مجلة البيان للبرقوقي/العدد 16/كشكول البيان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 16/كشكول البيان

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 4 - 1914



(تفاريق علمية - وأدبية - وتاريخية - وفلسفية - وأخلاقية - وفكاهية - ونظرات في سير مشهوري العالم - وشذرات في أخبار العالم وأحداثه الحاضرة).

آدم سميث

(شيخ الاقتصاديين)

ولد آدم سميث في الخامس من يونيه سنة 1723 بمدينة كركلدي من أعمال اسكوتلندا. ومات أبوه - وكان مديراً للجمارك في هذه المدينة - قبل ولادته ببضعة أشهر فكلفته أمه وحدها وقامت على تربيته.

ولما كان ضعيف البنية وهو في سن الطفولة ازدادت أمه عناية به. ودأبت في السهر على راحته. والقيام بكل ما يحتاج إليه. وما كان سميت ليجحد نعمة أمه عليه بل قابلها بالشكر والحنان والرأفة والطاعة وكل ما يمكن للابن عمله إزاء أمه مدة ستين سنة طويلة.

ويروى أنه خطف في سن الثالثة من عمره إذ كان ذاهباً لزيارة خال له في بلدة استراشنري في صحبة أمه إلا أن الله لم يشأ أن يحرم العالم من شيخ الاقتصاد السياسي وواضعة فسرعاه ما افتقد واقتفى أثر الجانبين فرد إلى أهله.

تلقى سميت دروسه الأولية بمدرسة كركادي وكان يمنعه ضعف صحته من الاشتراك مع إخوانه في ألعابهم يومذاك. وكان محبوباً لديهم مشهوراً بشغفه بالكتب وركونه إلى الهدوء والسكون ومخاطبته نفسه منفرداً وكثرة تفكيره حتى لقد كثر ما كان يذهب فكره عن الجماعة وهو بينهم جالس. ولبث بكركادي حتى سنة 1737 ثم ألحق بجامعة جلاسكو ومكث بها ثلاث سنوات وانتقل منها إلى أكسفورد حيث درس على أساتذة جامعتها سبع سنوات متوالية. وكان شديد التعلق بالرياضيات والفلسفة الطبيعية مدة وجوده بجلاسكو إلا أن أمياله تغيرت عن انتقاله لأكسفورد فتحول ميله إلى الأديان والعلوم الأخلاقية والسياسية وكثيراً ما كان يشغل نفسه بالترجمة من اللغة الفرنسية قصد تحسين عبارته وإجادة أسلوبه.

وحدث وهو بأكسفورد ما أظهر أمياله الشخصية فإن رؤساء الجامعة دخلوا حجرته ذات يوم على غير علم منه فوجدوا لسوء حظه على مكتبه رسالة في الطبيعة البشرية لهيوم فحرموه من الكتاب بعد أن أوسعوه تأنيباً على قراءته مثل ذلك الكتاب الذي تكلم فيه صاحبه عن الأديان بطريقة توافق واجب احترامها والحرية التامة في الكلام عليها وبحثها.

ولما عاد من أكسفورد سنة 1747 وقد كان ذهب إليها ليهيء نفسه للاندماج في سلك القسس مكث بكر كادي مسقط رأسه مع أمه سنتين. ثم استوطن أدنبره بعد أن غير قصده فعدل عن دخول الكنيسة لاحتوائه البحث في الديانات وكرهه بيئة القساوسة وشغف بدرس الآداب ودفعه بعض أخوانه وخلصائه في أخريات سنة 1748 إلى إلقاء محاضرات في البلاغة والأدب ففعل وكان يحضرها جم غفير من طلبة الحقوق والدين وإنه وإن عز الآن وجود شيء من هذه المحاضرات إلا أن شهادة معاصريه من الأساتذة ومن قرأوا عليه تدلنا على أنها كانت غاية في الجودة والمتانة وكثير منهم رجع إليها في حياة سميث ولا ننسى أن نذكر أنها كانت الأولى من نوعها في اسكتلندا (أيفوسيا) حتى أن الجامعة لما رأت ميل الناس لسماع أشباه هذه الموضوعات عينت أستاذاً لها سنة 1760.

وقد كسب من وراء هذه المحاضرات طيب الأحدوثة وساعده ذلك ووساطة بعض أصحابه في نيله رتبة أستاذ للمنطق بجامعة جلاسجو سنة 1751 ثم رقي في السنة التالية إلى مركز أستاذ الفلسفة الأخلاقية وكانت هذه الوظيفة أوفق لأميال آدم سميت واستعداده الطبيعي.

وقد ساعدته الأبحاث التي استدعتها هذه الوظيفة إلى إنضاج معلوماته وأفكاره الخاصة هذا وقد كان سميت يعد الأيام التي قضاها في دراسة الفلسفة الأخلاقية من ارغد أيام حياته وأهنأ زمان عيشه. لأنه كان يقضي أغلبها في درس موضوعات كانت بطبيعته مشغوفاً بها وقسم دروسه هذه إلى أربعة أقسام الأول منها يبحث في الدين الفطري وأدلة وجود الآلة وصفاته. والثاني درس فيه الأخلاق وتكلم فيها عن آرائه التي ضمنها كتابه نظرية الأميال الخلقية والثالث درس فيه بتوسع الجزء الخاص بالعدل والفضاء وعلاقة الخلق متبعاً في ذلك طريقة منتسكيو التاريخية والرابع درس فيه الأنظمة السياسية التي لم يراع العدل عند سنها بل روعي فيها من وجهة ثروة الحكومة وقوتها مثل الأنظمة الدينية والعسكرية التي كانت من أهم موضوعات كتابه ثروة الأمم.

وبدأ سميث حياة التأليف بمقالين أرسلهما نقلاً إلى مجلة أدنبرة ضمن الأول نظره في قاموس الدكتور جونسون وهو من أشهر كتَّاب الإنجليز والثاني خطاباً لمدير المجلة فيه بعض ملحوظات على أدب الأمم الأوروبية المختلفة وهذا يدلنا على سعة إطلاع سميث في وقت كان درس أدب اللغات الأجنبية فيه مطرحاً.

وفي سنة 1759 أخرج للناس كتابه (نظرية العواطف الأخلاقية) وكان قضى وقتاً طويلاً في تأليفه والعناية به.

وعلى الرغم من أن أكثر نظرياته التي ذكرها في كتابه هذا دحضها بعده كثير من الفلاسفة كروسو وغيره فإن ذلك لا يحط من قيمة الكتاب من وجهة الآراء وتعدد الأمثلة والشواهد ورقة التعبير وجزالة الأسلوب ولا يزال معدوداً من أعظم كتب الفلسفة والأخلاق في الأدب الإنجليزي.

وقد أكسبه هذا الكتاب شهرة عظيمة ورفع مكانه في أعين المشتغلين بالموضوعات الأخلاقية والفلسفية. وعدوه من أعظم علماء الأخلاق وأبلغ الكتَّاب حتى أن فولتير كان ينفذ إليه بعض الطلبة ليقرؤا عليه دروسه.

ثم أن سميت بعد طبع كتابه توسع في الكلام على الجزئين الثالث والرابع من محاضراته الخاصين بالمسائل القانونية والاقتصادية والمالية فأجمع مجلس إدارة جلاسكو على منحه لقب دكتور في الحقوق اعترافاً بفضله وشكره له على الموضوعات المفيدة والأبحاث الجليلة التي يلقيها في الجامعة.

وقد أفاده كتابه السابق الذكر فائدة أكبر مما سبق وذلك أنه لما عم ذكر اسمه بالمدح والثناء وذاع صيته دعته الكنتيس أوف دلكيث سنة 1763 لمصاحبة ابنها الدوق في سياحته إلى القارة الأوروبية مانحة إياه في الوقت نفسه شروطاً حسنة جعلته لا يتردد في إجابة طلبها والاستقالة من جامعة جلاسكو وابتدأ رحلته ميمما فرنسا يصحبه تلميذه سنة 1764 فقصدا باريس وبرحاها بعد أربعة أيام وذهبا إلى طولوز مقر البرلمان يومئذ ومكثا بها ثمانية عشر شهراً درس سميث في خلالها آداب فرنسا وحالتها السياسية والاقتصادية وتركاها إلى جنيف حيث مكثا لمدة شهر هناك التقى في غضونه بفلتير إذ كان يقطن فرثي في ذلك العهد ثم قصدا باريس ومكثا بها زهاء عام تمكن سميث في خلاله من الاجتماع بكبراء الفرنسيين أصحاب العقول الراجحة والآراء السديدة التي كان لها الأثر الأكبر في كتاباته ونعني بهم ده كسنى وترجو عزاء الفيزوقراطيين أصحاب المبادئ الحرة.

وقد كان لهم عنده منزلة عظيمة حتى أنه كان يوده أن يهدي كتابه ثروة الأمم إلى ده كسني لو لم يحل موت الأخير دون ذلك.

وفي سنة 1766 رجع سميث إلى لندن في رفقته تلميذه دوق بيكلك وانتقل منها إلى عهوده الأولى بكر كلدي حيث أقام عشر سنوات يحوطه السكون وترفرف حوله الدعة والراحة عشر سنوات خالية من المشاغل والمتاعب قضاها في الدرس والتحصيل وتأليف كتابه الكبير (ثروة الأمم) ولم يكن عمله هذا شاقاً بل دفعه إليه حبه لهذا الموضوع فكان عملاً لذيذاً يدلنا على ذلك كتاب بعث به إلى صديقه دافيد هيوم سنة 1767 جاء فيه يشغلني هنا الدرس في موضوع توفرت عليه منذ شهر وليس لي من سلوة إلا النزهة منفرداً والمشي طويلاً على ضفاف البحر ومن ذلك يمكنك أن تحكم كيف أقضي أوقاتي على أني أشعر بالسعادة واللذة وصفاء الذهن وما أظنني نعمت بأيام أسعد من هذه وإنك لتحسن إلى لو كتبت من آن لآخر تنبئني عما يفعله إخواني في لندن أليس في هذا دليل كاف على أن المؤلف يدفعه إلى عمله لذة خاصة ومحرك آخر غير عامل المال والشهرة؟.

ولبث سميت على تلك الحال إلى سنة 1776 إذ بدء عصر جديد في تاريخ الاقتصاد السياسي والعلوم المالية والاجتماعية والسياسية ـ. عام ظهور كتاب ثروة الأمم ظهر الكتاب فلم ينشب أن انتشر وسرعان ما ترجم إلى جميع اللغات الأجنبية في مؤلفه والسبب في ظهور كتاب سميث على غيره من الكتب وانتشاره راجع إلى:

[1] القيمة الأدبية الكبرى التي كانت لكتابات سميث كما مر ذكره.

