مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/مذكرات إبليس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/مذكرات إبليس

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 4 - 1913



بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد

إغواء فتاة

قال إبليس: كنت أتمشى في بعض أحياء القاهرة وقد نهكني الفكر وأمضني أعمال الرأى. وكنت مشتغل البال بوضع مكيدة جهنمية أوقع بها سلسة الأمم في طامة مشكلة وحرب زبون. فبينما أنا أسير في طريق عامرة بالقصور آهلة بأصحاب الثراء والجاه القديم حانت مني التفاتة إلى نافذة في دار قوراء فلمحت فتاة عذراء مفرغة في قالب بديع الحسن ينسجم على جسدها الغض غلالة بيضاء كأنها نسجت من رغوة الماء أو خيوط الضياء، تشف من بدنها عن بشرة صافية بضة، ونهدين قاعدين كأنما ينفذان من خلال ذلك الشف الرقيق. وقد اتكأت على النافذة تنظر إلى الطريق وتتنسم الهواء.

وما كنت أجهل مريم ولا أنا غافل عنها. ولكنها كانت طفلة تمرح في حراسة ملائكة الطفولة، فلا أجرأ على الدنو منها، وكانت زهرة في كمام الفضيلة فلا تمتد يدي إلى اقتطافها - وللطفولة حرم تحوم حوله الشياطين ولا تتخطاه.

فأما اليوم فإنها كاعب ينبض قلبها بدم الشهوة، وتجري في عروقها حرارة الهوى، وقد تفرقت عنها ملائكة الطفولة فلا شيء يعصمها مني، وتفتحت زهرتها فامتزج عرفها الطاهر بهواء الدنيا، وسوف يكون لي معها شأن كالذي كان لي مع غيرها من بنات حواء. ثم لا أترك فيها إلا كما يبقى في الزهرة الذابلة من شذي أحرقه في مباخر الجحيم.

ورأيت أن أعرج عليها في طريقي بها وأرفه عن نفسي ساعة بهذه الفكاهة اللطيفة، فأريح ذهني من جد الخبائث الكبيرة، والشرور المستطيرة وإن كان أغواء مثلها لا يحتاج إلى أكثر من دعابة شيطان صغير، من تلاميذي المبتدئين في صنعة الفساد.

وكانت مريم بنت رجل من ذوي المكانة والثراء، ظللت أضارب بعقله في المضاربات حتى خسر عقله وماله. ولم يبق له من الضياع والنشب إلا هذا القصر الذي يقيم فيه، فحجروا عليه وأقاموا له قيماً يتولى تأجير جانب من ذلك القصر وينفق من أجرته في مؤنة العائلة وتربية الصغار، فعكف الرجل على بيته لا يريم عنه، وقد هجره أصدقاؤه وتسلل حشمه من خدمته واحداً بعد واحد إلا خصياً منحوساً حفظ عهد سيده كما يقول، ولو ع الخبيث مرتزقاً أوسع جناباً، وأوطأ رحاباً من بيت سيده لفر منه فراره من المأسدة وكنت قد وكلت بمريم ولدى الأعور. فصرفته في دعوة فتي أنسى أستعين به أحياناً على خلب قلوب العذارى، وصعدت إلى مريم، فدخلت وإن نظرات النساء لمغناطيس يجذب إليه من قلوب الرجال حديداً صلداً. وإن كان ذلك الحديد ليكونن عليها في بعض الأحيان حداً ماضياً، أو نصلاً قاضياً.

ورأيتها عارية الشعر، عاطلة النحر، مجردة المعصم. فقلت ما كان أجمل هذا الليل لو زانته زواهر الجواهر، وما أليق الحلى الذهبية بهذه الترائب البلورية!! أو ما كان قرط الماس أجمل في هذه الأذن منه عالقاً بأذن جارتك مرجانة؟؟ وهو في أذنها السوداء كأنه شرارة طارت من فحمة!! وما بال هذا النحر لا تكسوه لبة ربما فاضت على صدر أسمر فلاحت فيه كما يلوح وضج البرص في الأديم الأسود، وما لهذا المعصم لا يزينه سوار ربما التوي على ذراع مهزول فكأنه مسعر قد التف عليه ثعبان!! وهل استخرج النضار إلا ليلمع على هذه الصدور؟؟ أو التقط الجوهر إلا ليسطع في ضياء الجمال الفضاح؟؟

وتلك رقية ما رقيت بها فتاة فقويت عليها وما دسست في صدر أنثى خدعة هي أسرى فيه من هذه الخدعة. بل لقد كنت أهجس بها في قلب المرأة فتؤثر لو أنها تصبح بغير جيد من أن يكون لها جيد لا تطوقه الحلى والعقود.

