مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/حضارة العرب في الأندلس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/حضارة العرب في الأندلس

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 4 - 1913


الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية

وهذه الجزيرة جِدُّ خصيبةٍ وكلأها لا ينقطع في صيف ولا شتاء وهي كثيرة الأمواه والعيون والفواكه والأرزاق. وجبالها كلها مثمرة بالتفاح والشاه بلّوط والبندق والأجاص. ومنها يجلب الجوز والقسطل إلى بلاد إفريقية ويجلب منها كثير من القطن - وفيها معادن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزيبق - وهي مستبحرة العمران كثيرة المدن والقرى والضياع فقد أخبرني ثَبَت ثقة أن بهذه الجزيرة مائة وثلاثين بلداً بين مدينة وقلعة عدا ما فيها من الضياع والمنازل والبقاع - وكلها مسكونة بالمسلمين ملأى بالمساجد والفنادق والحمامات. وفيها من العلماء والفلاسفة والأدباء، ما لا يكاد يدركه العد والإحصاء - ومن مشهور مدائنها مدينة بلَزْم قصبة هذه الجزيرة وسيأتي القول عليها مفصلاً عند ذكر وصولنا إليها إن شاء الله. وبين مدينة بلزم هذه ومدينة مسيني توجد المدن الآتية واقعة على ساحل البحر غربي هذه الجزيرة وهي مدينة ثرمة وليبري وبقطش وجفلوذ والقارونية وقلعة القوارب وميلاص وجطين وشنت ماركو. وسنصفها لدى ذكر مرورنا بها - وبين مسيني وبارم على سيف البحر شرقي الجزيرة وجنوبيها تقع البلدان الآتية. على الترتيب الآتي هكذا. مدينة طبرمين بشرقي مدينة مسيني على مرحلة منها وهي مدينة أزلية قديمة من أشراف البلاد وأعيانها، وقلعة حصينة من أصول القلاع وأركانها، وهي على جبل مطل على البحر يسمى جبل الطور وفيها كما حدثني أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف ملعب من ملاعب الروم القديمة كأنه: زعم أبو عبد الله: شِعب بوّان الذي يقول فيه أبو الطيب المتنبي:

مغاني الشعب طيبا في المغاني ... بمنزلة الربيع من الزمان

ملاعب جِنة لوسار فيها ... سليمان لسار بترجمان

طَبَت فرساننا والخيل حتى ... خشيتُ وإن كرمن من الحران

غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان

فسرت وقد حجبن الشمس عني ... وجئن من الضيا بما كفاني

وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر م لهَا ثمر تشير إليك منها ... بأشربة وتفن بلا أواني

وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني

وقد فتح المسلمون هذه المدينة أيام إبراهيم بن أخمد بن الأغلب وكان عادلاً حازماً في أموره آمن البلاد، وعصف بأهل البغي والفساد. وبني الحصون والمحارس على سواحل البحر حتى كان توقد النار من سبتة فينتهى الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة وذلك لسبع بقين من شعبان سنة تسع وثمانين ومائتين الموافق أول أغشت الرومي سنة اثنتين وتسعمائة. وكان لفتح هذا البلد أسوأ وقع في نفس الأنبرور صاحب القسطنطينية حتى بقي سبعة أيام لا يلبس التاج وقال لا يلبس التاج محزون - ثم مدينة قطانية على ستة أميال من مدينة لياج الواقعة بينها وبين طبرمين وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر في سفح جبل النار وتسمي الآن مدينة الفيل لأن فيها طلسما من حجر على صورة فيل كان منصوباً فيما غبر من الأيام علي بناء شاهق ثم نقل ونصب داخل المدينة وبهذه المدينة الأسواق العامرة، والديار الزاهرة، والمساجد والجوامع والفنادق والحمامات - ثم مدينة سرَقوسة شرقى مدينة قطانية على مرحلتين كبيرتين منها. وهي من مشاهير المدن وأعيان البلاد، تضرب إليها أكباد الإبل من كل حاضر وباد، وهي على ساحل البحر والبحر محدق بها من جميع جهاتها وبها مابأ كبر المدن من الأسواق والخانات والمساجد والحمامات والمباني الرائقة، والأفنية الواسعة المونقة، ولها إقليم كبير طوال كله مزارع وجنات وأثمار. وقِد ما كان بها سرير ملك الروم فلما ملك المسلمون بعض الجزيرة نقلت دار الملك إلى مدينة قصريانه إلى أن امتلك المسلمون سائر الجزيرة. وقد فتح المسلمون سرقوسة هذه رابع عشر رمضان سنة أربع وستين ومائتين الموافق عشرين مايه الرومي سنة سبع وسبعين وثمانمائة - ثم مدائن نوطس وشكلة ورغوص وبثيرة وكركِنت وشاقة وملزَر ومرسي على وطرابُنشُ ومدائن أخرى كثيرة وكلها على ساحل البحر كما أسلفنا عدا مدينة رغوص فإن بينها وبين البحر نحواً من اثني عشر ميلاً - أما ميدنة فَصرُيانِه فهي في وسط الجزيرة على سن جبل وهي مدينة أزلية قديمة وقد كان فيها سرير ملك الروم نقل إليها كما أسلفنا بعد أن ملك المسلمون مدينة سرقوسة لحصانّها وقد فتح المسلمون هذه المدينة يوم الخميس منتصف شوال سنة أربع وأربعين ومائتين الموافق سلخ يناير الرومي سنة تسع وخمسين وثمانمائة ولما فتحها العباس الأغلبي بني فيها في الحال مسجداً ونصب فيه منبراً وخطب فيه يوم الجمعة وذل الروم بصقلية يومئذ ذلاً عظيماً.

وبعد فهذا الذي ذكرنا من بلدان هذه الجزيرة إنما هو غيض من فيض ونحسن إذا حاولنا ذكر سائر المدن والقرى والقلاع المعروفة في هذه الجزيرة، لاحتجناك عَمْرَك الله إلى أسفار كثيرة، وفي القدر غناء.

وقد رأينا من تمام الفائدة أن نصور للناظر في هذه الرسالة جزيرة صقلية وبعض بلدانها المشهورة وبلاد قلورية ومدينة ريو وجزائر أقريطش وسردينية قرشقة وميورقة ومنورقة ويابسة ومدينتي الإسكندرية والمرية وبالجملة كل ما جاء له ذكر في هذه الرسالة.

وقد آن لنا أن نرجع إلى ما نحن بصدد منه.

مدينة مسيني

أما مدينة مسيني فهي في ركن من الجزيرة بشرقيها مستندة إلى جبال قد انتظمت حضيضها وخناديقها والبحر يعترض أمامها في الجهة الجنوبية منها ومرساها أعجب مراسي البلاد البحرية كما أسلفنا لأنو المراكب الكبار تدنو فيه من البر حتى تكاد تمسكه ولا يحتاج إلى زواريق في وسقها ولا في تغريفها إلا ما كان مرسيا على البعد منها يسيرا فتراها مصطفة مع البر كاصطفاف الجياد في مرابطها وإصطبلاتها وذلك لإفراط العمق فيها.

وهذه مسيني هي رأس جزيرة صقلية وهي كثيرة العمائر والضياع وأرضها طيبة المنابت وبها جنات وبساتين ذات أثمار كثيرة ولها أنهار غزيرة عليها أرجاء جمة.

ولما نزلت إلى هذه المدينة سلمت أمتعتي إلى أحد الحمالين وقصدت معه أحد الفنادق فذهب بي إلى فندق قائم على جبل مطل على المدينة وكان لأحد مغاربة إفريقية فاحتفى بي صاحبه وبالغ في إكرامي واحتفل في راحتي حتى أنساني برقة حاشيته وطيب أنسه مجاشم السفر وذل الاغتراب - وقد صادفت في هذا الفندق أبا عبد الله الصقلي الفيلسوف وكان قد نهد أيده إليه من بلرم إلى مسيني لما علم بقدومي فكمل أنسى به وعراني من الغبطة والسرور ما لا يقوم بالعبارة عنه بيان. ولا يروم اطلاع فجه لسان. ولا سيما حين أخبرني أبو عبد الله أن ينتوي الذهوب إلى الأندلس وهي منتواي ومقصدي.

أبو عبد الصقلي الفيلسوف

ولما رأيت أبا عبد الله وكنت لم أره قبل ذلك بيد أني سمعت عن فضله الجم وعلمه الغزير حتى شغفت برؤيته - والأذن تعشق قبل العين أحياناً - رأيت منه رجلاً تشد إليه الرحال، وتضرب إلى علمه أكباد الآبال، ويصاب عنده مقطع الحق واليقين، ويلقى لديه مفصل الداد في علوم الحكمة والدين

من مبلغ الأعراب أني بعدها ... شاهدت رسطاليس والإسكندرا

ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا

ولا جرم فإن أبا عبد الله فيلسوف عصره. وواحد قطره. وهو في علم الطب والحكمة منقطع النظير لا تكاد تفتح العين على مثله. وقد حذق اللسان الإغريقي وأحكم معرفته حتى كأنه من أهله. وهو في الأدب منظومه ومنثوره نادرة الفل وبكر عطارد.