مجلة البيان للبرقوقي/العدد 18/أخبار وحوادث
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 18/أخبار وحوادث
الفقيد العظيم
ليس هناك خسارة أشد على الأمة وأفدح. ولا نكبة أدمى لقلبها وأجرح من موت الرجل النابغة العظيم. وناهيك بمصاب قد يعوق الأمة عن سير رقيها الاجتماعي. ويرجع بها خطوات كبرى تقدمتها. وبسلبها فوائد عظمى اكتسبتها. وبفقدها رجلاً مكتملاً بين ملايين ليس سوادهم كذلك - ويحرمها من عقل كبيرين عديد عقول عادية. ويسرقها صنفاً من رجالها عزيز الضريب. منقطع النظير لا أوان لظهوره يعرف، ولا حين له يرتقب. وإذا أنت علمت ذلك فلا جرم أن ترى الأمة المصرية اليوم في حزن عام واسى شامل. لوفاة رجل من أنبغ نوابغها. فقدت بفقده عقلاً ناضجاً. على حين ترى أكثر عقول الأمة لا تزال نيئة فجة، وقلما مبدعاً وأين في الأمة الأقلام المبدعة، ورأياً ثاقباً ساطعاً وأين الآراء الثاقبة الساطعة. وكيف لا تشهد العيون بالعبرات شارقة واكفة. وكيف لا تكون القلوب من لوعة الأسى واجفة راجفة. وفقيدنا نابغة القضاء. ونابغة الكتاب. ونابغة المعربين. المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا. وكيل نظارة الحقانية بالأمس.
والبيان وصاحبه من فقده في حزنين بالغين. ورعن شجنين عظيمين. نبكيه لأننا من أفراد هذه الأمة الباكية عليه. ونأسى عليه لأنه كان لنا الصديق الحميم. والعون العظيم. والنصير الذي لا تخيب نصرته. والعضد الذي لا نقدر مساعدته. وقد كان رحمه الله قبل مرضه بأيام يتأهب لافتتاح مشروعنا أبطال العالم بالكتاب عن فيلسوف من فلاسفة الفرنسيين. وقد بلغ من عنايته بهذا المشروع أن تباحث كثيراً مع الأستاذ لطفي السيد بك في الخطة التي سينهجها في الكتابة على البطل الذي وقع عليه اختياره. ولكن حم القضاء. ولا مرد لقضاء الله.
أما وقد جمد القلم الآن في أيدينا كما جمد الجمع في مآقينا. فإنا تاركون للأستاذ لطفي السيد بك التعبير عن شعورنا بكلمته التاريخية الآتية. إذ كانت أجمع كلمة في تقدير ذلك لفقيد العظيم: قال الأستاذ: أيها السادة:
إن أحمد فتحي باشا زغلول هو أصغر أمجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان إبيانا ولد في تلك القرية في 4 ربيع الأول سنة 1279 هجرية. مات أبوه رحمه الله إذ كان رضيعاً وكان شقيقه سعد زغلول باشا فطيماً، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهرية بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين. فقامت على ولديها ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيهما المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان. تعلم فتح الله الصغير في كتاب البلد ثم في مدرس رشيد ثم المدرسة التجهيزية ثم في مدرسة الألسن فاتفق أن زاره المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري وأعطاه اسمه (أحمد) ونحت من (فتح الله) فتحي وأصدر أمراً رسمياً إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي وبأن يرد إليه ما دفع من المصارف وباعتباره طالباً مجانياً. فلما كانت 1884 أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة 1887 ووظف بقلم قضايا الحكومة ثم رئيساً لنيابة أسيوط ثم رئيساً لنيابة اسكندرية ثم مفتشاً بلجنة المراقبة فرئيساً لمحكمة الزقازيق ثم رئيساً لمحكمة مصر ثم وكيلاً لنظارة الحقانية وظيفته الأخيرة التي مات وهو قائم بها.
كان فتحي باشا كما سمعتم اليوم وقبل اليوم وكما قرأتم في التقارير الرسمية مثال الموظف الفاني في الاشتغال بأداء واجباته القائم بعمله وعمل غيره أحياناً ولم يمنعه ذلك من أن يكون معرباً ممتعاً أميناً ومؤلفاً كبيراً. عن هذا الصوف ومن هذه الجهة وقفت أمامكم أؤبن فقيد العلم والعلماء.
أيها السادة:
إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص. تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجع معظمها إلى التأثير الورائي من أبويه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل على الفرع، وبما تعهدت أمره في التربية وما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
لا يأخذكم العجب في قولي فإن من أمهاتنا نحن القرويين من هن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارفة على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق سليم في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات. ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي فتكون لهم مال في الحياة العملية. ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل. ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارك زمناً طويلاً ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتواضعة في بلادنا. فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعاً لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية فللأمهات القرويات أن يقبلن أيضاً شكر الجيل الحاضر. وعلينا أن نعترف علناً ومن غير تردد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى. وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصر نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل. ونابغة فقدناه آسفين. فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعاً.
إن الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحدة المشاعر هن أساس نبوغه. كان يحمل نفساً على قوتها الهائلة رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مناها. وهيهات أن تبقى طويلاً أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تلائم بقاءها ونجاحها. وهيهات أن تبلغ مني. كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد.
تعلم فتحي فصادقت القواعد العلمية من عقله مقاماً رحباً وقرت فيه أصولها ووجدت منه نفساً طلعة قوية في مركزها ميالة للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديه صوتها الخفي: إن وف حق العلم. وآت زكاة النبوغ فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير. أقدم على هذا المركب الخشن وكان الواجب عليه أن يقدم لأنه استكمل عدة الأقدام: زكاة مضيء وعقل عاصم وعلم هاد ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة وقلم سيال ومركز نبيل. كيف لا يكون مقداماً من جمع بين كل هذه الأسباب.
لا أكاد أبريء فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو التعريب وأيهما أنفع. وإذا كان التعريب فعلي أي نوع يقع الاختيار. حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تضطرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.
نظر فتحي نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها فرأى أننا أحوج ما نكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي نبغي الوصول إليه من نظاماتنا السياسية والاجتماعية حتى تتحد أطماعنا الوطنية على طريقة عامة واضحة.
ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلميون هي نقل العلم إلى أوطانهم بالتعريب. إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.
هذا النظر المزدوج كان رائد فتحي باشا في تعريبه منذ خرج من المدرسة إلى أن مات. فإنه بدأ في سنة 1888 يعرب (العقد الاجتماعي) لجان جاك روسو فلم يتمه ولكنه عرب بعد ذلك (أصول الشرائع) لبنتام. و (خواطر وسوانح في الإسلام) للكونت هانري دي كاستري و (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) لأدمون ديمولان و (روح الاجتماع) و (سر تطور الأمم) لجوستاف لوبون. و (خطاب مصطفى فاضل باشا) نشر ذلك مع معرباته. وله فوق ذلك (جوامع الكلم) لجوستاف لوبون وكتاب بورجار في الاقتصاد السياسي. و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون. و (جمهورية أفلاطون) و (الفرد ضد المملكة) لسبنسر. وكلها لم يتم تعريبها وأما مؤلفاته المنشورة فهي كتاب المحاماة ورسالة في التزوير وشرح للقانون المدني وقد ألف أخيراً كتاب (في التربية العامة) كنت أعلم أنه قد تم ولكنه لم يطبع.
قرأت معرباته المنشورة. وتفحصت من غير المنشورة. وأستطيع بعد ذلك أن أقول من غير تردد إن فتحي كما كان نابغة في الفقه كذلك كان نابغة في التعريب يمسك الكتاب يقرؤه أولاً ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين. ومن التعاريب ما يترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته فلا يكون لها التأثير المطلوب إلا معربات فتحي فإنك تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق.
لفتحي باشا تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني.
أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل ولا مجافاة الأصل. ولكن نحوه بين ذلك وسط مرضي.
أما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضله الزخرف والمحسنات اللفظية ولكنه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً.
لم يكن فتحي باشا يعرب ليعرب. ولا طلباً للشهرة أو المال من وراء التعريب. فإنه ليس سبيلهما في بلادنا العلم والكتابة وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفايته التي ما كانت يوماً واحداً موضعاً للشك من أحد سواه في ذلك أصدقاءه وحساده عارفوه وغير عارفيه. ولكننا إذا جمعنا معرباته دلنا مجموعها على أن فتحي كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.
غرضه نشر مبادئ الحرية. حرية الفرد. وحرية الأمة. وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعاً إلى اتخاذ مثل أعلى قبله لهم في أطماعهم الوطنية. أنه منذ سنة 1888 كان يرى الأمة تتقلب في أغراض أحياناً متعاكسة ودائماً مبهمة فكان يسيئه هذا المنظر ويود لو أن الشعور الوطني - الذي كان وقتئذ في خدر مستمر - يولى وجهة قبل الاستقلال على نحو منتج. كان يود لو أنهم يدركون أن إبهام الغرض وعدم إدراكه بوضوح يجعله مستحيل المنال. لذلك أراد أن يقدم للجمهور (عقد الاجتماع) لروسو حتى يتبين الجمهور حق الفرد وحق الأمة وما يجب أن يكون لها من السلطان. وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من تعريبه مبلغاً كبيراً، ولكنه أصدر بعد ذلك تعريب بنتام في أصول الحقوق والواجبات. حتى جاء الزمن الأخير وظهر الشعور الوطني بمظهر جميل ولكن لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف وما للصحف إلا ترجمان الرأي العام. ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهد أشفق على حرية الأفراد وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية فإن الناس لم يقصروا في طلبتهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة بل أخذوا مع ذلك كله يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء. ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء والفرد لا شيء. الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للأفراد شأن في تنصيب الحكومة. وإلا فإنما نهي اشتراكية معكوسة النتائج. فأخذ فتحي باشا عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم ويبين لهم أن تربية الشخصية هي التي كانت (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) يطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء وأن لا يفنوا شخصيتهم فيفني وجودهم. واستطراداً في هذا النظر تصدى إلى تعريب (الفرد ضد المملكة) وتعريب روح الاجتماع وسر تطور الأمم. كل ذلك ليبقي في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول فينتفعوا بتجارب الأمم.
أيها السادة: إن التوفيق بين منتخبات فتحي باشا للتعريب ينتج فوق ما قدمنا أنه كان يعتنق مذهب الحربين سواء كان ذلك في التربية والتعليم أو في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضاً لأنه لو كان اشتراكياً في الاقتصاد لما عمد إلى ترجمة بورجار بل لكان عمد إلى ترجمة أحد الاقتصاديين الاشتراكيين الظاهرين بالاشتراكية.
ولو شئنا أن نبين عقائد فتحي باشا من منتخباته ومن أحاديثه لضاق بنا المقام ولكني أكتفي الآن بالإشارة إلى أن بين اختيار فتحي لتلك المؤلفات وبين مذهبه الحري في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسباً متصلاً جد الاتصال.
حسبي الإشارة إلى ذلك وإلى أن فتحي باشا كان ذا مبادئ ثابتة وطرائق معينة في كل شيء. فكما أنه ابتداء في خدمة العلم بالابتداء الطبيعي وهو نقل العلم إلى البلاد كذلك كان يرى أن البدء في الارتقاء الاجتماعي والسياسي لا يكون بأخذ ثمرات آخر تطور للمبادئ الاجتماعية والسياسية في الأمم التي تمدنت من قبلنا. ولاشك في أن إدخال المبادئ الاشتراكية في آخر تطورها الحاضر على أمة ناهضة من عقال الاستبداد نتيجته اضطراب خطر قد يكون ضرره أكثر من نفعه.
