كتب وشخصيات (1946)/في أصول النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


 
 
 
 
 
 
 
 
 
في أصول النقد

النقــد والفن

نحن نعتمد على الألفاظ في تصوير خواطرنا، وإبراز المعاني التي تجول في أذهاننا، والأحاسيس التي تختلج في نفوسنا.

ويوما ما كان أسلافنا يؤدون هذه الأحاسيس وتلك المعاني بالإشارات والأصوات المهمة، أو بالإشارات والألفاظ جميعا…

وقد يصل أحفادنا إلى طريقة أخرى للتفاهم غير الألفاظ المنطوقة أو المكتوبة فقد يتم التفاهم بينهم مثلا عن طريق الاتصال الشعوري والفكري المباشر، وشيء من هذا يقع الآن في التنويم المغناطيسي والإيحاء !

أردت أن أقول – بهذه المقدمة – إن الألفاظ التي نتخذها اليوم للتفاهم، إنما هي وسيلة لا غاية، وإنها رموز ظاهرة لمعاني، وأحاسيس مضمرة ؛ وإنها تستمد قيمتها الحقيقية من قيمة ما ترمز إليه. بقدر ما تستطيع الكشف عن هذا الذي ترمز إليه.

والألفاظ – في هذا – كالعملة الورقية المضمونة برصيد من الذهب. ونحن نتعامل بها حسب ما ترمز إليه من الرصيد. ولا بد لكي نثق بها ونتداولها أن تكشف لنا عن هذا الرصيد الذي تساويه !

والألفاظ التي نتعامل بها الآن لم نضعها نحن ولم نشترك في وضعها، وقد تم هذا في عصور سحيقة، تعد بالقياس إلينا، في طفولة الإنسانية. فكان من أثر هذا أننا نراها اليوم ألفاظا غامضة مجملة الدلالة، وكثير منها ليس له في أذهاننا معنی دقیق محدد.

وقد لا يظهر هذا في « أسماء الذوات » ولكنه يظهر واضحا في « أسماء المعاني » حيث تصلح اللفظة الواحدة للدلالة على عشرات الصور والحالات المتعلقة بالمعنى الواحد ، تختلف في اللون والدرجة ، ويبقى اللفظ الدال عليها واحدا في جميع الأحوال .

خذ مثلا كلمة « الحب » . فانظر : كم من الصور تنطوي تحتها ، وكم من الأحاسيس تعبر عنها . وهي لفظة واحدة لا تفرق بين حالة وحالة ؛ إلا في سياق معين تقاس به مقدرة القائل على الأداء ، وتكشف فيه اللفظة عن رصيدها المذخور من الحس والشعور .

ما مدلول لفظة « الحب » ؟

أولا : بالقياس إلى ما يحسب : تراه حب الحياة ، أم حب الطبيعة ، أم حب الجمال الحي ، أم حب الوطن ، أم حب الأسرة ، أم حب الأصدقاء ، أم حب النفس ، أم حب المجد ، أم حب المال ، أم حب الجنس ، أم حب الفن ، أم حب الدين ... الخ ما يصح أن يكون محبوبا في الحياة ؟

وثانيا : بالقياس إلى نوع الحب : تراه الحب البرى، أم الحب المشوب ؟ وحب الألفة الوئيدة أم حب المفاجأة الهاجمة ؟ وحب الأثرة والغلبة أم حب التضحية والإيثار ؟ وحب الاستعلاء والسيطرة أم حب التفاني والامتزاج ؟ وحب الشهوة العارمة أم حب القداسة المتصوفة ... أم هو الحب الذي تتداخل فيه شتى هذه الظلال والألوان ؟ !

وثالثا : بالقياس إلى درجة الحب وحالته : تراه الحب الصاعد إلى الآفاق أم الهابط إلى الأعماق ؟ وهو المقبل يكسب كل يوم ويربى أم هو المدير يخسر بالزمن ويذوي ؟ وهو الثائر العنيف أم الهاديء الراضي ؟ وهو المكروه المملول أم المتطلب المرجو ؟ أم هو الحب الذي فيه من هذا وفيه من ذلك وفيه من ذاك ؟ ! - ۱۲ - كل هذا وعشرات من أمثاله تحمله لفظة « الحب » الواحدة ، ويفصله الإحساس الواسع ، المجرب لهذه الصنوف والأشكال . ا ومثل الحب : البغض ، والغيرة ، والحنان ، والقسوة ، والمروءة ، والنذالة واللذة والألم ، إلى آخر « أسماء الماني » التي تحمل مدلولاتها هذا الاجمال ، وتتسع بعد ذلك لعشرات من الصور والأحوال و بديهي أن واضعى اللغة الأوائل لم تكن خواطرهم تزدحم بكل هذه الصور لأن أحاسيسهم وأذهانهم لم تكن مرت بتجارب كالتي مرت بنا ، فكانت اللفظة الواحدة تشع في أذهانهم صورة واحدة ، أو عدة صور ، مقيدة على كل حال ، بمدى تجاربهم في عالم الحس والخيال والذين جاءوا من بعدهم لم تحفرهم حاجة ملحة إلى وضع ألفاظ جديدة ، مفصلة على قد كل حالة من الحالات ، لأنهم وجدوا في إبهام الألفاظ الموضوعة من قبل وإجمالها ومرونتها ما يساعدهم على تحميلها صورا وأشكالا وحالات جديدة لم تخطر على قلوب واضعيها الأولين . >>> بل لعلهم – وبخاصة رجال الفنون – قد ارتاحوا إلى هذا الغموض البهم ووجدوا فيه من الجمال ما يتسق مع خواطرهم وأحاسيسهم ، وفيها قسط من الغموض والإبهام لا مفر منه بحكم أن مشاعرهم وأخيلتهم هي الأصل في العمل الفني وهي غامضة إلى حد ما . لا بل زادوا على هذا أن جعلوا كثيرا من « « أسماء الذوات » « أسماء معانى » على نحو من المجاز . مثل كلمة « كتابة » وأصلها القيد » وكلمة « شرف » وأصلها « المرتفع » كما جعلوا بعض أسماء المعاني لمعاني أخرى اصطلاحية ، مثل كلمة « صلاة » وأصلها « الدعاء » وكلمة « زكاة » وأصلها « الطهارة » وذلك – فيما يبدو – كان تفاديا من وضع ألفاظ جديدة ! ولعل القدرة على وضع الألفاظ كانت خاصة في طفولة الإنسانية وفي الشعوب C -17- ti البدائية ، ثم ماتت أو فترت بعد عهد معين من الرقى والتطور . فأصبحنا الآن نعاني صعوبة جدية في وضع ألفاظ جديدة لمـا يعرض لنا من شئون الحياة ! وأنا أزعم أن اللفظ الذي لم ينبعث من فم القائل إلا بعد وجود صورة معينة يرمز إليها في ذهنه هو وكذلك لا ينشيء في ذهن السامع صورة لا عهد له بها من قبل . ولكنه يقتصر على استدعاء الصورة أو الصور الكامنة في نفسه ، والتي يرمز لها هذا اللفظ عنده . وقد يختلط علينا الأمر في بعض الأحيان ، فنحسب أن لفظا معينا قد أنشأ في أنفسنا ، إنشاء ، صورة لا عهد لنا بها البتة . وتفسير هذا أن هذه الصورة لا بد أن يكون لنا بها صلة سابقة ، نتيجة لتجربة شخصية أو إنسانية ، ثم خفيت علينا و بعدت عن وعينا ، حتى استدعاها ذلك اللفظ حين سمعناه أو قرأناه . فكلمة « الجبل » مثلا لا تدل على شيء البتة في ذهن من لم ير جبلا ، أو مرئيا "ما يقرب إلى ذهنه صورة الحبل . وقد تصور له شكلا من الأشكال هو أبعد ما يكون عن شكل الجبل المعروف كما يقع كثيرا للمكفوفين وللأطفال وهذه الكلمة نفسها تشع في ذهن من رأى جبلا واحدا ، صورة واحدة هي صورة الجبل الذي رآه ، بينما هي تشع خمس صور لمن رأى خمسة جبال مختلفة الأشكال ، وتشع عشر صور لمن رأى عشرة جبال مختلفات ، وهكذا . ومثل هذا كلمات : قط ، وكلب ، وحصان ، وشجرة ، وزهرة ، ونبات إلى آخر أسماء الذوات . ... ا الأشكال ، والذي لا يتقيد أما المعنى الذهني المجرد ، المنتزع من جميع بشكل من هذه الأشكال ، فلا يكاد يقيم في الذهن لحظة ، ثم يأخذ الخيال في استعراض الشكل أو الأشكال التي يستدعيها هذا اللفظ في الحال ا وإذا صح هذا في « أسماء الذوات » وهي قريبة الإدراك سهلة التصـور، والاختلاف فيها محدود لأنها موكولة – في الغالب – إلى الحواس، فكم يكون مقدار الاختلاف في إشعاع ألفاظ المعاني. كالحب والبغض، والمروءة والنذالة، والذكاء والغباء، واللذة والألم ؛ ثم كم يكون الاختلاف فيها تشعه – بعد ذلك – النصوص التي تتولى تصوير عاطفة من العواطف، أو خيالا من الأخيلة أو حالة من الحالات النفسية على وجه الإجمال ؟

