انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الحادي عشر من وفى الحبيب هان عليه الرقيب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الحادي عشر مَنْ وفَى الحبيبُ هانَ عليهِ الرَّقيبُ

وإنَّما يغلظ أمر الرقيب على من يمتحن بمفارقة الحبيب فأما من غلبه الفراق وملكه الإشفاق وأذاع سره الاشتياق قلَّ اكتراثه بمن يرتقبه بل سهل عليه ألاّ يعاين من يحبّه إذا وثق بقربه منه وأمن من إعراضه عنه وربَّما كانت غيبة الحبيب أيسر من حضوره مع الرقيب وهذا شيء تختلف فيه الآراء علَى حسب غلبات الأهواء.

قال ابن الدمينة:

يقولونَ قصِّرْ عنْ هواها فقدْ وعتْ
ضغائنَ شبَّانٌ عليكَ وشيبُ
وما إنْ تُبالِي سخطَ مَنْ لا تحبُّهُ
إذا نصحتْ ممَّن تحبُّ جُيوبُ

وقال أبو تمام الطائي:

ما شئتَ مِنْ منطقٍ أديبِ
فيهِ ومِنْ منظرٍ أرِيبِ
لمَّا رأى رقبةَ الأعادِي
علَى معنًّى بهِ كئيبِ
جرَّدَ لِي مِنْ هواهُ نُصحاً
صارَ رقيباً علَى الرَّقيبِ

وقال أيضاً:

مِنْ قطعِ ألفاظهِ توصيلُ مهلكَتِي
ووصلِ ألحاظهِ تقطيعُ أنفاسِي
رُزقتُ رقَّةَ قلبٍ منهُ نغَّصها
مُنغِّصٌ مِنْ رقيبٍ قلبهُ قاسِي

وقال بعض الفصحاء:

طَلْحٌ ولكنَّا نرَى الح
يَّاتِ رُقطاً في خِلالهْ
يمنعْنَنا أنْ نستظلَّ
منَ الهواجرِ في ظلالهْ

وقال الأخطل:

وليسَ القذَى بالعودِ يسقطُ في الإنَا
ولا بذبابٍ خطبهُ أيسرُ الأمرِ
ولكنَّ شخصاً لا نسرُّ بقربهِ
رمتْنا بهِ الأزمانُ مِنْ حيثُ لا ندرِي

وأنشد أعرابي بالبادية:

أحقّاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ وارداً
مياهَ الحِمَى إلاَّ عليَّ رقيبُ
ولا آتياً وحدِي ولا بجماعةٍ
منَ النَّاسِ إلاَّ قيلَ ذاكَ مريبُ
أحبُّ ظباءَ الواديَيْنِ وإنَّني
لمُشتهرٌ بالواديينِ غريبُ
أُميمُ احْفظِي عهدَ الهوَى لا يزُلْ لنا
عنِ النَّأيِ والهجرانِ منكِ نصيبُ
ألا يا أُميمَ القلبِ دامَ لكِ الغِنا
أمَا ساعةٌ إلاَّ عليكِ رقيبُ

وقال آخر:

صغيرٌ يصيرُ بالا كثير مجرب
أوْ آخر يرمي بالظُّنونِ أرِيبُ

وقال آخر:

وإنِّي لآتِي البيتَ أُبغضُ أهلهُ
وأُكثرُ هجرَ البيتِ وهوَ حبيبُ
تطيبُ لي الدُّنيا مراراً وإنَّها
لتخبثُ حتَّى ما تكادُ تطيبُ
وأُعرضُ عنْ أشياءَ منكِ تُريبُنِي
وأُدعى إلى ما نابكُمْ فأُجيبُ

وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:

حَبيبي حبيبٌ يكتمُ النَّاسَ أنَّهُ
لنا حينَ ترمينا العيونُ حَبيبُ
يُباعدُني في المُلتقَى وفؤادهُ
وإنْ هوَ أبدَى لي البعادَ قريبُ
ويُعرضُ عنِّي والهوَى منهُ مقبلٌ
إذا خافَ عيناً أو أشارَ رقيبُ
فتخرسُ منَّا ألسنٌ حينَ نلتقِي
وتنطقُ منَّا أعينٌ وقلوبُ

وله أيضاً:

إذا ما التقيْنَا والوُشاةُ بمجلسٍ
فليسَ لنا رسلٌ سِوَى الطَّرفِ بالطَّرفِ
فإنْ غفلَ الواشونَ فزتُ بنظرةٍ
وإنْ نظرُوا نحوِي نظرتُ إلى السَّقفِ
أُسارقُ مولاها السُّرورَ بقربِها
وأهجر أحياناً وفي هجرهمْ حتفِي

وقال آخر:

إذا غفِلوا عنَّا نطقْنا بأعينٍ
مِراضٍ وإنْ خِفنا نظرْنا إلى الأرضِ
شكَا بعضُنا لمَّا التقينَا تستُّراً
بأبصارِنا ما في النُّفوسِ إلى بعضِ

وقال مسلم بن الوليد:

جعلْنا علاماتِ المودَّةِ بينَنا
دقائقَ لحظٍ هنَّ أخفَى منَ السِّحرِ
فأعرفُ منها الوصلَ في لينِ طرفِها
وأعرفُ منها الهجرَ بالنَّظرِ الشزرِ

وأنشدنا ابن أبي طاهر لأبي تمام:

أزورُ محمَّداً وإذا التقَيْنا
تكلَّمتِ الضَّمائرُ في الصُّدورِ
فأرجعُ لمْ ألُمهُ ولمْ يلُمنِي
وقدْ فهمَ الضَّميرُ منَ الضَّميرِ

وقال آخر:

إذا نحنُ خفْنا الكاشحينَ فلمْ نطقْ
كلاماً تكلَّمنا بأعيُننا سرَّا
فنقضِي ولمْ يُعلمْ بِنا كلَّ حاجةٍ
ولمْ نظهرِ الشَّكوى ولمْ نهتكِ السِّترا
ولو قذفتْ أحشاؤُنا ما تضمَّنتْ
منَ الوجدِ والبلوَى إذنْ قذفتْ جمرا

صاحبُ هذا الشِّعر البائس مغترٌّ بالزَّمان جاهل بصروف الأيام يتبرَّم بالرَّقيب مع مشاهدة الحبيب وهو لا يعلم أن هذه الحال تتقاصر عنها الآمال وتنقطع دونها الآجال ولكن من لم ينكبه الفراق ولا الهجر ولم يعترض إلى الخيانة والغدر حسب أن الرَّقيب هو منتهى كيد الدَّهر وظنَّ أنَّه قد امتُحن بما لا يقوم له الصَّبر.

وقد قال بعض أهل هذا العصر:

لَئنْ كانَ الرَّقيبُ بلاءَ قومٍ
فما عندي أجلُّ من الرَّقيبِ
حجابُ الإلفِ أيسرُ من نواهُ
وهجرُ الخلِّ خيرٌ للأديبِ
ولا وأبيكَ ما عاينتُ شيئاً
أشدَّ من الفِراقِ علَى القلوبِ

وقال آخر:

أشارتْ بعينيها إشارةَ خائفٍ
حذارِ عيونِ الكاشحينَ فسلَّمتْ
فردَّ عليها الطَّرْفُ منِّي سلامَها
وأوْما إليها أسكُني فتبسَّمتْ
وأومَتْ إلى طرفي يقولُ لِطَرفها
بنا فوقَ ما تلقى فأشجتْ وتيَّمتْ
فلوْ سئلتْ ألحاظُنا عن قلوبنا
إذنْ لاشتكتْ ممَّا بها وتبرَّمتْ
وما هكذا إلاَّ عيونُ ذوي الهوَى
إذا خافتِ الأعداءَ يوماً تكلَّمتْ

وقال آخر:

وقفنا فلولا أنَّنا راعَنا الهوَى
لهتَّكنا عندَ الرَّقيبِ نحيبُ
وفي دونِ ما نلقاهُ من ألمِ الهوَى
تُشقُّ جيوبٌ بل تُشقُّ قلوبُ
ولمَّا نظرنا بالرَّقيبِ ولحظهِ
ولحظي علَى لحظِ الرَّقيبِ رقيبُ
صدَدْنا وكلٌّ قد طوى تحتَ صدرهِ
فؤاداً له بين الضُّلوعِ وجيبُ