من ذلك نأخذ أن فتحي باشا كان رجل ارتقاء لا رجل ثورة. إنه كان يكره الثورة - بعد سن الرجولة بالضرورة - يكرهها بكل مظاهرها حتى الفكرية منها فكما أنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه. كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية هو ما كان لبينه وبين طبائعه وعاداته نسب تكمل ما فيها من نقص وتقوم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يستسر بهذه الآراء الحرة العريقة في الحرية: فإذا لم يكن نشرها ليتفق مع مركزه في الحكومة فلقد نشرها بالتعريب والعقل ليرضي دواعي ضميره وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة من معرفة الحقوق والواجبات. فليس فقيدنا رحمه الله من أرباب المناصب. بل هو على ذلك من أرباب المذاهب ومن هو كذلك من شأنه أن يكون شقياً بفرضين معذباً ضعفين. يكاد لا يكون له من وقته شيء. فهو مقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة وبين خدمة العلم يعمل لها بالتأليف والتعريب شطر الليل وأحياناً طوال الليل ومدة العطلة فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة فيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غداً، نعم كان المؤلف فتحي يعتقد أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح لا بعدد السنين.
يكاد كلامي يلقى في الأذهان من فتحي باشا صورة عالم استغرقته أغراضه وشغلته همومه فزهد في الجمعية وفرط في القيام بالاصطلاحات المدنية. كلا إن فتحي باشا على ذلك كان مترفاً في عيشته متأنقاً في مظاهرها المختلفة. كثير الاختلاط لا تفوته عيادة مريض من أصدقائه ولا رد لزيارة ولا مواساة معارفه في أحزانهم. كذلك لا ينقبض عزمه عن شهود حفلة أنس. ولا تلوى به همومه ومشاغله عن الاعتناء باقتناء التحف والطرف وتعرف أوضاع الجمال حيث كان رحمه الله كان على علمه العميق ومنزلته العالية رجلاً غاية في الوداعة والظرف.
من ذلك يظهر لي أن فتحي باشا كان يعتقد الحياة الفردية كلا واحداً من حقه أن يكون متعادلاً في جميع مظاهره. وأن اعتدال السلوك لا يتم إلا بهذا التعادل فكما يجب على المرء أن يخدم عقله كذلك يجب عليه أن يخدم مشاعره. حتى لا تعطل ملكة من الملكات تضحية لملكة أخرى. ولا شك في أن خير قاعدة تنتج المثل الأعلى للرجل الكامل بمعنى الكلمة هي قاعدة تنمية ملكات الإنسان وقواه بنسبة واحدة.
كذلك كان فتحي باشا. وعلى هذا كنا نراه في شؤونه. غير أن الاستثناء كان يلحق لديه هذه القاعدة أيضاً. فإنه يظهر لنا من جهة أخرى أنه كان يضحي قواه الجثمانية في سبيل شهوته العلمية. وهذا المثال مع الأسف هو وقلة الحرص على المال كأنهما أمران عامان في كثير من أبطال العلم وخدمة الأوطان.
عفواً. أيها السادة. ليس فتحي في عداد الموتى الذين يؤبنون بقولة واحدة تردد لكل منهم على السواء: كان وكان. . . وعليه الرحمة والرضوان. إن فتحي ليس ملكاً لأهله وأصدقائه بل هو ملك التاريخ. وبهذا العنوان يدب علينا دراسته إنه صورة كبرى من أكبر صور النبوغ المصري بروزاً وأولاهم بالعناية والدرس. إنه رجل كبير. كبير في عقله وفي عواطفه بل في أطماعه أيضاً. وما كان يبين عليه أن اقتناء المال داخل في برنامج أطماعه. أقول وليس هو في هذا المعنى استثناء من عظماء الرجال أمثاله. أولئك الذين ماتوا ولا أصفر ولا أبيض كأنهم الأنبياء لا يورثون.
فإن لم يتركوا تراثاً فقد تركوا مجداً خالداً.
