كتب وشخصيات (1946)/في عالم الشعر
الوعي في الشــعر هل يستمد العمل الفني عناصره كلها من معين الوعي والذهن . أم هل يستمد عناصره كلها من ( وراء الوعى ) وينابيع الالهام . أم هل يزاوج بين الوعى وما وراء الوعى ، ويستعين بهذه القوى وتلك على السواء ؟ ا للاجابة على هذه الأسئلة يجب ألا نستشير القواعد النظرية وحدها ، فهذه القواعد قد تقودنا إلى منطق ذهني بعيد عن الواقع العملي ، إنما يجب أن نستشير كذلك التجارب العملية التي عاناها بعض رجال الفن ، فلا نقضي في الأمر ، في غيبة عن شهوده المجربين ! وحين نقول : ( عناصر العمل الفني ) لا نعنى أن هذه العناصر منفصلة ، أو أنه يمكن البحث عن كل : عند منها على انفراد . ولا نقع في الغلطة التي وقع فيها القدماء كما وقع فيها كثير من المحدثين ، حينها راحوا يقسمون الكلام الفنى إلى لفظ ومعنى ، ثم راحوا يتجادلون . أيهما يكون فيه الابتكار ، وبه يكون تقويم الكلام . ذلك جدل لا يؤدي إلى شيء ، فالعمل الفنى كله وحدة لا يقوم أحد عناصرها بذاته ، ولا يرى منفصلا عن بقية العناصر فإذا نحن عن العناصر المختلفة ، فذلك مجرد فرض يسهل علينا الفهم والتصور . تلك حقيقة أود تقريرها بقوة ، وعندئذ لا يصبح من الخطر أن تحدثنا نتحدث عن عناصر العمل الفني المسمى بالشعر كل من عانى نظم الشعر يعرف أن هناك مراحل يتم فيها هذا النظم . وسرد . صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/49 - ٤٦ - انفعال منهم ا هو جانب الجو الشعوري الذي عاشت فيه هذه المعاني ، واكتسبت منه ألوانها ودرجة حرارتها ومقدار اندفاعها ، ومدى ما ترمز إليه في النفس من ليست الألفاظ إلا رموزا له ، تشير إليه ولا تعبر عنه ، إنما يعبر عنه ذلك الإيقاع الموسيقى العام ، كما تعبر عنه الظلال الخاصة التي تلقيها الألفاظ بجرسها أو بالصور التي تنبعث منها ، والتي هي زائدة في الحقيقة على معناها اللغوي الذي يفهمه الذهن منها
يستدعى الشعر بلا جدال . . مما تقدم نستطيع أن نحدد – على وجه التقريب – عمل الوعى وما وراء الوعي في الشعر . فنستطيع أن نقول : إن الشعر يستمد معظم مؤثراته وانفعالاته من وراء الوعى ، وإن الوعى إنما يبدأ عمله عند مرحلة النظم التي لا بد فيها من اختيار الفاظ خاصة تعبر عن معانى خاصة ، وتنسيقها على نحو معين التنشيء وزنا معينا وقافية معينة . ولكن هذا القول لا يمضى على إطلاقه . ففي حالات شعورية خاصة ، يبلغ فيها التأثر والانفعال درجة عالية ، قد تتم عملية النظم ذاتها بلا وعي كامل ، لأن الألفاظ والعبارات بطريقة شبه تلقائية . وهذه هي أجمل لحظات ، الانفعال ولا معنى لأن ينكر أحد هذه الحالة الواقعة لمجرد بناء نظريات منسقة . ولدينا من التجارب العملية عند الشعراء المعاصرين ما نستطيع الارتكان إليه . « فالصنعة » على النحو الذي يفسره بها بعض من كتبوا في الموضوع تكاد تلغي في حالات شعورية كثيرة. وإغفال هذه الحالات لا يكون إلا مجرد انسياق وراء رأى مفتعل لا يتفق مع حقائق التجارب العملية . ثم إن الايقاع الموسيقى الذي يتألف جانبه الظاهري من الوزن الخاص – وهو البحر – وجانبه الباطني من جرس الألفاظ ، ومن الإيقاع الناشيء من تواليها على نحو معين ، يستقى في حالات كثيرة من وراء الوعى ، فكثيرا ما يجد الشاعر نفسه ينظم من بحر معين ، وينسق ألفاظه في تعبير معين ، دون وعی كامل ، لأن هذا كله يتسق مع الحالة الشعورية للقصيدة .
وهذا يجعلنا نعيد تقديرنا على أساس جديد لقيمة الإيقاع الموسيقى في الشعر . بوصفه جزءاً من العمل الفني يصور أجمل جانب فيه وأصدقه ، وهو تصوير الجو الشعوري الذي عاش فيه الشاعر حين كان ينظم قصيدته ، ونقل القاري أو المستمع إلى هذا الجو بعد انقضائه بعشرات السنين أو بآلافها !
ولا شك أن هذه النظرة إلى الإيقاع الموسيقى تختلف عن نظرة المدرسة المقلية في الشعر العربي ، كما تختلف عن نظرة المدرسة الأسلوبية على السواء.
فالمدرسة العقلية أصغرت من قيمة الإيقاع الموسيقى جملة ، في سبيل تحقيق المعاني ودقة الأداء . والمدرسة الأسلوبية عنيت بحلاوة الإيقاع وسهولته أو فحولته ، دون أن تلقى بالها إلى التناسق بين لون الإيقاع والجو الشعوري العام للقصيدة . وهو الجو الذي نحدس أنه كان يحيط بنفس الشاعر وهو ينظمها ، والذي صاحب الانفعالات التي دفعته إلى النظم للتعبير عنها.
ثم إن لمـا وراء الوعى دخلا كذلك في اختيار الألفاظ ، فكثيراً ما يجد الشاعر الملهم كلمات وعبارات تقفر إلى منطقة الوعي في نفسه من حيث لا يدرى وقد لا يكون واعياً لمعانيها بدقة وهو ينظمها ، وقد يعجب بعد انتهائه من النظم ، وعودته إلى الحالة الشعورية العادية كيف انثالت هذه الألفاظ والعبارات عليه انثيالا – كما يقول الجاحظ بحق – ثم قد يدرك فيها بعد ، أو لا يدرك ، أن لهذه الألفاظ أو لهذه العبارات ظلالا في نفسه ، تنسق مع الجو الشعوري الذي نظم فيه قصيدته ، سواء كان هذا الجو من صنع مؤثر خارج عن إرادته ، ، أو يسبب - 48 - استحضاره له . وحقيقة أن للوعي في الحالة الأخيرة نصيبا أوفى . ولكن الوعى قد يقف عمله نهائياً عند استحضار الجو وتخيل المؤثر . لأن نفس الشاعر سريعة التأثر والتخيل ، حتى لتنقلب المؤثرات الصناعية فيها إلى مؤثرات حقيقية في كثير من الا من الأحيان ، وبذلك يتحقق الصدق الفني ، ولولم يتحقق الصدق الواقعي. ا وهذا يفسر لنا عمل الشاعر في الملحمة والمسرحية والقصة فهو استحضار للمؤثر ، وتخيل للجو ، ينقلبان – في حسه - إلى مؤثر حقيقي لا إرادة له في دفعه ! وهذه الظلال المصاحبة للألفاظ والتعبيرات كامنة فيما وراء الوعى للابسات خاصة بالشاعر ، أوخاصة بهذه الألفاظ والعبارات ذاتها . فللألفاظ أرواح ، ولكل لفظة تاريخ ، وليست الألفاظ إلا رموزاً لملابسات شتى متشابكة فيها وراء الوعى . وقد يختلف هذا بين شاعر وآخر ، ولكن تبقى اللفظة رمزاً على الظلال والمعاني التي حملتها في تاريخها الطويل . والشاعر الملهم الألفاظ ورموزها العميقة ، ويستدعيها في اللحظة المناسبة . وإن يكن هذا العمل يتم غالباً هو الذي يستوحى في غيبة عن الوعى عند الشعراء الملهمين وهذه الحقيقة تجعلنا نعيد تقديرنا على أساس جديد لقيمة الألفاظ والعبارات ، فيرد إليها اعتبارها الذي أهدرته المدرسة العقلية والمدرسة الأسلوبية على السواء ، فالأولى كان رائدها دقة الأداء المعنوي دون نظر إلى الظلال التي تلقيها الألفاظ بجرسها أو بتاريخها في عالم اللغة وعالم الإحساس ، مما يفسد الجو الشعوري الذي تعيش فيه القصيدة في بعض الأحيان ، ويحدث نوعا من « النشاز » الموسيقى أو التصويري في السياق . والمدرسة الثانية كان همها عذوبة اللفظ وجزالة العبارة ، بدون نظر إلى هذه الملابسات التي تختلف في قصيدة عن قصيدة ، وفي حالة شعورية عن حالة وهكذا ... . ـ ٤٩ – عن هذه القضية ليست جديدة في النقد العربي ، فلقد أثيرت في العصر القديم فكان الأصمعي يقول عن زهير وأصحابه إنهم « عبيد الشعر » لأن صناعة النظم والتجويد فيه واختيار الألفاظ وتعديل العبارات قد استغرقتهم وأبعدتهم الطبع الذي ينظم في سهولة ويسر . وكان « الآمدي » يقول عن أبي تمـام « شديد التكلف ، صاحب صنعة ومستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه أشعار الأوائل ، ولا على طريقتهم » ، لما فيه من الاستعارات والمعاني المولدة ، بينما كان يقول عن البحتري : « أعرابي الشعر مطبوع على مذهب الأوائل ؛ وما فارق عمود الشعر المعروف » لأنه كان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ومن الحق أن نقول : إن القضية لم تعرض لهم إلا من ناحية الكد في تجويد النظم ، أو اليسر في الأداء . ومن ناحية الاعتماد على التصورات الحسية ، أوالغوص وراء المعانى الذهنية ، وهذا جانب من القضية لا كل جوانبها . ولكننا بهذه المناسبة لا نردد في إيثار الصور في الشعر على المعاني ، وفي إيثار الانطلاق المستمد م ا مما وراء الوعى على التعقيد الذي يصنعه الوعي في أغلب الأحيان ثم عرضت هذه القضية مرة أخرى في العصر الحديث ، في معرض الجدل بين مدرسة شوقي وحافظ المعنية بالإيقاع الموسيقى والجمال اللفظي ، ومدرسة العقاد وشكرى المعنية بالصدق الشعوري ، والتدقيق المعنوى >> 6 ؛ قيل كلام كثير في معرض الجدل ليس كله صوابا بطبيعة الحال ونحن في هذه المناسبة لا تتردد في أن نرد إلى الإيقاع الموسيقى والجمال التعبيري اعتبارها – ولكن على أساس آخر غير الأساس الذي يفهمه الشوقيون والتعبيريون على العموم – وأن نقول : إن الصدق الشعوري لا يبدو كاملا في الشعر إلا إذا اكتمل فيه الإيقاع الموسيقى ، وإلا إذا اتسقت ظلال الألفاظ والعبارات ( م – 4 ) الهای مع هذا الإيقاع ، وتناسقت جميعاً مع الجو الشعورى للقصيدة . وذلك هو الكمال الفني الذي يختل حين ينهار أحد أركانه ، لأن انهياره يخل بتناسق الصورة الفنية. وكلما فاض الشعور فطغى على الوعى ، وانطلق يستمد من الرواسب النفسية ، ويستوحى الظلال الشعورية ، كان يجري في ميدانه الأصيل ، وينشئ أجل آثاره ، وذلك مع عدم إغفال مقومات الشعر الأخرى من عمق وسعة واتصال بالحياة ونفاذ إلى الأسرار الكونية الخالدة ا ( AMERICAN UNIVERSITY IN CAISS LIBRARY $ 1011 النفس الانســـــــــانية في الشعر العربي حينها فرغت من قراءة مجموعة الشعر الموسومة باسم « عرائس وشياطين » من مختارات الأستاذ العقاد ، التي جمع فيها طائفة من الشعر العربي والشعر العالمي جد لى رأيان متناقضان : ففي أثناء القراءة الأولى السريعة ، ولم أكن قد انتهيت بعد من المجموعة ، ولم أكن قد تبينت مواقع قصائدها ومقطوعاتها في نفسي . في هذه القراءة التي يلتفت فيها الذهن إلى أكثر الأشياء التماعا ، ويلتفت فيها الحس إلى أشد الأصوات تصدية عندئذ قلت : إن الشعر العربي يستطيع أن يقف ... على قدميه أمام الشعر العالمي . وحينما انتهيت من قراءة المجموعة ، وخلوت إلى نفسي أتبين موقع كل قطعة وقصيدة ، وألمح وراء الألفاظ والمعاني ما ترسمه من ظلال إنسانية ، وما تصوره من حالات نفسية . عندئذ أشفقت من أن تشيل كفة الميزان بالشعر العربي ! ... فأى الرأيين هو الخطأ ، وأيهما هو الصواب ؟ مرجع الحكم في هذا هو طريقة إحساسنا بالحياة ، وحقيقة مطلبنا من الشعر . فأما أنا فلا أتردد في القول بأن الحياة في صميمها إن هي إلا انفعالات واستجابات ، وعواطف وحالات نفسية ، وأن الأفكار والمعاني إن هي إلا بلورات صغيرة على سطح الحياة ، وكثيرا ما تكون معوقات لجريان الحياة ، وإن كانت في أحيان قليلة تساعدها على التعمق والنفاذ ، كالحصوات المتبلورة في مجرى الماء ! وليس « الإنسان » الراقي هو الذي تستهويه المعاني المجردة ، والأفكار - ۵۲ – المبـاورة – كما يعتقد الكثيرون – ولكنه الإنسان الذي يتعمق حسه أدق المشاعر وأجلها ، والذي يدرك نبضات الحياة وانفعالاتها ، والذي يتخذ من ذلك كله غذاء لحسه وفكره جميعا والشعر هو نبضة قلب قبل أن يكون لمعة فكر ، وهو خفقة حياة ، قبل أن يكون فكرة ذهن ، وهو حالة نفسية قبل أن يكون قضية فكرية ، وهو ظلال إنسان قبل أن يكون التماع أفكار ، ووسوسة أفئدة ، قبل أن يكون رئين ألفاظ . فإذا نحن نظرنا إلى الشعر العربي بهذه العين في مجال الشعر ، وجدناه فقيرا في الظلال الإنسانية ، والحالات النفسية ، بمقدار ما هو غنى بالأفكار والمعـاني والاستجابات الحسية المباشرة ، التي لا تتعمق النفس الإنسانية إلى مدى بعيد . والتعبير العربي وبخاصة في الشعر تعبير مباشر أقرب ما يكون إلى الإستجابة الحسية ، فهو يؤدى الفكرة أو المعنى، ثم لا تلمح وراءه مخلوقا إنسانيا إلا نادرا . إنك تلمح ولاشك فكر او حسا ، ولكن « المخلوق الإنساني» الذي يشتمل الفكر والحس ، ويشتمل بجوارهما حياة آدمية كاملة ، قلما تلمحه وراء التعبير . ولقد خيل إلى مرة أن هذه اللغة نبتت في الظهيرة على صحراء مكشوفة. فهي في شعرها لا تلقى حولها ظلا. ليس هناك ما يسمونه « بين السطور» كل لفظ وكل تعبير يقابله معنى أو فكرة ، ثم لا شيء وراء المعنى ووراء الفكرة لاظل . لاصورة . ا لا رؤى سحرية تثير في النفس شتى التخيلات وشتى الاهتزازات ا وبمقدار الغني في الأفكار والمعاني الذي تضمنه الشعر العربي ، كان الفقر في - الرؤى والأحلام ، وفى الصور والظلال ، وفي الحالات النفسية ، والملامح الإنسانية ، وهذا هو مفرق الطرق بين الشعر العربي وكثير من الشعر العالمي في طريقة التصوير والتعبير حتى شعر الغزل عند العذريين ، قلما تجد فيه وراء اللفظ إلا المعنى ، ووراء - ۵۳ التعبير إلا الفكرة . قلما تلمح الحالة النفسية والملامح الإنسانية . قلما تتسمع الوسوسة والهينمة التي لا تعرف مصدرها ، ولا تدل عليها الألفاظ بذاتها ، ولكن تدل عليها الظلال التي تلقيها الألفاظ ، وتتوارى خلف التعبيرات . إن بيتين ساذجين ، كقول مسلم بن الوليد وقد حضرته الوفاة وهو وحيد غريب ، وليس حوله إلا نخلة بحرجان يناجيها فيقول : ا الا يا نخلة بالسف ح من أكناف جرجان ألا إني وإياك بجرجان غربيات إن هذين البيتين لنادرا المثال في الشعر العربي . فماذا في هذين البيتين الساذجين . فيهما أن المعنى والفكرة يتواريان ليفسحا المجال للصورة الإنسانية والحالة النفسية . صورة الإنسان الغريب المفرد تقربه الغربة من كل مخلوق ، ويرهفه الانفراد إلى الأنس بكل كائن ، فيخلع الحياة عليه ، ويعاطفه معاطفة القريب للقريب . وعلى هذا النحو ينبغى أن ننظر إلى الشعر على أساس ما يثير في نفوسنا من أحاسيس ، وما يرسم لخيالنا من صور ، وما يطلقنا من أعيان الفكر المحسوسة المحدودة ، ويصلنا بصور الإنسانية وبالحياة المكنونة . وذلك فيما أعتقد واجب شعراء الشباب . ولكن حذار أن هذا ما يفهمه بعضهم من تلك - الفوضى . إن الشعر - مع هذا – ليس « تهيؤا » مخبول ، ولا تهاويل مذهول . والحالات النفسية المطلوب تصويرها ، ليست هي خلط المجانين ، وتداخل الاستعارات وتراقص التعبيرات . إن بين الشعر وهذه «التهيؤات » لبعدا سحيقا ، فإذا لم يكن بد من هذا البلاء فلا ، والشعر العربي القديم ، بذهنيته وتجريده ، أقوم وأهدى ، وأخلد فنا !
- * * 1021
وإلى القراء بعض الأمثلة الحاسمة بين المعاني والأفكار ، والحالات النفسية والصور الإنسانية في قطعة من مجموعة «العرائس والشياطين » ، للشاعر الانجليزي الحديث «هوسمان» بعنوان « إلى السوق أول مرة » وقد استشهدت بها قبل ذلك في « طريقة الأداء في الفن » وهي تصلح للاستشهاد بها هنا – من جانب آخر - على تصوير الحالة الإنسانية من وراء العبارات والألفاظ . « يوم أنشأت أذهب إلى الأسواق ، أوائل عهدي بالأسواق «كانت الدراهم في الكيس جد قليل « وكم طال بي النظر وكم طال بى الوقوف « على أشياء في السوق لا تنال » تکرار « تغير الزمن اليوم ، فلو أردت الشراء لاشتريت « هنا الدراهم في الكيس ، وهناك أشياء الأمس في السوق « ولكن أين يا ترى ذلك الفتى المحروم » « طالما شكا قلب الإنسان ، لأن ( اثنين واثنين : أربعة ) لا هي ثلاثة كما نودها حينا ، ولا هي خمسة كما نودها بعد حين ، وأحسبه سيشكو إلى آخر الزمان » فبقياس الأفكار والمعاني ، هذه المقطوعة لا شيء ! إن معانيها قريبة قريبة ، فهي لا تزيد على قولهم : (كل ممنوع محبوب ) و ( كل ما تملكه اليد تزهده النفس ) و ( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ) . ولكن ابن هذا من تلك الأحاسيس الإنسانية الخالدة الغامضة التي تثيرها أين هذه المقطوعة في نفس كل ( إنسان ) عالي ما عاناه الشاعر من « أن اثنين واثنين أربعة لا هي ثلاثة ، كما نودها حينا ، ولا هي خمسة كما نودها بعد حين » وأحس 1001 بحلاوة التشهى وزهادة المشتهى بعد حين . واضطرب بين واقع الحياة الجامد الدائم ، ورغائب النفس المتحولة ، التي تستند للشوق المجهول الذي ينكر الواقع الجامد المحتوم ! . ليس المعني هنا هو المهم ، إنما هو المخلوق الآدمى الذي تحس دبيب انفعالاته ووسوسة وجداناته ، وليست الفكرة التي تحويها المقطوعة هي المهمة ، وإنما هي الصورة المترائية بين الطلال الشفيفة .
وفى المجموعة قطعتان متقاربتان في الموضوع ، فاستعراضهما معا قد يكون أقرب إلى توضيح الفروق . فأما القطعة الأولى ، فهي لابن زهر الأندلسي بعنوان : « في المرآة » : إلى نظرت إلى المرآة أسألها فأنكرت مقلتای کل ما رأتا رأيت فيها شييخا لست أعرفه وكنت أعهد فيها قبل ذاك فتى فقلت : أبن الذي بالأمس كان هنا متى ترحل من هذا المكان متى ؟ فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت : قد كان ذاك ، وهذا بعد ذاك أتى ! ی وهي أبيات جيدة في موضوعها ، ولفتة لها قيمتها ، ووقفة بين صورتين من صور الحياة أجمل ما فيها أن إحدى الصورتين تنكر الأخرى وهي تكملتها . وذلك أقصى ما نستطيع أن نسنده إليها من المزايا ، مع الاعتراف بأننا نضيف إليها أنفسنا بعض ما قد تقصر عنه ألفاظها ! من ولكنها مع هذا ، وقفت عند الحس لا تتعداه إلى أغوار النفس . فهذا شاعر لا يدرك الفرق بين الفتى الذي كانه والشيخ الذي صاره إلا حين يقف على المرآة ، فيرى تغير الملامح وتنكر السمات – وهذه أمور مردها إلى الحس فإذا علم بهذا الانقلاب الظاهري لم يتجاوزه إلى التفتيش في أحناء النفس عما هنالك من انقلابات . ولم تثر في نفسه أشتات الذكر ، وألوان الخواطر التي تعتلج في نفس « الإنسان » وترد على الخاطر ولو لم ينظر في المرآة ! ولا أحب أن أنكر جمال اللهفة في قوله : « متى ترحل من هذا المكان متى؟ » فإنه نبضة « إنسانية » لها قيمتها ، ولكنها نبضة واحدة ، تكاد تلتقى بومضات الذهن، ولفتات الفكر، وأيا ما كانت ، فهي تنبض مرة واحدة ، ثم تجمد بلاحراك . على مقربة من هذه القطعة في الكتاب ، قطعة أخرى للشاعرة الانجليزية « أليس مينل » تحت عنوان : « خطاب فتـاة إلى العجوز التي ستكونها بعد سنين » وهي مقطوعة طويلة ، ولكنا سننقلها كاملة ، لأن الاجتزاء ببعض منها دون بعض لا يجدى . فهنا « إنسانة » تطل بشطر منها على شطر ، وتنظر بعين الفتاة الناضرة العابثة ، إلى العجوز المستكينة الفانية ، فلا تستطيع أن تماسك أمام الصورة التي تستحضرها بعين الخيال ؛ فترثى لنفسها بنفسها ؛ وتشتبك الأحاسيس والمشاعر ، وتظل رائحة جائية بين المستقبل الأعجف المظلم ، والحاضر المنضر المنير ؛ وتعرض أمام خاطرها شريطا حافلا بالخواطر والأحاسيس . وهي بين ذلك كله ( الإنسانة ) و ( المرأة ) في مخلوقة واحدة ، وهذه هي المقطوعة : ) 1071 . « إسمى ! أيتها المرأة التي أبلتها السنون « إذا طويت يدك الناحلة على هذا القرطاس « فاذكرى تلك التي باركته بلسانها وقبيلانها »
( « أناديك : يا أماه ، فإن اثقال السنين كسرتك « بل أناديك : يا بنتاه ، فإن ذكرى الزمن أيقظتك « ومن أطوار قلبي ، يخلق الزمن كل ما فيك »
- 1011
« آه . أيتها السائمة المكدودة ، إن الصبيحة في السماء لشمطاء « أفلا تذكرين السحب كيف تساق ؟ « أترينها كانت تهدأ عند المغيب »
« تمهلى هنيهة في ختام مطافك الطويل « فإن في هذه الساعة الموحشة « لألفة لساعة التدبر والتذكار » >>> « يؤلمك أيتها الصامتة الخافقة تذكيرى إياك « بتلك الهضاب - هضاب الشباب - التي عصفت عليها السماء « وتلك الأعاصير الأوابد من القوة والعافية ، التي خلفتها وراءك « اعلمي أن البطحاء الموحشة التي تدرجين فيها الآن « إنما هي دنيا مساء صموت « وتأملى في تلك القمم المغشاة ، إنها تسفر عن صباح »
اسمي ... هاتيك رياح الجبل تهب بالغيوث « وهاتيك القمم على حين غرة تتألق بالشعاع « حاشاى أن أدعك تذهبين – ناسية – إلى الموت »
- **
« ليتنى أعلم أي جانب من قلبي هذا المضطرب سيتبعك « إلى حيث الرياح لا تعصف ولا تنهزم 1971 « وحيث أزهار الجبال الصبية لا تعيش ولا تجود »
« ولكن دعى خطابي وفيه ما فيه من خواطرك المفقودة « ينبئك كيف كانت الطريق في بداية الطريق « ويصحبك إلى الغاية ، حين إلى الغاية تنتهين » ه آه . رب ساعة من ساعاتك تقودك فيها خواطري « فما تشعرين إلا والرياح من وطنك القديم تحوم حواليك « وإن أخفاك عنها الزمن والظلام والسكوت »
« تقول لك : كم جاشت بالفتاة هذه الذكريات « وكم رانت على الصباح ظلمات هذه الفلال « وكم خيم عليها هذا الحزن الذي تفارقينه بقلب حزين »
- * *
« « وبعد . فما لي أقفوك بخواطري هذه ليت شعري ! « إن الحياة تتبدل ، وإنك مع الأيام تتبدلين « فيا أيتها الطبيعة التي لا تتبدل . لينك تردين إليها فؤادى الضليل »
« ستعود إلينا نسماتها بقبلاتها « وستسرى إلينا في المساء كأنها قبلة في الصباح د وسينفث الصيف نعمته التي لا يغيرها الزمان »
- 1091
« ونحن وقد تبدلت لنا لمحة بعد لمحة ، ونسمات بعد نسمات ه تتعقب إحدانا الأخرى في شتى المسارب والدروب « على نفحات الطفولة الخالدة التي تتأرج بها الرياحين أطفال الخلود » ))
« وما أكتب إليك هذا الخطاب المستطلع الناظر إلى الغيوب « لأموه لك الذبول باكليل من المجد والفخار « وأحف هذا الدواء بشارات النصر والنجاح »
« كلا إنما هو شباب واحد وينطوى من الحياة الضياء « إنما هو صباح واحد ويغشى النهار السحاب « إنما هي شيخوخة واحدة تتلاقى فيها الأشجان والهموم ه جموعا وراء جموع » .