وقد يكون هذا الاختلاف نعمة جميلة في عالم الفنون بما يجدد من أنماط القول وصور الأداء، وبما يعرضه من عوالم النفوس، وغرائب الشخصيات. ولكنه – مع هذا أو بسبب هذا – يخلق لنا عناء ء لعل عناء، بتعارض الآراء في الأثر الأدبى الواحد، بل الأداء الفني الواحد، بالقياس إلى ما يشعه من الصور في الأذهان، وما يستحضره من الحالات في النفوس.

***

وهنا نصل إلى النتيجة الأولى من هذا البحث. وهي مناقشة مدى حق القارىء في نقد ما يلقى إليه من الأعمال الفنية، والحكم عليها حكما موضوعيا على قدر الإمكان.

ليس الناس سواء في تجاربهم الحسية والنفسية في الحياة، وبعضهم – ولا شك – أغنى من بعض في رصيد هذه التجارب.

وأسباب الغني والفقر في هذا الرصيد كثيرة متنوعة. فقد ترجع إلى سعة الطبيعة النفسية أو ضيقها، وقوتها أو ضعفها، وعمقها أو سطحيتها، وقد ترجع إلى اللون الذي تصطبغ به هذه الطبيعة، فنهش لهذا اللون من الإحساس أو ذاك وتتفتح لمظاهر من الحياة دون الأخرى كأن تتفتح لمظاهر الضخامة والعنف والجموح في الكون وتنقبض عن مواطن الدعة والهمس والخفاء… الخ

