صفحة:داعي السماء.pdf/69

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
داعي السماء

وعلى هذا الحنان في طويته لمولاه العظيم كان للرجل ضميرٌ يعرف الإصرار على الرأي كأشد ما عرف مؤمن بعقيدة ونافر من رذيلة.

وربما كان في الإصرارشيء من عناد بني جلدته أبناء الحبشة المولدين وأبناء السلالة السوداء. إلا أن العناد خصلة ذات لونين أحدهما يحمد ويفيد وثانيهما يذم ويضير. فالعناد أحد لونيه ثبات على الصواب والعقيدة. وفي لونه الآخر ثبات على الخطأ والهوى، ولم نعرف من العناد في تاريخ بلال إلا أجمل اللونين وأشبههما بقوة الآسر وخلائق الأمناء.

من ذلك عناده للمشركين حين ساموه العذاب ليفتنوه عن دينه ويكرهوه على سب نبيِّه كما تقدم في وصف إسلامه، ومنه إصراره على ترك الأذان لغيره حين وقر في نفسه أن أذانه بعد رسول لله نقص في الوفاء، وربما كان منه إصراره على الجهاد والسفر من المدينة إلى الشام حين سأله الخليفة البقاء، فقال له في رواية مشهورة:

إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله عز وجل فذرني أذهب إلى لله عز وجل.

وأبى إلا أن يمضي حيث أراد. ولا شك أن الرحمة بالأعداء أمر لا ينتظر من رجل طال عهده وعهد قومه وآبائه بقسوة الطغاة وعذاب اللؤماء، فإن رحمة رجل كهذا لمن أحسنوا إليه وسالموه خلق مفهوم لا غرابة فيه، أما الخلق الذي يستغرب منه حقٍّا فهو رحمته في ميدان قتال أو رحمته خاصة لمن أفرط في الإساءة إليه.

ولهذا لا نستغرب ما روي عن بلال بعد وقعة خيبر وما روي عنه بعد وقعة بدر مع المشركين. ومنهم أظلم الناس له وأقساهم عليه.

فلما افتتح النبي حصن القموص بخيبر جيء له بصفية بنت صاحب الحصن وقريبة لها دون سنها. فأرسلهما عليه السلام مع بلال إلى رحله. فمر بهما بلال على القتلى من قومهما فصاحت البنت الصغيرة صياحًا شديدًا ولطمت على وجهها. وعلم النبي بما صنع فقال له عاتبًا: أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بجارية حديثة السن على القتلى؟ فكان عذر بلال الذي اعتذر به جوابه: يا رسول لله ما ظننت أنك تكره ذلك وأحببت أن ترى مصارع قومها!

أما في وقعة بدر فقد كان عذره أوضح وأسلم من عذره في وقعة خيبر.

68