« صه يا لساني ، إن كلاتي أسالت عبرات عينيك « مه مه . فما أغزر ينبوع الدموع « ياللجفون البائسات ، ما أسرع ما تبكى وهي قريبة إلى الرقاد 4
« عذرا للفتاة ! لقد وسوست لها نزوة من غرائب نزوات الشباب « أيتها المرأة البائسة ! ألق من يدك هذا الخطاب « إنه حطم قلبك فانسي أنني كتبته إليك »
« إن التي كانت تنظر منك إلى ذلك المحيا - ۱۰ « هي الآن تلمس براحة البنوة شعرك المشتعل « وتبارك هذا الشفق الحزين بدموع الصباح » تتصور هذه هي المسارب النفسية التي سارت فيها خطرات تلك الفتاة ، ، وهي من نفسها عجوزا في أواخر الأيام ، وتلك هي المسالك والدروب المتعرجة الطويلة . وهي ( إنسانة وامرأة ) حين تحس بخطوات الزمن هذا الاحساس ، وحين تزج بخيالها إلى المرهوب من شيخوختها – وهي في حمى منها بفورة الشباب الحاضر - ومع ذلك تفزع وتضطرب ، فتلجأ إلى خيال الذكريات التي ستعتادها في الشيخوخة المرتقبة ذكريات الشباب التي « ستسرى إلينا في المساء كأنها قبلة الصبـاح » فإذا هدأ روعها وتماسكت عادت تواجه « العجوز التي ستكونها » بالحقيقة المؤلمة : « إنما هو شباب واحد وينطوى من الحياة الضياء» شباب واحد . والمرأة أحس ما تكون بوحدانية هذا الشباب ! وإننا لنمضى في تتبع هذه الخطرات النفسية في نفس هذه « الإنسانة » فلا تبلغ مداها ، بأيسر ولا أوضح مما بلغته ألفاظها ، فلا ضرورة إذن للشرح والبيان . هنا فيض إنساني من الخوالج والخواطر والأحاسيس ، قامـا تعبر فيها على ( معنى ) بارز ، أو فكرة مبلورة ، أو حكمة سائرة . ولكنك لا تخطىء فيها وجه « الإنسان » وانفعالاته وخطراته ، تهاوج وتتداخل ، وتضطرب وتختلج وتسمع فيها حركة الحياة وتلمح فيها ظلالها من وراء الألفاظ والتعبيرات . ذلك شعر ، وشعر كله ، وشعر يحسن أن نتأثر لا مقلدين، ولكن مستفيدين ففي نفوس الكثيرين منا ينابيع طليقة ، تحبسها الطرائق التقليدية للشعر العربي في التعبير . وإن كانت المسألة في صميمها أكبر من الألفاظ وأوسع من التعبير ا - 61 - الطعـة في الشعر العربي - يخيل إلى من مجموعة الشعر العربي أن « الطبيعة » لم تكن إلا قليلا متصلة بإحساس الشعراء العرب اتصال الصداقة والألفة – بله اتصال المجموعة الحية – فهي في الغالب صلة عداء يمثلها قول الشاعر : وركب كأن الريح تطلب عندهم لها « ترة » من جذبها بالعصائب وإن كانت هذه الظاهرة العامة لا تنفى الأحاسيس المفردة لبعض الشعراء حينها تختلف البيئة كقول حمدونة الشاعرة الأندلسية : وقانا لفحـة الرمضاء واد نزلنـــا دوحه فحنا علينا وأرشفنا على ظمأ زلالا ألذ من المدامة والنديم - V باد بن السر الضا سقاه مضاعف الغيث العميم حنو المرضعات على الفطيم ألفتها وكأبيات المتنبي المعجبة في وصف شعب بوان وفيها ذلك البيت الجميل : يقول بشعب بوان حصانی : أمين هذا يسار إلى الطعان ؟ ! وإن كان هذا من مقولات الحصان التي يسخر منها المتنبي ! وظاهرة أخرى تغلب في الشعر العربي ، وهي الإحساس بالطبيعة عند كأنها منظر يوصف أو يلتذ ، لا شخوص نحيا ، وحياة تدب . والمواضع التي أحس فيها الشعراء العرب بالطبيعة هذا الإحساس الأخير تكاد تعد . فنحن إذا استثنينا ابن الرومي – وكان بدعا في الشعر العربي كله لا نكاد نعثر إلا على أبيات ومقطعات يحس الشعراء فيها هذا الإحساس ، على تفاوت في قيمتها الفنية . نذكر منها أبيات البحتري في وصف الربيع التي مطلعها : - ۶۲ – أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقول ابن خفاجة الأندلسي في وصف جبل : وأرعن طماح الذؤابة شامخ يطاول أعنان السماء بغـارب وقور على ظهر الفــلاة كأنه طوال الليالي ناظر في العواقب أصخت إليه وهو أخرس صامت فحدثني ليـل السرى بالعجائب وفيما عدا ابن الروى وتلك الأبيات والمقطعات القليلة المتناثرة في ديوان الشعر العربي الضخم ، تكاد الطبيعة في الشعر العربي ( تستعمل من الظاهر ! ) ؛ فهي مناظر جامدة للوصف الحسى والتشبيه بالمحسوسات ، تعلو في سلم الفن ، حتى تكون كأبيات المتنبي في شعب بوان ، وتسفل حتى تصل إلى تشبيهات ابن المعتز جميعا ! وظاهرة ثالثة : هي أن الطبيعة في الشعر العربي قد نحيا وتدب ويحس الشاعر بمـا يضطرب فيها من حياة ، ويلحظ خلجاتها ويحصى نبضاتها ، ، ولكنه لا يندمج في هذه الطبيعة ، ولا يحس أنه شخص من شخوصها وفرد من أبنائها ، وأن حركته من حركاتها ، ونبضه من نبضاتها ، وأنه منها وإليها ، وأحاسيسه موصولة بأحاسيسها ؛ وقاما يوجد إحساس بالطبيعة كهذا الإحساس الذي تمثله الشاعرة الانجليزية المعاصرة « روث بتر» ، حين تقول للموت(۱) : « لا تنادنى والصيف مشرق أيها الموت ! هو « إنني في الصيف لن أجيب النداء « حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه « لا ترفع إلى صوتك بالنداء من تلك الظلال السفلى « حين يحن الصفصاف ويترقرق الماء « حين يتواني الجدول ويندس الهواء (۱) من مجموعة عرائس وشياطين ( - - - « حين يتموج اللبلاب على الأسوار « لا تنادنى . قلت لك : لا تنادني أيها الموت في ذلك الأوان ! « إنك عبثا تنادي وترفع الصوت بالنداء « ففي إبان الأزاهير الناميه لن أصغى إليك » ل لكني سأصغى أليك حين يتجرد كل حال وحالية « ومرحبا بدعائك حين ينتثر الورق من الشجر على ثراه « حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج « حين يشم الرعاة من الشرق رائحة الثلوج « حين يهجر الحقل للريح تتولى حصاده « حين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده البرد بذرة الأرض التي تنثرها السماء and حين يصبح « حين ننفر من كل شيء ولا نتوق إلى شيء « ناد يومئذ يا موت ولك الإصغاء والترحاب « فيومئذ أسمع وأنهض وأمضى ! » . وليس المجال هنا مجال الوقوف على مواضع الجمال الجزئية في تصوير الطبيعة في الصيف إبان الحياة ، وفي الشتاء إبان الموت ، ولا في تصوير وسوسات الحياة ووساوس الموت هنا وهناك : « حين يوسوس العشب ويتمايل بأعطافه . وحين يحن الصفصاف ويترقرق الماء ، وحين يتوانى الجدول وينعس الهواء » ، أو : « حين يسمع للسفوح فحيح في العاصف المهتاج . وحين يصبح الإعصار حطاب الوادي الذي يطيح بأعواده . وحين جر الحقل للريح تتولى الخ . فهذه خطرات مفردة قد تخطر للشعر العربي ، وإن لم تخطر في حصاده » مثل هذه الصور ، لأنها منتزعة من بيئة الشمال . - 64 - نحن نتجاوز هذا إلى الظاهرة الكبيرة الجامعة في هذه المقطوعة . تلك هي شعور الفتاة بأنها لا تستطيع أن تموت والطبيعة في فصل الحياة ، ولن تلبي الموت إذا دعاها ، لأن الطبيعة حولها حية وهي خلية حية في جسم هذه الطبيعة النامية . أما حين يدب الموت في الأم الكبيرة ، فهنا يحس أبناؤها أن لا مانع إجابة دعاء الموت ، وذلك « حين ننفر من كل شيء ولا نتوق لشيء » وحين يدب الموت من الداخل تسهل إجابه ندائه من الخارج من وفى القطعة مجال التصوير « المرأة » التي تحسب الموت طوع رغباتها ورغبات الحياة النابضة في قلبها كأمها الطبيعة ، فهي تناديه أن ينصرف عنها الآن ، كما تنادى الخطيب والحبيب في تمنع وإدلال ! وقطعة أخرى لفتـاة أخرى ! « للورنس هوب » الاسم الرمزي لشاعرة إنجليزية معاصرة أيضا(1) ! إن رفيق الحياة يدعوها وإنها لترغب في إجابة دعوة الحب والحياة ، ولكن الطبيعة حولها حزينة والليلة شاتية ، وإنها لتشعر أنها هي وهو وثمرة هذه الاستجابة . إنما هم جميعاً خلايا في هذا الجسم ؛ وأن هذا الحزن الذي يدب في حنايا الطبيعة سيتسرب في « الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجد فيها جثمانها » . فتنشأ الثمرة وفيها من هذا الحزن قطرات فلتؤجل الدعوة والاستجابة إذن إلى حين تكون الطبيعة كلها في فرح واستبشار . ... « لا غير هذه الليلة ! « إن المطر يقطر حزينا وانيا « عبرات أسى تحت سماء شجية (۱) من مجموعة عرائس وشياطين . 70- « وعلى البعد « ابن آوى » هزيل خافت العواء « يزيد النسق وحشة وعزلة
« النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى ، والظلال تؤوى إليها الوساوس الخفية ، وعيناي ترنوان محوعينيك ابتغاء عزاء
« إن الروح الهائمة على أعتاب الدنيا تستجد فيها جثمانها ، إن دخلت من خلال قبلاتنا إلى حظيرة الحياة « ورثت كل ما في قلوبنا من أسى « وكل ما في المطر المنحدر من شجن
مكظوم « لا . حين تشتهي استجابة الحب الكبرى « أقبل إلى والصباح يرتع في الأنوار « والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء « بين الورود حمر وبيض
« وكذلك حين يقضى الله تلك الفريضة الحلوة القدسية « مذعنة لمشيئته الإلهية كي أمنح الدنيا صورة من جمالك « لأسلمنها إذن إلى الدنيا ومعها فرحى فيك » ! فهذه شاعرة وامرأة . تبدو في مقطوعتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها ، وتنبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة ؛ وهذه هي الظاهرة (م - ه) نصه - ۶۶ - التي نريد إبرازها . ولكن هذا لا ينسينا أن نقف مرتين أمام موضعين من مواضع الإبداع في القصيدة : الأول : طريقة الإحساس بحزن الطبيعة وفرحها : فالمطر « الذي يقطر حزيناً وانيا عبرات أسى تحت سماء شجية » يجتمع إلى « ابن آوى هزيل خافت العواء على البعد فيزيد الغسق وحشة وعزلة » و « النهر الدافق يتقدم إلى البحر بهمهمة الشكوى » يجتمع إلى « الظلال تؤوى إليها الوساوس الخفية » وكلاهما يجتمع إلى « عينيها ترنوان نحوعينيه ابتغاء عزاء فتلقاهما الأهداب مبللة بالدموع» ثم في الوجه الآخر : « الصباح يرتع في الأنوار . والبلابل مشوقة تصدح بالغناء » وكلمة «مشوقة» خاصة في هذا المكان . إنها لوحة متناسقة الألوان أو «سيمفونية» متوافقة الألحان ، بين الطبيعة وأبنائها الجميع . والثاني : تلك الكناية الدقيقة البارعة عن « الروح الدنيا تستجد فيها جثمانها » وعن « استجابة الحب الكبرى » التي ترتفع بها وترتفع حتى تجعلها « الفريضة الحلوة القدسية التي يقضيها الله » . إنها كناية امرأة ، وامرأة تحب ، وامرأة شاعرة ، تجتمع كلها في سياق ! الهائمة على أعتاب
وقد توجهنا حتى الآن في الموازنة بين الشعر العربي والشعر العالمي إلى شعراء الغرب في مجموعة « العرائس والشياطين » وبخاصة الشعراء الانجليز . فلنتوجه نحو الشرق أيضا في هذه الموازنة ، ففي الشرق البعيد ، وفى مصر القديمة مثل نتقدم بها مطمئنين يقول الشاعر الصيني « یوان می » من شعراء القرن الثامن عشر الميلادي بعنوان « زهر الصفصاف » : « أزهار الصفصاف كنديف الثلوج ... إلى أين ؟ « أبن تمضي جموعات الضالة مع الريح؟ « قاما نبالي . وأقل من ذلك ما ندرى ! ه إنما سبيلنا من سبيل الهواء « حياتنا في دواماته العاصفة « وموتنا في الهاوية هناك » فهذا إنسان يحس بنفسه وبالناس كزهرة بين أزهار الصفصاف . « سبيلهم جميعا من سبيل الهواء . حياتهم في دواماته العاصفة وموتهم في الهاوية هناك » فيزيد على إحساس الغربيين بالاندماج في الطبيعة ، تلك الصوفية الغيبية ، الشرق الجميل العميق البسيط ، الذي لا يكاد يبدو في الشعر العربي طابع - ۱۷ - من عطر البشنين : وفي المجموعة قطعة أخرى للشاعر نفسه فيها هذه الصوفية الرقيقة ، وبجانبها ی إحساس المودة الصادقة بينه وبين الطبيعة ، التي تداعبه نسماتها ، وترسل عليه زحاما من العطور ، وتبسم في وجهه ، وهو لا يدرى من زحمة العطور عليه ، عطر الورد « على ضفة الجدول الغربي « تطيف في الأحلام في الغسق المزنبق « وتداعبنى نسمات الربيع « فترسل على زحاما من العطور « وتبسم في وجهي حين لا أدرى « عطر الورد من عطر البشنين » >> . « و نتجاوز مجموعة « العرائس والشياطين » لنقع على أغنية مصرية قديمة حيث : « تدعو شجرة الجميز فتاة إلى موعد حب تحت ظلالها ، واعدة أن تكون أمينة على أسرارها ! » <-11 وفى الموضوع كما ترى تلك الصداقة الحلوة بين شجرة الجميز والحبيبين ، حيث تشترك الطبيعة في مباركة الحب . فإذا أضفنا إلى ذلك أن شجرة الجميز كانت مقدسة عند المصريين لأن إلهة « الخصب » « حاتحور» كانت تسكنها ، وترسم مطلة بين فروعها ، زاد الموضوع قوة . فليست الطبيعة وحدها هي التي تبارك الحب ، بل الآلهة أيضا وإلهة الحسب بنوع خاص ! وشجرة الجميز هذه غرستها الفتاة بيدها وها هي ذي : « تفتح فمها لتتكلم « فيكون حفيفها أوراقها عذبا كالعسل المصفى « ما أجمل أغصانها « إنها موقرة بهارهي أشد حمرة من حجر الدم « وأوراقها تزدان بلون خضرة البردي « وهي تجتذب الناس إلى ظلها لأنه ذو نسيم عليل » ثم تضع الشجرة رسالة صغيرة في يد بنت البستاني ، تعدو بها إلى الحبيبة وهذه هي الرسالة : « تعالى واقضي الوقت في ( ظلی )(۱) « فالحديقة رفافة نضيرة « وفيها جواسق لك « والبستانيون يسرون ويطربون ه حين يرونك « أرسلى العبيد قدامك « ومعهم أدواتهم (۱) هذه الكلمة ضائعة في الأصل ووضعناها تكملة « إن المرء ليسكر حين يسرع إليك « من قبل أن يشرب شيئاً « ها هم أولاد الخدم يأتون من عندك بالمواعين ه وبالحية من كل نوع « وبالخبز من كل ضرب «وبأزهار الأمس واليوم - ۶۹ - « وبكل صنف من الفاكهة المنعشة « تعالى واقضى اليوم في حبور « وغداً وبعد غد « ثلاثة أيام كوامل « واجلسي في ظلی « الأخ يجلس على يمينها فتسكره وتصفى إلى كل ما يقول « وقد اضطرب الحفل من السكر « وبقيت هي مع أخيها « ضيوفها قد انتشروا « يتمشون في البستان « و يرقدون تحت الأغصان « ولكنى أمينة « ولا أتكلم بما أرى « فلن أقول كلمة(1) » (۱) من كتاب « على هامش التاريخ المصري القديم ، للمرحوم عبد القادر حمزة باشا . D - V. - ا إن إحياء الطبيعة والاندماج في حياتها ، كلاهما مرحلة بعد أخرى . وكلتاهما في حاجة إلى رصيد ضخم مذخور من الحيوية الباطنية والصوفية الروحية . وقد كانت حيوية العرب، حيوية حس وذهن ، تنفق أولا بأول في الانفعال القريب والحركة المباشرة ، والعمل المنظور . والخاطر الوحي" ، والفكرة المبلورة فلم يبق في نفوسهم ذلك الرصيد المذخور في الباطن للتأملات والتصورات ، التي هي أعلى وأعز ما في الفنون . ولعل في هذا تعليلا لعدم نمو القصة الفنية في الأدب العربي إلا على نحو فريب من الحكاية والخير ولكن هذا موضوع آخر ليس هنا مجاله على كل حال ! - ۷۱ - نفحـات من فارس « أغانى شـــــــــراز نظم حافظ الشيرازي وترجمة الدكتور ابراهيم أمين الشواربى (( عشت أياما جميلة مع « حافظ » أتاحها لي ولقراء العربية الدكتور إبراهيم أمين . است أدرى كيف أشكره ، فهذه الساعات الحلوة التي أتاحها لي لا تقدر بثمن وكيف تكافىء من ينقلك في الأيام الثقيلة الصاخبة الكتيبة ، إلى جو طليق هادی، رفاف تشيع فيه الأنداء والأضواء ، وترف فيه الانسام والأصداء ، ويستقبلك بالطلاقة والبشر والإيناس ؟ حافظ لقد أخلات – مع إلى الغناء العذب بروح صادقة ، لا تكدرها شوائب الحياة ، ولا هموم العيش ، ولا أحقاد الناس ، ولا تفسدها كذلك غواني القلق ، ولا هموم الفكر ، ولا الجدل الذهني المقيم . كأس من الخمر ، ووجه جميل ، ورفاق مسعدون ، وطبيعة باسمة . وعلى الدنيا السلام ... ! - « أي شيء أجمل من رفقة الأحباب ، والتمتع باللهو والرياض والربيع الجميل ؟ « فأين الساق ؟ قل له : ما هذا الانتظار الطويل ؟ « واعتبر ما يتهيأ لك من طيب الوقت فرصة عزيزة وغنيمة كبيرة . « فلا علم لأحد بما تكون عليه نهاية الأمور » وهذه الأغاني هي المعروفة بغزليات حافظ ، وهي أربعمائة وست وتسعون – ۷۲ - مقطوعة ، كل منهـا يسمى « غزلا » . ( والغزل أو الغزلية في الشعر الفارسي عبارة عن منظومة قصيرة تتراوح بين سبعة أبيات وخمسة عشر بيتا غالبا ، وموضوعه الغزل أكثر الأحيان ، ويكون أحيانا غرضا آخر من أغراض الشعر . ويلتزم الشاعر ذكر لقبه الشعرى ، أو « تخلصه » – كما يقول الفرس والترك – في آخر بيت من الغزل(۱) ) . طبعاتها وقد استغرقت ترجمة غزليات حافظ والفهارس الدقيقة الكاملة وترجماتها وشروحها مجلدين ضخمين ، تقرب صفحاتهما من السمائة . وصدر الأول في العام الماضي والثاني في هذا العام . وقد تضمن الجزء الأول مقدمة بقلم الأستاذ الدكتور طه حسين بك ، بارك فيها هذا الجهد الضخم الذي بذله الدكتور الشواربي . وفيها يقول : « ... وهذه طرفة أخرى نفيسة رائعة ، يسعدني أن أطرف مها قراء العربية ! لأنها ستمتعهم من جهة ، ولأنها ستزيد ثروة الأدب العربي من جهة أخرى ، ولأنها بعد ذلك ستثير في نفوس الكثيرين منهم ألوانا من التفكير المنتج ، وفنونا من الشعور الخصب ، ولعلها أن تفتح لبعض الشباب أبوابا في الحس والشعور والتفكير لم تفتح لهم من قبل » . وهذه نبوءة تصح من غير شك لو خلى بين الأدباء – الشبان خاصة – وهذه المجموعة من شعر حافظ . فإن قلة النسخ المطبوعة منها ، وارتفاع ثمنها بالقياس إلى مقدرة هؤلاء الشبان ، قد يجعلان الانتفاع بها محدودا في الوقت الذي يجب أن تكون في متناول الأيدى جميعا - 1- 1 إن هذه الأغاني تجيء في وقتها المناسب – والشعر العربي يعاني أزمة يحتاج فيها إلى مثل هذا الزاد – فلقد آن للشعر أن يكون غناء بحتا ، بعد ما طوح (۱) من مقال للدكتور عبد الوهاب عزام بك عن : «أوزان الشعر وقوافيه » اقتبس منه المترجم هذه الفقرات . - ۷۳ بنفسه في مجالات لم تعد له ، أو لم يعد يبدو فيها بأجمل ألوانه ... طوح بنفسه في مجال الفلسفة ، وفي لحج الفكر ، كما أخذ يطوح بنفسـه ه كذلك في مجال القصة والمسرحية وما إليها ، بعد أن عادت روح العصر لا تهش للقصة ، ولا المسرحية الشعرية . ذلك والموجة الفكرية الفلسفية في الشعر العربي الحديث ، كانت ضرورة في وقت من الأوقات ، لأنها كانت رد فعل طبيعي لموجة أخرى سبقتها ، موجة الأسلوب اللفظي ، أو الأسلوب الإيقاعي . فكانت مهمة الموجة الجديدة أن تدخل القصد والمعنى إلى الأدب ، وأن تمد الشعر بروافد نفسية وفكرية حية ، لتنقذه العبث بالمحسنات البديعية الجوفاء ، ومن الإيقاع الموسيقى الذي لا يحمل وراءه حياة ولا جدا . وقد استطاعت أن تحيى الشعر العربي وتجدد مجده ، وتزيد عليه متاعا فيها من صور الحالات النفسية الصادقة ، عبرت عنها بدقة بالغة فأوجدت في الشعر العربي لونا جديداً حقاً ، ولكنها وقفت بالشعر الحديث حيث لا يجوز الوقوف ، قصت من أجنحته المرفرفة ، وغضت من غنائيته النغمة ، وأقلت فيه السبحات والومضات ، وجعلت عنصر الوعي الفكرى بارزا فيه . والشعر يجب أن يدع ل ع للنثر مجاله بعد ما نضج هذا النثر نهائيا ، وأصبح قادرا على هذه المحاولات ، ثم ينطلق هو مرفرفا لا تثقله هموم الفكر ، ولا تقيده مشاكل الفلسفة . يجب أن ينطلق صرخات عميقة قوية ، وأشجانا روحية خالصة ، وأشواقا مرفرفة وضيئة ، وأحلاما مهومة طائرة ، وإشراقات وجدانية لطيفة ، وسبحات علوية شفيفة . وفرحات رفافة طليقة . يجب أن يكون تعبيرا عن لحظات الإشراق والتهويم ، ولحظات التوهج والانطلاق في النفس الانسانية ، تلك اللحظات التي يستحيل فيها الشاعر روحا أكثر ما تكون تجردا ، أو حسا أشد ما يكون توهجا . تلك اللحظات التي ( - ٧٤ - اللحظات ينطلق فيها التعبير كأنما يكون نفسه – وإن كان الوعى يعمل فيه – وهي لحظات يعرف مثلها كل شاعر ملهم في حياته الطويلة . وما عداها والحالات فغير جدير بالشعر في اعتقادي ، أو أنه من الدرجة الثانية أو الثالثة في حياة الشاعر الفنية ؟ - وأحسب أنه قد آن الأوان لتنحسر الموجة الفكرية الفلسفية ، تاركة للشعر غنائيته وبساطته ورفرفته ، كيا يتأدى إلى الحس بأشواقه وأحلامه ، وبصوره وظلاله ، مثلما تتأدى الموسيقى الطليقة ، والصور الفنية الموحية ، وذلك على قدر ما تسمح طبيعة الشعر ، وطريقة تناوله لموضوعه ، وفيها اختلاف لا بد منه عن طريقة الموسيقى وطريقة التصوير في الأداء و ( أغاني شيراز ) تأتي في حينها المناسب لتساعد على انحسار الموجة الفكرية عن الشعر الحديث . وقد لا تلبي هذه الأغاني كل مطالب الشعر في هذه الفترة ، لأن الحس يغلب عليها والأشواق الروحية الخالصة تقل فيها – على الرغم من طابعها الصوفى – ولكنها على كل حال تزيد من رصيد الغناء في الشعر العربي زيادة لها قيمتها . وحسبها أنها تجعل الشعر غناء خالصا لا تبهظه أثقال الفلسفة إلا حيث تعرض في سرعة وتختفى سريعا ، ولا تبرده ثلوج الفكر – وإن كان فيها على ما سيجيء - لعب بالألفاظ والصور والمعاني ، ولكنه لعب لطيف حلو لا يغض من حلاوة الغناء الطليق . ثم إن لها عندى مزية أخرى : ، . فقاريء هذه الأغانى يستروح فيها عطر الشرق البعيد ، وبساطته ومرحه ، وغيبيته وتصوفه ، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى استرواح هذا كله ، حين تغمرنا موجة العقلية الغربية ، وهي موجة قوية طاغية ، لا يجد لها في حاضرنا الروحي كفاء - ۷۵ – وفى أغاني حافظ ، كما في رباعيات الخيام الفارسيين ، وكذلك في أشعار تاجور الهندي – على بعد ما بينهم في الإحساس والاتجاه – ذلك الروح الشرقي العميق ، الذي يستطيع اليوم أن يسعفنا ، ويحفظ اتزاننا الشعوري في وجه التيار . وهذا هو ما أعنيه باسترواح الشرق البعيد ، فليس نموذجا واحداً ما أريد ، ولكنها نماذج شتى ، تجمعها سمات أصيلة ، تعبر عن الموروث والمذخور في نفس الشرق من رصيد ( والآن فإلى غزليات حافظ أو أغاني شيراز : إنها لعجيبة مدهشة تلك التي تجعل القارىء يتابع حافظا في لذة وارتياح ، فلا يمل ولا يسأم ذلك التكرار الذي لا ينتهي في الغزليات ، وذلك اللعب بالنسكات اللفظية والتعبيرية التي تزحم الديوان ، والتي كانت نظائرها في شعر البديعيين في اللغة العربية كفيلة بإسقاط هذا الشعر ، وكفيلة كذلك بالسأم والضيق إلى حد الاختناق(۱) . ولكن حافظا لا يدعك تسأم أو تمل ، وهو يكرر ويكرر إلى غير ما نهاية ، أوصاف طرة الحبيب التي هي تارة شباك لصيد المحبين ، أو سلسلة يأوى إليها العشاق راضين . وتارة نافجة مسك يفوح منها الطيب ، ، أو صولجان من العنبر يسحبه الحبيب على جبينه المشرق في وجهه الجميل ... ثم أوصاف غمازته التي هي بئر ، ا ، وعينه التي هي نرجسة ، وحاجبه الذي هو قوس أو ركن تتعلق به عيون العباد ، وقامته التي هي شجرة سرو أو شمشاد ... إلى آخر هذا الحشد المكرور من التشبيهات (1) أرجح كثيرا أن يكون حافظ شديد التأثر بهؤلاء البديعيين وبخاصة إذا ذكرنا أنه عاش في القرن الثامن . كذلك لا يدعك تسأم أو تمل ، وهو يحشد في غزلياته ما لا يحصى من الاشارات إلى أحداث التاريخ ، وسير العشاق ، وقصص القرآن والكتب المقدسة ، والأساطير ، وطبائع الطير والحيوان ، واصطلاحات الفلك والهندسة والطب ، وإشارات التصوف ورموز أهل الطريق . ( تلك العجيبة المدهشة هي روح حافظ الحلوة ، التي تطالعك في غزلياته المكرورة ، وهي روح أنيسة لطيفة عذبة ، ، تشيع في محياك الابتسامة الراضية عن هذا الصديق الودود ، الذي لا تملك إلا أن تنصت له وتهش لحديثه ، ولو راح « يخرف » في بعض الأحيان وأنا أعنى كلمة « بخرف » هذه . فحافظ في كثير من الأحيان – إن لم يكن في جميع الأحيان يطالعك بوجه « درویش » « يخطرف » في حديثه ، ويلقى كلة من هنا وكلة ليخيل إليك في بعض الأحيان أنه لا توجد في « الظاهر » رابطة بين الإشارات والإيماءات ، إنما تربطها في « الباطن » رؤى درويش متصوف ، تطالعه من وراء «الغيب» فيرمز لها ولا يبين . ولكن هذا لا يعني التفكك في أسلوب حافظ الشعرى . فوراء هذه الإشارات والإيماءات جو موحد تعيش فيه الغزلية الواحدة ، بل تعيش فيه الغزليات جميعاً ، ذلك هو جو « الشهود » » إذا استعرنا اصطلاحات الصوفية ، ومالنا ألا نستعير هذه الاصطلاحات وحافظ في غزلياته يتبع « طريق » الصوفية في التعبير ، وطبيعتهم في الشعور ؟ رجو « الشهود » هذا هو الذي يجعلك تقبل من حافظ إيماءاته وإشاراته المتناثرة ، فكلها أصداء لطيفة لانفعالات شاردة ، تتوالى على حس مرهف ، في « حضرة » الحبيب ، ويربطها جميعا ذلك الرباط اللطيف الدقيق . خذ مثلا هذه الغزلية : - – ۷۶ – من هناك 6 حتى -W1 « إن شفة الحبيب ياقوتة ظمأى إلى الدماء وأنا من أجل رؤيتها أضحى بالروح . وهذا هو عملى وشغلي الشاغل « وهلا يخجل من تلك العين المكحولة بالسواد ، وهذه الأهداب الطويلة المديدة ، من رأى كيف يسلب الحبيب القلوب، وهو مع ذلك ينكر أحوالى؟ « فيا حادي العيس . لا تحمل رحلي إلى الباب ، فعلى قمة هذه الجادة يتشعب الطريق الرئيسي إلى منزل حبيبي وداره « وأنا عبد لحظي وطالعي ، فقد تملكني في قحط الوفاء عشق هذه « النورية » المخمورة الرأس ... وقارورة عطر الورود ، وذؤابة الحبيب التي تفوح بالعبير ها فيض لشمة واحدة من روائح ( عطارى ) الذكية « فلا تطردني أيها البستاني عن بابك ، فأنا كالنسيم وماء روضتك من دموعى الحمراء التي تشبه زهرات الرمان . « ولقد أمرت لى عين الحبيب بشرية من القند ممزوجة بماء الورد من شفته الندية ، وكانت عينه الشبيهة بالنرجسة الغضة هي الطبيب لقلبي العليل وحبيبي ( الحلو الكلام ) ، ( النادر الأقوال ) ... هر و الذي علم ( حافظا ) الدقائق في انشاد ( الغزل ) . » انتقالات وقفزات دائمة . ولكنك ترقبها كما ترقب الطائر الخفيف يقفز من فنن إلى فتن ، ويحلق هنا وينقض هناك ، في رشاقة ولطف وإغراء وليست كل الغزليات من هذا القبيل ، ولكن هذه السمة واضحة فيها حتى لو كان فيها التسلسل . لأن طابع ( الدرويش ) الذي يبعثر الكلمات والإشارات والإيماءات ، هو الطابع العام ... وهذه غزلية أخرى تصور ما أعنيه : . - ۷۸ – « مبعثر الخصلات ، محمر الوجنات ، ضاحك الأسنان ، تلعب به الخمر، سكران ممزق القميص(1) ، يتغنى بالألحان ، في يده أبريق من بنت الحان « عيناه كأنهما زهرات النرجس توحي بالعربدة ، وشفتاه الرقيقتان ساحرتان أقبل في نصف الليل أمس ، فجلس إلى وسادتي بضع ثوان « ثم أدار رأسه إلى أذنى وهمس فيها لحنا حزينا قائلا ... ( يا عاشقي القديم ، هل أنت نائم نعسان؟ ) .... ...
« والعاشق الذي يعطونه مثل هذه الخمر الليلية يكفر بالعشق إذا لم يصبح عابداً للخمر والدنان « فاذهب – أيها الزاهد – ولا تهزأ بمن يتجرعون ا ن الثمالة فإنهم لم يعطونا غير هذه التحفة منذ أقدم الأزمان « ولقد شربنا ما صبه الساقي في كئوسنا سواء كانت خمرة من خمور العربدة أو من خمور الفراديس والجنان « وابتسامة كأس الشراب ، وطرة الحبيب المجمدة الملتفة ما أكثر ما كسرتا من توبات مثل توبتك أيها ( الحافظ ) الولهان » فهنا التسلسل في المعنى إلى حد ما . ولكنها حافلة بالإيماءات والإشارات المتناثرة في شتى الأغراض . ... أما التكرار الذي أشرت إليه آنفا فهو ملحوظ بوفرة في هذه الغزليات ، ولكنه كما قلت لا يبعث مللا ولا سآمة ، وهذا هو العجيب ولقد سبق حافظاً شاعر فارسی آخر ، دائب التكرار أيضاً لمقاطعه ولمعانيه ، دون أن يسهم هو الآخر أو يمل ... ذلك هو ( الخيام ) . ولكنك هناك واجد حرارة لاذعة ، وأسى عميقاً ، ومعنى نفسياً ضخماً . (1) لعلها إشارة إلى يوسف وقميصه المقدود . – ۷۹ – وهذه كلها قد تنسيك الترجيع والتكرار في ( الرباعيات ) ولا نظير لهما هنا في ( الغزليات ) التي تمضى لطيفة شفيفة ، ولا يفارقها روح الدعابة ولاخفة الروح ، حتى في مواقف الحرقة والأسى ... فلم يبق إلا أن في روح حافظ تلك الجاذبية اللطيفة التي تدفع السأم والملالة ، بل ثبث النشاط والخفة والأنس في جوالغزليات . وعلى ذكر الخيام . فإن هناك اشتراكا في الظاهر في خصائص الشاعرين واتجاههما ، ولكن ما أبعد ما بينهما في الحقيقة . وحينها تروعك في ( الرباعيات ) تلك اللهفة المحرقة لاستجلاء السر الأعظم الذي أوصدت دونه الأبواب ، فراح ( الخيام ) يدقها دقا عنيفاً متواصلا ، حتى كلت يداه وأدركه الإعياء وغشاه الملال ، فجلس يغرق أشجانه في كأس من الشراب ، ويتسلى هنيهة عن ذلك السر المحجب الذي يكرثه ويعنيه ، ريثما يعاود الدق على الأبواب من جديد ، على هذا النحو الشجي المرير : أحس في نفسي دبيب الفناء ولم أصب في العيش إلا الشقاء يا حسرتا إن حان حسيني ولم يتح لفكرى حل لغز القضاء
لبست ثوب العمر لم أستشر وحرت فيه بين شتى الفكر وسوف أنضوه برغمي ولم أدرك لماذا جئت ؟ أبن المقر ؟ .