نعم إن أطماع فتحي باشا كانت كبيرة متناسبة مع كفاءته وثقته بنفسه. ولكنها لم تكن من الأطماع الشخصية في شيء، إنه كان يألم لما نحن فيه ويرجو أن يكون له من السلطة ما يسهل لقومه سبيل التقدم إلى الأمام - قد تكون هذه العلة هي العذر العام الذي ينتحله كل المغرمين بالمناصبة العالية. ولكن فتحي ليس من هؤلاء لأنه كان ينفذ الخطة التي رسمها لمشاغله العمومية فأخذ يسهل التقدم بقلمه ومن الطبيعي أن يرجو أن يسهله بعمله أيضاً فيكون بذلك قد جمع بين سبي النفع لا كصديقه روسو الذي قال لو كنت شارعاً أو أميراً لا اعتضت عن الكتابة في السياسة بتحقيق ما أقرر من المبادئ. على أنه يجب عليَّ في هذا الموقف أن أسارع إلى التصريح بأن فتحي لم يقدم بين يدي أطماعه إلا كفاءته. أما شخصيته واستقلاله في الرأي فلا دخل لهما في هذه الصفقة. بل ربما كان حجر عثرة في سبيل ارتقائه.
على أن فتحي باشا مهما كان محسود القدرة فإنه كان دائماً عمدة الحكومة في كثير من المشروعات الدقيقة التي تحتاج إلى مفاوضات بين جهات مختلفة. وموضع الاستشارة من نظارته وغير نظارته في وضع القوانين. كما تشهد به الألسن الرسمية والتقارير الرسمية.
أيها السادة - كنا نكرم فتحي باشا في نحو هذا الأوان من العام الماضي ونتوج مؤلفاته. وها نحن أولاء جئنا اليوم نؤبنه ونتأسف على وفاته. فما أقل هذا الوجود حرصاً على الرجال النابغين!.
أيها السادة - إن صورة فتحي باشا الذي اشترك في رسمها جميع خطباء هذه الحفلة الممثلين للمعاني والطبقات المتباينة صورة ندخرها عند الزمان على أنها طليعة النهضة العلمية وأثر من آثار المجد المصري الفخيم ولنكون قدوة للنابغين من أبنائنا على مر الزمان، فاللهم لعبدك الأمين في خدمة العلم رحمة ولبلاده عزاء أنك، أنت السميع المجيب.
وقال أمير الشعراء أحمد بك شوقي يرثي الفقيد العظيم: أكذا تقر البيض في الأغماد ... أكذا تحين مصارع الآساد
خطوا المضاجع في التراب لفارش ... جنبيه مضطجع من الأطواد
مالت بقسطاس الحقوق نوازل ... ومشت على ركن القضاء عواد
ورمى فحط البدر عن عليائه ... رام يصيب الشمس في الارآد
قل للمنية نلت ركن حكومة ... وهدمت حائط أمة وبلاد
ووقفت بين الحاسدين وبينه ... يا راحة المحسود والحساد
كل له يوم وأنت بمرصد ... لتصيد الأحباب والأضداد
ما كل يوم تظفرين بمثله ... إن النجوم عزيزة البلاد
يا ساكن الصحراء منفرداً بها ... كالنجم أو كالسيل أو كالصاد
كم عن يمينك أو يسارك لو ترى ... من فيلق متتابع الإمداد
ألقى السلاح ونام عن راياته ... متبدد الأمراء والأجناد
ومصفداً ما داينوه وطالما ... دان الرجال فبتن في الأصفاد
ومطيع أحكام المنون وطالما ... سبقت لطاعته يد الجلاد
ومعانق الأكفان في جوف الثرى ... بعد الطراز الفخم في الأعياد
مرت عليك الأربعون صبيحة ... مر القرون على ثمود وعاد
في منزل ضربت عليه يد البلي ... بحوالك الظلمات والأسداد
تلقي الضباع الليل في عرضاته ... واليوم في الأطناب والأوتاد
يا أحمد القانون بعدك غامض ... قلق البنود مجلل بسواد
