صفحة:عبقرية عمر (المكتبة العصرية).pdf/32

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
تحتاج هذه الصفحة إلى تصحيح.

–٣٤–

جميع الصفات.

كان عادلًا لأسباب، كأنه عادلٌ لسببٍ واحدٍ لقلَّة التناقض فيه. وربما كان تعدُّد الأسباب هو العاصم الذي حمى هذه الصفة أن تتناقض في آثارها؛ لأنه منحَها القوةَ التي تشدها كما يشد الحبل المبرم١، فلا تتفكك ولا تتوزع، فكان عمرُ في جميع أحكامه عادلًا على وَتِيرَةٍ٢ واحدة لا تفاوت بينها، فلو تفرقت بين يديه مائة قضية في أعوام متباعدات، لكنت على ثقة أن تتفق الأحكام كلما اتفقت القضايا، كأنه يطبعها بطابع واحد لا يتغير.

إلَّا أنَّ الصفات إذا بلغت هذا المبلغ من القوة الرائعة، لم تكد تسلم من طروءِ التناقض عليها، وإن سلمت منه بطبيعتها؛ لأنها تدخل في صفات البطولة التي تثير الإعجاب والمبالغة، وكلُّ بطولة فهي عرضةٌ للمبالغات والإضافات، ومن ثمَّ لا تسلمُ من تناقض الأقاويل.

وصفاتُ عمرَ كلُّها صفات لها طابع البطولة، وفيها دواعي الإغراء بالإعجاب والمبالغة. وممن؟! من الأصدقاء المصدقين؛ لأنهم لا يتهمون بقصد السوء، وهم في الواقع أولى بالاحتراس من الخصوم المتهمين، فمن هنا يجيء التناقض لا من طبيعة الصفات التي تأباه.

فالعدل مثلًا هو المساواة بين أبعد الناس وأقربهم في قضاء الحقوق، وإقامة الحدود.

وليس أقرب إلى الحاكم من ابنه.

فإذا سَوَّى الحاكم بين ابنه وسائر الرعية، فذلك عدلٌ مأثورٌ يَقْتدي به الحاكمون.

ولقد سَوَّى عمر بين أبنائه وسائر المسلمين، فبلغ بذلك مبلغ البطولة في هذه الصفة النادرة بين الحكام.

وذلك كافٍ في تعظيمِ قَدْرِه، لا حاجةَ بعده إلى مزيد.

إلا أنها صفةٌ من صفاتِ البطولة التي تروع٣ وتعجب، وتملأ النفسَ بالرغبة في التحدث بها والإطنابِ٤ في أحاديثها، فهي لا تكفي المبالغين حتى


  1. الحبل المبرم : المفتول فتلا شديدا
  2. أي طريقة
  3. من راعه الشيء:أعجبه
  4. الأطالة والبلاغة في الوصف