم يخفى عليك الخ يريد المبالغة في توجيه الحجة عليه فإن الذي يرى الأمور الغامضة كلها جلية كيف يخفى عليه صداقة الشاعر.
وبعد فإنا نكتفي بهذا المقدار في هذا العدد فإن لسعر الورق سلطاناً لا ندحة لنا من النزول على حكمه.