الباب الرابع والخمسون مراثي الملوك والسادات..وأهل الفضل والرئاساتأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الرابع والخمسون مراثي الملوك والسادات..وأهل الفضل والرئاسات
حدَّثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدَّثني محمد بن الفضل بن العباس قال: خرج الغريض ومعبد حتَّى إذا كانا على الثنيّة الَّذي تشرف بهم على مكَّة فقال الغريض لمعبد: لك كلّ من كان بها من أهل المدينة فاندفع يغني راكباً نحو المدينة:
يا راكباً نحو المدينة جَرةً
أُجُداً تنازع حلْقةً وزماما
أقرأ علَى أهل البقيع من أمري
عَمْد علَى أهل البقيع سلاما
كم غيّبوا فيه كريماً ماجداً
كهلاً ومُقتبلَ الشَّباب غُلاما
ونفيسةً في أهلها مزكوةً
جَمَعت صباحةَ جُثَّةٍ وثماما
فسمعتُ البكاء من سطوح مكة من ها هنا ومن ها هنا من كان بها أم كان من أهل المدينة. فاندفع يتغنى:
أسعداني بعبرةٍ أسرابِ
من دموعٍ كثيرة التّسكابِ
إن أهل الخضابِ قد تركوني
موزعاً مولعاً بأهل الخضابِ
سكنوا الجزْع جزعَ بنت أبي مو
سى إلى النَّخلِ من صُفيّ السيابِ
سكنوا بعد غبطةٍ ورجاءٍ
وسرورٍ بالعيشِ تحتَ التُّرابِ
كم بذاك الحجون من حيّ صدقٍ
وكُهول أعفَّةٍ وشبابِ
فارقوني وقد علمتُ يقيناً
ما لمن ماتَ مِيتةً من إيابِ
أهلُ بيت تَتَابعوا للمنايا
ما علَى الموتِ بعدهُم من عتابِ
فلي اليوم بعدهم وعليهم
صرتُ فرداً وملَّني أصحابي
قال: فما بقيت دار إلاَّ سمعنا فيها الصّراخ يصرخون حتَّى اصطبحوا.
وقال زهير بن أبي سُلمى يرثي النعمان بن المنذر بن ماء السَّماء، وكان سبب زوال ملكه فيما بلغنا أنَّه قتل عدي بن زيد العبادي، وكان النعمان قد ضمَّ زيد بن عدي إلى بعض أصحاب كسرَى، فنشأ زيد ولم يزل يتوصل إلى كسرَى حتَّى استكتبه فقال زيد لكسرى: لم يبق على الملك إلاَّ أن يتزوج إلى العرب فقال لكسرى وهل يأتي على ذلك أحد؟ فقال: أيها الملك إن العرب يشقّ عليها أن يتزوج إليها غير عربي، ولكن النعمان عاملك، فلو كتبت إليه في ذلك. فكتب إليه، فكتب النعمان يدعو الملك للزواج من بنات عمّه اللاتي كأنّهنّ المها ويخطب....