-10- وتبعا لهذا الاختلاف في الرصيد النفسي المخزون ، تكثر الصور التي يشعها اللفظ أو التعبير عند القارىء أو تقل . ويقوى أو يضعف استعداده لتلقى صـور النفوس ، وأنماط الشخصيات . ويتسع أو يضيق إدراكه لأطياف الجمال التي تموج بها الفنون كما تموج بها الحياة . وتخلص من هذا إلى النتيجة الأولى التي أعنيها من مقدمات هذا البحث وهي : أن حق الناقد في الحكم على صحة الحالات النفسية والصور الفنية رهن بالنسبة بين رصيده ، ورصيد الفنان من الآفاق النفسية ، والتجارب الفنية على السواء . . ذلك أن الفنان قد تزخر نفسه بصور وحالات ليست شائعة ، لأنها من خصوصياته أو امتيازاته ؛ وقد يختار من صور الأداء ما يتسق مع صور الإحساس فيجيء ناقد لم تهيأ طبيعته لإدراكها ، أو لم يقرأ لها نظيرا في الأنماط السابقة ، فيرى خطأ في التصور والإحساس ، أو انحرافا في التصوير والأداء . بينما هي من مطالب الحياة الأصيلة من ذلك الفنان ، للتنويع في الأنماط والألوان ! ونسمع أحيانا أن بعض النصوص أو الآثار الفنية صعب الفهم عند الكثيرين . وهنا يجب أن نقف لنسأل عن نوع الصعوبة . فهناك صعوبة منشؤها التعبير . وصعوبة منشؤها التصور . والصعوبة الأولى سهلة ميسورة الحل ، وعلاجها هو المعجم والدراسة اللغوية ، والاطلاع على طرق التعبير المختلفة . أما الصعوبة الثانية فهي المسيرة حقا ، لأنها تتعلق بما هو أعمق من الألفاظ والعبارات ذلك أن خصوصية الصور النفسية والحالات الوجدانية قد تحتاج إلى طبائع خاصة ذات رصيد إنسانى وفنى ضخم ، يؤهلها لاستيعاب ما ترمز إليه النصوص ، -17- أن التي قد تكون سهلة التركيب ، واضحة الأداء . لا صعوبة فيها ولا تعقيد وهنا نصل بالحديث إلى النتيجة الثانية لمقدمات هذا البحث : وهي صعوبة الفهم أو سهولته ، ليست راجعة في الحقيقة إلى غرابة اللفظ ووعورة التركيب . فهذه صعوبة سهلة حلها ميسور ؛ ومرجعها – كما قلت – إلى المعجم وإلى التمرس بالأساليب . إنما الصعوبة التي تحتاج إلى الطبيعة وإلى التجربة معاً ، هي صعوبة التصور والإدراك ، بسبب نقص الرصيد النفسي من التجارب الحسية والذهنية والروحية ، وفقر الطبيعة من الذخيرة الموهوبة ، التي تهيئها للفن الرفيع . وإنك لتجد في بعض الأحيان من يجادلك في نص أدبى ، يقول لك : ما معنى هذا ؟ فإذا حاولت أن تفسره له لم تجده قاصرا عن فهم ألفاظه وتراكيبه . ولكنه عاجز عن تملى الحالة النفسية التي يرض هذا النص إليها . فإذا حاولت أن تدله على موضع النقص في استعداده الفنى ، لم يجد إلا أن يقول لك : إذا كنت أنا دارس اللغة وآدابها لا أفهم هذا القائل ، فلمن يقول ؟ ! م إن المدى البعيد جدا بين معرفة مدلول الألفاظ اللغوي في النص الأدبى ، واستحضار الصورة النفسية التي يشعها. وهذا مثل ذلك ضرورى للادراك الصحيح . وأضرب هنا مثالا قد يكون ضروريا للايضاح : يقول القرآن الكريم : « والصبح إذا تنفس » . فماذا تعنى هذه الألفاظ عند الكثيرين من دارسي اللغة العربية ؟ إنها تعنى : « استعارة مكنية في الصبح الذي شبهناه بإنسان ، وحذفنا المشبه به ، ورمزنا إليه بشيء من لوازمه وهو « تنفس » أو هي تركيب جميل ذو إيقاع موسيقى ، حين نقرنه إلى الآية قبله : « والليل - إذا عسعس ، والصبح إذا تنفس » فأين هذا مما يشعه هذا التعبير في النفس الشاعرة ، من الحياة المفاضة على - ۱۷ - الطبيعة ، والأنس بهذه الحياة التي تتنفس في كل حي ، من الزهرة المتفتحة للندي إلى الطير المتيقظ من السكرى ، إلى الإنسان المتطلع إلى الضياء ؟ وأن هذا الحركة الوئيدة المستشرفة للضوء والحياة ، تصورها لفظة « تنفس » وجرسها الخاص ، وإيقاع التعبير كله . وكأن كل كائن في هذا الوجود يفتح رئتيه لنسيم الصبح البليل ، وينفض السكرى عن عينيه في استبشار وديع ! إن الفرق بين النظرة الأولى والنظرة الثانية ، لهو الفرق بين اللفظ الجامد والمعنى الطليق . وهو الفرق بين الدمية الميتة والحورية الراقصة في سبحات الخيال وهو نفسه الفرق بين تصور « البلاغيين » للجمال الفني وتصور الفنان ! ويقول « توماس هاردی » في خسوف القمر « ظلك أيتها الأرض – من القطب إلى المحيط - يدب الآن على شعـاع القمر الضئيل في سواد لاشية فيه ، وسكينة لا يخالجها اضطراب ؛ وإنى لأنظر ا إليه فأعجب كيف يستوي هذا الظل المنسوق ، وذلك الجرم الذي أعرفه لك مواراً بالقلق والحيرة ؟وكيف تتفق هذه الصفحة الراضية كأنها الطلعة الإلهية ، وأقطار عليك أيتها الأرض تموج الساعة بالأحزان والكروب ؟ « وأسأل : أهذا الشبح الصغير كل ما يطرحه الفناء الزاخر من الظلال على ساحة الفضاء ؟ حكمة الله أراد بها عالم الإنسان، متجمعة كلها في حيز هذا القوس المرسوم . كذلك يكون مقياس الكواكب لما تبديه الأرض ، ويكشفه عليها الزمان : من أمة تنحر أمة ، ورءوس تغلى بالهواجس ، وأبطال غالبين ونساء أجمل طلعة السماء » . من

وليس في هذا الكلام - في نصه العربي هنا -- صعوبة في اللفظ ولا في المعنى . ولكن الصعوبة الحقيقية في إدراك صدق هذا الكلام وجماله ، ولمحة ۱۱) ترجمة الأستاذ العقاد - ۱۸ - ا السخرية العميقة البادية عليه في هدوء ورزانة . السخرية من ضجة الحياة والأحياء في هـذا الكوكب الأرضى ، حتى ليحسبون الكون كله مشغولا بهمومهم الكبيرة لديهم الهينة لديه إلى حد أن لا يحس بها ولا بهم إلا بمقدار ما يرتسم هذا الظل الضئيل للأرض على وجه القمر ساعة الخسوف ... السخرية يبعد ما بين « هذا الظل المنسوق وذلك الجرم الذي أعرفه لك مواراً بالقلق والحيرة » كما يقول الشاعر الساخر العظيم : إن الصعوبة الحقيقية هنا هي هذا التصور النادر لصغر الكوكب الأرضى وما فيه ومن فيه ، وتصويره على هذا النحو في قالب فني يلقى هذه الظلال النفسية : ظلال السخرية العميقة ، والابتسامة الباهتة على شفتي فنان ! ويقول « تاجور » شاعر الهند العظيم : « لقد أمسكت بيديها ووضعتهما على صدري . « وحاولت أن أملا ذراعي من وداعتها ، وأن أسلبها بسمتها العذبة بقبلاتي . « آه . وأن أشفى هيمان عينى من نظراتها العميقة . « ولكن أين هي ؟ ه من ذا الذي يستطيع أن ينزع زرقة السماء ؟ « وحاولت أن أمسك بالجمال ، فأفلت منى ، ليترك بين يدى الجسم وحده . « وأعود حيران متعبا «كيف ينبغى للجسد أن يلمس الزهرة التي لا يقدر على لمسها غير الروح وليس في الألفاظ ولا معانيها صعوبة ، إنما الصعوبة في إدراك هذه الصوفية العميقة السمحة الشفيفة . صوفية الروح الوديعة التي تسخر في رحمة حنون من (۱) ترجمة الأستاذ لطف شلش - ۱۹ - ا ی محاولة الملك العنيف ، والاحتجان الغليظ ، للجمال الوديع والروح المشاع ، صوفية الفناء السمح في الروح العام بلا احتجاز ولا تملك ولا احتياز ! ولا يفوتني أن أنوه هنا بطريقة الأداء ، وجمال تصويرها لهذا الشعور الفريد . فتاجور قد اختار هنا أن يصف لنا « التجربة » التي قام بها ، وأن يطلعنا على نتائجها واحدة واحدة . وأن يقف معنا هو وتجربته ونتائجها ، لنشاركه كل خطوة فيها ، ولتمتلىء مشاعرنا بالحقيقة الشعورية التي اهتدي إليها . حتى إذا وصل إلى النهاية فقال : ی « كيف ينبغى للجسد أن يلمس الزهرة التي لا يقدر على لمسها غير الروح » ؟ كنا قد وصلنا معه إلى هذه الشفافية الروحية الصوفية . ولو أنه ألقى بها إلينا معاني مجردة لحرمنا لذة مشاركته هذه التجربة الفريدة . ولطريقة الأداء قيمتها إذن في تصوير الأحاسيس الرفيعة ، وإشاعة الشعور بها في نفوس الآخرين ، بمقدار ما تطيق هذه النفوس تصور تجارب الآخرين . ونتيجة ثالثة أحب أن أخرج بها من مقدمات هذا البحث إن الطبائع الفنية الممتازة ، والنفوس الغنية الموفورة الرصيد ، أقل عددا في هذه الحياة من الطبائع الشائعة المكرورة والنفوس المحدودة التجاريب . وينشأ من هذا أن الفن العادي المريح ، الذي لا يكلف النفوس عنـاء في التصور ، ولا جهدا في الإدراك ، أشد سيرورة من الفن الممتاز – ما لم تتدخل في الأمر عوامل أخرى غير العوامل الفنية البحتة – لأن كثرة القراء في كل جيل يعجبها الفنان المريح ، الذي لا يعلو على طبائعها كثيرا ، بل يشايعها في تصورها وإحساسها بالحوادث والأشياء ، وتجد في فنه صدى تجاربها النفسية المحدودة . وطبائعها الشعورية الشائعة . ? قمر الى تحاول الاسماء عتنا کرنے . - ۲۰ – ولكن الخلود لا يكتب إلا لذوى الطبائع الضخمة ، الذين قد يلمون في الطريق بما هو شائع مشترك في النفس الإنسانية ، ثم يحلقون في آفاقهم الخاصة ، حيث يرقبهم الناس ، كما يرقبون النجوم البعيدة . يتلقون منها الحرارة والضياء ، وهي بعيدة عنهم في أجواز الفضاء ! لام ليفي وهم لا يردون إلى وحكم جيل واحد قد لا يكفى . فلا بد من تتابع الأجيال في كثير من الأحوال . لتبين البهرج الزائف الرخيص ، من المعدن الأصيل الثمين .

