الباب الثاني عشر من مُنع من كثير الوصال قنع بقليل النَّوالأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الثاني عشر من مُنع من كثير الوصال قنع بقليل النَّوال
قال ذو الرمّة:
ألِمَّا بميٍّ قبلَ أنْ تطرحَ النَّوى
بنا مطرحاً أوْ قبلَ بينٍ يُزيلُها
ولو لمْ يكنْ إلاَّ معرَّسُ ساعةٍ
قليلاً فإنِّي نافعٌ لي قليلُها
خليليَّ عُدَّا حاجتي من هواكُما
ومن ذا يُداوي النَّفسَ إلاَّ خليلُها
وقال أيضاً:
وإنِّي ليُرضيني قليلُ نوالكُمْ
وإن كنتُ لا أرضى لكمْ بقليلِ
بحُرمةِ ما قد كانَ بيني وبينكمْ
منَ الوُدِّ ألاَّ عُدتمُ بجميلِ
وقال جميل:
ويقُلنَ إنَّكَ قدْ رضيتَ بباطلٍ
منها فهلْ لكَ في اعتزالِ الباطلِ
ولَباطلٌ ممَّنْ أحبُّ حديثَهُ
أشهى إليَّ منَ البغيضِ الباذلِ
ولرُبَّ عارضةٍ علينا وصلَها
بالجدِّ تخلطُهُ بقولِ الهازلِ
فأجبتُها بالقولِ بعدَ تستُّرٍ
حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي
لو كان في قلبي كقدرِ قُلامةٍ
فضلٌ وصلْتُكِ أوْ أتتكِ رسائلي
أما هذا فقد دلَّنا بغاية جهده على شدَّة تمكُّنها من قلبه وأخبرنا مع ذلك في شعره أنَّه لو تهيَّأ خلاص شيء من حبِّه من يدها لصرفه إلى غيرها وهذه حال لا تُرضي أهل الوفاء ولا يستعملها أهل الصَّفاء.
وقال آخر:
وإنِّي لأرضى منكِ يا ليلُ بالَّذي
لوُ اخبرَهُ الواشي لقرَّتْ بلابلُهْ
بلى وبأنْ لا أستطيعَ وبالمُنى
وبالوعدِ حتَّى يسأمَ الوعدَ آملُهْ
وبالنَّظرةِ العَجلى وبالحولِ تنقضي
أواخرهُ لا تلتقي وأوائلُهْ
هذه لَعمري قناعة شديدة تدلُّ على أن وراءها ذلَّة وكيدة لأن من يتهيَّأ له من يهواه لا يقنع بأن لا يراه وبأن يعده وعده إلاَّ يطالبه بوفائه ولعمري إنَّ هذه الحال تقرُّ عين المعادي وتسخن عين الموالي إلاَّ أنَّه وإن كان قد بالغ في القناعة فإنه قد التمس التعلُّل بالوعد وبتأميل اللقاء على البعد ومن قنع بترك اللقاء وأقام على حال الوفاء كان أتمَّ حالاً.
كما قال أبو دلف العجلي:
إنِّي وإنْ كنتُ لا أراكَ ولا
أطمعُ في ذاكَ سائرَ الأبدِ
لَقانعٌ بالسَّلامِ يبلُغني
أشفي غليلاً به منَ الكمدِ
وأدفعُ الهمَّ بالسُّرورِ إذا
أيقنتُ أنَّا جارانِ في بلدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
أأيَّامَ هذا الدهرِ كمْ تعنفينَ بي
كأنْ لم ترى قبلي مُعنًّى ولا بعدي
نوالاً كرجعِ الطَّرفِ أعجلَهُ القذى
وضنّاً كضنِّ الجفنِ بالأعيُنِ الرُّمدِ
فمنْ يكُ مشتاقاً إلى نُجحِ موعدٍ
فها أنا مشتاقٌ إلى خلفِ الوعدِ
فلا خُلفَ إلاَّ بعدَ توكيدِ موعدٍ
ولا وعدَ إلاَّ عن صفاءٍ منَ الوُدِّ
وقد قذفتْ نفسي أجلَّ حُظوظها
لديكَ وفقدُ الحظِّ جُزوءٌ منَ الفقدِ
وقال آخر:
أوَجْدٌ علَى وجدٍ وأنتِ بخيلةٌ
وقد زعموا أنْ لا يحبَّ بخيلُ
بلى والَّذي حجَّ المُلبُّونَ بيتَهُ
ويُشفى الجوى بالنَّيلِ وهو قليلُ
وقال آخر:
يقرُّ بعيني أن أرى من مكانهِ
ذُرى عُقُداتِ الأبرَقِ المُتقاودِ
