عبقرية محمد (1941)/السيد
الخير المطبوع
قدمنا الكلام في فصول هذا الكتاب عن محمد رئيسا ، و محمد صديقا ، و محمد زوجا ، ومحمد أبا ، بعد الكلام على عبقريته في الدعوة ، وعبقريته في قيادة الجيوش ، وعبقريته في السياسة والادارة والبلاغة وبقي جانب لا تتم بغيره الاحاطة بجوانب النفس الإنسانية في العلاقات بينها و بين سائر النفوس ، و هو جانب المعاملة التي تكون بين الرجل و من هم دونه ممن يملك أمرهم ، ويقبض على زمامهم ، ولا يعتصمون منه بعاصم غير عواصم (۱) طبعه وخلقه و نريده بهم الخدم والعبيد الأرقاء ، وهي معاملة لها من الدلالة على الأخلاق . ما يندر أن تدل عليه معاملة أخرى ، لأنها تأتي من طبائع النفس و عقائدها ، ولا تأتي بأمر قمر ، أو بدعوة داع فالصداقة لها الحقوق المتكافئة بین الصديقين ، لا يستطيع أحدهما أن ينساها زمنا طويلا إلا ذكره بها مذكر من صديقه الحافظ الحقوقه ، القادر على مقابلة الجفاء بمثله ، ولو في طرية نفسه • والرئاسة قد تخول (۲) الرئيس حق السيطرة، وتفرض على المرؤوسين واجب الطاعة ، غير أنها قل أن تنطلق بغير وازع من خشية النضب ، أو خشية الانتفاض ، يحسب ،له الرئيس كل الحساب أو بعض الحساب . والأب يحلف على بنية فلا يعجب الناس لعطفه عليهم ، لما ركب في طباع جميع الأحياء من حب الأب لولده ، وان اختلف الآباء في صفات العطف ، و في استحقاقهم لبر الأبناء و كذلك الزوج: يرفق بزوجته ، وليس له كل الاختيار في رفقه لما يكون بين الزوجين من دالة يعتز بها الضعيف ، و يستغني بها أحيانا عن القوة والرئاسة . د. موانع وحوافظ 2- تعطيه ۱۲۹ ، وهي و أما العبد المملوك، فلا عاصم له غير ما في نفس سيده من رحمة وخير ، وانه لمن الرحمة والغير أن يتبع السيد أمر الدين مع عبيده وخدمة الذين لا ينصرهم عليه ناصر في هذه الدنيا، بل انها لرحمة تؤثر ولو وقفت عند حدود الأوامر الالهية ، فاذا تجاوزتها الى طواعية في الخير لم يفرضها الدين و لم يفرضها العرف، ولم يطلبها العبد نفسه، فتلك هي الرحمة في أصدق معانيها أدل الدلالات على الباب (۱) الأخلاق ولقد علم القاريء من فصولنا السابقة أننا لم نكتب هذا الكتاب لشرح الأصول الاسلامية ، و تفصيل محاسن الدعوة المحمدية فذلك غرض لا تتسع له هذه الفصول ، وليس لنا أن نتصدى له بعد من فصلوه وكرروا الكتابة فيه وانما نقصد بهذه الفصول الى غرض قدمناه على كل غرض في موضوعه، و هو بيان البواعث النفسية التي توحي إلى النبي أعماله و معاملاته، ولا شك في مطابقة هذه البواعث لكل أمر من أوامر الدين و كل نهي من نواهيه، الا أن الخير المطبوع شيء والخير المأمور شيء آخر، والخير المطبوع هو الذي قصدنا الى بيانه بكل ما بيناه ، ففي كتابتنا عن معاملة محمد العبيد والخدم : لا ننوي أن نفصل أحكام الاسلام ، و أوامر القرآن في هذه المعاملة ، أن نبين مزية محمد على جميع السادة في هذا الباب، و هي مزية لا تتوافر لمن يقنعون بالتزام الأوامر والحدود ، ولا للذين يرتفعون الی أرفع مرتبة تفرضها هذه الأوامر والحدود . الاسلام والرق على أن هذا لا يمنعنا أن نوجز الاشارة بداءة الى مزية الاسلام بين الأديان الأخرى في مسألة الرق ، والاستعباد، لأن أناسا يخلطون بين اعتراف الاسلام بنوع من الرق ، و بين اعتباره مسئولا عن وجوده في الزمن القديم ، و يردون شيئا من ذلك اني عمل التبي عليه السلام ، فمن الواجب أن نذكر أولا، أن دينا من الأديان الأخرى لم يأمر بالغاء الرق في شكل من أشكاله ، سواء رق الحروب . وانما تنوي و - اللباب ، الفالهن + . كثيرة أو رق النخاسة (1) والبيع والشراء، وان أناسا من أقطاب المسيحية كالقديس أغسطين سوغوه (۲) واعتبروه جزاء عادلا للخطايا التي يقترفها (۳) المسترقون، وجاء بعض أحبار (4) الكنيسة فحرموا على الأرقاء شرف الخدمة فيها بالوعظ والهداية ، انفة لها أن بدنسها (2) لؤم العنصر الذي وسموا به الرقيق . ويجب أن نذكر بعد هذا أن النظام الاقتصادي القديم في أساسه كان مرتبطا بالاسترقاق أشد الارتباط ، فكان الغاؤه طفرة (1) واحدة أقرب شيء إلى المستحيلات ، ولم يكن أنفع في علاجه من التدرج خطوة خطوة والابتداء بتصعيبه وتر غيب الناس عنه و هو ما شرعه الاسلام - فالاسلام قد بدأ بتحريم كل رق نمير رق الأسرى في الحروب، ثم حسن اطلاقهم و سماه منا (۷) و عفوا يشكر فاعله عليه: « فأما منا بعد و اما فداء (۸) ثم أجاز للأسير أن يشتري نفسه ، و أوجب حريته في حالات معظمها الى ارادته هو ، اذا استطاع والحق الذي لا مراء فيه أن صنيع الاسلام هذا كان اجمل صنيع لتيه الأرقاء من دين أو شريعة . وانه اذا كان هناك تمهيد لالغاء الرقي بتة (۹)، فذلك هو تمهيد الاسلام دون غيره أقصى ما كان مستطاعا في نظام العالم القديم : نظام كان عدد الأرقاء فيه يقارب عدد الأحرار ، كما جاء في بعض الاحصاءات المروية عن الحضارتين الرومانية و اليونانية و قد نتلر في مسألة الرق عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة - ونعني به أرسطو - فأقره و أوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة ، و قیدا لا فكاك منه لطائفة من الناس ، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها ، فلا غنى لها عن سيد ولا موئل( ۱۰) لها من وال معاملة محمد العبيده ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن و اجمل و امتاز بأمر دينه على كل محسن الى الارقاء في زمانه ، و دو + ا- النحاس . بائع الدواب والرقيق - أجازوه ۳ - يرتكبها 4. علماء - يوسخها - الطفرة الوثبة 7 - من عليه ، أنعم - الآية 4 من سورة محمد و قطعا ۱۰- ملجأء 6 اليها وترجع الا أننا نقير الواقع ولا نتعداه قید (۱) شعرة حين نقول : ان كثيرا من الأبناء لا يتمنون عند آباثهم خيرا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد و عبيده ، و من من الآباء يحسن الى أبنائه خيرا من احسان محمد الزيد بن حارثة ولا بنه أسامة ؟ فقد أعتق زیدا ورآه أهلا للزواج بعقيلة (۲) من أقرب قريباته اليه ، و أولاهن بحد به (۳) و توقيره : و هي التي آها بعد ذلك أهلا الزواجه بها ، و حظوتها (4) لديه . فلم يعطه الحرية و كشي ، ولم يعطه المساواة في العيش و کفی ، بل رفعه الى المنزلة الاجتماعية التي يرتفع اليها السادة ، ولا يثبتها شيء كما يثبتهاشرف المصاهرة ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة ، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، و في الجيش طائفة من أكابر الصحابة . فلو كان للنبي ولدفي سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة ، ولا ميزه أشرف من هذا التمييز نعم لم تعد (5) الواقع، ولا تجوزنا في الوصف، حين قلنا : ان الابن لا يتمني خيرا من معاملة محمد العبده، فقد عرف زيد فعلا أن محمدا خير من أب ، و خير من أسرة كاملة يرجع اليه ، فبقي معه ولم يذهب مع أبيه ، ولم يبق معه ایثارا لبركة النبوة، فان محمدا لم يكن قد أرسل بالدعوة اختاره زيد ، وانما بقي معه لأنه الانسان الذي يعرف حتى العبد الرقيق أن أصرة الإنسانية عنده أوثق مسن آصرة الأبوة عند آخرين آن الوالد لوليده وراثة ألوف الالوف من الأجيال ، بل وراثة الحياة في جميع الأحياء ، فاذا بلغ البر بالضعفاء مبلغ الحب الأبوي من القوة ، فقد بلغ الذروة (1) العليا التي لا متسنم (۷) فوقها الراق لقد خيرت شريعة الاسلام المحسنين بين المن واعتاق الأسرى، و بين الفداء بالمال أو المبادلة ، فأيهما اختار المالك فهو احسان . أما محمد فقد اختار المن وزاد عليه . فأعتق كل أسير صار الى حوزته (۸) ، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل منتم اليه ، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالي من ام أي قدر ۴- العقيلة ، تحريمة الحي ۳- بعطفه 4- علو نزلتها و- اي ام فتجاوزه ۲ - ذروة الشيء ، قمعه واعلاه ۲ - تسنم الشيء : علاه 4- كل من فسم شيكا الى نفسه فقد جازه ، وأثره على جميع . حب ها ۱۳۲ ضرب وتعزير ، وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب الى الملاطفة منها الى العقاب ، ومن ذلك : قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق ، فما زاد على أن قال لها حين عادت