فما تلوت تلك السورة على مريم إلا وقد امتعضت وزال عنها ذلك البشر الذي كان منذ برهة يترقرق في أسارير وجهها. وكأنها تقول: إني لي هذه النفائس وهي نعمة قد حرمتها وأباها على الله أن يمتعني بها.

قلت أولاً يغنيك أبوك عن هذا التمني؟!

قالت إن أبي لكالضيف في المنزل، بيد أنه لا يكرم إكرام الضيف. وهذا القيم قد بات يقتر عليه في النفقة. وهو يستقطر من كفه الدرهم بعد الدرهم فإذا ظفر منه بعلبة التبغ حسبها منه غنماً كبيراً ومنة عظمي.

قلت: فخطيبك!! فبكت الفتاة وقالت لقد كان لي خطيب يزورنا أحياناً فيتودد إلي ويلاطفني. فلما تضعضعت حالنا وقعد بنا الدهر هجر الرخاء منزلنا وهجره في يوم واحد. فما سمعنا عنه منذ ذلك اليوم إلا أنه عقد خطبته بالأمس على إحدى قريناتي في المدرسة. ولو أنها كانت أملح مني خلقاً أو أصبح صورة لحسدتها على ملاحتها وصباحتها. ولكني لست أحسدها إلا على أب أكثر من أبي مالاً وأدنى إلى القبر قدماً.

قلت لا يعدم هذا الجمال عاشقاً يتقرب إليه بحياته، ويذال المال في سبيل مرضاته.

فانتفضت الفتاة وراعتها كلمة العشق. وما كانت تعرف إلا أن العشق والفسق شيء واحد. وكانت تسمع العجائز يقلن عن بنات اليوم أنهن فطح القلوب تتكشف نفوسهن لعيون الرجال وهي سر من أسرار الجنس المكنونة لا يجوز إفشاؤه، وخطة مدبرة يحرم إعلانها لغير بناته. ويأخذن على فتيان هذا العصر أطماعهن الرجال في جنس النساء. ثم يتذاكرن الأيام الخوالي وكيف كن يتمنعن وهن الراغبات، ويحرقن قلوب أزواجهن تيهاً ودلالاً، وتجنياً وصدوداً. ويخدعنهم بالتباعد حيناً وبالقرب أحياناً ثم يعطفن من ذلك إلى التوجع لسوء حظ بنات اليوم ويقلن لمن حضر منهن: لقد نعمنا بزماننا فاستقبلن اليوم زمانكن المعكوس. كأنما يضعن من شأن الصبا بعد أن فارقهن، ويأسفن على حظ الصبيات من الشباب لئلا يأسفن على فاتهن منه. أو كأنما يحسبن الفتيات ضرائر لهن في هذا العاشق المتقلب فينتقمن منه فيما يوليه أولئك الفتيات من تحفه ولطائفه.

وشوه وجه العاشق في عينيها ما كانت تقرأ وتسمع في المدرسة من وصف الفضائل وصفاً كوصف الأكمه لنجوم السماء، وتعريف العفة تعريفاً يشبه أن يكون معنياً به أن تتمثل لها العفة مناقضة لكل صلة جنسية غير تلك الصلة التي يسجلها الشيخ المأذون في دفتره، ولعمري أنها فضائل هوائية، أو هي نقائض متقنعة، وما مثلها إلا كمثل العواهر اللائي يخرجن في زي الحرائر، فيكون هذا الزي أغرى للأنظار بهن. ولا تعيش تلك الفضائل إلا بمعزل عن الرذائل. فهي لا تجالد الشهوات في ميدان ولكنها تمتنع عنها في حصن بعيد، فإذا اقتحمته الشهوات مرة أصبحت فضائله أسرى في يدها، بل ربما تقلدت سلاحها وحاربت به في صفها، وليست الثقة بهذه الفضائل إلا كثقة هاروت وماروت بنفسيهما في السماء. فلما هبطا إلى الأرض سكرا وفسقا وقتلا في لحظة واحدة.