وأنْ أرِدَ الماءَ الَّذي وردتْ بهِ
سُليمى إذا ملَّ السُّرى كلُّ واحدِ
فأُلصقُ أحشائي بِبَردِ ترابهِ
وإنْ كانَ مخلوطاً بسُمِّ الأساودِ
وقال آخر:
يقرُّ بعيني أن أرى كفَّةَ الغضا
إذا ما بدتْ يوماً لعيني قِلالُها
ولستُ وإنْ أحببتُ من يسكنُ الغضا
بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها
وقال جميل:
قد ماتَ قبلي أخو فهدٍ وصاحبُهُ
مُرقِّشٌ واشتفى من عُروةَ الكمدُ
إنِّي لأحسبُ أوْ قد كدتُ أعلمُهُ
أنْ سوفَ توردُني الحوضَ الَّذي وردوا
فما يضرُّ امرءاً أمسى وأنتِ لهُ
أنْ لا يكونَ من الدُّنيا لهُ سندُ
وقال أيضاً:
يُكذِّبُ أقوالَ الوشاةِ صدودُها
ويجتازُها عنِّي كأنْ لا أريدُها
وتحتَ مجاري الدَّمعِ منَّا مودَّةٌ
تُلاحظُ سرّاً لا يُنادى وليدُها
رفعتُ عن الدُّنيا المنى غيرَ وُدِّها
فما أسألُ الدُّنيا ولا أستزيدُها
وقال أيضاً:
منَ الخفِراتِ البيضِ أُخلِصَ لونُها
تُلاحي عدوّاً لم تجدْ ما يعيبُها
فما مُزنةٌ بينَ السِّماكَيْنِ أوْ مضتْ
منَ النُّورِ ثمَّ استعرضَتْها حبوبُها
بأحسنَ منها يومَ قالتْ وعندنا
من النَّاسِ أوباشٌ يُخافُ شغوبُها
تعايَيْتَ فاستغنيتَ عنَّا بغيرنا
إلى يومِ يلقى كلَّ نفسٍ حسيبُها
وددْتُ ولا تُغني الوَدادةُ أنَّها
نصيبي منَ الدُّنيا وأنِّي نصيبُها
وقال آخر:
هلِ الله عافٍ عنْ ذُنوبٍ تسلَّفتْ
أمِ الله إنْ لمْ يعفُ عنها يُعيدُها
وكُنَّا إذا دانتْ بذلفاءَ نيَّةٌ
رضينا بدُنيانا فما نستزيدها
وقال أيضاً:
عاتبةٌ لم أغنَ عن وصلها
يقتلُ في أجفانها السِّحرُ
إن نظرتْ قلتُ بها ذلَّةٌ
أوْ خطرتْ قلتُ بها كِبرُ
أصبحتُ لا أطمعُ في وصلها
حسبيَ أن يبقى ليَ الهجرُ
وقال آخر:
صدودكَ عنِّي إذْ أسأتُ يسرُّني
ولم أرَ قبلي عاشقاً سُرَّ بالصَّدِّ
سُررتُ بهِ أنِّي تيقَّنتُ أنَّما
دعاكَ إليهِ رغبةٌ منكَ في ودِّي
ولو كنتَ فيَّ زاهداً لم تبالِ بي
ولكنَّما عتبُ المحبِّ منَ الوجدِ
فيا فرحةً لي إذْ رأيتُكَ عاتباً
عليَّ لذنبٍ كانَ منِّي بلا عمدِ
وقال البحتري:
أخٌ ليَ لم تتَّصلْ نِسبتي
بقُربى أبيه ولا أمِّهِ
تنكَّرَ حتَّى لأنكرْتُهُ
خلا أنَّني عارفٌ باسمهِ
وما ليَ منهُ سوى رِقَّةٍ
يُراحُ بها الشِّعرُ من فهمهِ
كذا المسكُ ما فيه مُستَمْ
تَعٌ لمُتَّخذيهِ سوى شمِّهِ
وقال إبراهيم بن العباس:
منِّي الصِّبرُ ومنكَ اله
جرُ فابلغْ بي مداكا
بعُدتْ همَّةُ عينٍ
طمعتْ في أن تراكا
أوَ ما حظٌّ لعينٍ
أن ترى من قد يراكا
أو ترى من قد رأى من
قد رأى من قدْ رآكا
وقال بعض الأعراب:
أيا جبليْ نُعمانَ قلبي إليكُما
مسرٌّ هوى مُستأنسٌ بلِقاكُما
كتمتُ جميعَ النَّاسِ وجدي عليكُما
وأضمرتُ في الأحشاءِ منِّي هواكُما
دعا لكما قلبي الحنينُ وإنَّهُ
ليُؤنسُ عيني أن ترى من يراكُما
وقال بعض الأعراب:
وإنَّ الَّذي أرضى بهِ من نوالِها
عليها وإنْ ضنَّتْ بهِ ليَسيرُ
سلامٌ بعينٍ أوْ سلامٌ بحاجبٍ
إذا ما بهِ لمْ تدرِ كيفَ تُشيرُ
وقال الأحوص بن محمد:
وقد جئتُ الطَّبيبَ لسُقمِ نفسي
ليَشفيها الطَّبيبُ فما شفاها
وكنتُ إذا سمعتُ بأرضِ سُعدَي
شفاني من سقامي أنْ أراها
فمنْ هذا الطَّبيبُ لسُقمِ نفسي
سوى سُعدَي إذا شحطتْ نواها
وقال أيضاً:
أملامُ هلْ لمُتيَّمٍ تنويلُ
أم قد صرمْتِ وغالَ ودَّكِ غولُ
لا تصرميني منْ دلالكِ إنَّهُ
حسنٌ لديَّ وإنْ بخلتِ جميلُ
وقال البحتري:
ويحسنُ دلُّها والموتُ فيهِ
وقد يُستحسنُ السَّيفُ الصَّقيلُ
أقولُ أزيدُ من سقَمٍ فؤادي
وهلْ يزدادُ من قتلٍ قتيلُ
وقال آخر:
إنَّ الَّتي زعمتْ فؤادكَ ملَّها
خُلِقتْ هواكَ كما خُلقْتَ هوًى لها
حجبتْ تحيَّتها فقلتُ لصاحبي
ما كانَ أكثرَها لنا وأقلَّها
ولبعض أهل هذا العصر:
فإنْ تكنِ القلوبُ إذنْ تُجازَى
وأسلُكْ في الهوَى سَنناً سويَّا
فما لِي أهوَى الثَّقَلينِ جمعاً
عليكَ وأنتَ أكرمهمْ علَيَّا
عمرتُ سنينَ أسْتحفِي التَّصافِي
ولا أرضَى منَ الوصلِ الرَّضيَّا
فلمْ تُقلعْ صروفُ الدَّهرِ حتَّى
حُبستُ عنَ أنْ أجِي أوْ أنْ أُحيَّا
تبغَّضْ ما استطعتَ وعشْ سليماً
فأنتَ أحبُّ مخلوقٍ إليَّا
وقال أبو صخر الهذلي:
ويقرُّ عينِي وهيَ نازحةٌ
ما لا يقرُّ يَمينَ ذِي الحلمِ
إنِّي أرَى وأظنُّ أنْ سترَى
وضحَ النَّهارِ وعاليَ النَّجمِ
وهذه لعمري قناعة مفرطة في بابها وإن كانت مقصِّرة عن حال التَّمام لأن صاحب هذه الحال يستجلب بُعداً لنفسه نسيم الوصال وما قصَّر عن هذا النحو الَّذي يقول:
أتانِي عنكِ سبُّكِ لِي فسُبِّي
أليسَ جرَى بفيكِ اسمِي فحسْبي
فسُبِّي ما بدَا لكِ أنْ تسبِّي
فما ذا كلُّهُ إلاَّ لحبِّي
وقال آخر في هذا المعنى فما قصّر:
تعاللْتِ كيْ أُشجى وما بكِ علَّةٌ
تُريدينَ قتلِي قدْ ظفرتِ بذلكِ
لئنْ ساءنِي أنْ نِلتِي بمساءةٍ
لقدْ سرَّنِي أنِّي خطرتُ ببالكِ
وأنشدني أحمد بن يحيى أبو العباس:
يا أيُّها الرَّاكبُ الغادِي لطيَّتهِ
عرِّجْ أُنبِّكَ عنْ بعضِ الَّذي أجدُ
ما عالجَ النَّاسُ مِنْ وجدٍ ألمَّ بهمْ
إلاَّ وجدتُ بهِ فوقَ الَّذي وجدُوا
حسبِي رضاهُ وأنِّي في مسرَّتهِ
وودِّهِ آخرَ الأيَّامِ أجتهدُ
ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول ويقال أنَّه لأبي داود:
لا تنِلْني الرِّضا ولا تهوَ غيرِي
فكفانِي بذاكَ نيلاً ورِفْقا
غايَتي أنْ أراكَ حيّاً وأُضحِي
آمناً أنْ تُعيرَ طرفكَ خلقَا
ثمَّ لا أستزيدُ منكَ ولا أطْ
لبُ نيلاً ولوْ تقطَّعتُ عشقَا
ولبعض أهل هذا العصر في مثله:
أمرتَ ألاَّ أتشكَّى الهوَى
وفعلُ ما تهواهُ مفروضُ
فلستُ أعدُو حدَّ ما قلتهُ
حسبِي منَ التَّصريحِ تعريضُ
وكلُّ هذه الأحوال ناقصة عن حدِّ التَّمام على عجب أصحابها بها وافتخارهم بذكرها وتوهُّمهم أن قد تهيَّأ لهم على أنفسهم ما لم يتهيَّأ لغيرهم من صبرها لأحبابهم على الحظِّ اليسير من نوالهم وأتمُّ من هؤلاء في الحال وأحسن صبراً على قليل النوال بل على ترك جميعه من رضي من النَّيل بسلامة محبوبه وكان ذلك نهاية مطلوبه.