[2] أن آدم سميث اقتبس أفضل آراء من سبقه من العلماء ومما استفاده بالخبرة أو وصل إليه بالدرس ومن معاشرته للفيزوقراطيين أثناء إقامته بباريس سنة 1765.

وليس لنا أن نفحص كتاب سميث ونأتي على كل ما ذكره فيه بل نكتفي بذكر أهم المسائل التي تؤثر عنه وما قبل فيها.

تكلم على تقسيم العمل فقال يلزم أن يقسم كل عمل من الأعمال إلى أجزاء صغيرة يختص كل عامل بجزء منها وبذلك تحصل على الفوائد الآتية:

[1] مهارة العامل في حرفته وسهولة العمل عليه لاختصاصه بشيء قليل يمكن إجادته بسرعة.

[2] مهارة العامل تؤدي إلى سرعته في عمله وبذلك تقتصد كثيراً من الوقت.

[3] إن كثيرين ممن يختصون بعمل من الأعمال يهتدون إلى اختراعات تسهل عليهم مشاق العمل وبذا تكثر الاختراعات المفيدة واستشهد لذلك بصناعة الدبابيس فقال إن عمل الدبابيس قبل تقسيم العمل كان شاقاً وما كان العامل يصنع أكثر من عشرين دبوساً في اليوم مهما كان مقدار مهارته وحذقه - أما الآن فبفضل تقسيم العمل أصبح صنع الدبابيس من أيسر الأمور ولا بصير السلك دبوساً قبل أن يمر بأيدي عشرة من العمال على الأقل فعامل بعد السلك وآخر يقومه وثالث يقطعه إلى أجزائه الصغيرة ورابع يحدد (أو يجدد) طرفه وخامس بعد الطرف الآخر ليضع الرأس عليه ولا توضع الرأس قبل أن يعمل فيها ثلاثة من العملة على الأقل وعلى ذلك يقول إنه رأى مصنعاً صغيراً به عشر رجال أمكنهم أن ينجزوا بالتضامن صنع نحو 48000 دبوس أي أن معدل عمل الواحد منهم 4800 مع أنه لو اشتغل منفرداً لا يستطيع إنجاز عمل أكثر من 20 كما قدمنا.

ولم يخف على سميث المضار التي تنشأ من تقسيم العمل فذكر مضاره مثل:

[1] جهل العامل المختص بشيء واحد بسيط بكثير من الأمور الاجتماعية الخاصة بحياته وصعوبة وجده عملاً يعيش من روائه لو أمكن الاستغناء عنه أو كثر أمثاله.

[2] بلادة العامل وانتقاله من الإنسانية إلى الوحشية لا نكافه على عمل خاص ولكنه رأى أن الفوائد تربى على المضار فحكم بوجوب اتباع المبدأ ووصف علاجاً لبعض المضار التي ذكرناها وهو التعليم الأولى المجاني الإجباري حتى يصير عند العامل المعلومات الكافية لفهمه ما يدور حوله وما يجب عليه فعله بعد عمله اليومي.

وكان سميت أول من خطأ الفيزوقراطيين في مبدئهم الأول وهو أن الأرض المنتجة الوحيدة للثروة فقال إن أحداث الثروة يعتمد على العمل ورأس المال اعتماده على الأرض وخيراتها ولو أنه ترك للأرض المكان الأول وقد زاد الأستاذ مارشال هذه العوامل الثلاثة عاملاً رابعاً هو التنظيم فللمنظم أو المدبر دور مهم غير دور العملة ورأس المال والأرض.

وخصص سميث جزءاً كبيراً من كتابه للكلام عن السياسة التجارية الحرة قد حض فيها رأى المركانتايلست وهم القائلون بعدم ضرورة النجارة الدولية وأنها تقلل من ثورة المملكة فبين أن التجارة يلزم أن تكون حرة لا تعوقها عوائد جمركية ولا خلافها وبني ذلك على نظرية تقسيم العمل السباقة الذكر قائلاً إننا إذا ما اتبعنا السياسة الحرة إنما بإكراه كل مملكة على الاشتغال بالعمل الذي وضعتها الطبيعة له أي التي تحسنه أما بمنح الطبيعة ميزة فيها على غيرها أو بعادة قديمة موروثة. . . فالمملكة التي يكثر فيها الحديد والفحم تكون صناعية والتي هي غنية التربة كمصر لا تحترف بغير الزراعة وهنا يلزمنا أن نذكر شيئاً عما أثر في سميث حتى أخذ بالتجارة الحرة ونشرها فنقول أنه عاش في جلاسجو البلد الصناعية الكبرى معاشراً كثيراً من رؤساء المصانع فيها دارساً النظامات المقيدة للصناعة من جماعات عمال وقوانين تخرج (أوتمرن) وضرائب على الصادرات والواردات فأثر كل ذلك فيه تأثير دعاه لأن يكون شديد الحملة على التقييد ثم أنه ذهب إلى فرنسا وبه ذلك البغض للنظامات الصناعية والتجارية الموجودة فاجتمع مع الفيزوقراطيين وأدى ذلك إلى زيادة رسوخ المبدأ عنده فقال أنه ما دام الإنسان لا يخرق قوانين العدل فينبغي أن يترك وشأنه باحثاً عن منفعته التي وجدها ومزاحماً للناس بماله وحذقه وبعبارة أخرى أنه ينصح بعدم تداخل الحكومة في المسائل الاقتصادية. ويظهر لنا أن الأيام تعمل على تحقيق مبدئه هذا فقد قرأنا في الجرائد أخيراً أن الطيارات ابتدئ في استعمالها لتهريب البضائع الممنوع دخولها بين بلجيكا وفرنسا. وأنه ليصعب بل ليستحيل على الحكومات مراقبتها. وسيأتي يوم تضطر فيه الحكومات إلى رفع الأعمال الجمركية من اختصاصها.

وخصص سميث الجزء الخامس من كتابه لدخل الملك والحكومة وهو ما يدخل في بحث علم المالية الحديث وله فيه أربعة قوانين في موضوع الضرائب لا يخلو منها كتاب مالي:

[1] كل فرد يلزمه أن يمد الحكومة على قدر ما يمكنه وبنسبة دخله الذي يحصل عليه تحت ظل الحكومة ورعايتها.

[2] يجب دفع الضريبة في الوقت المناسب ففي مصر تدفع ضرائب الأرض بعد جمع محصول القطن مثلاً.

[3] يلزم أن يعرف دافع الضريبة مقدارها ويوم دفعها وطريقة ذلك.

[4] يجب تقليل مصاريف الجباية جهد الاستطاعة حتى لا يزيد المال المجموع عما دخل في خزينة الحكومة (بعد مصاريف الجباية) قليلاً جداً.

وقد مات دافيد هيوم صديق سميث بعد ظهور ثروة الأمم ببضعة أشهر فكتب سميث وهو في لندن مقالة وصف فيها خلق صاحبه ومدحه مدحاً دعى كثيراً من أعدائه إلى الطعن فيه والشك في عقيدته لكنه لم يعرهم التفاتاً بل تركهم غير مصغ لما يقولون.

وفي سنة 1778 عين سميث بمساعدة تلميذه دوق بيكلك مديراً للجمارك في اسكتلندا فعاد ليعيش في جلاسكو متمتعاً باجتماعات أصدقائه الأول وبصحبة أمه وابنة عمه. ويقال أنه كان يصرف أغلب دخله في ذلك الوقت على أعمال خيرية سرية يأتيها بدون أن يعلم به أحد.

وفي سنة 1787 عين رئيساً لجامعة جلاسكو فقبل المنصب بالشكر وسر قلبه لذلك الفخر العظيم.

وابتدأت صحته في الاضمحلال من ذلك الحين ومما عجل به أسفه على موت أمه سنة 1784 ولها من العمر تسعون سنة وموت ابنة عمه 1788 فمات عقب مرض أنهكه بعد ذلك بسنتين أي سنة 1790 ويقال أنه تحمل مرضه بصبر عجيب أدهش جميع أخوانه وأحزنهم.

قلنا في مبدأ الكلام على سميث أنه كان شديد الولوع بالكتب وقراءتها وقد ازداد معه هذا الشغف يكبر سنة وكانت نتيجة ذلك أنه أخلف بعد موته مكتبة هائلة تحوي ما لا يقل عن خمسة آلاف مجلد من الكتب النفيسة القيمة.

ومن الغريب أن سميت أوصى قبل موته بأن تحرق كل أوراقه إلا ما أراد بقاءه منها لذلك لا نجد الآن محاضراته التي كان يلقبها بايدنبرغ ولا الخاصة بالخلق والمنطق التي كان يلقبها بجلاسكو.

علينا الآن أن نذكر كلمة بشأن ما يقال عن سميث من أنه موحد علم الاقتصاد السياسي وخالفه كما يدعى ذلك بعض الاقتصاديين الإنجليز: إننا لا نجحد أن العلم كان قبل سميث بعض آراء مبعثرة ما جمعت ولا رتبت إلا في كتاب ترجو المسمي التأملات فأخذ سميث عنه بعض الشيء وأضاف عليه أشياء كثيرة من معلوماته وآرائه الخاصة إلا أن الكتاب كما يقول جان بيست ساي الاقتصادي الفرنسي غير منظم به كثير من الحشو. فسميث في الحقيقة ليس خالق الاقتصاد وإنما جامع متفرقه وأول من وضعه في شكل علمي منظم.

ألبانيا وأميرها الجديد إذا كان في طول أوربا وعرضها، مجاهل ومفاوز، فتلك لعمري ألبانيا أجمل مقاطعة في جميع أرجاء القارة الغربية، ولو أنه قد تصرم ما ينيف على مائة عام منذ وصفها المؤرخ الإنجليزي الأوحد إدوارد جيبون بأنها مملكة تشرف على إيطاليا تكاد تكون مجهولة كصميم أمريكا فلم تزدد معلومات الناس عن هذا البلد العجيب ولا عن أهله، وإن طبيعة المملكة الوحشية، وهمجية سكانها وبربريتهم، والفوضى البادية في أنظمتهم الاجتماعية، والصعوبات التي تمنع من تعلم لسانهم، وعجز الولاة العثمانيين عن مساعدة السياح على التغلغل في صميم تلك البلاد، كل هذه الأسباب كانت الحائل دون معرفة هذه المجاهل الغريبة.

ولعل لفظة ألبانيا هذه، وتلك التي في بلاد القوقاز، وأرمينيا، والباني في بريطانيا / وأرفينيا في فرنسا. مأخوذة جميعها من مادة ألب ومعناها الهضاب البيضاء.