فقال كسرى لزيد: ما يقول النعمان؟ فقال: يقول على الملك ببنات عمه اللاتي يتشبهن بالبقر، وأوهمه أن هذا على جهة العيب والبغيضة. فغضب كسرى، وكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. فجزع النعمان من ذلك، وخاف أن يكون إشخاصه إيَّاه لمكروه يريده به، فجمع أقاربه وعشائره وشاورهم في أمره فقال له ذوو الرأي منهم: لا طاقة له بمغالبته وعصيانه ونحن بين يديك، فأجمع على الشخوص إليه. فلمَّا كان بساباط تلقَّاه زيد بن عدي. فقال له: انجُ نُعيم. يصغره بذلك ويحقّره. فقال له: أنت تقول هذا يا زيد، والله لئن رجعتُ لألحقنَّك بأبيك، فقال: انجُ نعيم فوالله لقد ضربت لك أُخيةً لا يقطعها إلاَّ المهر الأرن، فسار حتَّى أتَى كسرى، فوجه به إلى خانقين فيقال انه لم يزل محبوساً حتَّى هلك. ويقال أنَّه كان في محبسه يسأل زيداً الصفح عن جرمه والسعي في تخليصه فيقول صار فلم يرجع، فإمّا أن يردَّه وإمَّا أن يلحق به، ففي أمر النعم يقول زهير:
أراني إذا ما شئتُ لاقيتُ آيةً
تُذكِّرني بعضَ الَّذي كنتُ ناسيا
ألم تَرَ للنعمان كانَ بنجوةٍ
من الشَّرِّ لو أنَّ أمراً كانَ ناجيا
فغيَّر عنه مُلكَ عشرين حجّةً
من الدَّهر يوماً واحداً كانَ عاديا
فلم أَرَ مَسلوباً له مثلُ ملكِهِ
أقلَّ صديقاً كافياً ومُواسيا
رأيتهُمُ لم يُشركوا بنُفوسِهم
مَنيَّتَه لمَّا رأوا أنّها هيا
سوى أنَّ حيّاً من رَوَاحَةَ حافظوا
وكانوا زماناً يكرهونَ المُجازيا
فقالَ لهم خيراً وأثنَى عليهُمُ
وودَّعهم توديعَ أن لا تلاقيا
وقال الذبياني:
لا يهنئِ النَّاس ما يرْعَوْنَ من كَلأٍ
وما يسوقونَ من أهلٍ ومن مالِ
بعدَ ابن عاتكة الثَّاوي ببلقعةٍ
أمسى ببلدةٍ لا عمٍّ ولا خالِ
حسبُ الخليلينِ نأيُ الأرض بينهُما
هذا عليها وهذا تحتها بالِ
وقال رجل من طي:
لعمري لقد أردوك غيرَ مُؤمّل
ولا مُعْلق بابَ السَّماحةِ بالعذرِ
سأبكيك لا مستبقياً فيضَ عبرةٍ
ولا طالباً بالصَّبر عاقبةَ الصَّبرِ
وقال آخر:
فتًى كانَ مكراماً لنفسٍ كريمةٍ
مَهيباً لدنيا غيرَ مأمونة العذْرِ
وكانَ لأحداث المنايا ذخيرةً
فليسَ لها من بعده اليوم من ذُخرِ
وقال الخريمي:
وما شابَ حتَّى شادَ للمجد بيتَهُ
وحتَّى اكتسى ثوبي جمال وسُؤددِ
لذكراك أحلى في الفؤادِ وفي الحشا
من الشّهد بالعذب الزُّلالِ المبرّدِ
علَى أن بين السّحر والنَّحر جمرةً
مَتَى ما أهيّجها بذكراك توقدِ
فقدتك فقد الطّفل أُمّاً حفيَّةً
علَى صَرَعٍ منه وحَدثان مولدِ
دعاها فلمَّا استجمعت من دُعائه
أجالَ علَى ثدي لأُخرى مُجدّدِ
فأنكره فارتاعَ يلمسُ أُمَّهُ
وباتَ له ليلَ السَّليم المُسهّدِ
وقال مطيع بن أياس:
أقولُ للموت حين نازله
والموتُ مقدامَهُ علَى البهمِ
لو قد تَدَبَّرت ما صنعتَ به
عضضتَ كفّاً عليه من ندمِ
فاذهبْ بما شئتَ إذْ ذهبت به
ما بعدَ يحيى للرُّزء من ألمِ
