مجلة البيان للبرقوقي/العدد 21/عالم الحرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 21/عالم الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 10 - 1914



مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم

وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره وأسرار حياته وبدائع جنونه وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق ولا يمازجها أثر من التخيل أو الزيادة أو التوسع أو الأطناب.

والكاتبة الوصيفة من الكونتسات، أعنى من السيدات النبيلات - تقول في مقدمتها ليس لي مأرب شخصي من هذه المذاكرات ولا أسباب عندي في وصف ما رأيت من العيشة البلاطية وشاهدت فإذا كانت قد احتوت جملة من الغرائب واشتملت طائفة من المضحكات، وهدمت كثيراً من الآراء الثابتة عند القراء وكشفت عن أسرار عجيب هي على النقيض مما أصبح تاريخاً مقرراً مشهوراً، إذن فليذكر القارئ أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال وأن التاريخ ليس إلا كذبة مزخرفة - ولست ذاكرة إلا الحوادث التي وقعت تحت عياني، أو التي استقيت من شهود ثقات، وأما الحوادث التي وقعت قبل تتويج الإمبراطور فسأضطر إلى نقلها من أحاديث أهل البلاط ورواياتهم.

فكاهات كثيرة من جنون الإمبراطور بنفسه - تغزله في النساء أمام زوجته وأمام الحضور حتى ولو كان بينهم رجالهن - غيرة الإمبراطورة وأمثلة مضحكة عن ذلك، تحدث غليوم عن نفسه واعتباره كل شيء في ألمانيا ملكه - إعلانه عن نفسه - غرامة بأيدي النساء حتى العجائز والدميمات - واقعة حال بينه وبين سيدة.

علمتني الأعوام الطوال التي عرفت فيها الإمبراطور وعشتها على مقربة منه إن اعتقد أن الإمبراطور لا يجب أن يسأل عن كثير من أمور إدعائه وزهوه وقسوته وتقطيبه، لأنه لا يستطيع أن يتمالك نفسه من إتيانها، فهو لا يهتم بأحد إلا نفسه ويعد الناس والجماعة شيئاً لا يعني به ولا يحفل حتى لكأنه لا يشعر بوجود إنسان ما بجانبه.

فإذا خرج يوماً وزوجته في نزهة طيبة على متون الجياد، ثم حدث للإمبراطورة في الطريق حادث عاقها عن اللحاق به، لم يكن من غليوم إلا أن يتابع سبيله إلى الوجهة التي يريدها هو ورفقته وحرسه وراضة جواده، غير مكترث أبداً ولا مهتم ولا حافل ولا مخفف من سرعته حتى يمكن الإمبراطورة من مداناته، يكفي أن لدونا (اسم زوجته) وصفاءها ونساءها وحاشيتها، فليهتموا لها هم وليعتنوا.

وقد يلتقي الإمبراطور بامرأة لعلها زوجة أحد الضباط الجدد في محفل أو مأدبة فيعجب بجمالها ويشغف بحسنها، إذ ذاك لا يتأخر دقيقة واحدة عن التصريح بذلك أمام الحضور، مسترسلاً في مديح تقاطيعها، مكثراً من التنويه بوجوه حسنها، إن كانت رخصة اليد ناعمتها، أو كاعبة النهد بارزته، فإذا عمدت الإمبراطورة - وعلى رضاها يتوقف مركز كل امرأة في البلاط - إلى اسم السيدة التي نالت إعجاب الإمبراطور فمحته من قائمة زوار القصر، لم يظهر كذلك أقل اهتمام، فكأنما يرى الإمبراطور أن الشرف قد يعود فينبت ثانياً كما ينبت الشعر.

هذه مدام بوكن مثلاً، كانت عند الإمبراطور في مقياس الجمال آية الآيات ولذلك كم أكثر من الكلام عن يديها وقدميها، وكم أسهب في التشبيب بساعديها وكتفيها. بل كم زين حجرة مكتبه (بفتوغرافياتها) وزوق غرفة نومه وحجرة استقباله بعدة من صورها، ولكن السيدة نفسه لم تجز يوماً عتبة القصر، على الرغم من أن رئيس البلاط يضع اسمها في رأس القائمة سنين عدة عند كل حفلة تقام أو مأدبة تؤدب والسبب في ذلك أن الإمبراطورة وضعت يدها في القائمة فخابت مدام بوكان في كل شيء.

وهذه حادثة (فيلما بارلاغي) المصورة لا تكاد تفترق عن الحادثة المذكورة، فإن الإمبراطور أعلن عنها أكبر إعلان ونوه بها أعظم تنويه، وجعل يغدق عليها الأوسمة الذهبية و (المداليات) على الرغم من احتجاج جمعية الفنون الجميلة وعلى كره من مجمع برلين، وقد دعاها آخر الأمر لترسم بريشتها صورته فجاءت إلى القصر ولكن لشد ما أضحكني ذلك المنظر فقد أبت الإمبراطورة إلا أن لا تفارق زوجها لحظة واحدة وجعلت تجلس إلى جانبه في كل جلسة يريد تصويره عليها، وطفقت تمعن في وجه الرسامة الحسناء لكي تخجلها ولا تمكنها من إجادة عملها وإظهار براعتها فكنت أضحك في نفسي كما رأيت حيرة المصورة وأنا أتقدم أمام جلالتيهما إلى حجرة التصوير.

وأما عن تحدث الإمبراطور بنفسه واعتباره موارد الحكومة وأملاكها وثروتها كملكه الشخصي فحدث ولا حرج، كل شيء ملكه، (جيشي) و (بحريتي) و (ثغوري) و (حصوني) و (أموالي) و (وزيري) و (مستشاري) تلك عبارات نسمعها من فمه كثيراً بمثل اللهجة التي يقول بها (جوادي) و (أولادي) و (خطبي).