يضع حمقى الأنس فضائلهم هذه عثرات في طريقي فأتناولها وأجعلها معالم يهتدي بها الناهجون فيها. ولا شيء يهون عليّ إغواء الفتاة الشرقية إلا عفة هي بصدور الكتب أجمل منها بصدر الفتاة.

ليس لإغواء الفتاة الشرقية عندي إلا طعمة واحدة. فأما فتاة الغرب فإني أنصب لها أحبولة بعد أحبولة حتى تقع في يدي، وتصبح فريسة لي. فإذا انتقلت بالشرقية من الصيانة إلى العشق أبصرت نفسها قد انتقلت إلى حال ينكرها أهلها وذووها، ويستهجنها الناس من حولها، وعلمت أن ما هي فيه رجس لا يرضاه إلا هي. فخلعت العذراء وأرسلت نفسها في التيار، فذهبت إلى الغابة من التبذل والاستهتار.

فأما أختها الغربية فلا بأس بها من العشق ولا إنكار عليها فيه. فإذا أحبت لم ينته منها أربي. بل لا أزال أتنقل بها من العشق في أدوار شتى، وأتدرج بها من السائغ إلى المحظور ومن الطيب إلى الخبيث حتى يفضي بها الأمر إلى الفساد.

وكذلك أستفيد من غلو الشرقيين في فضائلهم ما لا أستفيده من تفريط سواهم. فكلما ضيقوا دائرة الفضيلة اتسعت دائرة الرذيلة، أو حصروا حدود الحسنات، انفرجت حدود السيئات.

وآنست من مريم استعصاء وتثاقلاً. فأخذت بيدها إلى نافذة تطل على حديقة جارهم. وكان في القصر الذي فيه الحديقة فتاة من لداتها قد سبحت في الغواية سبحاً، وتقلبت في المقابح ردحاً، وكانت يوم ذاك في هوى فتى هو ثالث عشاقها، والفتاة في العشق على مذهب أولئك الذين يخجلون من أن تراهم اليوم مع عاشق الأمس، ويحسبون أن الدوام على عاشق واحد كالدوام على لباس واحد. هذا ينم عن فقر إلى المال، وذاك يبين عن فقر إلى الجمال.

وكان الفتى يختلف إليها في الحديقة. وتعلم أمها من شأنها ما تعلم، ولكنها كانت تبادلها غض النظر. ولعلها لا تكره زيارة الفتى لأن عين بنت الثلاثين قد ترى كما ترى عين بنت الخمس والعشر!!

وكان مجلسهما في الحديقة تحت سرحة فرعاء، فيقضيان هنالك ساعة أو ساعات لا مقدار لها في تقويم العاشقين، لأن إله الحب وربات الزمن لا يتلاقون في مكان واحد، فإذا شغل الحب موضعاً فزمنه الزمن، وإذا خلا موضع من الحب تمطي به الوقت وتطاولت فيه الساعات.

وجلسا في تلك اللحظة وقد تعاقدا بالأيدي، وتجاذبا بالنظر فكأنهما يعالجان التنويم المغناطيسي، أو كأن كلاً منهما قد جمع روحه في عينيه لتتعرف من وجه صاحبه روحاً لقيتها في عالم الذر، فيطول أمد النظرة لطول العهد، ثم تختم بقبلة لا يدريان أهي راحة الذاكرة من هذا الإمعان والاستقصاء. أم هي بين الروحين تصافح المعرفة واللقاء.

فلما رأتهما مريم على هذه الحال، تضرمت في نفسها شعلة الصبا، وسرت في عروقها حميا الهوى، فقالت ليت لي عاشقاً!!

قلت أو تعشقين؟؟

قالت ولم لا؟؟ بل إني لعاشقة الساعة. وكأنني أجد نفسي بين يدي فتى أجلس منه مجلس هذه الفتاة من ذلك الفتى، وإننا نتلاحظ كما يتلاحظان، ونتعانق كما يتعانقان، ونقطف من زهر المنى في روض الهوى مثلما يقطفان قلت فاذهبي إلى عين الشمس. . . فهنالك تجدين عياناً ما تتوهمين خيالاً. واستقبلي عصاري اليوم في وديانها حبيبك المأمول ونعيمك المعسول.

