عيون الأنباء في طبقات الأطباء/الباب الثاني/رجع الكلام إلى ذكر أسقليبيوس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: رجع الكلام إلى ذكر أسقليبيوس


وبلغ من أمر أسقليبيوس أن أبرأ المرضى الذين يئس الناس من برئهم، ولما شاهده الناس من أفعاله ظن العامة أنه يحيي الموتى، وأنشد فيه شعراء اليونانيين الأشعار العجيبة، وضمنوها أنه يحيي الموتى، ويرد كل من مات إلى الدنيا، وزعموا أن اللَّه تعالى رفعه إليه تكرمة له وإجلالاً، وصيره في عديد الملائكة، ويقال أنه إدريس عليه السلام. وقال يحيى النحوي أن أسقليبيوس عاش تسعين سنة، منها صبي وقبل أن تفتتح له القوة الإلهية خمسين سنة، وعالم معلم أربعين سنة، وخلف ابنين ماهرين في صناعة الطب، وعهد إليهما أن لا يعلما الطب إلا لأولادهما وأهل بيته، وأن لا يدخلا في صناعة الطب غريباً، وعهد إلى من يأتي بعده كذلك وأمرهم بأمرين أحدهما أن يسكنوا وسط المعمور من أرض اليونانيين، وذلك في ثلاث جزائر منها قو جزيرة ابقراط، والثاني أن لا تخرج صناعة الطب إلى الغرباء، بل يعلمها الآباء الأبناء. قال جالينوس وأما صورته فصورة رجل ملتح متزين بجمة ذات ذوائب، ومما يبحث من أمر السبب في تصويره ملتحيًّا وتصوير أبيه أمرد، فبعض الناس يقول إنه صور وصيغ بهذه الحال، لأنه في وقت ما أصعده اللَّه إليه كان كذلك، والبعض قال إن السبب في ذلك أن صناعته تحتاج إلى العفة والشيخوخة، وبعض الناس قال إن السبب في تجاوزه، في الحذق بصناعة الطب، أباه، وإذا تأملته وجدته قائمًا متشمرًا مجموع الثياب، فيدل بهذا الشكل على أنه ينبغي للأطباء أن يتفلسفوا في جميع الأوقات، وترى الأعضاء منه التي يُستحى من تكشفها مستورة، والأعضاء التي يحتاج إلى استعمال الصناعة بها معراة مكشوفة، ويصور آخذًا بيده عصاً، معوجة ذات شعب، من شجرة الخطمي فيدل بذلك على أنه يمكن في صناعة الطب أن يبلغ بمن استعملها من السن أن يحتاج إلى عصا يتكئ عليها؛ أو لأن من أعطاه اللَّه تبارك وتعالى بعض العطايا يؤهل لإعطاء عصا، بمنزلة ما وهب لإيفاسطس وزوس وهرمس، وبهذه العصا نجد زوس يقر أعين من يحب من الناس، فينبه بها أيضًا النيام، وأما تصويرهم تلك العصا من شجر الخطمي، فلأنه يطرد وينفي كل مرض، وقال جالينوس وأما أعوجاجها وكثرة شعبها فتدل على كثرة الأصناف والتفنن الموجود في صناعة الطب، ولن نجدهم أيضًا تركوا تلك العصا بغير زينة ولا تهيئة، لكنهم صوروا عليها صورة حيوان طويل العمر، ملتف عليها وهو التنين، ويقرب هذا الحيوان من اسقليبيوس لأسباب كثيرة، أحدها أنه حيوان حاد النظر، كثير السهر، لا ينام في وقت من الأوقات، وقد ينبغي لمن قصد تعلم صناعة الطب أن لا يتشاغل عنها بالنوم، ويكون في غاية الذكاء ليمكنه أن يتقدم فينذر بما هو حاضر، وبما من شأنه أن يحدث، وذلك أنك تجد أبقراط يشير بهذا الفعل في قوله إني أرى أنه من أفضل الأمور أن يستعمل الطبيب سابق النظر، وذلك أنه إذا سبق فعلم وتقدم، فانذر المرضى بالشيء الحاضر مما بهم، وما مضى وما يستأنف. وقد يقال أيضًا في تصوير التنين على العصا، الماسك لها اسقليبيوس، قول آخر وهو هذا قالوا هذا