عبقرية محمد (1941)/عبقرية محمد العسكرية
حروب دفاع
قلنا في الفصل السابق إن الاسلام لم ينجح لأنه دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون، ولكنه نجح لأنه دعوة لازمة يقوم بها داع موفق، وليس بين أسباب نجاحه سبب واحد يصعب فهمه على هذا الاعتبار.
ونريد في هذا الفصل أن نقول: إن محمدا كان على اجتنابه العدوان يحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه، وإنه لم يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتال لعجز أو خوف مما يجهله ولا يجيده .. ولكنه اجتنبه لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة، يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها، ويجتنبها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة.
وقبل ذلك ينبغي أن نستحضر في الذهن بعض الحقائق التي تظهر لنا الاختلاف بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في مسألة القتال، لنثبت أن للإسلام شأنا في اجتناب القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحا للانتصار، وأن الأديان الأخرى ما كانت لتحجم1 عن عمل أقدم عليه النبي لو كانت دعوتها كدعوته، وكانت أسبابها كأسبابه.
فالحقيقة الأولى، أن مطعن القائلين بأن الإسلام دين قتال إنما يصدق — لو صدق — في بداءة عهد الإسلام كما أسلفنا يوم دان بهذا الدين كثير من العرب المشركين، ولولاهم لما كان له جند ولا حمل في سبيله سلاح..
لكن الواقع أن الإسلام في بداءة عهده كان هو المعتدى عليه. ولم يكن من قِبَله اعتداء على أحد .. وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية واجتماع القول حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أُمِروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة، فلم يكن لهم قط عدوان ولا إكراه.
وحروب النبي عليه السلام كما أسلفنا كانت كلها حروب دفاع، ولم تكن منها حرب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان2 من نكث3 العهد، والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم .. ففي غزوة تبوك عاد الجيش الإسلامي أدراجه4 بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى5 إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره.
والحقيقة الثانية: أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع.
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف «سلطة» تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه.
لأن السلطة تُزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة .
ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب6 بعد الأسلاف7 .. وكل حجتهم التي يذودون8 بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يُزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه.
وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها، لأنهم أصحاب السلطة التي تأبى9 العقائد الجديدة، وقد تبين بالتجربة بعد التجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء، لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كانت تمنع العوائق10 التي تصد الدعوة الإسلامية، فيمتنع القتال.
ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل عليها التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب .. ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة من أمثاله في سائر الدنيا.
فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة .. ولا بد من التمييز بين العملين، لأنهما جد مختلفين.
والحقيقة الثالثة: أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها ..
فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها، ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ 11 والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها، بماذا تفضُ12 الخلاف بينهم إن لم تَفُضَّه بقوة السلطان؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضًا حيث جاء فيه: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ13 إِلَىٰ أَمْرِ الله فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾14
وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح .. ثم يأتي الصلح والتوفيق أو يأتي التفاهم بالرضا والاختيار.
والحقيقة الرابعة: أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لا بد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع ..
فاليهودية أو الإسرائيلية كانت كما يدل عليها اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس .. فكان أبناؤهم يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها، كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم فضلًا عن امتشاق 15 الحسام 16 لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار ..
أما المسيحية فهي قد عنيت «أولًا» بالآداب والأخلاق، ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة.
وقد ظهرت «ثانيًا» في بلاد للمعاملات والنظم الحكومية فيها قوانين تحميها كما يحميها الكهان المعززون بالسلطان، فهي قد عدلت عن فرض المعاملات والدساتير لهذه الضرورة، لا لأن المعاملات والدساتير ليست من شأن الدين ..
وقد ظهرت «ثالثًا» في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول17، وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال . أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام .. وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية.
فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية، فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص 18منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه.
وآية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين.. وأرِبَتْ 19 حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات.
والحقيقة الخامسة: أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ». وجاء في القرآن الكريم: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا والله أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا﴾ 20.
وحدث فعلا أن المسلمين فتحوا بلادا غير بلاد العرب، ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح. إلا أن هذه الفتوح تأخرت في الزمن، ولم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للاسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور، وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه، واجتمعت له جنود تؤمن به وتقدم على الموت في سبيله..
ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها .. فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه، لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم .. ووجب أن يكف 21الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسري منهما إلى حماه22.
هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب.
والحقيقة السادسة: أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع.
فقد استقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن لها نظام.. واطمأن الناس على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم، وكانت جميعها مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه. فإذا قيل إن المدعوِّين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم اقتنعوا به متأخرين .. وأن الاسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار، إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح .
ومن نظر إلى الإقناع العقلي، تساوى لديه من يستميلك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، أو بتربية الأطفال عليها وهم لا يعقلون، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم.. على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة 23 من ذرائع نشر الإسلام.
فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول.. كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ 24 الحجة، ولا يدفع عن عقيدة دفع العارف البصير ..
وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع، وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك.. إلا أن يحال بينها وبين انقضائه 25، أو تبطل عندها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها.. وأن الإسلام عقيدة ونظام، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في أخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه ..
القائد البصير
لم يكن الإسلام إذن دين قتال، ولم يكن النبي رجلا مقاتلا يطلب الحرب للحرب، أو يطلبها وله مندوحة 26عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة.. يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه، وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة الاستشارة، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار 27 والإنشاء، لأن القيادة الحسنة هي القيادة التي تستفيد من خبرة الخبير كما تستفيد من شجاعة الشجاع، وهي التي تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام.
وقد كانت غزوة بدر هي التجربة الأولى للنبي عليه السلام في إدارة المعارك الكبيرة، فلم يأنف 28 أن يستمع فيها إلى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال إلى غير المكان الذي نزل فيه، ثم وعى من تجربة واحدة ما قلَّ أن يعيَه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى.. فلو تتبع حروبه عليه السلام ناقد عسكري من أساطين 29فن الحرب في العصر الحديث لِيقترح وراء خططه مقترحا، أو ينبه إلى خطأ، لأعياه التعديل. ونختار أبرع القادة المحدثين وهو نابليون بونابرت على أسلوب حرب الحركة الذي كان هو الأسلوب الغالب في العصور الماضية، والذي ظهر في الحرب العالمية الحاضرة أنه لا يزال الخطوة الأخيرة في جميع الحروب، على الرغم من الحصون والسدود.. لأن اختيار نابليون بونابرت يبين لنا السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة 30بينها وبين خطط هذا القائد العظيم.
١- فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع.. وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان، وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة 31القواد.
وعنده أنه يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور.. أن يختار الموقع الملائم له، وأن يختار الفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده.. وكان النبي عليه السلام سابقا إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها.. فكان كما قدمنا لا يبدأ أحدًا بالعدوان، ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد 32 ما تواتيه الأحوال، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون33 والقيظ ملتهب والشدة بالغة فلا يَثْنِيه34 ذلك عن الخطة التي تعودها، ولا يكف عن التأهب السريع وعن حض المسلمين على جمع الأموال وجمع الرجال، ولا يبالي ما أرجف35 به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي فلم يحدث ما توقعوه.
وكان عليه السلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها، فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها.. ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء، وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين، إلا أن يكون الهجوم وبالًا36 على المقدمين عليه، كما حدث في غزوة الخندق.
٢- وكان نابليون يقول إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد ..
والنبي عليه السلام كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان، وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك، مع رجحان الفئة الكثيرة في السلاح والركاب إلى جانب رجحانهم في عدد الجنود.. ومعجزة الإيمان هنا أعظم جدا من أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع نفوس رجاله من صبر وعزيمة. فالنبي عليه السلام كان يحارب عربًا بعرب، وقرشيين بقرشيين، وقبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة.. فلا يقال هنا إن الفضل لقوم على قوم في المزايا الجسدية أو المزايا النفسية كما يمكن أن يقال هذا في جيوش نابليون، وكل فضل هنا فهو فضل العقيدة والإيمان.
٣- وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره.. فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم وسفنهم أن تصل إلى القارة الأوروبية، وتحويل المعاملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا ..وهكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشًا في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل كلما سمع بقافلة منها.
وأنكر بعض المتعصبين من كتَّاب أوروبا هذه السرايا، وسموها «قطعًا للطريق». وهي هي سُنَّة المُصَادَرة بعينها التي أقرها «القانون الدولي» وعمل بها قادة الجيوش في جميع العصور. ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية، رشيدًا تارة وغاليًا37 في الحمق والشطط38 تارة أخرى.
٤- وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش، ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة.
ونرجع إلى غزوات النبي عليه السلام فلا نرى أنه حاصر محلة، إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف.
٥- وكان نابليون معتدًّا برأيه في الفنون العسكرية ولا سيما الخطط الحربية، ولكنه كان مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغني عن مشاورة صحبه في مجلس الحرب الأعلى قبل ابتداء الزحف أو قبل العزم على القتال. ومحمد عليه السلام كان على رجاحة39 رأيه يستشير صحبه في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول. ومن ذلك ما صنعه ببدر — وألمعنا40 إليه آنفًا — حين أشار عليه الحباب بن المنذر بالانتقال إلى مكان غير الذي نزلوا فيه أول الأمر ثم بتغوير 41 الآبار وبناء حوض للشرب لا يصل إليه الأعداء، وقيل في روايات كثيرة إنه عمل بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق عند المنفذ الذي خيف أن يهجم منه المشركون على المدينة، فحفر الخندق وعمل النبي بيديه الكريمتين في حفره.
وقبول النبي مشورة سلمان عمل من أعمال القيادة الرشيدة، وسنة من سنن القواد الكبار، غير أننا نعتقد أنه عليه السلام كان خليقًا أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها، لأنه عليه السلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره وأقام على الشِّعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين راميًا مشددًا عليهم في التزام موقفهم، قائلًا لهم: «احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل».
والذي يفعل هذا في شِعب جبل لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة، ولكن المشاورة هنا هي المقصود بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما نبغ فيه نابليون، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح42 فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب.
٦- ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون. وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشًا ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء43، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجُزورِ التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول44 في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه45 ودروبه46، ويعقد ما يسمى اليوم «مجلس الحرب» قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع مِنْ كِلٍّ فيما هو خبير به من فنون حرب أو دلائل استطلاع.
٧- واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة والأقلام ، وكان يقول : انه يخشى من أربعـة أقلام ما ليس يخشاه من عشرة آلاف حسام .. والنبي عليه السلام كان أعرف الناس بفعل الدعوة في كسب المعارك وتغليب المقاصد ، فكان يبلغه عن بعض أفراد أنهـم يغفرون الذمة47 التي عاهدوا عليها، ويشهرون به و بالاسلام أو يثيرون العشائر لقتاله ويقذعون48 في هجوه49 وهجو دينه ، فينفذ اليهم من يحاربهم في حصونهـم أو يتكفل له بالخلاص منهم ..
وعاب هذا بعض المغرضين من الكتَّاب الأوروبيين وشبهوه بما عيب على نابليون من اختطاف الدوق دانجان وما قيل عن محاولته أن يختطف الشاعر الانجليزي كولردج الذي كان يخوض في ذمِّه ويستهوي الأسماع بسحر حديثه. الا أن الفارق عظيم بين الحالتين ، لأن حروب الاسلام انما هي حروب دعوة أو حروب عقيدة ، وانما هي في مصدرها وغايتها كفاح بين التوحيد والشرك ، أو بين الالهية والوثنية ، وليس وقوف الجيش أمام الجيش الا سبيلا من سبل الصراع في هذا الميدان.
فليس في حالة سلم مع النبي اذن من يحاربه في صميم الدعوة الدينية ، ويقصده بالطعن في لباب 50 رسالته الاسلامية ، وان لم ينفر الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده ، وانما هو مقاتل في الميدان الأصيل ينتظر من أعدائه ما ينتظره المقاتل من المقاتلين ، ولا سيما اذا كانت الحرب قائمة دائمة لا تنقطع فترة الا ريثما تعود. أما نابليون فالحرب بينه و بين أعدائه حرب جيوش وسلاح، فلا يجوز له أن يقتل أحدا لا يحمل السلاح في وجهه ، أو لا يدينه القانون بما يستوجب ازهاق حياته . وما نهض نابليون لنشر دين أو تفنيد51 دين ، ولا كان للرسول الاسلامي من غرض لو جاز له أن يقبل المسالمة ممن يحاربونه في دينه و ان لم يشهروا السيف في وجهه، فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه.