إشرب فـواك التراب المهيل بلا حبيب "مؤنس أو خليـل • وانشق عبـــــــير العيش في فجره فليس يزهو الورد بعد الذبول كم آلم الدهر فؤاداً طعين وأسلم الروح لمين حزين
- 111
وليس من فاتنا عائد أسأله عن حالة الراحلين لم أشرب الخمر ابتغاء الطرب ولا دعتني قلة في الأدب لكن إحساسي نزاعـا إلى إطلاق نفسي ، كان كل السبب
أفنيت عمري في اكتناه القضاء وكشف يحجبه في الخفاء فلم أجد أسراره ، وانقضى عمري وأحسست الفناء (1) دیل ... الأبواب حينها تروعك من ( الخيام ) هذه اللهفة العارمة ، وذلك الشجي الكظيم ، وترى الكأس في يده يحاول أن يغرق فيها أشجانه بعد أن كلت يداه من دق فانظر ( حافظاً ) في طريقه إلى دار الخمار في وداعة واستبشار ، لا ليغرق هما ولا ليسكت حيرة ، بل لينتشى ويثمل ويتملى محاسن الحبيب ولقد يئس هو الآخر من استجلاء سر الغيب ، ولكن هذا لا يكرثه ولا يعنيه ، فالخلق للخالق ، والسر عنقاء ليست صيداً لأحد . فهات كئوسك أيها الخمار لعلنا نرى في الكأس وجه الحبيب ، وربما تفتحت لنا فيها أسرار الغيوب ، ورأينا مامضى فيها وما سيأتي كمرآة الاسكندر التي كانت تكشف البعيد كالقريب . « الآن ونسيم الجنة يهب من البستان إلى بالخمر المفرحة وبالحوراء التي قامتها كحور الجنان « ولم لا يفخر السائل المسكين بأنه أضحى اليوم سلطان الزمان وقد عقد له السحاب خيامه ، وبسطت له الحقول مائدة الخوان ؟ . « وهذا الربيع الجميل يحكي لى حكايته الجميلة (۱) من ترجمة رامي للرباعيات . - ۸۱ – فيقول : ليس عاقلا من يفضل النسيئة ويترك النقد « فعمر قلبك بالشراب ، فلا هم لهذه الدنيا الخربة إلا أن تحيل ترابنا إلى لبنات وآجرات ... الخ » وحتى عند ما يتحد الموضوع وطريقة التعبير بينهما وكثيراً ما يقع هذا (1) فإنك تلمح الفارق بين القلق العميق الأليم في الخيام ، والراحة اللذيذة السالية في حافظ، الذي لا ينسى أبدأ تورياته وجناساته ولعبه الجميل ... يقول الخيام في رباعياته : سمعت صوتاً هاتفاً في السحر الحان : غفاة البشر هبوا املا وا كأس الطلى قبل أن تفعم كأس العمر كف القدر نادي من
أفق وصب الخمر أنعم بها واكشف خبايا النفس من حجمها أوصالي بها قبلما يصاغ دن الخمر من تربها ورو })
فقد أمض اله على الجريح أبن النديم السمح أبن الصبوح ثلاثة من أحب المني خمر وأنفــــام ووجه صبيح ويقول حافظ في غزلياته : « أيها الساقى لقد أذن الصبح فاملا القدح بالشراب « وتعجل ، فدورة الفلك ليس فيها ريث واتناد « وقبلما يتحطم هذا العالم الفاني ويتخرب « أسرع إلى تحطيمي وتخريبى بكاس شرابك الملتهب المتقد (1) الخيام سابق فقد عاش في القرن الرابع ومطلع الخامس . (1-P) - ۸۲ - « ولقد طلعت شمس الخمر من مشرق كأسك « فإذا أردت صفاء العيش ، فقم من غفلتك وادفع النعاس من رأسك « وقبلها يأخذ الفلك طينتنا ويصنع منها الكيزان والأكواب تنبه واملا صحاف رءوسنا بالخمر والشراب ... الخ و حافظ – كما ترى - في نشوة بالخمر وبالجمال ، في الطبيعة وفى الوجوه الحسان وجمال الطبيعة دائما في خاطره وهو يتغزل بالوجوه الجميلة . والنشوة بخمر الجمال دائماً في حسه وهو يثمل بخمر الدنان . والدنيا كلها ربيع دائم باسم ، لا تذبل زهراته الجميلة ، ولا تجف أعواده الندية . والحب جميل حتى مع الهجر والفراق ، والتأوهات والدموع لذيذة كالقبل والعناق « فيارب لا تجعل العالم خاليا من أنين العاشقين . فأصداء أنينهم بهيجة حسنة الترجيع والتلحين». والحبيب معبود يعبد واصلا راضيا ، ويعبد هاجرا قاليا . وحافظ عابد صوفى يتمسح بالأعتاب ويصدع بالإشارة ، ويمرغ خديه بالتراب – كما يقول – في جذل وانجذاب . وأنا أعنى كلمة « انجذاب » هذه ، فحبه وخمره يستوى أن يكونا في الأرض أو في السماء ، فهو ينتقل من هذه إلى تلك في رشاقة وخفة ، وفي تهويمة ناعسة ، فلا تدرى أيهما هواه . وخمره نواسية أو إلهية . فهو في « الحان » كما في « الخانقاه » درویش مجذوب ، ثمل بالشراب ، أيا كان كنه الشراب . « البستان جميل ، وأجمل منه مصاحبة الخلان والأحباب - « فايطب وقت الورد ، فبه يطيب وقت الشاربين والشراب « وفي كل لحظة تتعطر مشام روحي بما تحمله الصبا من عبير « ولكن ( أرباب الهوى ) أنفاسهم دائما محببة تستطاب « ولقد عزمت الوردة على الرحيل قبلما تتفتح عن غلالتها « فنوح أيها البلبل ، فنواح أصحاب القلوب الجريحة مستطاب 6 -AM- « ولتكن لك البشرى أيها الطائر الجميل الصوت ... ففي طريق العشق يستحسن لدى الحبيب نواح « القائمين بالأسحار » ويستطاب ... الخ » وهو في هذه الدنيا الجميلة مشغول بسبحاته ولحظاته ، عن مواضعات المجتمع وزحمة الأطاع ومعترك الحياة ... إنه مستهتر في عشقه الصوفى أو الغزلى ، نشوان بخمره الإلهية أوالنواسية ، وليقل من شاء كيف شاء ، فهو خير عند نفسه وعند الله – كما يقول – من المرائين المنافقين ، ومن الوعاظ الثقلاء ) « اقد انقضى الصيام وأقبل العيد (١) ، وارتفعت القلوب بالابتهال والضراعة واحمرت الخمر في حانوتها ، فاطلب الكأس بما تملك من قدرة واستطاعة ؟ « وانقضت نوبة ( بائعي الزهد ) ثقلاء الأرواح المنافقين ؟ ا و آن أوان الشراب والعربدة للشاربين والمعربدين « وأى لوم على من يحتسى مثل هذه الخمر وهذا الشراب ؟ وأى عيب نعيبه عليه إذا فقد الوعى وأضاع الصواب ؟ « وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق خير من ( بائع الزهد ) الذي يكون فيه الرباء وضعف الأخلاق « ولسنا نحن من المعربدين المرائين ولا من المصطنعين للرياء وشاهدنا على هذه الحال . هو « عالم السر والخفاء » ... الخ » وفى غزلية ثانية يقول ، زاهدا في المطامح والآراب : « وقل لمن مضجعه في النهاية قبضتان من التراب « ما حاجتك إلى رفع الإيوان إلى الأفلاك ؟ » وفي غزلية أخرى يقول منهما على الطموح وكل شيء إلى زوال : (۱) (1) يقول شوقي : رمضان ولي هاتها يا ساقی مشتاقة تسعى إلى مشتاق - ٨٤ - « لقد ذهبت عظمة « آصف(۱) » ومركبه على الريح ، ومنطقه مع الطير « وضاعت جميعها ولم يتمتع بشيء منها « فلا تطر بجناحك وريشك وترتفع عن « الطريق » فالسهم المريش « يرتفع مدة في الهواء ، ولكن سرعان ما يهبط إلى الأرض » . 1
هل كان حافظ متشائما كما يبدو من هذه الأبيات الأخيرة ؟ يقول الدكتور عبد الوهاب عزام في الجزء الثاني من كتاب « قصة الأدب في العالم » صفحة 511 « وحافظ يبين في شعره عن انقباض واكتئاب وحزن ، ويعرب عما يمتحن يه في هذا العالم ، ويغلب عليه التشاؤم ؛ ولكنه يبين عن فرحه وسروره أحيانا ، وعن تهلله وإشراقه ، وتأميله وانبساطه ، كأنه بري من مرض ، أو استراح من الم ، أو ظفر بما يريد بعد عناء ، أو حم له بعد طول الفراق لقاء » . والذي يقرأ غزلیات حافظ قد بون له أن يخالف الدكتور عزام في تصويره لنفس حافظ ، فيراه – على عكس ما يرى الخيام - كثير الابتسام ، قليـل الانقباض ، ويرى التشاؤم في حديثه عرضا خفيفا ، لاسمة أصيلة . وإنما يراه في أحواله هادئا لطيفا . ضحكته ابتسامة ، وصرخته آهة ، وهو برىء النفس من الحقد والألم جميعا ، مشغول عن الحقد والألم بالسبحات الصوفية واللحظات الغزلية ، واستجلاء الحسن والجمال في هذه وتلك ، وفي الغيب والميان . وهناك خلاف بين الدكتور عزام والدكتور إبراهيم أمين على تصوير أسلوب حافظ الشعري في لغته . فالدكتور عزام يقول : « ولحافظ في الشعر أسلوب دقيق جميل يشبه النغم الموسيقى المحكم ، جانست (1) يتابع في هذا ما جاء بالتوراة لا القرآن صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/89 - ٨٦ - ويهدر ركامه ويدفع ما أمامه ، جبار عنيد ، يشتد هديره ، ويزداد نذيره ، وهو ماض في سبيله على نغماته الدائمة التي لا تهدأ ولا تسكن معجزة « وكان فناناً ، فكان يرضى نفسه قبل كل شيء ، تهتف به فیلبیها وتناديه فيجيبها ، وتحدثه فيقبل عليها ، ثم يستمع إلى نبراتها الخافتة التي لا تكاد تبين ، ويتحسس سكناتها الصامتة التي تخفى في قرارة المعين . فإذا فرغ إلى نفسه مرة أخرى ، رددها في أسلوب مقصح مبين ، أو سجلها عليها كلمات تنحدر من عليين ، أوأعادها إلى نفسه ليؤكد لها ماجاشت به من قول مخلص أمين» . وعلى ما في هذا التصوير لطبيعة حافظ وطريقة أدائه من تناقض واضح بين بعضه وبعض ، واندفاع في سجعات رنانة قد تفوت الدقة على الأداء ، فإنها في صميمها تخالف صورة حافظ وطبيعته التي يستشفها قارىء الغزليات . وهبني مخطئاً في هذا لأن النص الفارسي ليس في متناول يدى ، فها هو ذا تصوير الدكتور عزام لأسلوب حافظ يؤيدني . وأغلب الظن أن التوفيق هنا لم يحالف الدكتور إبراهيم أمين . وأسلوب الترجمة ؟ 6 ربما لم أكن صاحب حق في نقده – ككل من لا يعرفون الفارسية - ولكن هذا لا يمنع من التعبير عن إحساسي بأن روح حافظ المشرقة اللطيفة ، كانت تخبو وتخنس في بعض الأحيان ، ثم تبقى من وراء الألفاظ توصوص وتشير في جهد إلى جوهرها اللطيف . 1 وقد نقل المترجم بعض « الغزليات » القليل نظماً ، ونقلها جميعها نثرا فأحسن في هذه الخطة كل الإحسان . فالنظم باللغة العربية عسير محتاج إلى هبة خاصة ، ولعله يكون أعسر حين يراد - ۸۷ – منه نقل مثل هذه اللمحات الخفيفة السريعة ، التي تربطها روابط خفية دقيقة وذلك يبدو عند مراجعة الغزليات التي نقلها نثرا ونظا . فهي في النظم لا تكاد تبين ، وفيها بعد واضح عن حقيقتها التي تظهر في النثر بقدر المستطاع . ويجب أن أشهد بعد ذلك بسلامة لغة الترجمة فيها عدا أخطاء يسيرة ، لعلها من السهو في الكتابة . ولكم وددت أن أستغنى عن هذه الصفحة الأخيرة ، ليخلص للدكتور إبراهيم أمين ثنائى وشكرى بالنيابة عن قراء العربية . فما يليق – في الواقع – أن يجزي صاحب هذا الفضل بغير الثناء المطلق والشكر الجزيل . ↓ العقاد الشـــاعر وأعاصير مغرب جار ارتباط بالحق في وضح النهار يعيش العقاد ، صـاحي الحس ، واعى الذهن ؛ حي الطبع لا يهوم إلا نادرا ، ولا يتوه فيها وراء الوعى أبدا . ومعالم الإحساس والتصور عند العقاد واضحة ، وهى على رحابتها وانفساحها وعلى عمقها ودقتها ، يحدها إطار من الوعى المتيقظ ؛ فلا تهيم في وديان مسحورة ، ولا تنطلق في متاهات مجهولة . - على أن للمجهول حسابه في نفس العقاد . ولكن هذا المجهول نفسه فكرة يحيط بها الوعى ، ويدعو إلى فرضها العقل . وليس الإيمان بهذا المجهول توهانا روحيا ولا صوفية غامضة ، إنما هو رحابة نفسية وفكرية . هذه الينابيع يتفجر شعر العقاد . فيكثر فيه تصوير الحالات النفسية وتسجيل الخواطر الفكرية ، وإثبات التأملات المنطقية – إذا التعبير – بقدر ما تقل فيه السبحات الهائمة ، والانطلاقات التائهة ، والظلال الشائعة . فكل شيء واضح ، وكل شيء له حدود . ومن هذا ويعوض شهر العقاد الجيد عن الرفرفة الطليقة تلك الحيوية المتدفقة . وعن الإيقاع المتموج تلك الحبكة الرصينة ، وعن الانطلاق الهائم ذلك العمق الدقيق . وعن سبحات الصوفية التائهة صدق الحالات النفسية الواضحة . العقاد قمته حين تبلغ الحيوية تدفقها ، فتجرف المنطق الواعى ، وتغطى ... فأما حين يضعف هذا التدفق ، فيتجرد الشعر من اللحم والدم ، ويخيل عليه - ۸۹ - إليك أن مكانه ليس هنا في الديوان ، ولكنه هناك في كتبه بين التأملات الفكرية والقضايا المنطقية . ومما يزيد في وضوح هذه الظاهرة بقسميها أن الإيقاع في شعر العقاد جزء من طبيعته تلك ، فهو إيقاع واضح محدد رصين ، تقل فيه الرفرفة الطليقة والتموجات الشائعة . ولكنه يتدفق في غزارة وعمق ، حين تتدفق الحيوية في الإحساس والتصور . وقد يرف في بعض الأحيان ويرق – ولكن هذا قليل ويضعف ويخفت عندما يكون المجال مجال التأملات التجريدية والتجارب المنطقية . فحين يقول العقاد : أما لفظة جرت من فم المرأة امرأة والأخلاء من فئة يعرف الجنس منشأه تجعل الزوج من ليس بالجسم وحـده تشعر أنك أمام تجربة كاملة صادقة ، لها وزنها في فهم الطبائع ، وإدراك المشاعر ... ولكنها بعد ذلك ليست شعرا ، وليس مكانها هنا في الديوان . إنما مكانها في « خلاصة اليومية(1) » وفى التأملات التجريدية . وإنك لن تصغر من قيمتها حين تضعها في موضعها . فإنها جزء من ذخيرة الإنسانية في تجاربها الصادقة الأصيلة . ولكنها قضية عارية من الصور والظلال ، ومن الإيقاع أيضا . فأما حين تسمع العقاد تتدفق حيويته وتعلو صرخته في يوم الظنون ، حين يقول : يوم الظنون صدعت فيك تجلدي وحملت فيك الضيم مغلول اليد و بكيت كالطفل الذليل أنا الذي ما لان في صعب الحوادث مقودی وغصصت بالماء الذي أعددته للري في قفر الحياة المجهد لاقيت أهوال الشدائد كلها طغت فلقيت ما لم أعهد (1) اسم كتاب للعقاد - ۹۰ نار الجحيم إلى غير ذميمة وخذى إليك مصارعي في مرقدي سم حيران أنظر في السماء وفي الثرى وأذوق طعم الموت غير مصرد أروى وأظها ، عذب ما أنا شارب في حالتي نقيع الأسود وتعيد لي الذكرات سالف صبوتی شـــــــوهاء كاشرة كما لم أشهد مسخت شمائلها وبدل سمتها وبدت بوسم في السعير مخلد يا صبوة الأمس التي سعدت بها روحي ، وليت شقيها لم يسعد وعرفت منها وجه أصبح ناضر ورشفت منها ثغر ألعس أغيد سو محت بل جوزيت كيف وعيت لى بالأمس فيك ضراوة الذئب الصدى سومحت بل جوزيت كيف طويت لى زرق الأسنة في الإهاب الأملد أمسيت حربي في الظلام ، وطالما جليت لى وجه الظلام المربد ورجعت أهرب من لقاك وطالما ألفيت عندك في الشدائد مقصدی ما كان من شيء يزيد تنعمي إلا يزيد اليـوم فيـك تلددى والويل من طول التردد في غد معا أواه من أمسى ومن يومى أهب الخلود كرامة لمبشرى أن ليس يومي في العذاب بسرمد وأبيع حظى في الحياة بساعة أنسى بها عمرى كأن لم أولد وأسوم مرعى العيش غير مزود وأرود روض الحسن غير مقيد هنا تحس تدفق الحيوية ، وصرخة النفس الحية ، وارتفاع الإيقاع وعمقه وقوته كذلك ، تتناسق جميعها في تصوير هذا الشعور الناصر ، الذي يعتلج في نفس الشاعر ، وهو شيء آخر غير تلك التأملات التجريدية التي مر بك نموذج منها . وليس من الحتم أن يكون الشعر لوعة لامجة كهذه اللوعة ليبلغ العقاد . فاسمعه يقول في طلاقة مرحة . ولكنها ذات نبض عال من الشعور المتدفق ، وفي إيقاع كذلك راقص : قته عند - ۹۱ – کلاتی . ما تقولين إذن يا كلماتي ؟ ما نعيم يمنح الكف غذاء المهجات ؟ تقصر الألبــــــــاب عنه وهو بعض اللمسات في يدى أدعـــــوه خصراً تارة أو زهرات في في أدعوه ثـــــــرا تارة أو قبـلات وفؤادي ؟ ما اسم فيـــه إذن يا كلاني ؟ اسألي الأرباب عنه أو سلى الصمت وهاتى !