الحيوان، أعني التنين، طويل العمر جدًّا، حتى أن حياته يقال أنها الدهر كله؛ وقد يمكن في المستعملين لصناعة الطب أن تطول أعمارهم، من ذلك أنا نجد ديموقريطس وأيرودوطس عندما استعملوا الوصايا التي تأمر بها صناعة الطب طالت حياتهم جدًّا، فكما أن هذا الحيوان، أعني التنين، يسلخ عنه لباسه الذي يسميه اليونانيون الشيخوخة، كذلك أيضًا قد يمكن الناس، باستعمال صناعة الطب إذا سلخوا عنهم الشيخوخة التي تفيدهم إياها الأمراض، أن يستفيدوا الصحة، وإذا صوروا أسقليبيوس جُعل على رأسه إكليل متخذ من شجر الغار، لأن هذه الشجرة تذهب بالحزن، ولهذا نجد هرمس إذ سمي المهيب كلل بمثل هذا الإكليل، فإن الأطباء ينبغي لهم أن يصرفوا عنهم الأحزان كذلك كلل اسقليبوس بأكليل يذهب بالحزن، أو لأن الأكليل كان يعم صناعة الطب والكهانة، رأوا أنه ينبغي أن يكون الإكليل الذي يتكلل به الأطباء والمتكهنون إكليلًا واحدًا بعينه؛ أو لأن هذه الشجرة أيضًا فيها قوة تشفي الأمراض، من ذلك أنك تجدها إذا ألقيت في بعض المواضع هربت من ذلك الموضع الهوام ذوات السموم وكذلك أيضًا النبت المسمى قونورا، وثمرة هذه الشجرة أيضًا وهي التي تسمى حب الغار، إذا مرخ بها البدن فعلت فيه شبيهًا بفعل الجند بيدستر، وإذا صوروا ذلك التنين جعلوا بيده بيضه، يومون بذلك إلى أن هذا العالم كله يحتاج إلى الطب، ومثال الكل مثال البيضة. وقد ينبغي لنا أن نتكلم أيضًا في الذبائح التي تذبح باسم أسقليبيوس تقربًا إلى اللَّه تبارك وتعالى، فنقول أنه لم يوجد أحد قرب اللَّه قربانًا باسم أسقليبيوس، في وقت من الأوقات، شيئًا من الماعز، وذلك لأن شعر هذا الحيوان لا يسهل غزله بمنزلة الصوف، ومن أكثر من لحمه سهل وقوعه في أمراض الصرع لأن الغذاء المتولد عنه رديء الكيموس، مجفف غليظ حريف، يميل إلى الدم السوداوي. قال جالينوس بل إنما نجد الناس يقربون إلى اللَّه تبارك وتعالى باسم أسقليبيوس ديكة، ويرون أيضًا أن سقراط قرب له هذه الذبيحة فبهذه الحال علم هذا الرجل الإلهي الناس صناعة الطب، قنية ثابتة أفضل كثيرًا من الأشياء التي استخرجها ديونوسس وديميطر، قال حنين يعني باستخراج ديونوسس الخمر، وذلك أن اليونانيين يرون أن أول من استخرج الخمر ديونوسس ويومي الشعراء بهذا الاسم إلى القوة، التي إذا غيرت الماء في الكرمة أعدته ليكون الخمرة والسرور المتولد عنها في شرابها. وأما استخراج ديميطر فالخبز وسائر الحبوب التي يتخذ منها، ولهذا نجدهم يسمون هذه الحبوب بهذا الاسم، وقد تسمي الشعراء بهذا الاسم أيضًا الأرض المخرجة للحبوب. وأما استخراج اسقليبيوس فيعني به الصحة، وهي التي لا يمكن دونها أن يقتني شيء من الأشياء التي ينتفع بها أو يلتذ. قال جالينوس وذلك أن ما استخرجه هذان لا ينتفع به ما لم يكن استخراج اسقليبيوس موجوداً. وأما صورة الكرسي الذي يقعد عليه اسقليبوس فصورة القوة التي تستفاد بها الصحة، وهي أشرف القوى.وإذا تأملت صورة أسقليبيوس وجدته قاعدًا متكئًا على رجال مصورين حوله، وذلك واجب لأنه ينبغي أن يكون ثابتًا لا يزول من بين الناس، ويصور عليه تنين ملتف حوله وقد خبرت سبب ذلك فيما تقدم.