وعدد سكان البابا يقدر بما يربي على مليون ونصف مليون من النسم، ومن هذا المدد نحو من مليون ومائتي ألف من الألبان، والباقي من الصرب والبلغار، والأتراك واليونان، فالصرب يحتلون الجهات الشمالية من البلاد والأتراك يقطنون النواحي الجنوبية الشرقية، وللبلغار مستعمرة كبيرة على مقربة من مدينة دبرة وأخر بدة وفي جنوب هذه المستمرة يسكن قوم في الجبال يسمونهم ولاك وفي أبروس عدد من اليونانيين ليس بالقلييل، ويبلغ عدد سكان ولاية أشقودرة. / 257000 / نفس وولاية يانينا / 000ر552 /.

ولعل الألبان هم أقدم أهل الجنوب الشرقي من أوروبا، وليس في التاريخ ولا في الأساطير، ولا في موروث الأنباء ما ينبئ عن كيفية وصولهم إلى أوروبا، ولعلهم سلالة المهاجرين الأقدمين من الآريين وإن العدد الأكبر من الأسماء السلافية الموجودة في ألبانيا حتى في المقاطعات التي لا يوجد بها أدنى أثر للسلافين يدل على كثرة مهاجرة أقوام الصرب والبلغار إلى ألبانيا في أوائل العهد بالقرون الوسطى، ولكن السكان الأصليين طردوا هؤلاء المهاجرين من أرضهم، وبينا ترى شجاعة الجبلين - أهل الجبل الأسود - قد نوه بها كتاب الأرض جميعاً. ترى الألبانيين لا يذكرون بمديح ولا يشهد لهم بثناء ما عدا مديح الشاعر بيرون. على أنه مما يستأهل الذكر والتنويه أن المهاجرين من الألبانيين والشراذم المنثورة في بقاع الأرض، ولا سيما في اليونان وإيطاليا ومصر، لا يزالون محتفظين بشخصياتهم ومميزاتهم ولغتهم وعاداتهم وأساطيرهم، وترى الألبانيين المستوطنين البلاد الإيطالية واليونانية قائمين كالصخرة الثابتة لا يزعزعهم تيار المدينة الإيطالية ولا يذهب بهم سبلها، على حين مضي على بقائهم بها نحو من ستمائة عام،

والألبانيون يسمون أنفسهم شكبنار وأرضهم شكبيريا وقد اختلف المؤرخون في ترجمتها فالمؤرخ هان يقول إنها مأخوذة من شكيبوج ومعناها أنا أعلم وهي إذن تؤدي معنى الذي يعلم وبعضهم يذهب إلى أن مؤداها ساكن الصخر من لفظة شكب ومعناها في الألبانية الصخر.

طبائع أهلها ومميزاتهم - من السكان الأولين لشبه جزيرة البلقان من دخل في الجنس اللاتيني فكان لاتينياً، ومنهم من فني في الجنس اليوناني فكان يونانياً، ومنهم من امتزج بالعنصر السلافي فأضحى سلافياً، إلا أن الألبان وقفوا أمام كل جنس من هذه الأجناس، فلم تستطع أن تؤثر على شخصيتهم ولا على جنسيتهم وطبائعهم، ومن ثم فهم مختلفون جد الاختلاف عن سائر سكان شبه الجزيرة، وهم ينقسمون إلى نوعين، النوع الأول يسمى الحج والثاني يدعى النوسك فأما الحج فرغماً من وحشيتهم وهمجيتهم وشيوع الخرافات بينهم وتفشي الجهل فيهم، على صفات بالإعجاب خليقة بالاستحان، بل يندر أن توجد في أهل أوروبا الشرقية، وجملة هذه الخصال السذاجة وطيب القلب والبسالة والأمانة والتضحية وهم في الحرب خير الجنود وأبسل المغاوير، وكثيراً ما استخدمهم سلاطين آل عثمان حراساً لسدتهم وحفاظاً، وكثيراً ما يكونون للسفارات في الشرق حجاباً. وقد كان من تزاوجهم باليونان وامتزاجهم ما أصلح من حالهم وقوي من عنصرهم وكفاآتهم. وهم هؤلاء الفتك والسلب والنهب والرعي. وأما النوسك فهمهم التجارة والزراعة والصناعة. وصفات الأولين العبوسة والكسل والكبر والغطرسة. وصفات التوسك الوداعة والثرة والابتسام.

وواجب الانتقام للثأر والأخذ للثرة يتوارثونه كابراً عن كابر ووالداً عن والد. وهو كذلك ورائه في أهل الأسرة الواحدة. وسكان الضيعة الواحدة. وعشائر القبيلة الواحدة. وإن حادثة واحدة لتجر في أغلب الآحايين إلى أحداث كثر وجرائم متعددة وحروب طاحنة بين أهل الأسر المتجاورة، وترى القائل يأوى عادة إلى الجبال مخافة من المنتقم، أو يضرب في داره لا يبرحها الأعوام الطوال. وقد بلغ من هذه الحروب والخصومات والأحن أن عدد من يموتون موتاً طبيعياً لا يكاد يبلغ 75 في المائة كل عام.

وقد يقيمون صلحاً بين القبيلتين المتخاصمتين. وقد يقيمون هدنة أيام. والمفوضون في مثل ذلك هم أهل الدين. وهم يرعون حق الضيف على المضيف إلى الحد الأبعد والغاية القصوى. ولا يجرأ سائح أفاق على التغول في داخلية البلاد إلا بذمة أحد السكان ووساطته. فإذا ضمن من الباني عهداً فهو المرحب به المكرم. وفي بعض الولايات يجعلون حداً مقرراً لثمن الدماء والديات فمثلاً في بلدة أرجيرو كسترو لا تزيد الدية عن (1200) قرش وفي خيماره (2000) قرش. فإذا دفعت الديات وأخذها أهل القتيل عاد الوئام بين الأسرتين واستتب السلام. والألبانيون يوقرون نساءهم وينظرون إليهن بالتبجيل والإكرام حتى ليستعينون بهن في قضاء الصلح بين المتخاصمين وإنفاذ المهادنة بين المتكاشحين. وإن المرأة منهم لتجوب الولاية كلها لا خوف يأخذها ولا خشية. وإن عهداً منها ليحمي السائح. ويرد أمان الخائف. ويسكن سرب الغريب. وهن يرافقن رجالهن إلى ميادين القتال. ليواسين الجرحى ويغمدن جراح المرتشين ويحملن جثث الموتى.

ولباس التوسك جد مخالف للباس الحج وأشهر أثوابهم الفستان الأبيض وقد اتخذه اليونانيون حديثاً. والحج يلبسون سراويل حمراء مزركشة بأربطة سوداء وسترة قصيرة ضيقة والأغنياء منهم يزينون السترة بأشرطة من الذهب وكلهم يلبس الطربوش وأهل الشمال يتمنطقون (بالطبنجة) والمسدسات.

ديانتهم وشؤون التعليم عندهم - السواد الأعظم من الألبان وهو يبلغ ثلاثة أخماس مجموع السكان يدينون بالشريعة الإسلامية. وأكثر من نصف سكان ولاية أشقودرة من المسلمين. والبانيا الوسطى تكاد تكون بجملتها بلداً إسلامياً وفي الجنوب عدد غير قليل من المسيحيين.

أما شؤون التعليم فتكاد تكون مطرحة مهملة وسواد السكان أميون سواء في ذلك المسيحيون والمسلمون وكانت الحكومة العثمانية تمتع الأهلين من التعلم باللغة الألبانية وبذلك لأسباب سياسية. وفي بعض البلدان مدارس ابتدائية وثانونية عثمانية. وفي الجوامع يدرس القرآن. والأسر الكبيرة من الألبان ترسل بنيها للتعلم في مدارس القسطنطينية أو ويانة (فينيا). وفي أشفودرة كلية للجزويت تحت رعاية الحكومة النمسوية. وللفرنسسكان عدة مدارس ابتدائية.

والحكومة الطليانية ترعى شؤون ثلاث مدارس عمومية والتعليم فيها بالطليانية وفي جنوب البانيا عدة مدارس لليونان. وفي يانينا مدرسة للألعاب الرياضية، وأسرات النجار في هذه المدينة على جانب من العلم والتربية. واللغة التي يتكلمون بها في يانيا اليونانية المحرفة. .

جئنا بهذه الكلمة مجملة لتستطرد بها إلى وصف أمير الألبانيين الجديد وكيف كان دخوله مقر الإمارة. وحاضرة الملك. بعد ما انسلخت هذه الولاية عن الدولة.

في أوائل شهر مارس المنصرم ركب البرنس ولهلم ده ويد - وإن شئت ففل غليوم الأول أمير ألبانيا الجديد - الباخرة طورس من ثغر تريسته يريد دورازو وحاضرة أمارته وفي حاشيته أسطول دولي، يتألف من الباخرة الفرنسية (بروي) والطليانية كوارتو والإنجليزية جلوستر وبذلك بدأ عهداً جديداً تحفه الأخطار، عهد الإمارة، ورعاية شؤون أمة أولية تستحب الفوضى على النظام.

وكان قد استقبل قبل ذلك باسبوع في قصره بتويد الوفد الذي جامعن ألبانيا لتقديم التاج إليه، والبرنس كما ترى من صورته في لباس جديد على الزي التركي الألباني، أما الأميرة صوفيا زوجته فقد أعدت لنفسها قبل دخولهما دورازو أثواباً إسلامية. سراويل من الحرير واسعة. وجعلت تستقبل المرحبين والمهنئين وهي جالسة جلسة الأتراك على أنها احتفظت بالزي الغربي وكانت تلبسه تحت برنسها الفروي، وكانت تزين شعرها الفاحم بدرة من الماس وكانت صفراء اللون بهاريته.

ولما مثل أسعد مثل رئيس الوفد في حضرة الأمير. كان يدعوه بلفظة موريت ومعناها الأمير والملك معاً ولئن كان الناس لا يزالون في حيرة لا يدرون أي لقب يطلقون على البرنس دمويد اليوم فلعل لفظة موريت تصلح له كما يقولون على فردنياند ملك البلغار تزار وهي لغة في قيصر.

وألقى أسعد باشا بين يديه خطبة موجزة أجاب عليها الأمير بمثلها فلما فرغ من خطبته تصافح الخطيبان وشد كل يد الآخر وهما يتناظران. وإذ ذاك هتف الحضور هتافاً عالياً.

وقد بالغت حاشية البرنس وبلاطه في إظهار التودد والانعطاف نحو نواب الشعب الأرناؤودي إذ سمحوا لهم يتفقد قصر الأمير وزيارة ضياعه ودعوهم إلى رؤية الصور المتحركة حتى إذا رافقوا الأمير وزوجة من قصرهما بنويد إلى مدينة والدتبرج مثلوا في حضرة والدي الأميرة ومن هناك انحدروا إلى ويانة ومنها إلى تريستة حيث ارتقبوا وصول الأمير.