تلك مقابلة مجملة بين الخطط والعادات التي سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل أن نحكم عليها بضخامة الجيوش وأنواع السلاح.
لم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها كما أسلفنا إلا لدفع غارة واتقاء عداوة، فإذا كان مع هذا يُتْقِن منها ما يتولاه مدفوعًا إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها وعاش لها ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه، ولم يبلغ من نتائجه بعض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء.
ولقد كانت خبرة النبي ببعوث الاستطلاع كخبرته ببعوث القتال، فكانت طريقته في اختيار المكان والغرض، أو في اختيار القائد وتزويده بالوصايا والأتباع مثلًا يحتذى52 في جميع العصور، ولا سيما العصر الحديث الذي كثرت فيه ذرائع53 التخبئة والمراوغة وذرائع الكشف والدعوة، فكثرت فيه — من ثم — حاجة المقاتلين إلى استقصاء أحوال الأعداء.
ففي الحروب الحديثة يتردد ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة أو بعد مسيرة ساعات أو في عرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.
ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعًا على سر البعثة، ورجاله جميعًا يجهلونه، ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أم في مناورة استطلاع، إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات معدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعات لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشف له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار ..
هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة.. فقد عُرفت في المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها ، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ، وفحواه أن « سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته ، لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ، وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم». وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثا وقديما وعند بداءة الدعوات على التخصيص. فأولهما كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام ، فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا 54 عليه وعلى أصحابه من قبل قريش ، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور ، ولا يبعد أن يكون الضعفاء والمخالفون وأن الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان لسنَّة حكيمة من سنن النبي عليه السلام في جميع المطالب ، وهـي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن 55 باتباع.. ولهذا كان اذا أراد غزوة ورى56 بغيرها على النحو الذي يتبعه قادة الحروب الى الآن.
ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش كتمان الخبر عن أصحابه ثم وصايته ألا يكره أحدا منهم على المسير معه بعد معرفته بوجهته ، وهذا هو أهم الملاحظات في هذا المقام. فقد يحارب الرجل وهو مكره مهدد بالموت الذي يتقيه اذ يفر من القتال ، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه ، بل لعله ينقلب الى النقيض فيحرف الأخبار عمداً ، أو يتلقاها على غير اكتراث 57 ، أو يطلع الأعـداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه.
ولهذا تعاني الدول أكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة والمناقضة بعد المناقضة ، حتى تطمئن الى صحته قبل الاعتماد عليه.
وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين.. فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبطون من الطيارات وراء الصفوف، فيتسللون الى مراكز المواصلات ويعيثون58 بين القرى المعزولة، فيشيعون فيها الرعب والخيرة ويوهمون من يراهم أن الجيش المغير كله على مقربة منهم فلا جدوى لهم من الاستغاثة أو المقاومة، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم من بعيد .. قيل في الاعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير ، وقيل في انتقادها والتنبيه الى خطرها كثير.
فمن دواعي الاعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات واشاعة الذعر وتضليل المدافعين، وانها شيء جديد في شكله وان لم يكن جديدا في غايته ومرماه.
ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية، فهي تستلزم أن يكون الرائد غيورا على عمله متحمسا لانجازه رقيبا على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه، فليس أيسر له اذا هو انفرد وأعوزته59 الرغبة في انجاز عمله من أن يستأسر 60 في أول مكان يصل اليه من بلاد الأعداء، طلبا للسلامة، ولا عقاب عليه إلى نهاية القتال. ثم يتعلل بما شاء من المعاذير ذلك من يحاسبه ويعاقبـه، وهيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى بين معسكرين أو عدة معسكرات.
فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة ان لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين ولا متشككين فيما هو موكول اليهم ، وهي لهذا أحرى أن تحسب من وحي اخوان الطريق والهام العقائد لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود، فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنين ينفخون في نفوس الناشئة جذوة 61 البغضاء ويلبهو نهم بحماسة العقيدة، ويخلقون فيهم اللدد62 الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ، لحبطت63 الخطة كل الحبوط وانقلبت على النازيين شر انقلاب.
وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة والطواعية واجتناب القسر 64 والاكراه . فهذه « أولا » بعثة منفردة لا سبيل الى الاكراه الفعال بين رجالها اذا أريد.. وهي « ثانيا » بعثة استطلاع لا يغني فيهـا عمـل الكاره المقسور65، وألزم ما يلزم العامل فيها ايمانه وصدق نيته وحسن مودته لمن أرسلوه ، فان أعوزته 66 هذه الصفة فقد أعوزه كل شيء.
أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع فقد كان النبي عليه السلام عليما بمزاياه ، معنيا به غاية العناية ، يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون، في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية في الوقت الضروري، ويحول من ثم دون الانتصار عليه.
و نحن نكتب هذه الفصول والحرب الروسية تذكرنا كيـف اصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الغلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون في روسيا امس وغزوة هتلر لتلك البلاد اليوم.
فمن أسباب هزيمة نابليون : اهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية ، لاعتقاده خطا أن القيصر سيطلب صلحه بعد أسابيع.
ومن أسباب تلك الهزيمة : أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيهـا ديارا67 يسأله عن مكان الجيش المتراجع أو يلتقط من خلال أجوبته ما يعينه على لاستطلاع الذي كان شديد التعويل عليه.
اما هتلر فقد أتي من قبل هذين النقصين كما أتى من قبله من هو أعظم منه وأولى بالتحرز68 والأناة69. فقد اشتهر أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم.. واشتهر أنه أخطأ في استطلاع أخبار القوم، اذ خيل اليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة، ويترقب لاغارة عليه لنصرة المغير كائنا من كان، ولو جاءت الغارة من عنصر معاد للعنصر السلافي ، وهو عنصر الجرمان.
ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر و نابليون، ولكنه لم يخطيء قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته وكشوفه ،ولعلنا نفهم - كلما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية ـ أن دراسته ضرب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين.
