انتقل إلى المحتوى

شرح العمدة في الفقه/كتاب الحج

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​شرح العمدة في الفقه​ المؤلف ابن تيمية
كتاب الحج


في بيان مناسك الحج والعمرة

كتاب الحج

[عدل]

جماع معنى الحج في أصل اللغة قصد الشيء واتيانه ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجيء ويسمى ما يقصد الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به سواء قصده القاصد لمصلحته أو لمصلحة غيره ومنه قول النبي من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه

وقول في حاجة الله وحاجة رسوله

ومعلوم أنه إنما يقصد ويؤتى ما يعظم ويعتقد الانتفاع به وإذا كان كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة الحج القصد ويقول بعضهم هو القصد إلى من يعظم ويقول بعضهم كثرة القصد إلى من يعظمه ورجل محجوج ومكا محجوج أي مقصود مأتي ومنه قوله

وأشهد من عوف حلولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت يقول يكثرون الاختلاف إليه

وقوله % قالت تغيرتم تم بعدي فقلت لها % لا والذي بيته يا سلم محجوج % ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرقي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وقال تعالى { وأذن في الناس بالحج } وقال سبحانه { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } وقد بين المحجوج في قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } وقوله تعالى { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فإن اللام في قوله البيت لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الاخر وفيه لغتان قد قرىء بهما الحج والحج والحجة بفتح الحاء وكسرها

ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة والطواف بالبيت وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت فإذا أطلق الإسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة إما في الحج الأكبر أو الأصغر

مسألة يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر

في هذا الكلام فصول

أحدها أن الحج واجب في الجملة وهو أحد مباني الإسلام الخمس وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة وتناقلته خلفا عن سلف والأصل فيه قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وحرف على للإيجاب لاسيما إذا ذكر المستحق فقيل لفلان على فلان وقد أتبعه بقوله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجة ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه لأن الله غني عن العالمين وكذلك قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } على أحد التأويلين وقوله { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } فأذن فيهم إن لربكم بيتا فحجوه

وأما السنة فما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بني الاسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت متفق عليه وفي حديث جبريل في رواية عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي ما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا رواه مسلم وليس الحج في حديث أبي هريرة المتفق عليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله إن الله فرض عليكم الحج فحجوا رواه مسلم وغيره وأحاديث كثيرة في هذا المعنى

وعن شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال بينما نحن جلوس مع النبي النبي في المسجد اذ دخل على جمل ثم أناخه في المسجد ثم علقه ثم قال أيكم محمد والنبي صلى الله عليه واله وسلم متكىء بين ظهرانيهم فقلنا ها الرجل الأبيض المتكيء فقال له الرجل ابن عبد المطلب فقال له النبي قد أجبتك فقال الرجل اني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال سل عما بدالك فقال أسألك بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمر أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال أنشدك الله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال النبي اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبه أخو بني سعد بن بكر رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي عن إسماعيل وعلي بن عبد الحميد وقال رواه سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي مثله وروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس قال نهينا في القران أن نسأل رسول الله عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق قال فمن خلق السماء قال الله قال فمن خلق الأرض قال الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال الله قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق قال ثم ولى وقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي إن صدق ليدخلن الجنة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال بعثت بنو سعد بن بكر ضمام ابن ثعلبة وافدا إلى رسول الله فقدم عليه فأناخ بعيرة على باب المسجد ثم عقله ورسول الله جالس في أصحابه في المسجد وكان ضمام بن ثعلبة رجلا جلدا أشعر ذاغديرتين قال فأقبل حتى وقف على رسول الله وهو في أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقال رسول الله أنا عبد المطلب قال أمحمد قال نعم قال يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك فقال لا أجد في نفسي سل عما بدالك قال أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه قال اللهم نعم قال فأنشدك الله الهك واله من كان قبلك واله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس قال اللهم نعم قال ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وسأودي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص قال ثم انصرف إلى بعيرة فقال رسول الله إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة قال فأتة بعيرة فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال ما بئست اللات والعزى قالوا مه يا ضمام اتق البرص اتق الجذام اتق الجنون قال ويلكم إنهما والله ما يضران وما ينفعان وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقدكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته من رجل ولا إمرأة إلا مسلما قال ابن عباس فما سمعنا لوافد قط كان أفضل من ضمام بن ثعلبه ورواه أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق وهذا لفظ المغازي واختلف في سنة قدومه فقيل كان ذلك في سنة خمس قاله محمد ابن حبيب وغيره وروى عن شريك عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ابن عباس وفيه بعث بنوا سعد ضماما في رجب سنة خمس وقيل في سنة سبع وقيل في سنة تسع ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه لوامع الأمور وحوادث الدهور وزعم ابن عبد البر أن هذا هو الأعرابي الثائر الرأس الذي من أهل نجد الذي يروي حديثه أبو طلحة ويروى نحوا منه أبو هريرة وهذا فيه نظر لأن ذاك أولا أعرابي وهذا من بني سعد بن بكر ثم ذاك رجل ثائر الرأس وهذا رجل له عقيصتان ثم ذاك رجل يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول وهذا رجل عاقل جلد ثم ذاك ليس في حديثه إلا التوحيد والصلاة والزكاة والصوم فإن كان هذا هو ذاك فليس ذكر الحج إلا في بعض رواياته والذي في الصحيحين ليس فيه شيء من هذا ولا يسعهم أن يتركوه وهو يقول لا أزيد ولا أنقص فإن كانت سعد هذه سعد بن بكر بن هوازن أظأر رسول الله فهؤلاء كانوا مشركين يوم حنين وكانت حنين في أواخر سنة ثمان من الهجرة وقدم وفد هوازن على رسول الله منصرفة وهو بالجعرانة عن حصار الطائف فأسلموا ومن النبي على سببهم والقصة مشهورة فتكون بنو بكر بن سعد بن بكر قد أوفدت ضماما في سنة تسع وفيها أسلمت ثقيف أيضا وهذه السنة هي سنة الوفود

وقد أجمع المسلمون في الجملة علي أن الحج فرض لازم الفصل الثاني

أن العمرة أيضا واجبة نص عليه أحمد في مواضع فقال في رواية الأثرم وبكر بن محمد وإسحق بن إبراهيم وأبي طالب وحرب والفضل العمرة واجبة والعمرة فريضة وذكر بعض أصحابنا عنه رواية أخرى أنها سنة لأن الله سبحانه وتعالى قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولم يذكر العمرة ولو كانت واجبة لذكرها كما ذكرنا لما أمر بإتمامها وبالسعي فيها في قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } وقوله سبحانه { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وكذلك أمر خليله عليه السلام بدعاء الناس إلى الحج بقوله تعالى { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } إلى قوله { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } والاختصاص بأيام معلومات هو للحج فقط دون العمرة فعلم أنه لم يأمرهم بالعمرة وإن كانت حسنة مستحبة لأنه لما ذكر معاني الإسلام قال { حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقال في حديث جبريل الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ولم يذكر العمرة وسأله ضمام بن ثعلبه عن فرائض الإسلام إلى أن قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق ثم ولى ثم قال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي صلى اله عليه وسلم إن صدق ليدخلن الجنة ولو كانت العمرة واجبة لانكر قوله لا أزيد عليهن ولم يضمن له الجنة مع ترك أحد فرائض الإسلام ولأن النبي لما حج حجة الوداع كان معه من المسلمين مالا يحصيهم إلا الله تعالى وكل قد جاء يؤدى فرض الله تعالى عليه فلما قضى أيام منى بات بالمحصب بعد النفر وخرج من الغد قافلا إلى المدينة ولم يعتمر بعد ذلك ولم يأمر من معه بالعمرة ولا بأن يسافروا لها سفرة أخرى وقد كان فيهم المفرد والقارن وهم لا يرون أنه قد بقي عليهم فريضة أخرى بل قد سمعوا منه أن الحج لا يجب إلا في عام واحد وقد فعلوه فلو كانت العمرة واجبة كالحج لبين لهم ذلك أو لأقام ريثما أن يعتمر من لم يكن إعتمر

وعن الحجاج بن ارطأة ع محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أتى النبي أعرابي فقال أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال رسول الله لا وإن تعتمر خير لك رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الدارقطني من غير طريق الحجاج

وعن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا أنه قال العمرة تطوع قال الدارقطني والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة

وعن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله يقول الحج جهاد والعمرة تطوع رواه ابن ماجه وفي طريقه الحسن بن يحيى الخشني عن عمر بن قيس أخبرني طلحة بن يحيى عن عمه أسحق بن طلحة عن طلحة بن عبيد الله

وعن أبي صالح الحنفي أن رسول الله قال الحج جهاد والعمره تطوع رواه الشافعي وسعيد

وربما احتج بعضهم بقوله دخلت العمرة في الحج وليس بشيء ولأن العمرة بعض الحج فلم تجب على الإنفراد كالطوف وهذا لأن الحج لم يجب على وجه التكرار وإنما وجب مرة واحدة فلو وجبت العمرة لكان قد وجب على الانسان حجتان صغرى وكبرى فلم يجز كما لم يجب عليه حج وطواف وكل ما يفعله المعتمر فقد دخل في الحج فليس في العمرة شيء يقتضي إفراده بالإيجاب لكن جعل الله المناسك على ثلاث درجات أتمها هو الحج المشتمل على الإحرام والوقوف والطواف والسعي والرمى والإحلال وبعده العمرة المشتملة على الإحرام والطواف والسعي والإحلال وبعده الطواف المجرد ولأنها نسك غير مؤقت الإبتداء والإنتهاء فلم تجب كالطواف

ولأنها عبادة غير مؤقته من جنسها فرض مؤقت فلم تجب كصلاة النافلة وهذا لأن العبادات المحضة إذا وجبت وقتت كما وقتت الصلاة والصيام والحج فإذا شرعت في جميع الأوقات علم أنها شرعت رحمة وتوسعه للتقرب إلى الله تعالى بأنواع شتى من العبادة وسبل متعددة لئلا يمتنع الناس من التقرب إلى الله تعالى في غالب الأوقات

ووجه الأول ما احتج به بعضهم من قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال حج عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح

وفي رواية لأحمد إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير فأمره بفعلهما عن أبيه ولولا وجوبهما على الأب لما أمره بفعلهما عنه لكن يمكن أن يقال إنما سأله عن جواز الحج والعمرة عن أبيه لأن الابن لا يجب ذلك عليه وفاقا

وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدراقطني بإسناد شرط الصحيح لكن في لفظ أحمد والنسائي الا نخرج فنجاهد معك وكلمة على تقتضي الإيجاب لا سيما وقد سألته عما يجب على النساء من الجهاد فجعله جهادهن كما روي عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت قال رسول الله الحج جهاد كل ضعيف رواه أحمد وابن ماجه

واحتج أحمد بحديث أبي رزين وبحديث ذكره عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي فقال أوصني فقال تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر

قال وعن ابن عباس وابن عمر أنها واجبة وهذا أمر والأمر للإيجاب لا سيما وهو إنما أمره بمباني الاسلام ودعائمه قال جابر بن عبد الله ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه عمرة واجبة ذكره ابن أبي موسى

وفي حديث عمر عن النبي فقال يعني جبريل عليه السلام لما جاء في صورة الأعرابي يا محمد ما الاسلام فقال الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان رواه الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين والدارقطني وقال هذا إسناد صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد

وهذه الزيادة وإن لم تكن في أكثر الروايات فإنها ليست مخالفة لها لكن هي مفسرة لما أجمل في بقية الروايات فإن الحج يدخل فيه الحج الأكبر والأصغر كما أن الصلاة يدخل فيها الوضوء والغسل وإنما ذكر ذلك بالاسم الخاص تبيينا خشية أن يظن أنه ليس داخلا في الأول وقد روى الدارقطني بإسناد ضعيف عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وروى القاضي بإسناده عن قتيبة عن ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله الحج والعمرة فريضتان واجبتان

وروى سعيد بن أبي عروبة في المناسك عن قتادة أن نبي الله قال إنما هي حجة وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة ومن أصاب بعد ذلك فهو تطوع وعن قتادة أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال يا أيها الناس كتب عليكم الحج يا أيها الناس كتب عليكم العمرة يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم من ماله فيبتغي به من فضل الله فإن فيه الغنى والتصديق وأيم الله لأن أموت وأنا ابتغي بما لي في الأرض من فضل الله عز وجل أحب إلى من أموت على فراشي وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر بدليل قوله سبحانه { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فإن الصفة إذا لم تكن مبينة لحال الموصوف فإنها تكون مقيدة له ومميزة له عما يشاركه في الإسم فلما قال { يوم الحج الأكبر } علم أن هناك حجا أصغر لا يختص بذلك اليوم لأن الحج الأكبر له وقت واحد لا يصح في غيره والحج الأصغر لا يختص بوقت وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة

وأيضا ففي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي لما بعثه إلى اليمن وأن العمرة الحج الأصغر رواه الدارقطني من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وهذا الكتاب ذكر هذا فيه مشهور مستفيض عند أهل العلم وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل وهو صحيح بإجماعهم

وإذا كان النبي قد بين أنها الحج الأصغر كما دل عليه كتاب الله عز وجل علم أنها واجبة لأن قوله { ولله على الناس حج البيت } وسائر الأحاديث التي فيها ذكر فرض الحج إما أن يعم الحجين الأكبر والأصغر كما أن قول النبي لا يقبل الله صلاة بغير طهور يعم نوعي الطهور الأكبر والأصغر وإما أن تكون مطلقة ولا يجوز أن يكون المفروض مطلق الحج لأن ذلك يحصل بوجود الأكبر أو الأصغر فيلزم أن تكفيه العمرة فقط وذلك غير صحيح فيجب أن يكون عاما ولا يجوز أن يعني الحج الأكبر فقط لأنه يكون تخصيصا للعام وتقييدا للمطلق وذلك لا يجوز إلا بدليل ولو أريد ذلك لقيد كما قيد في قوله يوم الحج الأكبر بل الناس إلى التقييد هنا أحوج لأن هذا ذكر للمفروض الواجب والإسم يشملها وذاك أمر بالنداء يوم الحج الأكبر والنداء لا يمكن إلا في المجتمع والإجتماع العام إنما يقع في الحج الأكبر لاسيما وقوله يوم والحج الأصغر لا يختص به وبهذا يجاب عن كل موضع أطلق فيه ذكر الحج

وأما المواضع التي عطف فيها فللبيان والتفسير وقطع الشبهة لئلا يتوهم متوهم أن حكم العمرة مخالف لحكم الحج وأنها خارجة عنه في هذا الموضع لأنها كثيرا ما تذكر بالاسم الخاص وكثيرا ما يكون لفظ الحج لا يتناولها

وأما الأحاديث فضعيفة

وأما كونها لا تختص بوقت وكونها بعض الحج فلا يمنع الوجوب وأيضا فإنها عبادة تلزم بالشروع ويجب المضي في فاسدها فوجبت بالشرع كالحج وعكس ذلك الطواف

فصل

وقد أطلق أحمد القول بأن العمرة واجبة وأن العمرة فريضة في رواية جماعة منهم أبو طالب والفضل وحرب وكذلك أطلقه كثير من أصحابه منهم ابن أبي موسى وقال في رواية الأثرم وقد سئل عن أهل مكة فقال أهل مكة ليس عليهم عمرة إنما قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فقيل له إنما ذاك في الهدي في المتعة فقال كان ابن عباس يرى المتعة واجبة ويقول يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت قيل له كأن إقامتهم بمكة يجزيهم من العمرة فقال نعم وكذلك قال في رواية ابن الحكم ليس على أهل مكة عمرة لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم أو تجاوز الحرم وقال في رواية الميموني ليس على أهل مكة عمرة وإنما العمرة لغيرهم قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إلا أن ابن عباس قال يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه التنعيم ولأصحابنا في هذا ثلاثة طرق أحدها أن المسألة رواية واحدة بوجوبها على المكي وغيره وأن قوله ليس عليهم متعة يعني في زمن الحج لأن أهل الأمصار غالبا إنما يعتمرون أيام الموسم وأهل مكة يعتمرون في غير ذلك الوقت قاله القاضي قديما قال لأنه قال لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت وهذه طريقة ضعيفة الثانية أن في وجوبها على أهل مكة روايتين لأنه أوجبها مطلقا في رواية واستثنى أهل مكة في أخرى وهذه طريقة القاضي أخيرا وابن عقيل وجدي وغيرهم والثالثة أن المسألة رواية واحدة أنها لا تجب على أهل مكة وأن مطلق كلامه محمول على مقيده ومجملة على مفسره وهذه طريقة أبي بكر وأبي محمد صاحب الكتاب وهؤلاء يختارون وجوبها على أهل مكة

ووجه عدم وجوبها ما روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يا أهل مكة ليس عليكم عمرة وعن عمرو بن كيسان قال سمعت ابن عباس يقول لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا فإن أبيتهم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد

وعن عطاء إنه كان يقول يا أهل مكة إنما عمرتكم الطواف بالبيت فإن كنتم لا بد فاعلين فجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد رواهن سعيد وهذا مع قوله إن العمرة واجبة ولا يعرف له مخالف من الصحابة ولأن الله سبحانه قال { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فجعل التمتع بالعمرة إلى الحج الموجب لهدي أو صيام لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فإذا كان حاضر المسجد الحرام يفارق غيره في حكم المتعة وواجباتها فارقة في وجوب العمرة وأيضا فإن العمرة هي زيارة البيت وقصده وأهل مكة مجاوروه وعامروه بالمقام عنده فأغناهم ذلك عن زيارته من مكان بعيد فإن الزيارة للشيء إنما تكون للأجنبي منه البعيد عنه وأما المقيم عنده فهو زائر دائما فإن مقصود العمرة إنما هو الطواف وأهل مكة يطوفون في كل وقت

وهؤلاء الذين لا تجب عليهم العمرة هم الذين ليس عليهم هدي متعة على ظاهر كلامه في رواية الأثرم والميموني في إستدلاله بقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وظاهر قوله في رواية ابن الحكم والأثرم أيضا إنها إنما تسقط عن أهل مكة وهم أهل الحرم لأنهم هم المقيمون بمكة والطوافون بالبيت فأما المجاور بالبيت فقال عطاء هو بمنزلة أهل مكة الفصل الثالث

أنهما إنما يجبان مرة في العمر يإيجاب الشرع فأما إيجاب المرء على نفسه فيجب في الذمة بالنذر ويجب القضاء لما لم يتمه كما يذكر إن شاء الله تعالى ويجب إتمامها بعد الشروع

وقد أجمعت الأمة على أن الواجب بأصل الشرع مرة واحدة والأصل في ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله فقال يأيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم رواه أحمد ومسلم والنسائي

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله فقال يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال أفي كل عام يا رسول الله فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجة ولفظهما أن الأقرع ابن حابس سأل النبي فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قال المؤمنون يا رسول الله أفي كل عام مرتين فسكت ثم قالوا يا رسول الله أفي كل عام مرتين فقال لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال غريب من هذا الوجه سمعت محمدا يقول أبو البختري لم يدرك عليا وقد احتج به أحمد وعن قتادة قال ذكر لنا أن نبي الله قال في خطبته يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقال رجل من أهل البادية يا نبي الله أكل عام فسكت عنه نبي الله ثم قال يا نبي الله أكل عام فقال نبي الله والذي نفس محمد بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لكفرتم ولما استطعتم فإذا أمرتكم بأمر فاتبعوه وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم وكثرة سؤالهم ألا وإنما هي حجة وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة فما أصاب بعد ذلك فهو تطوع رواه سعيد بن أبي عروبة في مناسكه عنه ا ه الفصل الرابع

أنه لا يجب الوجوب المقتضي للفعل وصحته إلا على مسلم لأن الله سبحانه قال { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فنهاهم أن يقربوه ومنعهم منه فاستحال أن يؤمروا بحجه ولأنه لا يصح الحج منهم ومحال أن يجب مالا يصح لما روى أبو هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان متفق عليه وكان هذا النداء بأمر رسول الله لما بعث أبا بكر يقيم للناس الحج ويقطع العهود التي بينه وبين المشركين وينهاهم عن الحج وبعث عليا رضي الله عنه يقرأ سورة براءة وينبذ إلى المشركين

وعن زيد بن أثيع ويقال يثيع قال سألت عليا بأي شيء بعثت قال بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وقد منع الله سبحانه المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم من سكني جزيرة العرب مبالغة في نفيهم عن مجاورة البيت

ومن عرف بالكفر ثم حج حكم بإسلامه في أصح الوجهين

فأما وجوبه عليهم بمعنى أنهم يؤمرون به بشرطه وأن الله يعاقبهم على تركه فهو ظاهر المذهب عندنا لأن الله تعالى قال { ولله على الناس حج البيت } فهم ولم يخص وروى أحمد عن عكرمة قال لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } قالت اليهود فنحن المسلمون فقال الله تعالى لنبيه { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فحجوا فأبو فأنزل الله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } من أهل الملل وفي رواية لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } قالت الملل فنحن المسلمون فأنزل الله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فحج المسلمون وقعد الكفار

ولا يجب على الكافر سواء كان أصليا أو مرتدا في أقوى الروايتين فلو ملك في حال كفره زادا وراحلة ثم أسلم وهو معدم فلا شيء عليه لقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وأما إذا وجب على المسلم فلم يفعله حتى ارتد ثم أسلم فهو باق في ذمته سواء كان قادرا أو عاجزا في المشهور من المذهب

وإن حج ثم إرتد ثم أسلم فهل عليه أن يحج على روايتين إحداهما عليه أن يحج نص عليه في رواية ابن منصور وهذا اختيار القاضي والثانية لا حج عليه ولا يصح الحج من كافر فلو أحرم وهو كافر لم ينعقد إحرامه ولو ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه الفصل الخامس أنه لا حج على مجنون كسائر العبادات

قال أبو عبد الله لا حج على مجنون إلا أن يفيق لقول النبي من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما رفع القلم عن المجنون حتى يفيق وهو حديث حسن مشهور

ولأن المجنون ليس من أهل الخطاب والتكليف لعدم العقل والتمييز فلو كان مؤسرا في حال جنونه فلم يفق إلا وقد أعسر لم يكن في ذمته شيء وأما الذي يفيق أحيانا وهل يصح أن يحج بالمجنون كما يحج بالصبي غير المميز فيعقد له الإحرام وليه على وجهين أحدهما يصح قال أبو بكر فإن حج الصبي أو العبد أو الأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن ماتوا فعليهم كما قال رسول الله والثاني لا يصح وهو المشهور رضي الله عنه قال رسول الله

والثاني لا يصح وهو المشور الفصل السادس

أنه لا حج على الصبي قبل البلوغ لقول النبي رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وفي لفظ حتى يشب

ولأن الحج عبادة تحتاج إلى قطع مسافة فلم تجب على الصبي كالجهاد وقد جعل النبي الحج جهاد كل ضعيف وجهاد النساء

فإذا كان له مال فلم يدرك إلا وقد نفد فلا حج عليه

وإذا أدرك بالسن وهو إستكمال خمس عشرة سنة أو بإنبات شعر العانة الخشن ولم يحتلم فهل يجب عليه الحج الفصل السابع

أنه لا يجب إلا على حر كامل الحرية فأما العبد القن والمعتق بعضه والمكاتب والمدبر وأم الولد فلا يجب عليهم الحج لأنها عبادة يتعلق وجوبها بملك المال والعبد لا مال له فلم يجب عليه شيء كالزكاة ولأنها عبادة تفتقر إلى قطع المسافة البعيدة فلم تجب على العبد كالجهاد

وهذا لأن الحج عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتحتاج إلى مال والعبد مشغول بحقوق سيده ففي الإيجاب عليه إبطال لحق سيده

وهذه الطريقة مستقيمة إذا لم يأذن له السيد وفيها نظر

ولأن العبد ناقص بالرق وقد أجتمع عليه حق لله تعالى وحق لسيده فلو وجب عليه ما يجب على الحر لشق عليه أو عجز عنه والحج كمال الدين وآخر الفرائض ولهذا قال تعالى لما وقف النبي بعرفة اليوم { أكملت لكم دينكم } فلا يجب إلا على كامل مطلق والعبد ناقص الأحكام أسير لغيره

فصل

فقد انقسمت شروط الوجوب هذه إلى ما يشترط الصحة لحج وإلى مالا يشترط لصحته وكلها شرط للأجزاء عن حجة الإسلام

وأما الإستطاعة فهي شرط في الوجوب وليست شرطا في الأجزاء فصارت الشروط ثلاثة أقسام كما قلنا في شروط وجوب الجمعة منها ما هو شرط في وجوبها بنفسه وبغيره ومنها ما هو شرط في وجوبه بنفسه ثم منها ما هو شرط في صحة الجمعة مطلقا ومنها ما هو شرط في صحتها أصلا لا تبعا ومنها ما ليس شرطا في صحتها لا أصلا ولا تبعا

مسألة إذا استطاع إليه سبيلا وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتها مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام

في هذا الكلام فصول أحدها الفصل الأول

أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القران والسنة المستفيضة وإجماع المسلمين ومعنى قوله { من استطاع إليه سبيلا } واستطاعة السبيل عند أبي عبد الله وأصحابه ملك الزاد والراحلة فمناط الوجوب وجود المال فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه ومن لم يجد المال لم يجب عليه الحج وإن كان قادرا ببدنه قال في رواية صالح إذا وجد الرجل الزاد والراحلة وجب الحج

وسئل أيضا في رواية أبي داود على من يجب الحج فقال إذا وجد زادا وراحلة وقال في رواية حنبل وليس على الرجل الحج إلا أن يجد الزاد والراحلة

فإن حج راجلا تجزيه من حجة الإسلام ويكون قد تطوع بنفسه وذلك لما روى إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال يا رسول الله فما الحاج قال الشعث التفل وقام آخر فقال يا رسول الله ما الحج قال العج والثج قال وكيع يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وإبراهيم بن يزيد قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه

وعن ابن جريج قال وأخبرنيه أن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله قال الزاد والراحلة يعني قوله { من استطاع إليه سبيلا } رواه ابن ماجة

وعن أنس قال سئل النبي ما السبيل إليه قال الزاد والراحلة رواه ابن مردويه والدارقطني من طرق متعددة لا بأس ببعضها وروى هذا المعنى من حديث ابن مسعود وعائشة وجابر وغيرهم

وعن الحسن قال لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قال قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة رواه أحمد وأبو داود في مراسيلة وغيرهما وهو صحيح عن الحسن وقد أفتى به وهذا يدل على ثوبته عنده واحتج به أحمد

وعن ابن عباس قال من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء رواه أحمد وأيضا قوله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب وجود الزاد والراحلة مع علم النبي بأن كثيرا من الناس يقدرون على المشي

وأيضا فإن قول الله سبحانه في الحج { من استطاع إليه سبيلا } إما أ يعني به القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرا زائدا على ذلك فإن كإن المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك وليس هو إلا المال وأيضا فإن الحج عبادة تفتقر إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد

ودليل الأصل قوله تعالى { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } إلى قوله تعالى { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الآية

وأيضا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة الفصل الثاني

إنه لا يجب عليه فيما ذكره أصحابنا حتى يملك الزاد والراحلة أو ثمنهما فأما إن كان قادرا على تحصيله بصنعة أو قبول هبة أو وصية أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت المال لم يجب عليه ذلك سواء قدر على ذلك في مصره أو في طريق مكة لما تقدم من قوله يوجب الحج الزاد والراحلة يعني وجودهما وقوله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فعلق الوعيد بملك الزاد والراحلة

ولأن الزاد والراحلة شرط الوجوب وما كان شرطا للوجوب لم يحب على الكلف تحصيله لأن الوجوب منتف عند عدمه

ولأن كل عبادة اعتبر فيها المال فإن المعتبر ملكه لا القدرة على ملكه أصله العتق والهدي في الكفارات وثمن الماء والسترة في الصلاة

فصل

وينبني على ذلك أنه إذا بذل له ابنه أو غيره مالا يحج به أو بذل له ابنه أو غيره طاعته في الحج عنه وكان المبذول له معضوبا أو غير معضوب لم يلزمه عند أكثر أصحابنا مثل ابن حامد والقاضي وأصحابه وهو مقتضى كلام أحمد فإنه علق الوجوب بوجود الزاد والراحلة

وقال القاضي أبو يعلى الصغير ابن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى قياس المذهب أن الاستطاعة تثبت ببذل الابن الطاعة أو المال ولا تثبت ببذل غيره المال وهل تثبت ببذل غيره الطاعة خرجها على وجهين لأن من أصلنا أن الاستطاعة على ضربين تارة بنفسه وتارة بنائبه والمال الذي يأخذه النائب ليس أجرة عندنا في أشهر الروايتين وإنما هو نفقة فيكون قد بذل عمله للمستنيب وقد قال أحمد في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل مبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخيه قال النبي للذي سأله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة افأحج عنه قال نعم

والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إنما الحج عمن له زاد وراحلة ولا يسرف ولا يقتر ولا يمشي إذا كان ورثته صغارا وقال في رواية أبي طالب إذا كان شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه فقد بين أن النائب متبرع بعمله عن الميت مع أن الحج واجب على الميت

وأيضا من أصلنا أن مال الابن مباح لأبن مباح للأب يأخذ منه ما شاء مع عدم الحاجة فإذا بذل له الابن فقد يؤكد الأخذ

وقول أحمد إذا وجد الزاد والراحلة يجوز أن يراد بالموجود المملوك والمباح لقوله تعالى { فلم تجدوا ماء } ولعل كلامه فيمن يجب عليه الحج بنفسه

قال القاضي أبو يعلى وأصله هذا أن الاستطاعة تحصل بالمال المباح كما تحصل بالمال المملوك قال ولو بذل له الرقبة في الكفارة لم يجز له الصيام فعلى هذا لو وجد كنزا عاديا ونحوه وجب عليه أن يأخذ منه ما يحج به ولو عرض عليه السلطان حقه من بيت المال

ولو لم يبذل له الابن فهل يجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحج فإن الجواز لاشك فيه عندنا وذلك لما روى عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس أن أمرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيرة فقال النبي فحجي عنه رواه الجماعة إلا أبا داود والترمذي وهو

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وقف النبي بعرفة وذكر الحديث إلى أن قال ثم أتته إمرأة شابه من خثعم فقالت إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج فهل يجزى أن أحج عنه قال نعم فأدى عن أبيك قال ولوى عنق الفضل فقال له العباس يا رسول الله مالك لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فخفت الشيطان عليهما وفي لفظ فهل يجزى عنه أن أودى عنه قال نعم فأدى عن أبيك وفي لفظ إن أبي كبير وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ولا يستطيع أداءها فيجزى عنه أن أوديها قال نعم رواه في حديث طويل أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح لا نعرفه من حديث على إلا من هذا الوجه وقد روى بعض الحديث الطويل أبو داود وابن ماجه وقد تقدم أيضا حديث أبي رزين العقيلي لما قال للنبي صلى الله علي وسلم إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال حج عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وصححه الترمذي وقد احتج به أحمد وغيره على وجوب العمرة

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال جاء رجل من خثعم إلى رسول الله فقال إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزى عنه قال نعم قال فحج عنه رواه أحمد والنسائي

فقد أقر النبي هؤلاء السؤال على أن المعضوب عليه فريضة الله في الحج وأمرهم النبي بفعلها عنه وشبهها بالدين ولم يستفصل هل له مال يحج به أو ليس له مال وترك الإستفصال دليل على عموم الجواب لاسيما والأصل عدم المال بل أوجب الحج بمجرد بذل الولد أن يحج فدل ذلك على أن بذل الابن موجب وإنما أقرها النبي على الأخبار بفرض الحج على المعضوب لما رأى الولد قد بذل الحج

وأيضا فإن الإستطاعة تحصل بالمباح كما تحصل بالمملوك ويحصل به الوجوب كما يحصل بالمملوك بدليل أن الوضوء يجب بالماء المبذول والمباح والصلاة تجب في السترة المعارة فيجب أن يحصل الحج أيضا بالاستطاعة المبذولة من مال أو عمل نعم ما عليه فيه منه لا يبذل بذلا مطلقا لكن الغالب أنه لا بد أن يطلب منه باذله نوع عوض ولو بالثناء أو الدعاء ويحصل عليه به منة فلا يجب عليه قبوله كما لو بذلت السترة ملكا أو بذل له أجنبي مالا يحج به أو يكفر به

وبذل الابن ليس فيه منة ولا عوض بل هو من كسبه وعمله كما قال النبي إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقال أنت ومالك لأبيك وكذلك دعاء الابن بعد موته من جملة عمله كما قال النبي إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فكيف لا يجب عليه أن يحج مع بذل الابن له ذلك ولا مؤنة عليه فيه أصلا وطرد هذا أنه يجب على الأب أن يقبل من مال ابنه ما يؤدي به دينه بل ينبغي أن يكون هذا مسلما بلا خلاف لأن النبي شبهه بالدين فعلى هذا يشترط في الباذل

ووجه الأول أن الله سبحانه قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقد فسر النبي السبيل بأنه الزاد والراحلة وفي لفظ سئل ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة وفي لفظ من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا فعلم بذلك أن الحج لا يوجبه إلا ملك الزاد والراحلة فإن قيل قوله ما يوجب الحج يعني حج المرء بنفسه ولم يتعرض لحج غيره عنه ولم يفرق في الزاد والراحلة بين أن تكون مملوكة أو مباحة وإنما قال الزاد والراحلة أي وجود ذلك يعم ما وجد مباحا ومملوكا بدليل قوله في آية الوضوء { فلم تجدوا ماء }

وأيضا فإن الإستطاعة صفة المستطيع فلا بد أن يكون قادرا على الحج وهو لا يصير قادرا ببذل غيره لجواز أن يرجع الباذل وذلك أن شرط وجوب العبادة لا بد أن يستمر إلى حين انقضائها فإن أوجب على الباذل التزام ما بذل صار الوعد فرضا وإن لم يجب فكيف يجب فرع لم يجب أصله

وأيضا فإن في إيجاب قبول بذل الغير عليه ضررا عليه لأن ذلك قد يفضي إلى المنة عليه وطلب العوض منه وإن كا الباذل ولدا فإنه قد يقول الولد أنا لا يجب علي أن أحج عنك ولا أن أعطيك ما تحج به ومن فعل مع غيره من الإحسان مالا يجب عليه فإنه في مظنة أن يمن به عليه وأيضا

وأما حديث الخثعمية وأبي رزين ونحوهما فهو صريح بأن الوجوب كان قد ثبت واستقر قبل استفتاء النبي واستفتاؤه متقدم على بذل الولد الطاعة في الحج لأنهم لم يكونوا يعلمون أن الحج يجزىء عن العاجز حتى استفتوا النبي فكيف يبذلون الحج عن الغير وهم لا يعلمون جواز ذلك فإذا كانوا إنما بذلوا الحج عن الوالد بعد الفتوى والوجوب متقدم على الفتوى علم أن هذا البذل لم يكن هو الموجب للحج ولا شرط في وجوبه لأن الشرط لا يتأخر عن حكمه وصار هذا كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري وكذلك حديث بريدة في التي قالت للنبي إن أمي كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها رواه مسلم إلى غير ذلك وشبهه النبي بالدين ولم يكن البذل هو المقرر للوجوب

وأيضا فإن القوم إنما سألوه عن أجزاء الحج عن المعضوب وعنه وقع الجواب ولم يتعرض للوجوب بنفي ولا إثبات وباتفاق لا يجب على الباذل أن يحج

ونحن إنما استدللنا بحديث أبي رزين على وجوب العمرة لأنه استفتى النبي عن أداء ما وجب على أبيه لتبرأ ذمة الأب فأمره أن يحج عنه ويعتمر فعلم أن كلاهما كان واجبا على الأب وإلا لم يحتج أن يأمره به كما لم يأمره بتكرار الحج والطواف فعند هذا يكون قول السائل عليه فريضة الله في الحج إذا أدركته فريضة الله ونحو ذلك كان لملكه الزاد والراحلة وقد بلغ هؤلاء أن من ملك الزاد والراحلة فعليه فريضة الله في الحج ولم يعلموا حكم العاجز عن الركوب أيسقط عنه أم يتجشم المشاق وإن أضر به وهلك في الطريق أم يستخلف من يحج عنه ولهذا جزمت السائلة فقالت إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وقال الآخر أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرجل والحج مكتوب عليه ولن يقول هذا إلا من قد علم أنه مكتوب عليه وواجب فأمرهم النبي بالحج عن الآباء ولم يستفصلهم هل ملكوا مالا أم لا لوجهين أحدهما أنهم إنما سألوه عن جواز النيابة وأسقاطها فرض حجة الإسلام وهذا لا يختلف الحال فيه بين الواجد والمعدم فلم يكن للإستفصال وجه وكل معضوب إذا حج عنه غيره بإذنه أسقط عنه الفرض حتى لو ملك بعد هذا مالا لم يجب عليه حجة أخرى وشبهه النبي بالدين في جواز الأداء عن الغير فإن من عليه دين وهو قادر على وفائه من ماله أو عاجز عنه إذا أداه غيره عنه بإذنه جاز كذلك الحج والثاني أن يكون قد علم أن الحج وجب على الاباء بملك المال إما بعلمه بأن أماكن أولئك السوال قريبة وأن غالب العرب لا يعدم أحدهم بعيرا يركبه وزادا يبلغه أو لأنه رأي جزم السائلين بالوجوب مخصصين لهؤلاء من دون غيرهم من المسلمين فعلم أنهم إنما جزموا لوجود المال الذي تقدم بيانه أنه هو السبيل أو لغير ذلك من الأسباب

ويجوز أن يكون السوال عنوا بقوله أدركته فريضة الله في الحج وعليه فريضة الله في الحج والحج مكتوب عليه الوجوب العام وهو أن الحج أحد أركان الإسلام وقد أوجبه الله سبحانه على كل مسلم حر عاقل بالغ وهو مخاطب به سواء كان قادرا أو عاجزا ولهذا لو فعله أو فعل عنه أجزأه ذلك من حجة الإسلام وإنما سقط عن غير المستطيع السير للعذر لا لكونه ليس من أهل الوجوب بخلاف الصبي والعبد والمجنون فإنهم ليسوا من أهل الوجوب ولهذا يفرق في الجمعه والحج وغيرهما بين أهل الأعذار في كونهم من أهل وجوب هذه العبادة وإنما سقط عنهم السعي إليها للمشقة والعذر ولهذا إذا حضروا وجبت عليهم وانعقدت بهم وبين العبد والمسافر والمرأة ونحوهم في كونهم ليسوا من أهل الوجوب ولهذا إذا حضروا لم تجب عليهم ولا تنعقد بهم

وسبب الفرق بين القسمين أن الوجوب يعتمد كمال الفاعل الذي به يستعد لحمل الأمانة ويعتمد إمكان الفعل الذي به يمكن أداؤها فإذا لم يكن الإنسان من أهل الكمال لنقص عقله أو سنه أو حريته ونحو ذلك لم يخاطب بذلك الوجوب أصلا وليس عليه أن ينظر هل يفعل أو لا يفعل ولو فعل لم يحصل به المقصود وإذا كان كاملا تأهل للخطاب وكان عليه أن يعزم على الأداء إذا قدر وأن ينظر في نفسه هل هو قادر أو عاجز ولو تجشم وفعل لحصل المقصود فالمعضوب من هذا القسم

فقول السائل أدركته فريضة الله في الحج يجوز أن يعني به أنه حر عاقل بالغ من أهل الوجوب لكن هو عاجز عن الأداء فإن إستناب فهل يقوم فعل النائب مقام فعله بحيث يكون بمنزلة من فعل أم لا يصح ذلك فيبقى غير فاعل وهذه طريقة مشهورة في الكلام

فصل

ومن لم يجد الزاد أو الراحلة إذا إكتسب حتى حصل زادا وراحلة فقد أحسن بذلك وكذلك إن كان يعمل صنعته في الطريق أو يكرى نفسه بطعامه وعقبته ويستحب له الحج على هذا الوجه ويجزيء عنه وإن استقرض وكان له وفاء

وإن كان يسأل في المصر أو في الطريق فقال أصحابنا يكوه له الحج بالسؤال

والنصوص عن أحمد أن السؤال لغير ضرورة حرام

وإن لم يسأل لكن بذل له مال يحج به أو بذل له أن يركب ويطعم

وإن حج بغير مال ومن نيته أن لا يسأل ويتوكل على الله ويقبل ما يعطاه فإن وثق باليقين والصبر عن المسألة والاستشراف إلى الناس ولم يضيق على الناس وأما إن كان يزعم أنه يتوكل

وإن حج ماشيا وله زاد مملوك أو مباح أو مكتسب أو كما ذكرناه أولا فقد أحسن وهو أفضل من ترك الحج

فصل

وإنما تعتبر الراحلة في حق من بينه وبين مكة مسافة القصر عند أصحابنا فأما القريب والمكي ونحوهما ممن يقدر على المشي فيلزمه ذلك كما يلزمه المشي إلى الجمعه والعيد فإن كان زمنا لا يقدر على المشي لم يلزمه أن يحج حبوا

وإما الزاد فيعتبر في حق القريب والبعيد قاله ابن عقيل لأنه لا بد منه وقال القاضي لا يعتبر أن يجد الزاد وإنما يعتبر أن يحصل له ما يأكله ولو بكسبه فإن كان متى تشاغل بالحج انقطع كسبه وتعذر الزاد عليه لم يلزمه الحج

وإن قدر على السؤال الفصل الثالث

أنه يعتبر أن يجد الزاد والراحلة بالآلة التي تصلح لمثله من الغرائر وأوعية الماء وأن يكون الزاد مما يقتاته مثله في هذا الطريق طعاما وأدما وأن تكون آلات الراحلة مما تصلح لمثله فإن كان ممن لا يمكنه الركوب إلا في محمل ونحوه بحيث يخاف السقوط أعتبر وجود المحمل وإن كان يكفيه الرحل والقتب بحيث لا يخشى السقوط أجزاء وجود ذلك سواء كانت عادته السفر في المحامل أو على الأقتاب والزوامل والرحال وإن كان ممن يستحي من الركوب على الزوامل لكونه كان من الأشراف والأغنياء والأفضل أن يحج على الرجل والزاملة دون المحمل إذا أمكن لما روى عامر بن عبد الله بن أنس قال حج أنس على رحل ولم يكن شحيحا وحدث أن النبي حج على رحل وكانت زاملته رواه البخاري والزاملة هي البعير الذي يحمل متاع الرجل وطعامه وازدمله احتمله والزميل الرديف والمزاملة المعادلة على بعير

وعن الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس قال حج النبي على رحل رث وقطيفه تسوى أربعة دراهم أو لا تسوى ثم قال اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعه رواه ابن ماجه وفيهما كلام

وهل يكره الحج في المحمل على روايتين إحداهما لا يكره قال في رواية صالح والمحامل قد ركبها العلماء ورخص فيها

والثانية يكره قال في رواية عبد الله عطاء كان يكره المحامل للرجل ولا يرى بها للنساء بأسا وقال عطاء القباب على المحامل بدعة وظاهرة أنه أفتى بذلك

وإذا كان يحتاج إلى من يخدمه في ركوبه وطعامه وغير ذلك اعتبرت القدرة عليه بكراء أو شراء ويعتبر أن يجدهما في ملكه أو هما بكراء أو شراء إذا كان ذلك عوض مثلهما في غالب الأوقات في ذلك المكان وهو واجد له

وإن وجد ذلك بزيادة يسيرة على عوض المثل لزمه الشراء والكراء وإن كانت كثيرة تجحف بماله لم يلزمه بذلها وإن كانت لا تجحف بماله ففيه وجهان

وإن كان السعر غاليا في ذلك العام غلاء خارجا عن الأمر الغالب فقيل يعتبر ثمن مثله في ذلك الوقت

وسواء كان الثمن عينا أو دينا يمكنه اقتضاؤه بأن يكون على مؤسر باذل أو غائب يمكن إحضاره لم يلزمه ذلك ثم إن كان يجد الزاد في بعض المنازل أو في كل منزل لم يلزمه حمله من مصره بل عليه حملة من موضع وجوده إلى موضع وجوده وإن لم يجد فعليه حملة سواء كان من عادته أن يكون موجودا فيما بينه وبين مكة أولا

وأما الماء له ولدوابه وعلف الرواحل فمن عادته أن يكون موجودا في بعض المنال فعليه حملة من موضع وجوده على ما جرت به العادة الغالبة

فإن لم يكن في الطريق ماء ولا علف فقال القاضي وأبو الخطاب وأكثر أصحابنا ليس عليه حمله من بلده ولا من أقرب الأمصار إلى مكة لأن هذا يشق ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطرق

وقال ابن عقيل حكم علف البهائم حكم زاده في وجوب حمله إذا لم يكن موجودا في الطريق الفصل الرابع

أن يجد ذلك بعد ما يحتاج إليه من قضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام

فإذا كان عليه دين لله أو لآدمي وقد ملك الزاد والراحلة بعد وجوبه أو حين وجوبه لم يجب عليه الحج لأن وجوب قضاء دينه متقدم على وجوب الحج ولأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية

فإن كان قد ملك الزاد والراحلة ثم لزمه الدين بعد ذلك

وإن كان الدين مؤجلا أو متروكا

فإذا أراد أن يحج وعليه دين

فإذا كان الدين على أبيه أو غيره قدم الحج قال أحمد في رواية أبي طالب إذا كان معه مائتا درهم ولم يحج قط فإنه يقضي دينه ولا يحج فإن كان على أبيه فليحج الفريضة وإن كان قد حج الفريضة يقضي دين أبيه وإن كان الأب لم يحج دفع إلى أبيه حتى يحج قال أحمد في رواية أبي طالب ويجب على الرجل الحج إذ كان معه نفقة تبلغه إلى مكة ويرجع ويخلف نفقته لأهله ما يكفيهم حتى يرجع

وكذلك ذكر ابن أبي موسى السبيل في الطريق السالكه والزاد والراحلة المبلغان إلى مكة وإلى العود إلى منزله مع نفقة عياله لمدة سفره ولم يعتبر وجود ما ينفقه بعد الرجوع

وهذا محمول على من له قوة على الكسب لأن أحمد وابن أبي موسى صرحا بأنه لا يلزمه بيع المنازل التي يؤجرها لكفايته وكفاية عياله وإنما يبيع ما يفضل عن كفايته وكفاية عياله ولا بد أن يترك لعائلته الذين تجب عليه نفقتهم ما يكفيهم مدة ذهابه ورجوعه لأن وجوب النفقة آكد ولهذا يتعلق بالكسب بخلاف الحج ولأن النبي قال كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت رواه أبو داود

وإن كان فيهم من لا يلزمه بعينه نفقه لكن يخاف عليه الضياع كيتيم وأرملة ونحو ذلك

ولا بد أن يرجع إلى كفاية له ولعياله على الدوام إما ربح تجارة أو صناعة أو أجور عقار ودواب أو ريع وقف عليه بعينه لأن

فإن أمكنه أن يخذ من وقف الفقراء أو الفقهاء أو بيت لما ونحوه من مال المصالح

والمراد بالكفاية ما يحتاج إليه مثله من طعام وكسوة ونحو ذلك ومن مسكن فإنه لا بد له من السكنى فليس عليه أن يبيع مسكنه ثم يسكن بأجر أو في وقف

ولكن إن كان واسعا يمكنه الاعتياض عنه بما دونه من غير مشقة لزمه أن يحج بالتفاوت

وإن كان له كتب علم محتاج إليه لم يلزمه بيعها وإن لم يكن علمها فرضا عليه لأن حاجة العالم إلى علمه فإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغني عن إحداهما باع مالا يحتاج إليه

وإن اراد أن يشتري كتب علم أو ينفق في طلب العلم فقد قال عبد الله سألت أبي عن رجل ملك خمسمائة درهم وهو رجل جاهل أيحج بها أم يطلب العلم فقال يحج لأن الحج فريضة وليس الحديث عليه فريضة وينبغي أن يطلب العلم والفرق بينهما هذا لم يتعلم فالابتداء بفرض العين قبل فرض الكفاية أو النافلة متعين والأول قد تعلم العلم وهو مقيد بالكتاب ففي بيع كتبه إخلال بما قد علمه من علمه

وإذا كان له خادم يحتاج إلى خدمتها لم يلزمه بيعها قال في رواية الميموني إذا كان للرجل المسكن والخادم والشيء الذي لا يمكنه بيعه لأنه كفاية لأهله فلا يباع فإذا خرج عن كفايته ومؤنة عياله يباع

وإذا كان به حاجة إلى النكاح فقال أحمد في رواية أحمد بن سعيد إذا كان مع الرجل مال فإن تزوج به لم يبق معه فضل وإن حج خشي على نفسه فإنه إذا لم يكن له صبر عن التزويج تزوج وترك الحج وكذلك نقل أبو داود وغيره وعلى هذا عامة أصحابنا أنه إن خشي العنت قدم النكاح لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه فهو كالنفقة

وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه يبدأ بالحج وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد في رجل عنده أربعمائة درهم ويخاف على نفسه العنت ولم يحج وأبواه يأمرانه بالتزويج قال يحج ولا يطيعهما في ذلك هكذا ذكرها أبو بكر في زاد المسافر ثم فصل كما تقدم عن أحمد ووجه ذلك أنه متعين عليه بوجود السبيل إليه

والعنت المخوف مشكوك فيه وهو نادر والغالب على الطباع خلاف ذلك فلا يفرط فيما تيقن وجوبه بما يشك فيه وأما إن لم يخش العنت قدم الحج

وإن قلنا إن النكاح واجب فإن كانت له سرية لم يجب عليه بيعها واستبدال ما هو دونها ولا يجب عليه أن يطلق إمرأته ليستفضل نفقتها

فصل

ولا يجب عليه المسير حتى يقدر على المسير بأن يكون يتسع الوقت للسير والأداء فلو وجد ذلك قبل النحر بأيام وبينه وبين مكة شهر ونحو ذلك لم يجب عليه المسير للحج في تلك السنة وليس عليه أن يسير إلا السير المعتاد وما يقاربه وليس عليه أن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز معه عن تحصيل آلة السفر لما في ذلك من المشقة التي لا يجب معها مثل هذه العبادات من الجمعة والجماعة ونحو ذلك

وأن يكون الطريق خاليا من العوائق المانعة فإن كان فيه من يصده عن الحج من قطاع الطريق كالأعراب والأكراد الذين يقطعون الطريق على القوافل أو كفار أو بغاة لم يجب عليه السعي إلى الحج فإن أمكن قتالهم

وإن أمكن بذل خفارة لهم فقال القاضي وأصحابه لا يجب بذلها وإن كانت يسيره لوجهين

أحدهما أنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكثيرة

الثاني أنهم لا يؤمنون مع أخذها فإن من استحل أكل المال بالباطل من وفد الله لم يؤمن على استحلال قتلهم أو نهبهم أو سرقتهم

والثاني يجب بذل الخفارة اليسيرة قاله ابن حامد لأنها نفقة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمتنع الوجوب مع إمكان بذلها كالأثمان والأكرية وقد بذل صهيب للكفار جميع ماله الذي بمكة حتى خلوه يهاجر فأنزل الله تعالى فيه { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }

وفي معنى ذلك لو إحتاج أن يرشو الولاة لتخليته أو لحراسة طريقة

ولو احتاج أن يبذل مالا لمن يخرج معه ليحرسه فهذا ليس برشوة وإنما هو جعاله أو إجارة لأنه لا يجب عليهم الخروج معه وحفظة وقياس المذهب أن هذا واجب كما يجب على المرأة نفقة محرمها لأنه الحافظ لها وكما يجب عليه أجرة من يحفظ رحله من السراق

وسواء كانت الطريق قريبة أو بعيدة يبقى فيها سنين

وسواء كانت الطريق برا أو بحرا إذا كان الغالب عليه السلامة وإن كان الغالب على البحر الهلاك لم يجب السعي إلى الحج وإن كان يسلم قوم ويتلف قم فقال القاضي يلزمه وقال أبو محمد إن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه سلوكه

فصل

ولا يجب عليه أن يحج بنفسه حتى يقدر على الركوب فمتى قدر على الركوب على حالة من الأحوال لزمه الحج بنفسه فإن عجز عنه لمرض أو كبر لم يلزمه

والمعتبر في ذلك أن يخشى من ركوبه سقوطه أو مرض أو زيادة مرض أو تباطىء برء ونحو ذلك فأما إن كان توهما وجبنا أو مرة يعتريه أحيانا ويقدر أن يستطب

ثم إن كان ميؤسا من برئة فإنه يحج عن نفسه قال أحمد في رواية أبي طالب يحج الرجل عن الرجل وهو حي وعن المرأة وإذا كان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه وإذا كانت إمرأة ثقيله لا يقدر مثلها يركب والمريض الذي قد أويس منه أن يبرأ فيحج عنهم وليهم وهذا الذي أمر فيه النبي الخثعمية قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير وقد أدركته فريضة الله في الإسلام وهو لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك

فإذا كان الرجل والمرأة لا يقدران على الحج وقد وجب عليهما الحج حج عنهما وليهما وإحجاجه عن نفسه واجب عند أصحابنا على ما ذكره أبو عبد الله سواء بلغ وهو معضوب أو عضب بعد ذلك قبل وجود المال أو بعد وجود المال وظاهر كلام أبي بكر وابن أبي موسى أنه لا يجب لأن ابن أبي موسى ذكر أن شروط الوجوب الحرية والبلوغ والإسلام والعقل والصحة والزاد والراحلة والمحرم للمرأة وخلو الطريق وذكر أبو بكر أن الحج يجب على الرجل بثلاثة أوصاف بالزاد والراحلة والصحة وعلى المرأة بأربعة أوصاف الزاد والراحلة والصحة والمحرم

