الأربعن من عمره وحجبناه عن العالم وألزمناه أن يعيش بين أربعة جدران وسط النساء والأطفال والخدم لشعر بانحطاط تدريجي في قواه العقلية والأدبية ،ولا بد أن يأتي يوم يجد فيه نفسه مساويًا لهم .فإذن يكون من الخطأ أن نتصور أننا متى علمنا بناتِنا جاز ِلنا أن نحجبهن متى بلغن سنٍّا مخصوصا ،وأن مجرد ذلك التعليم الأول يكفي في التوقي من الضرر .لأن الضرر في الحجاب عظيم ،وهو ضياع ما كسبنَه بالتع ُّلم ،وحرمانهن من الترقي في مستقبل العمر ،والأمر في ذلك واضح لا يحتاج إلى دليل .ويكفينا أن نرجع إلى أنفسنا ونخطر ببالنا ما كنا َّ عليه في الخامسة عشرة من عمرنا، فيتبن لنا أننا كنا أشبه بالأطفال ،لا نكاد نعلم شيئًا من العالم ولا نعرف للحياة قيمة ،ولا نميز كمال التمييز بين ما لنا وما علينا ،ولا تمتاز لدينا حقوقنا وواجباتنا ،وليس لنا عزيمة ثابتة في مجاهدة أنفسنا ،وإن أكبر عامل له أثر في تكميلنا هو استمرار تعلمناوتربية عقولنا ونفوسنا استمرا ًرا لا انقطاع معه .وإن ذلك لم يتم لنا بقراءة الكتب ،بل بالمشاهدة واالممارسة والمخالطة وتجربة الناس والحوادث.
وفي الحقيقة إن تربية الإنسان ليس لها ِسنٌ معين تنقطع بعده ،ولا حد معروف تنتهي عنده ،فهي لا تُنال بحفظ مقدار من العلوم والمعارف يُجهد الإنسان نفسه في اكتسابه في سنين معدودة ،ثم يقضي حياته بعد ذلك في الراحة.
التربية ليست ذلك الشيء البسيط الذي يفهمه عامة الناس ،حيث يتصورون أنها عبارة عن تخزين كمية من المعارف المقررة في بروجرامات المدارس ،ثم امتحان ،ثم شهادة ليس بعدها إلا البطالة والجمود ،وإنما التربية هي العمل المستمر الذي تتوسل به النفس إلى طلب الكمال من كل وجوهه ،وهذا العمل لا بد منه في جميع أدوار الحياة ،حيث يبتدئ من يوم الولادة ولا ينتهي إلا باالموت.
وإذا أراد القارئ أن يتبين صحة ما أسلفته من مضار الحجاب على وجه لا يبقى للريب معه مجال ،فما عليه إلا أن يُقارن بين امرأة من أهله تعلمت ،وبين أخرى من أهل القرى أو من المتجرات في المدن لم يسبق لها تعليم ،فإنه يجد الأولى تُحسن القراءة والكتابة وتتكلم بلغة أجنبية وتلعب البيانو ،ولكنها جاهلة بأطوار الحياة بحيث لو استقلت بنفسها لعجزت عن تدبير أمرها وتقديم حياتها ،وأن الثانية مع جهلها قد أحرزت معارف كثرية اكتسبتها من المعاملات والاختبار وممارسة الأعمال والدعاوى والحوادث التي مرت عليها، ُوأن كل ذلك قد أفادها اختباراً عظيمًا ،فإذا تعاملتا َغلبَت الثانية الأولى.