وكان الأعور قد جاء بالفتى الأنسى وأرصده من منعطفات عين شمس بحيث أمرته. فوقف يتشاغل بالصفير ويغازل الغاديات والرائحات أما هذا الفتى فهو ممن طمست على بصائرهم وأضللت ألبابهم، وطوحت بهم في الفساد إلى حيث لا يبلغ صوت الضمير أو نداء الوجدان، فأصبح كسول النفس، بارد القلب، لا يخف إلى غير المخازي، ولا يرتاح إلى حديث في غير الشراب والنساء، ولا يرى إلا أن العالم حان أو ماخور.

وذهبت مريم إلى أمها فاستأذنتها في الخروج أصيل ذلك اليوم، وكانت أمها تخاف عليها مغبة ما بها من الكمد وتشفق أن تتلاشى نفسها غماً من غدر خطيبها، وانصرافه عنها إلى صاحبتها، فكرهت أن تجمع عليها بين ضيق الصدر وضيق الأسر، فأذنت لها ونادت بالخصي جوهر ليصحبها إلى حيث تشاء.

ولم يبق الأرَيْم من النهار فنوردت الشمس وتزينت مريم بأحسن زينتها وبرزت تتهادى في الطريق كأنها طاقة الزهر تترك بعدها عبقاً في حينما صافحت الهواء.

وطفقت كلما نقلت قد ما سمعت كلمة إطراء وغزل، وكلما أرسلت نظرة تعثرت في نظرات المقل، وهي ترى ذلك وتسمعه ولا تعيره نظراً أو سمعاً. وإنها لكذلك حائرة النظر، مشردة النفس بين الغرابة والخجل. إذ رمقت الفتى على قرب. فرأت قواماً قويماً، ومشية رشيقة ووجهاً تشرق فيه بشاشة الصبا، وفما تبتسم فيه الملاحة، وعينين ألاّقتين كأنما تضاحكان الضياء. فأحست كأن طائراً نض جناحيه بين جوانحها، ومشت قبالته وهي تنجذب إلى ناحيته على غير عمد، وقد علمت أنها ستسمع من ذلك الفم الجميل ما قد سمعت من أولئك الثراثرة المتعشقين. فخفق قلبها وتوهج خداها. وإذا هي على قيد باع منه، فسمعت صوتاً رخيماً ولكنها لم تتبين ما قال.

وحاولت أن تنحرف عنه فخانتها قدماها. ثم همت أن تنظر إليه فلم تطعها عيناها. ورأى الفتى ترددها ووجومها فأقبل عليها بكياسة الأمراء، وقال بلباقة الخطباء: ألست أنا أولى بمصاحبة هذا الملك السماوي من ذلك العبد الأدلم؟؟ وأشار إلى الخصي جوهر - وكان على بعد يحادث بعض أصحابه - فضحكت. وأدارت عينيها إليه ولكنها لم تلبث أن إدارتهما عنه. وما كان فتاي ليجهل أن أعراض الخجل والدلال إنما هو عين الإقبال؟ وإن انثناء الروعة إنما هو هزيمة في هذا المجال، فأسرع إليها بجرأة أفادته إياها ممارسة هذه المواقف. وأمسك يدها وهي ترتجف بين يديه. وأذهلتها هذه المفاجأة فلبثت هنيهة يخيل لها أنها تتأهب للحركة ولا تتحرك، وأنها تنبس بالكلام ولا تتكلم. كأن القلب الذي يوحى إليها الكلام والاعتزام قد طار منها في ملكوت الحب والهيام. فلم يبق منها إلا بصر شاخص كما ينظر الصبي في أثر العصفور أفلت من يده وإلا بدن مستسلم كأنه بين راحتي الكرى.

وأدركهما جوهر وهما على هذه الحالة. فأرسل يدها وأفاقت إلى نفسها وهي تقول: وا فضيحتاه! هذا جوهر أغا!!

وسمعاه يحر نجم ويطمطم بما لا يفهمانه. وكأن كلماته من اللكنة والعجمة أصوات بغير حروف. ثم قال: عيب يا بك! لا يليق بك أن تتهجم على الحرائر في قارعة الطريق! وليست هذه من أولئك اللائي تعرفهن!!. . . .