وحين نستوفي الحديث عن أنماط النفوس ، ونماذج الأحاسيس نرتد إلى التعبير نفسه . ففي ميدانه تتفاضل المواهب ، ويكون للنقد مجال . وقد أشرت في تعليق على مقطوعة « تاجور » إلى قيمة « طريقة الأداء » في الفنون الأدبية ، التي قد تكون « الطريقة » فيها حاسمة في تقدير العمل الفنى ومستواه . ولكن هذا بحث آخر بلى هذا البحث في الكتاب ) - ۲۱ - طريقة الأداء في الفن من طبيعة الحس أن يتلقى المؤثرات فرادي ، وينفعل لكل مؤثر يتلقاء انفعالا مباشرا ، فلا ينتظر حتى يتقصى المؤثرات ذات الموضوع الواحد ، ثم يصدر عليها حكما عاما . فهذا من عمل الذهن الذي التجارب الحسية ، ويكون منها قضية ذهنية أو قانونا عاميا ، ثم يتخذ من مجموع القضايا والقوانين التي يصل إليها في موضوع واحد أو عدة موضوعات ، مذهبا أو فلسفة ، حسب نوع القضايا والقوانين التي يصل إليها . والفن موكل بالمؤثرات الفردية والانفعالات التي تثيرها ، والعلم والفلسفة موكلان بالقوانين العامة والمعاني الكلية . وإن كان العلم يسلك طريق الملاحظة الفردية ، ولكن لا ليقف عندها كما يصنع الفن ، بل ليصل منها إلى قانون عام في النهاية . فالتجربة في العلم وسيلة إلى غاية أكبر منها ، أما التجربة في الفن فهي نفسها مادته الأصيلة . وحين يعنى العلم بوصف مراحل التجربة ليصل منها إلى القانون ، يعنى الفن بوصف هذه المراحل لأن الوصف ذاته هو الفن الأصيل ، وحينها يصل العلم من تجاربه المتناثرة إلى القانون تفقد هذه التجارب قيمتها إلا من الناحية التاريخية ، ويصبح القانون هو المظهر البارز اللامع . أما التجارب في الفن فتبقى أبدا محتفظة بجدتها وحرارتها ، تنفعل لها النفس كلما استعيدت أو استعيد وصفها ، لأنها مادة حية مؤثرة على الدوام . ومهمة الفن الأساسية أن يعرض التجارب الإنسانية ، وهي غير التجارب العلمية طبعا ، وأن يصف جزئياتها ويسجل صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/26 صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/27 – ٢٤ - وهذا ينطبق على الشعر - كما ينطبق على القصة – بوجه خاص . فالتفصيلات وتصوير الانفعالات الجزئية ، ورسم الطريق التي مرت بها الأحاسيس النفسية ، والتصورات والخيالات التي صاحبتها أولا ، فأولا هي المادة الأساسية وهي السمة التي تضمن الاستمتاع الكامل بالأثر الفنى دون إغفال للمقومات الأخرى المتعلقة بالموضوع ذاته ، وبنوع الإحساس ومداه وعمقه وسعته وصدقه ، وكلما كان الشعر أقرب إلى طريقة القصة في سرد الانفعالات والأحاسيس المتتابعة وتصوير جزئيات الشعورات والتصورات المصاحبة لها ، كان أسرع إلى إثارة الوجدانات المائلة في نفوس القراء ، وأنجح في أداء مهمته ، وأقرب إلى طبيعة الفن منه إلى طبيعة العلم أو إلى طبيعة الفلسفة . ( ولست أعنى أن يكون الشعر قصة . ولكن أريد بالضبط أن يسلك طريقها في العناية بجزئيات الأحاسيس وبصور الانفعالات وبرسم الجو النفسي المصاحب لها في الطريق . وبتعبير آخر أن يكون هو قصة الأحاسيس والانفعالات التي يتناولها ! ومن طبيعة أن يكون الشعر قصة الأحاسيس والانفعالات ، أن تكون عنايته بالصور والظلال أكبر من عنايته بالمعاني والقضايا فهذه القصة ستسجل صور الحوادث والظلال النفسية التي تلقيها في الحس أكثر مما تسجل المعاني الذهنية الكلية ، المجموعة التجارب الجزئية ، والقضايا العامة التي تنتهى هذه المعاني إليها . وعلى ضوء هذه القواعد نستطيع أن ننظر في الشعر العربي ، وحين نجرد التعصب لهذا الشعر نرى أن طابع المعاني العامة المتبلورة ، والقضايا من أنفسنا من الذهنية الكلية ، هو الذي يغلب عليه و بطبيعة هذه الظاهرة في الشعر العربي تجده يميل إلى أن يلقى المعنى العام 1801 النهائي إلقاء ، وأن يطالع القارىء بنتيجة التجربة النفسية لا بطريقتها . فطريقة سيره في موضوعه لا تدع للقارىء فرصة المشاركة الجزئية البسيطة التي تشغل الحس وتستثير الخيال ، وتستجيش الانفعالات كاملة كما صرت بالمؤلف نفسه ، ولا تترك لهذا القارىء إلا الانفعال الأخير الذي انتهت إليه تجربة المؤلف ، والمعنى الذهني العام المستفاد من هذه التجربة على العموم ، وحتى في المرات التي سار فيها سيرة القصة في عرض الموضوع كانت عنايته بتسجيل الحادثة أشد من عنايته بتسجيل الانفعال المصاحب لها ، والصور التي ارتسمت فيها ، والتصورات والتخيلات التي واكبتها . وأقرب مثل يحضرني على هذا ، هو قصيدة عمر بن أبي ربيعة الطويلة الجيدة بالقياس إلى نظائرها في الشعر العربي – وهي القصيدة الرائية التي مطلعها : أمن آل نعم أنت عاد فيكر غـداة غد أم رائح فمهجـر فلقد قص فيها زيارته لحبيبته خلسة في فحمة الليل ، ومفاجأتها بهذه الزيارة والرقباء كثيرون وأهلها به يتربصون ، ثم وصف الليلة وحوادثها ، ومفاجأة النور لها ، وخوفها من افتضاح أمرها ، واستعانتها بأختيها ، والاحتيال له بالخروج معهما بلبس ملابس النساء ... الخ . وطرافة التصوير في هذه القصيدة لا شك فيها ، إلا أنها في عمومها قصة حادثة لا قصة نفس ، وتاريخ واقعة خارجية لا تاريخ تجربة شعورية ، ومثلها في طريقتها كثير نوعا في الشعر العربي . أما قصص الأحاسيس والشعورات والتجارب النفسية فقليل قلة ظاهرة . ويحسن أن أضرب هنا مثالا : يقول الشاعر الانجليزي « هوسمان » تحت عنوان « إلى السوق أول مرة » : « يوم أنشأت أذهب إلى السوق ، أوائل عهدي بالأسواق - ٢٦ - « كانت الدراهم في الكيس جد" قليل « وكم طال بي النظر ، وكم طال بي الوقوف « على أشياء في السوق لا تنال م تغير الزمن اليوم فلو أردت الشراء لاشتريت « هنا الدراهم في الكيس ، وهناك أشياء الأمس في السوق « ولكن ابن يا ترى ذلك الفتى المحروم ؟ « طالما شكا قلب الإنسان لأن ( اثنين واثنين أربعة ) « لا هي ثلاثة كما نودها حينا ، ولا هي خمسة كما نودها بعد حين « وأحسبه سيشكو إلى آخر الزمان(۱) » . فيبدأ أولا بأن يصحبنا معه إلى السوق أوائل عهده بالأسواق ، حيث نلاحظه هناك يتطلع إلى ما هناك ، ويقف ويطول به الوقوف ، وحيث نلمح شعوره بالحرمان ولهفته على الوجدان ... ثم يصحبنا مرة أخرى إلى هذه السوق ، والدراهم في الكيس كثيرة ، ولكنه يدعنا نلمح موت الرغائب في نفسه ، وانطفاء التشويق في حسه . وقبل أن ينتقل بنـا إلى عرض آلامه من قسوة الواقع المادي الجامد الذي لا يساير الرغبات الانسانية المتحولة ، نكون نحن قد استشعرنا معه هذا الشعور ذلك لا يلقى إلينا شعوره الأخير قضية ذهنية عامة ، بل قضيـة جزئية وهو مع مفردة « طالما شكا قلب الإنسان لأن اثنين واثنين أربعة ، لا هي ثلاثة كما نودها حينا ولا هي خمسة كما نودها بعد حين» فكاننا لا نزال أمام تجربة جزئية نعانيها ، لا أمام قضية ذهنية تنتهى إليها . وقد لقينا إنسانا يعاني هذه التجارب الجزئية ، وتركنا إنسانا شاركناه هذه التجارب خطوة خطوة . (1) ترجمة الأستاذ العقاد . صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/31 صفحة:كتب وشخصيات (1946) - سيد قطب.pdf/32 - ۲۹ – وأحب أن أعود فأرد إلى الشعر العربي اعتباره ، فاللمحات الشعورية في هذا الشعر والبساطة والصدق والوضوح في كثير منه ، والحكمة الصادرة عن الطبع الحي ، كلها ذات قيمة أدبية كبيرة ولو لم تسلك الطريق المفضلة في الأداء ، طريقة استعراض الجزئيات واحدة واحدة على النحو الذي أسلفناه ، ولكل بيئة طابع والشعر العربي كان وفيا لبيئته إلى آخر حدود الوفاء . فاللمحة السريعة ، والإدراك الوحي ، والحس المرهف ، والذهن اليقظ ... كلها سمات العربي في البادية ، وهذه السمات واضحة في الشعر العربي ، وفي طريقة سيره بموضوعاته . ولكننا نحن في العصر الحديث ملزمون بأن نجدد في طريقة الأداء . وأمامنا الينابيع العالمية تفتح لنا طريق التجديد كما نشاء . من الصـــــــــور والظلال في الفن من كمال الحديث في طريقة الأداء وقيمتها في الفن أن نتحدث عن المعاني والظلال في الأدب حديثاً أوسع ، من الإشارات العارضة التي جاءت في حديثنا هناك التعبير الذي يلقى المعنى مجرداً يخاطب الذهن وحده ، والتعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلا يخاطب الحس والوجدان ، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال وطبيعي أن الطريقة الثانية أقرب إلى طبيعة الفنون ، وان الطريقة الأولى أقرب إلى طبيعة العلوم – كما أسلفنا - والنموذج يوضح هذه القضية أكثر مما يوضحها أي بيان ، فالنقد الفنى موكل بالمثال أكثر من الإجمال : لقد اختار القرآن الكريم طريقة التصوير والتخييل ، وجعلها قاعدة غالبة فيه للتعبير في مواضع التأثير ومن العجيب أن يكون القرآن هو كتاب العرب الأول ، ثم لا يستفيد الأدب العربي من طريقته الأساسية شيئاً بعد نزوله ، وتيسيره للذكر في أيديهم . إلا فلتات في ديوان كل شاعر ، هي امتداد للتصوير في الأدب الجاهلي وعلى طريقته ، لا على طريقة القرآن الرفيعة ولعل مرد ذلك إلى أن الحاسة الفنية عند أولئك الشعراء كانت أقل من أن تتطلع إلى هذا الأفق الرفيع في ذلك الأوان فلعلنا أن نكون اليوم أحق بهذا التطلع من جميع من مضوا من شعراء العربية خلال أربعة عشر قرناً إن تفرد القرآن بطريقته التصويرية في هذا المستوى بين الشعر الجاهلي قبله والشعر العربي بعده يمكن أن يتخذ دليلا فنيا على تفرد مصدر هذا القرآن ، لولا أننا هنا في مقام البحث الفني ، لا البحث الديني . والآن نعود إلى نماذج القرآن التصويرية في التعبير ، لبيان فضل هذه الطريقة من الناحية الفنية - ۳۱ – . 1 النفور الشديد من الدعوة إلى الهدى ، يمكن أن يؤدى في صورته التجريدية الذهنية على نحو كهذا : إنهم لينفرون أشد النفرة من الدعوة إلى الإيمان . فيتملى الذهن وحده معنى النفور في رود وسكون . ولكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة الحية المتحركة : ( نا لهم عن التذكرة معرضين . كأنهم خر مستنفرة فرت من قسورة ) فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال ، ويثور في النفس شعور السخرية وشعور الجمال : السخرية من هؤلاء القوم النافرين كالحمر الوحشية المذعورة من الأسد ، والجمال في حركة الصورة السريعة الطليقة فللتعبير هنا ظلال حوله تزيد في مساحته النفسية ، إذا صح هذا التعبير ! ومعنى عجز الآلهة التي كان العرب يعبدونها من دون الله ، يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردة ، كأن يقال : إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء . فيصل المعنى إلى الذهن مجرداً باهتا . والسكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة : ( إن الذين تعبدون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ؛ وإن - ۳۲ – و يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب ! ) فيحيا هذا المعنى الساكن ، ويتحرك في تلك الصور المتحركة المتعاقبة . أرأيت إلى تصوير الضعف المزري ؟ وإلى التدرج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين ؟ « لن يخلقوا ذبايا ، وهذه درجة « ولو اجتمعوا له » وهذه أخرى « وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه » وهذه أنكي . ولكن . أهذه مبالغة ؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو ؟ كلا ! فهذه حقيقة واقعة بسيطة . فهؤلاء الآلهة « لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له » والذباب صغير حقير ، ولكن الإعجاز في خلقه الإعجاز في خلق الجمل والفيل ، لأنها معجزة خلق الحياة ، يستوى فيها الجسيم والضئيل ، وليست خلق الهائل من الأحياء ، وإنما هي خلق الخلية . هو المعجزة في صميمها هي الحية المفردة ولكن الإبداع هنا هو في عرض هذه الحقيقة بصورة ترسم العجز عن بلوغ مسألة هيئة في ظاهرها ، والجمال هنا هو في تلك الظلال التي تلقيها خطوات الصورة من خلال التعبير . والتعبير الذهني المجرد عن هول يوم القيامة يمكن أن يكون نصوصاً كثيرة ، كأن يقال : إنه لهول مفزع مروع مذهل ... فلا ترسم في النفس صورته كما يرسمها التعبير القرآني المصور : ( إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مريضعة عما أرضعت ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ و ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ) وليس النسق القرآني وحده في النظم هو الذي يرتفع بهذا التعبير إلى 6 مستواه الذي تستشعره النفس عند تلاوته . إنما هي هذه الطريقة التصويرية كذلك ، حيث يزدحم الخيال بصورة كل مرضعة ذاهلة عما أرضعت ، شاخصة تنظر ولا ترى ، وتتحرك ولا تعي ؛ وصورة الناس سكارى وما هم بسكارى ، في عيونهم ذهول السكر ، وفى خطواتهم ترنحه t ۳۳ ـ إن هذا الحشد من الصور الذاهلة هو العمل الفني الضخم في هذا التعبير وليست هذه الصور فلتات في القرآن إنما تلك طريقة غالبة وخصيصة شاملة ، وفي هذا يتفرد القرآن وحده . فالتصوير قد يقع فلتات في الشعر العربي ، تكثر في الشعر الجاهلي وتقل في الشعر الإسلامي . ولا يعد قاعدة في هذا الأدب كله ثم تبقى بعد ذلك درجات السمو في هذا التصوير ولها مجال غير هذا المجال(1) (۱) انظر بتوسع کتاب و . طريقة التصوير والتظليل التي توجه إليها الأنظار ، هي الطريقة التي وردت فيها فرائد الشعر العربي التي تهيأت للشعراء على ممر الأجيال فأجود ما وقع لامرىء القيس هو الشعر التصويرى مثل : وليــــــــل كموج البحر أرخى سدوله على بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لا تمطى بصلبه وأردف أعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليـل الطويل ألا انجل بصبح ،وماالإصباح منك بأمثل فتشخيص الليل هنا ، ومنحه الحياة ، ورسم هذه الصورة المتحركة له ، هي موضع الجمال في هذه الأبيات لا مجرد معنى أن الليل قد طال ، وأنه ستم هذا الطول وكذلك بيته الآخر في وصف حصانه : مگر مفر مقبل مدير معـا كجلموده خر حطه السيل من عل ا