وإعلانه عن نفسه قد يلبس لباس المروءة والكرم فقد كان وجهه مشرقاً بضياء الفرح والزهو يوم أنبأ البلاط في حادثة حريق معرض باريس بأنه بعث صكاً بعشرة آلاف فرنك إلى لجنة مساعدة منكوبي الحريق فكأنما كانت تقول عيناه إن العالم بأسره سيتحدث ولا ريب عنها، أفي وسع رجل أن يعمل أكثر من ذلك لعدو أهلي؟.

وفي مساء ذلك اليوم، حتى قبل أن تعلم الصحف بأمر الاكتتاب جاء الإمبراطور رسالة برقية من سفيره في باريس تقول سيحملون جلالتك على باريس سنة 1900 في موكب فخم عظيم.

ولكن لم يكد يمضي شهر حتى عم السيل مقاطعة ورتمبرج وخرب منها ما خرب فلم يجد الإمبراطور مالاً عنده أو كلمة عزاء يدفها إلى المنكوبين والمحزونين!.

واللاتي وقع غليوم في حبهم اشتهرن بنعومة أيديه ورخصها وبضاضتها وتناسب أجزائها وحسن منظرها، وترى الإمبراطور لا يريد أن يحفل بأية غادة يتلقي في المحفل، اللهم إلا إذا كانت ناعمة اليد حلوتها، حتى ولو كان لها مع ذلك منقار النسر أو ثدي الدجاجة أو حدبة الأحدب، وإنه ليجاذبها إذ ذاك أطراف الحديث ويأخذ في التشيب بجمال يدها، فإذا قامت لتنصرف قبل يدها تقبيلة واحدة إذا رأى من الحضور أعيناً راقبة، وعشر تقبيلات إذا لم يكن ثم رقيب.

ثم لا عجب أن يكون لبس القفازات في القصر أمراً إجبارياً على نسائه ووصيفاته فإن الإمبراطورة، ولم ينعم الله عليها بجمال اليد ونعومة الكف، تحظر على نسائها ترك القفاز أو نسيانه، ولكن ترى الإمبراطور في بعض جلسات العشاء بعد مرقص أقيم أو غناء صدح يسأل دائماً بعض سيدات البلاط والزائرات أن يخلعن عنهن قفازاتهن. وقد قال يوماً على المائدة (إني لا تأفف من اليد والزند المختفيين، وراء القفاز تأففي من السيدة في ردنجوت تتبرقع!).

واعلم أن الإمبراطور وإن كانت تهفو نفسه في أثر اليد الناعمة والكف الحلوة إلا أنه ليجن غراماً إذا زانها زند بديع ومعصم جميل. وهو على أنه ليس بالرجل الجواد الكريم تراه السريع البذل الأريحي في انتخاب الهدايا والتحف لمن يرى من النساء الناعمات الأيدي الجميلة المعاصم، ثم هو لا يشترك في حفلات توزيع مشابك الصدر والقلائد والعقود على سيدات القصر وغانياته وإنما يخف إلى توزيع الخواتيم والأساور ويخلعها عليهن بيده.

وقد وصفت سيدة من ذوات الألقاب في القصر واقعة حال في هذا الشأن بينها وبين الإمبراطور قالت: (أمرني يوماً جلالة الإمبراطور أن أحضر إلى قصر برلين وكان أهل البلاط جميعاً متغيبين في قصر بوتسدام وأن أجيء منتقبة حتى لا يعرفني أحد.

فلما دخلت حجرته الخصوصية إذا به في بهرتها ولم يكن وجهه شاحباً كعادته فقال لي: (اخلعي عنك خمارك وسترتك) وكانت تبدو عليه علائم القلق، وكنت يومذاك في قميص رفيع ذي كمين حتى المرفق يزينهما حاشية طويلة من الدنتلا.

قال الإمبراطور وأنا أخلع القفاز يا الله، إنه لشيء جميل! ثم عمد إلى سجف هناك فانتخب من بين عدة من صناديق المجوهرات صندوقاً كبير الحجم فأخرج منه سواراً على شكل الأفعى فمده إلى آخر نطاقه وقلده ذراعي فامتد فوق المرفق، وعند ذلك شكرت للإمبراطور هديته فجعل يقبل ساعدي مرة بعد مرة بين حلقات السوار وتعرجاته ثم ختمت السيدة اعترافها في ابتسامة ساذجة طاهرة (والذي أدهشني أن جلالته كان يلعب بأصابعي ويعبث طول الوقت!).

لله سذاجة تلك الغانية: لقد ظننت ولا تزال إلى اليوم تظن أنها أول سيدة ظفرت بلعب هذه الكوميديا الجميلة، وما درت أن هناك في برلين وبوتسدام وكييل وبرسلو وكونجسبرج عشرات أمثالها من النساء والعذارى والفتيات لا يزلن يحتفظن بطرائف مثل طرفتها نلته من كف الإمبراطور، ولكنهن لسن جميعاً ثرثارات مثلها ولا ينسى الإمبراطور أبداً يد قبلها يوماً وإن بعد بها العهد، وهذه الذاكرة القوية مما يحدث في نفس الإمبراطورة زوابع من الغيرة المرة المؤلمة، وقد يكونان معاً في المركبة إلى نزهة جميلة وإذا بالإمبراطور قد قطع على زوجته الحديث يقول انظري يا (دونا) إلى يد هذه المرأة، أليست هي السيدة التي رأيناها في مكان. . . إنها لمليئة بريشة المصور!.

وللقارئ أن يتصور لنفسه مقدار غيرة الإمبراطور ومبلغ غيظها وحنقها.

(اقرأ في العدد القادم قطعاً أخرى مختارة من هذه المذكرات)