ولن تمضي بضعة أيام حتى ترى ألبانيا في نظام جديد وستنزل الدول أعلامها الخفاقة فوق أشقودرة. ولم يبق إلا لجنة المراقبة الدولية والجندرمة التي نظمت لحفظ النظام والأمن.

ولم يخف البرنس دويدر في خطابته التي رد بها على أسعد باشا أنه لم يقبل التاج فرحاً مبتهج القلب. إشفاقاً من الصعوبات التي تتور مركزه السياسي.

وقد كتب كاتب مقالاً طويلاً يصف فيه ألبانيا نجتزئ منه بهذه السطور الآتية إنك لا تلقى في كل ألبانيا كيلو متراً واحداً لا بل ولا متراً واحداً من الطرق الصالحة أو ما يصح أن يقال له كذلك. فليس بها إلا شقوق في الجبال ودروب. وبقاع مستنقعة، وليس في داخلية البلاد إلا بلدان كبيران لهما قنطرتان، وأهل البلاد مشتتون منتشرون ومن الشاق في أغلب الأحيان أخذ معلومات عن الأماكن المأهولة. والنواحي المطروقة وليس فيها حوانيت ولا حانات ولا فنادق بالمعنى الغربي. وإنما ترى هنا وهناك خاناً أو أكثر من خان.

ثم انتقل إلى وصف قرى الألبان قال:

ودار الفلاح الألباني تشبه أكواخ الزنوج. وفي ألبانيا مثلت القرى كلها مؤلفة من الأكواخ. وهذه الأكواخ يشيدونها من فروع الشجر وأحراش القش. وفي الجهات الجبلية يبنون بيوتاً من الحجارة تشبه من جميع أجزائها القلاع والحصون. وهم يجعلون الطابق الأسفل مرابط لخيولهم ومحابس لشائهم وإهراء لغلاتهم ويفردون الطابق الأعلى لمسكنهم ومنامهم. ويصعد إلى الطابق الأعلى بدرج عمودية. وتري فتحات النوافذ صغيرة جداً. وليس لها زجاج. وهم يحتمون من أشعة الشمس والمطر والريح بقفلها بألواح من الخشب وللمنازل المبنية من الحجارة سقوف خشبية. وأما سقوف الأكواخ فمن الآجر ولا يعرفون المقاعد ولا الكراسي ولا السرر ولا غيرها من الرياش. بل يأكلون وينامون على الأرض.

الطيارات والطيارون

ليس في عديد أمهات المسائل في هذا العصر العملي مسألة ذات خطر وبال مثل مسألة السياحة في الهواء. وهي من قديم العصور وغابر الأجيال أمنية الإنسان ومطمح نظره على أنها من الصعوبات بمكان. أوليس معنى ذلك أنا نمشي على الهواء وندوس بأقدامنا فوق الفضاء ونتخطى نافذين في صميم الجواء.

وينقسم فن الطيران إلى قسمين. يسمى الأول منها أي فن تطيير الآلات التي حجمها أخف من الهواء. مثل البالونات. ويسمى الثاني أي فن الطيران الصناعي بواسطة الطيارات الآلية وهي التي أثقل حجماً من الهواء مثل الأروبلانات ويتضمن هذا القسم المجهودات التي احتال بها الناس من قديم الزمان لتطيير جثمانهم.

والنوع الثاني أقدم تاريخاً من الأول فقد دل عليه علم الميثولوجيا وذكرته الخرافات القديمة. وهناك حكايات كثيرة تنبئ عن أناس حاولوا الطيران بجسومهم. فقد ثبت أن أول رجل فكر في تطيير جثمانه أبو القاسم عباس بن فرناس إذ كسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة ولكنه لم ينشب أن سقط فتأذى في مؤخره لأنه لم يعمل له ذنباً. على أن مؤرخي الإفرنج والمصادر الإفرنجية لم تذكر أبا القاسم لا بالأولية ولا بغيرها. بل تقول أن أولهم جون ويلكنز. المتوفى عام 1672. إذ بحث في عام 1640 عن إمكان الوصول إلى القمر طائراً. وقد كتب في مذكراته أن قسيساً إنجليزياً يسمى الماراس في عهد الملك إدوارد الملقب بالمعترف طار من بلد في اسبانيا إلى مسافة جزء من ثمانية من الميل ويقال أن جيوفاني باتستا دانتي من مقاطعة بيرون في فرنسا طار فوق بحيرة ترازمين في إيطاليا عدة مرات. وفي أول العهد بالقرن السادس عشر أخذ طلياني من الكيماويين على عاتقه الطيران من سواحل إنجلترا إلى سماء فرنسا وفعلاً أنجز ما وعد ولكنه لم يكد يطير حتى سقط وتهشم فخذه. وحوال ذلك العهد بحث المسألة العالم ليناردو دافنشي وأخذ يطبق عليها القواعد العلمية وترى في مذكراته كثيراً من الصور التي تمثل أجنحة صناعية تلصق بالسوق والسواعد على نحو الخوافي والقوادم.

وفي كتاب للفيلسوف الإنجليزي المعاصر لشكسبير فرنسيس باكون نبذتان تدوران حول الطيران وإمكانه.

ولعل اليمامة الطائرة التي صنعها أرشيتاس من أهل ترانتام هي أقدم أثر لفكرة الطيران وكانت هذه الآلة على شكل يمامة أو حمامة من الخشب مصنوعة على قواعد علمية وتحوي كمية من الهواء في جوفها ولعل هذا الهواء هو الهيدروجين أو الهواء الساخن اللذان استعملا بعد ذلك بقرون وأجيال.

على أن أول اختراع للبالون يرجع إلى ميشيل مونتجولفييه المولود عام 1740 والمتوفى عام 1810 وإلى جاك أيتين مونتجولفييه أخيه المولود عام 1745 والمتوفى عام 1799 وهما ولجا بيير. ونتجولفييه وكان وراقاً مشهوراً بين أهل مدينة أنوناي على بعد أربعين ميلاً من مدينة ليون وكان الأخوان قد لاحظا تعلق الغمائم في الفضاء فاهتديا إلى أنهما لو استطاعا أن يخزنا هواء ساخناً يشبه بطبيعته أبخرة الغمائم والسحب في كيس كبير خفيف الحجم لارتفع بالكيس في الجو ففي أخريات عام 1782 خزنا مقداراً من الهواء الساخن في عدة أكياس فلما تم لهما ذلك وجدا أن الأكياس بدأت تصعد في الهواء حتى إذا تأكد لهما نجاح تجربتهما هذه أزمعا عمل بالون كبير وتطييره على مشهد من الجمهور ففي الخامس من شهر يونيه عام 1783 بحضور جم غفير من المتفرجين ملأ كيساً من التيل يبلغ محيطه نحواًَ من 105 أقدام بالهواء الساخن فلما ترك ارتفع ارتفاعاً عظيماً ثم هبط بعد عشر دقائق على مسافة ميل ونصف وبذلك كان اختراع البالون.

على أن الأخوين مونتجولفييه توهما أن الكيس صعد لخفة حجم الهواء الساخن وفي البالون لم يكن شيء من الحرارة ولذلك لم يلبث أن ابترد الهواء الساخن المختزن وتبع ذلك هبوط البالون.

وأثارت هذه التجربة أهمية كبرى في باريس حتى أن بارتلميه فوجاس ده سانت فويد المولود سنة 1741 والمتوفى سنة 1819 أستاذ الجيولوجيا بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس فتح باب الاكتتاب لإعادة عمل التجربة ومن ثم صنع الأخوان وبرت بالوناً جديداً تحت مراقبة العالم الطبيعي شارل وارتأوا في بادئ الأمر إعادة تجربة مونتجولفييه بحذافيرها. ولكن العالم الطبيعي شارل ارتأى استعمال غاز الهيدروجين وصعد به إلى نحو 3000 قدم حتى إذا مكث محلقاً في الجو ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة سقط في حقل قريب من بلدة جونس على مسافة خمسة عشر ميلاً من مكان صعوده وقد ذعر الفلاحون منه فمزقوه إرباً.

وعاد مونتجولفييه فعمل في سبتمبر عام 1783 تجربة في فرساليا بحضور الملك والملكة ورجال البلاط ونسائه وجمع عظيم من المتفرجين وعلق بالبالون قفصاً ووضع به شاة وديكاً وبطة فكانت هذه الحيوانات أول السياح في الهواء. وارتفع بها البالون إلى علو 1500 قدم ثم سقط على مسافة ميلين من مكان الحفلة فتهشم ركابه وكانت الضحايا الأولى لهذا الاختراع العظيم.

وأول رجل ركب البالوان جان فرانسوا المتوفى عام 1787 وكان من أهل مدينة ميتز. وقد ركب مع رفيق له يدعى جيرون ده فيللت في بالوان أسير. وهو نوع من البالونات يشد بالحبال.

ومن ثم تقدم عمل البالون. وكذلك هذابوا هذا الاختراع وتصرفوا فيه حتى استعملوه في الحروب. ولم تكد تبدأ الثورة الفرنسية الكبرى حتى أسسوا مدرسة في مدينة ميدون من أعمال فرنسا لتعليم فن البالونات ولم يلبثوا أن بنوا أربع بالونات فرقوها على الحدود الفرنسية وفي يونيه عام 1794 صعد القائد كوتل في واحد منها الاستكشاف مواقع العدو وقبل واقعة فليرس وقد أجمع المؤرخون على أن انتصار الفرنسيين على الأعداء في غلوا الثورة الفرنسية كان راجعاً إلى فضل هذه البالونات، وفي الحرب التي نشبت بين فرنسا وإيطاليا عام 1859 عاد الفرنسيون إلى استعمال البالون في استكشاف مرابض الطليان ومرابط جيشهم ولاسيما في واقعة سالفارينو.

وفي الحرب الداخلية الأمريكية التي نشبت في سنة 1861 كان الاتحاديون يستعينون بالبالونات ولكن لم تنجل قيمتها في الحرب إلا في حصار باريس (1870) إذ كانت هي الوسيلة الوحيدة بين أهل باريس والولايات الفرنسية وكانوا يحبسون فيها الحمائم لتأتي بأخبار المقاطعات وقد بلغ عددها في أيام المحاصرة نحواً من (64) بالوناً وكان فرار غميتا من باريس في أحد هذه البالونات.