لما تقدم من أن الخثعمية وغيرها أخبرت أن أباها قد فرض عليه الحج وأقرها النبي على ذلك وأمرها أن تحج عنه وشبه ذلك بالدين المقضي ولولا أن الحج قد وجب على هذا المعضوب لما صحح ذلك

فإن قيل المراد أنه من أهل وجوب الحج

وأيضا فإن النبي سئل ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة ولم يفرق بين القادر بنفسه والعاجز

وأيضا فإن فرائص الله إذا قدر أن يفعلها بأصل أو بدل وجب عليه ذلك كما يجب بدل الصوم وهو الإطعام وبدل الكفارات وبدل الوضوء والغسل وأيضا فإنه من أهل وجوب الحج وهذه الحجة تجزيء عنه ويسقط بها عنه فرض الإسلام بنص النبي وقد أمكنته الإستنابة من غير ضرر في دينه ولا دنياه لأن النائب إن كان أجيرا فلا ضرر منه عليه فيه لأن عمله يقع مستحقا للمستأجر كاستيجار على البناء والخياطة والكتابة وإن كان نائبا محضا فإن النفقة إنما تجب في مال المستنيب فلا منة عليه في ذلك يبقى عمل النائب فقط وذلك لامنة فيه لأن له عوضا صحيحا في شهود المشاعر وعمل المناسك وحضور الموسم وله بذلك عمل صالح غير إبراء ذمة المنيب من حج الفرض وإنما بلغ ذلك بمال المستنيب فيصيران متعاونين على إقامة الحج هذا بماله وهذا ببدنه فليس لأحدهما منة على الاخر بخلاف مالو حج عنه بمال نفسه

لا سيما إن كان الحاج وليه فإنه مأمور من جهة الشرع بأن يحج عنه صلة لرحمه وقضاء لحقه كما هو مأمور بالعقل عنه وولايته في النكاح وغيره ولا منة عليه بذلك وإذا حج عن نفسه أجزأ عنه وإن عوفي

قال في رواية اسحق بن منصور وأبي طالب إذا لم يقدر على الحج فحجوا عنه ثم صح بعد ذلك وقدر فقد قضى عنه الحج ولا قضاء عليه وعلى هذا عامة أصحابنا

فإن وجد الزاد والراحلة ولم يجد من يحج عنه فهو كما لو عاقة عائق أو ضاق الوقت هل يثبت الوجوب في ذمته على روايتين

فصل

وإن كان العاجز عن الحج يرجو القدرة عليه كالمريض والمحبوس ومن قطع عليه الطريق أو منعه سلطان ونحو ذلك لم تجز له الاستنابة في فرض الحج عن أصحابنا كما ذكره أحمد لأن النبي إنما أذن في النيابة للشيخ الكبير الذي لا يستمسك على الراحلة فألحق به من في معناه والذي يرجى أن يقدر على الحج ليس في معناه لوجوه

أحدها أن ذاك عاجز في الحال والمآل وهذا إنما هو عاجز في الحال فقط والبدل إنما يجب عند تعذر الأصل بكل حال

الثاني إنه لو عجز عن صوم رمضان بكل حال انتقل إلى البدل وهو الفدية وإن عجز في الحال فقط لم يجز له الانتقال إلى البدل ولزمه الصوم إذا قدر فالحج مثله

الثالث أنه لو جاز ذلك لجاز أن يحج عن الفقير فتسقط حجة الإسلام من ذمته لأنه عاجز في الحال وهو من أهل الخطاب بالوجوب

الرابع أن وجوب الحج لا يختص ببعض الأزمنة دون بعض فإذا لم يغلب على الظن دوام العائق جاز أن يخاطب فيما بعد وجاز أن لا يخاطب فلا يجوز الأقدام على فعل

فصل

إمكان المسير والأداء بسعة الوقت وخلو الطريق والصحة هل هو شرط للوجوب أو للزوم الأداء فقط على روايتين

فأما العائق الخاص مثل الحبس والمرض الذي يرجى برؤه ومنع السلطان فينبغي أن يكون مثل ضيق الوقت وعاقة الطريق ولهذا قلنا إذا عرض مثل ذلك في رمضان لم يجب عليه بعد الموت فدية فإذا قلنا هو شرط للوجوب فمات قبل التمكن أو أنفق ماله أوهلك لم يكن في ذمته شيء وإن قلنا إنما هو شرط في لزوم السعي فإن الحج يثبت في ذمته فإذا أنفق المال فيما بعد بقي الحج في ذمته

وإذا مات قبل التمكن أخرج عنه من تركته لكن لا إثم عليه بالموت وعليه الاثم بانفاق المال مع امكان ابقائه للحج وإذا استقر الحج في ذمته فعليه فعله بكل طريق يمكنه من اكتساب مال أو مشى

فإن قلنا هما شرط في الوجوب وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى فلأن الله تعالى قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } بل هو أعجز من أن يقدر على المشي واكتساب المال وأعجز من المعضوب لأنه لا يقدر أن يحج لا بنفسه ولا بنائبه بوجه من الوجوه فكيف يبقى الحج في ذمته ونحن وإن قلنا إن العبادة تجب في الذمة قبل التمكن فإنما ذاك فيما أطلق وجوبه كالصلاة والصيام والزكاة

فأما الحج فقد خص وجوبه بمن استطاع إليه سبيلا فامتنع إيجابه على غير المستطيع بوجه من الوجوه يبين ذلك أن السبيل في الأصل هو الطريق والسبب وكل ما يوصل إلي الشيء فهو طريق إليه وسبب فيه فالتقدير من استطاع التسبب والتوصل إليه أو من استطاع فعل سبيل أو سلوك سبيل ويختص الوجوب بمن كان السبيل مستطاعا له أو مقدورا

وأيضا فإن فريضة الحج قد قيل إنها نزلت ست ولم يحج النبي ولا أحد من أصحابه لأن المشركين كانوا يصدونهم عن البيت ويقيمون الموسم في غير وقته فلم يتمكنوا من فعله قبل الفتح وطرد المشركين مع قدرة أكثرهم على الزاد والراحلة فلو كان الوجوب ثابتا في الذمه لوجب أن يحج عمن مات في تلك السنين منهم ولبين النبي وجوب ذلك في تركاتهم أو سأله أحد منهم كما سألوه عمن أدركته فريضة الحج وهو معضوب

وإن كانت فريضة الحج قد تأخرت إلى سنة تسع أو عشر فإنما سبب تأخيرها صد المشركين عن البيت واستيلاؤهم عليه وعدم تمكن المسلمين من إقامته فامتنع أصل إيجاب الحج في حق الكافة فهو بالمنع في حق الخاصة أولى

وأيضا فإنه لو صد عن البيت بعد الإحرام لم يلزمه إتمام الحج ولا يجب القضاء في ذمته في ظاهر المذهب مع أن إتمامه بعد الشروع أوكد من إبتداء الشروع فيه عد وجوبه فإذا لم يجب القضاء في ذمة المصدود عنه بعد الإحرام فأن لا يجب الأداء في ذمة المصدود قبل الإحرام أولى

وإن قلنا ليسا بشرط في الوجوب وهو قول

فلأن النبي سئل ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة وفسر الإستطاعة بذلك كما ذكر في غير هذا الموضع فلا تجوز الزيادة على ذلك بل يعلم أن وجود ذلك موجب للحج وذلك لأن الوجوب في الذمة إنما يعتمد القدرة على الفعل في الحال أو في المال بنفسه أو بنائبه كوجوب الدين في الذمة وهذا يجب في ذمته الحج ليفعله فيما بعد بنفسه إن أمكن وإلا بنائبه كالمعضوب حتى لو فرض من لا يمكن الحج عنه في المستقبل مثل من يقدر عليه بعد آخر سنة يحج الناس فيها لم يجب في ذمته وهذا لأنه لا فرق بين هذا وبين المعضوب إلا أن المعضوب يمكنه الإحجاج عنه في الحال بخلاف المصدود

والتمكن من فعل العبادة إذا ليس بشرط لوجوبها في الذمة بدليل أن صوم رمضان يجب على الحائض والمريض لا سيما على أصلنا المشهور في الصلاة والزكاة والصوم فإن كل من أمكنه قضاء العبادة وجبت في ذمته إذا انعقد سبب وجوبها

والزاد والراحلة بمنزلة شهود الشهر في رمضان وبمنزلة حؤول الحول في الزكاة فمن ملك ذلك وأمكن فعل الحج أداء أو قضاء وجب عليه

مسألة ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح

في هذا الكلام فصلان

أحدهما الفصل الأول أن المرأة لا يجب عليها أن تسافر للحج ولا يجوز لها ذلك إلا مع زوج أو ذي محرم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله لا تسافر المرأة ثلاثا إلا معها ذو محرم متفق عليه وفي لفظ لمسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومن أو ليلتين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها متفق عليه وفي رواية للجماعة إلا البخاري والنسائي لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها وعن أبي هريرة أن رسول الله قال لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة إلا مع ذي محرم عليها متفق عليه وفي رواية لمسلم وغيره مسيرة يوم إلا مع ذي محرم وفي رواية له ولغيره لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة وإلا ومعها رجل ذو حرمة منها وفي رواية لأبي داود بريدا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله إن أمرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا كذا قال فانطلق فحج مع أمرأتك متفق عليه ولفظ البخاري لا تسافر إمرأة إلا مع محرم ولا يدخل علها رجل إلا ومعها محرم فقال رجل إني أريد جيش كذا وكذا وإمرأتي تريد الحج قال أخرج معها

فهذه نصوص من النبي في تحريم سفر المرأة بغير محرم ولم يخصص سفرا من سفر مع أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها فلا يجوز أن يغفله ويهمله ويستثنيه بالنية من غير لفظ بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك لما سأله ذلك الرجل عن سفر الحج وأقرهم على ذلك وأمره أن يسافر مع أمرأته ويترك الجهاد الذي قد تعين عليه بالاستنفار فيه ولولا وجوب ذلك لم يجز أن يخرج سفر الحج من هذا الكلام وهو أغلب أسفار النساء فإن المرأة لا تسافر في الجهاد ولا في التجارة غالبا وإنما تسافر في الحج ولهذا جعله النبي جهادهن

وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز لها السفر إلا على وجه يؤمن فيه البلاء ثم بعض الفقهاء ذكر كل منهم ما اعتقده حافظا لها وصاينا كنسوة ثقات ورجال مأمونين ومنعه أن تسافر بدون ذلك

فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحق وأوثق وحكمته ظاهرة فإن النساء لحم على وضم إلا ماذن عنه والمرأة معرضة في السفر للصعود والنزول والبروز محتاجة إلى من يعالجها ويمس بدنها تحتاج هي ومن معها من النساء إلى قيم يقوم عليهن وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى الناس فإن القلوب سريعة التقلب والشيطان بالمرصاد وقد قال النبي ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما قال أحمد في رواية الأثرم لا تحج المرأة إلا مع ذي محرم لأن رسول الله نهى أن تحج المرأة إلا مع ذي محرم

وليس يشبه أمر الحج الحقوق التي تجب عليها لأن الحقوق لازمة واجبة مثل الحدود وما أشبهها وأمر النساء صعب جدا لأن النساء بمنزلة الشيء الذي يذب عنه وكيف تستطيع المرأة أن تحج بغير محرم فكيف بالضيعة وما يخاف عليها من الحوادث

ولا يجوز لها أن تسافر بغير محرم إلا في الهجرة لأن الذي تهرب منه شر من الذي تخافه على نفسها وقد خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وغيرها من المهاجرات بغير محرم وفي حضور مجلس الحاكم لأنه ضرورة يخاف منه أن يضيع حق المدعى وفي التغريب لأنه حد قد وجب عليها

فإن كان بينها وبين مكة دون مسافة القصر والعجوز التي لا تشتهي وهل المحرم شرط للوجوب أو للزوم والأداء على روايتين

إحداهما هو شرط للوجوب وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى قال في رواية ابن منصور المحرم للمرأة من السبيل الفصل الثاني في المحرم

وقد قال الشيخ هو وزوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح

وتسمية الزوج محرما تمسك بقوله لا تسافر المرأة إلا مع محرم وفي أكثر الروايات ذو محرم ومعلوم أنها تسافر مع الزوج فيتناوله اسم محرم وربما لم يسم محرما على ما جاء في أكثر الروايات إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها

وسبب هذا أن المحرم إما صفة أو مصدر وهو مشتق إما من التحريم أو من الحرمة فأما الزوج فإنها مباحة له فإن كانت محرمة عليه لكونها معتدة من وطيء شبهة أو محرمة وهو محل أو هما محرمان قد وجب التفريق بينهما لكونهما في قضاء حج فاسد وفي معناه سيد الأمة فإن كانت حراما عليه

وأما من تحرم عليه بالنسب من ولدها وابائها وأخوتها وبني أخوتها وأعمامها وأخوالها فكلهم محارم لها سواء كان سبب النسب نكاحا صحيحا أو فاسدا أو وطء شبهة فإن أحكام الأنساب الثابته على هذه الوجوه سواء في الأحكام

فأما بنته من الزنا وأخته ونحو ذلك فلا نسب بينهما وإن حرمت عليه فليس بمحرم لها في المنصوص بخلاف أمه وكذلك ابنته التي لاعن عليها ليس هو محرما لها ولا ابنه ولا أبوه

وأما السبب فقسمان صهر ورضاع أما الصهر فأربع زوج أمها وابنتها وأبو زوجها وابنه

وأما الرضاع فإنه يحرم منه ما يحرم من النسب وهؤلاء كلهم محارم

وأما من يحرم نكاحها تحريما عارضا كالمطلقة ثلاثا وأخت إمرأته وسريته ونحو ذلك فليس هو محرما لهن لأنه لو كان محرما لهن لكان من تزوج أربعا قد صار محرما لجميع بنات ادم

وذلك لأنها إذا حرمت على التأبيد يئست النفس منها ولم يبق لها طمع في أن تنظر إليها نظر شهوة في الحال ولا في المآل بخلاف من تحرم في الحال فقط فإن اعتقاد حلها بطريق من الطرق تطمع النفس بالنظر إليها ويصير الشيطان ثالثهما في ذلك ولو كان مجرد التحريم كافيا في ذلك لكان محرما لسائر المحصنات بل لسائر النساء

وقال ابن أبي موسى ولو حجت المرأة بغير محرم أجزأتها الحجة عن حجة الفرض مع معصيتها وعظيم الأثم عليها

مسألة فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة وجملة ذلك أن من وجب عليه أن يحج بنفسه أو نائبه في حياته ففرط في ذلك حتى مات وله تركة وجب أن تخرج من ماله حجة وعمرة إذا قلنا بوجوبها وهو المشهور في المذهب

وكذلك من وجب عليه ولم يفرط وهو من كان به مرض يرجى برؤه أو كان محبوسا أو ممنوعا أو كان بطريقة عاقة أو ضاق الوقت عن حجة وعمرته أو لم يكن للمرأة محرم إذا قلنا بوجوب الحج في ذمتهم ويكون هذا الحج دينا عليه يخرج من رأس ماله مقدما على الوصايا والمواريث هذا مذهب أحمد نص عليه في موضع وأصحابه كما قلنا مثل ذلك في الزكاة والصيام لأن الحج دين من الديون بدليل ماروى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال جاء رجل من خثعم إلى النبي فقال إن أبي أدركه الاسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزيء عنه قال نعم قال فاحجج عنه رواه أحمد والنسائي وعن سليمان بن يسار عن الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله فجاءه رجل فقال يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها فقال رسول الله أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاحجج عن أمك رواه النسائي وقال لم يسمع سليمان بن يسار من الفضل ورواه أحمد عن سليمان عن عبيد الله عن الفضل بن عباس أن رجلا سأل رسول الله فقال يا رسول الله إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته أفأحج عنه قال أرأيت لو كان عليه دين فقضيته عنه أكان يجزيه قال نعم قال فأحجج عن أبيك وهذا أشبه بالصواب لأن الذي في حديث الفضل إنما سألت عن أمها وبدليل ما سيأتي من الأحاديث وإذا كان بمنزلة الدين دخل في عموم قوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فإن الله سبحانه عم بقوله { أو دين } فإنها نكرة في سياق معنى النفي لأن قوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } في معنى قوله إنما الميراث بعد وصية أو دين ولم يخصص دين الآدمي من دين الله سبحانه ولهذا لو كان قد نذر الصدقة بمال ومات قبل أن يتصدق أخرج عنه من صلب المال

وأيضا عن بريدة بن الحصيب قال بينما أنا جالس عند رسول الله إذ أتته إمرأة فقالت اني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميرث قالت يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته إقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري

وعن ابن عباس قال أمرت أمرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزيء أمها أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزيء عنها فلتحج عن أمها وعنه أيضا أن أمرأة سألت النبي عن أبيها مات ولم يحج قال حجي عن أبيك وعنه قال قال رجل يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق رواهن النسائي

فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه

أحدها أن النبي أمر بفعل حجة الإسلام والحجة المنذورة عن الميت وبين أنها تجزيء عنه وهذا يدل على بقائها في ذمته وأنها لم تسقط بالموت وأنها تؤدي عنه بعد الموت

وكل ما يبقى من الحقوق بعد الموت ويؤدي بعد الموت فإنه يجب فعله بعد الموت إذا كان له ما يفعل منه وذلك لأن من يقول لا يجب فعله بعد الموت يزعم أن حجة الإسلام قد سقطت بالموت وأن الذي يفعل عنه حج تطوع له أجره وثوابه لأن الواجب زعم لا يفعل إلا بإذنه حتى لو أوصى بذلك فإن الذي يوصى به ليس هو حجة الإسلام عنده والنبي بين أن نفس الواجب هو الذي يقضي عنه

والثاني أن النبي بين أن الحج دين في ذمته وكل من عليه دين فإنه يجب أنه يقضي عنه من تركته بنص القرآن

الثالث قوله اقضوا الله فالله أحق بالوفاء وقوله في حديث اخر عن الصوم فحق الله أحق إما أن يكون معناه أن قضاء دين الله أوجب من قضاء دين الآدمي كما فسره بذلك القاضي وغيره من أصحابنا لأن وجوبه أوكد وأثبت ويرجح هذا المعنى أن وجوب الحج والزكاة آكد من وجوب قضاء دين الآدمي لأنهما من مباني الإسلام مع ظاهر قوله فالله أحق بالوفاء فعلى هذا إذا وجب قضاء دين الآدمي من تركته فأن يجب قضاء دين الله أولى وأحرى

وإما أن يكون معناه إذا كان قضاء دين الآدمي يجزيء عنه بعد الموت فدين الله أحق أن يجزىء لأن الله تعالى كريم جواد ومن يكون أحرى بقبول القضاء فحقه أولى أن يقضي لأنه أجدر أن يحصل بقضائه براءة الذمة ويرجح هذا المعنى أن القوم إنما سألوه عن جواز القضاء عن الميت لا عن وجوبه عليهم فعلى هذا إذا وجب فعل الدين عنه لبقائه وكونه يجزيء عنه بعد الموت وجب قضاء الحج ونحوه عنه لبقائه وكونه يجزيء بعد الموت لأن معناهما واحد

الرابع أن هذه الأحاديث تقتضي جواز فعل الحج المفروض عن الميت سواء وصى بذلك أولم يوص وسواء كان له تركة أو لم يكن لأن النبي لم يسألهم عن تركة خلفوها وتقتضي أن ذلك يجزيء عنه ويؤدي عنه ما وجب عليه وهذه الأحكام بعينها أحكام ديون الآدميين

الخامس أن النبي أمر الولي أن يحج عنه والأمر يقتضي الوجوب لا سيما وقد شبهه بالدين الذي يجب قضاؤه من تركته ولما كان الدين يجب قضاؤه إن كانت له تركة ويستحب قضاؤه إذا لم يكن له تركة فكذلك الحج وأيضا فقد تقدم إجماع الصحابة أنه إذا مات وعليه صيام من رمضان أطعم عنه كما يطعم عن نفسه إذا كان شيخا كبيرا فإذا وجب الإطعام في تركته فكذلك يجب الحج من تركته ولا فرق وأيضا فإن الحج حق مستقر في حياته تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كديون الآدمي ولأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كديون الآدميين

فإن قيل إذا مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد بدليل قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } إلى قوله { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } وقوله { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } ولأنه إذا مات قبل أن يحج مات عاصيا على كبيرة من الكبائر بل تخوف عليه أن يموت على غير الإسلام كما يذكر إن شاء الله في مسألة الفور فلو كان الحج يجب أن يفعل عنه بعد موته ويجزؤه كما يجزؤه لو فعله في حياته لكان يجوز للرجل أن يؤخره الحج إلى ما بعد الموت كما له أن يؤخر إلى آخر حياته عند من يجوز تأخيره والذي يبين ذلك أن الحج وغيره من العبادة ابتلاء للعبد وامتحان له وأمر له بأن يعبد الله وهذا القدر لا يحصل إلا بأن يقصد العبادة ويفعلها بنفسه أو يأمر من يفعلها وبالموت قد تعذر ذلك ولهذا لو حج عنه في حياته غيره بغير إذنه لم يجز عنه وهذا بخلاف دين العبد فإنه لا يفتقر إلى النية ويصح بدون إذنه لو أداه عنه غيره بغير إذنه جاز ولو اقتضاه الغريم من ماله بدون إذنه برئت ذمته

وإذا كان كذلك فيجب أن تحمل الأحاديث على قوم لم يحجوا ولم يجب عليهم الحج لكونهم لم يملكوا زادا وراحلة أو على أنه وإن وجب عليهم لكن لهم ثواب وأجر ما يفعل عنهم لا أن الواجب نفسه يسقط وإذا لم يسقط الواجب لم يجب على الورثة شيء

قلنا لا ريب أنه يموت عاصيا معرضا للوعيد لكن هذا لا يوجب سقوطه عنه وعدم صحته ووجوبه بعد موته كمن أخر الصلاة عامد حتى خرج وقتها أو أفطر في رمضان عمدا فإن ذلك من الكبائر وإن وجب عليه القضاء وأجزأ عنه وكذلك من مطل الغرماء بديونهم مع اليسار حتى مات فإنه يأثم بهذا المطل والتأخير ويؤدي عنه بعد موته ويجزؤه بل عندنا لو أخره لغير عذر ثم فعله في آخر عمره أجزأ عنه وأثم بالتأخير إلا أن يتوب ويستغفر وهذا لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليه أن يحج وأن يكون الحج بنفسه كما أوجب عليه أن يصلي ويصوم وأن يفعل الصلاة والصوم في وقتهما فمتى تعذر عليه فعله بنفسه وهو أحد الواجبين لم يسقط الواجب الآخر وهو مطلق الحج الذي يمكن أن يفعل عنه وإذا تعذر فعل العبادة في وقتها لم يسقط نفس الفعل بل يفعل بعد الوقت فهذا الذي أخر الحج حتى مات إن لم يفعل عنه لحقه وعيد ترك الحج بالكلية وإن فعل عنه أجزأ عنه نفس الحج وبقي إثم تأخيره وتفريطه فيه وترك فعله كما يبقى على من يقضي الدين إثم المطل وأشد وسؤاله الرجعة وكونه يخاف عليه الموت على غير الإسلام حق لأن ذلك لأجل تركه الحج بنفسه وتفريطه فيه كما أن من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله وإن قضاها وكما يلحق الوعيد الذين هم عن صلاتهم ساهون وإن صلوها بعد الوقت وهنا قد قضوها بأنفسهم فكيف بمن يقضي عنه غيره بغير إذنه

ولأن هذا النكال وهذا الخطر والعذاب الشديد يكون حين الموت قبل أن يحج عنه فإذا حج عنه خفف عنه ذلك بدليل

ولأنه ليس كل من مات يحج عنه إما لأنه قد لا يخلف مالا أو لأنه قد يتهاون الورثة في الإخراج عنه فمن كان في علم الله أنه يحج عنه يكون أمره أخف

وأما كون الفرائض لا يصح فعلها إلا بنية المكلف وأمره لأن امتثال الأمر بدون ذلك محال فذلك فيما وجب أن يفعله بنفسه ولهذا لو حج عنه غيره حجة الإسلام في حياته بدون أمره لم يصح فإذا مات صار المخاطب بالوجوب غيره وهم الورثة ثم إن الله تعالى بكرمه وجوده أقام فعلهم عنه مقام فعله بنفسه وإن كان لم يفرط في التأخير لكونه معذورا وإن كان فرط قام مقامه في نفس الفعل وبقي إثم الترك عليه هو إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا لأن ما وجب أن يفعله بنفسه يستحيل أن ينويه غيره فأما إذا كان الوجوب على غيره مثل أداء الزكاة من مال اليتيم فإن المخاطب بها هو الولي

يبقى الحج عن المعضوب هل يجزيء عنه بدون إذنه قال أصحابنا لا يجزيء عنه بدون إذنه ويتوجه

وأيضا فإن ذلك ما دام إذنه ممكنا فعند تعذر إذنه يجوز أن يجعل الله فعل غيره قائما مقام فعله في الواجبات وامتثال الأوامر كما قد يقوم فعل غيره مقام فعله في المندوبات وحصول الثواب كما تقدم في مسألة إهداء الثواب للموتى وتقدم تقرير هذه القاعدة وأن من زعم أن العمل لا ينفع غير عامله في جميع المواضع فقد خرج عن دين الإسلام

فصل

يجب الحج عن الميت والعاجز من حيث وجب عليه قال القاضي يلزمهم أن يحجوا عنه من دويرة أهله وهو الموضع الذي ملك فيه الزاد والراحلة سواء كان هو وطنه أو لم يكن وسواء مات فيه أو في غيره ثم إن مات في بلد الوجوب حج عنه من ذلك البلد وإن مات في بلد أبعد عن مكة منه أو هو في جهة غير جهة بلد الوجوب حج عنه من بلد الوجوب ولم يجب أن يحج عنه من بلد الموت وإن مات ببلد أقرب إلى مكة من بلد الوجوب وجب أن يحج عنه من بلد الوجوب أيضا إلا أن يكون قد مات قاصدا الحج

قال في رواية الأثرم يحج عنه من حيث وجب عليه من حيث أيسر قيل له فرجل من أهل بغداد خرج إلى خراسان فأيسر ثم تحج عنه من حيث أيسر فذكر له أن رجلا قال يحج عنه من الميقات فأنكره

قيل له فرجل من أهل خراسان أو من أهل بغداد خرج إلى البصرة ومات بها قال يحج عنه من حيث وجب عليه

وقال في رواية أبي داود رجل من أهل الري وجب عليه الحج ببغداد ومات بنيسابور نحج عنه من بغداد وذلك لأن النبي جعل الحج الذي عليه دينا وأمر الوارث أن يفعله عنه كما يفعل الدين وقد كان عليه أن يحج من دويره أهله فكذلك من يحج عنه

ولأن الحجة التي ينشئها من دويرة أهل أفضل وأتم من التي ينشئها من دون ذلك بدليل قوله سبحانه { وأتموا الحج والعمرة لله } قال علي رضي الله عنه إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك يعني أن تنشيء لها سفرا من دويرة أهلك فإذا مات فقد استقرت في ذمته على صفة تامة فلا يجزيء أن يفعلها بدون تلك الصفة ولأنها مسافة وجب قطعها في حال الحياة فوجب قطعها بعد الموت كالمسافة من الميقات وهذا لأنه لو كان مجرد الحج كافيا لأجزأ الحج عنه من مكة لأنها حجة تامة

ولأن قطع المسافة في الحج أمر مقصود لأن النبي جعل ذلك جهاد فقال الحج جهاد كل ضعيف وقال للنساء عليكن جهاد لاقتال فيه الحج والعمرة ولهذا كان ركن الوجوب الزاد والراحلة هو المال فيجب الحج بوجوده وينتفي الوجوب بعدمه

ومعلوم أن المال لا يحتاج إليه في أفعال الحج فإن أكثر المواقيت بينها وبين مكة دون مسافة القصر وذلك القدر لا يعتبر له راحلة ولا ملك زاد أيضا ولهذا ذكر النبي الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك ولم يذكر مثل هذا في المصلي ونحوه لأنه ليس المال من خصائصه

فلو جاز أن يحج عنه من دون الميقات لسقط ما يعتبر له المال من قطع المسافة

وأيضا فإن النائب يجب أن يحج من حيث وجب على المنوب عنه كالمعضوب فإنه لا بد أن يحج عنه من دويرة أهله والميت مثله لأنهما في المعنى سواء

فإن قيل فهذا الميت والمعضوب لو قطع هذه المسافة لغير الحج ثم أراد إن شاء الحج لم يجب عليه أن يرجع إلى دويرة أهله

قلنا وكذلك لو جاوز الميقات غير مريد لمكة ثم عرض له قصدها جاز أن يحرم من موضعه وإن لم يجز له ابتداء أن يجاوز إلا محرما

ولأن من حج بنفسه يسقط عنه الفرض بنفس أداء المناسك على أي صفة كان بخلاف من حج من غيره

فصل

ومتى ملك الزاد والراحلة وجب عليه أن يحج على الفور فإن أخره بعد ذلك عصى بذلك هذا هو المشهور في المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا مثل أبي بكر وابن حامد وغيرهم وقد نص أحمد في رواية عبد الله وابن إبراهيم فيمن استطاع الحج وكان مؤسرا ولم يحبسه علة ولا سبب لم تجز شهادته

وقال إنه لا تقبل شهادة من كان مؤسرا قد وجب عليه الحج ولم يحج إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه

ولم يفرق بين أن يكون عازما على فعله أو غير عازم ولم يأمر الحاكم بالإستفصال

وقال ابن أبي موسى اختلف أصحابنا في الحج هل هو على الفور أو على التراخي على وجهين أصحهما أنه على الفور على من وجد السبيل إليه وهو بين في كلام أحمد رضي الله عنه

ولأن أحمد أوجب أن نخرج عن الميت من حيث يجب عليه وإن مات أبعد منه أو أقرب ولو كان الوجوب في غير وطنه

وذكر القاضي أبو الحسين في المسألة روايتين إحداهما أنه على التراخي ذكرها ابن حامد وكذلك ذكر ابن أخيه لآنه قال وإذا وجد الزاد والراحلة وجب الحج عليه

وقال ولا تقبل شهادة من كان مؤسرا قد وجب الحج عليه ولم يحج إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه وهو قياس على سائر العبادات المؤقتة

وذكر القاضي أبو يعلى الصغير في المسألة روايتين إحداهما أن وجوبه على التراخي واختار ذلك لأن فريضة الحج نزلت على رسول الله في سنة خمس أو ست لأن ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبة وقد وفد على النبي سنة خمس ولأن الله تعالى قال { وأتموا الحج والعمرة لله } فأمر بإتمامهما وذلك يقتضي وجوب فعلهما تامين ووجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما كما أن قوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } يقتضي ذلك لأن حقيقة الإتمام فعل الشيء تاما وذلك أعم من أن يبدأ ثم يتم أو أن يعمل بعد الإبتداء ولو لم يكن الأمر بإتمامهما إلا للداخل فيهما فإنما يجب الإتمام لما كان واجبا بأصل الشرع

أما أن يكون إتمام العبادة واجبا أو جنسها ليس واجبا بالشرع بل العبادات اللواتي يجب جنسهن في الشرع لا يجب إتمامهن فهذا بعيد

وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست من الهجرة بإجماع أهل التفسير

وأيضا فإن الله فرض الحج على لسان إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } وشرع من قبلنا شرع لنا لا سيما شرع إبراهيم فإنا مأمورون باتباع ملته بقوله تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } وبقوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله { من الصالحين } وقوله { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا } وقد فسر جماعة من السلف الحنيف بالحاج وقوله { قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } وبقوله { إني جاعلك للناس إماما } وبقوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا } وبقوله تعالى { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم } في اخر سورة الحج والمناسك وقوله تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي } خصوصا حرمة الكعبة وحجها فإن محمدا لم يبعث بتغيير ذلك وإنما بعث بتقريره وتثبيته وإحياء مشاعر إبراهيم عليه السلام وقد اقتص الله علينا أمر الكعبة وذكر بنائها وحجها واستقبالها وملة إبراهيم في أثناء سورة البقرة وذكر أيضا ملة ابراهيم والبيت وأمره وثلث ذلك في أثناء سورة آل عمران وذكر الحج وأمره وسننه وملة إبراهيم والمناسك والحض عليها وتثبيت أمرها في سورة الحج وسورة الحج بعضها مكي بلا شك وأكثرها أو باقيها مدني متقدم فعلم بذلك أن إيجاب الحج وفرضه من الأمور المحكمة من ملة ابراهيم فيكون وجوبه من أول الإسلام وإذا كان وجوبه متقدما وهو فتح مكة في رمضان سنة ثمان وأقام الحج للناس تلك السنة عتاب بن أسيد أمير رسول الله ثم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه في سنة تسع فأقام للناس الموسم ومعه علي بن أبي طالب بسورة براءة ورجال من المسلمين فلو كان الحج واجبا على الفور لبادر رسول الله إلى فعله

وأيضا فإن الله تعالى أوجبه إيجابا مطلقا وأمر به ولم يخص به زمانا دون زمان فيجب أن يجوز فعله في جميع العمر

ومن قال من أصحابنا قال إن الأمر المطلق لا يقتضي فعل المأمور به على الفور لا سميا والحج هو عبادة العمر فيجب أن يكون جميع العمر وقتا له كما أن الصلاة لما كانت عبادة وقت مخصوص وقضاء رمضان لما كان عبادة سنة مخصوصة كان جميع ذلك الزمن وقتا له

وأيضا فإنه لو وجب على الفور لكان فعله بعد ذلك الوقت قضاء كما لو فعل الصلاة بعد خروج الوقت وليس كذلك

وأيضا فإنه إذا أجره وفعله فقد برئت ذمته والأصل براءة الذمة من إثم التأخير فمن ادعاه فعليه الدليل فعلى هذا هل يجب العزم على الفعل لجواز تأخيره وإنما يجوز تأخيره إلى أن تظهر أمارات العجز ودلائل الموت بحيث يغلب على ظنه أنه إن لم يحج ذلك العام فاته فإن أخره بعد ذلك أثم ومات عاصيا وإن مات قبل ذلك فهل يكون آثما ذكر أبو يعلى فيه وجهين واختار أنه لا يكون اثما كما لو مات من عليه الصلاة وقضاء رمضان في أثناء وقتهما

والأول هو المذهب المعروف لمسلكين عام وخاص

أما العام فهو أن الأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور بل عند أكثر أصحابنا ليس في الشريعة إلا واجب مؤقت أو واجب على الفور

أما واجب يجوز تأخيره مطلقا فلا يجوز لأنه إن جاز التأخير إلى غير غاية موصوفة بحيث لو مات مات غير عاص بطل معنى الوجوب وإن جاز إلى أن يغلب على ظنه الفوت إن لم يفعل لم يجز لوجهين

أحدهما أن هذا القدر غير معلوم ولا مظنون فإن الموت إنما يعلم بأسبابه وإذا نزلت أسباب الموت من المرض الشديد ونحوه تعذر فعل المأمور به وقبل حصول أسبابه فإنه لا يغلب على ظن أحد أنه يموت في هذا العام ولو بلغ تسعين سنة

الثاني إنه إن مات قبل هذا الظن غير عاص لزم أن لا يجب الفعل على أكثر الخلق لأن أكثرهم يموتون قبل هذا الظن وإن عصى بذلك فبأي ذنب يعاقب وإنما فعل ما جاز له وما الفرق بينه وبين من مات في أثناء وقت الصلاة وكيف يجوز أن يقال إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت }

وأما المسلك الخاص فمن وجوه أحدهما ما روى ابن عباس رضي الله عنه عنهما عن النبي قال تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له رواه أحمد فأمر بالتعجيل والأمر يقتضي الإيجاب لا سيما واستحباب التعجيل معلوم الضرورة من نفس الأمر بالحج فلم يبق لهذا الأمر الثاني فائدة إلا الإيجاب وتوكيد مضمون الأمر الأول

وعن مهران أبي صفوان قال قال رسول الله من أراد الحج فليتعجل رواه أبو داود وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال قال رسول الله من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة رواه أحمد وابن ماجه وفيه أبو إسرائيل الملائي

فأمر بالتعجيل كما أمر به في الحديث الأول وأمره بالتعجيل من أراده لا يمنع الوجوب فإن إرادة الواجب واجبة كما قال تعالى { لمن شاء منكم أن يستقيم } ويجب عليه أن يريده ويعزم عليه حين وجوبه عليه وإنما ذكره والله أعلم وبالإرادة ليبين أنه في الحين الذي يعزم عليه ينبغي أن يفعله لا يؤخره ولا يتأخر فعله عن حين إرادته فإن هذه الإرادة هي التي يخرج بها من حيز الساهي والغافل لا إرادة التخيير بين الفعل والترك لقوله من أراد الجمعه فليغتسل

وأيضا فإن فعل القضاء من الحج يجب على الفور فإنه لو أفسد الحج أو فاته لزمه الحج من قابل بدليل قوله عليه السلام من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل وهذا لاخلاف فيه فإذا كان القضاء يجب على الفور فأن تجب حجة الإسلام الأداء بطريق الأولى والأحرى

وأيضا فإن تأخيره إلى العام الثاني تفويت له لأن الحج ليس كغيره من العبادات يفعل في كل وقت وإنما يختص بيوم من السنة فإذا أخره عن ذلك اليوم جاز أن يدرك العام الثاني وجاز أن لا يدركه وأن يموت أو يفتقر أو يمرض أن يعجز أو يحبس أو يقطع عليه الطريق إلى غير ذلك من العوائق والموانع فلا يجوز التأخير إليه وإلى هذا أشار بقوله فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة وقوله في حديث اخر ينتظر أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا

وأيضا فإن من مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد وهو ما روى هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو ثنا أبو اسحق الهمداني عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا رواه الترمذي ورواه ابن بطة وزاد فيه ومن كفر فإن الله غني عن العالمين وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال مجهول والحارث مضعف عضده ما روى شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي قال من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا رواه ابن المقريء أبو عروبة ورواه أحمد ثنا وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط قال قال رسول الله من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ورواه سعيد هكذا مرسلا عن أبي الأحوص عن ليث

وعن عمر رضي الله عنه قال من كان ذا ميسرة ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا

وعن الضحاك بن عزوم قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مات وهو مؤسر لم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا

وعن عدي بن عدي قال قال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ولولا ما أرى من سرعة الناس في الحج لجبرتهم عليه ولكن إذا وضعتم الرحال فشدوا السروج وإذا وضعتم السروج فشدوا الرحال

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال من وجد إلى الحج سبيلا سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه لا ندري مات يهوديا أو نصرانيا

وعن إبراهيم قال كان للأسود بن يزيد جار مؤسر لم يحج فقال له لو مت لم أصل عليك رواهن سعيد

والمرسل إذا إعتضد بقول الصحابي صار حجة بالإتفاق

وهذا التغليظ يعم من مات قبل أن يغلب على ظنه الفوات وهم أكثر الناس ومن غلب على ظنه ففي تأخيره تعرض لمثل هذا الوعيد وهذا لا يجوز وإنما لحقه هذا لأن سائر أهل الملل من اليهود والنصارى لا يحجون وإن كانوا قد يصلون وإنما يحج المسلمون خاصة

وأيضا فإنه إجماع السلف رواه أحمد وسعيد عن هشيم ثنا منصور عن الحسن قال قال عمر بن الخطاب لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار فينظروا كل رجل ذا جدة لم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين وهذا قاله عمر ولم يخالفه مخالف من الصحابة وإنما عزم على ذلك وإن كان تارك الحج إذا كان مسلما لا يضرب عليه الجزية لأنه كان في أول الإسلام الغالب على أهل الأمصار الكفر إلا من أسلم فمن لم يحج أبقاه على الكفر الأصلي فضرب عليه الجزية ولولا أن وجوبه على الفور لم يجعل تركه شعارا للكفر

وقد روي عن الحسن بن محمد قال أبصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما بعرفه من أهل البحرين عليهم القمص والعمائم فأمر أن تعاد عليهم الجزية رواه سعيد

وعن أبي هارون العبدي قال قال عمر حجوا العام فإن تستطيعوا فقابل مرتين أو ثلاثا فمن لم يستطع فقابل فمن لم يفعل فاذنوني أضرب عليهم الجزية رواه سفيان بن عيينة عنه وهذا صريح بأنه على الفور وقد خاطب به عمر الناس ولم يخالفه مخالف

وأيضا فإن الحج تمام الإسلام لأن الاسلام بني على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ولهذا لما حج النبي أنزل الله قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }

وكانت شرائع الإسلام تنزل شيئا فشيئا فصار الحج كمال الدين وتمام النعمة فإذا لم يحج الرجل لم يكن إسلامه ودينه كاملا بل يكون ناقصا ولا يجوز للمسلم أن يترك دينه ناقصا كما لا يجوز أن يخل بالصلاة والصوم والزكاة بعد وجوبها

وأما ما ذكروه من أن الحج فرض متقدما وأخره النبي وأصحابه فعنه أجوبة

أحدها أنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد أن الله أوجب الحج وكتبه ومكث النبي وعامة أصحابة مؤخرين له من غير عائق أصلا خمس سنين ولا سنة واحدة فإن القوم رضوان الله عليهم كانوا مسارعين في الخيرات وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار يبادرون إلى فعل الصلاة في أول الوقت طلب الفضل والثواب لعلمهم بما في المسابقة من الأجر فكيف يؤخرون الحج بعد وجوبه من غير عذر أصلا

وتأخيره إن لم يكن محرما فإنه مكروه أو هو خلاف الأحسن والأفضل وتأخر عن مقامات السبق ودرجات المقربين فكيف تطبق الأمة مع نبيها على ترك الأحسن والأفضل لغير عذر أصلا

وأيضا فقد مات منهم في تلك السنوات خلق كثير لم يحجوا أفترى أولئك لقوا الله عاصين بترك أحد مباني الإسلام ولم ينبههم النبي على ذلك ولا قال لهم احذروا تفويته مع أنه من لم يحج خير بين أن يموت يهوديا أو نصرانيا وقد علم بغير ريب أن قبل الفتح لم يحج مسلم وبعد الفتح إنما حج عتاب ابن أسيد على عادة الكفار وهديهم وانما حج بعض أهل مكة ثم في السنة الثانية أمر النبي بنفي المشركين عن البيت وبأن لا يطوف بالبيت عار وإنما حج من المسلمين نفر قليل

ثم إن حج البيت من فروض الكفايات وقد قال ابن عباس لو أن الناس تركوا الحج عاما واحدا لا يحج أحد ما نظروه بعده رواه سعيد فكيف يتركون المسلمون الحج بعد وجوبه سنة في سنة فإن حج الكفار غير مسقط لهذا الإيجاب

وأما قولهم إنه فرض سنة خمس أو ست فقد اختلف الناس في ذلك اختلافا مشهورا فقيل سنة خمس وقيل سنة ست وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع وقيل سنة عشر فالله أعلم متى فرض غير أنه يجب أن يعلم إما أنه فرض متأخر أو فرض متقدم وكان هناك مانع عام يمنع من فعله وإلا لما أطبق المسلمون على تركه وتأخيره

الجواب الثاني أن الأشبه والله أعلم أنه إنما فرض متأخر يدل على ذلك وجوه أحدها أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه قوله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقد قيل إن هذه الآية إنما نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر ويدل على ذلك أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب وتقرير ملة ابراهيم وتنزيهه من اليهودية والنصرانية وصدر سورة آل عمران إنما نزلت لما جاء وفد نجران إلى النبي وناظروه في أمر عيسى بن مريم عليه السلام ووفد نجران إنما قدموا على النبي باخره وأما قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } فإنه نزل عام الحديبية سنة ست من الهجرة لما صد المشركون رسول الله عن إتمام عمرته التي قد كان أهل بها وفيها بايع المسلمين بيعة الرضوان وفيها قاضي المشركين على الصلح على أن يعتمر من قابل فإنما يتضمن الأمر بالإتمام وليس ذلك مقتض للأمر بالابتداء فإن كل شارع في الحج والعمرة مأمور بإتمامها وليس مأمورا بإبتدائهما ولا يلزم من وجوب إتمام العبادة وجوب ابتدائها كما لا يلزم من تأكيد استحباب الإتمام تأكيد استحباب الشروع

وأما كون الحج والعمرة من دين ابراهيم عليه السلام فهذا لا شك فيه ولم يزل ذلك قربة وطاعة من أول الإسلام وجميع آيات القرآن تدل على حسن ذلك واستحبابه وأما وجوبه فلا يعلم أنه كان واجبا في شريعة إبراهيم البتة ولم يكن لإبراهيم عليه السلام شريعة يجب فيها على الناس ويوضح ذلك أنه لم يقل أحد أن الحج كان واجبا من أول الإسلام

الوجه الثاني أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج مثل حديث وفد عبد القيس لما أمرهم بأمر فصل يعملون به ويدعون إليه من وراءهم ويدخلون به الجنة أمرهم بالإيمان بالله وحده وفسره لهم أنه الصلاة والزكاة وصوم رمضان وأن يعطوا من المغنم الخمس ومعلوم أنه لو كان الحج واجبا لم يضمن لهم الجنة إلا به

وكذلك الأعرابي الذي جاء من أهل نجر ثائر الرأس الذي قال لا أزيد على هذا ولا أنقص منه إنما ذكر له النبي الصلاة والزكاة والصوم

وكذلك الذي أوصاه النبي بعمل يدخله الجنة أمره بالتوحيد والصلاة والزكاة وصوم رمضان وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الصيام مع أنه قد ذكر ابن عبد البر أن قدوم وفد عبد القيس كان سنة تسع وأظنه وهما ولعله سنة سبع لأنهم قالوا أن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وهذا إنما يكون قبل فتح مكة وأما ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبه في بعض طرقه وقد تقدم اختلاف الناس في وفود ضمام وبينا أن الصواب أنه إنما وفد سنة تسع فيكون الحج إنما فرض سنة تسع وهذا يطابق نزول الآية في تلك السنة وهذا شبيه بالحق فإن سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي الكفار وقد غيروا شرائع الحج وبدلوا دين إبراهيم عليه السلام ولا يمكن مسلما أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه فكيف يفرض الله على عباده المسلمين مالا يمكنهم فعله وإنما كانت الشرائع تنزل شيئا فشيئا كلما قدروا وتيسر عليهم أمروا به

الوجه الثالث أن الناس قد اختلفوا في وجوبه والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه لاسيما والذين ذكروا وجوبه إنما تأولوا عليه اية من القران أكثر الناس يخالفونهم في تأويلها وليس هناك نقل صحيح عن من يوثق به أنه واجب سنة خمس أو سنة ست الجواب الثالث أنه وإن كان فرض متقدما لكن كانت هناك عوائق تمنع من فعله بل من صحته بالكلية سواء كان واجبا أو غير واجب أظهرها منعا أن الحج قبل حجة الوداع كان يقع في غير حينه لأن أهل الجاهلية كانوا ينسئون النسيء الذي ذكره الله في القران حيث يقول { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } فكان حجهم قبل حجة الوداع في تلك السنين يقع في غير ذي الحجة

روى أحمد بإسناده عن مجاهد في قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال حجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت

حجة أبي بكر الاخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي بسنة ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة فلذلك حين يقول النبي إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض وروى عبد الرازق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادي وجمادي ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة ثم يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه فيسمون أحسبه قال المحرم صفر ثم يسمون رجب جمادى الاخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم عادوا لمثل هذه القصة قال فكانوا يحجون في كل شهر عامين حتى وافق حجة أبي بكر الأخر من العامين في ذي القعدة ثم حج النبي حجته التي حج فوافق ذلك ذا الحجة فلذلك يقول النبي في خطبته إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض

وكذلك في رواية أخرى عن مجاهد قال هذا في شأن النسيء لأنه كان ينقص من السنة شهرا

وروى سفيان بن عمرو عن طاوس قال الشهر الذي نزع الله من الشيطان المحرم وروى أبو يعلى الموصلي عن إبراهيم في قوله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال النسيء المحرم وروى أحمد عن أبي وائل في قوله عز وجل { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما } الآية قال كان رجل ينسأ النسيء من كنانة وكان يجعل المحرم صفر يستحل فيه الغنائم فنزلت { إنما النسيء زيادة في الكفر }

وهذا مما أجمع عليه أهل العلم بالأخبار والتفسير والحديث وفي ذلك نزل قوله { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } والتي بعدها

وعن أبي بكرة أن النبي خطب في حجته فقال ألا إن الزمان قد استدار كهيته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذكر الحديث متفق عليه

وإذا كان الحج قبل حجة الوداع في تلك السنين باطلا واقعا في غير ميقاته امتنع أن يؤدي فرض الله سبحانه قبل تلك السنة وعلم أن حجة عتاب بن أسيد وحجة أبي بكر إنما كانتا إقامة للموسم الذي يجتمع فيه وفود العرب والناس لينبذ العهود وينفي المشركون ويمنعون من الطواف عراة تأسيسا وتوطئة للحجة التي أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة وأدى بها فرض الله وأقيمت فيها مناسك إبراهيم عليه السلام ولا يجوز أن يقال فقد كان يمكن المسلم أن يحج في غير وقت حج المشركين أما قبل الفتح فلو فعل ذلك أحد لأريق دمه ولمنه من ذلك وصد وكذلك بعد الفتح لأن القوم حديثوا عهد لجاهلية وفي استعطافهم تأليف قلوبهم وتبليغ الرسالة في الموسم ما فيه

والذي يبين ذلك أن النبي قد اعتمر عمرة الحديبية ثم عمرة القضية من العام المقبل ثم عمرة الجعرانة من العام الذي يليه ومعه خلق كثير من المسلمين فقد كان يمكنه أن يحج بدل العمرة فإنه أكمل وأفضل أن يجعل بدل هذه العمرة حجة أو يأمر أحدا من أصحابه بذلك ولو أنها حجة مستحبة كما أن العمرة مستحبة فلما لم يفعل علم تعذر الحج الذي أذن الله لاختصاصه بوقت دون العمرة

وقد ذكروا أيضا من جملة أعذاره إختلاط المسلمين بالمشركين وطوافهم بالبيت عراة واستلامهم الأوثان في حجهم وإهلالهم بالشرك حيث يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكة وما ملك وإفاضتهم من عرفات قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها ووقوف الحمس عشية عرفة بمزدلفة إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يمكن الحج معها ولم يمكن تغييرها بعد الفتح إلا في سنة أبي بكر حج من العام المقبل لما زالت

ومن الأعذار أيضا اشتغاله بأمر الجهاد وغلبة الكفار على أكثر الأرض والحاجة والخوف على نفسه وعلى المدينة من الكفار والمنافقين وأن الله أعلمه أنه لا بد أن يحج قبل الموت وفي بعض هذه الأمور نظر وإن صحت فهي عذر في خصوصه ليست عذرا لجميع المسلمين

وأما قولهم وجوب الحج مطلقا قلنا الأمر المطلق عندنا يوجب فعل المأمور به على الفور ولو لم يكن الأمر المطلق يقتضي ذلك فقد بينا من جهة السنة وغيرها ما يقتضي وجوب المبادرة إلى فعل الحج فيكون الأمر به مقيدا

وأيضا فإن تأخير الحج تفويت لأنه لا يتمكن من فعله إلا في وقت واحد فيصير كالعبادة المؤقتة من بعض الوجوه وإنما لم يكن فعله بعد ذلك قضاء لأن القضاء هو فعل العبادة بعد خروج وقتها المحدود شرعا حدا يعم المكلفين والحج ليس كذلك وكونه قضاء أو أداء يغير وجوب التقديم ولا جواز التأخير بدليل أن النائم والناسي والحائض والمسافر يأتون بالعبادة بعد خروج الوقت العام المحدود فيكون قضاء مع جواز التأخير أو وجوبه والمزكى يجب عليه أداء الزكاة عقيب الحول ولو أخرها لم يكن قضاء وكذلك القاضي شهر رمضان لو أخر إلى عام ثان أو أخر قضاء الحج إلى عام ثان لم يقل له قضاء القضاء وكذلك من غلب على ظنه تضايق الصلاة أو الحج في وقته فأخره وأخلف ظنه أثم بذلك ولا يكون ما يفعله قضاء وكذلك لو صرح بوجوب الفعل على الفور أو أقام عليه دليل وأخره إلى الوقت الثاني لم يكن قضاء فالحج من هذا الباب

فصل

الميت يحج عنه وليه وكذلك المعضوب كما في الحديث فإن حج غير الولي

فإن حج عن الميت أجنبي بدون إذن الوارث ففيه وجهان أحدهما يصح إختاره ابن عقيل والثاني لا يصح قاله أبو الخطاب في خلافه

فأما الحي فلا يجوز أن يحج عنه الفرض إلا بإذنه وكذلك لا يحج عنه النفل بدون إذنه لكن إن حج وأهدى له ثوابه فأما الميت فيفعل عنه الفرض بدون إذنه وأما النفل إذا فعله عنه وارث أو أجنبي فهل يقع الحج عن المحجوج عنه بحيث يكون الإحرام عنه أو يكون الحج عن الحاج ويكون الثواب للميت ففيه وجهان أحدهما لا ينعقد عن الميت حج غير واجب إلا بإذنه قال القاضي وابن عقيل في موضع