التصوير الفني في القرآن ( (م- ۳) – ٣٤ - جماله الفني في تشخيص الصورة والحركة ، لا في مجرد معنى أنه يكر ويفر ويقبل ويدير في لحظة واحدة متى : فإننا لا نخاتله يدب و يخفى شخصه وأيضائله وأجود ما وقع لزهير أبياته التصويرية كذلك مثل : إذا ما غدونا نبتغى الصيد مرة فبينا نبغى الصيد جاء غلامنا ففي صورة هذا الغلام الشاخصة هنا ، وفي حركته المرسومة كأنما على الشاشة ، جمال فني لا شك فيه . وأجود ما وقع السويد بن أبي كاهل اليشكري ، أبياته التي يصور فيها حاسده صوراً شاخصة فيها الملامح الحسية والانفعالات النفسية وجميعها صور وذ وظلال ، لامعان مجردة : رب من أنضجت غيظاً قلبه قد تمنى لى مونا لم يطلع وراني كالشحا في حلقه عسراً مخرجـــــــه ما ينتزع مزيد يخطر ما لم يرنى فإذا أسمعه صوتى القمع لم يضرني غير أن يحسدنى فهو يزقو مثلما يرقو الضـوع »(۱) وبذلك تتم الصور المزرية التي يرسمها له بعد أن تترك في النفس ظلالا واضحة ، ا وفى الحس صوراً شاخصة ، فيها كل جمالها الفني الذي يتيحه التصوير والتخييل ويكثر التصوير في الشعر الجاهلي ، ويقل في الشعر الإسلامي على عكس ما كان منتظراً بعد وجود جود القرآن بين أيديهم ، والطريقة التصويرية غالبة فيه ولكن قاتل الله « المعانى ! » ، لقد أصبحت كل هم الشعراء ، وغلبت طريقة العلم على طريقة الفن ، فتقهقر الأدب العربي من هذه الناحية ، بجانب خطواته التي تقدمها في نواح أخرى . (1) الضوع : ذكر الضفدع