على أن البالون لم يقرر كأداة لازمة في الحروب إلا حوالي عام 1884 إذ اتفق أغلب الدول على استعمالها. وقد استعان بها الإنجليز والفرنسيون في فتوحهم وحروبهم في أفريقيا والشرق الأقصى.

وكان البحث السائد بين الطيارين منذ بدئ الطيران هو هل في الممكنات تدبير حركات البالونات بصنع دفة لها تديرها كما يشاء الطيار. ومن ثم أخذوا يعدون لذلك العدد ويحاولون الحيل ويقيمون التجاريب وأول هؤلاء هنرى جيفرد في عام 1852 إذ طار في بالون تدير حركاته في الجو آلة بخارية. واقتفى آثاره كثيرون فمنهم ديبوى ده لوم في سنة 1872 وتيساندييه في عام 1884 وشوارتز في عام 1897 ومن تلك السنة بدأ الكونت فرديناندفون زبلن من رؤساء الجيش الألماني ينشيء بالوناً ضخماً وإن شئت فمركباً هوائياً عظيماً يحمل على الأقل خمسة رجال وعمل تجربة في شهر يوليه عام 1900 فكانت سرعته في الساعة 18 ميلاً وفي سنة 1905 بنى زبلن مركباً ثانياً ولكنه لم يلبث أن تهشم في ريح هوجاء. فكان ثالث طار فوق بحيرة كونستانس من أعمال سويسرا وكانت سرعته ستة وثلاثين ميلاً في الساعة يحمل أحد عشر رجلاً. فلما كانت سنة 1908 صنع مركباً رابعاً سار في أطباق الجو نحواً من مائتين وخمسين ميلاً في إحدى عشرة ساعة ولكنه تكسر واحترق فرجع الألمان إلى الاكتتاب وعلى رأسهم الإمبراطور فأنشؤوا مركباً خامساً.

ومن ذلك الحين بدأت الدول تلقي الأهمية الكبرى على إنشاء المراكب الهوائية الحربية وبلغ اهتمامهم اليوم الغاية القصوى فإن لألمانيا من المراكب الهوائية اليوم نحواً من ستين طيارة ولإنجلترا مائة وخمسين ولفرنسا خمسمائة وللولايات المتحدة مائة وعشرين وإيطاليا خمسة وثلاثين ولروسيا أربعة عشر ومائة وللنمسا عشرين.

أما فكرة الطيران بالأجنحة فقد طبقوا القواعد العلمية عليها وبحثوا توازن الطير حتى كان منها اختراع الطيارات الهوائية وهي التي تطير بمحرك يدير أجنحتها ويرف بها ويجري هذا المحرك أما بالكهرباء وأما بغاز البترول أو البنزين.

وقد تقدموا في هذه الطيارات فاخترعوا الطيارات المونوبولان أي الموحدة الجناح والطيارات البيبلان وهي المزدوجة الجناح والطيارات التريبلان وهي المثلثة الجناح. ولم تتجل للعالم عجائب الطيران ومدهشاته ولم تبد شجاعة الطيارين وصدق بأسهم ورباطة جأشهم إلا في هذه السنين الأخيرة والفرنسيون سادة هذا الفن ومرقوه. وإن منهم من حاز قصب السبق في مبلغ الارتفاع. ومنهم من ظفر بالأولية في سرعة الطيران. ومن الفريق الأول لاثام إذ بلغ في سنة 1909، هو العام الذي أخذ فيه العالم يهتم أكثر من قبل بفن الطيران إلى ارتفاع 1000 متر وممن استبقوا في السرعة الكونت دي لامبير وقد طار في نفس ذلك العام فوق برج إيفل بباريس.

وجرت في عام 1909 مسابقة ورهان بين بلريو ولاثام على تعدية مضيق المانش محلقين فنجح الأول. وعثر حظ الثاني إذ سقط فوق أديم الماء ولكنه لم يصب بأذى وأما بلريو فاستغرق في اجتياز المانش من بولونيا في فرنسا إلى ثغر دوفر في الأرض الإنكليزية نحواً من ثمانية وعشرون دقيقة وقد بلغ بيريون رفيق بليريو في الحادي عشر من شهر مارس من العام الماضي إلى ارتفاع 5850 متراً في مسافة تقرب من ساعة وهذه هي المرة الأولى التي بلغ بها الطيار إلى مثل هذا الارتفاع الشاهق على أن لوكانيو تقوى عليه وبرز في ديسمبر من العام الماضي إذا ارتفع بطيارته إلى علو 6150 متراً. وقد كان في العام الذي قبله ارتفع إلى 5810 أمتار.

وجاز الطيار الفرنسي دوكور ما بين مدينتي باريس وبرلين في ثماني ساعات إلا قليلاً بينما القطار السريع يجوزها في ثلاث وعشرين ساعة إذ تبلغ مسافة ما بين الحاضرتين نحواً من 900 كيلو متراً. فإذا حسبنا ذلك استنتجنا أن دوكور كان يطير في الساعة ما يربي على مائة كيلو متر وأغرب من ذلك وأدعي إلى العجب أن الطيار برنديجون استغرق في طيرانه من باريس إلى مدينة فرسوفيا في بولونيا من أعمال الروسيا يوماً واحداً لم يرفه عن نفسه فيها إلا سبع ساعات.

وبعد كتابة ما تقدم وقعت إلينا رسالة صغيرة باللغة الفرنسية بقلم سعادة الأستاذ المحقق أحمد زكي باشا الكاتب الأول لمجلس النظار. أثبت فيها خطبته التي ألقاها في حفلة إقامة التمثال تخليداً لذكرى الطيار الفرنسي المشهور مويار في مدينة الشمس (هليو بوليس) وأضاف إلى الخطبة المكاتبة التي بعث بها إلى مجلس المعارف الأعلى ووسمها بعنوان (الطيران عند المسلمين) وفيها حقق الكلام على طائري العرب ابن فرناس والجوهري ورجع في ذلك إلى كتب العرب وأسفارهم ونحن نقتطف منها نبذا صالحة لمقالنا هذا: ندع جانباً السير المصرية المعروفة. والأقاصيص اليونانية الشائعة. ونكتفي بأن نذكر مع الأبحار تلك الأقاصيص التي جاءت في تاريخ العرب.

ألم يستعمل النمرود لحرب الله أربعة من النسور أزمع بها صعوداً. تحف به الأخطار وتحدق به التهلكة فوق سطح جهزه بقطع من اللحم الغريض. لكي يحرض هذه الطيور الجوارح على متابعة الصمود والارتفاع.

أولم يكن لسليمان في رحلاته وطوفانه ونقلاته، بساط تسيره الأرواح مسخرة لمشيئته. يطوف فوقه على آسيا وأرجائها؟.

وفضلاً عن ذلك ألم يتخيل الروائيون. في جميع الملل والنحل. قديمها وحديثها اختراعات هي أبعد ما يكون من الاحتمال والتصديق.

أولم نشهد بعد كل ذلك أن ما كان بالأمس حلم حالم وخيال متخيل. قد أصبح اليوم وهو الحقيقة الملموسة؟.

إن مؤلفي القصص العربية ومن بينها قصص ألف ليلة وليلة. قد وجدوا لهم. حتى في عصرنا هذا. جماعة من المتممين المنفذين. ولو شئنا أن نسرد لك أسماءهم لطال بنا السرد. وإنما نكتفي بذكر جول فرن. فقد أتيحت له السعادة الكبرى فشهد تحقيق بعض أحلامه وخيالاته.

وإليك ما قال سعادة المحقق في الجوهري: هو أبو نصر إسماعيل بن حماد المعروف بالجوهري. ولد بقري فاراب من بلاد تركستان وهي تسمى اليوم أطرار. وقد كان أبو نصر في شبيبته وروق صباه. مولعاً بالسفر والتجواب. تواقاً إلى الارتحال والاغتراب اخترق أواسط بلاد العرب، وتنقل بين أفصح قبائلها. وأبلغ بطونها، في طلب الأدب وإتقان لغة العرب وجاء جافل الجعبة بالشروح القيمة. والدقائق الغالية. وساعده ذلك على وضع أثر كبير في اللغة. لا يبلى ولا ينسى - ويعني بذلك كتاب الصحاح. حتى إذا استوسق له ذلك اندفع مع ولعه إلى زيارة أعمر الحواضر. وأزهر البلدان في الشام وفارس والعراق. واكتسب قربة العلماء. وأخذ عن الأئمة منهم والمتبحرين وتعلم الخط حتى حذقه وأبدع فيه. واقترن فيه اسمه بابن مقلة. ومهلهل واليزيدي. ولم يقصر سعيه على ذلك. بل ضرب بسهام في الأدب والفقه والفلسفة الدينية.

وأقام حتى وفاته بمدينة نيسابور. وتقاطرت عليه الطلاب من كل مكان. يأخذون عنه في حلقات الجامع الكبير بنيسابور اللغة والخط. وفرغ إذ ذاك إلى تنسيق صحاحه وترتيب تآليفه في النثر والنحو وغيرهما. وكان ينسخها بخطه المونق: إلى أن قال سعادة المحقق. وصعد يوماً سطح الجامع الكبير في نيسابور فأهاب بالقوم أيها الناس. لقد استنبطت اليوم للعالم عملاً لا مثيل له ولا قرين. وأنا محدث للخلف أمراً ما تقدمني إلى اختراعه أحد قط.

ثم أخذ دفتين فشدهما إلى جثمانه بالحبال. بدل الأجنحة. وقال للناس إنه طائر في أطباق الفضاء. وإذ ذاك رف بجثمانه في الجو. ولكنه لم ينشب أن سقط سقطة قاتلة طاحت بحياته. وكان ذلك عام 393 من الهجرة الموافق عام اثنين بعد الألف من مولد السيد المسيح. وبعض المؤرخين يجعل ذلك بعد هذا العهد بخمسة أحوال أو سبعة.

ولكن جهلاء القوم الذين حضروا مقتل أول شهداء الطيران وضحاياه ألقي في روعهم أن الرجل مجنون مختلط العقل.

ثم قال: ومضي بعد ذلك ستون عاماً فقام يومئذ مقلد للجوهري في إنجلترا. إذ جاء في جريدة الطان الفرنسية مقال نقلته عنها جريدة الريفورم التي تصدر في الإسكندرية في 18 يوليه عام 1901 وهذا ما جاء فيه:

إن المذكرة التي ألقاها الموسيو مونجيز في مجمع ليون في الحادي عشر من شهر مايو سنة 1875 تدلنا على أول تجربة عملها الكاهن الإنجليزي أولفييه ده مالمسبوري إذ بدأ بتطيير جسمه بواسطة أجنحة صناعية ألصقها بساقيه وساعديه. ولكنه سقط فتهشم ساقاه ومات من جراحة عام 1060.

