وجاء عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر (١٣٣٢–١٤٠٦) فكتب في مقدمته في «طبائع العمران» وجعل من هذه الطبائع محكاً علمياً لنقد الأخبار التاريخية وتمحيصها فسجل بذلك فوزاً كبيراً. ونحن وإن خالفناه في صحة هذه الطبائع وفي وجوب تطبيقها على حوادث الماضي لا يسعنا إلا أن نعترف بفضله وبتفوقه على سائر من كتب في التأريخ قبله وسنعرض على القارئ شيئاً من هذا في حينه في فصل لاحق من فصول هذا الكتاب. وعاصر ابن خلدون فلافيوس بلوندوس الإيطالي (١٣٨٨–١٤٦٣) الذي كتب في تاريخ رومه وحكَّم عقله وطبَّق منطقه الفطري فقذف بأساطير زملائه السابقين إلى حيث يطرح سقط المَتَاع. فكان خير زميل لجاره التونسي الكبير.
وأدت الاكتشافات الجغرافية واليقظات العلمية الفنية والمنازعات الدينية والمطامع السياسية والوثبات الفلسفية في القرون الحديثة في أوروبة إلى الرجوع إلى الماضي وتقليب صفحاته والاهتمام بأخباره اهتماماً شديداً ولكن رائد المؤرخ الأوروبي في القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر بقي طوال هذه العصور مجرد استغلال الماضي لصوالح سياسية أو دينية. ولم يدرس لذاته أي للوصول إلى الحقيقة المجردة.
وأول من نادى بنقل التاريخ من ميادين الخصام والنزاع والحرب إلى مجالس الدرس والتدقيق العالم الإيطالي جيوفني فيكو (١٦٦٨–١٧٤٤) فإنه درس أفلاطون وغروتيوس فدفعه الأول إلى درس بعض كبريات مسائل التاريخ والفلسفة وبعثه الآخر على درس فلسفة القانون. وفي السنة ١٧٢٥ أصدر كتابه «أصول علم جديد» اعتبر به التاريخ فرعًا من علم المجتمع الإنساني، وذهب إلى أن البحث التاريخي الحقيقي يقوم على أصول منطقية دقيقة. وقال بمبدأ التطور