روافد شتى: بعضها من وراثة أهله، وبعضها من تكوين شخصه، وبعضها من عبر أيامه، وبعضها من تعليم دينه، وكلها بعد ذلك تمضي في اتجاه قويم١ إلى غاية واحدة لا تنم على افتراق.
لم يكن عمر عادلًا لسبب واحد، بل لجملة أسباب:
كان عادلًا؛ لأنه ورثَ القضاءَ من قبيلته وآبائه، فهو من أَنْبَهِ٢ بيوت بني عدي الذين تولوا السفارة والتحكيم في الجاهلية، وراضوا٣ أنفسهم من أجل ذلك جيلًا بعد جيلٍ على الإنصاف وفصل الخطاب، وَجَدُّهُ نفيلُ بنُ عبد العزى هو الذي قضى لعبد المطلب على حرب بن أمية حين تنافرا إليه، وتنافسا على الزعامة، فهو عادلٌ من عادلين، وناشئٌ في مهدِ الحكم والموازنة بين الأقوياء..
وكان عادلًا؛ لأنه قويٌّ مستقيمٌ بتكوين طبعه.. وإن شئت فقل أيضًا بتكوينه الموروث؛ إذ كان أبوه الخطَّاب وجَدُّه نفيل من أهل الشدة والبأس٤، وكانت أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة قائد قريش في كل نضال، فهو على خليقة الذي لا يحابي٥؛ لأنه لا يخاف، والذي يخجل من الميل إلى القوي؛ لأنه جُبن، ومن الجور على الضعيف؛ لأنه عِوَج يزري٦ بنخوته٧ وشممه٨..
وكان عادلًا؛ لأن آله من بني عدي قد ذاقوا طعمَ الظلم من أقربائهم بني عبد شمس، وكانوا أشداءَ في الحرب يُسَمُّونهم لعقة الدم،٤ ولكنهم غُلِبوا على أمرهم لقلة عددهم بالقياس إلى عدد أقربائهم، فاستقرَّ فيهم بغضُ القويِّ المظلوم للظلم، وحبه للعدل الذي مارسوه ودَرِبوا عليه، وساعدت عِبَر الأيام على تمكين خليقة العدل في خلاصة هذه الأسرة، أو خلاصة هذه القبيلة، ونعني به عمر بن الخطَّاب.
وكان عادلًا بتعليم الدِّين الذي استمسك به، وهو من أهله بمقدار ما حاربه وهو عدُّوه؛ فكان أقوى العادلين، كما كان أقوى المتقين والمؤمنين.
وكذلك اجتمعتْ عناصرُ الوراثة الشعبية، والقوَّة الفردية، وعبر الحوادث، وعقيدة الدِّين في صفة العدل التي أوشكت أن تستولي فيه على