فاستقبله الفتى باسماً. وقال بما يعهد في هؤلاء الفتيان من الظرف وتزويق الكلام: سامحك الله يا أبي جوهر. فقد بالغت في إساءة الظن بنا. ولسنا نحن كما ظننت من السوقة الهمل. ولكننا أبناء قوم كرام والحمد لله. وأنت تعلم أن الآنسة أبعد من أن تكون مظنة ريبة لا سيما وهي ربيبتك وفتاتك ووالله ما كنت لا تصدي لمحادثَتها لولا أنها زميلة أختي في المدرسة، وأنها كانت تزورها في منزلنا فعرفَها وعرفتني هناك وامتد بينهما الاستسماح والاعتذار ثم دس في يده ديناراً أطال عهد الخصى بأمثاله، فطار له لبه وقال: وإلى أين تذهبان الساعة؟؟ قال: نتمشى قليلاً حول هذه الحدائق ثم نعود. قال إذن أدع الآنسة في صيانتك ريثما أذهب إلى هذه القهوة ثم ألحق بكما بعد ذلك. قال مع السلامة!

وكذلك تصنع الدنانير والدراهم. فإنها - بارك الله لي فيها - قد سكها الناس ليجعلوها ثمناً لما تتداوله أيديهم من متاع الدنيا. فما زلت بهم حتى اشتروا بها المحاسن والمواهب، والأعراض والمذاهب. بل حتى لقد جعلتها في أيدي بعض الناس ثمناً للفردوس وبراءة من النار.

فما شعر الزنجي بالدينار في كفه حتى رأيته كأنما قد انعكس بريقه على وجهه، واعتدل ما التوى من خراطيمه. ثم تذكر موائد القمار وقد ودعها منذ سنين، فحن إليها وذهب يمتع نفسه باللعب، وهو حظ الخصيان من الدنيا ولذتهم فيها، بعد الطعام والشراب.

أما أنا فقد استدرجت الفتى والفتاة إلى حيث اختليا في بعض تلك الأماكن المنزوية عن الأنظار. . . ثم مضيت في سبيلي.

عادت مريم وهي لا تطيق الصبر يوماً عن عين شمس. ولذت رنات الذهب والفضة للخصى فأصبح يشتاق تلك النغمة كل أصيل. فإذا تأخرت آنسته عن الموعد قليلاً صعد إليها مستعجلاً. حتى خامر الشك قلب الأم.

فأبت عليها الخروج يوماً وما نعتها يوماً ثانياً وأغلظت لها يوماً ثالثاً. ولكنها انتظرت في اليوم الرابع على مضض، وألظ بها القلق فلبثت تتحرق حيرة وشوقاً. إلى أن حان موعد العصر فعزمت على موافاة عاشقها - سمحت أمها أم لم تسمح - فبينما هي تتهيأ للخروج قابلتها أمها فاستغربت منها هذه الجرأة. وقالت إلى أين يا مريم؟؟

قالت: إلى عين شمس!!

قالت: ألست تعلمين أنني أخاف عليك من هذه المدينة المشؤمة؟؟

قالت: أما أنا فأعلم أنه لا خوف عليَّ منها. . .

قالت: حسناً ولكنني لا أريد أن تذهبي إليها

قالت: ولكنني أريد ذلك. . . ألست حرة فيما أريد؟؟

هذه هي الكلمة الجديدة التي تعلمتها الفتاة. وكانت تعرفها من قبل، ولكن كلمة الحرية لم تكن تؤدي في قاموس الطفولة معنى عقوق الأم الرؤم، وإيلام ذلك الحنان الطاهر.

ألست حرة فيما أريد. . .؟؟ نعم أيتها الفتاة أنت حرة فيما تريدين. . .!! وكل فتاة حرة أيضاً. . . . هكذا قال فلاسفة الحرية أكثر الله من أمثالهم.

إن حرية النساء مبدأ قويم، ولكن في الهيئة الاجتماعية منعرجات ومنعطفات لا تنطبق عليها المبادئ، القويمة إلا إذا التوت عندها بعض الالتواء، وليس من شأن الشريعة أن تجد مواضع هذا الالتواء، فإن الشرائع العامة لا تضع إلا القواعد العامة، وإنما هو من عمل البيئة والعائلة. وما دامت هذه الأزقة في الهيئة الاجتماعية فالمبادئ القويمة لا تخترقها كلها. فلا زال الحكماء يرسمون هذه المبادئ لإصلاح الناس فتتخذها نحن ذريعة إلى إفسادهم في بعض الأحايين. . . .