وعملت بعد ذلك تجربتان. لم يكن حظهما من النجاح بأكثر من حظ أولفيبيه هذا أقام بالأولى في هد لويس الرابع عشر اللار إذ تعهد أن يطير من سانت جرمان غابة فيزينه. ولكنه سقط على مسافة أمتار من مكان طيرانه. وأصابته من ذلك جراح بالغة. وقام بالتجربة الثانية بزنييه. كما جاء في مقال مسهب نشرته جريدة العلماء في 18 ديسمبر عام 1875.

ثم انتقل سعادة المحقق إلى الكلام عن ابن فرناس فقال إنه أول طيار. وأنه أسبق من الجوهري. ففي النصف الأول من القرن الثالث الهجري نبغ في قرطبة حاضرة الأندلس: رجل خليق باهتمامنا، حرى با كبارنا، يستأهل اسمه أن يكون في سجل الطيران، وقد ورد ذكر أبي القاسم عباس بن فرناس في أربعة مصادر؟ في يتيمة الثعالبي ولم يذكر له فيها الايتين باسم بن فرناس؟ وفي العقد الفريد لابن عبد ربه. وأثبت له شعراً فخماً مؤثراً قاله في انتصار أميره عبد الرحمن بوادي سليط. وفي البيان المغرب لابن عذاري المؤرخ المراكشي المشهور جاء بنفس القصيدة التي في العقد. باسم ابن مرداس. وقد كتب عنه المقري في نفح الطيب وهو المصدر الذي رجع إليه زكي باشا في الكلام عن أبي القاسم. وبعدما أسهب سعادته وأطال في تحقيق التحريف الذي وقع في الاسم واختلاف هذه المراجع في فرناس ومرداس ومرناس وقرناس. انتقل إلى ما كان من مؤمن بن سعيد من شعراء قرطبة. وسخريته من أبي القاسم يوم قال للأمير محمد من أبيات:

رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر

فقال له مؤمن قبحاً لما ارتكبت. جعلت وجه الخليفة محرثاً يثمر فيه البذر فخجل وسبه، وكان ابن فرناس من قبل ذلك نحوياًَ وأثبت ذلك السيوطي واعتمد على المؤرخ الأندلسي أبي بكر الزبيدي. وكان أول من فك بقرطبة كتاب العروض للخليل. وأول من فك الموسيقى وأول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة. وصنع الآلة المعروفة بالثقال ليعرف الأوقات على غير رسم ولا مثيل.

وصنع في بيته هيئة السماء. وخبل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود فلم يسلم أبو القاسم من سخرية مؤمن بن سعيد. ولا نجا من بذاءة لسانه.

واحتال في تطيير جثمانه فكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافات بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره. وقال المقري إنه لم يدر أن الطائر يقع على زمكه. ولم يعمل له ذنباً، وفيه قال مؤمن بن سعيد:

يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا نفسه ريح قشعم

وفي هذا البيت شهادة لأبي القاسم لا تدفع ولا ترد. إذ جاءت من عدو حانق مهتاج ومن ذلك نستخلص أن أبا القاسم في القرن التاسع من التاريخ المسيحي لم ينجح فقط في تطيير جثمانه في القضاء بل استطاع كذلك أن يقوم بسياحة هوائية.

فليسمع الغربيون. ولتطب نفساً أبناء العرب!.

وأعجب ما كان في هذه الأيام من الرحلات الجوية. رحلات الطيارين الفرنسيين دوكور، وفدرين، وبونييه، من باريس إلى القاهرة عن سماء الشآم. ورحلة الطائر الإنجليزي ما كان عن سماء البحر المتوسط. وكلتا الرحلتين تعد من المهارة الفائقة كل حد.

والآن اسمع ما كتب الطيار دوكوريصف ما عاناه في جبال طوروس قال:

بدأت أسير بضعة أمتار محاذياً هذا الطود الأشم. كما تحوم البعوضة حول ثغرة في السقف. ولكن لم ألبث أن وجدت صدعاً في الصخور قد اختفى عاليه في السحاب المركوم والغيم المتكاثف فلما عرفت أني في الوادي الذي يحاذي الخط الحديد الذي يجري الألمان اليوم عمله. اندفعت إليه ولكني ما كدت أدفع في هذا الصدع الضيق حتى هبت ريح هوجاء جعلتني أهتز وأترنح وأميد وأنا أنساق مع الريح إلى الأمام. وكانت طيارتي تسير بسرعة شديدة تقرب من 110 كيلو مترات في الساعة ولكن قوة الريح جعلتها تقطع ضعف هذه السرعة ولم أنشب أن فقدت كل تدبير وصرت أميل مع الريح كالورقة في الرياح المعصرات. فآونة أعمد إلى هذا الجناح. وأونه إلى ذاك وكنت أرى الأرض تحتى تطوي طي السجل للكتب وكانت المراكز التي في طريقي حيث ينام العمال الذين يعملون في النفق والخط الحديد. ترسل إلى بعضها الأبناء البرقية تنبيهاً لها بمقدمي وممري، وقد علمت أني كنت أقطع 350 كيلو متراً في الساعة.

وكنت أنسل في طباق السماء كالبرق الخاطف مصطدماً في كل حين بطبقات الغيم وركام السحائب هذا والصدع يأخذ في الارتفاع والتطاول، حتى صرت كأني في درب مسدود يشق عنده الهبوط ويستحيل لدنه الارتفاع والتحليق فتبينت أن ختام الرحلة قد آن، وإن قد أزفت الأزفة. ليس لها من دون الله كاشفة. وإن الموت مني قاب قوسين أو أدنى. ولكني حمدت الله إن لم أصحب معي رفيقي. بل جعلته يجتاز دروب الجبل وإذا بثغرة في السحاب قد انشقت وفرجة في الغيم قد انجلت. فانبعثت أطير فيها حتى بلغت مكاناً أشبه في شكله (بالقمع) متوجاً أعاليه بالسحب وانفتح في الجهة اليمنى صدع جديد. آتياً من صوب البحر الأبيض تلتقي عنده ريحان متناوحتان قد نشأ من تناوحهما. دوامة هوائية جعلت منها اهتز وأميل.

ومضت بضع دقائق. وأنا لا أعرف ماذا أصنع والطيارة منطلقة بسرعة 250 كيلو متراً. ولمحت أخيراً على جوانب الجبل. وقد اكتست ثوباً سندسياً من العشب. مكاناً فضاء منكشفاً، فيممته مواجهاًَ الريح وأنا أؤمل أن سرعة الزوبعة وسرعة الطيارة سيتوازنان ويتعادلان وذلك ما حدث ولكن ريحاً أخرى هبت من تلقاء البحر الأبيض انحرفت بي وانعطفت. وجعلت أهبط بسرعة 100 كيلو متر في الساعة. وارتميت على جانب الجبل على مقربة من الموضع الذي اخترت لهبوطي واصطدمت بشجرة هناك فحطمتها تحطيماً وسقطت بطيارتي على خمسين متراً من الموضع.

حتى إذا أفقت من غشيتي. وجدتني لا أزال في مكاني. قابضاً على سيور طيارتي وازائي جذع الشجرة المحطمة وما بي من خدش ولا جرح! ولكن شاء القدر لطيارة دوكور بعد أن جازت هذه القحم وتخطت هذه العقاب واحتملت هذه اللأواء إلا أن تحترق بعد ذلك بساعات. وأما فدرين ورفيقه بونيبه فقد تعلما من صاحبهما دوكور. وعاينا ما عاين من هول وعرفا ما نال من عذاب. فتحاميا أن يلقيا بنفسهما وطيارتيهما إلى مضايق الجبل وصعابه ومن ثم كان النجاح حليفهما والتوفيق نصيبهما.

فأما بونييه وميكانيكيه بارنبيه. فوصلا المقدس بين هتاف. واكيهم الفرنسيين. وابتهاج السوريين وخفقات الأعلام وازدحام الجماهير. وتألب الناس من جميع الطبقات والأجناس.

وبلغ فدرين يافا ولكنه لم يلج على المقدس. بل انطلق في طريقه. لا يلوى على شيء حتى بلغ القاهرة واحتفل به المصريون أيما احتفال.

وهنا يجمل بنا أن نتحف القراء بما جادت به قريحة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في استقبال هؤلاء الطيارين - وإذا كان للعلوم الطبيعية أن تفخر بالطيارات وهؤلاء الطيارين، فإن خليقاً بالآداب الرفيقة أن تفخر الفخر كله بأميرها المفدى - وإذا كانت الماديات قد أزعجت النسور في الجواء. فقد رحبت بشعر أمير الأدب ملائكة السماء - قال شوقي:

يا فرنسا نلت أسباب السماء ... وتملكت مقاليد الحواء

غلب النسر على دولته ... وتنحى لك عن عرش الهواء

وأتك الريح تمشي أمة ... لك يا بلقيس من أوفي الإماء

روضت بعد جماح وجرت ... طوع سلطانين علم وذكاء

لك خيل بجناح أشبهت ... خيل جبريل لنصر الأنبياء

وبريد يسحب الذي على ... برد في البر والبحر بطاء

تطلع الشمس فيجرى دونها ... فوق عنق الريح أو متن العماء

رحلة المشرق والمغرب ما ... لبثت غير صباح ومساء

بسلاء الأنس والجن فدى ... لفريق من بنيك البسلاء

ضاقت الأرض بهم فاتخذوا ... في السموات قبور الشهداء

فيه يمون جيران البها ... سمراء النجم في أوج الغلاء

حوما فوق جبال لم تكن ... للرياح الهوج يوماً بوطاء لسليمان بساط واحد ... ولهم ألف بساط في الفضاء