نشوات تلك ؟ لا بل تلك فوق النشوات يقظات تلك ؟ لا بل تلك غير اليقظات بلغت منهـا مداها وارتقت مرتفعات تسلس اليقظة للوصف وتصفى وتؤاتى فإذا جازت مداها لزمت صمت السبـات كلاتي . ما تقولين إذن يا كلمانى اسألى الأرباب عنها أو على الصمت وهاتي
لحظة تمنح قلبي كل هاتيك الهبات لحظة ترفع عمرى حقبــا متصلات طـــــــــال بالرفعة لا بالسنوات رب عمر لحظة لا بل خلود لاح بين اللحظات كالسماوات تراها من شباك الحلقات رب آباد تجلت من كوى مختلفات - ۹۲ -- وقطيرات زمان ملات كأس حيــــاة وإذا ما طغت الكأس فقل في السكرات سكرة تغشى وأخرى تغتلى بالصحوات هكذا بنا رفيقين لزيمي لثمات غائب غاف وصـــاح لحفيف الهمسات كلاتى ما تقولين إذن ياكلاتي اسألى الأرباب عنـا أو سلى الصمت وهاتى فأنت هنا خفيف طليق رشيق ، ترقص مع الشاعر ، على إيقاع موسيقاه وعلى رقصات شعوره ، وتكاد تطير من الخفة والتوثب والانطلاق . وإن يكن هو انطلاق الحس المتوفز لا انطلاق الروح الهائم بلا حدود وليس من الحتم أن يكون الشعر وثبات راقصة ، كهذه الوثبات ليبلغ قمته عند العقاد . فاسمعه يقول في شجى خافت ، برسم ظلالا نفسية شجية : بنية ما صنعت جــزاك ربي بحب في مشيبك مثل حبي لقد غيرتني حتى لو اني أرى قلبي إذن لجهات قلبي سلینی كيف كنت وكيف صرت وقولى ما صنعت وما صنعت ؟ قدرت على الحوادث بعد لأي وهأنذا كأنى ما قـــــــدرت فهأنذا إذا صفر النذير (1) أخاف وكان لي قلب قـرير (1) نذير الغارات أتوق إلى غد لـــــتراك عيني وأرجم من يغار بمن يغير - ۹۳ وكانت لي سلالم أرتقيها فرادي لا أبـــــــالى ما يليهـا فعدت مثنيا عجلا كانی أخو العشرين مرتقيا سنيها وكنت من السآمة لا أبالى فهأنذا أســـــــائل ما عساها أعود إلى الحياة فتلك عندي تحديت الحيـاة فهل جزتني أدم النـــاس أم حمدوا فعالي ستسمع في من قيل وقال
وكنت هزئت حتى بالجمال وحتى بالفنون وبالمعـالى فالي اليوم لا أرضى بحـــال وكنت الأمس أرضى كل حال ؟
بهذا الحب
( المستعيد المستعد ذاك التحدي ؟ عن ومثل هذا اللون الشجي قليل عند العقاد ، ولكنه قد يرتفع في قمة الشاعرية عن الصرخات والرقصات في ديوانه وهناك ألوان شتى من هذه الآفاق ، وكلها شعر يمثل طبيعة معينة أصدق التمثيل . ولقد هممت أن أجمعها وأسميها « الشعر في ديوان العقاد » مصدرة يبحث واف عن «العقاد الشاعر» وأنقل التأملات التجريدية ، والقضايا المنطقية ، والحقائق ، التعليمية ، إلى مكانها في كتب النثر أيضاً . فإني لأحسب اختلاط هذه وتلك في دواوين الشعر ، مما يصد الكثيرين عن تذوق شعر العقاد ! ولعل سؤالا يطوف الآن بالأذهان : ما حدود الشعر إذن في تعريفك ! – ٩٤ مصور وجوابي أن الشعر لا يحدده الموضوع الذي يقال فيه . ولكن تحدده درجة الشعور بهذا الموضوع ، وطريقة التعبير عن هذا الشعور فأيما إحساس استجاش النفس ، ورفع نبضها عن النبض العادي اليومي ، وجعلها تحس بالوهج أو الانطلاق أو الرفرفة ، أو السبح في عوالم مجهولة . وخلصها – ولو لحظة – من الوعى الكامل والصحو المتيقظ . فهو إحساس شعري . فإذا توافر للتعبير عن هذا الإحساس أداء للحالة النفسية التي صاحبته في الحس ، وللظلال الشعورية التي واكبته في النفس ، ، واشترك الإيقاع في هذا التصوير ، متسقاً مع الجو الذي عاش فيه هذا الشعور فذلك هو الشعر . إن شعوراً نفسياً غامضاً غير محدود يعترى الشاعر قبل أن يقول . وهذا الشعور المبهم يلح على الشاعر ليعبر . فإذا كان من القوة بحيث يغطى على الوعى فترة ، وبحيث يختار معظم الألفاظ والعبارات في شبه نشوة ، كما يختار الإيقاع المناسب كأنما من غير قصد ، وبحيث ينسى القارىء ألفاظه وعباراته ومعانيه بعد قراءتها وينطلق من جزئياتها هذه ، ليشعر في نفسه بحالة مبهمة شبيهة بتلك الحالة الغامضة التي كانت في نفس الشاعر قبل أن يبلور شعوره ويحدده بالألفاظ إذا كان ذلك . فذلك هو الشعر ! ا ولا يكفى صدق الحالة النفسية ، ما لم يرتفع نبضها عن نبض الحالات الفكرية والذهنية ، وما لم يرتفع الإيقاع في أدائها فيناسب جوتها . وما لم تكن صورها وظلالها بحيث تطلق الخيال للتصور لا الذهن للتفكر ويبقى المجال بعد ذلك فسيحاً للتفاوت والتفاضل حسب المواهب والطبائع والآن آخر ديوان له صدر : ... بعد هذه المقدمة العامة في شعر العقاد نتحدث « أعاصير مغرب » إن الشعر الصادق لهو مادة حياة كما هو مادة فن ، والذين يعنون بتسجيل أطوار النفس الإنسانية عامة ، ونفس العقاد الإنسان والشاعر خاصة . سيجدون في هذا الديوان من الظواهر ما لا يجدونه للعقاد في أي ديوان وقارى هـذا الديوان قد لا يجد فيه فورة الحماسة ، ولا وهلة المفاجأة ، ولا تهاويل الحلم ، ولكنه سيجد في مكانها سخرية المعرفة ، وابتسامة الرثاء ، واستخفاف التجريب . كما يجد طائفة من الصور والظلال قد لا يجدها للعقاد في أي ديوان ، وكذلك سيجد روحاً غنائية يقل نظيرها في دواوينه السابقة جميعاً وسيجد الشوط بعيداً بين العقاد الذي عرفه في دواوينه الأولى ، والعقاد الذي يراه في هذا الديوان . هناك – على تفاوت في الدرجات 1901 - العقاد المحتفل ، المهتم ، المتجمع للقول والشعور ، الحافل بالسمت والرنين في الحس والنظم على السواء ، وهنا العقاد المتخفف من هذا كله ، الساخر بهذا كله الذي لا يتحرج في الشعور ولا في الأداء! لقد يلبس الشاب في مستهل حياته البنيقة المنشاة ، وينمق هندامه ويكوى ملابسه ، ويفتل شاربه وينسقه ، ويقيم للنظرات والملاحظات وزناً عند ما يخطو فإذا جاوز هذا الطور ترك بنيقته مسترخية ، وربما لبس ما يلتفت وعند القميص المفتوح ، وسار لا تعنيه النظرات ، ولا تكرثه الملاحظات . إنه طليق طليق لا يحفل بأحد ، بل قد لا يحس بأحد ... ! كذلك يخيل إلى حينها أنظر في دواوين العقاد فأرى الشوط بينها وبين هذا ... الديوان الأخير أجل إن الشوط لبعيد . بعد المسافة بين الذي كان يقول في «أشجان الليل» تريدين أن أرضى بك اليوم للهوى وأرتاد فيك اللهو بعد التعبد . 1971 وألقاك جسمها مستباحاً وطالما لقيتك الخوف التردد حم رويدك إنى لا أراك مليئــة بلذة جثمان ولا طيب مشهد ترد مهاد الصفو غير ممهد جمالك سم في الضلوع وعثرة إذا لم يكن بد من الحان والطلى ففي غير بيت كان بالأمس مسجدي والذي يقول في « أعاصير مغرب » : أأهواك جسها عـلا وانفرد وفتنة حسنك هذا الحسد وما فيـــــــه من نزوة لا تحد بنية كونى كما قد خلقت فأنت كما شاءك الله أنت وما شئته أنا حـلم الأبد وإنه لبعيد بعد المسافة بين الذي كان يقول في « وحي الأربعين » : مائدة كم بت اشتاقها ألقيت في صفحتها بالذباب أرحتنى منها فقد عفتها فليس فيها مورد مستطاب والذي يقول في « أعاصير مغرب » : أعفيك من حلية الوفاء إنك أحلى من الوفاء خوني ، فما أسهل التقصى عندي وما أسهل الجزاء وليس بالسهل في حسابي فقدك يا زينـــــــة النساء ! قل : إنها المعرفة تلك « القمة الباردة » التي تنكشف عندها المنحنيات والثنايا ، فلا يبقى هنالك مخبوء تحيطه الهالات ، وحينئذ تستوى الأضداد أو ترتفع الأضداد : سیان مهما افترق الضـدان سیان بيد هي أو منان سیان نور أو ظلام فان سيان من يلهو ومن يعاني 6 – ۹۷ – والتي تنظر النفس عندها إلى الأحداث بمنظار الألفة ، فيبطل العجب ، وتفتر الحماسة : عجبنا زمانا لهـذي الحروب وما في الحروب لعمري عجيب أتعجب من أن قوما تموت ومن أن قوما قساة القلوب ! وما قســـــوة الناس بدع ولا أرى موتهم بالجديد المريب فهذي هي الحرب يا صاحبي كلا طرفيهـا قريب قريب ! أو قل : إنها التجربة التي تعرف « ما هنالك » فلا تسخط على « ما هنا » ولا تتطلع إلى مثل لا وجود لها إلا في الأحلام ، كما يصنع الفتى والشاب ، قبل يأس التجاريب : خذ معدن الحب إن ألفيت معدنه إلى قنعت بومض منه غرار ما للا ناسي من حب يدوم ولا حب يقوم على صــــــــدق وإيثار أو قل : إنه الرضى بالمتاع المتاح الذي إن ذهب لا يعود ؛ وإن رفض لم تحقل الدنيا ، ولم تعاود رافضه بما يريد : يا قلب إنك قد أرد ت" فأين ويحك ما تريد ؟ عام سعيد ! إي وربـــــــك قل : إذن عام سعيد هبك اعتزات سروره أتراء ينقص أو يزيد ؟ أو قل : إنه استقطار اللذة من خامات الحياة المحدودة ، في أناة المتمرس البصير ، بعد الحساب الدقيق لمـا بقى بين يديه من رصيد : وشقائه ما للغــــــــرام يسومنا النعيم إنا لمغتنمو جهنـــــــــه اغتنــــــــام سمائه (م - ۷) 151 لسنا على يده يجو د لنا بمحض سيخائه ما شب من نار طبخنا فوقها حلوى الهوى أو صب من غيث غمسنا فيه آلام الهوى أو زف من ريح وهبنا ها الشراع كما استوى أو قل : إنه الاستسهال ، ومجافاة الجهد والكد ، حتى في طلب الحب . فاللذة المواتية المريحة هي غاية الرجاء ، والإشفاق كل الإشفاق من الجهد والعناء ، وكفى ما بذل من الجهد وما احتمل من العناء ! أن يروى فرغت من الحب الذي يعقب الشكوى في من النعمي وليس من البلوي بذلت له ناري ثلاثين حجة اليوم للحلوى فلا نار بعد اليوم ومحضته ماء الشباب فما ارتوى فهل في خريف العمر يطمع رضيت بما أعطى ، وأحسبه ارتضى بما أنا معطيه على غــــــــير ما يهوى فلا زال في عقباه ضحكا بلا بکا ووصلابلا هجر ، وهجراً إلى سلوى ! أو قل : إنه الانطلاق من كل قيد وسمت ، انطلاق عابد الصنم تتكشف له السخرية الكبرى في النهاية ، فيحطم الصنم في استهتار وسخرية . ثم ينظر فلا يجد في رصيده بقية لمغامرة جديدة . فعلى مدى النظر يبصرنهاية الشوط المحدود : دعيها تفسد الخمسين إفساد ابن عشرينا ! ... ولكن هذه النعمة لا تطرد في الديوان كله . فالنفس الإنسانية كثيرة الدروب والمنحنيات ، وجذوة الحياة لا تلبث أن تشع تحت الرماد . وقلب العقاد لم ينطفىء بعد . وإن الجذوة الكامنة لتزفر بالشواظ والدخان في بعض الأحيان وتلك هي « أعاصير مغرب » وأشجانه السود ، وإن هذه الأشجان لتبلغ ذروتها . 1991 حين تصبح الرغبة في اللذة المشوبة بالأكدار ، أقوى في النفس من الإرادة فيصبح انتزاعها عملية بترلم تعد تستطاع، كما كانت من قبل تستطاع في سن الأربعين : اتراني نافــــــــم والقلب دام وسمار الجرح يمشى في عظامي لذة العين بوشى و نظام وامتلاء الأنف من عطر شذاها
آه من برئی وآه من سقامی آه من صلحی و آه من خصای آه من شمسى وآه من ظلامي آه من لذعة آه في جواها
لذعة النيران ينفــــن دخانا لها صرفا تعالي وتدانى آه من آه لحاها الله جدا من قلوب تلتظى حباً وحقدا ليضيء اللهب الخافي عيانا من قرار النفس يرتاد ذراها لاترل خالدة في النار خلدا حرقت آمانها آها آها أنا لا أطلقها حتى تذوبا في لظاها ، كلما شبت شبوبا وأراني يا صديقى لن أتوبا فإذا تابت عرفنا منتهاها ! ولقد يهدأ هذا الغرام ، وتخف هذه الحرقات – عندئذ تلمح هذا الأسى الشفيف ، وتسمع هذه النعمة المريرة : بنيته ، والعزم صخرى المتين ومعولى حد العذاب السنين اسمع . ألا تسمع هذا الرنين هذا فتات القلب هـذا أنين في كل ركن قطعة من وتين - ۱۰۰ - بنيته في حفرة من شقاء والدم والدمع عليه طلاء هناك في زاوية في الخفاء تم بحمد الله تم البناء ماذا بقى ؟ لم يبق إلا الدفين !