وينبغي الا تمر بنا سرية عبد الله بن جعش دون أن نستوفي كل ما فيها من الشئون العسكرية ، لأنها تشتمل على أكثر من جانب واحد من جوانب السنة النبوية والتشريع الاسلامي في هذه الشئون.. فهي سرية استطلاع كما علمنا لم تؤمر بقتال ولم يؤذن لها فيه. لكن حدث بعد فض الكتاب أن اثنين من رجال السرية ذهبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش ، وهما سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان..
ثم نزل الركب بنخلة فمرت بهم عير قريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي ، آخر شهر رجب . وكانت قريش قد حجزت أموال أناس من المسلمين منهم بعض من في السرية فتشاوروا في قتال أهل العير، وحاروا فيما يصنعون : ان تركوا العير تمضي ليلتها امتنعت بالحرم، وفاتهم تعويض ما حجزته قريش في هذه الفرصة السانحة70، وأن قاتلوا أهلها قتلوهم في شهر حرام، لكنهم اندفعوا الى القتال فأصابوا من أصابوه ورمي أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فأرداه71 وأسروا رجلين. وقفل عبد الله بن جحش ومن معه الى المدينة وقد حجزوا للنبي عليه السلام الخمس من غنيمتهم ، فأباه عليه السلام وقال لهم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وعنفهم اخوانهم لمخالفة النبي ، وساءت لقياهم بين أهل المدينة.
وراحت قريش تثير ثائرة العرب، واندس جماعة من اليهود يحضأون72 نار الفتنة ، وتنادوا أن محمدا وأصحابه قد أباحوا الدماء والاموال في الشهر الحرام ، وقال المسلمون في مكة : بل كان ذلك في شعبان، ثم نزلت الآيات : « يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله و کفر به و المسجد الحرام و اخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونکم حتى یردوکم عن دینکم آن استطاعوا » 73
فقبض النبي العير و الأسيرين. و طلبت قريش فداءهما فقال عليه السلام : « لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا ، فإنا نخشاكم عليهما، فان تقتلوهما نقتل صاحبيكم».
هذه قصة السرية و ما وقع فيها خلافا لأمر النبي و ما نجم74 عنها من تشريع .. فاذا نحن كتبناها باصطلاح العصر الحديث فكيف نكتبها؟ و كيف نفهمها؟.. هي لا خلاف حادثة طلائع او حادثة حدود :
ترسل احدى الدول طليعة من جندها الى حدودها للكشف أو للحراسة، فيقع الاشتباك بينها و بين طليعة في بلاد دولة أخرى على غير علم من الحكومتين.
فالذي يحدث في هذه الحالة أن تنظر الحكومة الأخرى الى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية لا تستوجب القتال، وتكتفي بما ينال المسئولين على أيدي حکو متهم من جزاء أو تأنيب، وينحسم75 النزاع هذا أو تصر الحكومة الأخرى على طلب الترضية ، فان قبلتها الحكومة المطلوبة فالنزاع منحسم، وان لم تقبلها فالمفاوضة والمساومة أو امتشاق الحسام76..
ذلك اذا نظر الفريقان الى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية ولم يشأ أحدهما أو كلاهما أن يضعاها موضع التشريع العام التقرير الحكم الذي تجريان عليه فيها وفي أمثالها ، أو تقرير ما يعترفان به وما ينكر انه من الشرائط والأصول.
وقريش لم تكتف بالنظر الى حادثة السرية77 كأنها حادثة فردية عرضية، ولم تعلن الحرب توا78 لأنها تبيت النيـة لاعلانها بعد حين.. ولكنها أثارت مسألة تشريع عام في قتال الشهر الحرام، فوجب أن ينص الاسلام على هذا التشريع صريحا لا لبس فيه، وهذا الذي كان.
ليست المسألة أن عبد الله بن جحش قد خالف أمر النبي، فهذا أمر مفروغ منه ولا محل للبحث فيه.
إنما المسألة : ما هي الحكم بعد الآن في قتال الأشهر الحرم؟.
وماذا يبلغ من حق المشركين في الاحتماء بحرمة هذه الأشهر اذا كانوا لا يرعون للمسلمين حرمة ولا يزالون يقاتلونهم ويردو نهم عن دينهم ما استطاعوا؟ وما الجواب على تشهير قريش واحتجاجها بالحرمات التي لا ترعاها ؟..
هذا هو الحكم الذي وجب أن يعلنه الاسلام، وقد أعلنه على الوجه الذي دانت به الشرائع الحديثة في علاقاتها الحربية ولا تزال تدین به حتى اليوم، فهناك حرمات دولية اذا خالفتها احدى الدول بطل احتماؤها بها وأحل لغيرها أن يخالفها كما خالفتها، أو يتخذ من القصاص ما يردع الشر ويعوض الخسارة ، والا كانت الحرمات درعا79 للمعتدين ولم تكن مانعا لهم وسدا في وجوههم كما أريد بها أن تكون.
واليوم تنقطع العلاقة بين دولتين في حالة حرب أو جفاء فيجوز لكلتيهما أن تحجز ما عندها من أموال الدولة الأخرى ، وأن تأسر الذين في بلادها من رعاياها، ويجوز لها أن تجعل تلك الأموال ضمانا لسداد المغارم التي تنزل بها وبأبنائها، وأن تتخذ مـن المعتقلين رهائن تعاملهم بمثل ما يعامل به المعتقلون من أبنائها، في سجون الدولة الأخرى.
فالذي حدث بعد سرية عبد الله بن جعش هو هذا بعينه، وهو حكم القانون الدولي المتفق عليه: أسيران بأسيرين، وأموال العير بالأموال التي حجزتها قريش للمسلمين. ولا محل لضجة الناقدين من المبشرين والمتعصبين في تعقيبهم على هذا الحادث المألوف أو على حكم النبي والاسلام فيه. فان أصحاب هـذه الضجة يعمون عما حولهم وينسون أن المعاملات الدولية في زمانهم لم تفصل في أمثال هذه الحوادث بحكم أنفع ولا أعدل من الحكمالذي ارتضاه النبي و نزل به القرآن، وهو حكم مساواة يدين به المسلمون كما يدانون، ويحار المعتسف 80 لو شاء أن يستبدل به ما هو خير منه وأدنى الى النفاذ والاتباع.
وكان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيرا كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال ان قوة رأي، وان قوة لسان، وان قوة نفوذ، فما نعرف أن أحدا وجه قوة الدعوة توجيها أسد81 ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام.
غرضـان
والدعوة في الحرب لها ـ كما لا يخفى ـ غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة.. أحدهما: اقناع خصمك والناس بحقك، وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة الاسلام جميعا، فالدين كله دعوة من هذا القبيل.
وثانيهما: اضعافه عن قتالك باضعاف عزمه وايقاع الشتات82 بين صفوفه.. وربما بلغ النبي برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة، وبالمكاتب والدواوين و بدر الأموال.
قال ابن اسحق ما ننقله ببعض تصرف : « ان نعيم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، اني قد أسلمت، وان قومي لم يعلموا باسلامي.. فمرني بما شئت.. فقال رسول الله : انما أنت فينا رجل واحد فخذل83 عنا ان استطعت فان الحرب خدعة.. أي أدخـل بين القوم حتى يخذل بعضهم بعضا فلا يقوموا لنا ولا يستمروا على حربنا. « فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ـ وكان لهم نديما في الجاهلية - فقال : يا بني قريظة، قد عرفتم ودي اياكم وخاصة ما بيني و بينكم.. قالوا : صدقت. لست عندنا بمتهم. « فقال لهم : أن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم.. البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤ کم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه الى غيره، وان قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم84 عليه.. وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره.. فليسوا كأنتم !.. فان رأوا نهزة85 أصابوها وان كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به ان خلا بكم، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأیدیکم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه86.. « فقالوا له : لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وانه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم .. فاکتموا عني! قالوا : نفعل. « قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد، وقد أرسلوا اليه: انا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن تأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من اشرافهم، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم87؟.. فأرسل اليهم أن نعم.. فإن بعثت اليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم، فلا تدفعوا اليهم منكم رجلا واحدا. « ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان، انکم أهلي و عشيرتي و أحب الناس الي ولا أراكم تتهمو نتي ، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. « قال : فاکتموا عني. « قالوا : نفعل، فما أمرك ؟ .. « فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم. « فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، أرسل ابو سفيان ابن حرب ورؤوس غطفان الى بني قريظة عكرمة بن ابي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: انا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر.. فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا اليهم: ان اليوم يوم السبت و هو يوم لا نعمل فيه شيئا، ولسنا مع ذلك بمقاتلي محمد حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، فأنا نخشى ان ضرستكم88 الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا89 الى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه. « فلما رجعت اليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : والله ان الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا الى بني قريظة : انا والله لا ندفع اليكم رجلا واحدا من رجالنا، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
« وقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل اليهم بهذا: ان الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم الا أن تقاتلوا، فان رأوا فرصة انتهزوها، وان كان غير ذلك انشمروا الى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.
«... وخذل الله بينهم وبعث الله عليهم الريح في ليـال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم ثم رحلت قريش وغطفان الى بلادها، وانصرف رسول الله عن الخندق راجعا إلى المدينة» هذه دعوة نعيم بن مسعود..
وما نجحت دعوة قط برجل واحد نجاح هذا الرجل، ولا انتهزت فرصة العناصر الطبيعية والعناصر التي تتألف منها جماعة الأعداء كما انتهزت هذه الفرصة.. فكل كلمة قيلت لطائفة من طوائفهم فهي الكلمة التي ينبغي أن تقال في الوقت الذي ينبغي أن تفعل فيـه فعلها، وهذه هي دعوة الاضعاف والتمزيق كأمضى ما تكون.
قائد بغير نظير
عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية، ينبغي أن ننظر إلى فكرة القائد قبل أن ننظر الى ظواهر المعارك أو إلى أشكالها وأحجامها، لأننا إذا نظرنا إلى الظواهر فلا معنی اذن للمقارنة على الاطلاق اذ من المقطوع به آن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف، وان حربا تدار بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفم والاشارة، وان نقل الجنود بالطائرات والدبابات أبرع من نقلهم على ظهور الخيل والابل، وان المدفع أمضى90 من السيف ، والرصاصة أمضى من السهم. فلا معنى اذن لمقارنة بالظواهر تنتهي الى نتيجة واحدة.. هي استضخام الحرب الحديثة والنظر الى القيادة الغابرة كأنها شيء صغير الى جانب القيادة التي توجه هذه الضخامة. لكننا اذا نظرنا إلى فكرة القائد، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة في القيادة لا تراها في توجيه مليون.. بينهم الراجل و الراكب، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة.
وهذه الفكرة التي تربينا محمدا عليه السلام قائدا حربيا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه، وفي الانتفاع بمشورة صحبه، وتبرز لنا قدرته النادرة بين قادة العصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسلاح والكلام.
وهذه القدرة هي شهادة كبرى لرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال..
فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة فاقتصر بها على الدفاع واكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه91، فذلك هو الرسول الذي تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية، ولا يلجأ الى هذه القيادة الا حين توجبها رسالة الهداية
ويزيد هذه الشهادة عظما أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجل شجاع غير هياب..
شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجوز فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة، فيحجمون عن القتال لأنهم ليسوا بأهل قتال.. ان بعض المستشرقين زعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد اشترك في حرب الفجار بتجهيز السهام، لانه عمل أقرب الى خلقه من الخوض في معمعة القتال.. وكأنهم أرادوا أنه لم يكن قادرا على المشاركة في المعمعة بغير ذلك .. فهذا خطأ في الاحاطة بمزايا هذه النفس العظيمة التي تعددت جوانبها حتى تجمعت فيها أطيب صفات الحنان واكرم صفات البسالة والاقدام ..
فمحمد كان في طليعة رجاله حين تحتدم92 نار الحرب ويهاب شواظها من لا يهاب، و كان علي فارس الفرسان يقول: «كنا اذا حمي البأس93 اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فما يكون أحد أقرب منه الى العدو »
ولولا ثباته في وقعة حنين، وقد ولت94 جمهرة الجيش وأوشك أن ينفرد وحده في وجه الرماة والطاعنين، لحقت الهزيمة على المسلمين .. وخروجه والليل لما يسفر95 عن صبحه ليطوف بالمدينة مستطلعا، وقد هددها الأعداء بالغارة والحصار أمر لو لم تدعه اليه الشجاعة الكريمة لم يدعه اليه شيء.. لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بمن يؤدون عنه مهمة الاستطلاع وهو قرير في داره، ولكنه أراد أن يرى بنفسه فلم يثنه96 خوف ولم يعهد بهذا الواجب الى غيره.
ومشاركته في الوقعات الأخرى هي مشاركة القائد الذي لا يعفي نفسه وقد أعفته القيادة من مشاركة الجند عامة فيما يستهدفون له، فهي شجاعة لا تؤثر أن تتوارى حيث يتاح لها أن تتواری، وعندها العذر المقبول بل العذر المحمود.
واذا كان القائد خبيرا بالحرب قديرا عليها غير هياب لمخاوفها ثم اكتفى منها بالضروري الذي لا محيص عنه97.. فذلك هو الرسول تأتيه الشهادة بالرسالة من طريق القيادة العسكرية، وتأتي جميع صفاته الحسنى تبعا لصفات الرسول. خصائص العظمة
لكن للعظمة خصائص تدعو الى العجب، وان كانت معروفة الأسباب.. وناهيك 98 بالعظمة التي ترتقي هذا المرتقی.
فمن تلك الخصائص انها قد توصف بالنقيضين في وقت واحد.. لأنها متعددة الجوانب، فيراها أناس على صورة، و يراها غيرهم على صورة أخرى، وربما رأتها العين الواحدة على اختلاف في الوقتين المختلفين..
ولأنها تبعث الحب الشديد كما تبعث البغض الشديد، و بين الطرفين مجال للاعتدال يستقيم للراشدين، ومجال للمغالاة99 من هنا وللمغالاة من هناك.. ولأنها عميقة الأغوار100 فلا يسهل استبطانها101 لكل ناظر، ولا يتأتى تفسيرها لكل مفسر.
وهذا اذا سلمت النفوس من سوء النية.. فأما اذا ساءت النيات وران102 الهوى على البصائر فلا عجب اذن في الضلال.
ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السلام أنه وصف بالنقيضين على السنة المتعصبين من أعداء دينه .. فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرین صاحب قسوة نضرية103 بالقتل واهدار الدماء البشرية في غير جريرة104 ، وتنزه محمد عن هذا وذاك..
فاذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب، فحياته كلها من طفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء.. اذا كان في كل صلة من صلاته بأهله أو بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثلا للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء.
ولا نقف كثيرا عند الحوادث التي ذكرها المتعصبون ليستدلوا بها على أهدار الدماء في غير جريرة. فأكثرها لم يثبت قط ثبوتا يقطع الشك فيه، ولا سيما القول بتحريض النبي عليه السلام على قتل عصمناء بنت مروان اليهودية لأنها كانت تهجو الاسلام والمسلمين، فان النبي عليه السلام قد نهى في قول صریح عن قتل النساء و كرر نهيه في غير موضع، حتی قال بعض الفقهاء بمنع قتل المرأة وان خرجت للقتال، ما لم يكن ذلك لدفع خطر لا يدفع بغير قتلها.
والحادث الوحيد الذي يستحق الالتفات إليه هو مقتل كعب ابن الأشرف الذي كان يهجو المسلمين، ويقدح105 في دينهم، و يؤلب عليهم الأعداء. ويأتمر106 بقتل النبي، ويدخل في كل دسیسسة تنقض معالم الاسلام.. و كان مع قومه معاهدا على أن يحالف المسلمين، و يحارب من يحاربونهم، ولا يخرج لقتالهم، ولا يقابلهم الا بما يقابل به الحليف حليفه من المودة و المعونة.
فنقض العهد وزاد على نقضه تأليب العرب مع قومه على النبي وصحبه، وأنه رجع الى المدينة « فشبب107 بنساء المسلمين حتى آذاهم» وافترى عليهن وعليهم ما ليس يفتريه رجل شريف، وليس يرضاه في عرضة عربي غيور..
ورد في حديث مقتله أن الرهط الذين خرجوا لقتله انتهوا الى حصنه، فهتف به أبو نائلة - و كان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته.. فأخذت أمرأته بناحيتها وقالت : « انك امرؤ محارب، وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ! ».
وصدقت امرأته حين وصفته بأنه محارب يعامل معاملة المحاربين وقد حنثوا108 في إيمانهم، فلم يكن راعيا لعهده، ولم يكن له وازع من نفسه ولا من قومه، ولم يكن مأمونا على المسلمين وهو لائذ109 بحصنه.. فهو أقل الناس حقا في أمان. وجاء في الخبر أن النبي عليه السلام أقر مقتله ، فعاب بعض المؤرخين الأوربيين ذلك ، وحسبوه خروجا على سنن القتال، يشبه فعلة نابليون الكبير حين أمر باختطاف الدوق دنجان ومحاكمته بغير حق.. مع ما بين الحادثين من بون 110 بعید بيناه من قبل فلا نعود اليه..
الا أننا نوجز هنا، فلا نزيد على أن نشير الى حكم القانون الدولي في أحدث العصور على من يؤخذون بصنيع معيب كصنيع ابن الأشرف، وان لم يبلغ مبلغه من الغدر والكيد، والاساءة الى الأعراض. وذلك هو حكم الأسير الذي ينطق بعهد الشرف ألا يعود الى القتال، فإن القانون الدولي يوجب عليه أن يوفي بعهده ويوجب على حكومته ألا تندبه إلى عمل ينقض ما عاهد الأعداء عليه، ويقضي بحرمانه حق المعاملة كما يعامل أسرى الحرب إذا شهر السلاح على الذين أطلقوه، أو على حلفائهم المحاربين في صفوفهم، ويصبح اذن أن يحاكم كما يحاكم المذنبون ويقضي عليه بالموت.
فقوانين العصر الحديث اذن تعاقب بالموت جريمة أهون من جريمة كعب بن الأشرف بكثير، لأنه تجاوز الغدر الى التأليب والائتمار وثلب111 الأعراض" وليس في توقيع هذه الأحكام قسوة ولا رحمة، لأن المرجع فيها الضرورة التي اوجبت القصاص وفرضته على الناس في أحوال السلم بين أبناء الأمة الواحدة، فضلا عن أحوال القتال بين الأعداء.
أسرى غزوة بدر
ويلحق بقتل ابن الأشرف ما أخذه بعض المستشرقين من قتل بعض الأسرى بعد غزوة بدر، وخروج النبي الى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها بعد انتهائها.. فهو أمر لا يصح الحكم فيه الا بالنظر الى موضعه وموقعه وأشخاصه، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الاسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب وانما هي حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة. وليست كحالة الأسرى الذين يقعون في أيدي أعدائهم غير معروفين بماض ولا بحاضر سوی أنهم جند كسائر الجند الذين يحشدهم الاعداء. فقتل الأسرى بعد بدر ان هو الا قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب ، وقد وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين. جاز هذا في كل قانون، وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء.. وفرق بين معاملة هؤلاء ومعاملة أسير كل ما تعلمه في شأنه أنه جندي لا بغضاء بينك و بينه قبل حمل السلاح ولا بعد وضع السلاح، وليس في عمله محل للثأر والمحاسبة بعد انقضاء واجبه و هو القتال الشريف . أما رؤية القتلى في ساحة الحرب ، فقد نسي فيها أولئك الناقدون أن اغتباط112 المنتصر بفوزه طبيعة انسانية لا غضاضة113 فيها.. ما لم تجاوز حدها الى الفرح برؤية الدماء لمحض الفرح برؤية الدماء. وهذا ما لم يزعمه أحد من شاهدي المعركة عن النبي عليه السلام، ولا نم عليه كلام أحد من المشركين أو المسلمين.
ونسي أولئك الناقدون كذلك أن الرجل الذي يرى الدم في المدنية العصرية، غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية وفي حياة البادية على الاجمال .. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها اراقة الدم كل يوم، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزى في كثير من الأيام..
فانك لا ترمي بالقسوة طبيبا قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها والأجسام الحية وجراحها.. لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات إن لم يألف الاطباء هذه المناظر و يملكوا چأشهم114 وهم يفتحون أعينهم عليها. ولكنك قد ترمي بالقسوة انسانا لم تقع عينه على منظر مثلها ثم هي تفاجئه فلا ينفر منها وما من رجل عاش في البادية وشهد غزوة من غزواتها يمكن أن يقال فيه أن ساحة الحرب تفاجئه بما لم يكن يراه، أو بما يستلزم النظر اليه قسوة في الطباع واستراحة الى رؤية الدماء.
كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدرا، لينظروا بعين النبي الى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الاسلام.. كان عليهم أن ينظروا هنالك بعين النبي الى جيشين.. أحدهما فيه السلاح والخيل والعدد، والآخر في ثلث من يقاتلونه عددا، ويكاد أن يتجرد من كل سلاح غير السيف ومن كل مطية غير الاقدام.. وكان عليهم أن يلمسوا اشفاق النبي من عاقبة هذه الوقعة، ويستمعوا اليه و هو يناشد ربه: « اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها115 تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني.. اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد..»
و كان عليهم أن ينظروا اليه، وقد مد يديه وشخص116 ببصره، وجمع نفسه في صلاته.. حتى جعل رداؤه يسقط عن منكبيه117 وأبو بكر يرده ويناديه: « بعض مناشدتك ربك فان الله منجز لك ما وعدك.. وهو لا يلتفت الى سقوط ردائه ولا الى مناداة صفيه، لاستغراقه في الدعاء..».
وكان عليهم أن يعلموا حرص قريش أن يستبقوا رجالا منهم يرجعون الى مكة قبل المعركة أو بعدها ليثابروا على مناو أة118 النبي، واعادة الكرة عليه حتى لا يهدأ له بال بعد الصبر على هذا الجهد ، وليس الصبر عليه بيسير..
كان على الناقدين أن يعلموا هذا كله ليعلموا أن الشعور بالفرح في مثل هذا الموقف العصيب أمر لا غرابة فيه، وانه شعور مطبوع في نفس حية تجاوب كل ما يحيط بها من بواعث الحياة في مواقف السلم أو مواقف القتال، فأول ما يبادر النفس الحية من شعور مطبوع صادق في ذلك الموقف أن تغتبط بالنصر، وتخرج من الضيق الى الفرج، وتنظر في ساحة الحرب الى من قضى فيها من قريش ومن عاد منها الى وكره ليعيد الكرة ويستأنف الايذاء والمكيدة، وأن ترى ما هي تلك الأسلاب119 والغنائم التي أوشكت أن تفتن بعض المقاتلين، لأنها أول شيء شهدوه من نوعه، ولما يتنزل حكم الدين في سلب أو غنيمة.
أن محمدا رجل حي جياش النفس بدوافع الحياة، وليس بناسك مهزول من نساك الصوامع الذين يكبون في جوانحهم120 كل دافعة وكل احساس.. فامتناعه أن يشهد نتيجة المعركة التي سبقتها كل تلك المخاوف، وستلحق بها كل تلك العواقب، أمر لم يكن بالمنتظر من قائد في مثل موقفه، ولم تكن توجيه الفطرة الانسانية على المقاتل.. وهو في اللحظة الأولى بعـد الظفر خليق121 أن يعلم مدى انتصاره، ومدى ما يتوقعه بعده، ومدى ما فعلته الفئة القليلة بالفئة الكثيرة، ليقيس عليه ما تفعله مثلها فيما يليها من وقعات، وهؤلاء مراسلو الصحف الحربيون الذين يدرسون اليوم أشباه هذه المواقف، يجدون من واجبهم ألا يتخلفوا عن ساحات القتال بعد إنجلاء الفريقين، ليشرحـوا دروس النصر والهزيمة بينهما، ويسجلوا ما لا غنى عن تسجيله في جميع الحروب، فانصراف محمد عن ساحة بدر على أثـر النصر عمل غريبه يخل بمكانة القائد، وبواجب التحقيق، والاستفادة من كل ما يفيد.
بعد معركة الأحزاب :
و نحن في صدد الحديث عن الرحمة والقسوة يحسن بنا أن نستقصي ما ذكره المؤرخون الأوربيون من مآخذ في هذا الباب، وأهمه عدا ما قدمناه قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة الأحزاب.. فان أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا للعرف المتبع في الحروب، وينسون أمورا لا يصدق الحكم في هذه المسألة ما لم يذكروها ويستحضروها اتم استحضار، وهي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات فلا يجدي معهم المواثيق122 من جديد، وانهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه،وان سعدا انما دانهم بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربهـا استدعها الى الصلح، فان أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالك بل عملت معك حربا فحاصرها، واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي اعطاك الرب الهك..» ( اصحاح ۱۰ الى ۱٥ تثنية).
وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا: ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب؟
فالقضاء الذي قضاه النبي في بني قريظة عدل وحكمة وصواب وما من احد يقضي غير ذلك القضاء، وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها ومن لددهم123 في خصومتها، ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها.
وان حملة تأديبية واحدة من حملات العصور الحديثة يحملها قوم مسلحون على قوم عزل يذودون124 عن أوطانهم وحقوقهم، لفيها من البطش والتعذيب ما لم يحدث قط نظير له في عقاب بني قريظة، ولا في جميع الحروب التي نشبت بين النبي عليه السلام و بين أعداء له ولدينه، هم المتفوقون عليه في العدد والثروة والسلاح.
ان عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب، وترضاها المروءة، وترضاها شريعة الله والناس، وترضاها الحضارة في أحدث عصورها، ويرضاها المنصفون من الأصدقاء والأعداء
- ↑ أي تكف
- ↑ التيقن والتأكد
- ↑ نقض
- ↑ من حيث اتى
- ↑ أي انتقل اليه وبلغه
- ↑ الخلف
- ↑ الآباء المتقدمين
- ↑ پدافعون
- ↑ ترفض
- ↑ المعوقات
- ↑ الاية 193 من سورة البقرة
- ↑ تنهي
- ↑ ترجع
- ↑ الاية 9 من سورة الحجرات
- ↑ المشق ، سرعة الطعن
- ↑ السيف
- ↑ قوة وقدرة
- ↑ مفر
- ↑ زادت
- ↑ الآية 84 من سورة النساء
- ↑ يمنع
- ↑ أرضه
- ↑ سببا ووسيلة
- ↑ قوة وقطع
- ↑ انقضى سيفه، سله
- ↑ سعة
- ↑ الشيء الذي لم يسبق إليه
- ↑ يستنكف
- ↑ المراد : أفذاذ وعباقرة
- ↑ fالمشاكلة
- ↑ أي معظم
- ↑ أي قدر
- ↑ الجدب: ضد الخصب: والمراد: القحط
- ↑ أي يرده
- ↑ أرجفوا في الشيء: خاصموا فيه
- ↑ هلاكا
- ↑ من المغالاة وهي مجاوزة الحد
- ↑ الشطط : مجاوزة القدر في كل شيء
- ↑ اي قوته وسداد
- ↑ المراد : اشرنا
- ↑ لعل المراد: طمسها
- ↑ لا تطعن ولا تؤثر
- ↑ الكذب والتمویه
- ↑ يستعين
- ↑ الفج: الطريق الواسع بين جبلين
- ↑ الدروب: باب السكة الواسع
- ↑ ينقضون العهد ويغدرون
- ↑ أقذعه: رماه بالفحش وشتمه
- ↑ ذمه
- ↑ لب الشيء ولبابه : خالصه
- ↑ التفنيد: اللوم وتضعيف الرأي
- ↑ يقتدى به
- ↑ وسائل
- ↑ متجسسا
- ↑ أجدر
- ↑ وراه توريه، أخفاه
- ↑ أي اهتمام
- ↑ يفسدون ويخربون
- ↑ أعوزه الشيء : إذا احتاج اليه فلم يقدر عليه
- ↑ أي يفضل الاسر ويطلبه
- ↑ الجذوة، الحجرة
- ↑ شدة الخصومة
- ↑ بطلت وفشلت
- ↑ الجبر
- ↑ المجبر
- ↑ اي فقدها في نفسه
- ↑ اهدا في دار
- ↑ التوقي
- ↑ عدم التسرع
- ↑ العارضة
- ↑ فقتله
- ↑ يوقدون
- ↑ الآية: 217 من سورة البقرة
- ↑ نجم الشيء ظهر وطلع
- ↑ ينقطع
- ↑ السيف القاطع
- ↑ قطعة من الجيش
- ↑ في الحال
- ↑ اي وقاية
- ↑ القائل بغير هدى فعدل عن الحق
- ↑ امر سديد واسد، اي قاصد
- ↑ الفرقة
- ↑ اي اغرب تعاونهم وتقاصرهم.
- ↑ اي ساندتموهم واعنتموهم
- ↑ فرصة
- ↑ نجز الشيء انقضى وفنى
- ↑ اي نفتلهم عن اخرهم
- ↑ المراد : قست واشتدت عليكم
- ↑ اي كفروا مسرعين
- ↑ أنفذ
- ↑ لا مهرب ولا مفر منه
- ↑ تشتعل
- ↑ اي اتقدت الشدة
- ↑ فرت
- ↑ يكشف
- ↑ يرده عن قصده
- ↑ لا مفر ومهرب منه
- ↑ ناهيات منه، بمعنی حسب
- ↑ تجاوز الحد
- ↑ غور كل شيء، قعره
- ↑ بطن الامر، عرف باطنه
- ↑ غلب
- ↑ تغريه
- ↑ جناية وذنب
- ↑ يطعن ويعيب
- ↑ يهم به ويتشاور فيه
- ↑ قال فيهن غزلا مكشوفا
- ↑ الحنث:الخلف في اليمين
- ↑ لاذ به: لجأ إليه.
- ↑ مسافة ما بين الشيئين
- ↑ صرح بالعيب فيها
- ↑ سرور
- ↑ ذلة ولا منقصة
- ↑ رواع القلب الا اضطراب عند الفزع
- ↑ اي كبريائها
- ↑ فتح عينيه وجعل لا يطرف
- ↑ المنكب : مجمع عظم العضدوالكتف
- ↑ معاداة
- ↑ ما سلب في ساحة الحرب من الاعداء
- ↑ الجوانح: الاضلاع التي تحت الترائب وهي مما يلي الصدر ، والمراد : القلوب
- ↑ جدير
- ↑ العهود
- ↑ شدتهم في الخصومة
- ↑ يدافعون