  • . ی

فإذا نحن تجاوزنا ابن الرومي – وهو فريد في تاريخ الأدب العربي كله - لم نعثر إلا على فلتات في ديوان كل شاعر ، قام فيها التعبير بمهمة التصوير . فلتات قد تكون مائة وقد تكون ألفا ، ولكنها تبدو ضئيلة جداً بين ملايين الأبيات من الشعر العربي على ممر الأجيال وإن أجود ما وقع للشعراء الإسلاميين كذلك ، لهي الأبيات التي عبروا عنها ه بطريقة التصوير والتخييل . مثل بيت مسلم بن الوليد : تمشى الرياح به حسری موله حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد وما فيه من تشخيص وخلع للحياة على الرياح ، وصورتها مولهة حيرى تلوذ في النص ، تتفقان وتتسقان . 1401 - أكناف الصخور . ومثل بيتی كشتر وإنى وتهيامي بعزة بعد ما تخليت مما بيننا وتخلت لكا لمرتجى ظل الغمامة ، كلما تهيا منها للمقيل استقلت وما فيهما من حركة متخيلة : حركة حسية في الطبيعة ، تقابلها حركة شعورية (

ومثل بيتي المتنى وقفت وما في الموت شك لواقف كانك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلى هزيمة ووجهك وضاح وتغرك باسم وفيهما مشهد استعراضي متحرك ، يضاعف جمال المعنى الذهني المجرد . ومثل بيتي المعرى الفريدين : رب قبر قد صــــــــار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد ودفين على بقـــــــــايا دفين في طويــــــل الأزمان والآباد وما فيهما من سخرية مصورة شاخصة ، تتسق مع السخرية النفسية 1741 بالأحياء ومطامعهم ومطامحهم ، وعداواتهم وخصوماتهم ، ومراتبهم وطبقاتهم ... ! أو كبيته المعجب الفريد : خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد ذلك الذي يقرؤه القارىء فتدب على مدى البصر في خياله شخوص ورفات وتنبعث في النفس صور شتى وسمات !