وقال آخر:

إذا ما التقينا والوُشاةُ بمجلسٍ
فألسُننا حربٌ وأعينُنا سِلْمُ
وتحتَ مجاري الصَّدرِ منَّا مودَّةٌ
تطَّلَعُ سرّاً حيثُ لا يذهبُ الوهمُ

وأنشد ابن أبي طاهر:

إذا خِفنا من الرُّقباءِ عيناً
تكلَّمتِ العيونُ عنِ القلوبِ
وفي غمزِ الحواجبِ مُستراحٌ
لِحاجاتِ المُحبِّ إلى الحبيبِ

وقال آخر:

ومُراقَبينِ يُكاتمانِ هواهُما
جعلا الصُّدورَ لما تجنُّ قُبورا
يتلاحظانِ تلاحظاً فكأنَّما
يتناسخانِ منَ الجُفونِ سُطورا

وأنشد ابن أبي طاهر:

عرفتْ بالسَّلامِ عينَ الرَّقيبِ
وأشارتْ بلحظِ طرفٍ مُريبِ
وشكتْ لوعةَ النَّوى بجُفونٍ
أعربتْ عن لسانِ قلبٍ كئيبِ
رُبَّ طرفٍ يكونُ أفصحَ من لفْ
ظٍ وأبدى لِمُضمَراتِ القلوبِ

وقال آخر:

وإذا التقينا والعيونُ روامقٌ
صمَتِ اللِّسانُ وطرفُها يتكلَّمُ
تشكو فأفهَمُ ما تقولُ بطرفِها
ويردُّ طرفي مثلَ ذاكَ فتفهمُ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

كتبتُ إلى الحبيبِ بكسْرِ عيني
كتاباً ليسَ يقرأُهُ سواهُ
فأخبرني تورُّدُ وجنتيهِ
وكسرُ جفونهِ أنْ قد قراهُ

وأنشدني أيضاً لنفسه:

لقدْ عرَّضَ بالحبِّ
كما عرَّضتُ بالحُبِّ
وكانتْ أعينٌ رُسلاً
مكانَ الرُّسلِ بالكتبِ
عيونٌ تنقلُ الأسرارَ
من قلبٍ إلى قلبِ

وقال آخر:

إذا نظرتْ طرفي تكلَّمَ طرفُها
وجاوبَهُ طرفي ونحنُ سُكوتُ
فكمْ نظرةٍ منها تُخبِّرُ بالرِّضا
وأخرى لها نفسي تكادُ تموتُ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

ومُلاحظٍ سرقَ السَّلامَ بطرفهِ
حذرَ العُيونِ ورِقْبةً للحارسِ
راجعتُهُ بلسانِ طرفٍ ناطقٍ
يُخفي البيانَ علَى الرَّقيبِ الجالسِ
فتكلَّمتْ منَّا الضَّمائرُ بالَّذي
نُخفي وفازَ مُجالسٌ بمُجالسِ

وقال الطرماح:

كأنْ لم يرُعْكَ الظَّاعنونَ ببينِهمْ
بلى إنَّ بينَ الظَّاعنينَ نزوعُ
يُراقبْنَ أبصارَ الغيارى بأعينٍ
حواذِرَ ما تجري لهنَّ دموعُ

وقال آخر:

أشارتْ بطرفِ العينِ خيفةَ أهلِها
إشارةَ محزونٍ ولم تتكلَّمِ
فأيقنْتُ أنَّ الطَّرفَ قد قالَ مرحباً
وأهلاً وسهلاً بالحبيبِ المتيَّمِ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

ألاحظُها خوفَ المُراقبِ لحظةً
فأشكو بطرفي ما بقلبي منَ الوجدِ
فتفهمُهُ عن لحظِ عيني بقلبِها
فتومي بطرفِ العينِ أنِّي علَى العهدِ

وله أيضاً:

تُحدِّثنا الأبصارُ ما في قلوبِنا
فنغنى بها عمَّا يُردَّدُ في الكتبِ
علاماتُنا مكتوبةٌ في جِباهنا
حبيبانِ موقوفانِ في سُبلِ الحُبِّ

وقال آخر:

بنانُ يدٍ تُشيرُ إلى بنانٍ
تُجاوبُنا وما يتكلَّمانِ
جرى الإيماءُ بينهُما رسولاً
فأعربَ وحيَهُ المُتناجيانَ

وأنشدني ابن أبي طاهر:

يُكلِّمُها طرفي فتومي بطرفِها
فتُخبرُ عمَّا في الضَّميرِ منَ الوجدِ
فإنْ نظر الواشونَ صدَّتْ وأعرضتْ
وإنْ غفِلوا قالتْ ألستُ علَى العهدِ

وقال بعض الأعراب:

فلمَّا ادَّركْنا راعهُنَّ مُنادياً
كما راعَ خيلاً من لجامٍ صلاصِلُهْ
فنازعْنَنا وحياً خفيّاً كأنَّهُ
جنى المُجتني الرِّيحانِ أمرعَ حاصلُهْ
بوحيٍ لوَ انَّ العُصمَ تسمعُ رجْعهُ
لقُضْقضَ من أعلى إبانٍ حوافلُهْ

وأنشدنا ابن أبي طاهر:

ومنِّي ومنها اثنانِ قلبٌ ومُقلةٌ
مريضانِ مغبوطٌ وآخرُ يرحَمُ
وطرفي لها عمَّا بقلبي من الهوَى
إذا لم أُطقْ شكوى إليها مُترجِمُ

وقال آخر:

يكلِّمُ طرفي طرفَها حينَ نلتقي
وإن كانَ فينا للعتابِ صدودُ
فإنْ نحنُ صرنا للفراقِ تلاحظتْ
لنا بهوانا أعينٌ وخدودُ
فنحنُ كأنَّا بالقلوبِ وذِكرها
إذا ما افترقنا حاضرونَ شهودُ

وقال الراعي:

يُناجيننا والطَّرفُ دونَ حديثنا
ويقضينَ حاجاتٍ وهُنَّ موازِحُ
فلمَّا تفرَّقنا شجيْنَ بعَبرةٍ
وزوَّدننا شوقاً وهُنَّ فواضحُ
فويلُ امِّها من خلَّةٍ لوْ تنكَّرتْ
لأعدائنا أوْ صالحتْ منْ تُصالحُ

وقال آخر:

قفي أخبريني ثمَّ حُكمكِ واجبٌ
عليَّ إذا خبَّرتِ ما أنا سائلُ
متى أنا ناجٍ يا قتولُ فأوْمأتْ
بطرفٍ كفى رجعَ الَّذي أنا قائلُ

وقال آخر:

ألا حبَّذا الدَّهْنا وطيبُ تُرابها
وأرضٌ خلاءٌ يصدعُ اللَّيلَ هامُها
ونصُّ المهاري بالعشيَّاتِ والضُّحى
إلى نفرٍ وحيُ العُيونِ كلامُها

وأنشدني الفضل بن أبي طاهر:

إشارةُ أفواهٍ وغمزُ حواجبٍ
وتكسيرُ أجفانٍ وكفٌّ تُسلِّمُ
وألسنُنا معقودةٌ عنْ شَكاتنا
وأبصارُنا عنها الصَّباباتِ تفهمُ

وقال ابن الوليد عبيد الطائي:

يتبسَّمنَ من وراءِ حواشي الرَّيْ
طِ عن بردِ أُقحوانِ الثُّغورِ
ويُساقطنَ والرَّقيبُ قريبٌ
لحظاتٍ يُعلنَّ سرَّ الضَّميرِ
ضعُفَ الدَّهرُ عن هواها وما الدَّهْ
رُ علَى كلِّ دولةٍ بقديرِ
ليسَ في العاشقينَ أنقصُ حظّاً
في التَّصابي من واصلٍ مهجورِ

أمَّا هذا الكلام فكلام متغطرس علَى الأيام وقد كان يقال عند الثِّقة بالأيَّام تُحذر الغِيَر.

وقال إبراهيم النظّام:

ونشكو بالعيونِ إذا التقينا
فنفهمُهُ ويعلمُ ما أردْتُ
أقولُ بمُقلتي أنْ متُّ شوقاً
فيوحي طرفهُ أنْ قدْ علمْتُ