- « لولا
خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك ! • ضرب سواك لابن عزيز ليس بالشيء الكثير . ولكن محمدا يخشى القصاص اذا استباحه في معاملة وصيفة تهمل أمره ، وهو الذي لا يهمل له أمر عند سادة الشرفاء . وروى أنس أن النبي أرسله في حاجة ، فانحرف(۱) الى صبيان يلعبون في السوق، «واذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض ثيابي من وراثي ، فنظرت اليه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فقال : يا أنيس ! اذهب حيث أم تك ! » - كلمة أمر لا يقولها لخادمه الا وقد ناداه مدللا ،وقا بله ضاحكا كأنه يعتب على قرین (۲)، وقد يلام القرين بأشد من هذا الملام وكانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده ، فكان يجاملهم و يجبر كسرهم و يقبل منهم الهدية و يكافىء عليها، ويلبي دعوتهم اذا دعوه الى طعام ، و يوصي بهم قائلا: « هم اخوانكم وخولكم (۳) جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمة مما يأكل ، و يلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فان كلفتموهم فأعينو هم (۶)» و «اتقوا الله في الضعيفين : النساء والرقیق» البر بالخدمة وربما كان البر بالخدمة في هذا المقام أكرم وأنفي للهوان من البر بالخدم ۰۰ فالبر بالخادم عطف عليه ، أما البر بالخدمة فارتفاع بالخادم الى مقام السادة ، حيث لا يأنف (5) السادة من خدمة أنفسهم بأيديهم ، و ذلك هو البر بالخدمة كما عنيناه ، وذلك هو دأب (1) النبي الذي جرى عليه في بيته و بین أهله فقد كان يحلب شاته ، و يخصفه (۷) نعله و يخدم نفسه، ويعلف ناضجه - أي البعير الذي يستقي عليه الماء - فاذا رأى الخدم لهم عملا في البيت يماثل عمل سيدهم ومالك أمرهم ، فتلك هي 9 . وخدمة - ا- انحرف عنه : مال وعدل ؟ - صاحب او صديق - الفول : اسم يقع علی العبد والامة كم ساعدوهم - اي لا يستنكف - الداب: المادة والشان ۷- اي يصلحه . 4 المساواة التي تمسح ضير(۱) الخدمة وتجبر كسرها ، ولا تقتصر على العطف و الرحمة ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكر ين . فما كان في رجالات المسلمين كابر ابن كابر الا كان يتمنى أن يؤدي لنبيه تلك الخدمة التي تطوعت بها نفوس مواليه و أتباعه ، و هذا ضرب آخر من ضروب البر بالخدمة والتسوية فيها بين مقام الخادم و مقام المريد، فكان عمل الخادم عنده عمل التلميذ الذي يجلس إلى قدمي أستاذه، حبا لا خنوعا (۲) و تو قبرا (۳) لا مذلة ، و أدبا يفرضه على نفسه وليس بضريبة مكتوبة يفرضها عليه العرف والتأديب و على هذا كان النبي عليه السلام يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس ، فتحمل بينهم على محمل الذلة و الخضوع. قال أبو هريرة رضي الله عنه : « دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم فاشتری سراويل ، وقال للوزان : زن و أرجح ، فوثب الوزان إلى يد رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبلها، فجذب يده وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، ولست بملك ، انما أنا رجل منكم ، ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله يمدح أن يقال أن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خامه ، وأن تعويلهم عليه كان أكبر من تعويله عليهم ، وانه جعل الخدمة على سنته ضربا من توزيع الأعمال ، أو ضربا من تعاون أبناء البيت الواحد فيما يستطيعه كل منهم من تدبيره وقضاء شئو ته : « انما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد » هذه كلمة السيد بامامته ، السيد بنسبه ، السيد بسلطانه السيد بالتفاف القلوب حوله ، السيد بسيادته على سره وعلانيته ورأيه وهواه . ولو عمت هذه السيادة لبطل الاستعباد ، واصبح تفاوت الدرجات متفاوت الأعمار شيئا لا غضاضة (4) فيه على صغير ولا خنزوانة (5) فيه الكبير - انما هو تقسيم أعمال ، وتعاون بين اخوان ، وان لم يكن تعاو نا بين أمثال ولقد E < ط ا. فمررها 1- اي مهالة وذلا وخضوعا ۲- احتراما - كلة ومنقصة و - تكبره ۱۴