يركبون الشهب والسحب إلى ... رفة الذكر وعلياء الثناء

يا نسوراً هبطوا الوادي على ... سالف الحب ومأثور الولاء

داركم مصر وفيها قومكم ... مرحباً بالأفريين الكرماء

طرتموا فيها فطارت فرحاً ... بأعز الضيف خير النزلاء

هل شجاكم في ثرى أهرامها ... ما أرقتم من دموع ودماء

أين (نسر) قد تلقى قبلكم ... عظة الأجيال من أعلى بناء

لو شهدتم عصره أضحى له ... عالم الأفلاك معقود اللواء

جرح الأهرام في عزتها ... فمشى لقبر مجروح الإباء

أخذت تاجاً بتاج ثارها ... وجزت عن صلف بالكبرياء

وتمنت لو حوت أعظمه ... بين أبناء الشموس العظماء

جل شأن الله هادى خلقه ... يهدي العلم ونور العلماء

زف من آياته الكبرى بنا ... طلبة طال بها عهد الرجاء

مركب لو سلف الدهر به ... كان إحدى معجزات القدماء

نصفه طير ونصف بشر ... يا لها إحدى أعاجيب القضاء

رائعاً مرتفعاً أو واقعاً ... أنفس الشجعان قبل الجبناء

مسرج في كل حين ملجم ... كامل العدة مرموق الرواء

كبساط الرياح في القدرة أو ... هدهد السيرة في صدق البلاء

أو كحوت يرتمي الموج به ... سابح بين ظهور وخفاء

راكب ما شاء من أطرافه ... لا يرى من مركب ذي عدواء

ملأ الجو فعالاً وغدا ... عجب الغربان فيه والحداء

وترى السحب به راعدة ... من حديد جمعت لا من رواء

حمل الفولاذ ريشا وجرى ... في عنانين له نار وماء

وجناح غير ذي قادمة ... كجناح النحل مصقول سواء

وذنبي كل ريح مسها ... مسه صاعقة من كهرباء يتراءى كوكباً ذا ذنب ... فإذا جد فسهما ذا مضاء

فإذا جاز الثريا للثرى ... جر كالطاووس ذيل الخيلاء

يملأ الآفاق صوتاً وصدى ... كعزيف الجن في الأرض العراء

أرسلته الأرض عنها خبراً ... طن في آذان سكان السماء

يا شباب الغد وأبنائي الفدى ... لكموا أكرم وأعزز بالفداء

هل يمد الله لي العيش عسى ... أن أراكم في الفريق السعداء

وأرى تاجكمو فوق السهى ... وأرى عرشكمو فوق ذكاء

من رآكم قال مصر استرجعت ... عزها في عهدها خوفو ومناء

أمة للخلد ما تبنى إذا ... ماني الناس جميعاً للعفاء

تعصم الأجسام من عادي البلى ... وتقى الآثار من عادي الفناء

إن أسأنا لكم أو لم نسيء ... نحن هلكي فلكم طول البقاء

إنما مصر إليكم وبكم ... وحقوق لابر أولى بالقضاء

عصركم حر ومستقبلكم ... في يمين الله خير الأمناء

لا تقولوا حطنا الدهر فما ... هو إلا من خيال الشعراء

هل علمتم امة في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء

باطن الأمة من ظاهرها ... إنما السائل من لون الإناء

فخذوا العلم على أعلامه ... واطلبوا الحكمة عند الحكماء

وافرأوا تاريخكم واحتفظوا ... بفصيح جاءكم من فصحاء

أنزل الله على ألسنهم ... وحيه أعصو الوحي الوضاء

واحكموا الدنيا بسلطان فما ... خلقت نضرتها للضعفاء

واطلبوا المجد على الأرض فإن ... هي ضاقت فاطلبوه في السماء

ولما رأى سكان المقدس طياراً فرنسياً يهبط لأول مرة مدينتهم، أخذتهم الغيرة القومية، ونهضت في نفوسهم الحمية، فاجتمعوا على تقديم طيارتين إلى الجيش العثماني، ليطير بهما ضابطان فوق سماء البوسفور نافذين إلى سماء الأرض المقدسة، فقرر القائد أنور باشا ناظر الحربية العثمانية أن ينفذ طيارة من الآستانة إلى مصر حتى لا يكون العثمانيون متخلفين عن الفرنسيين في مسألة المسائل في هذه الأيام.

فلما كان يوم الأحد لثمان خلون من فبراير الماضي، برحت طيارتان من نوع المونوبولان الفرنسي، أي الطيارة المنفردة الجناح، تقل الأولى الطيار فتحي بك وسواقه الميكانيكي الملازم صادق بك رفيق أنور باشافي بني غازي وتقل الأخرى الملازم نوري بقك ورفيقه إسماعيل حقي بك، وأقيمت لهم قبل رحلتهم حفلة شائقة في الآستانة، حضرتها ابنة السلطان مراد، وقد قدمت بيدها باقة من الزهر إلى القائد فتحي بك، وانبعث الطيارتان في ذلك اليوم شاخصة إلى القاهرة.

وحدث في الطريق لنوري بك ما عطله كثيراً، ولكن الطيار فتحي بك انطلق محلقاً لم يسف ولم يتأخر، فوصل إلى قونية في اليوم العاشر من فبراير، ثم بلغ طرسوس في الحادي عشر منه وجاز جبال طوروس على ارتفاع 3500 متر واستراح يومين كاملين ليملأ طيارته بحلب، فلما كان اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر، حلق في سماء بيروت في هتاف البيروتيين وتهليلهم، وقد احتفلوا به وبرفيقه احتفالاً عظيماً.

وحدث له في 19 فبراير حادث، لعله كان سبب الفاجعة الكبرى التي نزلت به في السابع عشر منه، إذ سقط الطيار في أحد الغدران التي تجري في أرباض بيروت واختلت طيارته اختلالاً كبيراً فاستغرق في إصلاحها خمسة أيام سوياً.

وعاود الطيران في الرابع والعشرين فبلغ دمشق بعد ساعة وعشر دقائق. بعد ما جاز جبال لبنان كرة أخرى، في احتفال كبير، وعيد أكبر، ولم يسلم أحد عنهما بعد ذلك أمراً. بل لم يلبث الناس أن رأوا إطلال الطيارة وبقاياها، وأشلاء الطيارين الشهمين على مقربة من بحيرة كبريا نضج أول مصابهما العالم الإسلامي وتقطعت عليهما الأكباد، وشقت الجيوب، وفاضت الشؤون، وسحت العبرات، على أن المصاب وأن يكن عظيماً فقد كان فخراً للعثمانيين وكيف لا يكون الفخر، والشهيدان راحا ضحية للعلم، وأكثر الضحايا من أبطال الدولة العثمانية ورجالاتها راحوا ضحايا للحروب ومدمراتها.

وقد دفن الفقيدان في حظيرة ضريح صلاح الدين الأيوبي. ونعم هذا الجوار.

أما الطيار نوري بك ورفيقه إسماعيل حقي بك، فقد سقطت الطيارة فوق أديم البحر، فغرق الطيار نوري بك، وقار الله النجاة لإسماعيل حقي بك، وقد دفن الشهيد الثالث جانب رفيقيه الشهيدين الأولين - قال شوقي يرثي:

انظر إلى الأقمار كيف تزول ... وإلى وجوه السعد كيف تحول

وإلى الجبال الشم كيف يميلها ... عادي الردي باشارة فتميل

وإلى الفراقد كيف تنثر في الثرى ... أشلاؤهن حجارة ونصيل

وإلى الزياج تخر دون قرارها ... صرعى عليهن التراب مهيل

وإلى النسور تقاصرت أعمارها ... والعهد في عمر النسور يطول

في كل منزلة وكل سمية ... قمر من الغر السماة قتيل

يهوي القضاء بها فما من عاصم ... هيهات ليس من القضاء مقيل

(فخ السماء) و (نورها) سكنا الثرى ... فالأرض ولهى والسماء ثكول

سر في الهواء ولذ بناصية السهى ... الموت لا يخفى عليه سبيل

واركب جناح النسر لا يعصمك من ... نسر يرفرف فيه عزرائيل

ولكل نفس ساعة من لم يمت ... فيها عزيزاً مات وهو ذليل

ما الميت من همل الأنام كهالك ... زالت به دنيا وباد قبيل

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها ... فالذكر عمر لو علمت طويل

لا تذهب الحسنات في أثر الفتى ... إن الزمان بنشرهن كفيل

أإلى الحياة سكنت وهي مصارع ... وإلى الأماني يسكن المسلول

لا تجفلن ببؤسها ونعيمها ... نعمى الحياة وبؤسها تضليل

ما بين نضرتها وبين ذبولها ... عمر الورود وأنه لقليل

هذا بشير الأمس أصبح ناعياً ... كالحلم جاء بضده التأويل

يجري من العبرات حول حديثه ... ما كان من فرح عليه يسيل

ولرب أعراس خبأن مآتما ... كالرقط في ظل الرياض تقيل

يا أيها الشهداء لن ينسى لكم ... فتح أغر على السماء جميل

والمجد في الدنيا لأول مبتن ... ولمن يشيد بعده فيطيل

لولا نفوس زلن في سبل العلي ... لم يهد فيها السالكين دليل

والناس باذل روحه أو ماله ... أو علمه والآخرون فضول والنصر غرته الطلائع في الوغى ... والتابعون من الخميس حجول

كم ألف ميل نحو مصر قطعتمو ... فيم الوقوف ودون مصر ميل

طوروس تحتكمو ضئيل طرفه ... لمت طلعتم في السحاب كليل

ترخون للريح العنان وإنها ... لكمو على طغيانها لذلول

اثنين أثر اثنين لم يخطر لكم ... إن المنية ثالث وزميل

ومن العجائب في زمانك أن يفي ... لك في الحياة وفي الممامات خليل

لو كان يفدى هالك لفداكمو ... في الجو نسر بالحياة بخيل

أي الغزاة أولى الشهادة قبلكم ... عرض السماء ضريحهم والطول

يغدو عليكم بالتحية أهلها ... ويرفرف التسبيح والتهليل

إدريس فوق يمينه ريحانة ... ويسوع فوق يمينه إكليل

في عالم سكانه أنفاسهم ... طيب وهمس حديثهم انجبل

إني أخاف على السماء من الأذى ... في يوم يفسد السماء الجيل

كانت مطهرة الأديم نقية ... لا آدم فيهخا ولا قابيل

يتوجه العاني إلى رحمانها ... ويرى بها برق الرجاء عليل

ويشير بالرأس المكلل نحوها ... شيخ وباللحظ البريء بتول

واليوم للشهوات فيها والهوى ... سبل وللدم والدموع مسيل

أضحت ومن سفن الجواء طوائف ... فيها ومن خيل الهواء رعيل

وأذيل هيكلها المصون وسره ... والدهر للسر المصون مذيل

هلعت (دمشق) وأقبلت في أهلها ... ملهوفة لم تدر كيف تقول

مشت الشجون بها وعم غياطها ... بين الجداول والعيون ذبول

في كل سهل أنة ومناحة ... وبكل حزن رنة وعويل

وكأنما نعيت أمية كلها ... للمسجد الأموي فهو طلول

خضعت لكم فيه الصفوف وأزلفت ... لكم الصلاة وقرب الترتيل

من كل نعش كالثريا مجده ... في الأرض عال والسماء أصيل

فيه شهيد بالكتاب مكفن ... بمدامع الروح الأمين غسيل أعواده بين الرجال وأصله ... بين السهى والمشتري محمول

يمشي الجنود به ولولا أنهم ... أولى بذاك مشى به جبريل

حتى نزلتم بقعة فيها الهدي ... من قبل تاو والسماح نزيل

عظمت وجل ضريح (يوسف) فوقها ... حتى كأن الميت فيه رسول

شعري إذا جبت البحار ثلاثة ... وحواك ظل في فروق ظليل

وتداولتك عصابة عربية ... بين المآذن والقلاع نزول

وبلغت من باب الخلافة سدة ... لستورها التمسيح والتقبيل

قل للإمام محمد ولآله ... صبر العظام على العظيم جميل

تلك الخطوب وقد حملتم شطرها ... ناء الفرات بشطرها والنيلد

أن تفقدوا الآسادا أو أشبالها ... فالغاب من أمثالها مأهول

صبراً فأجر المسلمين وأجركم ... عند الإله وإنه لجزيل

يا من خلافته الرضية عصمة=للخلق أنت بأن يحق كفيل

والله يعلم أن في خلفائه ... عدلاً يقيم الملك حين يميل

والعدل يرفع للممالك حائطاً ... لا الجيش يرفعه ولا الأسطول

هذا مقام أنت فيه محمد ... والرفق عند محمد مأمول

بالله بالإسلام بالجرح الذي ... ما أنفك في جنب الهلال يسيل

ألا حللت عن السجين وثاقه ... إن الوثاق على الأسود ثقيل

أيقول واش أو يردد شامت ... صنديد (برقة). وثق مكبول

هو من سيوفك أغمدوه لريبة ... ما كان يغمد سيفك المسلول

فاذكر أمير المؤمنين بلاءه ... واستبقه أن السيوف قليل

وصف مصر

للفاضل أحمد أفندي الألفي

لعمرو بن العاص القائد العربي الشهير، وفاتح مصر، وأميرها في صدر الإسلام، كتاب في وصفها والإشارة إلى السياسة الصالحة لعمادها وحكم أهلها أرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. ويعد هذا الكتاب من أفضل المأثور عن سلفنا الصالح فصاحة وحصانة، وقد وفقت إلى تفسير ما تمس الحاجة إلى تفسيره من ألفاظه ومعانيه تفسيراً يستشف منه القارئ على إيجازه ما فيه من بلاغه الوصف وسمو المبدأ قال:

اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء وشجرة خضراء طولها شهر وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات ميمون الروحات يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها فيدر حلابه ويكثر عجاجه وتعظم أمواجه، فيفيض على الجانبين فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب وخفاف القوارب وزوارق كأنهن المخايل ورق الأصايل فإذا تكاملت زيادته نكص على عقبه كأول ما بدا في جريته وكما في حدته فعند ذلك تخرج ملة محقورة.

وذمة مخفورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، ويرجون النماء من الرب فإذا احقل الزرع ورف سقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى.

فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء إذ هي عنبرة سوداء فزمردة خضراء فديباجة زرقاء فتبارك الفعال لما يشاء.

والذي يصلح هذه البلاد ويميرها ويقر قاطنها فيها، أن لا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وأن لا يستأدي خراج الثمرة إلا في أوانها وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا جرى العمل على هذا المنوال تضاعف ارتفاع المال والله تعالى الموفق في الحال. والمآل.

سر تطور اليابان

إن للمرء وطنين. وطنه واليابان

تلك هي الكلمة الجديدة التي يجب أن توضع بجانب الكلمة المأثورة عن رديارد كبلنج. أكبر شعراء إنجلترا في هذا العصر وهي (إن للمرء وطنين. وطنه وفرنسا).

ذلك لأن كل من ساح في بلاد اليابان وزار أرض الشمس المشرقة افتتن بحسن تلك البلاد وأعجب بأدب أهلها وحسن أخلاقهم وتربيتهم. وقد كتب أحد كتاب فرنسا المشهورين عدة مقالات شائقة يصف بها اليابان وأخلاق اليابانيين. وقد آثرنا أن نأتي بنبذ منها.

قال الكاتب: أن جميع من شاهدوا بلاد اليابان قد صرحوا بأنهم غادروها والحزن يغالبهم لفراقها. كأنهم قد فارقوا وطناً لهم محبوباً.

والحقيقة المقررة أن الياباني بوجه عام أكثر حضارة ومدنية من أي أوروبي يشابهه في طبقته وبيئته. وهذه الحقيقة تتجلى لعين السائح من أول خطوة يخطوها في الطرق.

والأدب عام في اليابان في أحقر الناس. فإن السائل منهم ليسأل أحدهم ولا يخطر في باله أن مخاطبه سيرفض الإجابة عما طلب. واليابانيون يجيبون على تحيات الخدم كما يجيبون على تحية أكفائهم وصحابتهم وأقرانهم. وفي المتاحف يلقون التحية إلى الحارس. وترى الرجال الذين يتساوون في مركزهم الاجتماعي مع سائقي المركبات في فرنسا والبلاد الغربية على جانب عظيم من الأدب والتهذيب وقد نبئت أن اللغة اليابانية لا تتسع لألفاظ الشتائم والسباب. ومن يريد أن يكون منهم خشناً في القول جافاً في الكلام لا يستطيع لذلك سبيلاً. ولقد قضيت شهرين في تلك البلاد صرفت أكثرها في طرقها وشوارعها فلم أر أحداً مغضباً صاخباً. ولا سمعت يوماً صوتاً ارتفع بسباب.

والحارس يقف إذا داناه الزائر. وأنت تستطيع أن تجاذبه أطراف الحديث. لأنه على جانب عظيم من التربية بل والعلم. وربما كان من الملمين بفروع العلوم.

نحن نعيش في قرافة تحت الجمهورية. ولكن اليابانيين يعيشون في ظل المساواة الاجتماعية. وفي فرنسا ولاسيما في المدن الكبرى ينظر إليك من هو دونك كأنك خصم له وعدو كأنما أنت سبب فقره وانحطاطه. ويتقبل منك العطايا وعليه سيما الذلة أمارات الاستهانة والاستهتار. أما في اليابان فإن خادمة الحان لتؤثر أن تنفحها بحلوان زهيد. ملفوف في غلاف. مصحوب بتحية. على أن ترمي البها بعطاء كبير تتبعه غلظة ويصحبه جفاء وفي أغلب الأحيان ترى الحلوان المعطي بجفاء مرفوضاً أدباً وحياء. وقد كانوا قبل اليوم بقليل لا يضعون حداً لأجور المقام في فنادق الريف بدل يدعون ذلك إلى كرم النظيل وأدب المقيم. فإذا حان وقت الرحيل دفع صاحب الفندق إلى السائح مروحة بمثابة تبادل للضريبة التي يسمونها ثمن الشاي.

ولا تزال هذه العادة موجودة إلى الآن. ولكنها بدأت تزول لكثرة السياح والنزال.

وفي أوروبا تجد فروقاً بين الطبقات المختلفة ونفوراً بين العامة والخاصة. وكلاهما يرجع إلى زهو الأغنياء من جهة. وخشونة الفقراء من جهة أخرى. والاختلاف في التربية أكثر في التنفير من الاختلاف في الثروة. ولكني لم أر بلداً قلت فيه الفروق وندر فيه النفور بين الناس غير اليابان. فكلهم مهذب. وكلهم مؤدب. ولا حاجة هناك إلى مركبات تعد لركوب السيدات خاصة. حتى يكن في نجوة من أية خشونة محتملة الوقوع من الرجال. بل ترى في السفر السيد الياباني والسيدة اليابانية يتخاطبان دون تكلف لعبارات التأدب المصطنعة. بل يتكلمان كأنهما من أسرة واحدة. من غير غلظة أو قحة. حتى إذا افترقنا تبادلا التحية وسار كل في سبيله.

واليابانيون بأسرهم يعرفون القراءة والكتابة. وهم بقرضون الشعر جميعاً. وقد قامت في أثناء الحرب الأخيرة جمعية أخذت توزع على الجند والمجاهدين في سوح القتال غلفاً محتوية بعض جوارب ورسائل و (فرش) للأسنان وتبغ وحلوى. وكانوا يكتبون على كل غلاف اسم المهدي. فكان الجندي المتقبل للعطية يشكر مهديها ببضعة أبيات من الشعر.

والياباني في نظر الغربي الذي لم تسبق له به صحبة يظن غليظ الطباع غضوباً ولكنه لو تعرف له وصاحبه رأى منه رجلاً محبباً بشوشاً كريماً ومثال ذلك أنه في محط من محاط السكة الحديد وقفت قاطرة بجانب الأخرى وكانت حجرات الدرجة الأولى للقاطرة الأولى بإزاء حجرات الدرجة الثالثة للقاطرة الأخرى. وكان في الأولى سفر من الغربيين وكان في الثانية ركب من عامة اليابانيين. وكان الفريقان ينظرون إلى بعضهما شذراً متجهمين. ولكن لم يلبث أن لوح بغتة أحد الغربيين بيده إلى طفل ياباني بين المسافرين في القاطرة الأخرى وابتسم له وعلا وجهه علائم البشر. وإذا بوابل من التحيات قد اندفع من اليابانيين. وما لبثوا أن تبادلوا باقات الزهور وطاقات الرياحين.

الأرمادللو

لعمري أن أمريكا لعجيبة في كل شيء حتى في حيوانها. هذا هو الأرمادللو كما يسميه الأسبان، حيوان عجيب، له غطاء عظمي فوق ظهره يتألف من أطواق تختلف في عددها وكثافتها باختلاف أنواع الأرمادللو، وهذا الحيوان يتغذى من الجذور والحشرات والديدان والأفاعي والعظام والنمل والرمم، وأغلبها وإن لم يكن كلها من الحيوانات الليلية، وهي لا تؤذي ولا تضر ولا تحاول أدنى مغالبة إن مسكت أو صيدت، وأهم الوسائل التي تتخذها للهرب سرعتها الغريبة في حفر الحفر في الأرض وصبرها على الاستكنان في الحجر الذي تأوى إليه وهي رغماً من صغر أطرافها وقصر سوقها، سريعة الجري والعدو، ويستطيب أكل لحمها أهل البلاد التي تكثر بها، وهي تسكن السهول الشاسعة والغابات المترامية في النواحي الحارة والمعتدلة من جنوب أمريكا، على أن في ولاية تكساس شمال خليج المكسيك، نوعاً منها وأكبر أنواعها النوع المسمى الأرمادللو المارد إذ يبلغ طوله نحواً من ياردة.

ويوجد في غابات سورينام والبرازيل. ومنها نوع يسمى الببا لها أطواق متحركة في غطائها.

وهذا النوع الذي ترى أمامك صورته يتألف غطاؤه من سبعة أطواق وأرجله وأذناه نهاية في القصر.