صفحة:داعي السماء.pdf/70

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
صفات بلال

فقد رأى أمية بن خلف وابنه بعد الوقعة في صحبة عبد الرحمن بن عوف يقودهما كما يقاد الأسرى، وقد كانا أشد الناس إيذاءً للمستضعفين من المسلمين كما تقدم، وكان بلال أوفر المسلمين نصيبًا من ذلك الإيذاء اللئيم. فما وقعت عينه على أمية حتى صاح بالمسلمين من حوله: رأس الكفر أمية بن خلف. لا نجوت إن نجا. ولم يغن عنه دفاع عبد الرحمن بن عوف، بل جعل بلال يهم بقتله ويصيح: لا نجوت إن نجا. لا نجوت إن نجا. حتى اجتمع حولهم خلق كثير، وضرب أحدهم ابن أمية فوقع صريعًا فإذا بأمية يصيح من الفزع صيحة لم يسمع بمثلها. قال عبد الرحمن بن عوف: انج بنفسك ولا نجاء بك! فولله ما أغني عنك شيئًا، ولكن المقاتلين هبروهما بأسيافهم قبل أن يخلصله سبيل إلى الفرار.

وقد يزيد في وضوح العذر لبلال من هذه القصة أن أمية هذا كان من أحق الناس بالبغض وقلة الرحمة؛ لأنه كان يعذب المستضعفين تعذيب الجبان اللئيم لا تعذيب الساخط الغيور على عقيدة، وكان يرهب القتال ولا يعرض حياته لمغامرات الحرب التي أقدم عليها شجعان المشركين. فما هو إلا أن سمع بنذير النبي إياه بالقتل حتى ارتعدت فرائصه وراح يسأل عن المكان الذي توعده بالقتل فيه، فصارح قومه بالقعود عن القتال وأنه لا يخرج لحرب المسلمين في غزوتهم تلك وهو مقصود بذلك الوعيد، ولم يتحرك للخروج حتى جاءه أبو جهل بين الملأ بمجمرة يبخره بها، وقال له: تجمر يا هذا فإنما أنت من النساء.

ولما نشبت المعركة ببدر كان هو وابنه في طليعة الناكصين عن القتال، ثم قتل ابنه فكانت صيحته عليه صيحة فزع لا تسمع في ميدان. فإنما كان تعذيبه المسلمين من لؤم الجرأة على الضعيف وهو آمن في عقر داره، ولم يكن من لدد العقيدة التي يغار عليها الرجل الشجاع ويلقى الموت هو وأبناؤه من أجلها غير وكلٍ ولا هيَّاب. وليس أحق من مثل هذا ببغضاء المنتقم في ساعة القصاص، وكفى لبلال عذرًا في هيجة غضبه عليه أنه يعلم إنذار النبي إياه بالقتل وأن أبا بكر هنأه بعد قتله فقال:

هنيئًا زادكَ الرحمنُ خيرًا
لقد أدركت ثأرك يا بلالُ

وفي غير هذه الهيجة التي تدرك أحلم الناس في مواطن النقمة وحومة الحرب لم تكن شدة بلال غير حمية الرجل الفطري الذي تبدو منه القسوة وهو لا يعنيها، وكان في جملة أحواله مثلًا للخلق الوديع والطيبة الرضية وحلاوة النفس والاتضاع، فكان يخجله

69