والثاني يقع عن المحجوج عنه قاله القاضي في موضع اخر وابن عقيل فعلى هذا إذا خالف النائب ما أمر به وكان عن حي لم يقع عنه بل يقع عن نفسه وإن كان عن ميت

فصل

وإذا مات وعليه دين لآدمي ودين لله تعالى مثل الزكاة والحج تحاصا في إحدى الروايتين وقال في رواية ابن القاسم إذا مات وعليه دين وزكاة تحاص الغرماء من الزكاة نصفين وهذا اختيار أكثر أصحابنا

والثانية يقدم دين الآدمي قال عبد الله في المناسك سألت أبي عن رجل مات وترك الفي درهم وعليه دين ألف درهم ولم يحج وعليه زكاة فرط فيها قال يبدأ بالدين فيقضي والحج والزكاة فيهما اختلاف من الناس من يقول إن لم يوص فهو ميراث وإن أوصى فهو من ثلثه ونحن نقول يحج عنه ويزكي من جميع المال وما بقي فهو ميراث

والحج والزكاة سواء فيما ذكره ونقله عنه أبو جعفر الجرجرائي فقال سألته عن الرجل يحج عنه قال إذا لم يكن حج فمن جميع المال وكذلك جميع ما يلزمه من الزكاة وغيره والزكاة أشد قال القاضي لم يرد أن تقدم على الحج أو تقضي دونه وإنما أراد أنها أوكد لتعلق حق الله تعالى بها وحق الفقير والحج يتعلق به حق الله فقط

فصل

ولا يخلو إما أن يحج عن غيره متبرعا أو يحج بمال فإن كان متبرعا يحج بمال نفسه جاز أن يحج عن كل أحد وفي مثل ذلك جاء حديث الخثعمية والخثعمي وأبي رزين وحديث الجهنية والمرأة الأخرى وغيرهم لكن الأفضل أن يبدأ بالحج عن أقاربه ويبدأ منهم بأبويه ويبدأ بالأم إلا أن يكون الحج قد وجب على الأب فيبدأ به قال في رواية أحمد بن الحسن ويوسف بن موسى إذا أراد الرجل الحج عن أبويه يبدأ بالأم إلا أن يكون الأب قد وجب عليه

وأما إن حج عن غيره بمال ذلك الرجل فقال في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون متبرعا بحج عن أبيه أو ابنه أو أخيه

وسئل في رواية الجرجرائي عن الرجل يعطى للحج عن ميت قال لا لا يأخذ وقال عبد الله سألت أبي رجل حج ويأخذ كل سنة حجة قال لا يعجبني هذا

وقال سألت أبي عن رجل يحب الحج ترى له أن يحج عن الناس فقال لا يعجبني أن يحج عن الناس إلا أن يبتدي فقيل له حج فلا بأس به

فد رخص فيه لمن ابتدء إذا كان مقصوده الحج

وإن حج عن ميت وارث فقال في رواية أبي الحارث وقد سئل يحج الرجل عن أبيه وعن أمه فقال إن حج من مال نفسه متبرعا وإن كان من مال الميت فلا يحج وارث عن وارث كأنه يرى أنها وصية لوارث

فصل

وتجوز الإستنابة في حج التطوع في الحياة وبعد الموت من المعضوب والقادر في إحدى الروايتين نص عليها في رواية الأثرم وقد سئل عن الصحيح هل له أن يعطي من يحج عنه بعد الفريضة يتطوع بذلك فقال إنما جاء الحديث في الذي لا يستطيع ولكن إذا أحج الصحيح عنه فارجوا أن لا يضره

وقال في رواية ابن منصور يتصدق عن الميت ويحج عنه ويسقى عنه ويعتق عنه ويصام النذر إلا الصلاة

والأخرى لا تجوز الاستنابة إلا في الفرض قال في رواية الجرجاني وقال سألته عن من قد حج الفريضة يعطي دراهم يحج عنه فقال ليس يكون له ليس عليه شيء رأى أنه ليس له أن يحج عنه بعد الفريضة وقال القاضي وظاهر هذا أنه لا تصح النيابة في فعل الحج لأنه قال ليس له أن يحج بعد الفريضة وجعل العلة أنه ليس عليه سواء كان قادر أو عاجزا وسواء فيه الإستنابة في الحياة وبعد الموت

وجعل أبو الخطاب وكثير من أصحابنا هذا فيمن يقدر أن يحج بنفسه فأما العاجز فتجوز إستنابته بلا تردد ولو كان عجزه مرجو الزوال كالمريض والمحبوس فهو كالمعضوب في النفل لأن النفل مشروع في كل عام وهو عاجز عنه في هذا العام فهو كالمعضوب الذي عجز عن الفرض في جميع العمر وهذا فيمن أحرم عن ذلك ولبى عنه

فأما إن حج عن نفسه ثم أهدى ثوابها للميت فهذا يجوز عندنا قولا واحدا لما تقدم

فصل

وإذا استناب رجلا في الحج أو ناب عنه في فرضه فإن الحج يقع عن المحجوج عنه كأنه هو الذي فعله بنفسه سواء كان من جهة المنوب مال أو لم يكن لأن النبي شبه الحج بالدين وجعل فعله عن العاجز والميت كقضاء الدين عنه وقال لأبي رزين حج عن أبيك واعتمر وقال للخثعمية حجي عنه وكذلك قال لغير واحد حج عنه

والشيء إذا فعل عن الغير كان الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب ويكون العمل مستحقا للمعمول عنه ولهذا لو وجب على الإنسان عمل في عقد أجارة فعمله عنه عامل كان العمل للأجير لا للعامل ولأنه ينوي الإحرام عنه ويلبي عنه ولو لم يكن للمحجوج عنه إلا ثواب النفقة كان بمنزلة من أعطى غيره مالا يحج عن نفسه أو يجاهد الكفار فلم يجز أن يلبي عنه

فصل

ويجوز حج الرجل عن المرأة وكذلك يجوز حج المرأة عن الرجل قال في رواية ابن منصور يحج الرجل عن الرجل والمرأة عن المرأة والمرأة عن الرجل وعليه أصحابنا لحديث الخثعمية

وقال في رواية أبي داود وقد سئل يحج عن أمه قال نعم يقضي عنها دينا عليها قيل له فينفق من ماله وينوي عنها قال جائز قيل له فالمرأة تحج عن الرجل قال نعم إذا كانت محتاجه

فصل

ولا يجوز الإستيجار على الحج وغيره من الأعمال التي لا يجوز أن تفعل إلا على وجه التقرب مثل الأذان والإمامة وتعليم القران والحديث والفقه في إحدى الروايتين

فأما أن يأخذ نفقة يحج بها فيجوز هذه طريقة القاضي وأصحابه ومن بعدهم

وقال ابن أبي موسى في الإجارة على الحج روايتان كره أحمد رضي الله عنه في إحداهما أن يأخذ دراهم فيحج بها عن غيره قال إلا أن يكون متبرعا بالحج عن أبيه أو عن أخيه أو عن أمه وأجاز ذلك في موضع اخر

وعلى هذا يكره الأخذ نفقة وأجرة مع الجواز وتجب على الكفاية وإنما تكون الروايتان في الكراهة فقط

وأجاز أبو اسحق بن شاقلا الاستئجار على الحج وما يختص نفعه مما ليس بواجب على الكفاية دون ما يعم فقال لا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر ويجوز أن يؤخذ على الحج عن الغير أجر لأن أفعال الخير على ضربين ما كان فرضا على العامة وغيرهم مثل الأذان والصلاة وما أشبه ذلك لا يجوز أن يؤخذ عليه أجر وما انفرد به من حج عنه فهو جائز مثل فعل البناء لبناء مسجد يجوز أن يأخذ عليه الأجرة لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء المسجد

فأما المنصوص عن أحمد فقال في رواية أبي طالب والذي يحج عن الناس بالأجر ليس عندنا فيه شيء وما سمعنا أن أحدا استأجر من حج عن ميت

وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما فقال أحمد نحن نكره هذا إلا أن يعينه فقد نص على كراهة الأجرة ولم يكره النفقة وقد نص في مواضع كثيرة على من يأخذ مالا يحج به عن ميت وهل يكون له الفاضل أو لا يكون

وأما الرواية التي أخذ القاضي منها جواز الاستيجار فقال في رواية عبد الله وقد سأله عمن يكرى نفسه للحج ويحج قال لا بأس وقال في رواية الكوسج يكرى نفسه ويحج إلا أن هذا إنما أراد به أن يكرى نفسه للخدمة والعمل ولهذا قال يكرى نفسه ويحج وفي مثل هذا جاءت السنة

وقال في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخته قال النبي للذي سأله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إنما الحج عمن كان له زاد وراحلة وينفق ولا يسرف ولا يقتر إذا كان ورثته صغارا

وقال في رواية الجرجرائي وقال في المعضوب يحج عنه وليه

ووجه ذلك أن النبي إنما أذن أن يحج عن المعضوب والميت من يتبرع بالحج عنهم أوجب قضاء دينهم وبراءة ذمتهم وأيضا فإن أخذه الدراهم يحج بها

وإنما كرهت الإجارة لما ذكره أحمد من أن ذلك بدعة لم يكن على عهد النبي ولا على عهد السلف وقد كان فيهم من يحتاج إلى الحج عنه ولم يستأجر أحد أحدا يحج عن الميت ولو كان ذلك جائزا حسنا لما أغفلوه ولأن الله تعالى يقول في كتابه { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } والأجير إنما يريد بهذه العبادة حرث الدنيا وقال تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } وقال { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } ولأن ذلك أكل للدنيا بالدين لأنه يبيع عمله الصالح الذي قد قيل فيه من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويشتري به ثمنا قليلا وقد قال النبي لمن إستؤجر بدراهم يغزو بها ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا وهذا لأن الإجارة معاوضة على المنفعة يملك بها المستأجر المنفعة كما يملك المشتري الأعيان المبيعة فالأجير للحج يبيع إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه لمن إستأجره بالأجر الذي أخذه

ولأن أخذ العوض يبطل القربة المقصودة كمن أعتق عبده على مال يأخذه منه لا يجزؤه عن الكفارة

ولأن الحج عمل من شرطة أن يكون قربة لفاعلة فلا يجوز الاستيجار عليه كغيره من القرب وهذا لأن دخلوه في عقد الإجارة يخرجه عن أن يكون قربة لأنه قد وقع مستحقا للمستأجر وإنما كان من شرطه أن يقع قربة لأن الله تعالى أوجب على العبد أن يعمل مناسكه كلها لله ويعبده بذلك فلو أنه عملها بعوض من الناس لم تجزه أجماعا كمن صام أو صلى بالكرا فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله تعالى عمل غيره قائما مقام عمله بنفسه وسادا مسده رحمة ولطفا فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده لأن النبي شبهه بالدين في الذمة وإنما تبرأ ذمة المدين إذا قضى عنه الدين من جنس ما عليه فإذا كان هذا العامل عنه إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده فلا يكون من جنس ما كان على الأول وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم لرحم بينهما أو صداقة أو غير ذلك وله قصد في أن يحج بيت الله فيكون حجه لله فيقام مقام حج المستنب

والجعالة بمنزلة الإجارة إلا أنها ليست لازمة ولا يستحق الجعل حتى يعمل وأما الحج بالنفقة فإنما كرهه أحمد مرة لأنه قد يكون قصده الإنفاق على نفسه مدة الحج فلا يكون حجة لله كما أن الأجير قصده ملك الأجرة وإن كانت شيئا مقدرا مثل وصية ونحوها فقد يكون قصده استفضال شيء لنفسه فيبقى عاملا لأجل الدنيا

ووجه جواز ذلك أن الحج واجب على المستطيع بماله فلا بد أن يخرج هذا المال في الحج

فصل

وإن قلنا يجوز الاستئجار على الحج فاستؤجر رجل فإنه يعتبر له شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الاجارة وتملك الأجرة بالعقد فيتصرف بما شاء ويجب العمل في ذمته فلو أحصر أو ضل الطريق أو ضاعت النفقة كان من ضمانه وإن مات إنفسخت الإجارة واستحق من الأجرة بقدر ما قطع من الطريق ويتمم الحج من حيث بلغ ذكره القاضي وما لزمه من الدماء فهو عليه لأن الحج مستحق عليه

وإن أخذها جعالة بأن يقال له إن حججت فلك هذا الجعل فهذا عقد جائز لا يملك به العوض إلا بعد الفراغ من العمل ولا يجب في ذمته شيء وإن عاقه عائق عن تمام الحج لم يكن له شيء ولا عليه شيء

قال أحمد في رواية محمد بن موسى إذا أخذ حجة عشرين دينارا فلما بلغ الكوفة مرض فرجع فإنه يرد عليهم جميع ما أخذ ولا يحتسب منه ما أنفق فإن تلف منه أو ضل الطريق فهذا يضمن ذلك وهذا إنما يكون إذا كانت جعالة لأنه لم يوجب عليه إتمام الحج ولا إحتسب له بما أنفق وجعل التالف من ضمانه وهذه أحكام الاجعال وإن أخذها نفقة سواء قلنا تصح الإجارة أولا تصح فإنه يكون بمنزلة الوكيل

والنائب المحض كالنائب في القضاء والأعمال العامة ويكون ما يأخذه بمنزلة الرزق الذي يرزقه الأئمة والقضاة والمؤذنون فلو تلف أو ضل الطريق أو مات أو مرض لم يكن عليه ضمان ما أنفق ولو تلف بغير تفريط منه لم يضمن ولم يكن عليه إتمام بقية العمل ويحسب للمستنيب بما عمله وعلى هذا أكثر نصوصه

قال في رواية ابن منصور في رجل أعطى دراهم يحج بها عن إنسان فمات في بعض الطريق فليس عليه شيء مما أنفق ويحجوا بالباقي من حيث بلغ هذا الميت

وقال في رواية أحمد بن الحسين إذا دفع إلى رجل مالا يحج به عن رجل فضاع منه في بعض الطريق فلا غرم عليه قيل له فيجزى عن الموصى حجته قال ما أدري أخبرك أرجو إن شاء الله وكذلك نقل الميموني

وإذا لم يقدر له النفقة فإنه ينفق بالمعروف ويرد ما فضل قال أحمد الذي يأخذ دراهم يحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إذا كان ورثته صغارا

وقال في رجل أخذ حجة عن ميت ففضل معه فضلة يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون مسرفا ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال إما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له حج بهذا فله أن يتوسع فيها وإن فضل شيء فهو له

وإذا قال الميت حجوا عني حجة بألف فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له

وهذه النفقة أمانة بيده له أن ينفق منها بالمعروف وإنما تقدر بأمر الميت أو المستنيب الحي أو بتقدير الورثة إذا كانوا كبارا فإن كان فيهم يتيم فليس لهم أن يقولوا ما فضل فهو لك وليس له أن يتوسع بإذنهم وغير إذنهم إذا كان في الورثة صغارا إلا أن يتبرع الكبار بشيء من حصتهم

ولا يملك الفاضل إلا بعد الحج فليس له أن يتصرف فيه قبل ذلك قال في رواية أبي طالب إذا قال حجوا عني بألف فما فضل من الألف رده على الحج ولو قال حجوا عني حجة بألف فما فضل فهو للذي يحج وإذا قال حجوا عني حجة فما فضل مما دفع إليه رد إلى الورثة وإذا دفع إلى الرجل حجة فقال ما فضل لك فأخذها الرجل فاشترى بها متاعا يتجر به قال لا يجوز له قد خالف إنما قال له امض فما فضل فهو لك لم يقل أتجر قبل

وهل لهذا الذي قدر له النفقة أن يقتر على نفسه أو أن يمشي

فصل

فأما الأجير الذي يكرى نفسه لخدمة الجمال أو الركاب ونحو ذلك ويحج عن نفسه فهو جائز بل لو أنفق عليه غيره متبرعا وحج عن نفسه أجزأه قال في رواية عبد الله والكوسج فيمن يكرى نفسه ويحج لا بأس وقال حرب سألت أحمد قلت رجل استأجر رجلا ليخرج معه فيخدمه فحج عن نفسه قال أرجو أن يجزءه قلت إذا كان أجيرا قال نعم وسألته قلت الرجل يحج مع الرجل فيكفيه نفقته وما يحتاج إليه أترجو أن يجزيء عنه قال نعم يجزيء عنه وهو بمنزلة من يكرى دوابه في هذا الوجه أو يتجر فيه

فإنه حج واعتاض عن منفعة أخرى غير الحج بل إن كان إنما يكرى نفسه ليحج بذلك العوض فهو المحسنين عن أبي أمامة التميمي قال كنت رجلا أكرى في هذا الوجه وكان ناس يقولون ليس لك حج فلقيت ابن عمر فقلت يا أبا عبد الرحمن إني رجل أكرى في هذا الوجه وإن ناسا يقولون إنه ليس لك حج فقال ابن عمر أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار قال قلت بلى قال فإن لك حجا جاء رجل إلى النبي فسأله عن مثل ما سألتني عنه فسكت عنه رسول الله فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } فأرسل إليه رسول الله وقرأ عليه هذه الآية وقال لك حج رواه أحمد وأبو داود وعن أبي السليل قال قلت لابن عباس إني رجل أكرى وإن ناسا يزعمون يقولون إنما أنت خادم إنما أنت أجير قال بلة لك حج حسن جميل إذا اتقيت الله وأديت الأمانة وأحسنت الصحابة رواه حرب

فصل

ما لزم النائب من الدماء بفعل محظور مثل الوطء وقتل الصيد ونحو ذلك فهو في ماله نص عليه لأنه لم يؤذن له في ذلك وإنما هو من جنايته فهو كما لو أتلف نفسا أو مالا وكذلك ما وجب لترك واجب

وأما دم التمتع والقران إذا أذن له فيهما على المستنيب وإلا فعليه ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من السفر فهو كنفقة الرجوع هذا هو الذي ذكره

وقال ابن أبي موسى اختلف أصحابنا في دم الإحصار هل هو من مال الأجير أو من مال المستأجر على وجهين

وإن أفسد الحج أو فوته بتفريطه كان عليه رد ما أخذ لأنه لم يجز عن المستنيب بتفريطه والقضاء عليه في ماله

فصل

وما أنفق زيادة على القدر المعتاد أو على مالا بد منه فهو في ماله فإذا سلك طريقا يمكنه سلوك أقرب منها فنفقة تفاوت ما بيت الطريقين في ماله وكذلك إن تعجل إلى مكة عجلة يمكنه تركها وإن أقام بعد الحج وبعد إمكان الرجوع أكثر من مدة القصر أنفق من مال نفسه

وأما إذا لم يمكنه الرجوع فإنه ينفق من مال المستنيب وله نفقة الرجوع وإن أقام بمكة سنين ما لم يستوطنها فإن استوطنها لم يكن له نفقة الرجوع

وإن مرض في الطريق فله نفقة رجوعه لأنه لا بد منه وقد حصل بغير تفريطه وإن قال خفت أن أمرض فرجعت فقال عليه الضمان لأنه متوهم

ولو أذن له في لنفقة في جميع ذلك جاز إذا كان المال للمستنيب وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يجز

فصل

إذا أمر بالحج فتمتع أو قرن جاز ذلك ووقع عن الآمر والدم على النائب قال أحمد في رواية أبي طالب إذا حج الرجل عن الرجل فتمتع لنفسه فما سمعت أحدا يقول يتمتع عن نفسه

وإذا قالوا له حج ودخل بعمرة فإن العمرة للذي يحج عنه والدم عليه في ماله وكذلك إن دخل قارنا فإن أحرم من مكة جاز له لأن العمرة لمن حج عنه ولو دخل بعمرة لنفسه وأراد أن يحج عن غيره خرج إلى الميقات فأحرم عنه وقال في رواية حنبل إذا قرن أو تمتع فالدم في ماله والحج والعمرة عن صاحب المال وذلك لأن المتمتع والقارن أتيا بحجة وعمرة وذلك أفضل من حجة منفردة ليس بعدها عمرة بلا تردد

وإن دخل بعمرة عن نفسه ثم أراد أن يحج عن غيره فعليه أن يخرج إلى ميقاته فيحرم منه على ما نص لأن المستنيب قد وجب عليه الإحرام من الميقات فلا بد أن يقضي عنه ذلك ولا يجوز له أن يحرم عنه من دون الميقات

وقد نقل عنه علي بن سعيد وسأله عن الرجل يحج عن غيره هل يعتمر قبل الحج فقال بنبغي له أن ينتهي إلى ما أمر فإن لم يكن أمر أن يعتمر اعتمر عن نفسه فإذا حل من عمرته حج عن الميت

وظاهر هذا أنه يحج من مكة وفيه نظر وليس له أن يحرم عنه من مكة فإن خالف وفعل ففيه وجهان

أحدهما عليه دم لترك ميقاته وعليه من النفقة بقدر ما تركه بين الميقات ومكة لأنه أخل بما يجبره دم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم

والثاني لا يقع فعله عن الأمر ويرد جميع النفقة لأنه مخالف له

وإن أمره بأن يحج ويعتمر بعد الحج فتمتع أو قرن وإن أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر وهل يرد نصف النفقة على وجهين وإن أفرد الحج وقع الحج عن المستنيب ورد نصف النفقة لتفويت العمرة من الميقات فإن اعتمر بعد الحج

وإن أمره بالقران فأفراد الحج أو تمتع وقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات

وإن أمره بالحج والعمرة ففعل أحدهما فقط رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع ما فعله عن المستنيب

مسألة ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون

أما الكافر فإن الله سبحانه وتعالى قال { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }

وأمر النبي أن ينادي في الموسم لا يحجن بعد العام مشرك

ولأن الحج عبادة والكافر لا تصح منه العبادات ولأنه مخصوص بالحرم والكافر ممنوع من دخول الحرم

وإذا ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه لأن الردة تبطل جميع العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والإعتكاف

وأما المجنون فقسمان

أحدهما الجنون المطبق مثل المعتوه ونحوه فهذا لا يصح حجه عند أكثر أصحابنا وقال أبو بكر فإن حج بالصبي أو العبد أو الأعرابي أو المعتوه أو المجنون لم تجزهم عن حجة الإسلام وأجزأت الصبي والعبد والأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن بلغوا فعليهم الحج كما قال رسول الله من لم يفعل وقوف عرفة وهو صحيح لم يجزه إلا الصبي فإن النبي قال وله حج ولأمه ولك أجر

فهذا الكلام يقتضي صحة حجة المعتوه لأن أكثر ما فيه أنه مسلوب العقل وذلك لا يمنع صحة حجة كالصبي

ووجه المشهور أن المجنون لا يصح منه شيء من العبادات وإنما هو بمنزلة البهيمة والفرق بينه وبين الصبي الصغير أن هذا له عمل وحركة بنفسه من غير عقل ولا تمييز فأشبه البهيمة وعكسه الصبي فإن غيره هو الذي يعمل به فجاز أن يحرم به ولأن الإحرام إنما يعقده وليه ووليه لا يقدر أن يجنبه محظورات الإحرام بخلاف الصبي ولأن الصبي لما عدم كمال العقل عدم ما يحتاج إلى العقل فعدمه في حقه ليس نقصا والمجنون سلب العقل مع وجود ما يحتاج إلى العقل الثاني أ يجن بعد احرامه فهذا إن كان صرعا وخنقا لم يبطل احرامه لأن هذا بمنزلة الغشي والإغماء لأنه يبطل الحركة لكن هو في هذه الحال بمنزلة المغمى عليه فلا يصح منه أركان الحج الأربعة من الإحرام والطواف والسعي والوقوف فأما المبيت بالمزدلفة ورمي الجمار فيصح في هذه الحال قاله القاضي وابن عقيل وإن كان جنونا محضا لا يبطل الحركة فهل يبطل إحرامه على وجهين ذكرهما ابن عقيل أحدهما لا يبطل فلو قتل بعد ذلك صيدا ضمنه

مسألة ويصح من العبد والصبي ولا يجزئهما

في هذا الكلام فصلان

أحدهما أن العبد يصح حجة ولا يجزؤه عن حجة الاسلام

فإن أعتق فعليه حجة أخرى وإن مات أجزأت عنه تلك الحجة وكانت حجة الإسلام في حقه وإن لم تكن واجبة

وكذلك الصبي لما روى محمد بن كعب القرضي قال قال رسول الله إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أعتق فعليه الحج رواه سعيد وأبو داود في مراسيله واحتج به أحمد

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أسمعوني ما تقولون وافهموا ما أقول لكم أيما مملوك حج به أهله فمات قبل أن يعتق فقد قضى حجه وإن أعتق قبل أن يموت فليحج وأيما غلام حج به أهله فمات قبل أن يدرك فقد قضى حجه وإن بلغ فليحج رواه الشافعي والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة وفاقا وهذا مجمع عليه ولأنه يصح منه الحج لأنه من أهل العبادات ولا يجزؤه لأن فعله قبل أن يصير من أهل وجوبه

فإن عتق العبد أو بلغ الصبي وهما محرمان بالحج بعد الوقوف وخروج وقته لم يجزهما ذلك الحج عن حجة الإسلام لأن الوقوف لا يمكن إعادته وما فعل منه وقع قبل وجوبه فلا يجزيء عن واجب الإسلام

وإن عتق وبلغ قبل الوقوف أو في أثناء الوقوف أو بعد إفاضتهما من عرفة

فرجعا إليها وأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر ليلة النحر أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام هذا هو المنصوص عنه في غير موضع وعليه أصحابه وعنه

لما احتج به أحمد ورواه بإسناده عن ابن عباس قال إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه تلك الحجة وإذا عتق بجمع لم تجزيء عنه وعن الحسن وعطاء قالا إذا عتق العبد بعدما يفيض عن عرفات أو بجمع وحاضت الجارية واحتلم الغلام فرجعوا إلى عرفة قبل طلوع الفجر فقد أجزأت عنهم حجة الإسلام ولا يعرف لهم في السلف مخالف قال أحمد ما أعلم أحدا قال لا تجزؤه إلا هؤلاء

ولأنه أتى بأركان الحج وواجباته من الإحرام والوقوف والطواف وغيره بعد الوجوب فوجب أن يجزءه وإنما أحرم قبل الوجوب والإحرام فرض مستصحب في جميع النسك فتقدمه على وقت وجوبه لا يضر كما لو تطهر الصبي للصلاة ثم بلغ فصلى بتلك الطهارة فرضا بل أولى

وهذا لأن ما فعله قبل البلوغ أسوأ أحواله أن يكون وجوده كعدمه وهو لم يحرم حتى بلغ وهو بعرفات فأحرم حينئذ أجزأه بالإجماع فكذلك إذا بلغ وهو محرم يجب أن يجزءه ما يأتي به من الإحرام بعد ذلك ويكون ما مضى كأن لم يفعل

ومن أصحابنا من قال يكون إحراما مراعا فإذا أدرك الوقوف بالغا تبينا أنه وقع فرضا وإلا فلا كما يجوز إبهامه وتعليقه ويكون مراعا إن أدرك عرفة كان بحج وإلا كان بعمرة ويظهر أثر هذين الوجهين فيما يصيبه في إحرامه قبل الوقوف هل يكون بمنزلة جناية عبد وصبي أو بمنزلة جناية حر بالغ

فإن كانا قد سعيا قبل الوقوف وقلنا السعي ركن ففيه وجهان

أحدهما يجزؤه قاله القاضي وأبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد لأنه لم يفرق بين أن يكونا قد سعيا قبل الوقوف أو لم يسعيا وهذا يتوجه على قول من يقول إنما مضى من الإحرام يصير فرضا

والثاني لا يجزؤهما قال القاضي في المجرد هو قياس المذهب وتبعه ابن عقيل وهذا إذا قلنا السعي ركن لأن السعي ركن غير مستدام وقد وقع قبل وجوب الحج فلم يجزيء عن الواجب كما لو كان البلوغ والإسلام بعد الوقوف فعلى هذا إن أعادة

فصل

وإذا أحرم العبد بإذن سيده لم يملك تحليله لأنها عبادة تلزم بالشروع وقد دخل فيها بإذنه فأشبه ما لو دخل في نذر عليه ولأنه عقد لازم عقده بإذن سيده فلم يكن للسيد فسخه كما لو تزوج بإذنه حتى لو باعة أو وهبة لم يملك المشتري والمتهب تحليله لأنه انتقل إليه مستحق المنفعة في الحج فأشبه ما لو انتقل إليه مؤجرا أو مزوجا لكن يكون الإحرام عيبا بمنزلة الإجارة لأنه ينقص المنفعة فتنقص القيمة فإن علم به لم يكن له الرد وإن لم يعلم فله الرد أو الإرش

وإن كان قد أحرم بدون إذن البائع وقلنا له تحليله لم يكن عيبا وإلا فهو عيب ولو رجع السيد عن الإذن وعلم العبد فهو كما لو لم يأذن له وإن لم يعلم حتى أحرم ففيه وجهان بناء على الوكيل إذا لم يعلم بالعزل

وإن أحرم بدون إذن سيده إنعقد إحرامه في ظاهر المذهب وخرج ابن عقيل وجها أنه لا ينعقد لأنه يغصب سيده منافعة التي يملكها فلم يصح كالحج بالمال المغصوب وأولى والأول هو المنصوص لكن هل يحل له أنه يحرم

وهل يملك السيد تحليله على روايتين إحداهما يملكه اختاره ابن حامد وغيره لأن في بقائه عليه تفويتا لمنافعه بغير إذنه فلم يلزمه ذلك فعلى هذا يكون بمنزلة المحصر بعدو وصفة التحلل

والثانية ليس له تحليله اختاره أبو بكر

وتحليل العبد والزوجة يحصل بقول السيد والزوج قد حللت زوجتي أو عبدي أو فسخت إحرامه فعند ذلك يصير كالمحصر بعدو فيما ذكره أصحابنا فأما بالفعل فقيل قياس المذهب لا يحل به

فصل

وإذا نذر العبد الحج معينا أو مطلقا فإنه ينعقد نذرة لأن النذر بمنزلة اليمين ينعقد ممن ينعقد يمينه ثم إن كان مطلقا فهل يلزمه قضاؤه في حال الرق على وجهين ذكرهما القاضي وقال أشبههما بكلامه الوجوب

وإن كان معينا

وهل لسيده تحليله منه ومنعه من المضي فيه إن قلنا لا يمنعه من التطوع فهنا أولى وإن قلنا يمنعه من التطوع فكذلك هنا قاله القاضي وابن عقيل فعلى هذا يقضيه بعد العتق ويبدأ قبله بحجة الإسلام كما سيأتي في قضاء الفاسد

ولو حلف بالطلاق ليحجن هذا العام أو ليحرمن ونحو ذلك فإنه يحرم نص عليه وينبغي لسيده أن لا يمنعه وهل يملك منعه على روايتين

إحداهما يكره منعه قال في رواية عبد الله في مملوك قال إذا دخل أول يوم من أيام رمضان فامرأته طالق ثلاثا إن لم يحرم أول يوم من رمضان يحرم أول يوم ولا تطلق إمرأته قيل له فيمنعه سيده أن يخرج إلى مكة قال لا ينبغي أن يمنعه أن يخرج

قال القاضي وظاهر هذا على طريق الأخبار وهو اختيار شيخنا

والثانية ليس له منعه نص في هذه المسألة يعينها في رواية اسحق بن إبراهيم قيل له فإن منعه سيده أن يخرج إلى مكة قال ليس له أن يمنعه أن يمضي إلى مكة إذا علم منه رشده

فصل

وإذا فسد احرامه فعليه المضي فيه سواء كان بإذن السيد أو بدون إذنه ولا يملك السيد تحليله إلا كما يملك تحليله من الصحيح وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه أو غير مأذون فيه ويصح القضاء في حال الرق في المشهور عند أصحابنا ومنهم من ذكر فيه وجهين كالوجهين في الصبي ومنهم من لم يحك هنا خلافا مع حكايته للخلاف ثم ويجب عليه

وإذا أحرم بالقضاء فليس للسيد منعه إن كان الإحرام الأول بإذنه لأن اذنه فيه إذن في موجبه ومقتضاه وإن كان بغير إذنه فهو كالحج المنذور هل لسيده منعه على وجهين أحدهما ليس له منعه وهو قول أبي بكر قال ابن عقيل وهو ظاهر كلام أحمد

والثاني له منعه وهو قول ابن حامد والقاضي في المجرد

والأشبه أنه لا فرق في الحج الفاسد بين أن يكون قد أحرم بإذنه أو بغير إذنه لأنه لم يأذن في الإفساد

فإن عتق قبل القضاء فعليه أن يبدأ بحجة الإسلام قبل القضاء فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام في المشهور من المذهب ثم إن كان قد عتق بعد التحلل من الحجة الفاسدة أو بعد وقوفها لم يجزه القضاء عن حجة الإسلام لأن أداءه لا يجزؤه

وإن عتق فيها في أثناء الوقوف أو قبله فقال القاضي وجماعة من أصحابنا يجزؤه عن حجة الإسلام لأنه لو كان صحيحا لأجزأه والفاسد إذا قضاه قام قضاؤه مقام الصحيح

وقال ابن عقيل عندي لا يصح لأنه لا يلزم من إجزاء صحيحه إجزاء قضائه كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في رمضان وقلنا يجزؤه عنهما فإنه لو أفطره لزمه يومان

فصل

وما لزمه من الكفارات التي ليست من موجب الإحرام ومقتضاه مثل ما يجب بترك واجب أو فعل محظور ونحو ذلك فقال أحمد إذا أحرم العبد ثم قتل صيدا فجزاؤه على مولاه إن أذن له قال القاضي وغيره إن أذن له في القتل

فعلى هذا كل محظور فعله بإذن سيده فجزاؤه على سيده وإن كان بغير إذنه فهو على العبد وهو بمنزلة الحر المعسر يكفر بالصوم وليس للسيد منعه منه كما ليس له أن يمنعه من صوم الكفارة هذا قول أكثر أصحابنا خرجها القاضي على الوجهين في منعه من الحج المنذور في كل دم ليس من موجب الإحرام ولا مقتضاه ولم يذكر في الإحصار خلافا وليس له أن يكفر بالمال إلا أن يأذن له سيده في التكفير به فيجوز قاله أبو بكر وابن أبي موسى قال ابن أبي موسى كما كان له أن يتسرى بإذن سيده

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إذا ملكه سيده مالا وملكه لزمه التكفير بالمال وإن قلنا لا يملكه أو لم يملكه السيد لزمه الصوم وذكر القاضي في موضع اخر وغيره أنه إذا ملكه الهدي ليخرجه أنبنى على روايتي التمليك

وما كان من موجب الإحرام مثل دم التمتع والقران إذا أذن له في ذلك فقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إن قلنا لا يملكه ففرض الصيام وإن قلنا يملك فعلى السيد أن يتحمل الهدي عنه وذكر ابن أبي موسى أن فرضه الصيام بكل حال وإذا مات العبد قبل الصيام كان لسيده أن يطعم على الروايتين جميعا قاله القاضي وابن عقيل

فصل

وإذا حج الأعرابي ثم هاجر لم يجب عليه إعادة الحج عند أكثر أصحابنا المتأخرين وقال أبو بكر لا تجزؤه تلك الحجة عن حجة الاسلام وعليه حجة أخرى وكلام أحمد محتمل قال في رواية هذا حديث ابن عباس في الصبي يحج ثم يدرك والعبد يحج ثم يعتق عليهما الحج قلت يقولون إن فيه الأعرابي يحج ثم يهاجر قال نعم

والأعرابي في حديث ابن عباس عليه الحج فيجوز أنه قاله اخذا به ويجوز أنه لم يأخذ به لأنه قد روى حديث محمد بن كعب القرضي المرسل واعتمده وليس فيه ذكر الأعرابي

واحتج أبو بكر بما رواه بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إذا حج المملوك أجزأ عنه حجة المملوك فإذا عتق فعليه حجة الإسلام وكذلك الأعرابي والصبي مثل هذه القصة ومن كفر فإن الله غني عن العالمين الفصل الثاني

أن حج الصبي صحيح سواء كان مميزا أو طفلا بحيث ينعقد إحرامه ويلزمه ما يلزم البالغ من فعل واجبات الحج وترك محظوراته لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي لقي ركبا بالروحاء فقال من القوم قالوا المسلمون فقالوا من أنت قال رسول الله فرفعت إليه إمرأة صبيا فقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجر رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

وعن السائب بن يزيد قال حج بي مع رسول الله في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين رواه أحمد والبخاري وعن جابر قال رفعت إمرأة صبيا لها إلى النبي في حجته فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجره رواه ابن ماجة والترمذي وقال غريب وعنه قال حججنا مع رسول الله معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم رواه أحمد وابن ماجة ورواه الترمذي ولفظه أحرمنا عن الصبيان وأحرمت النساء عن نفسها وفي لفظ له كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان وقال غريب وقد تقدم في الحديث المرسل وقول ابن عباس أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه وإن أدرك فعليه حجة أخرى فإن حج قبل بلوغ الإحتلام بعد بلوغ السن

فإن كان الصبي مميزا أحرم بنفسه بإذن الولي وفعل أفعال الحج واجتنب محظوراته فإن أحرم عنه الولي أو فعل عنه شيئا مثل الرمي وغيره لم يصح لأن هذا دخول في العبادة فلم يصح من المميز دون قصده كالصوم والصلاة

فإن أحرم بدون إذن الولي ففيه وجهان

أحدهما لا يصح قاله أبو الخطاب وجماعة معه قال متأخروا أصحابنا وهو أصح لأنه عقد يجب عليه به حق فلم يملك فعله بدون إذن الولي كالنكاح فعلى هذا قال القاضي في موضع إحرامه بدون إذن الولي كإحرام العبد فعلى هذا هل يملك الولي تحليله على وجهين

والثاني يصح لأنها عبادة فجاز أن يفعلها بدون إذن الولي كالصوم والصلاة

وإن كان غير مميز عقد الاحرام له وليه سواء كان حراما أو حلالا كما يعقد له النكاح وغيره من العقود ويلبي عنه فيقول لبيك عن فلان وإن لم يسمه جاز ويطوف به ويسعى ويحضره المواقف ويرمي عنه ويجنبه كلما يجتنبه الحرام وإذا لم يمكنه الرمي استحب أن يوضع الحصى في يده ثم يؤخذ فيرمى عنه وإن وضعه في يده ورمى بها وجعلها كالآلة جاز قال أصحابنا ولا يرمي عنه حتى يرمي عن نفسه فإن كان رمى عن الصبي وقع عن نفسه وهذا بناء على أن عن حج من غيره قبل أن يحج عن نفسه وقع عن نفسه فإن قلنا يقع عن الغير أو يقع باطلا فكذلك

ونفقة السفر التي تزيد على نفقة الحضر تجب في مال الولي في إحدى الروايتين ومنهم من يحكيها على وجهين اختارها القاضي في المجرد وأبو الخطاب وغيرهما إلا أن لا يجد من يضعه عنده لأنها نفقة وهو مستغن عنها فلم تجب في ماله كالزيادة على نفقة مثله في الحضر

وفي الأخرى هي في مال الصبي وهذا اختيار القاضي في خلافه وقال هو قياس قول أحمد لأنه قال يضحي الوصي عن اليتيم من ماله لأن هذا مما له فيه منفعة لأنه يعرف أفعال الحج ويألفها فهو كالنفقة على تعليم الخط وكفارات الحج التي تلزمه بترك واجب أو فعل محظور كالنفقة فما كان من الكفارات لا يجب إلا على العامد كاللباس والطيب في المشهور لم يجب على الصبي لأن عمده خطأ قاله أصحابنا وتخرج إذا أوجبنا الدية في ماله دون عاقلته وما يجب على العامد والمخطيء مثل قتل الصيد وحلق الشعر وتقليم الظفر في المشهور فقال هي كالنفقة هل تجب في مال الصبي أو وليه على روايتين والمنصوص عنه

والولي هنا هو الذي يملك التصرف في ماله من الأب والحاكم والوصي قاله القاضي فأما من لا ولاية له على المال كالأم ونحوها فقال ظاهر كلام أحمد أنه لا يصح إحرامه لأن الإحرام متعلق به الزام مال

والمنصوص عن أحمد أنه يحرم عنه أبواه أو وليه فعلى هذا تحرم عنه الأم أيضا وهذا اختيار ابن عقيل وغيره من أصحابنا لقول النبي للمرأة التي سألته نعم ولك أجر ولا يكون لها أجر حتى تكون هي التي تحج به وهذا بناء على أن النفقة تلزم الولي والمحرم به فلا ضرر في ماله ولأن الأم قد نقل عنه أنها تقبض للابن وخرج بعض أصحابنا سائر الأقارب على الأم وأما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا وقياس المذهب في هذا أنا إن قلنا إن النفقة في ماله فإنما يحرم به من يتصرف في ماله وهم هؤلاء الثلاثة أو غيرهم عند الضرورة فإن أحمد قد نص على أنه يجوز أن يقبض الزكاة أكبر الأخوة لإخوته ويقبضها لليتيم من يعوله

وإن قلنا ليست في ماله فمن كان في حضانته الصبي فإنه يعقد له الإحرام لأن الولاية هنا تبقى على البدن لا على المال حتى لو كان في حضانة أمه حتى يحرم به اللقيط والكافل لليتيم ونحو هؤلاء فأراد أبوه أن يحرم به وسواء في ذلك المميز والطفل

وإذا وطيء في الحج أو وطيء فسد حجه لأن أكثر ما فيه أن عمده خطأ ووطء الناسي يفسد الحج وعليه المضي في فاسده وفي وجوب القضاء وجهان أحدهما لا يجب عليه لأن بدنه ليس من أهل الوجوب لكن تجب الفدية في ماله عند القاضي وعند أبي الخطاب على وليه والثاني يجب القضاء قال القاضي وهو أشبه بقول أحمد لأنه أوجب القضاء على العبد إذا أفسد الحج لأن الوجوب هنا بسبب من جهته وجهة وليه فلم يمتنع كوجوب الإتمام بخلاف إيجاب الشرع إبتداء فعلى هذا هل يلزمه القضاء في حال صغره أو بعد بلوغه على وجهين قال القاضي أصحهما في حال صغره لأن القضا على الفور

والثاني بعد البلوغ لأن الصغير ليس من أهل الوجوب المبتدأ في الحال فعلى هذا إن قضاه في الصغر فهل يصح فيه وجهان فإن أخر القضاء إلى ما بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام وإن أحرم بالقضاء أولا انصرف إلى حجة الاسلام على المشهور في المذهب ثم إن كانت الحجة المقضية تجزؤه عن حجة الإسلام لو تمت صحيحة بأن يكون قد أدرك فيها قبل الوقوف كان قضاؤها مجزئا عن حجة الإسلام وأن لم تكن مجزئة عن حجة الإسلام لم يجزيء قضاؤها عن حجة الإسلام فيما ذكره أصحابنا كالقاضي وأصحابه ومن بعده والقياس أن تكون كالمنذورة

فصل

ولا يجوز للمرأة أن تسافر بدون إذن الزوج في حج التطوع وليس للزوج أن يمنعها من حج الفرض ويستحب لها أن تستأذنه إن كان حاضرا وتراسله إن كان غائبا تطييبا لنفسه كما يستحب استئذان المرأة في نكاح بنتها وإستئذان البكر في نفسها عند من يقول بجواز إجبارها لأن ذلك أدعى إلى الألفة وصلاح ذات البين وأبعد عن الشقاق وكل ما فيه صلاح ذات البين فإنه مستحب فإن منعها فإنها تخرج بغير اختياره لأنها عبادة قد وجبت عليها ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق حتى لو قلنا يجوز لها تأخير الحج فإن لها أن تسارع إلى إبراء ذمتها كما لها أن تصلي المكتوبة في أول الوقت وتقضي شهر رمضان في أول الحول وأولى لأن هذه عبادة مؤقته وتأخير العبادات المؤقته أجوز من تأخير العبادات المطلقة

ثم إن قلنا الحج واجب على الفور فعليها أن تحج ولا تطيع الزوج في القعود وإن قلنا هو على التراخي فالأفضل لها أن تسارع إليه وذلك أولى بها من طاعة الزوج في القعود لأن في تأخير الحج تعريضا لتفويته

مسألة ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم وتجزؤها

وجملة ذلك أن من لم يجب عليه لعدم استطاعته مثل المريض والفقر والمعضوب والمقطوع طريقة والمرأة التي لا محرم لها ونحو ذلك إذا تكلفوا شهود المشاعر أجزأهم الحج

ثم منهم من هو محسن في ذلك كالذي يحج ماشيا ومنهم من هو مسيء في ذلك كالذي يحج بالمسألة والمرأة تحج بغير محرم

وإنما أجزأهم لأن الأهلية تامة والمعصية إن وقعت فهي في الطريق لا في نفس المقصود

مسألة ومن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه أو عن نذرة ونفله قبل حجة الإسلام وقع عن فرض نفسه دون غيره

في هذا الكلام فصلان

أحدهما الفصل الأول أن من عليه حجة واجبة سواء كانت حجة الإسلام أو نذرا أو قضاء فليس له أن يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه في ظاهر المذهب المشهور عنه وعن أصحابه قال في رواية صالح لا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه وقد بين ذلك النبي فقال حج عن نفسك ثم عن شبرمة وحديث ابن عباس إذ قالت المرأة يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك هو جملة لم يبين حجت أو لم تحج وقال في رواية إسماعيل بن سعيد الصرورة يحج عن غيره لا يجزؤه إن فعل لأن النبي قال لمن لبى عن غيره وهو صرورة اجعلها عن نفسك

وعنه رواية أخرى يجوز قال في رواية محمد بن ماهان في رجل عليه دين وليس له مال يحج الحج عن غيره حتى يقضي دينه قال نعم وقد جعل جماعة من أصحابنا هذه رواية بجواز الحج عن غيره مطلقا قبل نفسه وهو محتمل لكن الرواية إنما هي منصوصة في غير المستطيع ووجه ذلك أن النبي أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها ولم يستفصل هل حجت عن نفسها أو لم تحج وكذلك الجهنية أذن لها أن تحج عن أمها نذرها وللمرأة الأخرى ولأبي رزين وغيرهم ولم يستفصل واحدا منهم ولا أمره أن يبدأ بالحج عن نفسه

والخثعمية وإن كان الظاهر أنه قد علم أنها حجت عن نفسها لأنها سألته غداة النحر حين أفاض من مزدلفة إلى منى وهي مفيضة معه وهذه حال من قد حج ذلك العام لكن غيرها ليس في سؤاله ما يدل على أنه حج ولأنه شبهه بقضاء الدين والرجل يجوز أن يقضي دين غيره قبل دينه

وأيضا فإنه عمل تدخله النيابة فجاز أن ينوب عن غيره قبل أن يؤديه عن نفسه كقضاء الديون وأداء الزكاة والكفارات

وإن كان الكلام مفروضا فيمت لم يستطع الحج فهو أوجه وأظهر فإن الرجل إنما يؤمر بإيبداء بالحج عن نفسه إذا كان واجبا عليه وغير المستطيع لم يجب عليه فيجوز أن يحج عن غيره

ولا يقال إذا حضر تعين عليه لأنه إنما يتعين أن لو لم يكن أحرم عن غيره فإذا حضر وقد انعقد إحرامه لغيره فهو بمنزلة من لم يحضر في حق نفسه

ووجه المشهور ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أو قريب لي قال حججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة رواه أبو داود وابن ماجة وقال فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة رواه الدارقطني من وجوه عن عطاء عن ابن عباس وعن عائشة أيضا

فإن قيل هذا الحديث موقوف على ابن عباس ذكرالأثرم عن أحمد أن رفعه خطأ وقال رواه عدة موقوفا على ابن عباس وهو مشهور من حديث قتادة عن عروة عن سعيد بن جبير وقد قال يحيى عزرة لا شيء قلنا قد تقدم أن أحمد حكم بأنه مسند وأنه من قول رسول الله فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه وقرر رفعه جماعة

على أنه إن كان موقوفا فليس لابن عباس مخالف

فوجه الحجة أن النبي أمره أن يحج عن نفسه ثم يحج عن شبرمة وستأتي بقية الألفاظ الدالة على أن تلك لم تجز عن شبرمة ولم يفصل بين أن يكون الحاج مستطيعا واجدا للزاد والراحلة أو لا يكون وترك الإستفصال والتعريف في حكاية الأحوال يدل على العموم

وأيضا فإن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره لأن الأول فرض والثاني نفل كمن عليه دين هو مطالب به ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه وكذلك كل ما إحتاج إلى صرفه في واجب عنه فلم يكن له أن يفعله عن غيره وأيضا فإنه إذا حضر المشاعر تعين الحج عليه فلم يكن له أن يفعله عن غيره كما لو حضر صف القتال فأراد أن يقاتل عن غيره فعلى هذا إذا خالف وأحرم عن غيره ففيه روايتان ذكرهما كثير من أصحابنا إحداهما ينعقد احرامه عن نفسه وعليه أن يعتقد أن ذلك الإحرام عن نفسه فإن لم يعتقد ذلك حتى قضى الحج وقع عنه وأجزأ عن حجة الإسلام في حقه ولم يقع عن الملبى عنه وهذا قول الخرقي وأكثر أصحابنا

والأخرى يقع الإحرام باطلا فلا يجزيء عنه ولا عن غيره وهذا قول أبي بكر وقدمه ابن أبي موسى وقال أبو حفص العكبري ينعقد الإحرام عن المحجوج عنه ثم يقلبه الحاج عن نفسه

ووجه هذين قوله حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة وقوله إجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة وفي رواية للدارقطني حسنة لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة وفي رواية له إن كنت حججت عن نفسك فلب عنه وإلا فاحجج عن نفسك فإن هذا دليل على أنه يحتاج أن يلبي ويحج عن نفسه ثم قال أبو بكر إحرامه عن غيره وقع باطلا وعن نفسه لم ينوه وإنما لكل إمرىء ما نوى والإحرام لا يقع إلا عن أحدهما فيقع باطلا

وقال أبو حفص أمره بأن يجعلها عن نفسه دليل على انعقاد الإحرام وذلك أن الإحرام في نفسه صحيح وإنما اشتمل على صفة محرمة فيجب عليه أن يزيلها كما لو أحرم في ثياب وعمامة فإن لم يجعله عن نفسه البتة فقياس قوله أنه لا يجزيء عنه ولا عن غيره

ووجه الأول أن قوله فاجعل هذه عنك أي إجعل هذه التلبية عنك كما قد جاء مفسرا أيها الملبي عن فلان لب عن نفسك ثم عن فلان فعلم أن الحجة عن نفسه إذ لو كان باطلا لما صح ذلك وقد روى الدارقطني هذه عنك وحج عن شبرمة وإن كان الضمير عائدا إلى الحجة فقوله إجعل هذه عن نفسك أي اعتقدها عن نفسك وقوله حج عن نفسك أي استدم الحج عن نفسك لأنه لو كان الاحرام قد وقع باطلا لأمر باستئنافه ولم يكن هناك حجة ولا تلبية صحيحة تجعل عن نفسه ولو انعقد عن الغير لم يجز نقله عنه لأن الحج الواقع لشخص لا يجوز نقله إلى غيره كما لو لبى عن أجنبي ثم أراد نقله إلى أبيه

وأيضا فإن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد وينعقد مطلقا ومجهولا ومعلقا فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله لأنه لا يقع إلا لازما فيكون كأنه قد عقده مطلقا ولو عقده مطلقا أجزأه عن نفسه بلا تردد الفصل الثاني

إذا كان عليه فرض ونفل لم يجز أن يحرم إلا بالفرض وإن كان عليه فرضان لم يجز أن يبدأ إلا بأوكدهما فإذا كان عليه حجة الإسلام ونذر بدأ بحجة الإسلام وإن كان عليه نذر وقضاء

وإن كان عليه حجة الإسلام وقضاء هذا هو المنصوص عنه في مواضع وذكر بعض أصحابنا رواية أخرى أنه يجوز أن يبدأ بالنفل قبل الفرض وبالنذر قبل حجة الإسلام تخريجا من المسألة قبلها ومن جواز الإبتداء بالنفل على إحدى الروايتين في الصوم والصلاة ومن كونه قد نص على أن الفرض لا يجزيء إلا بتعيين النية

ووجه الأول ما اعتمده أحمد من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وقد سئل عمن حج في نذره ولم يكن حج حجة الإسلام فقال كان ابن عباس يقول يجزؤه عن حجة الإسلام وقال ابن عمر هذه حجة الإسلام أوف بنذرك فقد اتفقا على أنه إذا نوى النذر لا بد أن يقع عن حجة الإسلام

وأيضا ما تقدم من أن الحج واجب على الفور أو أنه يتعين بشهود المشاعر فإن مأخذ هذه المسألة والتي قبلها واحد

وأيضا فإن الحج مدته طويلة ولا يبلغ إلا بكلفة ومشقة ولا يفعل في العام إلا مرة ففي تقديم النفل على الفرض تغرير به وتفويت بخلاف الصوم إن سلمناه فعلى هذا إذا خالف ونوى النفل أو النذر ففيه روايتان منصوصتان إحداهما أنه يقع عن حجة الإسلام كما ذكره الشيخ وهو اختيار أكثر أصحابنا

قال عبد الله قلت لأبي من نذر أن يحج وما حج حجة الإسلام قال لا يجزؤه يبدأ بفريضة الله ثم يقضي ما أوجب على نفسه واحتج بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن إمرأة سألته فقال هذه حجة الإسلام أوفي بنذرك

ومعنى قوله لا يجزؤه عنهما بل تكون الأولى لحجة الإسلام وإن نوى النذر لأنه احتج بحديث ابن عمر وقال مرة قلت لأبي من حج عن نذرة ولم يكن حج حجة الإسلام يجزيء عنه من حجة الإسلام قال كان ابن عباس يقول يجزؤه من حجة الإسلام

وقال ابن عمر هذه حجة الإسلام أوف بنذرك فقد حكا اتفاقهما على أن ذلك يجزيء عن حجة الإسلام وأفتى بذلك وإنما اختلفا في الأجزاء عن النذر

والثانية لا يجزيء عن الفرض قال في رواية ابن القاسم في الرجل يحج ينوي التطوع فالحج والصوم سواء لا يجزيء إلا بنية وهذا اختيار أبي بكر لأن النبي قال وإنما لكل إمريء ما نوى ولأنها إحدى العبادات فلا تجزيء عن الفرض بنية النفل كالصوم والصلاة وهذه الرواية مترددة بين صحة النفل وعلى ذلك حملها القاضي وبين فساد الإحرام وإذا قلنا فاسد فهل يمضي فيه فعلى هذا هل يصح بنية مطلقة

ووجه الأول ما احتد به أحمد من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فعلى هذا إذا أحرم بالنذر وقلنا يجزؤه عن حجة الإسلام فهل عليه قضاء النذر على روايتين وإن نوى عن الفرض فقط أو نوى عنهما أصحهما عليه قضاؤه كما قال ابن عمر وهو منصوصه في رواية عبد الله

والثانية تكفيه عنهما اختاره أبو حفص

وإن أحرم بحجة الإسلام في سنة قد نذر أن يحج فيها فهل تسقط عنه المنذورة فيه روايتان نقل أبو طالب تسقط عنه ونقل ابن منصور لا تسقط وهو أصح قال القاضي وأصلهما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم أول يوم من شهر رمضان

باب المواقيت

[عدل]

الميقات ما حدده ووقت للعبادة من زمان ومكان والتوقيت التحديد فلذلك نذكر في هذا الباب ما حدده الشارع للإحرام من المكان والزمان

مسألة وميقات أهل المدينة ذو الحليفة والشام ومصر والمغرب الجحفة واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق

هذه المواقيت الخمسة منصوصة عن النبي عند جمهور أصحابنا وهو المنصوص عن أبي عبد الله قال في رواية المروذي فإن النبي وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل الطائف ونجد قرنا ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق

وقال في رواية عبد الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل الشام من الجحفة ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم

وقال في رواية أبي داود وقت لأهل العراق من ذات عرق وذلك أن النبي والله أعلم وقت المواقيت ثلاث طبقات فوقت أولا ثلاث مواقيت فلما فتحت اليمن وقت لها ثم وقت للعراق فالأول ما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل أهل نجد من قرن قال ابن عمر وذكر لي ولم أسمع أن رسول الله قال ومهل أهل الشام مهيعة وهي الحجفة رواه الجماعه الا الترمذي وفي رواية لأحمد قال ابن عمر وقاس الناس ذات عرق بقرن

والثاني ما روى ابن عباس قال وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن وفي لفظ من غيرهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها وفي لفظ من كان دونهن فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة متفق عليه والثالث ما روي عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المهل فقل سمعت أحسبه رفع إلى النبي فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة ومهل أهل العراق ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم رواه مسلم ورواه ابن ماجة بلا شك من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد احتج به أحمد مرفوعا ورواه أبو عبد الرحمن المقرى عن ابن لهيعة عن أبي الزبير مرفوعا بلا شك

وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو واللفظ له قال وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن وأهل تهامة يلملم ولأهل الطائف وهي نجد قرنا ولأهل العراق ذات عرق رواه أحمد وفي إسناده الحجاج بن ارطأة وروى المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة قالت وقت رسول الله لأهل العراق ذات عرق رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم وهذا إسناد جيد وقد رواه عبد الله بن أحمد وغيره مستوفى في المواقيت الخمسة قالت وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل نجد قرنا ولأهل العراق ذات عرق وقال أبو عاصم ثنا محمد بن راشد عن مكحول أن النبي وقت لأهل العراق ذات عرق وعن عطاء قال وقت رسول الله لأهل المشرق ذات عرق وعن عطاء قال وقت رسول الله لأهل المشرق ذات عرق رواه سعيد فهذا قد روى مرسلا من جهة أهل المدينة ومكة والشام ومثل هذا يكون حجة

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال وقت رسول الله لأهل المشرق ذات عرق رواه أحمد عن وكيع عنه وعن الحارث بن عمرو السهمي قال أتيت النبي وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال فيجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا هذا وجه مبارك قال ووقت ذات عرق لأهل العراق رواه أبو داود والدارقطني ولفظه وقت لأهل اليمن يلملم أن يهلوا منها وذات عرق لأهل العراق

وذهب أبو الفرج بن الجوزي وغيره من أصحابنا إلى أن ذات عرق إنما ثبتت بتوقيت عمر رضي الله عنه اجتهادا ثم انعقد الإجماع على ذلك لما روى ابن عمر قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله حد لأهل نجد قرنا وإنه جور عن طريقنا وإنا إن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق رواه البخاري

فهذا يدل على أنها حدت بالإجتهاد الصحيح لأن من لم يكن على طريقه ميقات فإنه يحرم إذا حاذي أقرب المواقيت إلى طريقه وهم يحاذون قرنا إذا صاروا بذات عرق ولو كانت منصوصة لم يحتج إلى هذا وأحاديث المواقيت لا تعارض هذا فعلى هذا هل يستحب الإحرام من العقيق

والأول هو الصواب لما ذكرناه من الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان التي يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى

وأما حديث عمر فإن توقيت ذات عرق كان متأخرا في حجة الوداع كما ذكره الحارث بن عمرو وقد كان قبل هذا سبق توقيت النبي لغيرها فخفي هذا على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من السنن وإن كان علمها عند عماله وسعاته ومن هو أصغر منه مثل دية الأصابع وتوريث المرأة من دية زوجها فاجتهد وكان محدثا موفقا للصواب فوافق رأيه سنة رسول الله وليس ذلك ببدع منه رضي الله عنه فقد وافق ربه في مواضع معروفة مثل المقام والحجاب والأسرى وأدب أزواج النبي فعلى هذا لا يستحب الإحرام قبلها كما لا يستحب قبل غيرها من المواقيت المنصوصة قال عبد الله سمعت أبي يقول أرى أن يحرم من ذات عرق

فإن قيل فقد روى يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال وقت رسول الله لأهل المشرق العقيق رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن فإن لم يكن هذا مفيدا لوجوب الإحرام منها فلا بد أن يفيد الإستحباب

قيل هذا الحديث مداره على يزيد بن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة وقالوا يزيد يزيد

ويدل على ضعفه أن حديث ابن عباس المشهور الصحيح قد ذكر فيه المواقيت الأربعة ولم يذكر هذا مع أن هذا مما يقصد المحدث ذكره مع إخوته لعموم الحاجة إليه أكثرمن غيره فإن حجاج المشرق أكثر من حجاج سائر المواقيت

وأن الناس أجمعوا على جواز الإحرام دونه فلو كان ميقاتا لوجب الإحرام منه كما يجب الإحرام من سائر ما وقته النبي إذ ليس لنا ميقات يستحب الإحرام منه ولا يجب على أن قوله وقت لا يقتضي إلا وجوب الإحرام منه

قال ابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات وأن الأحاديث التي هي أصح منه وأكثر تخالفه وتبين أن النبي وقت ذات عرق

ويشبه والله أعلم أنه إن كان لهذا الحديث أصل أن يكون منسوخا لأن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع حيث أكمل الله دينه وبعد أن أكمل الله دينه لم يغيره

ولأن ابن عباس لم يذكره لما ذكر حديثه المشهور فيكون إن كان حدث به مرة قد تركه لما علم من نسخه ولهذا لم يروه عنه إلا ولده الذي قد يقصد بتحديثهم اخبارهم بما قد وقع لا لأن يبني الحكم عليه

وما روي عن أنس أنه كان يحرم منه فكما كان عمران بن حصين يحرم من البصرة وكان بعضهم يحرم من الربذة

فصل

وأما ذو الحليفة فهي أبعد المواقيت عن مكة كأنها الله أعلم تصغير حلفة وحليفة وهي واحدة الحلفاء وهي خشب ينبت في الماء بينها وبين مكة عشر مراحل وهي من المدينة علي ميل هكذا ذكره القاضي وأظن هذا غلط بل هي من المدينة على فرسخ وبها المسجد الذي أحرم منه رسول الله والبئر الذي تسميها العامة بئر علي وحدها من ؟؟

ويليها في البعد الجحفة قيل سميت بذلك لأن السيل أجحف بأهلها إلى الجبل الذي هناك وهي من مكة على ثلاث مراحل وتسمى مهيعة وهي التي دعى النبي بنقل حمى المدينة إليها وهي قرية قديمة وهي اليوم خراب وبها أثر الحمام التي دخلها ابن عباس وهو محرم وقد صار الناس لأجل خرابها يحرمون قبلها من رابغ لأجل أن بها الماء للاغتسال وأما قرن بسكون الراء فيقال له قرن الثعالب وقرن المنازل وهو وبينه وبين مكة مرحلتان فهو ميقات لأهل نجد والطائف وتهامة نجد وما بتلك النواحي

وأما يلملم ويقال له ألملم فهو جبل بتهامة وبينه وبين مكة مرحلتان وهي ميقات لأهل اليمن وتهامة اليمن وهو تهامة المعروف

وذات عرق وبينها وبين مكة مرحلتان قاصدتان وهذه المواقيت هي الأمكنة التي سماها رسول الله بعينها في زمانه ولو كان قرية فخربت وبنى غيرها وسميت بذلك الاسم فالميقات هو القرية القديمة لأنه هو الموضع الذي عينه الشارع للإحرام ويشبه والله أعلم أن يكون النبي جعلها على حد متقارب مرحلتان لكونه مسافة القصر إلا ميقات أهل المدينة فإن مسافة سفرهم قريبة إذا هي أكبر الأمصار الكبار إلى مكة فلما كان غيرهم يقطع مسافة بعيدة بين مصره ومكة عوض عن ذلك بأن قصرت عنه مسافة إهلاله وأهل المدينة لا يقطعون إلا مسافة قريبة فجعلت عامتها إهلالا وأهل الشام أقرب من غيرهم فكذلك كان ميقاتهم أبعد ومن مر على غير بلده فإنه بمروره في ذلك المصر يجد من الرفاهية والراحة ما يلحقه بأهل ذلك البلد

مسألة وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر عليها

وجملة ذلك أنه من مر بهذه المواقيت فعليه أن يحرم منها سواء كان من أهل ذلك الوجه الذي وقت الميقات له أو كان من غير أهل ذلك الوجه لكنه سلكة مع أهله وسواء كان بعد هذا يمر على ميقات الوجه الذي هو منه أو لا يمر وذلك مثل أهل الشام فإنهم قد صاروا في هذه الأزمان يعرجون عن طريقهم ليمروا بالمدينة فيمرون بذي الحليفة فعليهم أن يحرموا منها وكذلك لو عرج أهل العراق إلى المدينة أو خرج بعض أهل المدينة على غير ذي الحليفة وهي الطريق الأخرى

ومن مر على ميقاتين فعليه أن يحرم من أبعدهما من مكة قال أحمد في رواية ابن القاسم إذا مر رجل من أهل الشام بالمدينة وأراد الحج فإنه يهل من ذي الحليفة وابن عباس يروي عن النبي في المواقيت هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن وذلك لأن النبي قال فهن لهن أي لهذه الأمصار وأهلها ولمن أتى عليهن من غير أهلهن أي ولمن أتى على المواقيت من غير أهل المحل أي ممن أتى على ميقات من غير أهل مصره لأن الرجل لا يأتي عليهن جميعهن وليس أحد يخرج عن هذه الأمصار فجعل الميقات لكل من مر به من أهل وجهه ومن غير أهل وجهه ولم يفرق بين أن يكون من أهل وجه ميقات اخر

وقوله لهن أي لمن جاء على طريقهن وسلكه وقد روى سعيد أن ابن يحيى قال ثنا هشام بن عروة عن عروة أن رسول الله وقت لأهل المشرق ذات عرق ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم ولأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر ومن ساحل الحجفة

وروى سعيد عن سفيان قال سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه أن رسول الله وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفه

فقد بين عروة في روايته أن النبي وقت ذا الحليفة لأهل المدينة ومن مر بهم وأن الجحفة إنما وقتها للشامي إذا سلك تلك الطريق طريق الساحل

وأيضا فإن المواقيت محيطة بالبيت كاحاطة جوانب الحرم فكل من مر من جوانب الحرم لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض

وأيضا فإن قرب هذه المواقيت وبعدها لما يحل لأهل بعيدها من الرفاهية وذلك بشركهم فيه كل من دخل مصرهم فإن المسافر إذا دخل مصرا وأقام فيها أياما انحط عنه عظمة مشقة سفره فوجد الطعام والعلف والظل والأمن وخفف اجماله إلى غير ذلك من أسباب الرفق

وأيضا فإن هذه المواقيت حدود النسك فليس لأحد أن يتعدى حدود الله

مسألة ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه حتى أهل مكة يهلون منها لحجهم ويهلون للعمرة من الحل في هذا الكلام فصلان أحدهما الفصل الأول في غير المكي إذا كان مسكنه دون الميقات إلى مكة فإنه يهل من أهله لقول رسول الله صلى الله علي وسلم في حديث ابن عباس فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها أي ومثل هذا الذي قلت يفعل هؤلاء حتى أهل مكة

قال أحمد فمن كان منزله بالجحفة أهل منها وكذلك كل من كان دون الجحفة إلى مكة أهل من موضعه حتى أهل مكة يهلون من مكة

فإن كان في قرية فله أن يحرم من الجانب الذي يلي مكة والجانب البعيد منها وإحرامه منه أفضل

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما ويتوجه أن يكون إحرامه من منزله أفضل لأن إستحباب الرجوع له إلى آخر القرية لا دليل عليه

وإن كان في واد يقطعه عرضا فميقاته حذو مسكنه وإن كان في حلة من حلل البادية أحرم من حلته

وهذا فيمن كان مستوطنا في مكان دون الميقات كأهل عسفان وجدة والطائف أو ثمت في بعض المياه فأنشأ قصد الحج من وطنه أو لم يكن مستوطنا بل أقام ببعض هذه الأمكنة لحاجة يقضيها فبدا له الحج منها أو لم يكن مقيما بل جاء مسافرا إليها لحاجة ثم بدا له الحج منها فأما إن كان بعض أهلها قد سافر إلى أبعد من الميقات ثم مر على الميقات مريدا للحج أو لمكة

وإن سافر إلى أبعد من مسكنه دون الميقات وبدا له سفرا الحج من هناك بحيث يمر على أهله مرور مسافر للحج فأما إن عرض له هناك أنه إذا جاء أهله سافر للحج الفصل الثاني

في أهل مكة وهم ثلاثة أقسام مستوطن بها سواء كان في الأصل مكيا أو لم يكن ومقيم بها سواء غير مستوطن كالمجاورين ونحوهم ومسافر

فأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج من مكة كما في الحديث حتى أهل مكة يهلون منها والمستحب أن يحرموا

قال أحمد والخرقي في أهل مكة يهلون من مكة فإن أحرم المكي خارج مكة من الحرم الذي يلي عرفة كالأبطح ومنى ومزدلفة فهل يجزؤه على وجهين ذكرهما القاضي

فعلى المشهور إذا أحرم من الحل جاز في إحدى الروايتين ولا دم عليه سواء عاد إلى الحرم أو لم يعد ومضى على إحرامه إلى عرفة

قال في رواية ابن منصور وقد ذكر له قول سفيان الحرم ميقات أهل مكة فمن خرج من الحرم فلم يهل أمرته أن يرجع وأرى عليه إذا كان ذلك حدهم بما أرى على غيرهم إذا جاوز الميقات فقال أحمد ليس لهم حد مؤقت إلا أنه أعجب إلي أن يحرموا من الحرم إذا توجهوا إلى منى

ونقل عنه الأثرم في رجل تمتع بعمرة فحل منها ثم أقام بمكة فلما كان يوم التروية خرج إلى التنعيم فأحرم بالحج ثم توجه إلى منى وعرفات ولم يأت البيت ليس عليه شيء إلا أن هذا قد أحرم من الحل الأقصى من عرفات ومر بمنى في طريقه وهي من الحرم وليس في مثل هذا خلاف عنه ولفظه والذي يحرم من مكة يحرم من مكة إذا توجه إلى منى كما صنع رسول الله ولو أن متمتعا جهل فأهل بالحج من التنعيم ثم توجه إلى منى وعرفات ولم يأت البيت فلا شيء عليه وهذا اختيار القاضي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وغيرهم لأن المقصود أن يجمعوا في الإحرام بين الحل والحرم وهذا يحصل بعد التعريف لأنه لو كان الواجب أن يحرموا من نفس مكة لكونها ميقاتا لم يجز الخروج منها إلا بالإحرام وقد دلت السنة على جواز الخروج منها بغير إحرام وجواز الإحرام من البطحاء ولأن الإحرام في الأصل إنما وجب لدخول الحرم أما للخروج إلى الحل فلا فإذا خرج أهل مكة لم يجب عليهم إحرام لخروجهم إلى عرفات بخلاف ما إذا رجعوا ولأن قطع المسافة بالخروج إلى عرفات ليس من الحج المقصود لنفسه ولهذا لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة لم يجب عليه دم والرواية الثانية

فصل

وأما المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل سواء في ذلك أهل البلد وغيرهم ممن هو في الحرم قال أحمد في رواية الميموني ليس على أهل مكة عمرة وإنما العمرة لغيرهم قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إلا أن ابن عباس قال يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر

وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه من التنعيم وقال أيضا ليس على أهل مكة عمرة لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم وتجاوز الحرم وذلك لما روت عائشة قالت لما خرجت معه تعني النبي في النفر الاخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال أخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم لتطف بالبيت فإني أنتظركما هاهنا فخرجنا فأههللت ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة فجئنا رسول الله وهو في منزله في جوف الليل فقال هل فرغت قلت نعم فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة متفق عليه وفي رواية متفق عليها من حديث القاسم والأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم أئتينا بمكان كذا وكذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك وفي لفظ متفق عليه فلما كانت ليلة الحصبة قالت قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا متفق عليه

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال أمرني رسول الله أن أردف عائشة وأعمرها من التنعيم متفق عليه وعن ابن سيرين قال وقت رسول الله لأهل مكة التنعيم رواه أبو داود في مراسيله وعن ابن عباس

فقد تبين أن العمرة لمن هو بالحرم لا بد فيها من الخروج إلى الحل قال أصحابنا وغيرهم لأنه لا بد في النسك من الجمع بين الحل والحرم وأفعال العمرة هي في الحرم فلو أحرم بالعمرة من الحرم لما وقع شيء منها في الحل بخلاف الحج فإن أحد ركنيه وهو الوقوف بعرفة يقع في الحل لأن عرفات من الحل وذلك لأن العمرة هي الزيارة ومنه العمرة وهو أن يبني الرجل بامرأته في أهلها فإن نقلها إلى أهله فهو العرس قاله ابن الأعرابي

والزيارة لا تكون مع الإقامة بالمزور وإنما تكون إذا كان خارجا منه فجاء إليه ليزوره ولهذا والله أعلم لم يكن على أهل مكة عمرة لأنهم مقيمون بالبيت على الدوام

وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر والحج أن يقصد المحجوج في بيته والحرم هو فناء بيت الله فمن لم يقصد الحرم من الحل لم يتحقق معنى الحج في حقه إذ هو لم ينزح من داره ولم يقصد المحجوج

والإحرام بالعمرة من أقصى الحل أفضل من أدناه وكلما تباعد فيها فهو أفضل حتى يصير إلى الميقات

قال أحمد في رواية الحسن بن محمد وقد سئل من أين يعتمر الرجل قال يخرج إلى المواقيت فهو أحب إلي كما فعل ابن عمر وابن الزبير وعائشة رضوان الله عليهم أحرموا من المواقيت فإن أحرم من التنعيم فهو عمرة وذاك أفضل والعمرة على قدر تعبها

والعمرة كلما تباعد فيها أعظم للأجر وهو على قدر تعبها وإن دخل في شعبان أو رمضان فإن شاء أن يعتمر إعتمر

وقال عبد الله سألت أبي عن عمرة المحرم تراه من مسجد عائشة أو من الميقات أو المقام بمكة والطواف بقدر ما تعبت أو الخروج إلى الميقات للعمرة فقال يروى عن عائشة أنها قالت في عمرة التنعيم هي على قدر نصبها ونفقتها فكل ما كان أكثر من النفقة والتعب فالأجر على قدر ذلك

وهذا نص بأن الخروج بها إلى الميقات أفضل وأن ذلك أفضل من المقام بمكة

وقال في رواية أبي طالب قال الله عز وجل { وأتموا الحج والعمرة لله } وقالت عائشة إنما العمرة على قدر سفرك ونفقتك وقال عمر رضي الله عنه للرجل لذهب إلى علي رضي الله عنه فقال علي أحرم من دويرة أهلك

وقال طاوس الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون أو يعذبون قيل له فلم يعذبون قال لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير شيء وذلك لأن النبي قال لعائشة ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك

وعن علقمة في العمرة بعد الحج هي بحسبها قالت عائشة له من الأجر على قدر نفقته ومسيرة رواه سعيد

فعلى هذا يستحب لمن هو بمكة من غير أهلها أن يخرج إلى أقصى الحل وإن خرج إلى ميقاته فهو أفضل وإن رجع إلى مصره فأنشأ لها سفرة أخرى فهو أفضل من الجميع وكذلك قال أبو بكر العمرة على قدر تعبها ونصبها وبعد موضعها ونفقتها وأن ينشيء لها قصدا من موضعه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلما تباعد في العمرة فهو أعظم أجرا

وظاهر هذا يقتضي أن المستحب أن يتباعد فيحرم من الميقات الشرعي وهو أفضل من إحرامه من أدنى الحل

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما المستحب أن يحرم بالعمرة من الميقات الشرعي على ظاهر كلامه قال في رواية صالح والعمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف واحتج من اختارها بأن النبي أعمر عائشة من التنعيم

وقال القاضي يستحب الإحرام من الجعرانة فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم فإن فاته فمن الحديبية

وكذلك ذكر ابن عقيل إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا وعمدة ذلك أن النبي اعتمر من الجعرانة واعتمر عمرة الحديبية وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم فخصت هذه بالفضل وكان أفضل هذه المواقيت

وقال أبو الخطاب الأفضل أن يحرم من التنعيم فأما الاعتمار من الحديبية فلا فضل فيه على غيره لأن النبي لم يعتمر من الحديبية قط وإنما اعتمر من ذي الحليفة فلما صده المشركون حل بالحديبية من إحرامه وكذلك الجعرانة ليس في خروج المكي إليها بخصوصها سنة لأن النبي لم يعتمر من مكة قط وإنما أعمر عائشة رضي الله عنها من التنعيم في حجة الوداع وإنما اعتمر من الجعرانة لما قسم غنائم حنين لأنها كانت الموضع الذي أنشأ منه العمرة وهو دون المواقيت فينشيء العمرة في موضعه ولا يقاس بهذا أن يخرج المكي إلى ذاك الموضع فيحرم منه

وإنما السنة في الخروج إلى الحل من أي الجوانب كان لكن جهة بلد المعتمر

وإن أحرم الحرمي بالعمرة من الحرم فهو بمنزلة من أحرم دون الميقات فلا يجوز له ذلك وإذا فعله فعليه دم لتركه بعض نسكه

ولا يسقط الدم بخروجه إلى الحرم كما لا يسقط الدم بعودة إلى الميقات إذا أحرم دونه لكنه إن خرج إلى الحل قبل الطواف ورجع صحت عمرته وإن لم يخرج إلى الحل حتى طاف وسعى وقصر ففيه وجهان خرجهما القاضي وغيره

أحدهما أنه لا يعتد بطوافه وسعيه بل يقع باطلا لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج

ولأن الحل لو لم يجب إلا لأنه ميقات لكان من إن شاء العمرة دونه تجزئه كمواقيت الحج ولما أمر النبي عائشة أن تخرج إلى الحل فتهل بالعمرة علم أنه لا بد أن تكون العمرة من الحل

فعلى هذا وجود الطواف وما بعده كعدمه لا يتحلل بذلك بل عليه أن يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك فإن قصر رأسه كان بمنزلة من قصر قبل الطواف فعليه دم وإن وطيء لاعتقاده أنه تحلل كان كمن وطىء قبل الطواف فتفسد بذلك عمرته وعليه دم الإفساد وإتمامها بالخروج إلى الحل والطواف بعد ذلك وقضاها بعد ذلك

والثاني وهو المشهور وهو الذي ذكره أبو الخطاب وغيره أن العمرة صحيحة وعليه دم لما تركه من الإحرام من الميقات لأن من ترك من نسكه شيئا فعليه دم لأن أكثر ما فيه أنه ترك بعض الميقات وهذا لا يفسد الحج وإنما يوجب الدم

ابن أبي موسى ومن أراد العمرة من أهل مكة فليخرج إلى أقرب الحل فيحرم منه ومن كان بمكة من غير أهلها وأراد العمرة الواجبة فليخرج إلى الميقات ليحرم بها وإن لم يخرج إلى الميقات وأحرم بها دون الميقات أجزأته وعليه دم كما قلنا فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم بالحج إن عليه وما

مسألة ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه

ومعنى ذلك أنه إذا كان طريقه على غير ميقات في بر أو بحر فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إلى طريقه سواء كان هذا الميقات هو الأبعد عن مكة أو الأقرب مثل من يمر بين ذي الحليفة والجحفة فإنه إن كان يقرب إلى ذي الحليفة إذا حاذاها أكثر مما يقرب إلى الجحفة أحرم منها وإن كان قربه إلى الجحفة إذا حاذاها أكثر أحرم منها لأن أهل العراق قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن قرنا جور عن طريقنا وأنا إن أردنا أن نأتيها شق علينا فقال انظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق فلم يأمرهم عمر والمسلمون بالمرور بقرن بل جعلوا ما يحاذيها بمنزلتها وذلك لأن الإحرام مما يحاذى الميقات بمنزلة الإحرام من نفس الميقات فإنه إذا كان بعدهما عن البيت واحدا لم يكن في نفس الميقات مقصود ولأن في الميل والتعريج إلى نفس المؤقت مشقة عظيمة وإنما يحرم مما يقرب منه إذا حاذاه لأنه لما كان أقرب المواقيت إليه وإلى طريقه إذا مر كان اعتباره في حقه أولى من اعتبار البعيد كما لو مر به نفسه فلو مر بين ميقاتين وكان قربه إليهما سواء أحرم من حذو أبعدهما من مكة كما لو مر في طريقه على ميقاتين فإنه يحرم من أبعدهما لأن المقتضي للاحرام منه موجود من غير رجحان لغيره عليه ويعرف محاذاته للمؤقت وكونه هو الأقرب اليه بالاجتهاد والتحري فإن شك فالمستحب له الإحتياط فيحرم من حيث يتيقن أنه لم يجاوز حذو الميقات القريب إليه إلا محرما ولا يجب عليه ذلك حتى يغلب على ظنه أنه قد حاذى الميقات الأقرب

مسألة ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح أو حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه ثم إن أراد النسك أحرم من موضعه وإن تجاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع

في هذا الكلام فصول الفصل الأول

أن من مر بهذه المواقيت غير مريد لمكة بل يريد موضعا من الحل فلا إحرام عليه

وإن أراد موضعا من الحرم غير مكة

وإن أراد مكة للحج أو العمرة لم يجز له تجاوز الميقات إلا محرما لأن النبي قال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن وهذا أمر بصيغة الخبر وكذلك قوله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة إلى قوله هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة وإنما فائدة التوقيت وجوب الإحرام من هذه المواقيت لأن ما قبلها يجوز الإحرام منه فلو كان ما بعدها يجوز تأخير الإحرام إليه لم يكن لها فائدة

وإن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة مثل تجارة أو زيارة أو سكن أو طلب علم أو غير ذلك من الحاجات التي لا يشق معها الإحرام فإن السنة أن لا يدخلها إلا محرما بحجة أو بعمرة سواء كان واجبا أو تطوعا وهذا واجب عليه في أشهر الروايتين

قال في رواية ابن منصور لا يدخلها أحد إلا بإحرام وقال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن رجل أراد أن يدخل مكة بتجارة أيجوز أ يدخلها بغير إحرام فقال لا يدخل مكة إلا بإحرام يطوف ويسعى ويحلق ثم يحل وقد نص على ذلك في مواضع والرواية الأخرى أنه مستحب وترك الإحرام مكروه قال في رواية الأثرم والمروذي لا يعجبني أ يدخل مكة تاجر ولا غيره إلا بإحرام تعظيما للحرم وقد دخل ابن عمر بغير إحرام

لأن النبي أن الحج والعمرة إنما تجب مرة واحدة فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ولأن النبي قال في المواقيت هن لهن ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة وهذا لا يريد حجا ولا عمرة ولأن النبي لما رجع هو أصحابه من حنين إلى مكة

ولأن النبي لما بعث عثمان عام الحديبية لخبرهم بقدوم رسول الله لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ولأن الصحابة الذين بعثهم لاستخراج خبيب

ولأن هذه قربة مشروعة لتعظيم البقعة فلم تجب كتحية المسجد الحرام بالطواف وتحية غيره بالصلاة

وهل يجوز أن يحضر عرفة والموسم مع الناس من لم ينو الحج ولم يحرم من أهل مكة أو غيرهم ظاهر حديث عمر وابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يجوز تعظيما للفعل كتعظيم المكان

ووجه الأول ما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم رواه سعيد والاثرم وفي رواية قال لا يدخلن أحد من الناس مكة من أهلها ولا من غيرهم غير حرام رواه حرب ولا يعرف له مخالف وسنتكلم على أثر ابن عمر

وأيضا ما روي عن مجاهد وطاوس قالا ما دخلها رسول الله وأصحابه إلا وهم محرمون

وفي رواية عن هشام بن حجير أظنه عن طاوس قال ما دخل رسول الله مكة إلا محرما إلا عام الفتح

وعن عطاء قال ما نعلم رسول الله دخل مكة قط إلا وهم محرمون رواهن سعيد

وعن خصيف عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات ذكره بعض الفقهاء

ولا فرق بين أن يكون دون المواقيت إلى مكة أو يكون وراء المواقيت قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندى لا يدخل أحد مكة بغير إحرام وقد أرخص للحطابين والرعاة ونحو هؤلاء أن يدخلوا بغير إحرام فقيل له إنهم يقولون ابن عمر لم يكن بلغ الميقات فمن أجل ذلك دخل بغير إحرام فقال الميقات وغيره سواء وإنما رجع لاضطراب الناس والفتنة فدخل كما هو

وكان ابن عباس يشدد في ذلك فقيل له فالنبي دخلها عام الفتح بغير إحرام فقال ذلك من أجل الحرب ألا تراه يقول حلت لي ساعة من نهار وهذا يدخل مع فعل ابن عمر

وقال في رواية الأثرم في الرجل يقيم بمكة متمتعا أو غيره ثم يخرج منها لبعض الحاجة فيعجبني أن لا يدخلها إلا باحرام وأن لا يخرج منها أبدا حتى يودع البيت فقد أمر بالإحرام كل داخل إليها ممن خرج عنها أو لم يخرج سواء كان رجوعه إليها من الميقات أو من فوق وهذا لأن المقصود بذلك تعظيم الحرم لشرفه وكرامته وذلك يستوى فيه كل داخل إليه ممن قربت داره أو بعدت ولهذا يستويان في وجوب الإحرام إذا أراد الحج أو العمرة

وأما نفس مجاوزة الميقات فليس بموجب للإحرام بدليل ما لو لم يقصد مكة وإنما قصد بعض أماكن الحل فأما إن قصدها من نفس الحرم فلا إحرام عليه لأن الحجيج يدخلونها من منى بعد أن حلوا الحل كله ولا إحرام عليهم واجب ولا مستحب ولأن الحرم كله شيء واحد فأشبه الانتقال في طرقات القرية ولأن ذلك فيه مشقة شديدة على القاطنين

فأما إن أراد بعض مواضع الحرم خارج مكة أو أراد أن يخترق الحرم ابن سبيل أو أراد أن يخترقها من غير مقام

فإن دخل مكة غير محرم لزمه قضاء هذا الإحرام نص عليه في رواية حرب قال قلت لأحمد فإن قدم من بلدة بعيدة تاجر فقدم مكة بغير إحرام قال يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج وإن كان في أيام الحج أهل بحجة

وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وابنه وأبو الخطاب وغيرهم

وذكر الشريف أبو جعفر أنه يثبت في ذمته الدم وهو إن لم يكن غلطا في النسخة فإنه وهم والله أعلم ولعل وجهه أنه ترك إحراما واجبا

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل في بعض المواضع وغيرهما من أصحابنا ليس عليه قضاء ولا دم ولا غير ذلك لأنها قربة مفعولة لحرمة المكان فوجب ألا تقضي كتحية المسجد ولأن الإحرام يراد للدخول فإذا حصل الدخول بدونه لم تشرع اعادته كالوضوء لصلاة النافلة ولأنها عبادة مشروعة بسبب فتسقط عند فوات السبب كصلاة الكسوف

فعلى هذا بأي شيء يسقط هل يسقط بدخول الحرم وهل يجب عليه أن يعود إلى الميقات فإن أحرم دونه

ووجه الأول أنه إحرام لزمه فإذا لم يفعله لزمه قضاؤه كالنذر المعين ولأن من وجب عليه عبادة فإنها لا تسقط بفوات وقتها بل عليه إعادتها كسائر الواجبات من الصوم والصلاة والهدي والأضحية وغيرذلك خصوصا الحج وهذا لأن الواجب الثابت في الذمة لا بد من فعله على أي حال كان إما في وقته وإما بعد وقته وعكسه ما لا يجب من النوافل على أنا نقول النوافل المؤقته تقضي وتحية المسجد على أنه قد يفرق بين من يستديم المكث وبين من يخرج فعلى هذا

فإن قيل فهو إذا رجع إلى الميقات لزمه إحرام آخر قلنا إنما يلزمه الدخول بإحرام سواء كان وجب عليه قبل ذلك أو لم يجب

فإن أدى بهذا الإحرام حجة الاسلام أو حجة منذورة في سنته أجزاء عنه من عمرة القضاء فيما ذكره أصحابنا وهو منصوصه في رواية أبي طالب فيمن دخل مكة بغير إحرام وهو يريد الحج فإن كان عليه وقت رجع إلى الميقات فأهل منه ولا شيء عليه وهذا لأنه كان مأمورا أن يدخل بإحرام ولو أنه للحج المفروض فإذا عاد ففعل ذلك فقد فعل ما كان مأمورا به ودخوله حلالا لا يوجب عليه دم كما لو جاوز الميقات غير المحرم ثم رجع فأحرم منه

وإن أخر الحج إلى السنة الثانية لم تجزه حجة الإسلام عنه ولزمه حجة أو عمرة ذكره القاضي وغيره لأن حجة في العام المقبل لا يسد مسد الإحرام في ذلك العام لأن الإحرام الذي لزمه بالدخول لا يؤدي به الحج في العام المقبل ويتخرج أن يجزءه لأن حجة الإسلام تسقط ما عليه من نذر وفاسد على إحدى الروايتين

وإن أحرم بالحج عما وجب بالدخول وقع عن حجة الإسلام وأما العمرة فمتى اعتمر فإن أحرم هذا بالعمرة أو بالحج بعد مجاوزة الميقات لزمه دم وإنما يستقر عليه القضاء بالدخول فلو رجع قبل أن يدخل لم يلزمه شيء الفصل الثاني

أن من دخل مكة لقتال مباح فإنه لا إحرام عليه نص عليه كما تقدم وإنما يجيء على أصلنا إذا كان هناك بغاة أو كفار أو مرتدة قد بدوا بالقتال فيها فأما إذا لم يبدأوا بقتال لم يحل قتالهم وذلك لما روى مالك عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه قال مالك ولم يكن رسول الله يومئذ محرما رواه الجماعة ولفظه متفق عليه

وعن جابر رضي الله عنه أن النبي دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام رواه مسلم والنسائي ورواه بقية الجماعة إلا البخاري ولم يقولوا بغير إحرام ولأن أصحاب النبي دخلوا عام الفتح كذلك بغير إحرام

فإن قيل فهذا خاص للنبي لأنه قال لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار

قيل الذي خص به جواز إبتداء القتال فيها ولما أبيح له ذلك ترك الإحرام فإذا أبيح نوع من القتال لغيره شركه في صفة الإباحة

وأيضا فإن من أبيح له القتال قد أبيح له بها سفك الدم الذي هو أعظم المحظورات فلأن تباح له سائر المحظورات أولى ولأنه يحتاج إلى الدخول بغير إحرام فأشبه الحطابة

وكذلك من دخلها خائفا لفتنة عرضت ونحو ذلك لما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر فرجع فدخل مكة بغير إحرام

وعن عبيد الله بن عمر عن نافع قال خرج ابن عمر من مكة يريد المدينة فلما بلغ قديدا بلغة عن جيش قدم المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام رواه سعيد

وهذا الجيش ولأن الخائف ولم يذكر القاضي ودخولها إلا لقتال مباح أو حاجة تكرر كما ذكره الشيخ ومقتضى كلامهم أن الخائف الذي لا يقاتل لا يدخلها إلا محرما وتأول القاضي فعل ابن عمر على أنه أحرم من دون الميقات ولم يحرم منه وإنما أحرم من دونه لأنه لم يقصده قصدا إبتداء وإنما تأول هذا لأنه بلغه أن ابن عمر دخل بغير إحرام ولو بلغه السياق الذي ذكرناه لم يتأول هذا التأويل

وأما من يتكرر دخوله إلى مكة كل يوم مثل الحطابين والرعاة ونحوهم فإن لهم أن يدخلوها بغير إحرام كما نص عليه لما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخلن انسان مكة إلا محرما إلا الجمالين والحطابين وأصحاب منافعها رواه حرب وهذا يقتضي لكونه ينتفعون به لا لتكراره لأن هؤلاء لو وجب عليهم الإحرام كلما دخلوا لشق عليهم مشقة عظيمة ولا بد لهم من مكة لتعلق مصالحهم بها وتعلق مصالح البلد بهم

قال أصحابنا وكذلك من كان من أهلها له صنعة بالحل يتردد إليها وكذلك الفيوج الذي يتكرر دخلوهم وحد التكرار قال حرب قلت لأحمد الرجل يدخل مكة بغير إحرام قال إذا كان من الحطابة وهؤلاء الذين يختلفون كل يوم فإنه لا بأس فقيده بيوم

فصل

وإنما يجب الإحرام على الداخل إذا كان من أهل وجوب الحج فأما العبد والصبي والمجنون فيجوز لهم الدخول بغير إحرام لأنه إذا لم تجب عليهم حجة الإسلام وعمرته فأن لا يجب ما هو من جنسه بطريق الأولى هكذا ذكره أصحابنا ابن أبي موسى والقاضي وغيرهم الفصل الثالث

أن من جاز له مجاوزة الميقات بغير إحرام إما لأنه لم يقصد مكة أو قصدها وهو ممن يجوز له دخلوها بغير إحرام كالمحارب وذي الحاجة المتكررة وغيرهم إذا أراد النسك بعد ذلك فإنه يحرم من موضعه وليس عليه أن يعود إلى الميقات في أشهر الروايتين

فصل

فأما الصبي والمجنون والعبد إذا دخلوا مكة بغير إحرام ثم أرادوا الحج بأن يأذن للصبي مولاه وللعبد سيده أو صاروا من أهل الوجوب فإنهم يحرمون بالحج من حيث أنشأوه ولا دم عليهم قال أحمد في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان في مملوك جاز المواقيت بغير إحرام منعه مواليه أن يحرم حتى وقف بعرفة قال يحرم مكانه وليس عليه دم لأن سيده منعه قال أحمد جيد حديث أبي رجاء عن ابن عباس لأنه جاز لهم مجاوزة الميقات بغير إحرام وإنما وجب عليهم الإحرام حين صاروا من أهل الوجوب فصاروا كالمكي ولأنهما لا يملكان الإحرام إلا باذن الولي وهذا فيما إذا دخلوا غير مريدين للنسك أو أراده ومنعهم السيد والولي من الإحرام فإن أذن لهما الولي في الإحرام من الميقات فلم يحرما لزمهما دم ذكره القاضي

وأما الكافر إذا جاوز الميقات أو دخل مكة ثم أسلم وأراد الحج ففيه روايتان

أحدهما عليه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه فإن تعذر ذلك أحرم من موضعه وعليه دم قال في رواية أبي طالب في نصراني أسلم بمكة يخرج إلى الميقات فيحرم فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم وهذا اختيار القاضي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم لأنه قد وجب عليه الإحرام وتمكن منه فإذا لم يفعله فعليه دم بتركه كالمسلم وذلك لأن الكافر يمكنه أن يسلم ويحرم وهو غير معذور في ترك الإسلام وإن كان لا يصح منه الإحرام في حال كفره فأشبه من ترك الصلاة وهو محدث حتى خرج الوقت

والرواية الثانية يحرم من موضعه ولا دم عليه قال في رواية ابن منصور في نصراني أسلم بمكة ثم أراد أن يحج هو بمنزلة من ولد بمكة وقال في رواية حنبل في الذمى يسلم بمكة يحرم من مكة أو من موضع أسلم وهذا اختيار أبي بكر وهذا لأنه لا يصح منه الإحرام فأشبه المجنون ولأنه إنما جاوز الميقات قبل الإسلام وقد غفر له ما ترك قبل الإسلام من الواجبات بقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وبقوله الإسلام يجب ما قبله فصار بمنزلة العبد إذا عتق والصبي إذا بلغ سواء وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من ترك الصلاة محدثا فإنه هناك لا يسقط عنه ما تركه من الواجبات في حال حدثه وهنا يغفر له ما تركه في حال كفره حتى يخاطب بالوجوب من حين الإسلام

ولأن مكة قد استوطنها أقوام في الجاهلية من غير أهلها فإما أن يكونوا دخولها بغير إحرام أو بإحرام لا يصح ثم لما أسلموا لم يؤمروا أن يخرجوا إلى الميقات فيحرموا منه إلا أن يقال لا نسلم أنه استوطنها أفقي بعد فرض الحج الفصل الرابع

أنه إن جاوز الميقات غير هؤلاء وأرادوا النسك لزمهم أن يرجعوا إلى الميقات فيحرموا منه فيدخل في هذا كل من كان مقصوده الحج أو العمرة ومن كان مقصوده دخول مكة لتجارة أو زيارة ونحو ذلك

وإن قلنا يسقط الإحرام بالدخول أو قلنا ليس بواجب عليه فإنه إذا أراد الحج أو العمرة فإن عليه أن يخرج إلى الميقات فيحرم منه سواء كان الحج واجبا أو تطوعا قال ابن أبي موسى فأما المسلم يدخل مكة لتجارة بغير إحرام ثم يريد الحج فإنه يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن خشي الفوت أحرم من مكانه وكان عليه دم قولا واحدا ذكر ذلك بعد أن حكى في الذمى إذا أسلم بمكة الروايتين وقد نص على ذلك في رواية أبي طالب وإذا دخل مكة بغير إحرام فإن كان عليه وقت وأراد الحج رجع إلى الميقات فأهل منه ولا دم عليه فإن خاف الفوت أحرم من مكة وعليه دم

ومن دخل مكة والحج واجب عليه ولم يرده وهذا لأن الإحرام من الميقات واجب قد أمكن فعله فلزمهم كسائر الواجبات

وإذا رجعوا فأحرموا فلا دم عليهم لأنهم قد أتوا بالواجب وتلك المجاوزة ليست نسكا فإذا لم يتركوا نسكا ولم يفعلوا نسكا في غير وقته ولم يفعلوا في الإحرام محظورا فلا وجه لإيجاب الدم قال جابر بن زيد رأيت ابن عباس يردهم إلى المواقيت إذا جاوزوها بغير إحرام رواه سعيد

فإن ضاق الوقت بحيث يخافون من الرجوع فوت الحج أو لم يمكن الرجوع لتعذر الرفقة ومخافة الطريق ونحو ذلك فإنه لا يجب عليهم الرجوع فيحرمون من موضعهم وعليهم دم

وكذلك لو أحرموا من دونه مع إمكان العودة فعليهم دم لأن ابن عباس ولا يسقط الدم بعودهم إلى الميقات

مسألة والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات فإن فعل فهو محرم

مذهب أحمد أن الأفضل أن لا يحرم بالحج ولا بالعمرة حتى يبلغ الميقات قال في رواية الأثرم وقد سئل أيما أعجب إليك يحرم من الميقات أم قبل فقال من الميقات أعجب إلي

قيل له وسئل في رواية ابن منصور إنهم كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات فقال وجه العمل المواقيت

وكذلك قال عبد الله قرأت على أبي كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات فقال وجه العمل المواقيت

وقال في رواية محمد بن الحسن بن هارون إذا أحرم الرجل أحرم من ميقات أعجب إلي ولا يحرم من قبل الميقات فإن أحرم قبل الميقات انعقد إحرامه قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم

قال بعض أصحابنا يكره الإحرام قبل الميقات وقال أكثرهم لا يكره وهو المنصوص عنه قال حرب قلت لأحمد الرجل يحرم قبل الميقات قال قد فعل ذلك قوم وكأنه سهل فيه

وقال في رواية صالح إن قوي على ذلك أرجو أن لا يكون فيه بأس

وذلك لأن النبي حج حجة الوداع هو وعامة المسلمون واعتمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء هو وخلق كثير من أصحابه وفي كل ذلك يحرم هو والمسلمون من الميقات ولم يندب أحدا إلى الإحرام قبل ذلك ولا رغب فيه ولا فعله أحد على عهده فلو كان ذلك أفضل لكان أولى الخلق بالفضائل أفضل الخلائق وخير القرون ولو كان خير لسبقونا إليه وكانوا به أولى وبفضل لو كان فيه أحرى ولندب رسول الله إلى ذلك كما ندب إلى جميع الفضائل إذ هو القائل وما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد أمرتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد نهيتكم عنه

فإن قيل فعل ذلك لأنه أيسر فتقتدي الأمة به وقد يختار غير الأفضل للتعليم قيل قد أحرم عدة مرات مع أن العمرة لا تجب إلا مرة فقد كان الجواز والبيان يحصل بمرة واحدة فلما أحرم فيها كلها على وجه واحد علم أنه أحب إلى الله

ولأنه قد كرر العمر مع أنه ليس عليه إلا عمرة واحدة فزيادة موضع الإحرام لو كان فيه فضل أولى من ذلك وأيسر

ولأن ذلك إنما يكون في الفعل الذي يتكرر فيفعل المفضول مرات لبيان الجواز كالصلاة في آخر الوقت فأما مالا يفعله إلا مرة واحدة فما كان الله ليختار لرسوله أدنى الأمرين ويدخر لمن بعده أفضلهما وفاعل هذا وقائله يخاف عليه الفتنة

وقد سئل مالك عمن أحرم قبل الميقات فقال أخاف عليه الفتنة قيل له وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة أميال فقال وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بأمر لم يفعله رسول الله ثم لو كان الفضل في غير ذلك لبينه للمؤمنين ولدلهم عليه إذ هو أنصح الخلق للخلق وأرحم الخلق بالخلق كما دلهم على الأعمال الفاضلة وإن كان فيها مشقة كالجهاد وغيره

وكونه أيسر قد يكون مقتضيا لفضله كما أن صوم شطر الدهر أفضل من صيامه كله وقيام الليل أفضل من قيامه كله والتزوج وأكل ما أباحه الله أفضل من تحريم ما أخل الله والله عز وجل يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته

وأيضا فإن قوله يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وقول الصحابة وقت رسول الله لأهل المدينة من ذي الحليفة أمر بالإهلال من هذه المواقيت وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن يكون تركها أفضل

وأيضا ما روي عن أبي سورة عن أبي أيوب قال قال رسول الله ليستمتع أحدكم بحلة ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في حرمته رواه أبو كريب وأبو يعلي الموصلي وقد روى الترمذي وابن ماجة بمثل إسناده لكن أبو سورة ضعفوه

وأيضا فإن المكان أحد الوقتين فلم يكن الإحرام قبله مستحبا كالزمان ولأن الأصل أن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمرات ونحو ذلك لا يشرع كالنقص منه فإذا لم تكن الزيادة مكروهة فلا أقل من أن لا يكون فيها فضل وأيضا فإن الترفه بالحل قبل الميقات رخصة كالأكل بالليل في زمان الصوم والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته

وأيضا فإن في زيادة الإحرام على ما وجب تعريضا لأخطار من مواقعة المحظورات وملاله النفس فكان الأولى السلامة كما سئل ابن عباس عن رجل قليل الطاعة قليل المعصية ورجل كثير الطاعة كثير المعصية فقال لا أعدل بالسلامة شيئا وطرد هذا عند أصحابنا أنه لا يستحب الإحرام بالحج للمتمتع قبل يوم التروية وإنما اسحببنا للمعتمر أن يخرج إلى المواقيت فيحرم منها لأنه ميقات شرعي

فإن قيل فقد قال الله { وأتموا الحج والعمرة لله } قال علي وابن مسعود تمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله يقول من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد وفي لفظ له من أحرم من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه وأبو داود ولفظه ومن أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك الراوي وابن ماجه ولفظه من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب

وقد أحرم جماعة من الصحابة من فوق المواقيت فعن ابن عمر أنه أحرم عام الحكمين من بيت المقدس وعنه أنه أحرم من بيت المقدس بعمرة ثم قال بعد ذلك لوددت أني لو جئت بيت المقدس فأحرمت منه

وعن أنس بن مالك أنه أحرم من العقيق رواهما سعيد وقد قيل أهل ابن عباس من الشام وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية وقال إبراهيم كانوا يحبون أول ما يحج الرجل أو يعتمر أن يحرم من أرضه التي يخرج منها ولأن الإحرام عبادة وتركه عادة والعبادات أفضل من العادات

قيل أما أثر علي رضي الله عنه فقد رواه سعيد وحرب وغيرهما عن عبد الله بن سلمة عن علي أن رجلا سأله عن هذه الآية { وأتموا الحج والعمرة لله } قال إن اتمامها أن تحرم من دويرة أهلك قال حرب سمعت أحمد يقول قال سفيان بن عيينة في تفسير الحديث أن تحرم من دويرة أهلك قال هو أن ينشيء سفرها من أهله وقال أحمد في رواية ابن الحكم وقد سئل عن الحديث أن تحرم من دويرة أهلك قال بشيء لها سفرا من أهله كأنه يخرج للعمرة عامدا كما يخرج للحج عامدا وهذا مما يؤكد أمر العمرة والذي يدل على هذا التفسير ما روى عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه قال أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألته عن تمام العمرة فقال أئت عليا فسله فعدت فسألته فقال ائت عليا عليه السلام فسله فأتيت عليا فقلت إني قد ركبت الخيل والإبل والسفن فأخبرني عن تمام العمرة فقال تمامها أن تنشئها من بلادك فعدت إلى عمر فسألته فقال ألم أقل لك ائت عليا فسله فقلت قد سألته فقال تمامها أن تنشئها من بلادك قال هو كما قال رواه سعيد وذكره أحمد وقال قال علي أحرم من دويرة أهلك فقد توافق عمر وعلي رضي الله عنهما على أن تمامها أن ينشئها من بلدة فيسفار لها سفرا مفردا كسفر الحج كما فعل النبي حين أنشأ لعمرة الحديبية والقضية سفرا من بلدة وهذا مذهبنا فإن العمرة التي ينشيء لها سفرا من مصره أفضل من عمرة المتمتع وعمرة المحرم والعمرة من المواقيت وهذا هو الذي كان يقصده عمر بنهيهم عن المتعة أن ينشؤا للعمرة سفرا آخرا

فأما أن يراد به الدخول في الإحرام من المصر فكلا لأن عمر قد زجر عن ذلك وعلي لم يفعله قط هو ولا أحد من الخلفاء الراشدين بل لم يفعله رسول الله فكيف يكون التمام الذي أمر الله به لم يفعله رسول الله ولا أحد من خلفائه ولا جماهير أصحابه

وقوله أن تحرم من أهلك كما يقال تحج من أهلك وتعتمر من أهلك لمن سافر سفر الحج وإن كان لا يصير حاجا ولا معتمرا حتى يهل بهما كما قال النبي لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله ولهذا كره جماعة من السلف أن يطلق عليه ذلك قال عبد الله بن مسعود من أراد منكم هذا الوجه فلا يقولن إني حاج ولكن ليقل اني وافد فإنما الحاج المحرم وفي رواية عنه لا يقول أحدكم إني حاج وإنما الحاج المحرم ولكن يقول أريد الحج ولا يقولن أحدكم إني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة

وعن عاصم الأحول قال سمعت أنسا يقول لا تقل إني حاج حتى تهل ولكن لتقل إني مسافر فذكرت ذلك لأبي العالية فقال صدق أنس أو ليس إن شاء رجع من الطريق رواهما سعيد

تقديره أن تقصد الإحرام والإهلال من أهلك من أهلك وتنشيء سفرهما من أهلك

وأما حديث بيت المقدس فقد قيل هو مخصوص به فيكون الإحرام من بيت المقدس أفضل خصوصا لأنه يعمر ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بالعبادة وهما أولى مساجد الأرض وبينهما كان مسرى رسول الله وهما القبلتان ومنهما المبدأ والمعاد فإن الأرض دحيث من تحت الكعبة وتعاد من تحت الصخرة وعامة الأنبياء الكبار بعثوا من بينهما ويدل على ذلك إهلال ابن عمر منه ولم يفعل ذلك في حجة وعمرته من المدينة

وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور إن الإحرام من الميقات أفضل من بيت المقدس وكذلك ذكر القاضي وغيره من أصحابنا ثم منهم من ضعف الحديث

وتأوله القاضي على أن ينشيء السفر من بيت المقدس ويكون الإحرام من الميقات وفيه نظر

وأما من أحرم من الصحابة قبل المواقيت فأكثر منهم عددا وأعظم منهم قدرا لم يحرموا إلا من المواقيت وقد أنكروه بالقول فروى الحسن أن عمران ابن حصين أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله أحرم من مصره

وعن الحسن أن عبد الله بن عامر أحرم من خرسان فلما قدم على عثمان رضي الله عنه لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد قال البخاري وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خرسان أو كرمان

وفي رواية في حديث عمران فقدم على عمر فأغلظ له وقال يتحدث الناس أن رجلا من أصحاب النبي أحرم من مصر من الأمصار

وعن مسلم أبي سلمان أن رجلا أحرم من الكوفة فرأى عمر سيء الهيئة فأخذ بيده وجعل يديره في الخلق ويقول انظروا إلى هذا ما صنع بنفسه وقد وسع الله عليه

وعن أبي ذر قال استمتعوا بثيابكم فإن ركابكم لا تغني عنكم من الله شيئا رواهن النجاد

مسألة وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة

هذا نصه ومذهبه قال في رواية عبد الله أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وقال في رواية

ويوم النحر من أشهر الحج وهو يوم الحج الأكبر نص عليه في رواية حرب وأبي طالب لما روى أبو الأحوص عن عبد الله قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم

وعن ابن الزبير في قوله { الحج أشهر معلومات } قال شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة رواه سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم وعن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله { الحج أشهر معلومات } وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة جعله الله للحج وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عنه وعن الضحاك عن ابن عباس قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه الدارقطني

وعن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والدارقطني وفي لفظ وعشر ذي الحجة وذكره البخاري في صحيحه وهذا قول الشعبي والنخعي ومجاهد والضحاك وعطاء والحسن ومرادهم بعشر من ذي الحجة عشر ذي الحجة بكماله كما قد جاء في روايات أخرى

وعشر ذي الحجة اسم لمجموع الليالي وأيامها فإن يوم النحر من عشر ذي الحجة ولهذا قال النبي ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر وقال تعالى { وليال عشر } ويوم النحر داخل فيها وقال تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } ويوم النحر هو آخر الأربعين ولفظ العشر وإن كان في الأصل اسما للمؤنث لأنه بغير هاء فإنما دخل فيه اليوم لسببين

أحدهما أنهم في التاريخ إنما يؤخرون بالليالي لأنها أول الشهر الهلالي وتدخل الأيام تبعا ولهذا لو نذر اعتكاف عشر ذي الحجة لزمه اعتكاف يوم النحر

الثاني أنه قد يجيء هذا في صفة المذكر بغير هاء لقول النبي من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال وقوله من هذه الأيام العشر

وأيضا فإن يوم النحر يوم الحج الأكبر

وأيضا فإن أشهر الحج هي الأشهر التي سن الله فيها الحج وشرعه والحج له إحرام وإحلال فأشهره هي الوقت الذي يسن فيه الإحرام به والإحلال منه وأول وقت شرع الإحرام فيه بالحج شوال والوقت الذي يشرع فيه الإحلال يوم النحر وما بعد يوم النحر لا يشرع التأخير إليه وليلة النحر لا يسن التعجيل فيها كما لا يسن الإحرام بالحج قبل أشهره

وأيضا فإن هذه المدة أولها عيد الفطر وآخرها عيد النحر والحج هو موسم المسلمين وعيدهم فكأنه جعل طرفي وقته عيدين

فإن قيل فقد روى عروة ابن الزبير قال قال عمر بن الخطاب { الحج أشهر معلومات } قال شوال وذو القعدة وذو الحجة { فمن فرض فيهن الحج } قال عمر بن الخطاب لا عمرة في أشهر الحج فكلم في ذلك فقال إني أحب أن يزار البيت إذا جعلت العمرة في أشهر الحج لم يفد الرجل إذا حج البيت أبدا

وعن التميمي عن ابن عباس قال شوال وذو القعدة وذو الحجة ذكره البخاري وعن مجاهد عن ابن عمر قال شوال وذو القعدة وذو الحجة رواهن سعيد قبل ليس بين الروايتين إختلاف في المعنى كما يقال قد مضى ثلاثة أشهر وإن كان قبل ذلك في أثناء الشهر الثالث ويقال له خمسون سنة وإن كان لم يكملها فكثير ما يعبر السنين والشهور والأيام عن التام منها والناقص فمن قال وذو الحجة أنه من شهور الحج في الجملة ومن قال وعشر ذي الحجة فقد بين ما يدخل منه في شهور الحج على سبيل التحديد والتفصيل

فإن قيل فقد قال { الحج أشهر معلومات }

قلنا الشهران وبعض الثالث تسمى شهورا لا سيما إذا كانت بالأهلة

وذكر القاضي أن فائدة هذه المسألة اليمين وليس كذلك وهذا التحديد له فائدة في أول الأشهر وهو أنه لا يشرع الإحرام بالحج قبلها وأن الأفضل أن يعتمر قبلها وهي عمرة رمضان وأنه إن اعتمر فيها كان متمتعا وقبل ذلك هو وقت الصيام فإذا انسلخ دخل وقت الإحرام بالحج

ومن فوائده أنه لا يأتي بالأركان قبل أشهره فلو أحرم بالحج قبل أشهره وطاف للقدوم لم يجزه سعي الحج عقيب ذلك لأن أركان العبادة لا تفعل إلا في وقتها وفائدته في آخر الأشهر أن السنة أن يتحلل من يوم النحر فلا يتقدم قبل ذلك ولا يتأخر عن ذلك فإنه أكمل وأفضل

وذكر ابن عقيل أن طواف الزيارة في غير أشهر الحج مكروه

فصل والإحرام بالحج قبل أشهره مكروه

قال في رواية ابن منصور إذا أهل بالحج في غيره أشهره فهو مكروه قال القاضي أود بهذا كراهة تنزيه وقال في موضع آخر ميقات المكان ضرب لئلا يتجاوز قبل الإحرام وميقات الزمان ضرب لئلا يتقدم عليه بالإحرام فإن خالف وتجاوز انعقد إحرامه مكروها وكذلك إذا خالف في ميقات الزمان يجب أن ينعقد مكروها

ومن أصحابنا من يقول يستحب أن لا يستحب أن لا يحرم بالحج قبل أشهره وذكر ابن عقيل هل يكره الإحرام بالحج قبل أشهره على روايتين

إحداهما لا يكره كالإحرام قبل ميقات المكان وإن كان الأفضل أن يحرم من الميقات فيهما

والثانية يكره لأنه ركن فكره فعله في غير أشهر الحج كطواف الزيارة والصواب الأول ولم يذكر القاضي في الكراهة خلافا لأن الله تعالى قال { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج } ومعناه أشهر الحج أشهر معلومات أولهما شوال فلا بد أن يكون لهذا التوقيت والتحديد فائدة ولا يجوز أن يكون هذا التوقيت لأجل الوقوف والطواف لأن الوقوف لا يكون إلا في يوم واحد اخر هذه المدة والطواف إنما يكون بعده فلا يجوز أن يؤقت بأول شوال فعلم أن التوقيت للإحرام ولأن الحج اسم للإحرام والوقوف والطواف والسعي فيجب أن تكون هذه الأشهر مواقيت لجميع ذلك وإذا كان وقتا لها لم يكن تقديمه قبل الوقت مشروعا لأن التوقيت لا يكون لمجرد الفضيلة بدليل الصلاة في أول الوقت فإنها أفضل من الصلاة في اخره ولا يجعل ذلك هو وقتها

وأيضا قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق } خص الفرض بهن فعلم أنه في غيرهن لا يشرع فرضه

وأيضا ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر وعن ابن عباس قال من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ذكره البخاري في صحيحه ورواه النجاد

والصحابي إذا أطلق السنة انصرف ذلك إلى سنة رسول الله وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الرجل أيهل بالحج قبل أشهر الحج فقال لا رواه الشافعي والدارقطني ورواه النجاد ولفظه لا يحرم المحرم إلا في أشهر الحج وعن عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وإبراهيم أنهم كانوا يكرهون أن يحرم الرجل بالحج في غير أشهر الحج ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ولا التابعين

فإن قيل فقد روي عن علي وعبد الله أنهما قالا إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك وإذا كانت داره بعيدة لم يحرم إلا قبل أشهر الحج

قلنا قد فسرناه بأن المراد به إنشاء السفر لهما ولو كان المراد نفس الدخول في الحج فهذا لأن غالب ديار الإسلام يتأتي الإحرام منها في أشهر الحج

فإن خالف وأحرم بالحج قبل أشهره فإنه ينعقد الإحرام بالحج في أشهر الروايتين قال أحمد في رواية أبي طالب وسندي من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لزمه إلا أن يريد فسخه بعمرة فله ذلك قال القاضي فقد نص على انعقاده وأجاز له فسخه إلى العمرة بناء على أصله في جواز فسخ الحج إلى العمرة

فعلى ما قاله القاضي إن فسخه بعمرة قبل أشهر الحج لم يلزمه دم لأنه ليس بتمتع وعليه من تلك السنة لأن فسخ الحج إلى العمرة إنما يجوز بشرط أن يحج من عامه ذلك وكذلك قال ابن أبي موسى من أهل بالحج قبل أشهر الحج أحببنا له أن يجعلها عمرة فإذا حل منها أنشأ الحج فإن لم يفعل وأقام على إحرامه لما أهل به إلى أن أتى الحج أجزأه وقد تحمل مشقة

والأشبه والله أعلم أن مقصود أحمد أنه يفسخه بعمرة لا لأجل فضل التمتع بل لأن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه فيتخلص بفسخه إلى العمرة من المكروه وإن لم يحج

والرواية الثانية لا ينعقد الإحرام بالحج قبل أشهره رواها هبة الله الطبري واختارها القاضي أبو يعلى الصغير فعلى هذا هل ينعقد بعمرة ذكر القاضي أبو يعلى هذا فيه وجهين أحدهما لا ينعقد بعمرة لأنه لم يقصده ولا بحج لأن وقته لم يدخل كما قلنا فيمن أحرم بالنفل قبل الفرض أو عن غيره قبل أن يحج عن نفسه في الرواية التي اختارها أبو بكر

والثاني وهو المشهور أنه ينعقد بعمرة وقد قال أحمد في رواية عبد الله إذا أحرم بالحج قبل أشهره يجعلها عمرة وفسره القاضي بأنه يفسخ الحج إلى العمرة وكذلك قال ابن أبي موسى يستحب لمن أحرم بالحج قبل أشهره أن يجعلها عمرة ويفرغ منها ويحرم بالحج في أشهره

والأشبه أن أحمد إنما قصد بهذا أن يعتقد أنها عمرة ويتمها بعمل عمرة لأنه روي عن عطاء من غير وجه فيمن أهل بالحج قبل أشهره قال يجعلها عمرة وفي رواية إجعلها عمرة فإن الله تعالى يقول { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج } ومذهبه أن نفس الإحرام بالحج ينعقد عمرة فالأظهر أن أحمد إنما قصد الأخذ بقول عطاء فتكون هذه الرواية الثانية وذلك لأن الإحرام بعض الحج وجزء منه ودليل ذلك أنه بدخوله فيه يسمة حاجا أو معتمرا وأنه يلزم بالشروع فيه وأن العمرة للشهر الذي يهل فيه لا الشهر الذي يحل فيه وأنه يجب عليه به السعي إلى الحج في الوقت الذي يدرك الوقوف فلا يجوز له تفويت الحج وإذا كان كذلك لم يجز فعله قبل وقت العبادة كسائر الأبعاض وكنية الصلاة ونحوها ولأن الله تعالى قال { فمن فرض فيهن الحج } فخص الفرض فيهن بالذكر فعلم أن حكم ما عداه بخلافه ولأن هذا مخالف للسنة وقد قال النبي من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

وإذا لم ينعقد الحج ولم يكن سبيل إلى بطلان الإحرام فإنه لا يقع إلا لازما موجبا إنعقد موجبا لعمرة كمن أحرم بالفرض قبل وقته فإنه ينعقد نفلا

وأيضا فإنه لو جاز الإحرام قبل أشهر الحج لوجب أن يحرم بالحج في هذا العام وقف بعرفة في العام المقبل

ووجه الأول أن الشروع في الإحرام يوجب إتمامه كما أن النذر يوجب فعل المنذور فإذا أحرم بالحج لزمه إتمامه كما لو نذره وكونه مكروها لا يمنع لزوم الوفاء به كما أن عقد النذر مكروها ويجب الوفاء به ثم النذر يوجب فعل المنذور وكذلك الإحرام يوجب فعل ما أحرم به

وأيضا فإن أكثر ما فيه أن إحرامه بالحج قبل أشهره غير جائز وهذا لا يمنع لزومه وانعقاده على الوجه الذي عقده كما لو عقده وهو لابس عالما ذاكرا فإن ذلك لا يحل له ومع هذا ينعقد إحرامه صحيحا موجبا للدم بل لو عقده وهو مجامع إنعقد إحراما فاسدا فوجب المضي فيه والقضاء له والهدي نعم هؤلاء وجب عليهم دم لما فعلوه من المحظور لأنهم نقصوا الإحرام وهذا لم ينقصه وإنما زاد عليه فأسوأ أحواله أن يجعل المزيد كالمعدوم وأيضا فإن الإحرام قبل أشهر الحج إحرام في أشهر الحج وزيادة على الإحرام المشروع فإنه يبقى محرما إلى حين الوقوف والطواف والزيادة على المناسك قبلها أو بعدها وإن لم تكن مشروعة فإنها لا تقدح في القدر المشروع كما لو وقف بالمعرف قبل وقته أو أقام به إلى نصف ليلة النحر أو طاف ليلة النحر أو طاف أكثر من أسبوع بالبيت وبين الصفا والمروة أو رمي الجمار بأكثر من سبع حصيات أو بات بمنى بعد لياليها وإذا لم يكن ذلك قادحا في الإحرام الواقع في أشهر الحج فيكون إحراما صحيحا قد التزمه فيلزمه ذلك الإحرام وإذا لزمه ذلك الإحرام لزمه ما قبله لأنه لا يمكن الحكم بصحته إلا بصحة ما قبله ولزومه يبين ذلك ويوضحه أن الصبي والعبد لو أدركا الوجوب وهما بعرفة صح إتمام الحج بما وجد من الإحرام بعد الوجوب وكان بعض هذا الإحرام مجزءا عن الواجب وبعضه ليس مجزءا عنه وإنما يصح المجزيء منه بصحة غير المجزيء فلذلك يجوز أن يبني المشروع منه على غير المشروع جعلا لما وجد قبل الوقت والوجوب وجوده كعدمه ما لم يقع فاسدا

وبهذا يظهر الفرق بين الإحرام وبين سائر أجزاء العبادات فإنها إنما لم تجزيء لكون الجزء المفعول قبل الوقت واجب بكل حال وفعل الواجب قبل وقته غير جائز لأنه يكون وجوده كعدمه وعدم الواجب في العبادة يبطلها وهنا الإحرام الموجود قبل الوقت إذا كان وجوده كعدمه فعدمه لا يؤثر

وأيضا فإنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام المتقدم عليه كالميقات المكاني وذلك لأن الحج مخصوص بزمان ومكان والوقوف والطواف أخص مكانا وزمانا من الإحرام فإن الإحرام يتقدم عليهما في مكانه وزمانه ومن السنة أن لا يحرم بالنسك قبل مكان الإحرام فلو أحرم به إنعقد فكذلك إذا أحرم به قبل زمانه

قال بعض أصحابنا وميقات الزمان جميعه بمنزلة البقعة التي يشرع الإحرام منها له أن يحرم من أولها وآخرها وليس له أن يتأخر عنها وإن تقدم انعقد لكن بينهما فرق وهو ميقات المكان نهى عن التأخر عنه وإن تأخر انعقد ولزمه دم لأن ذلك نقص لبعض النسك وميقات الزمان إذا أخره عن وقت جوازه فات الحج فلم ينعقد وإن كان التقدم في الزمان مكروها لأن من أراد أن يقطع الوقت بالإحرام فإنه يمكنه أن يحرم بالعمرة بخلاف المكان وأيضا فإنه قد التزم الحج فإن جعلناه التزاما صحيحا وجب أن يتمه كما التزمه وإن كان فاسدا فلا شيء عليه أما العمره فلم يقصدها ولم ينوها وهي بعض ما التزمه أو هي مخالفة له فكيف تقوم مقام الحج

وقد احتج جماعة من أصحابنا وغيرهم بقوله { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } قالوا وهذا عام في جمع الأهلة فيقتضي أن تكون جميعا ميقاتا للحج وهذا غلط محقق لأن الهلال إنما يكون وقتا للشيء إذا اختلف حكمه به وجودا وعدما مثل أن تنقضي به العدة أو يحل به الدين أو يجب به الصوم أو الفطر ونحو ذلك فلو كان جميع العام وقتا للإحرام بالحج لم تكن الأهلة ميقاتا للحج كما لم تكن ميقاتا للنذر ولا ميقاتا لسائر الأشياء التي تفعل في جميع الأزمنة بل هذه الآية دالة على أن الحج مؤقت بالأهلة ومحال أن يكون مؤقتا بكل واحد من الأهلة فعلم أن المراد أن جنس الأهلة ميقات للحج كما قال { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } والجنس يحصل بهلال واحد وباثنين وثلاثة فأفادت الآية أن الأهلة ميقات للحج يعلم جوازه بوجودها في الجملة وذلك حق فإن الحج إنما يكون لهلال خاص وهو هلال ذي الحجة

ويجوز أن يراد أن مجموع أهلة السنة وقت للحج فإن الحج إنما يدخل وقته عند انتهاء الاثنى عشر ويجوز أن يراد بعضها ميقات للناس وبعضها ميقات للحج ويجوز أن يراد

وأما قوله سبحانه { فمن فرض فيهن الحج } فهو دليل على أن فرضه قبلهن غير مشروع إن لم يكن قوله { فيهن } متعلقا بالحج

وأما كونه خلاف السنة فصحيح لكن ذلك لا يمنع الانعقاد

وأما كون الإحرام ركنا للحج وبعضا منه فقد إختلفت عبارة أصحابنا في ذلك فزعم طائفة من متأخريهم أنه شرط للحج وليس بركن له والشروط تفعل قبل وقت العبادة كالطهارتين والستارة قالوا ولهذا يجب استصحابه في جميع الحج والركن إنما يفعل بعد إنقضاء الركن كالوقوف والطواف والركوع والسجود

وأكثر فقهاء أصحابنا يجعلونه ركنا ثم قال القاضي وغيره كونه ركنا لا يوجب إختصاص جوازه بأشهر الحج كالطواف فإنه يجوز تأخيره عن أشهر الحج فنقول ركن في طرف الحج فجاز فعله في غير وقته كالطواف وعكسه الوقوف فإن ركن في وسط الحج وقياسه بالطواف أولى لأن ذاك تأخير وهذا تقديم

ولأن الطواف لا يفعل إلا في وقت واحد والإحرام يدوم ويستمر في أشهر الحج وفي غير أشهره وهذا أشبه بأصولنا فإن العمرة عندنا للشهر الذي يحرم منه ولو كان شرطا مختصا لم يصح ذلك نعم هو يشبه النية لأنه به ينعقد الحج ويلزم وبه يدخل في الحج كما يدخل بالنية في الصلاة والنية منها ما يتقدم وقت العبادة كالصوم ومنها مالا يتقدم كالصلاة وتحقيقه أن له شبها بالشرائط وشبها بالأركان والأصول لا يقاس بعضها ببعض كما أن الحج لا يقاس بغيره من العبادات

فإن قيل إذا قلتم ينعقد وله فسخه إلى عمرة يحج بعدها فهذا ظاهر أما أنه ينعقد ويفسخه إلى عمرة من غير حج ويكون ذلك أفضل من تمام حجة فكيف هذا

قلنا فسخ الحج إلى العمرة يجوز لغرض صحيح وهو تحصيل ما هو أفضل من حجة مفردة فلما كان تحصيل عمرة يتمتع بها وحجة أفضل من حجة مفردة جاز له الفسخ لذلك وهنا إحرامه بعمرة قبل أشهر الحج يأتي بها من غير حج أفضل من حجة يحرم بها قبل أشهر الحج لأن هذا مكروه مع كثرته وذاك لا كراهية فيه فإذا انتقل إلى ما هو أفضل كان له ذلك وإذا أقام على إحرامه بالحج إلى أن تدخل أشهر الحج فهنا ينبغي أن لا يكون له الفسخ إلا إلى متعة

فصل

ومتى أحرم بالحج فعليه أ يحج تلك السنة وليس له أن يؤخر الحج إلى العام المقبل حتى لو بقى محرما حتى فاته الحج لم يجز له أن يستديم الإحرام إلى العام المقبل وإن جوزنا الإحرام قبل لأن الإحرام يوجب فعل الحج ذلك العام فإذا فإنه لم يجز أن يؤدي بهذا الإحرام حجة أخرى

فصل

وأما العمرة فيحرم بها متى شاء لا تختص بوقت لأن أفعالها لا تختص بوقت فأولى أن لا يختص إحرامها بوقت قال أصحابنا لا يكره في شيء من السنة بل له أن يحرم في أيام الحج وله أن يبقى محرما بالعمرة السنة والسنتين قال أحمد في رواية أبي الحارث يعتمر الرجل متى شاء في شعبان أو رمضان

وهذا فيمن لم يبق عليه شيء من أعمال الحج فأما إذا تحلل من الحج وبقي عليه الرمي لم ينعقد إحرامه بالعمرة وإن نفر النفر الأول

وقد قال أحمد في رواية ابن إبراهيم فيمن واقع قبل الزيارة يعتمر إذا انقضت أيام التشريق قال القاضي وظاهر هذا أنه لم ير العمر في أيام التشريق والمذهب على ما حكيناه لأنه قد قال في رواية الأثرم العمرة بعد الحج لا بأس بها عندي وهذه الرواية تحتمل ما قاله القاضي وتحتمل أن الحاج نفسه لا يعتمر إلا بعد أيام التشريق لأنها من تمام الحج وقد روى النجاد عن عائشة أنها قالت العمرة في السنة كلها إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق وفي لفظ حلت العمرة الدهر إلا ثلاثة أيام يوم النحر ويومين من أيام التشريق وهذا يقتضي أنما كره ذلك لآجل التلبس بالحج

باب الإحرام

[عدل]

مسألة من أراد الإحرام إستحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين

وجملة ذلك أنه يستحب الاغتسال قبل الإحرام للرجل والمرأة سواء كانت طاهرا أو حائضا قال أحمد في رواية صالح ويغتسل الرجل والمرأة إذا أرادا أن يهلا ويغتسلان إذا أرادا أن يدخلا الحرم فإن لم يفعلا فلا بأس وقال في رواية عبد الله والحائض إذا بلغت الميقات فتغتسل وتصنع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة ولا تدخل المسجد أعجب إلي لما روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي تجرد لإهلاله واغتسل رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والدارقطني وعن عائشة قالت كان رسول الله إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وإشنان ودهنه بزيت غير كثير وعن ابن عمر قال من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم وإذا أراد أن يدخل مكة رواهما الدارقطني وروى أيضا عن ابن عباس قال اغتسل رسول الله ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيرة فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح وقد تكلم فيه

وأما الحائض والنفساء فروى خصيف عن مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي أن النفساء أو الحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت وفي لفظ أن النبي قال الحائض والنفساء إذا أتيا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت حتى تطهر رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه

وعن عائشة قالت نفست أسماء بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل رواه مسلم والترمذي وكذلك في حديث جابر أن أسماء بنت عميس نفست بذي الحليفة فأمر رسول الله أبا بكر فأمرها أن تغتسل وتهل رواه مسلم وغيره وعن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد ابن أبي بكر بالبيداء فذكر أبو بكر لرسول الله فقال رسول الله مرها فلتغتسل ثم لتهل رواه مالك وأحمد والنسائي وإذا رجت الحائض والنفساء أن تطهر أقامت حتى إذا طهرت اغتسلت إذا اتسع الزمان هكذا ذكر أصحابنا القاضي وابن عقيل وليس هذا الغسل واجبا نص عليه وقيل إن بعض المدنين يقول من ترك الإغتسال فعليه دم لقول النبي لأسماء وهي نفساء إغتسلي فكيف الطاهر فأظهر التعجب من هذا القول وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل أجزأه وذلك لما روي عن ابن عمر أنه توضأ مرة في عمرة اعتمرها ولم يغتسل وكان في عمرة إذا أتى ذا الحليفة تجرد واغتسل رواهما سعيد

وإن لم يكن هناك ماء فهل يتيمم على وجهين ويقال روايتين إحداهما يتيمم قاله القاضي وابن عقيل

فصل

وأما التنظيف فالمراد به أن يجز شاربه ويقلم أظفاره وينتف إبطه ويحلق عانته إن احتاج إلى شيء من ذلك ويزيل شعثه وقطع الرائحة

قال أحمد في رواية المروذي فإذا أردت أن تحرم فخذ من شاربك وأظفارك واستحد وانتف ما تحت يدك وتنظف واغتسل إن أمكنك وتوضأ وضوءك للصلاة فإن وافقت صلاة مكتوبة صليت وإلا فصل ركعتين فإن أردت المتعة فإنها آخر الأمرين من رسول الله لقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فلم يحل لأنه ساق الهدي وأبو عبد الله يختارها فقل اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وأعني عليها تسر ذلك في نفسك مستقبل القبلة وتشترط عند إحرامك تقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وإن شئت أهللت على راحلتك

وذكر في الإفراد والقران نحو ذلك إلا أنه قال فقل اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني لبيك اللهم عمرة وحجا فقل كذلك ولم يذكر في المتعة والقران لفظه في التلبية ثم قال وإن شاء تطيب قبل أن يحرم ويغتسل المحرم إن شاء قبل دخول الحرم وذلك لأن هذه عبادة فاستحب أن يدخل فيها بنظافة كغيرها لا سيما وهو ممنوع من ذلك بعد الإحرام فإن أراد أن يأخذ من شعر رأسه بالجز ونحوه فهل يكره رخص فيه عمر والحجازيون وكرهه

فصل

وأما التطيب فقد قال في رواية المروذي وإن شاء تطيب قبل أن يحرم وقال عبد الله سألت أبي عن المحرم الطيب أحب إليك له أم ترك الطيب قال لا بأس إن يتطيب قبل أن يحرم ونذهب فيه إلى حديث عائشة وكذلك نقل حنبل وإنما لم يؤكده لأن النبي لم يأمر به وإنما فعله فيجوز أن يكون فعله لأنه عبادة ويجوز أن يكون فعله على الوجه المعتاد وفي مراعاته نوع مشقة وفيه اختلاف وظاهر كلامه أنه مستحب غير مؤكد بحيث لا يكره تركه بخلاف الاغتسال والتنظيف

قال أصحابنا يستحب له أن يتطيب بما شاء من طيب الرجال سواء كان مما يبقى أثره أو لا يبقى لما روى عروة عن عائشة قالت كنت أطيب النبي عند إحرامه بأطيب ما أجد وفي رواية قالت كنت أطيب النبي بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم متفق عليه وفي رواية كنت أطيب النبي عند إحرامه بأطيب ما أجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته لفظ البخاري وفي رواية مسلم كان رسول الله إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في لحيته ورأسه بعد ذلك وفي رواية القاسم عنها كنت أطيب النبي لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك متفق عليه

وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنا نخرج مع رسول الله إلى مكة فنضمد جباها بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي فلا ينهانا رواه وأبو داود

وعن نافع قال كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة أدهن بدهن ليس له رائحة طيبة ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله يفعل رواه البخاري

وعن درة قالت كنت أغلف رأس عائشة بالمسك والصبر عند إحرامها وعن عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص قالت كنت أسحق له المسك يعني سعدا بالبان الجيد فأضمخ منه لحيته ورأسه وأجمر حلته فيروح فيها مهلا

وعن مسلم بن صبيح قال رأيت في رأس ابن الزبير ولحيته من الطيب وهو محرم ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال وعن علي بن حسين قال قال لي ابن عباس وعائشة إدهن بأي دهن شئت وأنت محرم وقال ابن عمر إدهن بالزيت

وعن ابن عباس أنه سئل عن الطيب قبل الإحرام قال أما أنا فأصعصعه في رأسي ثم أحب بقاءه

وعن ابن المنتشر قال سألت ابن عمر ما تقول في الطيب عند الإحرام فقال ما أحب أن أصبح محرما ينضح مني الطيب وفي لفظ لأن أصبح مطليا بقطران أحب إلى من أصبح محرما أنضح طيبا فلما سمع ذاك أرسل إلى عائشة فقالت أنا أطيب رسول الله فسكت رواهن أحمد في رواية ابنة عبد الله

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا يستحب أن يتطيب في بدنه دون ثيابه لأنه إذا طيب الثوب فربما خلعه ثم لبسه وذلك لا يجوز وإنما ذكرت عائشة أنها كانت ترى الطيب في رأس رسول الله ولحيته

قالوا وإن طيبهما جاز لأن النبي نهى أن يلبس المحرم ثوبا مسه ورس أو زعفران فلو كان تطييب الثوب مشروعا لما نهى عن لبسه

قالوا ويستحب للمرأة أن تتطيب كالرجل لما تقدم من حديث عائشة ولأنها لا تقرب من الرجال بخلاف الطيب عند الخروج إلى الجماعات والجمع والأعياد فإنهن يختلطن بالرجال فكره ذلك قالوا ويستحب للمرأة أن تختضب قبل الإحرام سواء كانت أيما أو ذات زوج

فأما غير المحرمة فقال القاضي يستحب لها الخضاب إن كانت ذات زوج ولا يستحب إذا كانت أيما

فصل

وأما التجرد عن المخيط ولباس ازار ورداء نظيفين أبيضين فلما روى ابن عمر في حديث له ذكره عن النبي قال وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس خفين ولقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين رواه أحمد ولأن النبي وأصحابه أحرموا في الأزر والأردية والنعال ولأن ستر العورة والمنكبين مشروع في الصلاة وغيرها وسترهما بالمخيط غير جائز فيستر عورته بازار ومنكبيه برداء

ولم يذكر أحمد والخرقي والشيخ وأبو الخطاب وغيرهم الأمر بالإحرام في نعلين وذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما لما تقدم وليس بينهما خلاف وإنما يشرع ذلك لمن أراد أن يمشي وينتعل ومن أراد الركوب أو المشي حافيا من غير ضرر فله أن لا ينتعل بخلاف اللباس فإنه مشروع بكل حال

وإنما استحب أصحابنا البياض وسواء كانا جديدين أو غسيلين ليس أحدهما أفضل

وإن أحرم في ملون لا يكره لبسه فجائز من غير كراهة

وإنما استحببنا أن يكونا نظيفين من النجاسة ومن الوسخ

مسألة ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام ويستحب أن ينطق به ويشترط فيقول اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني

في هذا الكلام فصول

أحدهما الفصل الأول أنه يستحب أن يكون الإحرام بعد صلاة لأن الذين وصفوا حج رسول الله كلهم ذكروا أنه صلى في مسجد ذي الحليفة كما سيأتي ثم أحرم عقب ذلك وفي بعض الروايات من حديث ابن عباس وأنس أنها كانت صلاة الظهر

وعن ابن عمر كان رسول الله يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات يعني التلبية رواه مسلم

ثم إن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها لأن النبي أحرم عقيب المكتوبة ولم يصل بعدها شيئا ولم يكن يصلي مع الفرض شيئا وإن صلى بعدها سنة أو ركعتين وإن لم تحضر مكتوبة صلى ركعتين إن كان وقت صلاة فإن كان وقت نهى وإن لم يصل فلا بأس قال عبد الله سألت أبي يحرم الرجل في دبر الصلاة أحب إليك قال أعجب إلى أن يصلي فإن لم يصل فلا بأس وكذلك نقل ابن منصور عنه وقد سئل يحرم في دبر الصلاة أحب إليك قال أعجب إلى أن يصلي فإن لم يصل فلا بأس الفصل الثاني

في الوقت الذي يستحب فيه الإحرام والذي عليه أصحابنا أنه يستحب فيه الإحرام في دبر الصلاة وهو جالس مستقبل القبلة وإن أحرم بعد ذلك فحسن وقد تقدم قول أحمد في رواية المروذي فإن وافقت صلاة مكتوبة صليت وإلا فصل ركعتين فإن أردت المتعة فقل اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وأعني عليها تسر ذلك في نفسك مستقبل القبلة وتشترط عند إحرامك تقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وإن شئت أهللت على راحتك وذكر في الإفراد والقران مثل ذلك إلا أنه قال فقل اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني لبيك اللهم عمرة وحجا قبل ذلك وكذلك قال في رواية حنبل إذا أراد الإحرام فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم وإن شاء إذا استوى على راحلته وإن أحب أن يحرم من المسجد أحرم وإن شاء بعدما صلى في دبر الصلاة فأي ذلك فعل أجزأه بعد خروجه من المسجد في حديث ابن عمر وقال في رواية عبد الله فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم وإن شاء إذا استوى على راحلته

وقال في رواية أبي طالب إذا أراد الإحرام استحب له أن يغتسل ويلبس إزارا ورداء فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم وإن شاء إذا استوى على راحلته فلبى تلبية النبي

وجعل القاضي وغيره هذه النصوص منه مقتضيه للاستحباب عقيب الصلاة وإن شاء أحرم إذا استوت به راحلته لأن أحمد بدأ بالأمر بذلك ثم جوز الآخر ولأنه إنما شرع الإحرام عقيب الصلاة بناء على أن النبي أحرم عقيبهما فيكون ذلك زائدا على رواية من روى أنه أحرم عند استواء ناقته وانبعاثها به ولأنه إذا كان مشروعا في هاتين الحالتين فتقديمه أفضل

وقال في رواية الأثرم وقد سئل أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته قال كل قد جاء دبر الصلاة وإذا استوت به ناقته وإذا علا البيداء قال القاضي وظاهر هذا أنه مخير في جميع ذلك وليس أحدهما بأولى من الاخر

ولفظ أبي الخطاب وعنه أن إحرامه عقيب الصلاة وإذا استوى على راحلته وإذا بدأ في السير سواء ولفظ غيره فيها أن الإحرام عقيب الصلاة وحين تستوي به راحلته على البيداء سواء

والمذهب على ما حكينا وأن المستحب أن يحرم دبر الصلاة ومعنى قولنا إذا استوى على راحلته أنها الحال التي يريد أن يأخذ في المسير

وقد نقل عبد الله عن أبيه أنه يبلس ثوبين ثم يقلد بدنته ثم يشعر ثم يحرم هكذا الأمر هكذا يروى عن النبي

وعلى هذا يستحب الإحرام إذا ركب وأراد الأخذ في السير لأن تقليد الهدي وإشعاره بعد الصلاة وقد جعل الإحرام بعده

وإذا أحرم دبر الصلاة ففي أول أوقات التلبية ثلاثة أوجه

أحدها أنه يلبي إذا استوت به راحلته كما ذكره الشيخ قاله الخرقي وذكره القاضي وابن عقيل في المجرد والفصول وهو المنصوص عنه في رواية الأثرم قال قد يكون الرجل محرما بغير تلبية إذا عزم على الإحرام وقد يلبي الرجل ولا يحرم ولا يكون عليه شيء وهو يعزم على الإحرام فإذا إنبعثت به راحلته لبى

والثاني أن أول حال تشرع فيها التلبية إذا أشرف على البيداء لا في أول الإحرام ذكره القاضي في بعض المواضع

والثالث أنه يلبي عقيب إحرامه في دبر الصلاة وهو الذي استقر عليه قول القاضي وغيره من أصحابنا وقد نص في رواية المروذي على أنه يصل الإحرام بالتلبية

قال أحمد في رواية حرب وقد سأله عن الرجل إذا أحرم في دبر الصلاة أيلبي ساعة يسلم أم متى قال يلبي متى شاء ساعة يسلم وإن شاء بعد ذلك وسهل فيه

وأكثر نصوص أحمد تدل على أن زمن الإحرام هو زمن التلبية كما تقدم عنه أنه مخير بين الإحرام والإهلال عقيب الصلاة وعلى الراحلة ولم يذكر في شيء من ذلك أنه يحرم عقيب الصلاة ويلبي إذا استوت به راحلته

وسبب هذا الإختلاف في وقت إحرام النبي وإهلاله فروى نافع قال كان ابن عمر يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله رواه البخاري

وفي لفظ له رأيت رسول الله يركب راحلته بذي الحليفة ثم يهل حين تستوي به قائمة

وعن ابن عمر قال بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله فيها ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة وفي رواية ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيرة متفق عليها

وفي رواية عنه سمعت رسول الله يهل ملبيا يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وقال كان رسول الله يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات رواه مسلم

وعنه أيضا قال كان رسول الله إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة متفق عليه

وهذا يبين أنه أهل لما انبعثت به إلى القيام وهو استواؤها لأن البعير إذا نهض يكون منحنيا فإذا استوى صار قائما

وهذا كله يبين أنه أهل حين استواء البعير وأرادة المسير قبل أن يشرع في السير فعلى هذا تكون التلبية عوضا عن الذكر المشروع وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن إهلال رسول الله من ذي الحليفة حين استوت به راحلته رواه البخاري وقال رواه أنس وابن عباس

وعن أنس بن مالك قال صلى النبي بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل رواه البخاري ولمسلم إلى قوله ركعتين

وعن ابن عباس قال صلى النبي الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها ولقدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

فهذه نصوص صحيحة أنه إنما أهل حين استوت به راحلته واستوى عليها ورواتها مثل ابن عمر وجابر وأنس وابن عباس في رواية صحيحة

ثم من قال من أصحابنا يحرمون عقيب الصلاة قال قد جاء أنه أحرم عقيب الصلاة وهنا أنه أهل إذا استوت به راحلته فتحمل تلك الرواية على الإحرام المجرد وهذه على الإهلال لأن التلبية إجابة الداعي وإنما تكون الإجابة إذا أراد أن يأخذ في الذهاب إليه بخلاف الإحرام فإنه عقد وإيجاب ففعله عقيب الصلاة أقرب إلى الخشوع

وأما رواية البيداء فروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد روى البخاري نحوه وعن جابر بن عبد الله قال لما أراد رسول الله الحج أذن في الناس فاجتمعوا فلما أتى البيداء أحرم رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه مسلم في حديثه الطويل ولفظه فصلى رسول الله في المسجد ثم ركب القصوى حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينيه مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

وعن سعيد بن أبي وقاص قال كان رسول الله إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء رواه أبو داود

ووجه الأول ما روى خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي لبى في دبر الصلاة رواه الخمسة إلا أبا داود ولفظ أحمد لبى في دبر الصلاة وقال الترمذي حديث حسن غريب وفي رواية لأحمد وأبي داود عن سعيد قال قلت لابن عباس عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله في إهلاله فقال إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة فمن هنالك إختلفوا خرج رسول الله حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل فأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا عنه وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهل فأدرك ذلك أقوام فقالوا إنما أهل رسول الله حين علا شرف البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به راحلته وأهل حين علا على شرف البيداء

ورواه الأثرم وقال أوجب رسول الله الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب راحلته واستوت به ناقته أهل ولعل هذا اللفظ هو الذي اعتمده بعض أصحابنا وروى عن ابن عباس أنه قال أهل رسول الله في مسجد ذي الحليفة وأنا معه وناقة رسول الله عند باب المسجد وابن عمر معها ثم خرج فركب فأهل فظن ابن عمر أنه أهل في ذلك الوقت

وهذه رواية مفسرة فيها زيادة علم وإطلاع على ما خفي في غيرها فيجب التقيد بها واتباعها وليس هذا مخالفا لما تقدم عنه أنه أهل حين استوت به على البيداء لأن تلك الرواية بعض هذه

وعن أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر رواه النسائي ويدل عليه ما روى عمر قال سمعت رسول الله وهو بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة وفي لفظ عمرة وحجة رواه البخاري وغيره فلم يجعل بين الصلاة والإحرام فصلا وأيضا فإن كل صلاة مشروعة لسبب بعدها فإنه يستحب أن يوصل بها كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وصلاة الإستسقاء وغير ذلك

فإن إحرامه جالسا مستقبل القبلة أقرب إلى إجتماع همه وحضور قلبه وهو بعد الصلاة أقرب إلى الخشوع منه عند الركوب فإحرامه حال الخشوع أولى وقد بين في هذا الحديث أنه لبى عقيب الصلاة وكذلك جميع الأحاديث ليس فيها فرق بين الإحرام والتلبية

بل التلبية والإهلال والإحرام وفرض الحج بمعنى واحد ولهذا في حديث ابن عمر أنه أحرم حين استوت به ناقته وفي لفظ أنه أهل فعلم أنه إنما قصد إبتداء الإحرام فمن زعم أنه أحرم ولم يلب ثم لبى حين استوت به ناقته فهو مخالف لجميع الأحاديث ولعامة نصوص أحمد

والإحرام من مكة من المتمتع كغيره يحرم عقيب الركعتين اللتين يصليهما بعد طواف سبع ذكره القاضي وغيره وقد قال أحمد في رواية حرب إذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد

والمنصوص عنه في رواية عبد الله في حق المتمتع إذا كان يوم التروية طاف بالبيت فإذا خرج من المسجد لبى بالحج فذكر أنه يهل إذا خرج من المسجد وفي موضع اخر قلت من أين يحرم بالحج قال إذا جعل البيت خلف ظهره قلت فإن بعض الناس يقول يحرم من الميزاب قال إذا جعل البيت خلف ظهره أهل

فقد نص على أنه يهل إذا أخذ في الخروج من المسجد والذهاب إلى منى وهذا يوافق رواية من روى أنه يهل إذا استقلت به ناقته خارجا من مسجد ذي الحليفة

والتلبية عقيب الإحرام إنما تستحب إذا كانت في البرية والصحراء فإن كانت في الأمصار لم تستحب حتى يبرز لأنها لا تستحب في الأمصار ذكره القاضي في رواية أحمد بن علي وقد سئل إذا أحرم في مصره يلبي فقال ما يعجبني كأنه ذهب إلى التلبية من وراء الجدر

وقال في رواية المروذي التلبية إذا برز عن البيوت

فإن كان الإحرام في مسجد في البرية أو في قرية الفصل الثالث

إن الإحرام ينعقد بمجرد النية عند أصحابنا

قال أحمد في رواية الأثرم الرجل يكون محرما بالنية إذا عقد على الإحرام وحديث قيس بن سعد أنه نظر إلى هدية مقلد فقال ذاك كان قد عقد الإحرام بتقليده الهدي وكان ابن عمر لا يسمى حجا ولا عمرة وقد يكون الرجل محرما بغير تلبية إذا عزم على الإحرام وقد يلبي الرجل ولا يحرم ولا يكون عليه شيء وهو يعزم على الإحرام فإذا انبعثت به راحلته لبى

فصل

وقد استحب أصحابنا أن ينطق بما أحرم به وقد تقدم نصه على ذلك في رواية المروذي فيقول اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني لأن في حديث علي أنه قال للنبي حين قال له كيف قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله رواه مسلم وفي حديث عمر عن النبي أتاني آت من ربي وقال قل عمرة في حجة وفي لفظ عمرة وحجة وفي حديث ابن عمر أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم قال أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرة

واستحبوا الإشتراط وهو منصوصه أيضا وقال ابن أبي موسى يستحب له الإشتراط وهو أن يقول بعد التلبية إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني

وأكثر أصحابنا يقولون ينطق بالإشتراط قبل التلبية

مسألة وهو مخير بين التمتع والافراد والقران وأفضلها التمتع وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يشرع في الحج في عامه ثم الإفراد وهو أن يحرم بالحج مفردا ثم القران وهو أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة

في هذا الكلام فصول

أحدها الفصل الأول أن من أراد النسك فهو مخير بين التمتع والإفراد والقران فإذا أراد أن يجمع بين النسكين في سفرة واحدة يمر فيها على الميقات في أشهر الحج فالأفضل التمتع ثم الأفراد ثم القران لمن لم يسق الهدي قال أبو عبد الله رحمه الله في رواية المروذي ما تقدم حيث خيره بين الثلاثة وأختار له المتعة

وقال في رواية صالح التمتع آخر فعل النبي والذي نختار المتعة لأنه آخر ما أمر به النبي وهو يجمع الحج والعمرة جميعا ويعمل لكل واحد منهما على حدة ولما قدم النبي مكة أمر أصحابه أن يحلوا وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولأحللت كما تحلون وهذا بعد أن قدم مكة وهو آخر الأمرين

وقال عبد الله سألت أبي عن القران والإفراد قال التمتع آخر فعل النبي يعني أمر النبي وقال سمعت أبي يقول والمتعة آخر الأمرين من رسول الله ويجمع الله فيها الحج والعمرة واختيار رسول الله لها إذ قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فلم يحل النبي لأنه ساق الهدي

وسئل عن القران قال التمتع أحب إلى وهو آخر الأمرين من النبي

وقال اجعلوا حجكم عمرة قال أبو عبد الله يعني الحج والأمران من سنة النبي فالحج والمتعة على هذا من سنة النبي

وقال في رواية أبي طالب فلما قدم مكة قال إجعلوا حجكم عمرة فأمرهم بالعمرة وهي آخر الأمرين من النبي وهذا بين ألا من ضاق علمه بالفقه لأن النبي أهل بالحج وأصحابه ولم يكونوا يرون إلا أنه الحج فلما قدم مكة قال لوإستقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولأحللت كما تحلون فقالوا أي الحل قال الحل كله قالوا نخرج كذا وكذا فقال أحلوا وغضب فحلوا فقال سراقة بن مالك يا رسول الله عمرتنا لعامنا هذا أم للأبد فقال بل للأبد

وأما ساق الهدي ففيه روايتان

إحداهما القران أفضل قال في رواية المروذي إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسق فالتمتع نقلها أبو حفص

والثانية التمتع أفضل بكل حال وقد صرح بذلك في رواية حرب قال سمعت أبا عبد الله يقول أنا أختار في الحج التمتع قال وقال ابن عباس هي واجبة قال وسألته مرة أخرى ما تختار في الحج قال أنا أختار التمتع يدخل مكة بعمرة ويطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ويحل إن لم يكن معه هدي فإذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد وإن كان ساق الهدي طاف بالبيت وبين الصفا والمروة لعمرته ثم قام على إحرامه فإذا كان يوم التروية أهل بالحج هذا مذهبه وذلك لما اعتمده أحمد وبنى مذهبه عليه وهو أن النبي لما أحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة قال من شاء أن يهل بحج ومن شاء أن يهل بعمرة ومن شاء أن يهل بعمرة وحج فلما قدموا مكة أمرهم كلهم أن يحلوا من إحرامهم إذا طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ويجعلوها عمرة ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج إلا من ساق الهدي فإن سوق الهدي يمنعه من التحلل

وكان دخولهم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة فلما كان يوم التروية أمرهم أن يهلوا بالحج فحج المسلمون كلهم مع رسول الله بأمره متمتعين حجة الوداع التي هي أكمل بها الدين وأتم بها النعمة وقد كرهوا ذلك والنبي يأمرهم بالمتعة ويغضب على من لم يفعلها ويقول لو اسقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولولا الهدي لأحللت لعلمه بفضل الإحلال فثبت بذلك أن المتعة أفضل من حجة مفردة ومن القران بين العمرة والحج من وجوه

أحدها أنها آخر الأمرين من النبي فإنه أمرهم بها عينا بعد أن خيرهم عند الميقات بينها وبين غيرها فعلم أنه لم يكن يعلم أولا فضل المتعة حتى أمره الله بها وحضه عليها فأمر أصحابه بها وحضهم عليها ولو كان يعلم أولا من فضل المتعة ما علمه بعد قدومه مكة لكان قد أمرهم بالإهلال بها من الميقات ولم يخيرهم بينها وبين غيرها ليستريح من كراهتهم لفسخ الحج ومشقته عليهم فإنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما ولهذا قال ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة الثاني أن المسلمين حجوا معه متمتعين جميعهم إلا من ساق الهدي وكانوا قليلا وذلك بأمره وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله لو كان الفعل معارضا له { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ولا ينبغي لمؤمن أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله ورسوله

الثالث أن هذه الحجة حجة الوداع لم يحج النبي بالمسلمين قبلها ولا بعدها وفيها أكمل الله الدين وأتم النعمة وأحييت مشاعر إبراهيم وأميت أمر الجاهلية فلم يكن الله تعالى يختار لرسوله وللمؤمنين من السبل إلا أقومها ومن الأعمال إلا أفضلها وقد إختار الله لهم المتعة

وهذه الجملة التي ذكرناها من حجة النبي وأمره المسلمين بالمتعة مما أجمع عليه علماء الأثر واستفاض بين أهل العلم واشتهر حتى لعله قد تواتر عندهم ونحن نذكر من الأخبار بعض ما يبين ذلك فروى الزهري عن سالم عن أبيه قال تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله مكة قال للناس من كان أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجة ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أهله

وطاف رسول الله حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجة ونحر هدية يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله من أهدى فساق الهدي من الناس

وعن الزهري عن عروة عن عائشة زوج النبي أنها أخبرته عن رسول الله في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي متفق عليه وعن سالم أنه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال عبد الله بن عمر هي حلال قال الشامي أن أباك قد نهى عنها فقال عبد الله بن عمر أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله فقال الرجل بل أمر رسول الله فقال لقد صنعها رسول الله رواه الترمذي وروى النسائي عنه العمرة في أشهر الحج تامة قد عمل بها رسول الله وأنزلها الله تعالى في كتابه

وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله لبد رأسه وأهدى فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن قلن مالك أنت لا تحل قال إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من حجتي وأحلق رأسي رواه أحمد وعن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله عن عبد الله بن عمر قال قدم رسول الله مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال رسول الله من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي قالوا يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال نعم وسطعت المجامر وقدم علي بن أبي طالب من اليمن فقال رسول الله بم أهللت قال بما أهل به النبي قال فإن لك معنا هديا قال حميد فحدثت به طاوسا فقال هكذا فعل القوم وفي رواية إجعلها عمرة

وفي رواية خرج رسول الله ولبى بالحج ولبينا معه فلما قدم أمر من لم يكن معه الهدي أن يجعلوها عمرة رواه أحمد بإسناد صحيح وبعضه في الصحيحين

وذكر ابن الجوزي أنه في الصحيحين وأظنه وهما

وعن الأسود عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر رسول الله من لم يكن ساق الهدي أن يحل قالت فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن قالت عائشة فحضت فلم أطف بالبيت فلما كانت ليلة الحصبة قالت قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا قالت صفية ما أراني إلا حابستكم قال عقرى حلقى أو ما كنت طفت يوم النحر قالت بلى قال لا بأس عليك إنفري قالت عائشة فلقيني رسول الله وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها

وفي رواية الأعمش عن إبراهيم عن الأسود خرجنا مع رسول الله نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة وساق الحديث بمعناه

وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا أنه الحج فلما كنا بسرف حضت حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل قالت عائشة فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا فقال ذبح رسول الله عن أزواجه قال يحيى فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه

وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سرف فطمثت فدخل علي رسول الله وأنا أبكى فقال ما يبكيك فقلت والله لوددت أني لم أكن خرجت العام فقال مالك لعلك نفست قلت نعم قال هذا شيء كتبه الله على بنات آدم إفعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري قالت فلما قدمت مكة قال رسول الله لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه هدي قالت فكان الهدي مع رسول الله وأبي بكر وعمر وذي اليسارة ثم أهلوا حين راحوا قالت فلما كان يوم النحر طهرت فأمرني رسول الله فأفضت قالت فأتينا بلحم بقر فقلت ما هذا فقالوا أهدى رسول الله عن نسائه البقر فلما كانت ليلة الحصبة قلت يا رسول الله أيرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة قالت فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله قالت فإني لا أذكر وأنا حديثة السن أنعس فتصيب وجهي مؤخرة الرحل حتى جئنا إلى التنعيم فأهللت منها بعمرة جزاء بعمر الناس التي اعتمروا

وعن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج فنزلنا بسرف قالت فخرج إلى أصحابه فقال من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه الهدي فلا قالت فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه قالت فأما رسول الله ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة قالت فدخل علي رسول الله وأنا أبكى فقال ما يبكيك يا هنتاه قلت سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة قال وما شأنك قلت لا أصلي قال فلا يضرك إنما أنت إمرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فسعي الله أن يرزقكيها قالت فخرجنا في حجته وفي لفظ فخرجت في حجتي حتى قدمنا منى فطهرت ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت قالت ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال إخراج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم إفرغا ثم أتيا هاهنا فإني أنتظركما حتى تأتياني قالت فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر فقال هل فرغتم فقلت نعم قالت فاذن بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس فمر متوجها إلى المدينة وفي لفظ فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة متفق على هذه الأحاديث كلها

وعن ذكوان عن عائشة قالت قدم رسول الله لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي وهو غضبان فقلت من أغضبك أدخله الله النار قال أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون فلو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريته ثم أحل كما حلوا رواه مسلم

وعن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله لو إستقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلوا رواه البخاري فهذا الحديث مبين أن الصحابة حلوا إلا من ساق الهدي وأن النبي وأصحابه صدروا عن مكة ليلة الحصبة وهي الليلة التي تلي ليالي منى ولم يقيموا بمكة بعد ليالي منى شيئا وأنه لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي إلا عائشة وحدها حتى أخوها عبد الرحمن الذي كان معها لم يعتمر من التنعيم لأنهم كانوا قد اعتمروا قبل الحج وقولها لا نرى إلا أنه الحج تعني من كان أحرم بالحج أو قرن بينهما وربما كانوا أكثر الوفد ترى أنهم يقيمون على حجهم ولا يتحللون منه قبل الوقوف لأنها قالت فلما قدمنا تطوفنا بالبيت وهي لم تتطوف فكانت الكناية عن الحاج في الجملة وقولها لا نذكر حجا ولا عمرة تعني في التلبية لأنها فد بينت في رواية أخرى أن منهم من أهل بالحج ومنهم من أهل بالعمرة ومنهم من قرن بينهما وأنها كانت هي متمتعة وقولها فالاخذ بها والتارك لها من الصحابة هذا كان يسرف قبل أن يقدموا مكة لأنه كان أذنا ولم يكن أمرا فلما قدموا جزم النبي بالأمر وتردد بعض الناس فغضب النبي على من تردد فأطاعوا الله ورسوله وتمتعوا وتوجع النبي على كونه لم يمكنه موافقتهم في الإحلال من أجل هدية وبين ذلك ما روى عبد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة قالت منا من أهل بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع رواه البخاري وروى الزهري عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج فقدمنا مكة فقال رسول الله من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ومن أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى يحل نحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجة قالت فحضت فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ولم أهلل إلا بعمرة فأمرني النبي أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك حتى قضيت حجتي فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم وفي رواية عنها قالت خرجنا مع رسول الله فقال من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة وأهل رسول الله بالحج وأهل به ناس معه وأهل معه ناس بالعمرة والحج وأهل ناس بعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة

وعن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله بالحج فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله موافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله من أحب أن يهل بعمرة فليهل ومن أحب أن يهل بحجة فليهل ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة فمنهم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بحجة فكنت فيمن أهل بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكة فأدركت يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ففعلت فلما كانت ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأردفها فأهلت بعمرة مكان عمرتها قال هشام فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم متفق على هذه الأحاديث وليس في رواية عروة هذه ذكر الفسخ ولهذا كان ينكره حتى جرى بينه وبين ابن عباس فيه ما جرى

فأما قوله ومن أهل بالحج فليتم حجه فيتحمل شيئين

أحدهما من إستمر إهلاله بالحج ولم يحوله إلى عمرة فإنه لا يتحلل منه وكان هذا في حق من ساق الهدي ممن أحرم بالحج وكذلك قوله في الحديث وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر إن لم يكن هذا من قول عروة وكان من قول عائشة فإن معناه من دام إهلاله بالحج أو بالحج والعمرة واستمروا هم الذين لم يحلوا لأجل سوق الهدي لأنها قد أخبرت في غير موضع أنهم كانوا لا يرون إلا الحج وأن رسول الله أمر من لم يسق الهدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل أو أن هذا كان قبل أن يأذن لهم في الفسخ قبل أن يدنوا من مكة في أوائل الإحرام

وأما قولها خرجنا مواقين لهلال ذي الحجة وعن أبي عمران أسلم قال حججت مع موالي فدخلت على أم سلمة زوج النبي فقلت أعتمر قبل أن أحج قالت إن شئت فاعتمر قبل أن تحج وإن شئت فبعد أن تحج قال فقلت إنهم يقولون من كان ضرورة فلا يصلح أن يعتمر قبل أن يحج قال فسألت أمهات المؤمنين فقلن مثل ما قالت فرجعت إليها فأخبرتها بقولهن قال فقالت نعم وأشفيك سمعت رسول الله يقول أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج رواه أحمد

وعن طاوس عن ابن عباس قال كانوا يرون أن الغمرة في أشهر الحج افجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفر ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل فقال حل كله متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم من أفجر الفجور وقال الحل كله

قال سفيان بن عيينة كان عمرو يقول إن هذا الحديث له شأن رواه البخاري

وعن طاوس عن ابن عباس قال تمتع رسول الله حتى مات وأبو بكر حتى مات وعمر حتى مات وعثمان حتى مات وكان أول من نهى عنها معاوية قال ابن عباس فعجبت منه وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله بمشقص رواه أحمد وهذا لفظه والترمذي وقال حديث حسن وفيه ليث بن أبي سليم

وعن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال قدم النبي وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه هدي متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم لأربع خلون من العشر وهم يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة وفي لفظ صلى رسول الله الصبح بذي طوى وقدم لأربع مضين من ذي الحجة وأمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي وفي لفظ له أهل رسول الله بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى الصبح وقال حين صلى الصبح من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة وفي لفظ فصلى الصبح بالبطحاء

وعن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحلل الحل كله فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

وعن مجاهد عن ابن عباس قال أهل النبي بالحج فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يقصر ولم يحل من أجل الهدي وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى ويقصر أو يحلق ثم يحل رواه أبو داود وفيه يزيد بن أبي زياد

وعن ابن عباس قال قدمنا مع رسول الله حجاجا فأمرهم فجعلوها عمرة ثم قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلوا لكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ثم أنشب أصابعه بعضها في بعض فحل الناس إلا من كان معه الهدي وقدم علي عليه السلام من اليمن فقال له رسول الله أهللت قال أهللت بما أهللت به قال فهل معك هدي قال لا قال فأقم كما أنت ولك ثلث هديي قال وكان مع رسول الله مائة بدنة رواه أحمد

وعن النهاس عن عطاء عن ابن عباس عن النبي قال إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل وهي عمرة رواه أبو داود ورواه أحمد وغيره عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس موقوفا وهو أشبه

وعن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله إجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله تعالى { فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أمصاركم الشاة تجزيء فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى شوال وذو القعدة وذو الحجة فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم والرفث الجماع والفسوق المعاصي والجدال المراء رواه البخاري

وعن أبي جمرة قال تمتعت فنهاني ناس فسألت ابن عباس فأمرني فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة متقبلة فأخبرت ابن رواه أحمد ومسلم وروى أبو داود أوله

وعن مسلم أيضا قال سألت ابن عباس عن متعة الحج فرخص فيها وكان ابن الزبير ينهى عنها فقال هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله رخص فيها فادخلوا عليها فسألوها قال فدخلنا عليها فإذا هي أمرأة ضخمة عمياء فقالت قد رخص رسول الله فيها رواه مسلم

وعن صفية بنت شيبة عن أسماء قالت خرجنا محرمين فقال رسول الله من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلل فلم يكن معي هدي فحللت وكان مع الزبير هدي فلم يحل قالت فلبست ثيابي ثم خرجت إلى الزبير فقال قومي عني فقلت أتخشى أن أثبت عليك وفي رواية قدمنا مع رسول الله مهلين بالحج رواه مسلم

وعن مجاهد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قدمنا مع رسول الله ونحن نقول لبيك اللهم لبيك بالحج فأمرنا رسول الله فجعلناها عمرة رواه البخاري

وعن جابر بن عبد الله قال أهللنا بالحج مع رسول الله فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا فقال يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي الذي معي لفعلت كما فعلتم قال فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج قال أهل النبي هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير رسول الله وطلحة وقدم علي من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي فأمر النبي أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ويقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي قالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلما طهرت طافت بالبيت قالت يا رسول الله تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي بالعقبة وهو يرميها فقال ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال لا بل للأبد وفي رواية عن ابن شهاب قال قدمت مكة متمتعا بعمرة فدخلنا قبل التروية بثلاثة أيام فقال لي ناس من أهل مكة تصير الآن حجتك حجة مكية فدخلت على عطاء استفتيه فقال حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه مع النبي يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال إفعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا متفق عليه وهذان البخاري عباس فقال سنة النبي فقال لي أقم عندي فاجعل لك سهما من مالي فقال شعبة فقلت لم فقال للرؤيا التي رأيت وفي لفظ سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها جزور أو بقرة أو شرك في دم قال وكأن ناسا كرهوها فنمت فرأيت في المنام كأن المنادي ينادي حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس فحدثته فقال الله أكبر سنة أبي القاسم متفق عليه

وعن مسلم القرى سمع ابن عباس يقول أهل النبي بعمرة وأهل أصحابه بحج فلم يحل النبي ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم وكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل ولمسلم فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكرينا المني قال جابر بيده كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها قال فقام النبي فينا فقال قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هدي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا فحللنا وسمعنا وأطعنا ولمسلم قال أمرنا النبي لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح فقال سراقة بن مالك بن جعشم يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد فقال رسول الله لأبد

ورواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح وفيه ثم قام سراقة بن مالك فقال يا رسول الله أريت متمتعا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال رسول الله بل هي أبد

وعن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر في صفة حج النبي قال جابر لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا وذكر طوافه وسعيه قال حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد وقدم علي من اليمن ببدن النبي فوجد فاطمه ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت أبي أمرني بهذا قال وكان علي عليه السلام يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال فإن معي الهدي فلا تحل قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج رواه مسلم وغيره

ورواه سعيد عن عتاب بن بشير ثنا خصيف عن عطاء عن جابر قال لما قدمنا مكة سألنا رسول الله بأي شيء أهللتم فقال بعضنا بالحج وقال بعضنا بالعمرة وقال بعضنا بالذي أهللت به يا رسول الله فقال أحلوا أجمعين إلا إنسان معه الهدي قلده ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى أكون معكم حلالا فرأى أن الفضل في الإحلال فقال سراقة بن مالك بن جعشم ألعامنا هذا أم للأبد قال لأبد الآبدين

وعن أبي نضرة قال كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله فلما قدم عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء وإن القران قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله واتقوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح إمرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة وفي رواية وافصلوا حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم رواه مسلم وفي رواية صحيحة لأحمد قال جابر تمتعنا مع رسول الله ومع أبي بكر فلما ولى عمر خطب الناس فقال إن القرآن هو القرآن وإن رسول الله هو الرسول وإنها كانتا متعتان على عهد رسول الله إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء وعن سعيد قال خرجنا مع رسول الله نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج رواه أحمد ومسلم

وعن البراء بن عازب قال خرج رسول الله وأصحابه قال فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال إجعلوا حجكم عمرة قال الناس قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة قال انظروا ما آمركم به فافعلوا فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة فرأت الغضب في وجهه فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع رواه أحمد ثنا أبو بكر بن عياش ثنا أبو إسحق عن البراء وابن ماجة

وقال أبو داود ثنا يحيى بن معين ثنا حجاج ثنا يونس ابن أبي إسحق عن البراء قال لما قدم علي من اليمن على رسول الله قال وجدت فاطمة قد لبست ثيابا صبغيا وقد نضحت الظهر للبيت بنضوح فقالت مالك فإن رسول الله قد أمر أصحابه فأحلو قلت لها إني أهللت بإهلال النبي قال فأتيت النبي فقال لي كيف صنعت قال قلت أهللت بإهلال النبي قال فإني سقت الهدي وقرنت قال فقال لي انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين وامسك من كل بدنة منها بضعة رواه أبو داود بإسناد صحيح

وعن أنس بن مالك قال صلى رسول الله ونحن بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج وقال ونحر النبي بدنات بيده قياما وذبح بالمدينة كبشين أملحين رواه البخاري

وعن الربيع بن سبرة عن أبيه قال خرجنا مع رسول الله حتى إذا كان بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي يا رسول الله أقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي رواه أبو داود

وعن سراقة بن مالك بن جعشم قال تمتع رسول الله وتمتعنا معه فقلنا ألنا خاصة أم للأبد قال بل للأبد رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وفي رواية أنه قال للنبي اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ألعامنا أو للأبد قال بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة رواه سعيد وفي لفظ أنه سأل رسول الله صلى الله علي وسلم عن العمرة فقال يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد قال بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة رواه الدارقطني وقال كلهم ثقات

وعن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال بعثني النبي إلى قومي باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بم أهللت قلت أهللت بإهلال النبي قال هل معك من هدي قلت لا فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت إمرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي فقدم عمر فقال إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمرنا بالتمام قال الله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وإن نأخذ بسنة النبي فإنه لم يحل حتى نحر الهدي متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم قدمت على رسول الله وهو منيخ بالبطحاء فقال بم أهللت قال قلت أهللت بإهلال النبي قال هل سقت من هدي قلت لا قال فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل قال فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت إمرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فأئتموا فلما قدم قلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدث في شأن النسك فقال إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال { وأتموا الحج والعمرة لله } وإن نأخذ بسنة رسول الله فإن النبي لم يحل حتى نحر الهدي

وعن إبراهيم بن أبي موسى عن أبيه أنه كان يفتي بالمتعة فقال رجل رويدك ببعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك فلقيه بعد فسأله فقال عمر قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يضلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم رواه أحمد ومسلم وفي رواية لأحمد عن أبي بردة عن أبي موسى أن عمر قال هي سنة رسول الله يعني المتعة ولكن أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا وعن غنيم بن قيس المازني قال سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج قال فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني بيوت مكة يعني معاوية رواه مسلم ويشبه والله أعلم أن يكون سعد إنما عني العمرة في أشهر الحج في الجملة وعني عمرة القضية لأن معاوية سعد إنما عنى العمرة في أشهر الحج في الجملة وعنى عمرة القضية لأن معاوية كان مسلما في حجة الوداع ولم يكن بمكة يومئذ كافر

وعن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله فقال سعد بئس ما قلت يا ابن أخي قال الضحاك فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك فقال سعد قد صنعها رسول الله وصنعناها معه رواه مالك والنسائي والترمذي وقال حديث صحيح

وعن مطرف عن عمران بن حصين قال نزلت آية المتعة في كتاب الله فقلناها مع رسول الله ولم ينزل قران يحرمه ولم ينه عنها حتى مات متفق عليه ولمسلم تمتع النبي وتمتعنا معه وله نزلت آية المتعة في كتاب الله يعني متعة الحج ولم ينه عنها حتى مات وفي رواية لأحمد ومسلم عن مطرف قال قال لي عمران بن حصين أحدثك بحديث عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه قال فيها رجل برأيه ما شاء وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعاد وفي رواية صحيحة لأحمد أعلم أن رسول الله قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم ينزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه رسول الله حتى مضى لوجهه أرتأى كل إمريء بعد ما شاء أن يرتأى

وعن عبد الله بن شقيق أن عليا كان يأمر بالمتعة وعثمان ينهي عنها فقال عثمان كلمة فقال علي لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله فقال عثمان أجل ولكنا كنا خائفين رواه أحمد ومسلم

وعن علي بن الحسين عن مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة فقال عثمان تراني أنهى الناس وأنت تفعله قال ما كنت لأدع سنة النبي لقول أحد رواه أحمد والبخاري وفي لفظ ولكن سمعت رسول الله يلبي بهما جميعا رواه سعيد في سننه بإسناد صحيح

وعن سعيد بن المسيب قال اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة فقال علي ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولمسلم اجتمع علي وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعا وفي رواية لأحمد عن سعيد قال خرج عثمان حاجا حتى إذا كان ببعض الطريق قيل لعلي رضي الله عنه إنه قد نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال علي لأصحابه إذا ارتحل فارتحلوا فأهل علي وأصحابه بعمرة فلم يكلم عثمان في ذلك فقال له علي ألم أخبر أنك نهيت عن التمتع قال فقال بلى قال فلم تسمع رسول الله صلى الله عيه وسلم تمتع قال بلى

وعن عبد الله بن الزبير قال والله إنا لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج إن أتم الحج والعمرة ألا يكونا في أشهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد وسع في الخير وعلي بن أبي طالب ببطن الوادي يعلف بعيرا له فبلغه الذي قال عثمان فأقبل حتى وقف على عثمان فقال أعمدت إلى سنة سنها رسول الله ورخصة رخص الله بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بحجة وعمرة معا فأقبل عثمان على الناس فقال وهل نهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه رواه أحمد

ومعنى قول عثمان رضي الله عنه إنا كنا على عهد رسول الله لأنا كنا مشغولين بالجهاد عن إنشاء سفرة أخرى للعمرة لكون أكثر الأرض كانوا كفارا فأما اليوم فالناس قد أمنوا فإفراد كل واحد من النسكين بسفرة هو الأفضل

وقد روى سعيد عن سلام بن عمرو قال شهدت عليا وعثمان وهما يفتيان فتيا شتى علي يأمر بالمتعة وعثمان ينهى عنها فقال عثمان لعلي هل أنت منته ثم قال يا أيها الناس إن الله عز وجل قد أمنكم ألا إن الحج التام من أهليكم والعمرة التامة من أهليكم ومثل هذا عن إبراهيم قل إنما كانت المتعة إذ كان الناس يشغلهم الجهاد عن الحج فأما اليوم فقد أمن الله الساحة ونفى العدو فجردوا رواه سعيد

وعن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله وهو بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة وفي لفظ للبخاري وقل عمرة وحجة قال الوليد بن مسلم يعني ذا الحليفة وهذا يحتمل أن يكون هو القران كما فسره بعض الناس ويحتمل أن يكون هو التمتع كما جاء دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة يعني بها المتعة

وكذلك أم سلمة وأزواج النبي أمرت الرجل أن يعتمر قبل أن يحج واحتجت أم سلمة بقول النبي أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج فعلم أن المعتمر في أشهر الحج قد أهل بعمرة في حجة وفي حديث سبرة بن معبد أن الله قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي وهذا لأن المتمتع إنما يريد الحج الأكبر وله يسافر وإليه يقصد ويدخل في ضمن حجه عمرة ولهذا قال عمرة في حجة فعلم أنها عمرة تفعل في أثناء حجة ولو كان ذلك القران لقال حجة فيها عمرة لأنه إنما يحرم بالحج والعمرة تدخل بالنية فقط وقوله عمرة وحجة لا تخالف ذلك لأن التمتع بالعمرة إلى الحج أقرب إلى أن يكون أتى بعمرة وحجة من القارن الذي لم يزد على عمل الحاج

فهؤلاء أصحاب رسول الله أخبروا أن النبي أمرهم بالمتعة وأنهم تمتعوا معه وأنها كانت اخر الأمرين وأخبروا أيضا أن النبي تمتع لكن هل كانت متعة عمرة أو متعة قران هذا هو الذي وقع التردد فيه

وكذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد هل الأفضل في حق من ساق الهدي أن يتمتع بعمرة أو أن يقرن بينهما فروي عنه أن القران أفضل بناء على أن النبي كان قارنا وذكر ابن عبد البر عنه أنه قال لا شك أن النبي كان قارنا والتمتع أحب إلي وأحتج لاختياره التمتع بأن النبي قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة

ويوضح هذا أنه قد روى أنه قرن مفسرا فروى بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال سمعت النبي يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبي بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال أنس ما تعدونا إلا صبيانا سمعت رسول الله يقول لبيك عمرة وحجا متفق عليه وهذا إخبار عن لفظ رسول الله وقد تقدم عن أنس أن النبي صلى الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما رواه البخاري

وعن يحيى بن أبي إسحق وعبد العزيز بن صهيب وحميد أنه سمعوا أنسا قال سمعت رسول الله أهل بهما لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا رواه مسلم

وعن أبي قدامة قال قلت لأنس بن مالك بأي شيء كان رسول الله يهل فقال سمعته يقول مرارا بعمرة وحجة بعمرة وحجة رواه أحمد وقد تقدم عن البراء أن النبي قال لعلي أو قرنت وهذا أيضا صريح لا يعارضه ظاهر وقد تقدم عن علي وعثمان أنهما أخبرا أن النبي تمتع وكذلك عن عمران بن حصين وفسروا التمتع بأن جمع بين الحج والعمرة

وعن سراقة بن مالك قال سمعت رسول الله يقول دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال وقرن رسول الله في حجة الوداع رواه أحمد

وعن الصبي بن معبد قال كنت رجلا نصرانيا فأسلمت فأهللت بالحج والعمرة فسمعني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعا بالقادسية فقالا لهذا أضل من بعيره فكأنما حمل علي بكلمتهما جبل فقدمت على عمر بن الخطاب فأخبرته فأقبل عليهما فلامهما ثم أقبل علي فقال هديت لسنة النبي رواه الخمسة إلا الترمذي قال الدارقطني هو حديث صحيح

وعن ابن عباس قال أخبرني أبو طلحة أن رسول الله جمع بين الحج والعمرة رواه أحمد وابن ماجة وفيه حجاج بن أرطأة وعن أبي قتادة قال إنما جمع رسول الله بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها رواه الدارقطني

وكل من روى أن النبي تمتع فإنه لا يخالف هذا فإن الروايات قد اتفقت على أن النبي لم يحل من إحرامه لأجل الهدي الذي ساقه فعلم أنه ليس المقصود بذلك أنه حل من إحرامه

والمتعة إسم جامع للعمرة في أشهر الحج فمن اعتمر في أشهر الحج قبل حجته أو مع حجته فإنه يسمى متمتعا كما تقدم ذكره في هذه الأحاديث وغيرها لأنه ترفه بسقوط أحد السفرين ولهذا وجب الدم عليهما فيحمل قول من روى أنه تمتع على تمتع القران فإن كل قارن متمتع

وأما المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يحل من إحرام العمرة حتى أهل بالحج فإن من أصحابنا من يقول هذا قارن لأنه جمع بين النسكين بإحلال وإحرام لكن طاف للعمرة أولا وسعى ثم أحرم بالحج وأكثر أصحابنا يجعلون هذا متمتعا وهو المنصوص عن أحمد فيجوز أن يقال إن النبي كان قارنا بهذا الإعتبار ولو سمي المتمتع قارنا لأنه جمع بين النسكين في أشهر الحج لكن المتمتع يطوف أولا ويسعى لعمرته والقارن يطوف أولا لعرمته وحجته ثم يطوف ويسعى

والرواية الثانية

فإن قيل أما ما ذكرتم من أمر النبي أصحابه بالإحلال والمتعة فهذا حق لكن هذا هو فسخ الحج إلى العمرة وهذا الفسخ كان خاصا لأصحاب النبي وإذا كان الفسخ خاصا لهم والمتعة إنما حصلت بالفسخ فتكون تلك المتعة المستحبة في حقهم خاصة لهم فلا يتعدى حكمها إلى غيرهم والدليل على أن الفسخ خاص لهم فلا يتعدى حكمها إلى غيرهم والدليل على أن الفسخ خاص لهم أن الله أمر في كتابه بإتمام الحج والعمرة بقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } ومن فسخ الحج إلى العمرة لم يتمه وهذا معنى ما ذكره عمر رضي الله عنه حيث قال إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمرنا بإتمام الحج والعمرة وهذا الخطاب عام خرجوا هم منه بالسنة فيبقى باقي الناس على العموم

وأيضا ما روى عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لنا خاصة رواه الخمسة إلا الترمذي وفي رواية أو لمن بعدنا وهذا نص منه

وأيضا فلو لو تكن متعة الفسخ خاصة بهم بل كان حكمها عاما لوجب أن يجب ذلك على الناس لأن النبي أمرهم بذلك وغضب إذ لم يطيعوه ومعلوم أنه لا يجب الفسخ فعلم أن ذلك كان مختصا بهم

وأيضا فما روي عن إبراهيم التميمي عن أبيه عن أبي ذر قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة رواه مسلم والنسائي وابن ماجة وعن سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله رواه أبو داود

وعن يحيى بن سعيد الأنصاري حدثني المرقع الأسدي وكان رجلا مرضيا أن أبا ذر صاحب النبي قال كانت رخصة لنا ليست لأحد بعدنا قال يحية وحقق ذلك عندنا أن أبا بكر وعمر وعثمان لم ينقضوا حجا لعمرة ولم يرخصوا لأحد وكانوا هم أعلم برسول الله وبما فعل في حجة ذلك ممن سهل نقضه رواه الليث عنه

وقد قال أحمد في رواية الأثرم المرقع شاعر من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر وقد تقدم قول عمر إن الله يحل لرسوله ما شاء وإن القران قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وقول عثمان لعلي لما احتج عليه بفعل المتعة على عهد رسول الله فقال كنا خائفين

وعن عثمان أيضا أن سئل عن متعة الحج فقال كانت لنا وليست لكم رواه سعيد

وأيضا فإنه قد ثبت نهي عمر وعثمان ومعاوية وابن الزبير وغيرهم من الصحابة النهي عن المتعة وكراهتهم لها كما تقدم بعضه

وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن متعة الحج ومتعة النساء

وعن أبي قلابة قال قل عمر رضي الله عنه متعتان كانت على عهد رسول الله أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج رواهما سعيد

ومعلوم أن التمتع بالعمرة إلى الحج لا يكره بالاتفاق فيجب أن يحمل نهيهم على متعة الفسخ والرخصة على المتعة المبتدأة توفيقا بين أقاويلهم ولولا علمهم بأن ذلك خاص للركب الذين كانوا مع النبي لم يقدموا على تغيير حكم الشريعة ولم يطاوعهم المسلمون على ذلك ولا يجوز لمسلم أن يظن بهم ذلك

وإن كانوا قد نهوا عن جميع أنواع المتعة نهي تنزيه أو نهي اختيار للأولى فيعلم أنهم اعتقدوا أن الإفراد أفضل ولهذا إنما كانت المنازعة في جواز التمتع لا في فضله ويجعلونها رخصة للبعيد عن مكة

وأيضا فإنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون التمتع بالعمرة إلى الحج من أفجر الفجور فأمرهم النبي بفسخ الحج إلى العمرة ليبين جواز العمرة في أشهر الحج وقد حصل معرفة ذلك وعلم فلا حاجة إلى الخروج عن عقد لازم أو أنه أذن لهم في الفسخ لأنه لم يكن يعلم أولا جوازا العمرة قبل الحج

والذي يبين أن الإفراد أفضل من متعتي القران والعمرة المبتدأة أن النبي أفرد الحج بدليل ما روى القاسم عن عائشة أن النبي أفرد الحج رواه الجماعة إلا البخاري وقد تقدم عنها في المتفق عليه أن رسول الله أهل بالحج وأهل به ناس معه وأن ناسا أهلوا بعمرة وناسا أهلوا بالحج والعمرة

وعن ابن عمر قال أهللنا مع رسول الله بالحج مفردا وفي لفظ أن رسول الله أهل بالحج مفردا رواهما مسلم

وعن زيد بن أسلم قال جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن حج النبي فقال أفرد الحج فلما كان العام المقبل أتاه فسأله عنه فقال أليس قد أعلمتك عام أول أنه أفرد الحج قال أتانا أنس بن مالك فأخبرنا أن النبي قرن فقال ابن عمر إن أنس بن مالك كن يتولج على النساء وهن منكشفات لا يستترن لصغرة وكنت أنا تحت ناقة رسول الله يسيل علي لعابها رواه وعن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وتقدم عن ابن عباس أن النبي أهل بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى الصبح وقال لما صلى الصبح من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة رواه مسلم

وعن جابر أن النبي أفرد الحج رواه ابن ماجة وفي حديثه المتفق عليه أهل النبي وأصحابه بالحج وجابر من أحسن الناس سياقا لحجة رسول الله وهو يقول لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة وإذا ثبت أنه أهل بالحج فيجب أن تحمل رواية من روى أنه تمتع على أنه أمر به أصحابه لما أمرهم بالفسخ وهو لم يفسخ وما فعله رسول الله فهو أفضل مما فعله غيره لا سيما فيما لا يتكرر منه فما كان الله ليؤثر نبيه إلا بأفضل السبل والشرائع وقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة إنما قال ذلك لما رآهم قد كرهوا المتعة فأحب موافقتهم وإن كان ما معه أفضل وقد يؤثر المفضول إذا كان فيه إتفاق القلوب كما قال لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة الحديث فترك ما كان يحبه تسكينا للقلوب وقد كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم فعلم ويبين ذلك ما روى ويقرر ذلك أن الخلفاء الراشدين بعده أفردوا الحج

وإذا اختلفت الأحاديث عن النبي نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون فروى أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه سأل عروة بن الزبير فقال قد حج النبي فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم اخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت يطوفان به ثم لا يحلان وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة فلما مسحوا الركن حلوا رواه البخاري

وأيضا فإن المتعة تفتقر إلى دم فإن كان دم جبران فالنسك التام الذي لا يفتقر إلى جبر أفضل مما يجبر بدليل حجتين أو عمرتين قد جبر إحداهما بدم وتم الآخر بنفسه وإن كان دم نسك فمعلوم أنه إنما وجب لما سقط عن المتمتع من أحد السفرين وهو نسك وإذا دار الأمر بين نسك الفعل ونسك الذبح كان نسك الفعل أفضل فإن فيه عبادة بدنية ومالية ولهذا عامة الدماء لا تشرع إلا عند عوز الأعمال

وأيضا فإن المفرد يأتي بالإحرام تاما كاملا من حين يهل من الميقات ثم يأتي بالعمرة كاملة فيفعل كل ما يفعله المتمتع وزيادة ويستوعب الزمان بالإحرام

وأيضا فإن المتعة في الأصل رخصة والعزائم أفضل من الرخص

قلنا أما قولهم فسخ الحج كان مختصا بهم والتمتع إنما كان بالفسخ فعنه أجوبه

أحدها أن الفسخ حكم ثابت في حق جميع الأمة كما سنبينه إن شاء الله فمتعته كذلك ولهذا مذهب أحمد وأصحابه أن المستحب لمن أحرم بحج مفرد أو بعمرة وحج وأحرم إحراما مطلقا أو أحرم بمثل ما أحرم به فلان أن يفسخوا الحج إلى العمرة ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج امتثالا لأمر رسول الله وطاعة له وإن كان بعض العلماء لا يجيزه فليس لأحد مع السنة كلام ولا يشرع الإحتراز من اختلاف يفضي إلى ترك ما ندبت إليه السنة كما استحببنا التطيب قبل الإحرام وبعد الإحلال الأول إتباعا للسنة وفي جوازه من الخلاف ما قد علم وكما استحببنا التلبية إلى أن يرمي جمرة العقبة وفي كراهته من الخلاف ما قد علم ونظائره كثيرة

الثاني أن أمرهم بالمتعة تضمن شيئين

والثاني إستحباب التمتع وإختياره فإذا بطل أحدهما لم يبطل الاخر وهذا لأنه لو لم تكن المتعة أفضل من غيرها لكان النبي قد اختار لأصحابه ما غيره أفضل منه وحضهم على ذلك والتزم لأجله فسخ الحج وبين أنه إنما منعه من التحلل معهم سوق هدية ولا يجوز أن يعتقد أن النبي يختار لهم ما غيره أفضل منه

الثالث أن في حديث عائشة المتفق عليه عن النبي أنه قال من أحب أن يهل بعمرة فليهل ومن أحب أن يهل بحج فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة وهذا نص في أن الإهلال بالعمرة لغير المهدي أفضل وقال أيضا

الرابع أنه قال في آخر الأمر بمكة لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وفي لفظ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت فبين أنه لو كان ذلك الوقت مستقبلا للإحرام الذي استدبره لأحرم بعمرة إذا لم يكن معه هدي وهو لا يتأسف إلا على فوات الأفضل فعلم أن من لم يسق الهدي فإن الأفضل له العمرة

وأما قولهم إنما تأسف على الموافقة

قلنا في الحديث ما يرد هذا فإنه قال فرأى أن الفضل في الإحلال هكذا في حديث جابر ثم ذلك في سوق الهدي أي لو استقبلت من أمري ما سقت الهدى موافقة لكم وإن كان سوق الهدى أفضل لكن إذا لم يسق الهدي فقد بين أنه يحل من إحرامه ويجعلها عمرة مع أنه لا ضرورة إلى هذا فلو كان هذا مفضولا مع ترك سوق الهدي لكان قد اختار لنفسه ولأصحابه ما غيره أفضل منه وذلك غير جائز والدليل على أن فسخ الحج إلى العمرة جائز وأنه هو الأفضل من المقام على الحج لمن يريد أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة هذه الأحاديث الصحاح الصراح التي ذكرناها معما احتج به ابن عباس من ظاهر القران

قال أحمد في رواية عبد الله كان ابن عباس يختار المتعة من أمر رسول الله أصحابه بالإحلال قال ثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء قال قلت له من أين كان ابن عباس أخذ أنه من طاف بالبيت فقد حل قال من قول الله عز وجل { ثم محلها إلى البيت العتيق } ومن أمر النبي أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع فكأن ابن عباس رأى أن الشعائر إسم يجمع مواضع النسك كما قال تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله } وقال { المشعر الحرام } ويعم الأفعال التي يفعلها الناسك ويعم الهديا التي تهدي إلى البيت وبين أن محل وأما قوله إن الفسخ لا يجوز إلا لذلك الوفد خاصة فغير صحيح لوجوه

أحدها أن ما ثبت في حق الواحد من الأحكام ثبت في حق جميع الأمة وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام وحيث ما خص الواحد بحكم فلا بد أن يكون اختصاصه بذلك الحكم لعلة اختص بها لو وجدت في غيره لكان حكمه حكمه ولا بد من دليل على التخصيص كما قال لأبي بردة بن نيار في الأضحية تجزؤك ولا تجزؤ عن أحد بعدك لأنه كان قد ذبح قبل أن يسن وقت الأضحية وكما خص سالما مولى أبي حذيفة بأن يرضع كبيرا لأنه قد تبني قبل أن يحرم سبحانه أن يدعى الرجل لغير أبيه

ثم إن التخصيص يكون لواحد وهنا أمر جميع من حج معه بالتحلل وقد أمر من بعدهم بالإقتداء بهم فلو كانوا مخصوصين بذلك لوجب بيانه وإظهار ذلك وإشاعته وإلا فلو ساغ دعوى مثل هذا لساغ أن يدعى اختصاصهم بكثير من الأحكام وحينئذ ينقطع إتباع غيرهم له والحاقهم به وفي هذا تعطيل للشريعة وما ذكروه من مستند التخصيص سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى

الثاني أن النبي قد بين بيانا شافيا أن هذه العمرة المتمتع بها التي فسخ الحج إليها حكم مؤبد إلى يوم القيامة لما أطلعه الله عليه أن سيكون قوم يدعون أن هذه كان مخصوصا بهم

ففي صحيح مسلم من حديث جابر حتى إذا كان اخر طواف على المروة قال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك النبي أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لابل لأبد أبد وفي رواية للبخاري أن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي بالعقبة وهو يرميها فقال ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال لا بل للأبد وفي حديث ابن عباس فأمرهم فجعلوها عمرة ثم قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلوا لكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ثم أنشبت أصابعه بعضها في بعض

فبين النبي أن ذلك الذي فعلوه ليس لهم خاصة وإنما هو للأبد ولا يجوز أن يقال إنما أشار إلى العمرة قبل الحج وهو التمتع فبين أن التمتع جائز إلى يوم القيامة ولم يقصد الفسخ لما روى ابن بطة في مسألة أفردها في الفسخ عن جابر عن عبد الله أن سراقة بن مالك بن جعشم سأل النبي فقال يا رسول الله أرأيت ما أمرتنا به من المتعة وإحلالنا لنا خاصة أو هو شيء للأبد فقال بل هو للأبد وفي لفظ اخر قال يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للأبد قال بل للأبد وهذا نص في أن المراد فسخ الحج إلى عمرة التمتع وأن حكم ذلك باق إلى الأبد

وروي أيضا عن طاوس قال علي هو الذي سأل النبي أنفسخ لمدتنا هذه أم للأبد قال للأبد

وعن طاوس قال له رجل من سنتنا هذه قال لا بل للأبد لأن النبي أشار إلى الذي فعلوه والذي فعلوه أنهم قدموا ينوون الحج لا يعرفون العمرة فقال لهم إذا طفتم بالبيت وبين الصفا والمروة فحلوا من إحرامكم واجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي وسياق حديث جابر واضح في ذلك والتمتع المحض لم يجر له ذكر ولا فعله عامتهم وإن كان قد فعله قليل منهم وقد قال له سراقة بن جعشم أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد قال للأبد وقوله عمرتنا هذه صريح في العمرة التي تحللوا بها من حجهم

وأيضا فإنه لو كان هذا هو المقصود لبين النبي ذلك ولم يطلق الجواب إطلاقا بل قال أما المتعة فجائزة وأما الفسخ فخاص لنا لأن السؤال وقع عما فعلوه فلو كان مشتملا على ما هو لذلك العام وللأبد لوجب تفصيل الجواب

وأيضا فقوله دخلت العمرة في الحج مرتين نص في أن الحج تدخل فيه العمرة إلى يوم القيامة وهو يعم الإعتمار قبل الحج سواء كان نوى العمرة أولا أو نوى الحج أم حل من إحرامه ولا يجوز أن يقصد به القسم الأول فقط لأن سبب الحديث هو القسم الثاني وسبب اللفظ العام لا بد أن يكون داخلا فيه لا يجوز إخراجه منه وظاهره أن كل حج يجوز أن يدخل فيه عمرة سواء كان قد أحرم بها ابتداء أو حل من الحج بعمرة ثم أهل بالحج وليس المراد بذلك جواز فعل العمره في أشهر الحج سواء حج أو لم يحج لأن قوله في الحج حقيقة في الفعل ولا سيما وقد شبك بين أصابعه واليدان كل واحدة منهما من جنس الأخرى فلا بد أن يكون الداخل من جنس المدخول فيه

وأيضا فقد قال سراقة بن جعشم هذا وهو بعسفان إقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال إن الله أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه الهدي فبين النبي أن ذلك الحج الذي حجوه قد أدخل الله عليهم فيه عمرة وإنما ذلك بأن يحلوا من الحج ويجعلوها عمرة ثم بين أن إدخال العمرة في الحج إلى يوم القيامة فهذا نص قاطع لاخفاء به أن كل حاج له أن يدخل في حجة عمرة سواء كان أحرم من الميقات أو أحرم أولا بالحج

وأيضا فإن كل من أم هذا البيت يريد الوقوف بعرفة فهو حاج من حين يحرم من الميقات وإن أحرم أولا بالعمرة فإذا اعتمر في هذا الحج فقد أدخل في حجته عمرة فلا معدل عن هذا الأمر الواضح البين

وأيضا فإنه إذا اعتمر في أشهر الحج وحج فقد أدخل العمرة في الحج وإن لم يحج ذلك العام فلم يدخلها

وأيضا فلو كان معناه جواز العمرة في أشهر الحج لكان هذا قد علموه قبل ذلك حيث إعتمر في ذي القعدة ثلاث عمران وأيضا

الوجه الثالث أن النبي بين أن فسخ الحج إلى العمرة ليس هو شيئا خارجا عن القياس وتغيظ على من توقف فيه وقد إعترضوا عليه بمثل ما يعترض به بعض أهل زماننا فالاعتراض عليه نفثة من الشيطان في نفوس الناس

قال جابر فقال لهم أحلوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال إفعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا وفي رواية مسلم فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنى قال جابر فقام النبي فينا فقال قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هدي لأحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا فححلنا وسمعنا وأطعنا وهذا كله يدل على أن ذلك أمر حسن مباح في نفسه وأن توقف من توقف فيه خطأ عظيم ولذلك تغيظ عليه كما تغيض على من توقف عن الإحلال في عمرة الحديبية وكما تغيظ على من تحرج عن القبلة للصائم وقال يحل الله لرسوله ما شاء وكما تغيظ على من كره أن يصبح صائما وهو جنب وكما يرخص في أشياء فبلغه أن ناسا تحرجوا من ذلك وفي كل ذلك يقول إني أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي فتبين بذلك أن هذا ليس مما يتقى ويجتنب ولم أفعله لخصوص في فلو كان البقاء على الإحرام هو الوجب في الأصل وإنما وقعت الرخصة في وقت خاص لم يتغيظ مثل هذا التغيظ

الوجه الرابع أن النبي قال في هذه الحجة لتأخذوا عني مناسككم رواه مسلم من حديث جابر ومعلوم أنهم إنما يأخذونها ليقتدوا به فيها ويهتدوا بهديه ويستنوا بسنته فلو كانت تلك الحجة خارجة عن القياس ومختصة بأولئك الركب لم يجز أن يقال خذوا عني مناسككم بل خذوا مناسككم إلا في التحلل أو نحو ذلك

الوجه الخامس أن أصحاب رسول الله أفتوا بالفسخ بعده ولو كان مختصا بذلك الركب لم يخف ذلك عليهم وقد تقدم ذكر ذلك عن أبي موسى الأشعري وابن عباس

الوجه السادس أنه لا موجب لإختصاصهم بها وذلك لأنه إن كان المقصود بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج فقد بين هذا باعتماره في ذي القعدة هو وأصحابه عمرة الحديبية وعمرة القضية وعمرة الجعرانة فهو لم يعتمر قط إلا في أشهر الحج وإن كان المقصود بيان العمرة قبل الحج في أشهره فهذا حصل بقوله عند الميقات وبفعل بعض أصحابه وهو الذين أحرموا من الميقات بعمرة مثل عائشة ونحوها فإنه قد قال لهم عند الميقات من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل بأي بيان لجواز العمرة قبل الحج أبين من هذا وقد أحرم كثير منهم بالعمرة قبل الحج بإذنه

وأيضا فإنه إما أن يكون قد عزم على أمرهم بالتمتع قبل الإحرام أو في أثناء الطريق فإن كان قد عزم عليه أولا فلأي شيء لم يأمرهم أن يحرموا كلهم بالعمرة ويترك هو سوق الهدي كما قد أسف عليه ويريحهم من مؤنة الفسخ الذي هو على خلاف ظاهر القرآن على زعم من يقول ذلك وإن كان عزم عليه في أثناء الطرق فلا بد أن يكون قد بدا له ما لم يكن قد بدا له قبل ذلك وهو لم يبد له بيان جواز الإعتمار قبل ذلك فإنه قد بين ذلك قبل هذا فعلم أن الذي بدا له جواز الإحلال من هذا الإحرام بعمرة وأن يكونوا كلهم متمتعين وأن الفضل في ذلك

قال طاوس خرج رسول الله ينتظر القضاء في حجته فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة فنزل عليه القضاء فأمر من لم يكن معه هدي أن يحل قال فدخلت العمرة في الحج وفي لفظ أحرم رسول الله ينتظر أمر ربه فلما كان بمكة أمر بلأمر رواه سعيد ومعناه أنه ينتظر هل يتمون ما أحرموا به أو يغيرونه لأنه قد صح بالروايات المستفيضة أنهم أحرموا إما بعمرة أو بحج أو بعمرة وحج

وأيضا فلو كان المقصود بيان جواز العمرة في أشهر الحج لبين ذلك بالكلام كما بين لهم كثيرا من الأحكام

الوجه السابع لو كان الفسخ خارجا عن مقتضى الكتاب وهو مختص بهم لم يفرق الحال بين من ساق الهدي ومن لم يسقه حتى ينشأ من ذلك ترددهم وتأسفه على سوق الهدي وموافقتهم وقد بين أن سائق الهدي لا يجوز له الفسخ إمتثالا لقوله { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } فهلا أمر الجميع بالإتمام إمتثالا لقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } أيضا أو جوز تخصيص ذلك الركب من حكم هاتين الايتين لقصد بيان جواز العمرة قبل الحج في أشهره فإن دلالة الآيتين على الحكم عند من يخالف في ذلك سواء فلما أمر بالفسخ من لم يسق الهدي دون من ساق وبين أن السوق يمنع الفسخ علم قطعا أن الفسخ في نفسه أمر جائز مستحب وأن لا مانع منه غير سوق الهدي وهذا واضح لمن أنصف

الوجه الثامن أن الله أمر نبيه بإتمام الحج والعمرة لله قبل حجة الوداع بأربع سنين فلا يخلوا إما أن يكون الفسخ تركا لإتمام الحج لله فلا يكون أولئك الصحابة مخاطبين بهذه الآية ولا داخلين في حكمها وهم المواجهون بالخطاب المقصودون به قبل الناس كلهم ثم كيف يجوز لمسلم أن يعتقد أنهم لم يتموا الحج لله وإن لم يكن الفاسخ تاركا لإتمام الحج لله بل هو متم له كما أمر الله فلا فرق في هذا بين ناس وناس

الوجه التاسع أن الله قد أرخص لهم في المتعة بقوله { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } وقد نزل ذلك في سنة ست وقد أحرم منهم نفر بالعمرة كما في حديث جابر وعائشة فكيف يقال أن المسلمين كانوا لا يرون الاعتمار في أشهر الحج نعم كان المشركون يرون ذلك والمسلمون قد بين الله لهم في كتابه وعلى لسان نبيه قبل حجة الوداع جواز الاعتمار في أشهر الحج سواء حج في ذلك العام أو لم يحج وقد فعلوا ذلك فعلم أن توقفهم وترددهم إنما كان في فسخ الحج إلى العمرة والإحلال من الإحرام لفضل التمتع لا لبيان جوازه

العاشر أن

وأما قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } فإن المتمتع متم للحج والعمرة سواء كان قد أهل أولا بالحج أو بالعمرة وذلك لأنه إذا أهل بالحج أولا فإنما يفسخه إلى عمرة متمتع بها إلى الحج وإنما يجوز له فسخه إذا قصد التمتع فيكون قد قصد الحج وحده فيكون مدخلا للعمرة في حجه وفاعلا للعمرة والحج وهذا أكثر مما كان دخل فيه ولو أراد أن يخرج من الحج بعمرة غير متمتع بها لم يجز ذلك

وأما حديث الحارث بن بلال عن إسماعيل قال عبد الله قيل لأبي حديث بلال بن الحارث قال لا أقول به ولا نعرف هذا الرجل ولم يروه إلا الدراوردي وقال أيضا حديث بلال عندي ليس يثبت لأن الأحاديث التي تروى عن النبي أنه قال إجعلوا حجكم عمرة ولو إستقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحل الناس مع النبي وقال أيضا هذا حديث ليس إسناده بالمعروف وإنما يروى عن أبي ذر إنما كانت المتعة لنا خاصة يعني متعة الحج

وقال أيضا في رواية الفضل وابن هانيء من الحارث بن بلال ومن روى عنه أبوه من أصحاب النبي وهو فلا وقال في رواية الميموني أرأيت لو عرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي أين يقع بلال بن الحارث منهم

وفي رواية أبي داود ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافه أبي بكر وصدر من خلافة عمر فقد ضعف أحمد هذا الحديث لجهل الراوي وأنه لا يعرف الحارث بن بلال لا سيما وقد انفرد به الدراوري عن ربيعة ولم يروه عنه مثل مالك ونحوه

وتخصيصهم بهذا الحديث ترك للعمل بتلك الأحاديث المستفيضة وهو مثل النسخ لها ومثل هذا الإسناد لا يبطل حكم الأحاديث ثم بين أحمد أنه يخالف تلك الأحاديث ويعارضها وهو حديث شاذ لأن الحديث الشاذ هو الذي يتضمن خلاف ما تضمنته الأحاديث المشهورة

فلو كان راوية معروفا لوجب تقديمها عليه لأن قول رسول الله إجعلوا حجكم عمرة ولو استقلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فعم ولم يذكر أن هذا مختص بهم ولو كان ذلك مخصوصا بهم لوجب بيانه ولم يؤخر ذلك حتى سأله بلال بن الحارث وقد بين لهم في الحديث الصحيح أن هذا ليس لهم خاصة وإنما هو للناس عامة على ما ذكرناه فدلالة تلك الأحاديث على عموم حكم الفسخ دليل على ضعف هذا الحديث لو كان رواية معروفا بالعدل

ودليل على أن هذا الحديث ليس بمضبوط ولا محفوظ ولو كان هذا صحيحا لكان له من الظهور والشياع مالا خفاء به ولكان النبي قد بينه بيانا عاما وذلك لأن ما ثبت في حق بعض الأمة من الأحكام ثبت في حق الجميع لاسيما في مثل ذلك المشهد العظيم الذي يقول فيه لتأخذوا عني مناسككم فلو كانوا مخصوصين بذلك الحكم لوجب على النبي أن يبين ذلك ابتداء كما بين حكم الأضحية لما سأله أبو بردة بن نيار عن الأضحية بالجذع فقال يجزؤ عنك ولا يجزؤ عن أحد بعدك فلو كان الفسخ خاصا لهم لقال إذا طفتم بالبيت وبين الصفا والمروة فحلوا وليس ذلك لغيركم ولم يؤخر بيان ذلك إلى أن يسأله بلال بن الحارث فإنه بتقدير أن لا يسأله بلال كان التلبيس واقعا وهذا بخلاف قوله لسراقة لما سأله أعتمرنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال بل لأبد الأبد فإن هذا الحكم كان معلوما بنفس فعله وإنما أجاب السائل توكيدا ولما كانت هذه الأحاديث مقتضية لعموم الحكم وثبوته في حق الأمة عارض أحمد بينها وبين حديث بلال ابن الحارث وحكم بشذوذه لما انفرد بما يخالف الأحاديث المشاهير والذي يبين ذلك أن الصحابة الذين حدثوا بتلك إنما ذكروها لتعليم السنة وبيانها واتباعها والأخذ بها لم يكن قصدهم مجرد القصص ولو كان الحكم مخصوصا بهم لم يجز أن يرووها رواية مرسلة حتى يبينوا اخصتصاهم بها فكيف إذا ذكروها لتعليم السنة وهذا دليل على أنهم علموا أن هذه السنة ماضية فيهم وفيمن بعدهم فلا يرد هذا بحديث من لم يخبر قوة ضبطه وتيقظه ويدفع هذه السنن المشهورة المتواترة براوية غير معروف

وقد تأول بعض أصحابنا ذلك على أن المراد به هو لنا خاصة من بين من ساق الهدي لأن من ساق الهدي لم يكن يجوز له الفسخ إلا لنفر مخصوص

وهذا تأويل ساقط لأن سائق الهدي لم يحل أحد منهم ولم يكن يجوز لهم ذلك ولكن يشبه والله أعلم إن كان لهذا الحديث أصل وهو محفوظ ولم ينقلب على رواية النفي بالإثبات فإن غيره ممن هو أحفظ منه بين أنه ليس لنا خاصة وهو يقول لنا خاصة فإن كان قد حفظ ذلك فمعناه أن الفسخ كان واجبا عليهم متحتما لأمر النبي لهم به وتغيظ عليهم حيث لم يفعلوه وغيرهم من الناس وإن جاز له الفسخ لكنه لا يجب عليه ويكون سبب وجوبه عليهم أنه قال أولا من شاء منكم جعلها عمرة وندبهم إلى ذلك فرأى أناسا قد كرهوا ذلك وامعضوا منه واستهجنوه لأنهم لم يكونوا يعهدون الحل قبل عرفة في أشهر الحج فعزم عليهم الأمر حسما لمادة الشيطان وإزالة لهذه الشبهة كما أمرهم أولا بالفطر في السفر أمر رخصة ثم لما دنوا من العدو أمرهم به أمر عزيمة وكما أمرهم بالإحلال في عمرة الحديبية أمر عزيمة لما رآهم قد كرهوا الصلح ومعلوم أنه لو لم يصالحهم ومضى في عمرته لكان جائزا على أن بلالا لم يبين من يعود الضمير إليه في قوله لنا فيجوز أن يعود الضمير إلى ذلك الوفد كما تقدم ويجوز أن يكون بلالا ممن لم يسق الهدي فقال هو لنا من لا هدي معه خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة

وأما قولهم فهلا وجب الفسخ على كل حاج وصار كل من طاف بالبيت حلالا سواء قصد التحلل أو لم يقصد كما يروى عن ابن عباس وامتنع الإفراد والقران لكونهما مفسوخين

قلنا لأن أصحاب رسول الله من بعده حجوا مفردين وقارنين كما تقدم ذكره عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن الزبير وغيرهم فعلم أنهم لم يفهموا وجوب التمتع مطلقا

وأما ما ذكر عن أبي ذر وغيره من الصحابة في أنهم كانوا مخصوصين بالمتعة فقد عارض ذلك أبو موسى وابن عباس وبنو هاشم وهم أهل بيت رسول الله وأعلم الناس بسنته وقول المكيين من الفقهاء وهم أعلم أهل الأمصار كانوا بالمناسك قال مجاهد قدم علينا ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما متمتعين قال وقال لي مجاهد لو خرجت من بلدك الذي تحج منه أربعين عاما ما قدمت إلا متمتعا هو أحدث عهد برسول الله الذي فارق الناس عليه ولا ينبغي أن يرغب عن ما ثبت عن أهل البيت رضوان الله عليهم لاتباع بعض أهل الأهواء لهم في ذلك قال سلمة بن شبيب قلت لأحمد قويت قلوب الروافض حين أفتيت أهل خرسان بمتعة الحج فقال يا سلمة كنت توصف بالحمق فكنت أدفع عنك وأراك كما قالوا

وقال ابن بطة سمعت أبا بكر بن أيوب يقول سمعت إبراهيم الحربي يقول وسئل عن فسخ الحج فقال قال سلمة بن شبيب لأحمد كل شيء منك حسن غير خلة واحدة قال وما هي قال تقول بفسخ الحج قال أحمد كنت أراى لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا أتركها لقولك وقال أبو الحسن اللباني سمعت إبراهيم الحربي وذكر له أحمد رحمه الله فقال ما رأيت أنا أحدا أشد اتباعا للحديث والآثار منه لم يكن يزاله عقل ثم قال جاء سلمة بن شبيب إلى أحمد يوما فقال يا أبا عبد الله تفتي بحج وعمرة فقال أحمد ما ظننت أنك أحمق إلى اليوم ثمانية عشر حديثا أروي عن النبي ولا أفتي به فلم كتبت الحديث قال وما رأيت أحمد رحمه الله قط إلا وهو يفتي به

وأما نهي عمر وعثمان وغيرهما عن المتعة وحمل ذلك على الفسخ أو على كونها مرجوحة فأعلم أن عمر وعثمان وغيرهما نهوا عن العمرة في أشهر الحج مع الحج مطلقا وأن نهيهم له موضع غير الذي ذكرناه

أما الأول فهو بين في الأحاديث قال عمران بن حصين جمع رسول الله بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنها حتى مات ولم ينزل قران يحرمها قال رجل برأيه ما شاء رواه مسلم وغيره وفي لفظ تمتعنا مع رسول الله ورحم الله عمرا إنما ذاك رأي وقد تقدم هذا الحديث فبين أن المتعة التي نهى عنها عمر أن يجمع الرجل بين حجة وعمرة سواء جمع بينها بإحرام واحد أو أحرم بالعمرة وفرغ منها ثم أحرم بالحج وكذلك عثمان لما نهى عن المتعة فأهل علي بهما فقال تسمعني أنهى الناس عن المتعة وأنت تفعلها فقال لم أكن لأدع سنة رسول الله لقول أحد وفي حديث اخر عنه أنه أمر أصحابه أن يهلوا بالعمرة لما بلغه نهي عثمان

وعن السائب بن يزيد أنه استأذن عثمان بن عفان في العمرة في شوال فأبي أن يأذن له رواه سعيد

وعن نبيه بن وهب أن عثمان سمع رجلا يهل بعمرة وحج فقال علي بالمهل فضربه وحلقه قال نبيه فما نبت في رأسه شعرة وقال نبيه إن عمر ابن الخطاب قال إن الناس يتمتعون بالعمرة مع الحج ثم أمر نوفا فأذن في الناس إن الصلاة جامعة فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال أقد مللتم الحج دفرة أقد مللتم شعثه أقد مللتم وسخة والله لأن مللتم ليأتين الله عز وجل بقوم لا يملونه ولا يستعجلونه قبل محله والله لو أذنا لكم في هذا لأخذتم بخلاخيلهن في الأراك يريد أراك عرفة ثم رجعتم مهللن بالحج

وأما الثاني فقد صح عن عمر وعثمان وغيرهما المتعة قولا وفعلا فهذا عمر يروي عن النبي أنه فعل المتعة هو وأصحابه ويقول للصبي ابن معبد لما أهل جميعا هديت سنة نبيك ويروي عن النبي أنه قال أتاني الليلة آت من ربي في هذا الوادي المبارك فقال قل عمرة في حجة

وعن طاوس عن ابن عباس قال هذا الذي تزعمون أنه نهى عن المتعة يعني عمر سمعته يقول لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت وقال له أبي ابن كعب وأبو موسى الأشعري إلا تبين للناس أمر متعتهم هذه فقال وهل بقي أحد لا يعلمها

وقال ابن عباس وما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة إلا رجل اعتمر في وسط السنة وفي رواية عن ابن عباس عن عمر قال لو حججت مرة واحدة ثم حججت لم أحج إلا بمتعة رواهما سعيد وفي لفظ لأبي عبيد لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت ورواه أبو حفص عن طاوس أن عمر قال لو إعتمرت وسط السنة لتمتعت ولو حججت خمسين حجة لتمتعت وروي الأثرم عن عمر نحو الحديث الأول فقال عمر وهل بقي أحد إلا علمها أما أنا فأفعلها

وعن نافع بن جبير عن أبيه قال ما حج عمر قط حتى توفاه الله إلا تمتع فيها وإنما وجه ما فعلوه أن عمر رأي الناس قد أخذوا بالمتعة فلم يكونوا يزورون الكعبة إلا مرة في السنة في أشهر الحج ويجعلون تلك السفرة للحج والعمرة فكره أن يبقى البيت مهجورا عامة السنة وأحب أن يعتمر في سائر شهور السنة ليبقى البيت معمورا مزورا كل وقت بعمرة ينشؤ لها سفر مفرد كما كان النبي يفعل حيث إعتمر قبل الحجة ثلاث عمر مفردات

وعلم أن أتم الحج والعمرة أن ينشأ لهما سفر من الوطن كما فعل النبي ولم ير لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقا إلا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحج وإن كان جائزا فقد ينهى السلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات والمستحبات لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حراما

قال يوسف بن ماهك إنما نهى عمر رضي الله عنه عن متعة الحج من أجل أهل البلد ليكون موسمين في عام فيصيب أهل مكة من منفعتهما

وقال عروة بن الزبير إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج إرادة ألا يعطل البيت في غير أشهر الحج رواهما سعيد وأيضا فخاف إذا تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يبقوا حلالا حتى يقفوا بعرفة محلين ثم يرجعوا محرمين كما بين ذلك في حديث أبي موسى وغيره حيث قال كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك يعني أراك عرفة ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم

ونحن نذهب إلى ذلك فإن الرجل إذا أنشأ للعمرة سفرا من مصره كان أفضل من عمرة التمتع فعن ابن عمر أن عمر قال افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم أن يعتمر في غير أشهر الحج وأتم لعمرته رواه مالك

وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري عن سالم قال سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال إن أبي لم يقل الذي تقولن إنما قال أفردوا العمرة من الحج أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله عز وجل وعمل بها رسول الله فإذا أكثروا عليه قال أو كتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر

وعن أبي يعفور قال كنت عند ابن عمر فجاءه رجل فسأله عن العمرة في أشهر الحج فقال هي في غير أشهر الحج أحب إلي

وعن محمد بن سيرين قال ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج

وأما الخلاف فيمن أراد أن يجمع بينهما في سفرة واحدة إما العجزة عن سفرة أخرى أو لأنه مشغول عن سفرة أخرة بما هو أهم من الحج من جهاد ونحوه أو لأنه لا يمكنه قصد مكة إلا في أيام الموسم لعدم القوافل أو خوف الطريق ونحو ذلك فإن اعتماره قبل الحج أفضل من أن يعتمر من التنعيم في بقية ذي الحجة لأن أصحاب النبي كلهم فعلوا كذلك ولم يعتمر أحد منهم بعد الحجة في تلك السفرة إلا عائشة خاصة ولم يقم النبي بالمسلمين بعد ليلة الحصبة ولا يوما واحدا بل قضى حجة ورجع قافلا إلى المدينة وكذلك عمر كان وكانوا ينهون عن العمرة بعد الحج في ذلك العام كما ينهون عنها قبله قال أبو بشر حججت أنا وصاحب لي فلما كان ليلة الصدر قال صاحبي إني لا أقدر على هذا المكان كلما أردت أفأعتمر فلم أدر ما أقول له فانطلقنا إلى نافع بن جبير بن مطعم فسألناه فكأنه هابنا ثم إنه اطمئن بعد فقال أما أمراؤكما فينهون عن ذلك وأما رسول الله فقد أعمر عائشة رحمها الله ليلة الصدر من التنعيم ثم أمره أن يخرج من الحرم من سنن وجهه الذي بداء منه ثم يحرم

ومن فعل ذلك فعله رخصة بعد أن يستفتي مع عملهم أنهم لو اعتمروا قبل الحج كان أفضل عن ابن عباس قال والله ما أعمر رسول الله عائشة رضي الله عنها في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفى الوبر وبر الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم رواه أبو داود

عن صدقة بن يسار قال سمعت ابن عمر يقول عمرة في العشر الأول أحب إلي من عمرة في العشرين الأواخر قال صدقة فحدثت نافعا فقال كان عبد الله يقول لأن أعتمر عمرة يكون علي فيها هدي أو صيام أحب إلي من أن أعتمر عمرة ليس علي فيها هدي ولا صيام رواه سعيد ورواه مالك عنه قال والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدى أحب إلى من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة

وروى أبو عبيد عن نافع عن ابن عمر قال لأن أعتمر في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة في شهر يجب علي فيه الهدي أحب إلى من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي

على أن هذا الرأي الذي قد رآه عمر وعثمان ومن بعدهما قد خالفهم فيه خلق كثير من الصحابة وأنكروا عليهم مثل علي بن أبي طالب وعمران بن حصين وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وأبي بن كعب

فأما أن يكونوا خافوا من النهي أن يعتقد الناس ذلك مكروها فخالفوهم في ذلك أو رأوا أن ترك الناس آخذين برخصة الله أفضل وأولى

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك عن علي وسعد وعمران وابن عباس وعن الحسن أن عمر بن الخطاب أراد أن ينهي عن المتعة فقال له أبي ابن كعب ليس ذلك لك قد تمتعنا مع رسول الله فلم ينهانا عن ذلك قال فأضرب عمر عن ذلك

وعن عمرو قال سمعت ابن عباس وأنا قائم على رأسه وسألوه عن المتعة متعة الحج فقيل له إن معاوية ينهي عنها فقال إنظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيد فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق

وعن سعيد بن جبير قال سمعت ابن الزبير يعرض بابن عباس فقال إن هاهنا قوما أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون في المتعة أنه لا بأس بها فقال ابن عباس أما لي فليسأل أمه فسألها فقالت صدق ابن عباس قد كان ذلك فقال ابن عباس لو شئت أن أسمي ناسا من قريش ولدوا منها لفعلت رواهن سعيد

وعن ابن عباس قال تمتع رسول الله قال عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال النبي ويقولون نهى أبو بكر وعمر رواه أبو حفص وأما كون النبي أفرد الحج ولم يعتمر في أشهره فعنه ثلاثة أجوبة

أحدها أن هذا ليس بصحيح فإن أكابر الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وعمران بن حصين وابن عمر وعائشة وابن عباس وأبي طلحة وأنس بن مالك وسراقة بن مالك كل هؤلاء يروون التمتع إما بأن يكون أحرم بالعمرة فلما قضاها أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة والحج جميعا

فإن رواية من قرن لا تخالف رواية من روى التمتع سواء أراد به أنه أهل بهما جميعا أو جمعهما في سفرة واحدة من شهر الحج وهذا لا يشك فيه لأنه قد صح عنه أنه اعتمر مع حجته

فروى أنس بن مالك أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعمرة الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجة متفق عليه

وعن ابن عمر أيضا أن رسول الله اعتمر أربع عمر وأقرته عائشة على ذلك متفق عليه وعن عائشة أنها قالت للنبي اعتمرت ولم أعتمر قال يا عبد الرحمن إذهب بأختك فأعمرها من التنعيم رواه البخاري

وفي جميع الأحاديث تقول للنبي تذهبون بحجة وعمرة وأذهب أنا بحجة

وهذه نصوص في أن النبي اعتمر قبل أن يحل من حجة وهو أيضا دليل على أن جميع الصحابة قد اعتمروا مع حجهم قبل ليلة الحصبة فعلم أنهم كانوا متمتعين أو قارنين

وعن ابن عباس قال إعتمر رسول الله أربع عمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل والثالثة من الجعرانة والرابعة مع حجته رواه الخمسة إلا النسائي

وعن جابر أن النبي حج ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة رواه ابن ماجة والترمذي وقال غريب

ومعلوم قطعا أن النبي لم يعتمر عقيب الحجة هو ولا أحد من أصحابه سوى عائشة وإنما خرج من مكة ليلة الصدر

وإنما إعتمد الناس في العمرة بعد الحج على حديث عائشة وقد تقدم ذلك مفسرا فيجب أن يكون إعتمر في أشهر الحج إما قبل الحج أو معه ولم يحل من إحرامه ومثل هذا يسمى قارنا ومتمتعا بكل حال لأنه جمعهما في إحرام واحد

وأيضا فإنه قد روي عنه ألفاظ صريحة من قوله مثل قوله لبيك عمرة وحجا وقوله إني قرنت وقوله قل عمرة في حجة ومثل ما روت حفصة قالت قلت يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر متفق عليه ومن ذكر أنه أفرد الحج فإنما أخبر عن إعتقاده

وأيضا فإن رواة التمتع أكثر عددا وأجل قدرا وروايتهم أصح سندا وأشهر نقلا

وأيضا فإن كل من روى الأفراد روى عنه أنه تمتع من غير عكس بل طرق الروايات عن ابن عمر وعائشة بأنه تمتع أصح

وأيضا فإن عامة الروايات التي فيها الإفراد إنما ذكروه مع أصحابه مثل حديث جابر وابن عباس وكان قصدهم بذلك وأيضا فمعنى قولهم أفرد الحج أي أنه لم يحل من إحرامه بعمرة مفردة ولم يطف للعمرة طوافا يتميز به فصورته صورة المفرد وإن لم يكن لكلامهم محمل صحيح فيجب أن يحكم بوقوع الخطأ في تلك الروايات لما تقدم

وأيضا فإن من روى أنه تمتع مثبت لزيادة نفاها غيره والمثبت أولى من النافي

وقال أحمد في رواية أبي طالب كان هذا في أول الأمر بالمدينة وقد زعم بعض أصحابنا أنه يجوز أنه كان قد تحلل من عمرته ثم أحرم بالحج مفردا فيسمى مفردا لذلك قال وعلى هذا يجمع بين كونه متمتعا وكونه لم يفسح الحج وإنما يمتنع الفسخ ممن كان قارنا أو مفردا وهذا غلط فإن النبي لم يتحلل في حجته وهم إنما سألوه عن كونه لم يحل سواء كان قد أحرم بعمرة أو بحجة ولم يسألوه عن كونه لم يفسخ كأن من أراد أن يجمع بينهما تمتع ولم يفرد على أنهم لو سألوه عن ذلك فالأنه كان قارنا الثاني أنه وإن كان أفرد فهو لم يعتمر بعد حجته من التنعيم ولا من غيره هو ولا أحد من أصحابه غير عائشة وإنما كان قد اعتمر قبل ذلك والافراد على هذا الوجه هو أفضل من التمتع ومن القران عندنا وهذا هو الجواب عمن أفرد الحج من الخلفاء الراشدين فإن أحدا منهم لم ينقل عنه أنه إعتمر في سفرته تلك وإنما كانوا يحجون ويرجعون ويعتمرون في وقت اخر أو لا يعتمرون وإفراد الحج على هذا الوجه أفضل من المتعة

الثالث أن اخر الأمرين منه كان التأسف على المتعة لأنه رأى الإحلال أفضل كما في حديث جابر وهو لم يكن يشك في جواز العمرة في أشهر الحج حتى يعتقد ما اعتقده في أصحابه من أنهم فسخوا لكونهم لم يكونوا يجوزون العمرة في أشهر الحج

وأما كون المتعة تفتقر إلى دم فذلك الدم دم نسك بدليل أنه يجوز التمتع لغير عذر ودماء الجبران لا يجوز إلتزامها إلا لعذر وبدليل جواز الأكل منه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة ثم نقول وإن كان دم جبران فهو مخير بين إستدامة الإحرام بلا جبران وبين الإحلال والجبران وهذا أفضل لأن كلامهم فيمن يعتمر في ذي الحجة من أدنى الحل وهذه العمرة ليست بطايل فالإحلال والدم والعمرة في أثناء الحج أفضل منها وهذا هو الجواب عن قولهم المفرد يأتي بنسكين تامين فإنه متى أتم العمرة من دويرة أهله أو من فهو أفضل من التمتع والعمرة من أدنى الحل ليست بتلك التامة

وأما كون المتعة رخصة فكذلك الإحرام من أدنى الحل رخصة ثم الرخص في العبادات أفضل من الشدائد كما تقدم تقريره في الصلاة

وأيضا فإنه إذا اعتمر بعد الحجة لم يتمكن من حلق رأسه لأنه لم يكن قد نبت شعره والحلق أو التقصير سنة عظيمة فعمرة وحجة يأتي فيها بالحلق أفضل من عمرة تخلوا إحداهما عن الحلق والتفصير فإنه من جملة أعمال النسك وأيضا فإن بعض الناس قد ذهب إلى أن العمرة من أدنى الحل لا تجزىء عن حجة الإسلام وكذلك عمرة القارن وهو إحدى الروايتين عن أحمد وذهب بعضهم إلى أن الإعتياض عنها بالطواف أفضل فيجب أن يكون ما أجمع على أجزائه ويتسع الوقت بعده للطواف أفضل

وأيضا فإنه إذا أراد أن يجمع بينهما في سفرة واحدة كان تقديم العمرة أحوط له بخلاف ما إذا أخرها فإنه تغرير بها لأن وقت الواحد واحد لا يتغير بتقديم العمرة وتأخيرها وهذا معنى قول أحمد هو آخر فعل النبي وهو يجمع الحج والعمرة جميعا ويعمل لكل واحد على حده فبين أنه يجمع الحج والعمرة فيحل منهما جميعا إذا قضى حجه وله فضيلة على القارن بأنه يعمل لكل واحد على حدة وأيضا فإن التمتع بالعمرة إلى الحج مخالفة لهدي المشركين ودلهم فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وكلما كان من المناسك فيه مخالفة لهدي المشركين فإنه واجب أو مستحب مثل الخروج إلى عرفة وترك الوقوف عشية عرفة بمزدلفة والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس والطواف بالثياب ودخول البيت من الباب وهو محرم والطواف بالصفا والمروة

وأيضا فما أشار إليه أحمد في رواية أبي طالب فقال إذا دخل بعمرة فيكون قد جمع الله له عمرة وحجة ودما وهذا لأنه يأتي بالعمرة والحج على حدة وذلك أفضل من أن يجمعها بإحرام واحد لأنه يأتي بإحلالين وإحرامين وتلبيتين وطوافين وسعيين فهو يترجح على القارن من هذا الوجه وعمرته تجزؤه عن عمرة الإسلام بالإتفاق بخلاف عمرة القارن فإن فيها اختلاف وليس القارن بأعجل من المتمتع لأن كلاهما يفرغ من العمرة والحج جميعا ويزيد المتمتع عليه بأنه يفرغ من العمرة قبله فيكون أسبق إلى أداء النسك

ويترجح على المفرد بأنه يأتي بالعمرة والحج في الوقت الذي يأتي فيه المفرد بالحج وحده ونسكان أفضل من نسك وأنه يأتي مع ذلك بدم المتمتع وهو دم نسك كما تقدم فيكون ما اشتمل علي زيادة أفضل كما فضل المفرد على القارن لأنه يطوف ويسعى مرتين وعمرة وحجة وهدي أفضل من حجة لا عمرة فيها ولا هدي وقد تقدم عن ابن عمر أنه نبه على هذا المعنى حيث قال لأن أعتمر في أشهر الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر في ذي الحجة بعد الحج ولا أهدي ويتسع الوقت للمتمتع بعد الصدر من منى إن أحب أن يأتي بعمرة أخرى وإن أحب أن يطوف بالبيت فيكون ذلك زيادة لا سيما إن خيف أن لا يتمكن من الاعتمار بعد الحج لخوف أو غلاء أو غير ذلك فتحصيل العمرة قبل الحج أوثق وإن كان الحاج إمرأة خيف عليها أن تحيض بعد الصدر ويستمر بها الحيض حتى لا تتمكن من الإعتمار فإذا دخلت متمتعة وحاضت صنعت كما صنعت عائشة رضي الله عنها

فأما إن ساق الهدي فينبغي أن يكون أفضل من الإفراد بلا تردد لأن النبي لا شك أنه ساق الهدي وكان قارنا أو متمتعا والأظهر أنه كان قارنا فكيف يفضل ما لم يفعله النبي على فعله وذلك لأنه يأتي بالعمرة والحج جميعا كما تقدم

وأما كون الافراد أفضل من القرن فهكذا قال أصحابنا وهذا إذا لم يق الهدي ولم أجد عن أحمد نصا بذلك قالوا لأن في عمل المفرد زيارة على القارن وهو أنه يأتي بإحرامين وإحلالين وتلبيتين وطوافين وسعيين ويتوجه

وأيضا فإن المتعة قد اختلف في وجوبها سواء أحرم بالعمرة أولا أو بالحج أو بهما فكان ابن عباس يرى وجوبها فعن عطاء ومجاهد أن ابن عباس كان يأمر القارن أن يجعلها عمرة إذا لم يكن ساق الهدي وعن أبي هشام أنه قد قدم حاجا فسأل ابن عباس فقال اجعلها عمرة ثم لقيت ابن عمر فقال اثبت على إحرامك ثم رجعت إلى أبن عباس فأخبرته بقوله فقال إن طوافك بالبيت ينقض حرمك كلما طفت فجدد إهلالا وفي رواية قال أهللت بالحج فلقيت ابن عباس وأنا أطوف وألبي فقال أبحجة أو بعمرة قلت حجة قال إجعلها عمرة قلت كيف أجعلها عمرة وهذا أول ما حججت قال فأكثر من التلبية فإن التلبية تشد الإحرام وإن البيت ينقض والصفا والمروة تنقض

وعن مسلم القري قال سمعت ابن عباس يقول يحل الحج الطواف والسعي

وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني قدمت حاجا ولم أذكر عمرة فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة فقال له ابن عباس اعتمرت فقال له القوم إنك لم تفهمه فعاد فقال إني قدمت حاجا قال فصنعت ماذا قال طفت بالبيت وبين الصفا والمروة فقال اعتمرت فقالوا له عد فإنه لم يفهم فقال إني قدمت حاجا ولم أذكر عمرة فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة فقال حدث أمر هي ثلاثا فإن أنت فأربع ولم يقل هو ذاك قال وددت أنك قصرت وتقدم عنه أنه قال والله ما تمت حجة رجل إلا بمتعة إلا رجل اعتمر في وسط السنة وقد تأول على ذلك الكتاب والسنة

قال أحمد ثنا يحيى بن سعيد حدثني ابن جريج قال أخبرني عطاء قال قلت له من أين كان ابن عباس يأخذ أنه من طاف بالبيت فقد حل قال من قول الله عز وجل { ثم محلها إلى البيت العتيق } ومن أمر النبي أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع

قال ابن أبي موسى لا يستحب لأحد أن يحرم بنية الفسخ فأما من أحرم بالحج بنية المضي فيه ثم بدا له أن يفسخ رغبة في الجمع بين النسكين في قلبه جاز

فإن قيل فقد اختلف في كراهة المتعة كما حكيتم عن رجال من الصحابة وعن حيوة بن شريح قال أخبرني أبو عيسى الخرساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج

وعن قتادة عن أبي شيخ الهنائي ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة أن معاوية بن أبي سيفان قال لأصحاب النبي هل تعلمون أن رسول الله نهى عن كذا وكذا وركوب جلود النمور قالوا نعم قال فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة فقالوا أما هذا فلا قال أما إنها معها ولكن نسيتم رواهما أبو داود وهذا النهي إما أن يفيد الكراهة أو يكون معناه النهي عن فسخ الحج إلى العمرة وهو جمع بين الحج والعمرة

قلنا قد أجمع العلماء على أن المتعة لا تكره وقد ذكرنا معنى ما نقل في ذلك عن الصحابة ولكن كان بعض أمراء بني مروان يشدد في ذلك ويعاقب على المتعة وهذا قد يكون رأى ذلك لنوع مصلحة مع أن هذا لا يعد خلافا وقد أنكر الصحابة الذين علموا معنى كلام عمر مثل ابنه عبد الله وغيره ذلك على أنه لو نطق أحد بكراهة المتعة لكان مخصوما بكتاب الله وسنة رسول الله بخلاف من قال بوجوبها فإنه أوجه حجة وأحسن انتزاعا إذ كان رسول الله قد أمر المسلمين بها وتغيظ على من إمتنع منها

وأما الحديثان فشاذان منكران مخالفان لكتاب الله وسنة رسوله الناطقة بأن هذا الحكم لا ينسخ حيث قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال أبو بكر الأثرم قد يكون من الحافظ الوهم أحيانا والأحاديث إذا تظاهرت وكثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ كما قال إياس بن معاوية وإياك والشاذ من العلم وقال إبراهيم بن آدم إنك إن حملت شاذا من العلم حملت شرا كثيرا قال والشاذ عندنا هو الذي يجيء على خلاف ما جاء به غيره وليس الشاذ الذي يجيء وحده بشيء لم يجيء أحد بمثله ولم يخالفه غيره

ولعل معناه أن يعتمر الرجل قبل الحج ثم يرجع إلى مصره ويؤخر الحج عن ذلك العام فيكون هذا منهي عنه لكون الحج أوجب من العمرة وقد تكلف مشقة السفر إلى مكة ثم رجع بغير حج والحج واجب على الفور

وأما الاخر

فصل

وإذا اعتمر قبل أشهر الحج وأفرد الحج من سنته فهو أفضل من التمتع

قال أحمد في رواية إسحق بن إبراهيم والأثرم هي في شهر رمضان أفضل وهي في غير أشهر الحج أفضل

وقال الأثرم وسعدان بن يزيد قبل لأبي عبد الله تأمر بالمتعة وتقول العمرة في غير أشهر الحج أفضل فقال إنما سئلت عن أتم العمرة فالمتعة تجزؤه من عمرته فأما أتم العمرة فإ تكون في غير أشهر الحج

فإذا اعتمر في رمضان أو قبل رمضان وأقام بمكة حتى يحج من سنته فهو أفضل من المتعة لما تقدم عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم في ذلك

وإن أقام بعد الحج إلى المحرم حتى يعتمر فهل هو أفضل من التمتع وإن عاد بعد الحج إلى مصره ثم عاد للعمرة

وإن اعتمر في أثناء السنة ثم عاد في أشهر الحج فهل الأفضل أن يتمتع أو يفرد ومن حج واعتمر ثم أراد أن يحج فهل الأفضل أن يعتمر ويحج أو يحج فقط أو يحج

وأما إذا حج ثم اعتمر في ذي الحجة فالمتعة أفضل من هذا كما تقدم وظاهر رواية الأثرم وسعدان بن يزيد

فإن عاد في ذي الحجة أو المحرم إلى الميقات فهل هو أفضل من المتعة

فصل

ويجوز الإحرام بنسك معين من عمرة أو حجة أو عمرة وحجة سواء كانت عمرة تمتع أو عمرة مفردة ويجوز أن يحرم مطلقا من غير أن ينوي عمرة أو حجة ويجوز أن يحرم بمثل ما أحرم به فلان وإن لم يعرف ما أحرم به لما روى أنس بن مالك قال قدم علي على رسول الله من اليمن فقال بم أهللت قال بما أهل به النبي قال لولا أن معي الهدي لأحللت متفق عليه وفي حديث جابر فقدم علي من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي وفي لفظ قال له النبي بم أهللت يا علي قال بما أهل به النبي قال فاهد وأمكث حراما كما أنت وفي لفظ قال أمر النبي عليا أن يقيم على إحرامه متفق عليه وهذا للبخاري ولمسلم ما قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به النبي قال فإن معي الهدي فلا تحل وكذلك في حديث البراء

وعن أبي موسى قال سقدمت على النبي وهو منيخ بالبطحاء فقال بم أهللت قال أهللت بإهلال النبي قال سقت من هدي قال لا قال فطف بالبيت والصفا والمروة ثم حل وفي لفظ فقال كيف قلت حين أحرمت قال قلت لبيك بإهلال كأهلال النبي وذكره متفق عليه

ثم إن علم ما أحرم فلان تعين عليه وكان حكمه حكم فلان

فإن علم في أثناء الحج

وإن لم يعلم بأن مات زيد أو فقال ابن عقيل هو كالمطلق في جواز صرفه إلى أحد الأنساك الثلاثة وقال القاضي هو كالمنشيء يصرفه إلى ما شاء وهذا أصح وإن أحرم مطلقا فقال أصحابنا بخير في صرفه إلى تمتع إو إفراد أو قران والمستحب له صرفه إلى المتعة وقد قال أحمد في رواية مهنا فيمن أحرم ولم ينو حجا ولا عمرة حتى مضت أيام فقال يقدم مكة بعمرة ويطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحلق ويقصر ثم يحرم بالحج

وحمل القاضي وغيره من أصحابنا هذا على الإختيار والإستحباب لأنا نستحب التمتع لمن عين الحج والقران فأن نستحبه لمن أبهم الإحرام أولى ولأن أصحاب رسول الله كانوا قد أحرم بعضهم شبيه بهذا الإحرام فأمره النبي أن يفعل كذلك

فإن كان الإحرام قبل أشهر الحج إنعقد إحرامه بعمرة فيما ذكره أصحابنا لأن الإحرام بالحج قبل أشهر مكروه وإن أراد أن يصرفه إلى عمرة مفردة جاز أيضا فيما ذكره أصحابنا

فإن طاف وسعى قبل أن يفرضه في شيء فقال القاضي في المجرد وا وغيرهما لا يعتد بذلك الطواف لأنه طاف لا في حج ولا في عمرة وقال يتعين طوافه للعمرة المسألة الثانية

أنه يجوز أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ويصير قارنا لأن في حديث ابن عمر وعائشة المتقدم وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق عليه إلا أن هذا يحتمل أن يكون بعد انقضاء عمل العمرة وفي حديث علي أنه لما رأى ذلك من عثمان أهل بهما جميعا وعن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا وذكرت الحديث متفق عليه

وعن نافع قال أراد ابن عمر الحج عام حجت الحرورية في عهد ابن الزبير فقيل له إن الناس كائن بينهم قتال ونخاف أن يصدوك فقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إذا أصنع كما صنع رسول الله أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرتي وأهدي هديا مقلدا اشتراه بقديد وانطلق حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا ولم يزد على ذلك ولم يتحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر فحلق ونحر ورأى أن قد قضي طواف الحج والعمرة بطوافة الأول ثم قال كذلك صنع رسول الله متفق عليه

ومعنى قوله كذلك صنع رسول الله أنه لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا مرة قبل التعريف مع أنه كان قد جمع الحج إلى العمرة ولم يرد به أنه لم يطف بالبيت بعد النحر فإن النبي قد طاف بعد التعريف وقد روى ذلك ابن عمر في غير موضع هو وسائر الصحابة وإنما قصد نافع أنه اكتفى للقران بطواف واحد بالبيت وبين الصفا والمروة لم يطف طوافين ويسع سعيين

وعن عبد الرحمن بن أبي نصر عن أبيه قال خرجت وأنا أريد الحج فقلت أمر بالمدينة فألقى عليا فاقتدى به فقدمت المدينة فإذا علي قد خرج حاجا فأهللت بالحج ثم خرجت فأدركت عليا في الطريق وهو يهل بعمرة وحجة فقلت له يا أبا الحسن إنما خرجت من الكوفة لأقتدى بك وقد سبقتني فأهللت بالحج أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه فقال لا إنما ذاك لو كنت أهللت بعمرة فخرجت معه حتى قدم فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة لعمرته ثم عاد فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة لحجته ثم أقام حراما إلى يوم النحر رواه سعيد والأثرم

ويجوز إضافة الحج إلى العمرة لكل محرم بالعمرة ثم إن أضافه إليها قبل الطواف وقع الطواف عن القران وكان قارنا وإن فعل ذلك بعد الشروع في الطواف لم يجز ذلك وهذه الإفاضة تتعين على من أحرم بعمرة وضاق الوقت عن أن يعتمر قبل الحج فخشي فوته إما بأن تكون إمرأة وقد حاضت فلم بمكنها أن تطوف بالبيت فتحرم بالحج وتصير قارنة وتترك طواف القدوم كما لو كانت مفردة أو بأن يوافي مكة يوم عرفة ويضيق الوقت عن إتمام العمرة والإحرام بالحج ونحو ذلك فلو أراد أن يبقى على العمرة ويفوت الحج وكذلك من لم يخش فوات الحج وهو قارن إذا وقف قبل أن يطوف بالبيت فهو باق على قرانه والوقوف يعرفه لا ينقض العمرة هذا هو المذهب المنصوص في رواية أبي طالب فيمن قدم بعمرة فخشي الفوت لم يطف وأهل بالحج وأمسك عن العمرة كما فعلت عائشة

قيل له أن أبا حنيفة يقول قد رفض العمرة وصار حجا فقال ما قال هذا أحد غير أبي حنيفة إنما قال النبي أمسكي عن عمرتك وامتشطي وأهلي بالحج وما رفضت العمرة فلما قالت أيرجع أزواجك بعمرة وحج قال لعبد الرحمن أعمرها من التنعيم أراد أن يطيب نفسها ولم يأمرها بالقضاء

وقال أبو طالب سألته عن حديث عائشة لما حاضت كيف يصنع مثلها قال لما دخلت بعمرة حاضت بعدما أهلت فقال لها رسول الله أمسكي عن العمرة وأهلي بالحج فهذه شبهت بالقارن فتذهب فتقضي المناسك كلها فإذا كان يوم النحر جاءت مكة فطافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة قيل له طواف قال نعم طواف واحد يجزؤ القارن وهذه يجزؤها طواف واحد

وقال في رواية الميموني وقد ذكر له عن أبي معاوية يرويه انقضي عمرتك فقال غير واحد يرويه أمسكي عن عمرتك أيش معنى إنقضي هو شيء ينقضه هو ثوب تلقيه وعجب من أبي معاوية وهذا يستقيم على قولنا إنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد

فأما إذا قلنا يلزم القارن أن يطوف ويسعى أولا للعمرة ثم يطوف بعد ذلك ويسعى للحج فإن عمرته تنقضي قبل التعريف ولا يبقى إلا في إحرام الحج

فعلى هذا إذا لم يطف للعمرة ولم يسع قبل الوقوف فإن عمرته تنتقض وعليه قضاؤها ويكون مفردا وعليه دم جناية ذكر ذلك القاضي وابن عقيل وغيرهما فعلى هذا إذا رفض العمرة لم يحل وإنما يكون قد فسخ العمرة إلى الحج

وأصل ذلك حديث عائشة فإنها قدمت مكة وهي متمتعة فأمرها رسول الله أن تهل بالحج وتترك العمرة

فمن قال بالوجه الثاني قال أمرها برفض العمرة وأن تصير مفردة للحج ولم يوجب عليها دم قران بل ذبح عنها يوم النحر دم جبران لتأخير العمرة وأوجب عليها قضاء ذلك العمرة التي رفضتها قالوا لأن في حديثها قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى النبي فقال إنقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال هذه مكان عمرتك فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا وفي لفظ قالت فحضت فلم أزل حائضا حتى يوم عرفة ولم أهل إلا بعمرة فأمرني النبي أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك حتى قضيت حجي فبعث معي عبد الرحمن أبن أبي بكر فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم وفي لفظ أهللت مع رسول الله في حجة الوداع فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة قالت يا رسول الله هذه ليلة عرفة وإنما كنت تمتعت بعمرة فقال لها رسول الله إنقضي رأسك وامتشطي وامسكي عن عمرتك وفي رواية فلما كانت ليلة الحصبة قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة وفي لفظ حتى جئنا إلى التنعيم فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروها وفي لفظ قلت يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم أتينا بمكان كذا وكذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك وفي لفظ فدخل علي رسول الله وأنا أبكي فقال ما يبكيك يا هنتاه قلت سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة قال وما شأنك قلت لا أصلي قال فلا يضرك إنما أنت إمرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها قالت فخرجنا في حجته وفي لفظ فخرجت في حجتي حتى قدمنا منى فطهرت وساق الحديث متفق عليه وللبخاري إنها قالت يا رسول الله اعتمرتم ولم أعتمر قال يا عبد الرحمن اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم وفي رواية له أنها قالت يا رسول الله يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ولم أزد على الحج فقال لها اذهبي وليردفك عبد الرحمن فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم وفي رواية لمسلم أنها قالت يا رسول الله أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر

قالوا فهذا دليل على أنها صارت مفردة وأنها رفضت العمرة لقول النبي إنقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ولو كان الإحرام بحاله لم يأمرها بالإمتشاط ولقوله أهلي بالحج ودعي العمرة واتركي العمرة وفي لفظ وإمسكي عن عمرتك وهذا ظاهر في أنها ترفض العمرة

وقد روى لا سيما وكان هذا ليلة عرفة أويومها والناس قد خرجوا من مكة يوم التروية وقد تعذر فعل العمرة فعلم أنه أراد ترك إحرامها

ولقوله هذه مكان عمرتك ولو كانت عمرتها بحالها لم يقل هذه مكان عمرتك كما لم يحتج إلى ذلك سائر من قرن من أصحابه لأنه كانت لهم عمرة صحيحة

وأيضا فقولها أيرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة فقال أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت لا قال فاذهبي مع أخيك فأهلي بعمرة ثم بين أن من لم يطف تلك الليالي يكون حاله كذلك يرجع بحجة بدون عمرة ثم أمرها بالقضاء بحرف الفاء وأيضا فقوله لها لما ذكرت له الحيض فعسى الله أن يرزقكيها قالت فخرجنا في حجته دليل على أنها لم تبق في عمرة وأنها ترتجي ذلك فيما بعد

وأيضا فلو كان الواقف بعرفة في إحرام بعمرة لكان لا يحل حتى يطوف بالبيت ومعلوم أنه رمى جمرة العقبة تحلل التحلل الأول

وأيضا فإن الوقوف من خصائص الحج فامتنع أن يكون في عمرة وهو واقف بعرفه وكذلك ما بعد الوقوف بمزدلفة ومنى ولهذا إذا فاته الوقوف تحلل بطواف وسعي ولم يقف بالمواقف الثلاثة لأن ذلك لا يكون في عمرة

ووجه الأول ما روى طاوس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي يوم النحر يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج رواه أحمد ومسلم

وعن مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها النبي يجزيء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك رواه مسلم

وعن عطاء عن عائشة أن النبي قال لها طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك رواه أبو داود وعن جابر قال دخل رسول الله على عائشة ثم وجدها تبكي وقالت قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت فقال اغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك جميعا قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت قال فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة متفق عليه فهذا نص في أنه لا يجب عليها قضاء العمرة وأن الطواف الذي طافته يوم النحر بالبيت وبين الصفا والمروة يسعها لحجها وعمرتها وأنها باقية على عمرتها مقيمة عليها وأن النبي لم يأمرها بقضاء العمرة حتى ألحت عليه ويؤيد ذلك أن عامة الروايات تدل على أن النبي لم يأمرها ابتداء بالعمرة ولو كان القضاء واجبا عليه لما أهمل النبي الأمر به حتى تطلب هي ذلك بل كان أمرها بذلك بل أعملها به حين قال لها إقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت بأن يقول فإذا حللت فاقضي عمرتك ويؤيد ذلك أن النبي أهدى عنها وبعث إليها من هديها فعلم أنه كان دم نسك لأنه لو كان دم جناية لم يجز الأكل منه

وقوله لها دعي عمرتك وامسكي عن عمرتك يعني عن إتمامها مفردة كما كنت أوجبته وأهلي بالحج فتصير العمرة في ضمن الحج ولا يبقى لها صورة فإنه صرح ببقاء العمرة كما ذكرناه ولهذا قال امسكي عنها والإمساك عنها لا يقتضي الخروج منها يقتضي ترك عملها الذي به تتم وتخرج منها وأما نقض الرأس

وأما القضاء فإنما يدل على ضعف عمرة القران وأنها ليست بتامة وسنتكلم إن شاء الله على ذلك وكذلك قولها يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة المسألة الثالثة

أنه إذا أحرم بالحج لم يجز أن يدخل عليه العمرة فإن أدخلها عليه لم تنعقد هذه ولم يلزمه بها شيء وهو باق على حجه هذا هو المذهب المنصوص في غير موضع

قال في رواية المروذي فيمن قدم يوم عرفة معتمرا فخاف أن يفوته الحج إن طاف أدخل الحج على العمرة ويكون قارنا قيل له فيدخل العمرة على الحج فقال لا

ونقل عنه حنبل إذا أهل بعمرة أضاف إليها الحج وإذا أهل بالحج لم يضف إليه عمرة ونقل عنه أبو الحارث إذا أحرم بعمرة فلا بأس أن يضيف إليها حجة فإذا أهل بالحج لم يضف إليه عمرة

وقد روى عنه حرب وقد سأله عمن أهل بالحج فأراد أن يضم إليها عمرة فكرهه

ونقل عنه الأثرم إذا أهل بعمرة أضاف إليها الحج ولا بأس إنما الشأن في الذي يهل بالحج أيضيف إليه عمرة ثم قال علي يقول لو كنت بدأت بالعمرة

وقال في رواية عبد الله قوله دخلت العمرة في الحج يعني العمرة في أشهر الحج وقال لم أسمع في ضم العمرة إلى الحج إلا شيئا ضعيفا

ولعل هذا يحمل على كراهة ذلك لا على بطلانه فإنهم كلهم يكرهون ذلك

ووجه ذلك ما احتج به أحمد من حديث علي المتقدم لما سأله المحرم بالحج وكان علي قد أحرم بالعمرة والحج فقال هل أستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه قال لا إنما ذلك لو كنت أهللت بعمرة فأخبره علي رضي الله عنه أنه لايستطيع القران إذا أحرم بالحج أولا ويستطيعه إذا أحرم بالعمرة أولا وقوله لا تستطيعه دليل أن ذلك لا يمكن البتة وهو أبلغ من النهي

فصل

فأما إذا أحرم بحجتين أو عمرتين فإنه ينعقد بإحداهما ولا يلزمه قضاء الاخر نص عليه فيمت أهل بحجتين لا يلزمه إلا حجة وذلك لأن الجمع بينهما غير ممكن فأشبه ما لو أحرم بصلاتين قال في رواية أبي طالب إذا قال لبيك العام وعام قابل فإن عطاء يقول يحج العام ويعتمر قابل فإن قال لبيك بحجتين فليس عليه إلا حجة واحدة التي لبى بها ولا يكون إهلالا بشيئين

ولو قال لبيك بمائة حجة أكان يجب عليه مائة حجة ليس عليه شيء وأصل قول عطاء التسهيل يقول المشيء إلى بيت الله وعليه حجة وكفارة وذكر معه أبو بكر إذا نذر أن يطوف على أربع

فصل

وإذا نسي المحرم ما أحرم به أو أحرم بمثل فلان وتعذر معرفته قال أحمد في رواية أبي داود في رجل لبى فنسي لا يدري بحج أو عمرة يجعلها عمرة ثم يلبي من مكة

وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سيفان في رجل أهل لا يدري بحج أو عمرة فأحب إلى أن يجمعهما قال أحمد أنا أقول إن كان أهل بحج فشاء أن يجعله عمرة فعل وإن كان أهل بحج وعمرة ولم يسق الهدي وشاء أن يجعلها عمرة فعل فقد نص على أنه يجعله عمرة فيتمتع بها إلى الحج وهذا حسن مستقيم على الأصل الذين تقدم فإنه إذا شرع لمن يذكر ما أحرم به أن يجعله متعة فلمن لا يذكر أولى

ثم اختلف أصحابنا فأقره بعضهم على ظاهرة وهذه طريقة أبي الخطاب وغيره ثم بعض هؤلاء قال إنما يلزمه عمرة على ظاهر رواية أبي طالب والصواب أنه يلزمه عمرة يتمتع بها إلى الحج فلزمه عمرة وحج كما بينه في رواية أبي داود إلا أن يكون قد ساق الهدي فإن قياس هذا أن يلزمه القران وهذا لأنه قد تيقن وجوب أحد الثلاثة في ذمته فلزمه الخروج منه بيقين كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وإذا تمتع فإنه قد خرج بيقين أما إذا أفرد جاز أن يكون الذي في ذمته عمرة أو قرانا وإذا قرن جاز أن يكون قد أحرم بالحج أولا فلا يصح إدخال العمرة عليه

وأما القاضي وأكثر أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافة وابن عقيل وغيرهم فإنهم يخيرونه بين العمرة والحج وحملوا كلام أحمد على الإستحباب لأن الأصل براءة ذمته من الأنساك الثلاثة فلم يجب إلزامه بالشك وزعم القاضي أنه لو نذر إحراما ونسيه لم يلزمه إلا عمرة لأنها الأولى وكذلك هنا ولأن الشك في التعيين يجعل التعيين كعدمه فيكون بمنزلة من أحرم مطلقا فله صرفه إلى ما شاء وهذا بخلاف الصلاة فإن التعيين شرط في إحرامها فإذا صلى صلاة مطلقة لم تصح والحج بخلاف ذلك فإنه يصح مع الإبهام فإذا شك في عين ما أحرم به فالأصل عد التعيين وإنما يتقين أنه محرم والإحرام بأحد الثلاثة يبريء الذمه من هذا الإحرام

فعلى هذا إن عينه بقران فإن كان قارنا فقد أجزأ عنه وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة وذلك صحيح إلا أن يقال إن المتمتع يجب عليه الحج وإن كان مفردا فقد أدخل الحج على العمرة

فإن قيل يصح إدخال العمرة على الحج أجزأته عنهما وإن قيل لا يصح على المشهور من المذهب فيصح له الحج بكل حال

وأما العمرة فهل تجزئه على وجهين أحدهما تجزئه لأنه قد صار قارنا

والثاني لا تجزئه وهو أصح لأنه غير متيقن لصحة قرانه فعلى هذا إن كان قد طاف للعمرة وسعى لها ثم طاف للحج وسعى وإن لم يزد على أعمال المفرد وقلنا بأن أعمال العمرة لا تدخل في الحج لم يخرج من إحرامه إلا بطواف للعمرة وهل يحتاج إلى إعادة طواف الحج لكونه قد شرك في طوافه الأول بين الحج والعمرة على ما سيأتي

وإن قلنا تدخل أعمال العمرة في الحج وهو ظاهر المذهب فإنه قد شرك في الطواف بين حج صحيح وعمرة لم تصح وذلك يجزئه في أشهر الوجهين قاله القاضي

ثم إن قلنا يسقط النسكان عنه لزمه الدم وإن قلنا إنما يسقط الحج ففي وجوب الدم وجهان

أحدهما لا يجب وهو الصحيح للشك في سببه والثاني يجب لأنه التزمه ظاهرا ولأنه أحوط

وإن اختار الافراد سقط عنه الحج يقينا سواء كان قد أحرم أولا به أو بالعمة أو بهما ولا دم عليه لأنه لم يلتزمه ولا تحقق وجوبه وهل يحتاج في خروجه من الإحرام إلى طواف بنية العمرة على وجهين

وإن عينه بتمتع ولم يسق الهدي فهو متمتع ظاهرا وباطنا ويجزئه عن العمرة والحج قال بعض أصحابنا ولو بداله بعد قضاء العمرة أنه لا يحج لم يكن عليه شيء وهذا ليس بجيد

وإن كان قد ساق الهدي وتمم أعمال الحج فقد حصل له الحج يقينا وأما العمرة فهو فيا كالقارن لجواز أن يكون قد أحرم أولا بالحج فلا يصح فسخه إلى العمرة ثم هو قد طاف أولا وسعى للعمرة ثم طاف بعد التعريف وسعى للحج

فإن قلنا إن أفعال العمرة لا تدخل في أعمال الحج إذا كان قارنا فقد خرج من الإحرام بيقين وكذلك إن قلنا إنه يجوز للقارن أن يطوف لها قبل التعريف

وأما إن قلنا أن أفعال العمرة تدخل في الحج ولا يجزيء الطواف لها قبل التعريف فإن طوافه قبل التعريف لم يقع عن عمرة القران وهو بعد الوقوف إنما طاف عن الحج خاصة فلا يخرج من إحرامه حتى يطوف لها ثانيا بعد الوقوف وهذا على قول من يوجب على القارن أن ينوي عنهما

وأما من قال الطواف للحج يجزيء عن النسكين إذا كان في الباطن كذلك فكذلك هنا وفي وجوب الدم وجهان ذكرهما القاضي وغيره كما قلنا في القارن

أحدهما عليه الدم لأنه التزم موجبة وهو أحوط

والثاني لادم عليه لجواز أن يكون إحرامه في الأصل بحجة وقد فسخها بعمرة فلا دم عليه وهذا غير مستقيم على أصلنا بل الصواب أنه إن حج من عامه فهو متمتع ظاهرا وباطنا فعليه دم المتعة بلا تردد إلا أن يكون إحرامه أولا بعمرة بلا نية تمتع ونقول إن نية التمتع شرط في وجوب الدم وإن لم يحج من عامة فلا دم عليه قولا واحدا ولا وجه لا يجابه

مسألة وإذا استوى على راحلته لبى فيقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

وقد تقدم الكلام في أول أوقات التلبية

وأما صفتها فكما ذكره الشيخ رحمه الله نص عليه أحمد في رواية أبي داود وحنبل

قال في رواية حنبل إذا لبى يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

والأصل في ذلك ما روى ابن عمر أن رسول الله كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وفي لفظ إن تلبية رسول الله لبيك اللهم لبيك إلى آخره

وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه وفي رواية في الصحيح سمعت رسول الله يهل ملبيا لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لا يزيد على هذه الكلمات

وفي رواية في الصحيحين وكان عبد الله بن عمر يقول كان عمر ابن الخطاب يهل بإهلال رسول الله من هؤلاء الكلمات ويقول لبيك اللهم لبيك لبيك وسعديك الخير في يديك والرغباء إليك والعمل

وفي رواية صحيحة لأحمد قال أربعا تلقنتهن من رسول الله لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

وفي رواية صحيحة كان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك لبيك ثلاثا إلى آخره رواه وعن عائشة قالت إني لأعلم كيف كان النبي يلبي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك رواه البخاري ورواه سعيد من حديث الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن عن عائشة قالت كانت تلبية رسول الله ثلاثا لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك

وعن ابن مسعود قال كان من تلبية رسول الله لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك رواه النسائي وأحمد ولفظه عن عبد الله ذكر النبي أنه كان يقول لبيك اللهم مثله سواء

وعن عبد الله أنه كان يلبي كذلك رواه سعيد

وعن جابر في ذكر حجة النبي قال فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه شيئا منه رواه مسلم وأحمد وأبو داود بإسناد صحيح ولفظهما والناس يزيدون ذالمعارج ونحوه من الكلام والنبي يسمع فلا يقول لهم شيئا

وعن الضاحك عن ابن عباس أن تلبية رسول الله مثل حديث ابن عمر وجابر رواه سعيد وداود بن عمرو

وسبب التلبية ومعناها على ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل { وأذن في الناس بالحج } قال لما أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج قال يا أيها الناس إن ربكم إتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه فاستحاب له ما سمعه من حجر أو شجر أو أكمه أو تراب أو شيء فقالوا لبيك اللهم لبيك رواه آدم عن ورقاء عن عطاء ابن السائب عنه

وعن مجاهد في قوله { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } قال نادى إبراهيم يا أيها الناس أجيبوا ربكم وفي رواية عنه أن إبراهيم حين أمر أن يؤذن بالحج قام على المقام فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم قالوا لبيك لبيك فمن حج اليوم فقد أجاب إبراهيم يومئذ في أصلاب آبائهم رواهما أبو يعلى الموصلي بإسناد صحيح

وعنه أيضا قال أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج فقام على المقام فتطاول حتى صار كطول الجبل فنادى يا أيها الناس أجيبوا ربكم مرتين فأجابوه من تحت التخوم السبع لبيك أجبنا لبيك أطعنا فمن يحج إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب له فوقرت في قلب كل مسلم رواه سفيان الثوري عن منصور وسلمه بن كهيل عنه

وعنه أيضا قال لما أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج قام فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه لبيك اللهم لبيك وفي رواية لما أذن إبراهيم بالحج قال يا أيها الناس أجيبوا ربكم قال فلبي كل رطب ويابس

وقيل لعطاء { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } إبراهيم أو محمد قال إبراهيم وفي رواية عنه قال

لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس على المقام فنادى بصوت أسمع من بين المشرق والمغرب فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم قال فأجابوه من أصلاب الرجال لبيك اللهم لبيك فإنما يحج اليوم من أجاب يومئذ رواهن أبو سعيد الأشج وأما إشتقاقها فقد قال قوم إنه من قولهم ألب بالمكان إذا أقام به ولزمه ولب أيضا لغة فيه حكاها الخليل والمعنى وأنا مقيم على طاعتك ولازمها لا أبرح عنها ولا أفارقها أو أنا لازم لك ومتعلق بك لزوم الملب بالمكان وهو منصوب على المصدر بالفعل الازم إضماره كما قالوا حنانيك وسعديك ودواليك والياء فيه للتثنية

وأصل المعنى لبيت مرة بعد مرة لبا بعد لب ثم صيغ بلفظ التثنية الذي يقصد به التكرار والمداومة كقوله { ثم ارجع البصر كرتين } وكقول حذيفة وجعل يقول بين السجدتين رب اغفر لي رب اغفرلي ويقول في الاعتدال لربى الحمد لربى الحمد يريد بذلك أنه يكرر هذا اللفظ هذا قول الخليل وأكثر النحاة

وزعم يونس أنها كلمة واحدة ليست مثناة وأن الياء فيها أصلية بدليل قولهم لبي يلبي

والأجود في اشتقاقها أن جماع هذه المادة هو العطف على الشيء والإقبال إليه والتوجه نحوه ومنه اللبلاب وهو نبت يلتوي على الشجر واللبلبة الرقة على الولد ولبلبت الشاة على ولدها إذا لحسته وأسلبت عليه حين تضعه ومنه لب بالمكان وألب به إذا لزمه لإقباله عليه ورجل لب ولبيب أي لازم للأمر ويقال رجل لب طب قال