بنيته . يا حسنه ! یا سناء ! قبر الهوى الغالي وواحسرتاه ! بنيته : قبر الهوى في صباه قبر الهوى الذاهب في منتهاه هل بعد «خمسين » هوى يا حزين؟
- هاتوا الدفين الغض.هاتوا الأمل هاتوه أدى جسمه بالقبـل أدميه ؟ لا . لادم بعد الأجل جف وما جفت عليه المقل هاتوه أحييه بذكرى السنين
دفنته ، ويحك! هل تستريح؟ يا خارب القلب عمرت الفريح ذاك الثرى المنهال. ذاك الصفيح يا ليتـه ركن الخراب الفسيح أوليتك الساعة فيـه الدفين
ولو خلا القبر . أهذا مناه ؟ اه من الحيرة آه وآه أنا فع قلبي رجعى هواه ؟ لو أقفر الساعة مما حواه خلت من الحيرة أني الغبين ! هذا شعر ! وشعر كله . ونظائره في الشعر العربي قليل . بما فيه من وداعة وحساسية وعمق وصدق ، وصور وظلال ، وإيقاع شجي رفيق .
- - ۱۰۱ -
ومعظم ما اقتطفته إلى هنا كان من أبواب ثلاثة من أبواب الديوان: « في العالم » و « في النفس » و « هنا وهناك » وهناك بابان آخران : « في مصر » و « في عالم الذكرى » . وفي هذا الباب الأخير قصيدة « رثاء مي » وفي اعتقادي أنها خير رثاء كتبه العقاد ، وهي في قمة شعره الشجي . التصورات والإيقاع الذائب لهفة وحنينا كأنه الشعور المذاب ، الخالص من قيود النظم ، كأنه مطلق من الوزن والنظام ! أين في المحفل « می » یا صحاب ؟ عودتنا ها هنا فصل الخطاب عرشها المنبر مرفوع الجناب مستجيب حين يدعى مستجاب أن في المحفل « می » یا صحاب ؟ سائلوا النخبة من رهط الندى أبن مي ؟ هل علمتم أبن مي ؟ الحديث الحلو واللحن الشجى والحبين الحر والوجه السنى ابن ولى كوكباه ؟ أبن غاب ؟
أسف الفن على تلك الفنون حصدتها – وهى خضراء - السنون كل ما ضمته منهن المنون غصه ماهان منها لا يهون
- - ۱۰۲ -
وجراحات ، ويأس ، وعذاب
شیم غر رضيــات عـذاب وحجي ينفذ بالرأي الصواب وذكاء المى كالشهـــــــاب وجمال قدسی لايـــــــــاب كل هذا في التراب . آه من هذا التراب الخ ... الخ ... وتبقى في الديوان قصيدة « بيجو » كلبه الرفيق الحبيب . ودلالتها على النبع الإنساني في نفس العقاد ، تفوق دلالة شعره كله . فبيجو ليس حبيبا يلتذ حبه ويناغيه ، وليس صديقا يفتقد صداقته فيرثيه ... ولكنه « حيوان » يشغل نفسه مكان الود الإنساني الخالص ، ويدل على مدى الفيض الشعوري في هذه النفس ، ومدى الحنان الأبوى الودود ! من - حزنا على بيجو تفيض الدموع حزنا على بيجو تثور الضلوع حزنا عليه جهد ما أستطيع وإن حزنا بعد ذاك الولوع لحزن وجيع حزنا عليـه كلا لاح لي بالليل في ناحية المنزل - ۱۰۳ مسامرى حينـا ومستقبلي وسابقى حينا إلى مدخلى کانه يعلم وقت الرجـوع وكلا داريت إحدى التحف أخشى عليها من يديه التلف أسف ثم تنبهت ولی من اليوم منها الهدف ألا تصلب ذلك خير من فؤاد صديع
وكلما ناديتـه ناسيـــا : ولم أبصر به آتيا مداعبــا مبتهجا صـــاغيا قد أصبح البيت إذن خاويا لا من صدي فيه ولا من سميع
الذي أسمع قبل الصباح الذي أرقب عنـــــــد الرواح بیجو الذي يزعجني بالصيـــــــاح لو نبحة منه ! وأين النبـــــــاح ؟ ضيعت فيها اليوم ما لا
- - ١٠٤ -
خطوته . يا برحها من ألم يخدش بابي ، وهو ذاوى القدم مستنجدا بي . ويح ذاك البكم بنظــرة أنطـق من كل فم
يا طول ما ينظر ! . هـذا فظيع
- ** *
نم . لا أرى النوم لمينى يطيب أنتم خبيرون بنهش القلوب یا آل قطمير هــــواكم عجیب غاب سنا عينيك عند الغروب وتنقضى الدنيا ولا طلوع
نم واترك الأفواج يوم الأحـد والبحر طاغ والمدى لا يحـد عيناي في ذاك وهـذا الجسد بوحشة القلب الحزين انفرد والليل . والنجم ، وشعب خليع !
أبكيك . أبكيك وقل الجزاء يا واهب الود بمحض السخاء يكذب من قال : طعام وماء لو صح هــذا ما محضت الوفاء لغائب عنك وطفل رضيع got 11.01 ولكم تمنيت لو خلت هذه القطعة الشجية الآسية الودود من بيتين اثنين . ذلك قوله :
أنتم خبيرون بنهش القـــــــاب یا آل قطمير هـــــــواكم عجيب - فهذه لفتة ذهنية في سياق شعوری . توقظ القارىء من الجو الشجي الحزين - إلى التاريخ مرة وإلى تورية كانها الدعابة مرة ... وتلقى ظلا لا يتسق مع ظل الأسى الكامد الكثيب – واتساق الظلال هو الشعر في كثير من الأحوال – ثم لا تزيد بعد إخلالها بتناسق الظلال شيئاً ! فنهش الكلاب للقلوب لا علاقة له » ينهش من الحزن قلب الشاعر . وكونه من « آل قطمير » إطلاقا بأن « ليس عاملا في هـذا الموقف . وما هي إلا اللفتة الذهنية – لا الشعورية – واستطراد المشابهة الخارجية لا الداخلية . وللعقاد – في شعره – لفتات غارقة ، أو سبحة عالية ، أو اندفاع متدفق . فليته كان ينساها ، فيخلص الشعر الدافق الحار من هذه الحواجز التي تقف اندفاعه في وسط الطريق . من هذا القبيل ، توقظ القارىء من تهويمة 1 4
D ومقدمة الديوان بعد هذا كله – فصل من أبرع فصول العقاد وموضوعها قد دار حوله جدل بينه و بينى منذ ثمانية عشر عاما على صفحات البلاغ الأسبوعي . وإلى هذا الجدل أشار في المقدمة . وما يزال الموضوع قابلا للحديث ومجمل ما يصور رأى الأستاذ الكبير قوله : - ۱۰۶ - « ويصبح – على هذا – أن يكون الشباب عهد ابتداء العاطفة وافتتاحها على صورتها الأولى . أو هو العهد الذي تفاجأ فيه البنية بشعور جديد لم تكن لها به خبرة من قبل . فيشاهد عليها ما يشاء د على كل بنية تفاجئها حالة طارئة . فإن المفاجأة إذا عرضت لإنسان بدا لك في حالة كحالة الشاب في أول عشقه : وجه ساهم ، وفم مغفور ، وطرف ذاهل ، ولسان معقود ، ونفس مطرود . وهذه هي الحالة التي يخيل إلى من يراها أنها العشق دون غيره ، مع أنها أحرى أن تدل على أن العشق مفاجأة لم تعهدها البنية ، ولم تألفها النفس ، فلم تزل بها حاجة إلى التثبت منها والرياضة عليها . ثم تأتى هذه الرياضة شيئا فشيئا ، مع تعاقب الأيام ، وتعاقب ألوان الشعور . ا - « في هذه الحالة – حالة المفاجأة – تتفتح النفس على عالم مسحور ، حافل بالصور والزخارف والأسرار ؛ وتجود القريحة بالمعنى البسكر والخيال الطريف ، وتتسع للشاعر منادح للاحساس ، ولوصف الإحساس ، يركض فيها ركض السبق والتجلية إن كان من السابقين المجلين . ولكن المفاجأة يمتنع بعد قليل أو كثير ، فلا يمتنع سبيل القول بامتناعه . كالذي تسحره المدينة لأول نظرة ، فيصفها على التو والساعة في الصورة المتوهجة التي أضفاها عليه سحرها . ثم يقيم فيها سنة أو سنوات فلا يجهلها بعد معرفة ، ولا يعز عليه وصفها بعـد قدرة . ولكنه يصفها غير مسحور ولا ، فيخسر وصفه ذلك الوهج اللامع ، ثم يعوضه نفاذ النظرة وطول الخبرة وصدق المشاهدة ، كأنما تغيرت المدينة . وهي لم تتغير بين النظرتين ، ولا أخطأ واصفها في إحدى الحالتين « وإذا كان هذا شأن المدينة المحدودة ، فكيف يكون شأن العالم النفساني الذي ليست له حدود ؟ وكيف يستنفد هذا العالم الرحيب في نظرة واحدة ، ولا سيما نظرة المفاجأة والمعرفة الأولى ؛ وكيف يفهم العاطفة الإنسانية من - ۱۰۷ يحسبها ضيفا يفارق الحياة بعد المصافحة الأولى ، ولا يعلم أنها هي صاحبة الدار وأنها هي هي الحياة ؟ » . وأنا لا أقول : إن العاطفة تنتهى بانتهاء المفاجأة ، وتغادر دار الحياة بمجرد انقضاء الشباب . ولكني أقول : إن وهلة المفاجأة ، وتهاويل الحلم ، وغمرة الانخداع هي أجمـل ما في العاطفة ، وأروع ما في الإحساس بالدنيا والحب والحياة ، وإنه حين تنكشف هذه الغشاوة لا تذهب العاطفة ولا تموت . ولكنها تبهت ، وتفقد سحرها وروعتها . وأن الوصف الأول في الصورة المتوهجة التي المفاجأة هو أخلد وصف وأجمله وأحياه . يضفيها سحر والعقاد نفسه ، هو الذي يقول في « أعاصير مغرب » : برئت من غش نفسى وليــــــتى ما برئت ما العمر محض نهار في العمر للغمض وقت وأجمل وقت في العمر هو وقت الغمض ، الذي تنساب فيه الرؤى ، وتطرق فيه الأحلام .