طربت وعادتنى المخيلة والسكر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

طَرِبتُ وعَادَتنى المَخيلة ُ والسُّكرُ

​طَرِبتُ وعَادَتنى المَخيلة ُ والسُّكرُ​ المؤلف محمود سامي البارودي


طَرِبتُ، وعَادَتنى المَخيلةُ والسُّكرُ
وَأَصْبَحْتُ لاَ يُلْوِي بِشِيمَتِي الزَّجْرُ
كَأَنِّيَ مَخْمُورٌ سَرَتْ بِلِسَانِهِ
مُعتَّقةٌ مِمَّا يَضنُّ بِها التجرُ
صَرِيعُ هَوىً، يُلْوي بِيَ الشَّوْقُ كُلَّمَا
تَلأْلأَ بَرْقٌ، أَوْ سَرَتْ دِيَمٌ غُزْرُ
إِذَا مَال ميزَانُ النَّهارِ رَأَيْتُنِي
على حَسراتٍ لا يُقاومها صَبرُ
يَقولُ أناسٌ إنَّهُ السِحرُ ضلَّةً
وَمَا هِيَ إلاَّ نَظْرَةٌ دُونَهَا السِّحْرُ
فَكَيْفَ يَعِيبُ النَّاسُ أَمْرِي، وَلَيْسَ لِي
وَلاَ لاِمْرِىءٍ في الحُبِّ نَهْيٌ وَلاَ أَمْرُ؟
ولَو كانَ ممَّا يُستطاعُ دِفاعهُ
لألوَت بهِ البيضُ المباتير والسُّمرُ
وَلَكِنَّهُ الْحُبُّ الَّذِي لَوْ تَعَلَّقَتْ
شرارتهُ بِالجمرِ لاحتَرقَ الجمرُ
عَلَى أَنَّنِي كَاتَمْتُ صَدْرِيَ حُرْقَةً
مِنَ الْوجْدِ لاَ يَقْوَى عَلَى حَمْلِها صَدْرُ
وَكَفْكَفْتُ دَمْعاً، لَوْ أَسَلْتُ شُئُونَهُ
عَلَى الأَرْضِ مَا شَكَّ امْرُؤٌ أَنَّهُ الْبَحْرُ
حياءً وكِبراً أن يقالَ ترجَّحت
بهِ صَبوةٌ، أو فلَّ من غَربهِ الهَجرُ
وإنِّى امرؤٌ لولا العوائقُ أذعَنت
لِسلطانهِ البدو المُغيرَةُ والحَضرُ
مِنَ النَّفَرِ الْغُرِّ الَّذِين سُيُوفُهُمْ
لَهَا في حَوَاشِي كُلِّ دَاجِيَةٍ فَجْرُ
إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ
تفزَّعتِ الأفلاكُ، والتفَتَ الدَهرُ
لَهُمْ عُمُدٌ مَرْفُوعةٌ، وَمَعاقِلٌ
وألوِيةٌ حُمرٌ، وأفنيَةٌ خُضرُ
وَنَارٌ لَهَا فِي كُلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبٍ
لِمُدَّرِعِ الظَّلْمَاءِ أَلْسِنَةٌ حُمْرُ
تَمُدُّ يَداً نَحْوَ السَّمَاءِ خَضِيبَةً
تصافحها الشِعرَى، ويلثِمُها الغَفرُ
وَخَيْلٌ يَعُمُّ الْخَافِقَيْنِ صَهِيلُهَا
نزائعُ معقودٌ بِأعرافِها النَّصرُ
مُعَوَّدةٌ قَطعَ الفيافى، كأنَّها
خُداريَّةٌ فتخاءُ، ليسَ لَها وكرُ
أقاموا زماناً، ثمَّ بدَّدَ شملهُم
ملولٌ منَ الأيَّامِ، شيمتُهُ الغدرُ
فلم يبقَ منهُم غيرُ آثارِ نِعمَةٍ
تضوعُ بِريَّاها الأحاديثُ والذكرُ
وَقَدْ تَنْطِقُ الآثَارُ وَهْيَ صَوَامِتٌ
ويُثنى بريَّاهُ على الوابلِ الزَّهرُ
لَعَمْرُكَ مَا حَيٌّ وَإِنْ طَالَ سَيْرُهُ
يُعدُّ طليقاً والمنونُ لهُ أسرُ
وما هذهِ الأيامُ إلاَّ منازلٌ
يَحُلُّ بِها سَفْرٌ، وَيَتْرُكُهَا سَفْرُ
فلا تَحسبنَّ المرءَ فيها بِخالدٍ
وَلَكِنَّهُ يَسْعَى، وَغَايَتُهُ الْعُمْرُ