وكانت أنطاكية أيضاً مركزاً ثقافياً هاماً فاتجهت أنظار المؤمنين في ولاية الشرق إلى رعاة أنطاكية ومن شـد أزرهم للدفاع عن الدين القويم، وهل ننسى أن بطرس وبولس وبرنابا اشتركوا في تأسيس كنيستها وأن الإخوة فيهـا ساهموا مساهمة فعالة في الإنفاق من أموالهم لأجل يسوع ومن أحب وأن المسيحيين دعوا مسيحيين أولاً في أنطاكية.
ومثل هـذا يصح إلى حد بعيد عن كنيسة الإسكندرية، فالإسكندرية كانت لا تزال أكبر مدن الشرق كله وأوسعها متجراً وأسبقها علماً وثقافة. وكانت جاليتها اليهودية أهم جاليات اليهود خارج فلسطين ولهـا كلمتها بينهم. فسبقت كنيسة الإسكندرية سائر كنائس الكنيسة إلى التذرع بالعلم والفلسفة والعكف على الأسفار المقدسة والدفاع عن العقيدة فأصبحت هي المعلمة الأولى.
وإذا كانت أنطاكية عاصمة ولاية الشرق وأفسس عاصمة آسية الساحلية والإسكندرية عاصمة مصر والقيروان فإن رومة كانت في هذه القرون الأولى عاصمة الإمبراطورية بأسرها واليها تشد الرحال وفيهـا تفصل المشاكل وعنها تصدر الأحكام. وأمسى أسقفها، والحالة هـذه، ممثل الكنيسة الجامعة أمام السلطات المدنية العليا يدافع عن حقوق الكنيسة جمعاء ويتحمل مسؤولية أقوال المسيحيين وأفعالهم في جميع أرجاء الإمبراطورية. وجذبت عاصمة الدولة كبار المفكرين المسيحيين كما جذبت بطرس وبولس وعلموا فيها فجعلوا منها مركزاً عقائدياً يشابه مركز الإسكندرية. واشتهر المؤمنون فيها بغيرتهم وعطائهم فشملوا كثيرين بعطفهم ومحبتهم الحقيقية في أقصى ولايات الدولة كما يشهد بذلك أفسابيوس المؤرخ وغيره.
ولكن ليس في المراجع الأولية ما يثبت قول علماء الكثلكة بسلطة خصوصية تمتع بها أساقفة رومة وفرضوها على سائر الأساقفة. فلو عدنا معهم إلى النصوص التي يتذرعون بها لتدعيم رأيهم، إلى رسائل أغناطيوس المتوشح بالله ومصنف إيريناوس وَنصَب أبركيوس، لوجدناها غامضة لا تلزمنا بأي استنتاج منطقي يعطي رومة حق السلطة على جميع كنائس الكنيسة.