وقال آخر:
أودى محمدٌ المؤمّلُ والَّذي
شُلَّتْ بمصرعه يدُ المعروفِ
من بعد ما أفنَى المُنى بكمالِهِ
وحوَى فضيلة فعل كلّ شريفِ
قَتَلتهُ عين العُجب نيط بها العَمَى
والدَّهرُ يأتي كرّة بصروفِ
أمسَى يكبّدُ نفسه فكأنَّه
قمرٌ تَغَشَّاه الدُّجَى بكسوفِ
ومشى البلى في جسمِهِ فكأنَّه
ورد قطيفٌ مؤذن بحفوفِ
لو شئت لا شئت العزاءَ لنبّهتْ
بالوجد عنِّي لوعتي ونُحوفي
بأبي أهنتَ عليَّ كلّ رزيَّةٍ
وأطلتَ في كدرِ الحياة وقوفي
وقال آخر:
لهفي عليك للَهفة من خائفٍ
كنت المجير لها وليس مُجيرُ
أما القبورُ فلا تزالُ أنيسةً
بجوار قبرك والدِّيارُ قبورُ
جلَّتْ مصيبتُهُ فعمَّ مُصابُهُ
والنَّاس كلهمُ به مأجورُ
والنَّاسُ مأتمهمْ عليه واحدٌ
في كلِّ دارٍ رنَّةٌ وزفيرُ
تجري عليك دموعُ من لم تُولِهِ
خيراً لأنَّك بالثَّناءِ جديرُ
ردَّتْ مكارمُهُ عليه حَياته
وكأنَّه من نشرها منشورُ
وقد أخذ الطائي في هذا المعنى بلطف في قوله أنشدنا أحمد بن أبي طاهر عنه:
محمَّد بن حُميد أخلقت رِمَمُهْ
هُريقَ ماء المعالي مذْ هُريقَ دمُهْ
رأيته بنجاد السَّيف محتبياً
في اليومِ كالبدرِ حلَّت وجهَهُ ظُلمهْ
في روضة قد علا ساحاتها زهراً
أيقنت بعد انتباهي أنَّها نِعمهْ
فقلتُ والدَّمعُ من حزنٍ ومن فرحٍ
في النَّومِ قد أخذ الخدَّين مُنسجمُهْ
ألمْ تمتْ يا شقيق الجود مذْ زمنٍ
فقالَ لي لم تمتْ مَنْ لم يمتْ كرمُهْ
وقال آخر:
مضَى فمضتْ عيني به كلُّ لذَّةٍ
تقرُّ بها عيناي وانقطعا معا
دَفَعنا بك الأقدار حتَّى إذا أتتْ
تُريدك لم نَسْطِعْ لها عنك مدفعا
وقال آخر:
غدا ناعيك يومَ غدا بخطْبٍ
يبُثُّ الشَّيْبَ في رأسِ الوليدِ
وتقعُدُ قائماً يشجى حشاهُ
ويطلق للقيامِ حَبَى القعودِ
وأضحت خُشَّعاً منه نزارٌ
مُركّبة الرَّواجب في الخدودِ
وقال معن بن زائدة في يزيد بن عمرو بن هبيرة:
ألا إن عيناً لم تجُدْ يومَ واسطٍ
عليك بما في دمعها لَجمودُ
لفقد أخٍ كانَ الإخاء إخاءهُ
إذا عُدَّ أوْ خانَ الودود ودودُ
علَى ذكر قيس الخافقين وخندفٍ
أغرَّ له الغُرُّ الكرام وفودُ
فلم أنسَهُ إذْ خندق الموت حولَهُ
عليه من الحتفِ المُطلّ حدودُ
فقيل له اقذف بالحياةِ وانْجها
وثاباً له طوع الفراق حدودُ
فقاتل حتَّى أعذر الحيّ منهمُ
وقام له بالعُذر ثَمَّ شهودُ
وفلَّ الحسامُ العضبُ الأسمر الَّذي
بناه وظلَّ الطّرف وهو تليدُ
كأنَّك لم تَبْعد علَى مُتعهد
بلى كُلّ من تحت التُّراب فقيدُ
وقال آخر:
لعمرُك ما الرَّزيَّةُ فقدُ مالٍ
ولا شاةٌ تموتُ ولا بعيرُ
ولكن الرَّزيَّة فقدُ ميتٍ
يموت لموته بشر كثيرُ
وقال:
عليك سلام الله قيسَ بن عاصمٍ
ورحمتُهُ ما شاءَ أن يترحّما
تحيَّة من ألبسته منك نعمةً
إذا زارَ عن شحطٍ بلادك سَلّما
فما كانَ قيسٌ هُلكُهُ هُلكُ واحدٍ
ولكنَّه بنيانُ قومٍ تهدَّما
وقال آخر:
أحقّاً عبادَ الله أن لستُ رائياً
عمارة طول الدَّهر إلاَّ توهّما
فأقسم ما حشمتهُ من مُلمةٍ
تؤود كرام القوم إلاَّ تجشّما
ولا قلتُ مهلاً وهو غضبان قد علا
من الغيظ وسط القوم إلاَّ تبسّما
وقال النمر بن تولب:
أبا خالدٍ ما كان أدهى مُصيبةً
أصابتْ مَعَدّاً يومَ أصبحتَ ثاويا
لعمري لئن شرّ الأعادي فأظهروا
شماتاً لقد مرّوا بربعك خاليا
فإن تكُ أفْنَتْهُ اللّيالي وأوشكت
فإن له مجداً سيُفنى اللياليا
وقال آخر وأحسبه لبيداً:
لَعَمري لئن كان المُخبِّرُ صادقاً
لقد رُزئتْ في سالف الدَّهر جَعفرُ
أخاً كان أما كلّ شيء سألته
فيُعطي وأمَّا كل ذنبٍ فيعفِرُ
وقال حارثة بن بدر يرثي زياداً:
صلّى الإله علَى قبرٍ وطَهَّره
عند الثويَّة يَسفى فوْقَه المورُ
زَفَّت إليه قريش نعشَ سيدها
فالجود والحزم فيه اليوم مقبورُ
أبا المغيرةِ والدُّنيا مفجعَةٌ
وإن من غُرَّ بالدنيا لمغرورُ
قد كان عندك للمعروف معرفةٌ
وكان عندك للنكراء تنكيرُ
وكنت تسعى وتُعطي المال من سَعَةٍ
إن كان بابك أضحى وهو مهجورُ
والنَّاس بعدك قد خَفَّت حُلومُهم
كأنَّما نفخت فيها الأعاصيرُ
وقال آخر يرثي معن بن زائدة:
ألِمّا علَى مَعْنٍ فقولا لقبرهِ
سُقيتَ العوادي مَرْبعاً ثمَّ مَرْبَعا
أحينَ ثوى معنِ ثوى الجود والنَّدَى
وأصبحَ عرنين المكارم أجدعا
أيا قبرَ مَعْنٍ أنت أولُ حُفرةٍ
من الأرضِ خُطَّت للسّماحة مضجعا
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف واريتَ جوده
وقد كان منه البَرُّ والبحرُ مُترعا
بَلى قد وَسِعْتَ الجودَ والجود ميتٌ
ولو كان حيّاً ضقْتَ حتَّى تَصَدَّعا
فتًى عيش في معروفه بعد موته
كما السيلُ أضحى بعد مجراهُ مرْتعا
وقال آخر:
تولى سعيد حين لم يبْقَ مَشْرِقٌ
ولا مَغْرِبٌ إلاَّ له فيه مادحُ
كأنْ لم يَمُتْ حَيّ سواكَ ولم يقُمْ
علَى أحد إلاَّ عليكَ النّوائحُ
لئن حَسُنتْ فيك المراثي وذكرُها
لقد حَسُنتْ من قبلُ فيك المدائحُ
وقال إبراهيم بن هشام يرثي عمرو بن جري:
ولو كان البكاء يردُّ حقّاً
علَى قَدر الرزايا بالعبادِ
لكان بُكاك بعد أبي حَويّ
يقلُّ ولو جرى بدم الفؤادِ
مضى وأقام ما دجت اللّيالي
له مَجْدٌ يُجلُّ عن المقادِ
وقال آخر:
فلله جاريّ اللذان هُما
قريبين منّي والمزارُ بَعيدُ
مُقيمان بالبيداء لا يبرحانها
ولا يسألان الركب أين تريدُ
هما تركا عيني لا ماء فيهما
وشكا فؤاد القلب وهو عميدُ
وبلغنا أنَّه كان سبب موت مروان بن عبد الملك أنَّه وقع بينه وبين أخيه سليمان فقال يا ابن من تلحن أمه ففتح فاه ليجيبه وإلى جانبه عمر بن عبد العزيز فأمسك عليه فيه، وردّ كلمته وقال: يا أبا عبد الملك أخوك وابن أبيك وله السن عليك، فقال أبا حفص قتلتني، قال: وما صنعتُ بك؟ قال: رددت في جوفي أحر من الجمر، ومال لجنبه فمات وفيه يقول جرير يخاطب أخاه لأمه يزيد بن عبد الملك: