صفحة:آثار البلاد وأخبار العباد.pdf/56

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
صُححّت هذه الصفحة، لكنها تحتاج إلى التّحقّق.
57

حيلة عجيبة وذاك أن تأبّط شرّا وعمرو بن برّاق والشّنفرى خرجوا يرون بجيلة فبدرت بهم بجيلة فابتدر ستّة عشر غلاما من سرعانهم وقعدوا على ماء لهم وأنذر تأبّط شرّا بخروج القوم لطلبة فشاور صاحبيه فرجعوا إلى قلّة هذا الجبل وإنّه شاهق مشمخّر وأقاموا حتى يضجر القوم وينصرفوا فلمّا كان اليوم الثالث قالا لتأبّط شرّا :رد بنا وإلّا هلكنا عطشا! فقال لهما : البثا هذا اليوم فما للقوم بعد اليوم مقام.

فأبيا وقالا له : هلكنا فرد بنا وفينا بقيّة. قال : اهبطا. فلمّا قربوا من الماء أصغى تأبّط شرّا وقال لصاحبيه : إني لأونس وحبيب قلوب الرصد على الماء! قالا : وجيب قلبك يا تأبّط! قال : كلّا ما وجب وما كان وجّابا ولكن رد يا عمرو واستنقض الموضع وعد إلينا. فورد وصدر ولم ير أحدا فقال :ما على الماء أحد. فقال تأبّط شرّا : بلى ولكنّك غير مطلوب. ثمّ قال : رد يا شنفرى واستنقض الموضع وعد. فورد الشنفرى وشرب وصدر وقال :ما رأيت على الماء أحدا.

قال تأبّط شرّا : بلى ما يريد القوم غيري! فسر يا شنفرى حتى تكون من خلفهم بحيث لا يرونك وأنت تراهم فإني سأرد فأؤخذ وأكون في أيديهم فابدلهم يا عمرو حتى يطمعوا فيك فإذا اشتدّوا عليك ليأخذوك وبعدوا عني فابدر يا شنفرى حلّ عني وموعدنا قلّة جبل الحديد حيث كنّا وورد تأبّط شرّا وشرب الماء فوثب عليه القوم وأخذوه وشدّوا وثاقه فقال تأبّط شرّا :يا بجيلة إنّكم لكرام فهل لكم أن تمنّوا عليّ بالفداء وعمرو بن برّاق فتى فهم وجميلها على أن تأسرونا أسر الفداء وتؤمنونا من القتل ونحن نحالفكم ونكون معكم على أعدائكم وينشر هذا من كرمكم بين أحياء العرب؟ قالوا : أين عمرو؟ قال : ها هو معي قد أخّره الظمأ وخلّفه الكلال!فلم يلبث حتى أشرف عمرو في اللّيل فصاح به تأبّط شرّا : يا عمرو إنّك لمجهود فهل لك أن تمكّن من نفسك قوما كراما يمنّون عليك بالفداء؟قال عمرو : أمّا دون أن أجرّب نفسي فلا. ثمّ عدا فلا ينبعث فقال تأبّط شرّا : يا بجيلة دونكم الرجل فإنّه لا بصر له على السعي وله ثلاث لم يطعم شيئا! فعدوا في أثره فأطمعهم عمرو عن نفسه حتى أبعدهم وخرج الشنفرى وحلّ تأبّط شرّا وخرجا يعدوان ويصيحان : يعاط يعاط! وهي شعار تأبّط شرّا فسمع عمرو أنّه نجا واستمرّ عدوا وفات أبصارهم واجتمعوا على قلّة الجبل ونجوا ثمّ عادوا إلى قومهم فقال تأبّط شرّا في تلك العدوة :

يا طول ليلك من همّ وإبراق
ومرّ طيف على الأهوال طرّاق
تسري على الأين والحبّاب مختفيا
أحبب بذلك من سار على ساق