صفحة:في ظلال القرآَن (1953) - سيد قطب.pdf/20

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.
– ١٦ –

واتصال الروح بالغيب المجهول .. الغيب الذي لا تدركه الحواس، ولا يحيط به الفكر، ولكن تطلع عليه البصيرة وتستشفه الروح؛ ويدركه الإنسان بكيانه كله في ومضة، لأن برهانه مستقر في كيان الإنسان كله، متلبس بأعمق الأعماق في الضمير.

ومتى استقر وجدان التقوى في الضمير، اتحد فيه الإيمان بالغيب بإقامة الصلاة عبادة الله؛ وبالإنفاق شكراً على نعمته وبراً بخلقه وتضامناً بين عباده؛ واتحد فيه كذلك بالإيمان بالرسالة الإلهية كلها، في جميع أطوارها وحلقاتها؛ ثم أتحد فيه بالإيمان بالآخرة فهي غيب من الغيب: « وبالآخرة هم يوقنون ».

هذه الوحدة بين الظاهر والباطن، بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بين الإيمان بالرسالة الحاضرة والرسالات الماضية، بين الدنيا والآخرة، بين العبادة والسلوك .. هذه الوحدة الشعورية الكبرى، التي تجمعها كلها كلة التقوى .. هي سمة الإسلام الأولى. السعة التي ارتسمت من خلال اللمسات السريعة، وانتفضت صورة حية. صورة المتقين. إحدى الصور الثلاث التي ترتسم في تلك الكلمات القلائل والأسطر المعدودات.

فأما الصورة الثانية فتلك صورة الكافرين:

« إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم.

فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين. فالإنذار بالكتاب وعدم الإنذار سواء بالنسبة إلى الكافرين. إن المنافذ المفتحة في أرواح المتقين، والوشائج التي تربطهم بالوجود كله وخالق الوجود .. هذه المنافذ المفتحة كلها هناك، مغلقة كلها هنا. وهذه الوشائج الموصولة كلها هناك، مقطوعة كلها هنا: « ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم » ختم عليها فلا إلهام ولاشعور، « وعلى أبصارهم غشاوة » فلا نور ولا بصيص من نور ..

إنها صورة صلدة مظلمة جامدة، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة. حركة الختم على القلوب والأسماع، والتغشية على العيون والأبصار.

ثم ننتقل إلى الصورة الثالثة، أو النموذج الثالث، فماذا نرى؟

إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها؛ وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها؛ ولكنها تتلوى في الحس، وتروغ من البصر، وتخفى وتبين .. إنها صورة المنافقين:

« ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا؛ ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون »