بمكره، وقد يتغابى ويعمل ما يريده المتداهي عليه؛ لأنه أدرك مرمى كلامه، وفهم ما فيه من صواب، كما صنع مع عمرو بن العاص في خطبة أم كلثوم بنت علي — رضي الله عنهما — وسيأتي الكلام عنها في فصل تالٍ.
على أنَّ القدرة الذهنية التي امتاز بها عمر في غنى عن الاستدلال عليها بما قال وما قيل فيه، وما دار بينه وبين بعض القوم من المساجلات والمحاورات، إنه عمل لم يعمله إلا القليل من أقدر الحكام في تاريخ بني الإنسان، وكفى بذلك دليلًا على قدرته الذهنية لا حاجة بعده إلى دليل. ساس شعوبًا بينها من الاختلاف مثل ما بين العرب والفرس، وبين الفرس والقبط والسوريين، ونصب ولاة، وانتدب قوادًا، وسيَّر بعوثًا، وأشرف على ميادين قتال، وأقام نظمًا في الحكومة، وراقب رعاة ورعية فيما يعلنون وما يبطنون، ونجح في كل ما عمل نجاحًا منقطع النظير، غير مردود إلى المصادفة ولا إلى ارتجال المغامرين، وليس هذا كله مما يضطلع به رجل محدود الفكر، ضيق الأفق، قليل الخبرة بالجماعات والأفراد. فإذا استوفى هذا الحظ الوافي من القدرة الذهنية، فذلك حسبه منها وحسب كل من تصدى لمثل عمله، ونهض بمثل وقره،٢٨ ولا عليه بعد ذلك أنه لم يفكر على نمط الفلاسفة، وأقطاب العلم، وأساطين المنطق والرياضة، فإن الدنيا لم تخرج لنا عمر ليزيدنا أفلاطون آخر أو إقليدس ثانيًا أو «فاراداي» سابقًا في الزمن القديم، بل أخرجته للناس ليكون مؤسس عهد ومحوِّل تاريخ. فإذا تأدى به عقله إلى تلك الغاية، فهو العقل الصائب، يفكر على النحو الذي خلق له ويبلغ القصد الذي رمى إليه. وعلينا نحن أن نعرف كيف كان تفكيره وأن نسلكه بين قرنائه وأنداده.
إنما طرأت شبهة العقل المحدود على المستشرقين الذين ظنوا به هذا الظن من ناحية واحدة، وهي ناحية العدل الذي لا يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، والقضاء الذي يكيل الجزاء دقة بدقة، ولا يبالي بالنقائض والمفارقات..
(۱) أي هدفه - (۲) هما ينساجلان : أي يتباريان . (۳) أي أنام . (4) أي يقوم . (5) الوتر : الحمل - (۹) أي نسق وطريفة .