ولعل من كمال البحث في هذا الموضوع أن نعرض نماذج أخرى من الشرق والغرب ، ومن القديم والحديث ، غير القرآن الكريم - في مستواه الرفيع – وغير الشعر العربي في الجاهلية والإسلام 6 جاء في « العهد القديم » كلام عن لسان « الجامعة بن داود » قال : « باطل الأباطيل . الكل باطل . ما الفائدة للانسان من كل تعبه الذي تحت الشمس ؟ دور يمضى ودور يجيء ، والأرض قائمة إلى الأبد يتمية والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق . الريح تذهب إلى الجنوب ، وتدور إلى الشمال . تدهب دائرة دورانا ، وإلى مداراتها ترجع وكل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر ليس بملان . إلى المكان الذي جرت منه الأنهار ، إلى هناك تذهب راجعة . كل الكلام يقصر ، ولا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل ، العين لا تشبع من النظر ، والأذن لا تمتلىء من السمع والذي منع فهو الذي يصنع ، فليس تحت الشمس ی ما كان فهوما يكون جديد . إن وجد شيء يقال عنه : انظر هذا جديد . فهو منذ زمان كان في الدهور التي كانت قبلنا . ليس ذكر للأولين . والآخرون أيضا الذين سيكونون لا يكون لهم ذكر عند الذين يكونون بعدهم . ، ه أنا الجامعة . كنت ملكا على إسرائيل في أورشليم . ووجهت قلی للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السموات . هو عناء رديء جعله الله لبني البشر ليعنوا فيه « رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس ، فإذا الكل باطل وقبض الربح , الأعوج لا يمكن أن يقوم ، والنقص لا يمكن أن يجبر . أنا ناجيت قلبى قائلا : هأنا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلى على أورشليم وقد رأى قلبى كثيراً الحكمة والمعرفة ، ووجهت قلى لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل . فعرفت أن هذا أيضا قبض الريح . لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم ، والذي يزيد علما ، يزيد حزنا » هذا كلام قديم ، وترجمته ترجمة رديئة من حيث الأسلوب العربي ، ولكن هذا لم يفقده كل طابعه الفني العالى - ۳۷ ا هنا إنسان يغمره السأم والملال ، ويطويه اليأس والقنوط . ولكنه لا يقول : إنه ملول سأمان ، ولا إنه بائس قانع ، إنما برسم لك صورة الحياة والأشياء في نفسه ، ويدعك ترى نفسه في هذه الصور والأشياء : الكل باطل . وحركة الحياة مكرورة معادة ، لا شيء جديد تتفتح له النفس ويتطلع له القلب . الأرض قائمة إلى الأبد ، والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق . والريح كذلك . تذهب دائرة وإلى مداراتها والأنهار تجرى إلى البحر ، والبحر ليس بملآن ... فالطبيعة هنا – من خلال هذه النفس - يغشيها السأم والملال والتكرار العقيم ثم ماذا ؟ ثم هذا هو الإنسان . تقصر كلماته عن التعبير عما في نفسه ، والعين لا تشبع من النظر ، والأذن لا تمتلىء من السمع ، فهو عبث كله ما يحاول من الكلام والنظر والسمع ، وسائر ما تهم به الجوارح والوجدانات . على أنه ليس هناك - . - ۳۸ - جديد تحت الشمس ، كل ما يكون فقد كان . ويزيد عبث المحاولة لأي شيء في هذا الدنيا أن ليس ذكر" للذين كانوا والذين سيكونون ، فالكل ينسى و يطوى في تيه النسيان ... ... ! الكل باطل ، والمحاولة عبث ، فالأعوج لا يقوم ، والنقص لا يجبر والحكمة عبث كذلك ، فهي مصدر الغم ، والذي يزيد علما ، يزيد حزنا . هنا صورة نفس ، تلقى ظلها على الحياة والأشياء ، فتطبعها بطابعها ؛ يراه الرائى فتؤثر في حسه ، وتنطبع في نفسه ، لأنها نفس إنسان ، لا تركيبة ذهن . وهنا تشترك طريقة الإحساس مع طريقة التعبير ، في التصوير والتظليل ، إبراز نفس إنسانية من وراء الألفاظ ، ومن بين السطور . ، وفي ...

( t في ظل هذه الصورة تقرأ قطعة لتوماس هاردي الشاعر الإنجليزي الحديث (1) : « إذا طلع الفجر ، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة ، جدولا وحقلا وقطيعاً وشجراً موحشاً ، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إلى ، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه ، فبردت حرارتها ، ورانت على وجوهها السامة والضجر والإعياء ، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعا ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاء : عجباً ! عجباً لا انقضاء له أبد الزمان ! ما بالنا نحن نقوم في هذا المكان ؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم . خلقتنا في مزاح ، ثم تركتنا جز فا لمـا تجيء به الصروف ؟ أم تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور ؟ أم ترانا بقية من حياة إلهية قديمة تموت ، فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول ، ونحن في جيشها « فرقة الفداء » والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير ی ؟ (۱) ترجمة الأستاذ العقاد 1791 «كذلك يسألني من حولي ولست أنا بالمجيب ، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون ، وما يبرح الموت يمشى إلى جانب أفراح الحياة » وللأستاذ العقاد تعليق على هذه القطعة ، نكتفى به ، فهو يقول : « إننا نضرب المثل الأعلى للبلاغه الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له ( يعنى القاريء الذي تهمه المعاني لا الصور النفسية ) هزيلة ضامرة لا تساوي بيتا من ابن نباتة ، ولا شطرة من صفي الدين ! « لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها « حالة نفسية » تحيك بنفسه ، فمثلها لنا أحسن تمثيل . أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود ، فصورها في سكون لا ادعاء فيه ، وإيجاز لا خلل فيه ، وبساطة يخطئها الجاهل ، فيحسبها من غثاثة الفضول . فهو رجل نظر في عبث العواطف وعبث الحوادث وعبث النواميس ، فتولاه الفجر ، ونفرت نفسه ، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم فيم يحزن الحزين ، ويفرح الفرحان ، وفيم بنخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة ، ثم لا يزالون ينخ عون بها ، وهم يعلمون أنهم مخدوعون ؟ في لاشيء ! ... ... الخ » هذا نموذج من التصوير والتظليل ، الذي تتراءى من خلاله « حالة نفسية » تشترك في رسمها طريقة الإحساس ، وطريقة التعبير

وترجع إلى (العهد القديم) فنختار مقطوعة من « نشيد الأنشاد » المشهور . تقول « شوليت » بطلة هذا النشيد : « كالتفاح بين شجر الوعر ، كذلك حبيبي بين البنين . تحت ظله اشتهيت أن أجلس ، وثمرته حلوة لحاقي ، أدخلني إلى بيت الخمر وعلمه فوقى محبة . - ٤٠ أسندونى بأقراص الزبيب ، أنعشوني بالتفاح فإلى مريضة حبا . شماله تحت رأسى ويمينه تعانقنى . أحـلـفـكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول : ألا توقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء ! « صوت حبيبي . هو ذا آت طافراً على الجبال ، قافزاً على التلال شبيه بالظبي أو بغـفـر الأيائل ، هو ذا واقف وراء حائطنا ، يتطلع من الكوى ، يوصوص من الشبابيك . أجاب حبيبي وقال لي : " قومي يا حبيبتي ياجميلتي، وتعالى . لأن الشتاء قد مضى، والمطرمر وزال . الزهور ظهرت في الأرض . بلغ أوان القضب وصوت اليمامة سميع في أرضنا . التينة أخرجت فجها ، وقال الكروم رائحتها . قومی یا حبيبتي يا جميلتي ، وتعالى يا حمامتي في محاجىء الصخر ، في ستر المعاقل : أريني وجهك ، أسمعينى صوتك . لأن صوتك لطيف ووجهك جميل . « خذوا لنا الثعالب الصغار المفسدة للكروم ، لأن كرومنا قد أقبلت . « حبيبي لي ، وأنا له . الراعي بين السوسن إلى أن يفيح النهار ، وتنهزم الظلال . ارجع وأشبـه يا حبيبي الظبي أو غفر الأيائل على الجبال المشمسة » ويقول حبيبها الراعي في مقطوعة أخرى من النشيد : « ما أجملك وما أحلاك أيتها الحبيبة باللذات . قامتك هـذه شبيهة بالنخلة ، ) 6 ا وثدياك بالعناقيد ، قلت : إنى أسعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها ، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ، ورائحة أنفك كالتفاح ، وحنكك كأجود الخمر ، السائغة المرقرقة السائحة على شفاه النائمين ! » ثم تقول هي : « أنا لحبيبي وإلى اشتياقه . تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل . ولنبت في القرى ، لنبكرن إلى الكروم ، لننظر : هل أزهر الكرم ؟ هل تفتح القعـال ؟ هل نور الرمان ؟ هنالك أعطيك حبي . اللقاح يفوح رائحة ، وعند أبوابناكل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي (( - 41 - فهنا صورة للحب الفطرى ، كأنما هو قطعة من حب الطبيعة ، يتفتح حين تتفتح ، ويفوح حين تفوح . الحبيب فتى يقفز من فوق التلال المعشبة كالأيـل ، والحبيبة كالنخلة وثدياها كالعناقيد . وها يبرزان للطبيعة ويتواريان فيها كأنهما من كرومها الفائحة المتفتحة ، أو ظبائها وأيائلها الطافرة ، أو يمامها في محاجىء الصخر وستر المعاقل . ثم : « لننظر هل أزهر الكرم ؟ هل تفتح القتال ؟ هل نور الرمان ؟ هنالك ! اللقاح يفوح رائحة . وعند أبوابناكل النفائس من جديدة وقديمة أعطيك حبى ذخرتها لك يا ح حبیبی وهذا منتهى الإحساس بحيوية الطبيعة ، والاستجابة كما تستجيب الطبيعة وفي إبانها المناسب وأوانها المعلوم . وكل هذا من خلال الصور والظلال التي يرسمها التعبير للطبيعة وللنفس الإنسانية على السواء . وهي أعلى في آفاق الفن من (ار كل دعاء بالغزل على طريقة المعانى الذهنية التي تكاد تكون الوسيلة الوحيدة ال للتعبير في شعر العذريين وغير العذريين ، فيما عدا الفلتات التي لا تكون القاعدة وإنما تكون الاستثناء القليل (( وفي ظل هذه المقطوعة القديمة تتملى قطعة الشاعرة الإنجليزية المعاصرة المرموز لها : « لورانس هوب » تحت عنوان « في غير هذه الليلة » وقد جاء فيها (1) : « لا . حين تشتهى استجابة الحب الكبرى ا « أقبل على والصباح يرتع في الأنوار د والبلابل من حولنا مشوقة تصدح بالغناء « بين الورود من حمر وبيض » (۱) ترجمة الأستاذ العقاد في مجموعة « عرائس وشياطين » . 4 - ٤٢ - هذه شاعرة وامرأة ، تبدو في مقطوعاتها طريقة إحساسها بفرح الطبيعة وحزنها ، وتنبين الوشائج الحية بينها وبين هذه الأم الكبيرة .

عنينا باستعراض قطعة هاردي في ظل قطعة ( الجامعة ) وقطعة ( لورنس هوب ) في ظل قطعة ( شولميت ) لغرض خاص ، هو بيان مدى تأثر الشعر الأوربي وانتفاعه بكتابهم المقدس ، وهو تأثر واضح في هذه القطع جميعا . في طريقة الإحساس وفي طريقة التعبير على السواء . ونحن نجد القرآن بين أيدينا ، وهو يتبع في التعبير طريقة التصوير الحي الذي يزيد مساحة المعنى النفسية ، ويحيله صورة حية ، حتى في الأغراض الدينية البحتة . بين أيدينا هذا الكتاب المقدس يتحدث بأبرع طريقة فنية في الأداء ، ا فلا ننتفع بها ، ونرجع في اقتباس طرق تعبيرنا إلى الشعر العربي ولا سيما في العصر العباسي ، حينها تأثر الشعر بالفلسفة والمنطق ، وبرزت فيه المعاني الذهنية بروزاً واضحاً ، ولولا أصالة الطبع في بضعة شعراء في هذا الوقت ، لقضت الطريقة الذهنية في الأداء على الطابع الفني تمام القضاء . إننى أدعو إلى على طريقة القرآن في التصوير والتظليل . فهي أعلى طريقة فنية للأداء . وإذا كانت وجهة القرآن الدينية ، قد جعلت هذه الطريقة خاصة بأغراض الدعوة الإسلامية ، فإن نقلها إلى عالم الأدب خليق بأن يرفع هذا الأدب إلى آفاق رفيعة ، لم تصل إليها حتى الآن . فهلموا إلى ذلك النبع الأصيل : نبع القرآن . 6