والأمر أعوج والشؤون سقيمة ... مختلة الأصدار والإيراد
والقول مختلط الفصيح بضده ... تبكي جواهره على النقاد
وأتت علي الأقلام بعدك فترة ... فصحت وكانت مدمنات مداد
عجبي لنفسك لم تدع لك هيكلاً ... إن النفوس لآفة الأجساد
ولرأسك العالي تناثر لبه ... ونزا وصار نسيجه لفساد
لو كان ماساً ذابت أو ياقوتة ... لتحركت بذكائك الوقاد
حملته في ليله ونهاره ... هم الفؤد وهمة الإرشاد فقتلته ورزحت مقتولاً به ... رب اجتهاد قاتل كجهاد
جد الطبيب فكان غاية طبه ... تقليب كفيه إلى العواد
والموت حق في البرية قاهر ... عجبي لحق قام باستبداد
لا جد إلا الموت والإنسان في ... لعب الحياة ولهوها متماد
وليت في أثر الشباب ومن يعش ... بعد الشباب يعش بغير عماد
من ذم من ورد الشبيبة شوكه ... حمل المشيب إليه شوك قتاد
حرص الرجال على حياة بعدها ... حرص الشحيح على فضول الزاد
يا ابن القرى نالت بمولدك القرى ... ما لم تنله حواضر وبواد
غذتك من حسن المغبة سائغ ... وسقتك من جاري المياه براد
وتعاهدتك أشعة في شمسها ... ينفذن عاقية إلى الإيراد
ونشأت بين الطاهرين سرائراً ... والطاهرات الصالحات العاد
رضوان عيش في صلاح عشيرة ... في طهر سقف في عفاف وساد
فجمعت بخير نباتها ومضت به ... ريح المنية قبل حين حصاد
أمسي ذووك طويلة حسراتهم ... وأخوك ينشد أوثق الأعضاد
في ذمة الشبان ما استودعتهم ... من خاطر وقريحة وفؤاد
ورسائل لك لا تمل كأنها ... كتب الصبابة أو حديث وداد
وخطابة في كل ناد حافل ... ينصب آذاناً إليها النادي
ومعربات كالمنار وإنها ... لزيادة في رأس مال الضاد
وإذا المعرب نال أسرار اللغي ... روى عباداً من أناء عباد
العلم عندك والبيان مواهب ... حليتها بشمائل الأمجاد
ومن المهانة للنبوغ وأهله ... شبه النبوغ تراه في الأوغاد
(فتحي) رثيتك للبلاد وأهلها ... ولرائح فوق التراب وغاد
وسبقت فك القائلين لمنبر ... عال عليهم خالد الأعواد
ما زلت تسمع منه كل بديهة ... حتى سمعت يتيمة الإنشاد
وحياة مثلك للرجال نموذج ... ومماتك المثل القويم الهادي ورثاؤك الإرشاد والعظة التي ... تلقي على العظماء والأفراد
مكسوب جاهك فوق كل مقلد ... وطريف مجدك فوق كل تلاد
فخر الولاية والمناصب عارة ... كالفخر بالآباء والأجداد
ولربما عقدا نجاداً للعصا ... والصارم الماضي بغير نجاد
فافخر بفضلك فهو لا أنسابه ... تبلى ولا سلطانه الفاد
رحلة سمو الجناب العالي
راق سمو الجناب العالي الخديوي حفظه الله أن يتفقد في طريقه إلى مصطافه بالإسكندرية شؤون رعيته: ويتبين بنفسه الرقي الذي خطت إليه البلاد في عهده النضير وعصره الزاهر. ويشهد بعينه حال الأهلين الزراعية والاقتصادية.
فتفضل أبقاه الله ورعاه بالوقوف بالبلاد التي في طريقه وزيادة السراة والأغنياء في السراداقات التي أقاموها احتفالاً بأميرهم وابتهاجاً بسمو مليكهم وقد كان الوجه البحري لا بل القطر أجمعه في عيد عام وفرح عظيم وابتهاج لا يقدر بهذه الرحلة المباركة التي قام بها سمو العزيز أيده الله.
