انتقل إلى المحتوى

عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/صورة مجملة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

صورة مجملة

من كلمات الامام التي لم يقلها أحد غيره كلمته في خطاب الدنيا حيث يقول : « يا دنيا غري غيري .. غري غيري !»

وانها لأكثر من كلمة ، وأكثر من دعاء ..

انها لسان قدر ، وعنوان حياة ..

فقد خلق الامام، وفي كل خليقة من خلائقه الكبار اجتراء على الدنيا، على ضرب من ضروب الاجتراء .

خلق شجاعاً بالغاً في الشجاعة ، وزاهدا عظيم الزهد ، ودارساً محباً للحقيقة الدينية يتحراها حيث اهتدى اليها ..

والشجاع جريء على الدنيا لأنه لا يبالي الحياة

والزاهد جريء على الدنيا لأنه لا يبالي النعيم..

وطالب الحقيقة جرىء على الدنيا لأنها طريق عنده الى غاية من ورائها ..

فأي مصير لهذا الرجل غير الشهادة في زمن لم يعرف بطارىء من الطواريء ، كما عرف بالاقبال على الدنيا ؟ . .. صام الناس قبله عن الدنيا ، ثم أقبلوا على الدنيا العريضة بحذافيرها .. هدأت حماسة الدعوة النبوية ، وثابت الطبائع إلى مألوفها الذي اشرجت عليه ، وتدفقت الأموال من الأمصار المفتوحة على نحو لم تعهده الجزيرة العربية قط في تاريخها القديم .. وأقبل الناس على الدنيا ، بل هر ولوا إلى الدنيا ... واذا بخليفة جرى عليها زاهد فيها ، يقف لهم في طريقها ويصدهم عنها .. يصد ماذا ؟ .. يصد الطوفان، وهو مندفع من وراء السدود ... يصد الطبيعة الانسانية ، وهي منطلقة يصد ما لا سبيل الى صده بحال .. فهو مستعد لا محالة ولو مات سريره من. عقال التقوى .. .. فان الانسان قد يعيش عيشة الشهداء ، ولا يلزم بعد ذلك أن يموت ميتة الشهداء .. وقد لزمته آية الشهادة في كل قسمة كتبت له ، وكل حركة سعى اليها أو سعت اليه ... 271Aفمن آيات الشهادة أن يساق الى الخلافة ، ولا حيلة له في اجتنابها .. و من آيات الشهادة أن يساق اليها في ساعة الفصل بينها وبين الملك ، وتقوم الحوائل كلها بينه وبينها قبل الأوان ... .. ومن آيات الشهادة انه يساق اليها ، ولا حيلة له في تحقيق اغراضها ولا في الخروج من مآزقها ومن آيات الشهادة أن يبتلى بأنصاره أشد من بليته بأعدائه ، ولا حيلة في تبديل أولئك الأنصار ... و من آيات الشهادة ألا تغره الدنيا ، وقد غرت حوله کل انسان ... فهو شهید ، شهید ، شهید . خرج الى الدنيا والشهادة مكتوبة على جبينه ، وخرج منها والشهادة مكتوبة على ذلك الجبين بضربة حسام .. وصورته الجملة لا تشق على مصور ولا على متفرس ، لأنها صورة المجاهد في سبيل الله بيده وقلبه وعقله ، أو صورة الشهيد وكل امتحان لقدرته أو لعمل من أعماله ، ينبغي أن ينعزل عن محنة القدر التي لا يغلبها غالب .. وقد كان له رأي عالم ، وفطنة حكيم ، ومشورة مدير .. ولكننا اذا قلنا انه أخفق في العمل لأنه لم يغلب القدر ، فذلك تكليف بما لا يطاق . ٢١٩ وانما تقول انه أخفق في العمل ونمسك ، ولعله لو تولى الخلافة قبلها أو تولى الملك بعدها لما ظهر منه ذلك الاخفاق ..

وحق لا شك فيه انه أخفق حيث يُشرفه اخفاقه ، وحيث يخفق الآخرون لو نصبتهم الأقدار في مثل مكانه ... ومات وقد حل مشكلة الخلافة بلسانه ، وهو الى اليوم موضع الخلاف عليها وعليه بين اصحاب المذاهب وأصحاب الأقوال في التاريخ .. فقد كان يود لو أن رسول الله استخلفه من بعده ، ولكنه لم يطلب اليه ذلك .. ولا رأى من الحكمة أن يطلبه اليه . قال ابن عباس ورسول الله في مرض الوفاة : ( اذهب الى رسول الله ، فسله فيمن يكون هذا الأمر .. فان كان فينا علمنا ذلك، وان كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا.. قال : ( والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً ... والله لا أسألها رسول الله ابداً ... وآمن الامام بحكمة الرسول ايمان محبة وتصديق ، ولكنه لم يفارق الدنيا حتى كان قد آمن بها ايمان تعليم وتطبيق . فلما سألوه : ( أنبايع الحسن ؟ ، قال : ( لا آمركم ولا أنها كم ، فأنصف الذين سبقوه ولم يفرضوا على الناس استخلافه، لأنهم رأوا في موقفه منها مثل ما رأوه - ٢٢٠ في موقف الحسن ابنه، على حكم سواء ..

أي ختام أشبه بهذا الشهيد المنصف من هذا الختام .. لقد ولد كما علمنا في الكعبة ، وضرب كما علمنا في المسجد .. فاية بداية ونهاية أشبه بالحياة التي بينهما من تلك البداية وتلك النهاية ... علاء الدين شوقي رفع أ. علاء الدين شوقى أسكنه الله الفردوس - ٢٢١