وقد انتدب سعادة رصيفنا الكاتب المفضال أحمد حافظ بك عوض مدير سياسة المؤيد الأغر لوضع سفر جليل يتناول كل ما اتصل بهذه الرحلة فنرجو له التوفيق حتى يتم هذا الكتاب على النحو الذي يبتغي صاحبه إن شاء الله.
الوزارة الرشدية
سقطت فجأة في الشهر الماضي الوزارة السعيدية. وكان من المزمع اختيار عطوفة مصطفى فهمي باشا لمنصب رئاستها، ولكن لم يتم ذلك. فأسندت إلى رجل يصلح لها وتصلح له وأكبر وزير عامل اشتهر بالصراحة والنزاهة والاستقلال وبعد الهمة وعلو النفس، هو عطوفة حسين رشدي باشا ناظر الحقانية في الوزارة المستقلة. وتألفت الوزارة الجديدة على هذا النحو عطوفة حسين رشدي باشا رئيس الوزارة وناظر الداخلية، عبد الخالق ثروت باشا ناظر الحقانية. أحمد حلمي باشا ناظر المعارف. يوسف وهبه باشا ناظر المالية، إسماعيل سري باشا ناظر الأشغال والحربية. عدلي يكن باشا ناظر الخارجية. إسماعيل صدقي باشا ناظر الزراعة. محمد محب باشا ناظر الأوقاف.
وقد اعتزم البيان أن يكتب تراجم أعضاء هذه الوزارة العاملة في الأعداد القادمة أسوة بأعضاء الجمعية التشريعية ونوابها الكرام.
الطياران العثمانيان
قدم مصر منذ أيام الطياران العثمانيان سالم بك وكمال بك فكان لقدومهما رنة فرح وابتهاج عظيمين لطول ما ارتقب المصريون وفود الطيارين العثمانيين وانتظروا حضورهما. وقد احتفلت جمعية الطيران بهما وأقيمت لهما الولائم. وأدبت لا كرامهما المآدب هذا وقد ورد على الطيارين تلغراف من الآستانة يطلب عودتهما. فتقرر أن يسافرا على الباخرة الرومانية في الثاني والعشرين من هذا الشهر (مايو).
فصل التمثيل العربي في الأوبرا الخديوية
مثلت جوقة الأستاذ النابعة جورج أفندي أبيض أربع روايات منتقاة من أبدع حسنات الدراما الإفرنجية. وهي الشرف الياباني تعريب فؤاد أفندي سليم. ورؤى بلاس لفيكتور هوجو تعريب نقولا أفندي رزق الله. وقيصر وكليوباترة لموليير القرن العشرين برنارد شو تعريب إبراهيم أفندي رمزي. والإيما لبريو تعريب صالح بك جودت، والمؤلفون من أعيان مؤلفي الدراما الغربية. والمعربون من خيرة كتَّاب مصر وصفوة المعربين وقد أجادت الجوقة أحسن الإجادة. وأبدعوا غاية الإبداع مما يدل على مقدرة الأستاذ جورج أبيض ومهارته في انتقاء القديرين من الممثلين وكان بودنا أن نعقد فصلاً مطولاً نتناول فيه نقد كل من هذه الروايات من جميع وجوهها ونبدي الملاحظات التي تراءت لنا في التمثيل ولكن ضاق نطاق هذا العدد عن احتوائه فأرجأناه إلى العدد التالي.
وقد فاتنا أن نذكر أن جوقة الممثل المتفنن عبد الله عكاشة وأخوته مثلت في الأوبرا الخديوية قبل الجوقة الأولى ثلاث روايات مؤلفة: وهي نعيم بن حازم للكاتب المجيد والمطلع المجتهد عبد الحليم أفندي دولاور. والقضاء والقدر للشاعر الفحل خليل مطران وطارق بن زياد لكاتب غير معروف. وسنقصر كلامنا في العدد القادم على رواية نعيم بن حازم لأننا لم نشهد من هذه الروايات الثلاث غيرها.