لبابا بإعجاز المطي لاحقا

قال

فقلت لها فيئي إليك فإنني ** حرام وإني بعد ذاك لبيب وامرأة لبه قال أبو عبيد أي قريبة من الناس لطيفة ومنه اللبة وهي المنحر واللبب وهو موضع القلادة من الصدر من كل شيء وهو ما يشد أيضا على صدر الناقة أو الدابة يمنع الرحل من الاستئجار سمي مقدم الحيوان لببا ولبة لأنه أول ما يقبل به ويتوجه ثم قيل لببت الرجل تلبيبا إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جررته لأن انقياده واستجابته تكون بهذا الفعل وقد تلبب إذا انقاد

وسمي العقل لبا لأنه الذي يعلم الحق فيتبعه فلا يكون للرجل لب حتى يستجيب للحق ويتبعه وإلا فلو عرفه وعصاه لم يكن ذا لب وصاحبه لبيب

ويقال بنات البب عروق في القلب تكون منها الرقة

وقيل لأعرابية تعاقب ابنا لها مالك لا تدعين عليه قالت تأبى له ذلك بنات الببي

وقد قيل في قول الكميت

إليكم ذوي آل النبي تطلعت ** نوازع من قلب ظماء والبب إنه من هذا وقيل إنه جمع لب وإنما فك الإدغام للضرورة فالداعي إلى الشيء يطلب استجابة المدعو وانقياده وإقباله إليه وتوجهه نحوه فيقول لبيك أي قد أقبلت إليك وتجهت نحوك وانقدت لك فأما مجرد الإقامة فليست ملحوظة

والمستحب في تقطيعها

فظاهر حديث عائشة أنه يقطعها ثلاثا يقول في الثانية لبيك لا شريك لك ثم يبتدي لبيك إن الحمد والنعمة لك لأنها ذكرت أنه كان يلبي ثلاثا لبيك اللهم لبيك وكذلك ابن عمر ذكر أنهن أربع

وعن محمد بن قيس قال كان رسول الله يلبي بأربع كلمات لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك رواه داود بن عمرو

وعن أبي معشر عنه والمستحب كسر إن نص عليه ويجوز فتحها فإذا فتح كان المعنى لبيك لأن الحمد لك أو بأن الحمد لك وعلى هذا فينبغي أن توصل أن بالتلبية التي قبلها لأنها متعلقة بها تعلق المفعول بفاعله وتكون التلبية فيها خصوص أي لبيناك بالحمد لك أو بسبب أن الحمد لك أو لأن الحمد لك وأما الحمد فلا خصوص فيه كما توهمه بعض أصحابنا

وأما إذا كسر فإنها تكون جملة مبتدأة وإن كانت تتضمن معنى التعليل فتكون التلبية مطلقة عامة والحمد مطلق كما في قوله لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وفي قوله { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد }

فصل

والأفضل أن يلبي تلبية رسول الله كما تقدم ذكره لأن أصحابه رووها على وجه واحد وبينوا أنه كان يلزمها

وإن نقل عنه أنه زاد عليها شيئا فيدل على الجواز لأن ما داوم عليه هو الأفضل

فإن زاد شيئا مثل قوله لبيك إن العيش عيش الاخرة أو لبيك ذا المعارج أو غير ذلك فهو جائز غير مكروه ولا مستحب عند أصحابنا

قال في رواية أبي داود وقد سئل عن التلبية فذكرها فقيل له يكره أن يزيد على هذا قال وما بأس أن يزيد

وقال الأثرم قلت له هذه الزيادة التي يزيدها الناس في التلبية فقال شيئا معناه الرخصة

وقال في رواية حرب في الرجل يزيد في التلبية كلاما أو دعاء قال أرجو أن لا يكون به بأس

وقال في رواية المروذي كان في حديث ابن عمر والملك لا شريك لك فتركه لأن الناس تركوه وليس في حديث وعن ليث عن طاوس أن تلبية رسول الله لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك زاد فيها عمر بن الخطاب والملك لا شريك لك رواه سعيد وهذا يقوي رواية المروذي فينظر

وإنما جاز ذلك لأن النبي أقره عليه ولم يغيره كما ذكره جابر

وعن أبي هريرة أن رسول الله قال في تلبيته لبيك إله الحق لبيك رواه أحمد وابن ماجة والنسائي

فعلم أنه كان يزيد أحيانا على التلبية المشهورة وقد زاد ابن عمر الزيادة المتقدمة وهو من أتبع الناس للسنة

وعن عمر أنه زاد لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك رواه الأثرم وعن أنس أنه كان يزيد لبيك حقا حقا

وعن عبد الله أنه كان يقول لبيك عدد التراب

وعن الأسود أنه كان يقول لبيك غفار الذنوب لبيك رواهما سعيد

وأما ما روى سعد أنه سمع رجلا يقول لبيك ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج ولكنا كنا مع رسول الله لا نقول ذلك رواه أحمد فقد حمله القاضي على ظاهره في أنه أنكر الزيادة ولعله فهم من حال الملبي أنه يعتقد أن هذه هي التلبية المشروعة

وقد قيل لعله اقتصر على ذلك وترك تمام التلبية المشروعة

ولا تكره الزيادة على التلبية سواء جعل الزيادة متصلة بالتلبية منها أم لا بل تكون الزيادة من جملة التلبية

وقال القاضي في خلافه لا تكره الزيادة على ذلك إذا أوردها على وجه الذكر لله والتعظيم له لا على أنها متصلة بالتلبية كالزيادة على التشهد بما ذكره من الدعاء بعده ليس بزيادة فيه

لأن ما ورد عن الشرع منصوصا مؤقتا تكره الزيادة فيه كالأذان والتشهد

فأما إن نقص من التلبية المشروعة

وإذا فرغ من التلبية فقال أصحابنا يستحب أن يصلي على النبي ويدعوا بما أحب من خير الدنيا والاخر

قال القاضي إذا فرغ من الصلاة على النبي أحببنا له أن يسأل الله رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار

وذلك لما روي عن القاسم بن محمد قال كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبية أن يصلي على النبي رواه الدارقطني وعن خزيمة بن ثابت عن النبي أنه كان إذا فرغ من تلبية سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار رواه الشافعي والدارقطني

ولأن الملبي قد أجاب الله في دعائه إلى حج بيته فيستجيب الله له دعاءه جزاء له

والصلاة على النبي مشروعة عند كل دعاء وقد قال القاضي وأصحابه إن ذكر النبي لا يشرع عند الإفعال كالذبح والعطاس والإحرام

وظاهر كلام أحمد في رواية حرب أن زيادة الدعاء من جنس زيادة الكلام لا بأس به ولا يرفع صوته بذلك

مسألة ويستحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء

وذلك لما روى السائب بن خلاد أن جبريل أتى النبي فقال كن عجابا ثجاجا والعج التلبية والثج نحر البدن رواه أحمد

وعن أبي بكر الصديق أن رسول الله سئل أي الأعمال أفضل قال العج والثج رواه ابن ماجة والترمذي ولفظه أي الحج أفضل وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك وابن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع وقد رواه الطبراني من حديث محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه عن أبي بكر

والعج رفع الصوت يقال قد عج يعج عجيجا ولا يكاد يقال إلا إذا تابع التصويت وأكثر منه وقد أمره أن يكون عجاجا وهو اسم لمن يكثر العجيج

وعن خلاد بن السائب بن خلاد عن أبيه قال قال رسول الله أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي وفي لفظ ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية وفي لفظ بالإهلال أو التلبية يريد أحدهما رواه الخمسة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح

وعن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله جاءني جبريل فقال يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتم بالتلبية فإنها من شعائر الحج رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي روى بعضهم هذا الحديث عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد عن النبي ولا يصح والصحيح عن خلاد بن السائب عن أبيه

وعن أبي هريرة قال قال رسول الله أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال فإنه من شعائر الحج رواه أحمد

وعن أبي حازم قال كان أصحاب رسول الله إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم

وعن أبي بكر بن عبد الله قال سمعت ابن عمر يرفع صوته بالتلبية حتى إني لأسمع دوى صوته من الجبال

وعن أيوب قال رأيت سعيد بن جبير في المسجد يوقظ الحاج ويقول قوموا فلبوا فإني سمعت ابن عباس يقول هي زينة الحج

وعن إبراهيم أنه كان يقول أكثروا من التلبية فإنها زينة الحج رواه سعيد

ولأن رفع الصوت قال أصحابنا ويستحب رفع الصوت بها على حسب طاقته ولا يتحامل في ذلك بأشد ما يقدر عليه فينقطع كالأذان

وأما المرأة فيستحب لها أن تسمع رفيقتها قال أحمد في رواية حرب تجهر المرأة بالتلبية ما تسمع زميلتها لما روى سليمان بن يسار أن السنة عندهم أن المرأة لا ترفع الصوت بالإهلال رواه سعيد

وعن عطاء أنه كان يقول يرفع الرجال أصواتهم بالتلبية فأما المرأة فإنها تسمع نفسها ولا ترفع صوتها رواه سعيد

وقد جاء في فضلها ما روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا رواه الترمذي وابن ماجه وعن جابر قال قال رسول الله ما من محرم يضحي لله يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه رواه ابن ماجة

وتستحب التلبية على كل حال قائما وقاعدا ومضطجعا وسائرا ونازلا وطاهرا وجنبا وحائضا إلى غير ذلك من الأحوال

مسألة وهي آكد فيما إذا علا نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا أو فعل محظورا ناسيا أو التقت الرفاق وفي أدبار الصلوات وبالأسحار وإقبال الليل والنهار

وذلك لأن ذلك مأثور عن السلف قال خيثمة بن عبد الرحمن كان أصحاب عبد الله يلبون إذا هبطوا واديا أو أشرفوا على أكمة أو لقوا ركبانا وبالأسحار ودبر الصلوات رواه سعيد

وفي لفظ كنت أحج مع أصحاب عبد الله فكانوا يستحبون أن يلبوا في دبر كل صلاة وحين يلقى الركب وبالأسحار وإذا أشرفوا على أكمة أو هبط واديا أو انبعثت به راحلته رواه عمر بن حفص بن غياث ولأن النبي أهل حين انبعثت به ناقته واستوت به قائمة ثم أهل حين علا على شرف البيداء

وروي عن جابر قال كان النبي يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي أدبار الصلوات المكتوبة ومن اخر الليل

ولأن المسافر يستحب له إذا علا على شرف أن يكبر الله تعالى وإذا هبط واديا أن يسبحه فالتلبية للمحرم أفضل من غيرها من الذكر

ولأن البقاع إذا اختلفت

ومن جملة الأشراف إذا علا على ظهر دابته كما تقدم عن النبي وعن السلف ويستحب أن يبدأ قبلها بذكر الركوب سئل عطاء أيبدأ الرجل بالتلبية أو يقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين قال يبدأ بسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وقد تقدم من حديث أنس أن النبي ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله تعالى وسبح وكبر ثم أهل بحج أو عمرة رواه البخاري

ولأن هذا الذكر مختص بالركوب فيفوت بفوات سببه بخلاف التلبية ولهذا لو سمع مؤذنا كان يشتغل بإجابته عن التلبية والقراءة ونحوهما

ولأن هذا الذكر في هذا الموطن أوكد من التلبية فيه لأنه مأمور به بقوله تعالى { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } وأما إذا سمع ملبيا

وأما إذا فعل محظور ناسيا مثل أن يغطي رأسه أو يلبس قميصا ونحو ذلك فإن ذلك سيئة تنقص الإحرام فينبغي أن يتبعها بحسنة تجبر الإحرام ولا أحسن فيه من التلبية ولأنه بذلك كالمعرض عن الإحرام ويتذكره بالتلبية وقد تقدم عن ابن عباس أنه قال لمن طاف في إحرامه لما رأى أنه يحل أكثر من التلبية فإن التلبية تشد الإحرام

وأما إذا التقت الرفاق

فأما القافلة الواحدة إذا جاء بعضهم إلى عند بعض وهل يبدؤن قبل ذلك بالسلام

وأما أدبار الصلوات فلما تقدم من الحديث والأثر

وأما السحر فلما تقدم من الحديث والأثر ولأنها ساعة يستحب فيها ذكر الله تعالى وأما في إقبال الليل والنهار فقد ذكره أصحابنا ومعنى إقبال النهار ولم يذكر الخرقي وابن أبي موسى السحر وطرفي النهار

فصل

ويكفيه أن يلبي لهذه الأسباب مرة واحدة بحيث يكون دعاؤه عقيب تلك المرة

قال في رواية الأثرم كان ابن عمر يزيد في التلبية لبيك ذا المعارج ولا أدري من أين جاءت به العامة يلبون في دبر الصلوات ثلاث مرات قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ما شيء تفعله العامة يلبون في دبر الصلوات ثلاث مرات فتبسم وقال ما أدري من أين جاؤا به قلت أليس تجزئه مرة واحدة قال بلى

وكذلك أيضا إذا لبى لغير سبب فإن المرة الواحدة تحصل بها سنة التلبية بحيث يدعوا بعدها إن أحب وذلك لأن الصحابة ذكروا أن النبي لما ركب راحلته أهل بهؤلاء الكلمات ثم لما علا البيداء أهل بهن ولم يذكروا أنه كررهن في حالته تلك ولو كان ذلك لبينوه فإن مثل هذا لم يكونوا ليغفلوه ويهملوه بل ظاهر حديث ابن عمر حين قال أهل بهؤلاء الكلمات وقوله فلما استوت به راحلته قائمة قال لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وكان ابن عمر يزيد فيها ما يزيد كالنص في أنه إنما لبى بهذا واحدة وقد قال أربعا تلقنتهن من رسول الله أفتراه يعد كلمات التلبية ولا يعد مراتها وذكر عددها أهم لأنه لا يعلم إلا بذكره بخلاف كلمات التلبية فإن ذكرها يغني عن عدها وكذلك المأثور عن السلف ليس فيه أمر بتكرير ولذلك أنكر أحمد هذا وبين أنه لا أصل له عن السلف وقال لا أدري من أين جاؤا به

وأيضا فإن كلمات التلبية مبنية على تكرارها فإنها متضمنة الثلاث مرات

فإن كررها ثلاثا أو أكثر من ذلك على نسق واحد فقال أبو الخطاب وطائفة معه لا يستحب تكرارها في حال واحدة

وقال ابن عقيل لا يستحب تكرارها ثلاثا

وقال القاضي لا يستحب تكرارها ثلاثا عقيب الصلاة بل يأتي بها عقيب الصلوات كما يأتي بها مفردة عن الصلاة

وقالو يستحب استدامتها على كل حال

وقال أبو محمد لا بأس بالزيادة على مرة وتكراره ثلاثا حسن فإن الله تعالى وتر يحب الوتر

وقال القاضي في الخلاف يسن تكرارها بعد تمامها لأجل تلبسه بالعبادة وإن لم تستحب الزيادة عليها وفرق بين الزيادة والتكرار بأن هذا الذكر شعار هذه العبادة كالأذان وتكبيرة الإحرام فلم تستحب الزيادة عليه مثلهما بخلاف التكرار فإنما ذلك لأجل تلبسه بالعبادة وهذا المعنى موجود ما لم يحل وهذا يقتضي استحباب تكرارها في الموضع الذي اختلف في استحباب الزيادة وهو عقيب التلبية سواء

وحقيقة المذهب أن استدامتها وتكرارها على كل حال حسن مستحب من غير تقييد بعدد كما في التكبير في العشر وأيام التشريق لكن التقييد بعدد مخصوص لا أصل له وكذلك الأمر به والزام المأموين

فصل

قال أصحابنا لا يستحب أن يتخللها غيرها من الكلام ليأتي بها نسقا فإن سلم عليه رد لأن ذلك فرض والتلبية سنة

فإن لم يحسن التلبية بالعربية فإنه يتعلمها وإن لم يفقهها

قال في رواية حنبل والأعجمي والأعجمية إذا لم يفقها يعلمان على قدر طاقتها وبرر لماى المناسك ويشهدان مع الناس المناسك والله أعلم بالنية وأرجو أن يجزيء ذلك عنهما

ولا يجوز أن يلبي بغير العربية وهو يقدر على التلبية بالعربية أو على تعلمها لأنه ذكر مشروع فلم يجز بالعربية كالأذان والتكبير وغير ذلك من الأذكار المشروعة لاسيما والتلبية ذكر مؤقت فهي بالأذان أشبه منها بالخطبة ونحوها ثم الخطبة لا تكون إلا بالعربية فالتلبية أولى فإن عجز عن التلبية بالعربية فقال أبو محمد يجوز أن يلبي بلسانه ويتوجه أن لا يجوز لأنه قد منع عن الدعاء في الصلاة بغير العربية فإن عجز عن التلبية بأن لا يحسنها بالكلية أو يكون أخرس أو مريضا لا يطيق الكلام أو صغيرا فقال أحمد في رواية أبي طالب الأخرس والمريض والصبي يلبي عنهم وظاهره أنه إذا عجز عن الجهر يلبي عنه وذلك لأن جابرا ذكر أنهم كانوا يلبون عن الصبيان وما ذاك إلا لعجزهم عن التلبية ففي معنى الصبيان كل عاجز ولأن أمور الحج كلها تدخلها النيابة إذا عجز عنها كالرمي ونحوه فإذا عجز عن التلبية بنفسه لبى عنه غيره ويكون كما لو لبى عن ميت أو معضوب إن ذكره في التلبية فحسن وإن اقتصر على النية جاز

قال أصحابنا القاضي ومن بعده والتلبية سنة لا شيء في تركها لأنها ذكر مشروع في الحج فكان سنة كسائر أذكاره من الدعاء بعرفة ومزدلفة ومنى وغير ذلك

فصل

وتشرع التلبية من حين الإحرام إلى الشروع في الإحلال ففي الحج يلبي إلى أن يأخذ في رمي جمرة العقبة وفي العمرة إلى أن يشرع في الطواف

قال أحمد الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة وفي رواية يقطع عند أول حصاة وقال في رواية الجماعة في المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الركن وهذا هو المذهب

وقال الخرقي من كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت فمن أصحابنا من قال ظاهر هذا أنه يقطع التلبية برؤية البيت قبل الطواف فجعل هذا خلافا ومنهم من فسر وصوله إليه باستلامه الحجر وهذا أشبه لأنه حقيقة الوصول أن يتصل به وإنما يتصل به إذا لمسه لا إذا رآه وذلك لما روى الفضل بن عباس أن النبي لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة وفي لفظ للبخاري حتى بلغ الجمرة

وعن ابن عباس أن أسامة كان ردف النبي من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي يلبي حتى رمى جمرة العقبة متفق عليها

وعن عكرمة قال أفضت مع الحسين بن علي من المزدلفة فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة فسألته فقال أفضت مع أبي من المزدلفة فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة فسألته فقال أفضت مع النبي فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة رواه أحمد من حديث ابن إسحق عن أبان بن صالح عنه وعن ابن عباس عن النبي قال يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر رواه أبو داود وعنه يرفع الحديث أنه يعني النبي كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر رواه الترمذي وقال حديث صحيح

وعن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال اعتمر رسول الله ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر رواه أحمد

فأما التلبية في الطواف والسعي وفي حال الوقوف بعرفة ومزدلفة

ويكره إظهار التلبية في الأمصار والحلل قال أحمد في رواية المروذي التلبية إذا برز عن البيوت وقال في رواية أبي داود ولا يعجبني أن يلبي في مثل بغداد حتى يبرز وقال في رواية حمدان بن علي إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي وفي لفظ يلبي الرجل إذا وارى الجدران قول ابن عباس ولا يعجبني من المصر

وحمل أصحابنا قوله على إظهار التلبية وإعلانها وعبارة كثير منهم لا يستحب إظهارها وربما قالوا لا يشرع ذلك كما قالوا لا يستحب تكرارها في حال واحدة وذلك يقتضي التسوية بين المسألتين إما في الكراهة أو في أن الأولى تركه وذلك لما احتج به أحمد ورواه بإسناده عن عطاء عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال إن هذا لمجنون ليست التلبية في البيوت وإنما التلبية إذا برزت وعلله القاضي بأن التلبية مستحبة وإخفاء التطوع أولى من أظهاره لمن لا يشركه فيه ولهذا لم يكره ذلك في الصحراء وفي أمصار الحرم لوجود الشركاء وهذا ليس بشيء ويحتمل أن يكون ذلك لأن المقيم في مصر ليس بمسافر ولا متوجه إلى الله تعالى والتلبية إجابة الداعي وإنما يجيبه إذا شرع في السفر فإذا فارق البيوت شرع في السفر فيجيبه وكلام ابن عباس وأحمد يحتمل هذا فعلى هذا لو مر بمصر اخر في طريقه لبى منه

وعلى هذا فلا يستحب إخفاؤها ولا إطهارها وهو ظاهر كلام أحمد وابن عباس

فأما المساجد فقال القاضي وأبو الخطاب لا يستحب إظهارها في الأمصار ومساجد الأمصار ومساجد الأمصار هي المبينة في المصر وذلك لأن حكمها كحكم المصر وأولى من حيث كره رفع الصوت فيها لا من إظهارها في مساجد الحل وأمصاره فعلى هذا للمساجد المبينة في البرية مثل مسجد ذي الحليفة ونحوه لا يظهر فيه لأن النبي نهى عن رفع الصوت في المسجد وإنما خص من ذلك الإمام خاصة والمأمون إذا احتيج إلى تلبيغ تكبير الإمام

فيبقى رفع الصوت بالتلبية على عمومه وهذا قوى على قول من لا يرى

وحديث ابن عباس في إهلال النبي بمسجد ذي الحليفة عقيب الركعتين وقول أحمد وغيره بذلك يخالف هذا القول

قال أصحابنا ويستحب إظهارها في المسجد الحرام وغيره من مساجد الحرم مثل مسجد منى وفي مسجد عرفات وإظهارها في مكة لأنها مواضع المناسك

فصل

ولا بأس بتلبية الحلال ولا يصير محرما بذلك إلا أن ينوي الإحرام قال أحمد في رواية الأثرم قد يلبي الرجل ولا يحرم ولا يكون عليه شيء لما روي عن إبراهيم قال أقبل عبد الله من ضيعته التي دون القادسية فلقي قوما يلبون عند النجف فكأنهم هيجوا أشواقه فقال لبيك عدد التراب لبيك رواه سعيد

عن عطاء والحسن وإبراهيم أنه ملم يروا بأسا للحلال أن يتكلم بالتلبية يعلمها الرجل وذلك لأن النبي كان يقول في دعاء الاستفتاح لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك أنا منك وإليك رواه مسلم

فصل

وأما تسمية ما أحرم به في تلبيته فقال أبو الخطاب لا يستحب أن ينطق بما أحرم به ولا يستحب أن يذكره في تلبية لما روي عن ابن عمر يقول لا يضر الرجل أن لا يسمي بحج ولا بعمرة يكفيه من ذلك نيته إن نوى حجا فهو حج وإن نوى عمرة فهو عمرة

وعنه أنه كان إذا سمع بعض أهله يسمي بحج يقول لبيك بحجة صك في صدره وقال أتعلم الله بما في نفسك

وعنه أنه سئل أيتكلم بالحج والعمرة فقال أتنبون الله بما في قلوبكم وذلك لأن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة متفق عليه والذين وصفوا تلبيته رسول الله لما استوى على دابته مثل ابن عمر وغيره ذكروا أنه لبى ولم يذكروا في تلبيته ذكر حج ولا عمرة والمنصوص عن أحمد في رواية المروذي قال إن أردت المتعة فقل اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وأعني عليها تسر ذلك في نفسك مستقبل القبلة وتشترط عند إحرامك فتقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وإن شئت أهللت على راحلتك وذكر في الإفراد والقران نحو ذلك إلا أنه قال اللهم اني أريد العمرة والحج فيسرهما وتقبلهما مني لبيك اللهم عمرة وحجا فقل كذلك ولم يذكر في المتعة والإفراد لفظه في التلبية فقد استحب أن يسمي في تلبيته العمرة والحج أول مرة لما روى بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال سمعت النبي يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبى بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال أنس ما تعودنا إلا صبيانا سمعت رسول الله يقول لبيك عمرة وحجا متفق عليه وقال قل عمرة وحجة وفي لفظ عمرة في حجة ولكن هذا يحتمل النطق قبل التلبية وبعد وفيها

وعن علي أنه أهل بهما لبيك بعمرة وحجة وقال ما كنت لأدع سنة رسول الله لقول أحد رواه البخاري

وفي حديث الصبي بن معبد أنه وسمعه سلمان وزيد وهو يلبي بهما فقال عمر هديت لسنة نبيك

وقال ابن أبي موسى إن أراد الإفراد بالحج قل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وأتتمه ويلبي فيقول لبيك اللهم لبيك بحجة تمامها عليك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك إلى اخرها ويستحب له الإشتراط وهو أن يقول بعد التلبية إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وقال في القارن هو كالمفرد غير أنه يقول في تلبيته لبيك بعمرة وحجة تمامها عليك بعد أن ينوي القران

وقد جاء في حديث عائشة أن النبي قال من أراد أن يهل بحجة فليفعل ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحجة وعمرة فليفعل

وفي حديث ابن عباس أهل بالعمرة وأهل أصحابه بالحج

وفي حديث ابن عمر لبى بالحج وحده إلا أن هذا يقال لمن نوى ذلك ولمن يعلم به في تلبيته كما يقال بدليل أن ابن عمر يروي ذلك وكان ينكر اللفظ به في التلبية

باب محظورات الإحرام

[عدل]

مسألة وهي تسع حلق الشعر وقلم الظفر وجملة ذلك أن المحرم يحرم عليه أشياء ويكره له أشياء

فمما يحرم عليه أن يزيل شيئا من شعره بحلق أو نتف أو قطع أو تنور أو إحراق أو غير ذلك سواء في ذلك شعر الرأس والبدن والفخذ الذي يسن ازالته لغير الحرام كشعر العانة والابط والذي لا يسن كشعر اللحية والحاجب والصدر وغير ذلك وكذلك يحرم عليه أن يزيل شيئا من ظفره لأن الله سبحانه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وأيضا قوله سبحانه { ثم ليقضوا تفثهم } فروى عطاء عن ابن عباس قال التفث الدماء والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية وعن عطاء قال الحلق وتقليم الأظفار ومناسك الحج وعن محمد بن كعب قال الشعر والأظفار رواهن أبو سعيد الأشج

وعن أبي طلحة عن ابن عباس يعني بالتفث وضع احرامهم من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ونحو ذلك

وعن مجاهد قال التفث حلق الرأس وتقليم الأظافر وفي رواية حلق الرأس وقص الشارب وقلم الأظفار ونتف الابط وحلق العانة وقص اللحية والشارب والأظفار ورمى الجمار

فعلم أنه كان ممنوعا من ذلك قبل الاحرام ولأن ذلك إجماع سابق

قال أحمد في في رواية حبيش بن سندي شعر الرأس واللحية والأبط سواء لا أعلم أحدا فرق بينهما ولأن ازالة ذلك ترفه وتنعم

مسألة ففي ثلاث منها دم وفي كل واحد مما دونها مد طعام وهو ربع الصاع

وجملة ذلك أنه متى أزال شعره أو ظفره فعليه الفدية سواء كان لعذر أو لغير عذر وانما يفترقان في إباحة ذلك وغيره من الأحكام

وأما الفدية فتجب فيهما لأن الله سبحانه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فجوز لمن مرض فاحتاج إلى حلق الشعر أو اذاه قمل برأسه أن يحلق ويفتدى بصيام أو صدقة أو نسك فلأن يجب ذلك على من فعله لغير عذر أولى

وعن عبد الله بن معقل قال جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى تجد شاة فقلت لا قال فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع متفق عليه

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال أتى علي رسول الله زمن الحديبية وأنا أقود تحت قدري والقمل يتناثر على وجهي فقال أيوذيك هوام رأسك قال قلت نعم قال فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك نسيكه لا أدري بأي ذلك بدأ متفق عليه وهذا لفظ مسلم وللبخاري أن رسول الله راه وأنه يسقط قمله على وجهه فقال أيوذيك هوامك قلت نعم فأمره أن يحلق وهو بالحديبية ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام

ولمسلم أتى علي رسول الله زمن الحديبية فقال كأن هوام رأسك تؤذيك فقلت أجل قال فاحلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين وفي رواية له فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصع أصم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكه وفي رواية له فقال له النبي احلق ثم أذبح شاة نسكا أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة اصع تمر على ستة مساكين

وفي رواية لأبي داود فدعاني رسول الله فقال لي احلق رأسك وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة فحلقت رأسي ثم نسكت

ثم الكلام فيما يوجب الدم وما دونه

أما ما يوجب الدم ففيه ثلاث روايات إحداها أنه لا يجب الا في خمس شعرات وخمسة أظفار حكاها ابن أبي موسى وهذا اختيار أبي بكر لأن الأظفار الخمسة أظفار يد كاملة فوجب أن يتعلق بها كمال الجزاء كما يتعلق كمال اليد بخمسة أصابع وما دون ذلك ناقص عن الكمال وإذا لم تجب كمال الفدية إلا في خمسة أصابع فأن لا تجب إلا في خمس شعرات أولى

والثانية أنه لا يجب إلا في اربعة فصاعدا وهي اختيار الخرقى فقال في رواية المروذي قال كان عطاء يقول إذا نتف ثلاث شعرات فعليه دم وكان ابن عيينة يستكثر الدم في ثلاث ولست أوأقت فإذا نتف متعمدا أكثر من ثلاث شعرات متعمدا فعليه دم والناسي والمتعمد سواء

والثالثة يجب في ثلاث فصاعدا وهي اختيار القاضي وأصحابه قال في رواية حنبل إذا نتف المحرم ثلاث شعرات أراق لهن دما فإذا كانت شعرة أو اثنتين كان فيهما قبضة من طعام والأظفار كالشعر في ذلك وأولى فيها الروايات الثلاث

قال في رواية مهنا في محرم قص أربعة أصابع من يده فعليه دم

قال عطاء في شعرة مد وفي شعرتان مدان وفي ثلاث شعرات فصاعدا دم والأظفار أكثر من ثلاث شعرات

ولو قطعها في أوقات متفرقة وكفر عن الأول فلا كلام وإن لم يكفر ضم بعضها إلى بعض ووجب فيها ما يجب فيها لو قطعها في وقت واحد فيجب الدم في الثلاث أو الأربع أو الخمس وأما ما لا يوجب الدم ففيه روايتان منصوصتان ورواية مخرجة

إحداهن في كل شعرة وظفر مد قال في رواية أبي داود إذا نتف شعرة أطعم مدا وهذا اختيار عامة أصحابنا الخرقى وأبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأصحابه وغيرهم

والثانية قبضة من طعام قال في رواية حنبل إذا كانت شعرة أو اثنتين كان فيهما قبضة من طعام ثم من أصحابنا من يقول في كل شعرة قبضة من طعام وظاهر كلامه أن في الشعرتين قبضة من طعام

والثالثة خرجها القاضي ومن بعده من قوله فيمن ترك ليلة من ليالي منى أنه يتصدق بدرهم أو نصف درهم وكذلك خرجوا في ترك ليلة من ليالي منى وحصاة من حصى الجمار ما في حلق شعرة وظفر فجعلوا الجميع بابا واحدا قالوا لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يتعلق وجوب الدم بجميعه ويتعلق ببعضه وجوب الصدقة

ووجه الأول أن أقل ما يتقدر بالشرع من الصدقات طعام مسكين وطعام المسكين مد فعلى هذا يخير بين مد بر أو نصف تمر أو شعير وظاهر كلامه هنا أنه يجزئه من الأصناف كلها مد فإن أحب أن يصوم يوما أو يخرج ثلث شاة

وإن قطع بعض شعرة أو ظفر ففيه ما في جميعها في المشهور وفيه وجه أنه يجب بالحساب

مسألة وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء فيه

وذلك لما روي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا للمحرم أن ينزع ضرسه إذا اشتكى ولا يرى بأسا أن يقطع المحرم ظفره إذا انكسر وعن عكرمة أنه سئل عن المحرم إذا انكسر ظفره يقلمه فإن ابن عباس كان يقول إن الله لا يعبأ بأذاكم شيئا رواهما سعيد

ولأن الظفر إذا انكسر

فعلى هذا قال أبو الخطاب يقص منه ما انكسر وقال ابن أبي موسى إن انكسر ظفره فقصه فلا فدية عليه وبه قال ابن عباس ولا بد أن يكون الانكسار بغير فعل منه

وأما الشعر إذا خرج في عينه وآلمه فإنه هو الذي إعتدى عليه وأما إذا نزل على عينيه شعر خاصة رأسه فإنه يقص منه ما نزل على عينيه

فصل

ولا بأس أن يحلق المحرم رأس الحلال ويقلم أظفاره ولا فدية عليه وليس لحلال ولا حرام أن يحلق رأس محرم أو يقلم أظفاره فإن فعل ذلك فأذن المحلوق فالفدية عليه دون الحالق وإن فعل ذلك الحلال بالمحرم وهو نائم أو أكرهه عليه فقرار الفدية على الحالق وهل تجب على المحرم ثم يرجع بها عليه على وجهين سيأتي ذكرهما

مسألة الثالث لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه

في هذا الكلام فصلان

أحدهما الفصل الأول أن المحرم يحرم عليه أن يلبس على بدنه المخيط المصنوع على قدر العضو مثل القميص والفروج والقباء والجبة والسراويل والتبان والخف والبرنس ونحو ذلك وكذلك لو وضع على مقدار العضو بغير خياطة مثل أن ينسج نسجا أو يلصق بلصوق أو يربط بخيوط أو يخلل بخلال أو يزر ونحو ذلك مما يوصل به الثوب المقطع حتى يصير كالمخيط فإن حكمه حكم المخيط وإنما يقول الفقهاء المخيط بناء على الغالب

فأما إن خيط أو وصل لا ليحيط بالعضو ويكون على قدره مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك فلا بأس به فإن مناط الحكم هو اللباس المصنوع على قدر الأعضاء وهو اللباس المخيط بالأعضاء واللباس المعاد

والأصل في ذلك ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال سئل النبي ما يلبس المحرم قال لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوب مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين متفق عليه ورواه أحمد ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رجلا نادى يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب فقال لا يلبس السراويل ولا القميص ولا البرنس ولا العمامة ولا ثوبا مسه زغفران ولا ورس وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين

وفي رواية صحيحة لأحمد والنسائي عن نافع عن أبن عمر أن رجلا سأل رسول الله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا قال لا تلبسوا القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس ولا الخفاف إلا أن يكون رجل ليست له نعلان فليلبس الخفين ويجعلهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس

وفي رواية لأحمد عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس إذا أحرموا عما يكره لهم لا تلبسوا العمائم ولا القمص ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفين إلا أن يضطر مضطر فيقطعهما أسفل من الكعبين ولا ثوبا مسه الورس ولا الزعفران قال وسمعته ينهى النساء عن القفاز والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب ورواه أبو داود أيضا بهذا الإسناد عن ابن عمر قال سمعت النبي ينهى النساء في الإحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويلا أو قميصا قال أبو داود وقد رواه من حديث أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق روى هذا الحديث عن ابن إسحاق عبدة ومحمد بن مسلمة عن ابن إسحاق إلى قوله وما مس الورس والزعفران من الثياب لم يذكرا ما بعده

قلت وكذلك رواه أحمد عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون عن ابن اسحق وقد قيل إنه ليس فيه ذكر سماع ابن اسحق عن نافع وإنما هو معنعن أو قال نافع

وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود والنسائي والترمذي من حديث نافع عن ابن عمر قال قام رجل فقال يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام فقال النبي لا تلبس القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرنس ولا الخف إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطعها أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران والورس ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين قال الترمذي هذا حديث صحيح قال أبو داود وقد روي هذا الحديث حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عن موسى بن عقبة عن نافع على ما قال الليث يعني مرفوعا ورواه موسى بن طارق موقوفا على ابن عمر وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب موقوفا وإبراهيم بن سعيد المديني عن نافع عن ابن عمر عن النبي المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين وابراهيم بن سعيد شيخ من أهل المدينة ليس له كثير حديث

وعن ابن إسحاق قال ذكرت لابن شهاب قال حدثني سالم أن عبد الله ابن عمر كان يصنع يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله رخص للنساء في الخفين فترك ذلك رواه أحمد وأبو داود وفي رواية لأحمد ولا تلبس ثوبا مسه الورس والزعفران إلا أن يكون غسيلا رواه عن أبي معاوية ثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر

وفي رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال نهى رسول الله أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بزعفران أو ورس

فنهى رسول الله عن خمسة أنواع من اللباس تشمل جميع ما يحرم فإنه قد أوتى جوامع الكلم وذلك أن اللباس إما أن يصنع فقط فهو القميص وما في معناه من الجبة والفروج ونحوهما أو للرأس فقط وهو العمامة وما في معناه أولهما وهو البرنس وما في معناه أو للفخذين والساق وهو السراويل وما في معناه من تبان ونحوه أو للرجلين وهو الخف ونحوه وهذا مما أجمع المسلمون عليه

الفصل الثاني إذا لم يجد ازارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه بل يلبسه على حاله وإذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين وليس عليه أن يقطعهما ولا فدية عليه هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة المواضع في رواية أبي طالب ومهنا واسحق وبكر بن محمد وعليه أصحابه وروى عنه أن عليه أن يقطعهما قال في رواية حنبل الزهري عن سالم عن ابن عمر وذكر الحديث إلى قوله وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وظاهره أنه أخذ به

وقد حكى ابن أبي موسى وغيره الروايتين إحداهما عليه أن يقطعهما أسفل من الكعبين فإن لم يقطعهما فعليه دم لأن ذلك في حديث ابن عمر وهو مقيد فيقضى به على غيره من الأحاديث المطلقة فإن الحكم واحد والسبب واحد وفي مثل هذا يجب حمل المطلق على المقيد وفاقا ثم هذه زيادة حفظها ابن عمر ولم يحفظها غيره وإذا كان في أحد الحديثين زيادة وجب العمل به

ووجه الأول ما روى ابن عباس قال سمعت رسول الله يخطب بعرفات من لم يجد أزارا فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين وفي لفظ السراويل لمن لم يجد الأزار والخفاف لمن لم يجد النعلين متفق عليه قال مسلم لم يذكر أحد منهم يخطب بعرفان غير شعبة وحده

وفي رواية صحيحة لأحمد قال من لم يجد أزارا ووجد سراويل فليلبسه ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما قلت ولم يقل ليقطعهما قال لا

وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد أزارا فليلبس سراويل رواه أحمد ومسلم

وعن بكر بن عبد الله أن رسول الله صلى صلاة فلما انصرف لبى ولبى القوم وفي القوم رجل أعرابي عليه سراويل فلبى معهم كما لبوا فقال رسول الله السراويل أزار من لا أزار له والخفاف نعلان لم لا نعل له رواه النجاد وهو مرسل

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عبد الرحمن بن عوف يطوف وعليه خفان قال له عمر تطوف وعليك خفان فقال لقد لبسهما من هو خير منك يعني رسول الله رواه أبو حفص في شرحه ورواه النجاد ولفظه فرأى عليه خفين وهو محرم

فقد أمر النبي بلبس الخفين عند عدم النعلين والسراويل عند عدم الأزار ولم يأمر بتغييرهما ولم يتعرض لفدية والناس محتاجون إلى البيان لأنه كان بعرفات وقد اجتمع عليه خلق عظيم ولا يحصيهم إلا الله يتعلمون وبه يقتدون وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

فلو وجب تغييرهما أوجبت فيهما فدية لوجب بيان ذلك لا سيما ومن جهل جواز لبس الازار والخفين فهو يوجب الفدية أو التغيير وأجهل ألا ترى أن الله سبحانه ورسوله حيث أباح شيئا لعذر فإنه يذكر الفدية كقوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقول النبي لكعب بن عجرة إحلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة أو انسك شاة

وأيضا فإن اللام في السراويل والخف لتعريف ما هو معهود ومعروف عند المخاطبين وذلك هو السراويل الصحيح والخف الصحيح فيجب أن يكون هو مقصود المتكلم وأن يحمل كلامه عليه

وأيضا فإن المفتوق والمقطوع لا يسمى سراويلا وخفا عند الإطلاق ولهذا لا ينصرف الخطاب إليه في لسان الشارع كقوله أمرنا أن لا ننزع خفافنا وقوله امسحوا على الخفين والخمار وغير ذلك ولا في خطاب الناس مثل الوكالات والإيمان وغير ذلك من أنواع الخطاب والنبي أمر بلبس الخفين والسراويل فعلم أنه أراد ما يسمى خفا وسراويل عند الإطلاق

وأيضا فإنه وإن سمى خفا وسراويل فإنه ذكره باللام الذي تقتضي تعريف الحقيقة أو بلفظ التنكير الذي يقتضي مجرد الحقيقة فيقتضي ذلك أن يجوز مسمى الخف والسراويل على أي حال كان كسائر أسماء الأجناس

وأيضا فإن وجود المعبر عن هيئة الخفاف والسراويلات نادر جدا لا يكون إلا بقصد واللفظ العام المطلق لا يجوز أن يحمل على ما يندر وجوده من أفراد الحقيقة فكيف ما يندر وجوده من مجازاته

وأيضا فإنه لو افتقر ذلك إلى تغيير أوجبت فيه فدية لوجب أن يبين مقدار التغيير الذي يبيح لبسه أو مقدار الفدية الواجبة فإن مثل هذا لا يعلم الا بتوقيف

وأيضا فقد رأى على الأعرابي سراويل وأقره على ذلك وبين أن السراويل بمنزلة الأزار عند عدمه والخف بمنزلة النعل عند عدمه ومعلوم أن الأزر والنعل لا فدية فيهما

وأيضا فإنه إنما جوز لبسهما عند عدم الأصل فلو افتقر ذلك إلى تغيير أوجبت فدية لاستوى حكم وجود الأصل وعدمه في عامة المواضع وبيان ذلك أنهما إذا غيرا إن صارا بمنزلة الأزار والنعل فيجوز لبسهما مغيرين مع وجود الأزار والنعل إذ لا فرق بين نعل ونعل وإزار وإزار وهذا مخالف لقوله السراويل لمن لم يجد الأزار والخفاف لمن لم يجد النعلين فجعلهما لمن لم يجد كما في قوله { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وقوله { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وقوله { فمن لم يجد فصيام شهرين } إلى غير ذلك من المواضع ومخالف لقوله من لم يجد ازارا فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومخالف لقوله السراويل أزار من لا أزار له والخفان نعلان من لا نعل له وهذا واضح

وإن لم يصير بالتغيير بمنزلة الأزار والخف فلا فائدة في التغيير بل هو إتلاف بغير فائدة أصلا وإفساد له والله لا يحب الفساد

وأيضا فإن عامة الصحابة وكبراءهم على هذا فروي عن الأسود قال سألت عمر بن الخطاب قلت من أين أحرم قال من ذي الحليفة وقال الخفان نعلان لمن لا نعل له

وعن الحارث عن علي قال السراويل لمن لم يجد الأزار والخفان لمن لم يجد النعلين

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا لم يجد المحرم الأزار فليلبس السراويل وإذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال كنت مع عبد الرحمن بن عوف في سفر ومعنا حاد أو مغن فأتاه عمر في بعض الليل فقال ألا أرى أن يطلع الفجر أذكر الله ثم التفت فرأى عليه خفين وهو محرم قال وخفين فقال قد لبستهما مع من هو خير منك

وعن مولى الحسن بن علي قال رأيت على المسور بن مخرمة خفين وهو محرم فقيل له ما هذا فقال أمرتنا عائشة به

وأما حديث ابن عمر فحديث صحيح وزيادته صحيحة محفوظة وقد زعم القاضي وأصحابه وابن الجوزي وبعض أصحابنا أنه اختلف في إتصاله

فقال أبو داود رواه موسى بن طارق عن موسى بن عقبة موقوفا على ابن عمر قال وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب

قالوا وقد روي فيه القطع وتركه فإن النجاد روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال السراويل لمن لم يجد الازار والخفاف لمن لم يجد النعلين

وهذا غلط فإنه لم يختلف أحد من الحفاظ في اتصاله وأن هذه الزيادة متصلة وإنما تكلم أبو داود في قوله لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين وذكر أن هذه الزيادة من الناس من وقفها ومنهم من رفعها مع أنه قد أخرجها البخاري وهذا بين في سنن أبي داود فمن توهم أن أبا داود عنى زيادة القطع فقد غلط عليه غلطا بينا فاحشا

واعتذر بعضهم عنه بأن عائشة روت عن النبي أنه رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما وكان ابن عمر يفتى بقطعهما قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع

وهذا غلط بين أيضا فإن حديث عائشة إنما هو في المرأة المحرمة لكن هذه الزيادة متروكة في حديث بن عباس وجابر وغيرهما

وليس هذا مما يقال فيه الزيادة من الثقة مقبولة لأن ابن عمر حفظ هذه الزيادة وغيره عقلها وذهل عنها أو نسيها فإن هذين حديثان تكلم النبي بهما في وقتين ومكانين

فحديث ابن عمر تكلم به النبي وهو بالمدينة قبل إن يحرم على منبره لما سأله السائل عما يلبس المحرم من الثياب وقد تقدم أن في بعض طرقه سمعته يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس إذا أحرموا عما يكره لهم وذلك إشارة إلى منبره بالمدينة وفي رواية أن رجلا نادى رسول الله وهو في المسجد رواه الدارقطني

وتقدم في لفظ اخر صحيح أن رجلا سأله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا فعلم أنهم سألوه قبل أن يحرموا

وحديث ابن عباس كان وهو محرم بعرفات كما تقدم وقد بين فيه أنه لم يذكر القطع

قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول في حديث ابن جريج وليث بن سعد وجويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر قال نادى رجل رسول الله في المسجد ما يترك المحرم من الثياب وهذا يدل على أنه قبل الاحرام بالمدينة وحديث شعبة وسعيد بن زيد عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس أنه سمع النبي يخطب بعرفات هذا بعد حديث ابن عمر

فمن زعم أن هذه الزيادة حفظها ابن عمر دون غيره فقد أخطأ قال المروذي احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي قلت وهو زيادة في الخبر فقال هذا حديث وذاك حديث

ويبين ذلك أنهما حديثان متغيرا اللفظ والمعنى في هذا ما ليس في هذا وفي هذا ما ليس في هذا

وإذا كان كذلك فحديث ابن عباس هو الحديث المتأخر فإما أن يبنى على حديث ابن عمر ويقيد به أو يكون ناسخا له ويكون النبي أمرهم أولا بقطعها ثم رخص لهم في لبسها مطلقا من غير قطع وهذا هو الذي يجب حمل الحديثين لوجوه

أحدها أن النبي أمرهم بلبس الخفاف والسراويلات وموجب هذا الكلام هو لبس الخف المعروف ولا يجوز أن يكون ترك ذكر القطع لأنه قد تقدم منه أولا بالمدينة لأن الذين سمعوا ذلك منه بالمدينة كانوا بعض الذين اجتمعوا بعرفات وأكثر أولئك الذين جاؤا بعرفات من النواحي ليسوا من فقهاء الصحابة بل قوم حديثوا عهد بالإسلام وكثير منهم لم ير النبي قبل تلك الأيام وفيهم الأعراب ونحوهم وقد قال لهم في الموسم لتأخذوا عنى مناسككم فكيف يجوز أن يأمرهم بلبس الخفاف والسراويلات ومراده الخف المقطوع والسراويلات المفتوقة من غير أن يكون هناك قرينة مقالية ولا حالية تدل على ذلك بل القرائن تقضي بخلاف ذلك بناء على أنه أمر بالقطع لناس غيرهم هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله فإن ذلك تلبيس وتأخير للبيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز عليه وما هذا إلا بمثابة أن يقول رجل لخياط خط لي قميصا أو خفا فيخيط له صحيحا فيقول إنما أردت قميصا نفيرا أو خفا مقطوعا لأني قد أمرت بذلك للخياط الآخر فيقول وإذا أمرت ذاك ولم تأمرني أفأعلم الغيب بل أمره بلبس الخف والسراويل وسكوته عن تغييرهما يدل أصحابه الذين سمعوا الحديث الأول أنه أراد لبسهما على الوجه المعروف وأنه لو أراد تغييرهما لذكره كما ذكره أولا كما فهموا ذلك منه على ما تقدم

ويوضح ذلك أنه لو كان مكتفيا بالحديث الأول لاكتفى به في أصل الأمر بلبس الخف لمن لم يجد النعل ولم يعده ثانيا فإذا لم يستغن عن أصل الأمر فكيف يستغنى عن صفته ويتركه ملبسا مدلسا وقد كان الإعراض عن ذكر أصله وصفته أولى في البيان لو كان حاصلا بالحديث الأول من ذكر لفظ يفهم خلاف المراد

الثاني أن حديث ابن عمر نهي النبي فيه وهم بالمدينة قبل الاحرام عن لبس السراويل مطلقا كما نهى عن لبس العمامة والقميص ولم يأذن في لبسه بحال ونهى عن لبس الخف إلا إذا عدم النعل فيلبس مقطوعا ففهم ابن عمر منه الأمر بالقطع للرجال والنساء لعموم الخطاب لهما كما عمهم النهي عن لبس ثوب مسه ورس أو زعفران وإن لم يعمهم النهي عن لبس ثوب القميص والبرانس والسراويلات فإن المرأة محتاجة إلى ستر بدنها ورأسها فكان ذلك قرينة عند ابن عمر تعلمه أنها لم تدخل في النهي عن ذلك وليس بها حاجة إلى الخف الصحيح فجوز أن تنهى عن لبس ما يصنع لرجلها كما نهيت عن القفاز والنقاب فلو ترك الناس وهذا الحديث لم يجز لأحد لبس السراويل إلا أن يفتقه أو يفتدى بلبسه صحيحا وكان معناه أن عدم الأزار والنعل لا يبيح غيره إلا أن يكون قريبا منه وذكر هذا في ضمن ما نهى عنه من سائر الملابس مثل العمامة والبرنس والقميص والمصبوغ بالورس والزعفران

فمضمون هذا الحديث هو المنهي عنه من اللباس ليجتنبه الناس في إحرامهم وكان قطع الخف إذ ذاك مأمور به وإن أفسده إتباعا لأمر الله ورسوله حيث لا رخصة في البدل ثم جاء حديث ابن عباس بعد هذا بعرفة ليس فيه شيء من المنهيات إنما فيه الأمر لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل ولمن لم يجد النعل أن يلبس الخف وترك ذكر بقية الملابس وهذا يبين لذى لب أن هذه رخصة بعد نهى حيث رأى النبي في أيام الاحرام المشقة والضرورة بكثير من الناس إلى السراويلات والخفاف فرخص فيهما بدلا عن الإزار والنعل وأعرض عن ذكر بقية الملابس إذ لا بدل لها لعدم الحاجة إلى البدل منها

فإن بالناس حاجة عامة إلى ستر العورة شرعا وبهم حاجة عامة إلى الاحتذاء طبعا فإن الاحتفاء فيه ضرر عظيم ومشقة شديدة خصوصا على المسافرين في مثل أرض الحجاز واقتطع ذكر الخف والسراويل دون غيره ليبين أنه إنشاء حكم غير الحكم الأول وبيانه وأنه ليس مقصوده إعادة ما كان ذكره بالمدينة إذ لو كان مقصوده بيان أنواع الملابس لذكر ما ذكره بالمدينة فسمع ذلك ابن عباس وجابر وغيرهما وأفتى بمضمونه خيار الصحابة وعامتهم ولم يسمع ابن عمر هذا فبقي يفتي بما سمعه أولا

كما أن حديثه في المواقيت ليس فيه ميقات أهل اليمن لأنه وقت بعد وكما أفتى النساء بالقطع حتى حدثته عائشة أن رسول الله رخص للنساء في الخفاف مطلقا أو أنهن لم يعنين لهذا الخطاب

ولهذا أخذ بحديثه بعض المدنيين في أن السراويل لا يجوز لبسه وأن لابسه للحاجة عليه الفدية حيث لم يأذن النبي فيه ومعلوم أن هذا موجب حديثه فإذا نسخ موجب حديثه في السراويل نسخ موجبه في الخف لأن النبي ذكرهما جميعا وسبيلهما واحد

قال مالك وقد سئل النبي أنه قال من لم يجد إزارا فيلبس سراويل قال مالك لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل لأن رسول الله نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين

فهذا قول من لم يبلغه حديث ابن عباس وقد أحسن فيما فهم مما سمع الثالث أنه لما قال الخفاف لمن لم يجد النعلين والسراويل لمن لم يجد الإزار لو قصد بذلك الخف المقطوع لوجب أن يقصد بذلك السراويل المفتوق لأن المقصود بقطع الخف تشبيهه بالنعل فكذلك السراويل ينبغي أن يشبه بالإزار بل فتق السراويل أولى لوجوه

أحدها أنه مخيط بأكثر مما يحيط به الخف

والثاني أنه ليس في فتقه افساد له بل يمكن اعادته سراويلا بعد انقضاء الاحرام

والثالث أن فتق السراويل يجعله بمنزلة الإزار حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع بخلاف قطع الخف فإنه يقربه إلى النعل ولا يجعله مثله فإذا لم يقصد إلا السراويل المعروف كما تقدم فالخف أولى أن لا يقصد به إلا الخف المعروف وإن جاز أن يدعى أنه إكتفى بما ذكره إلا من القطع جاز أن يدعى أنه إكتفى بالمعنى الذي نبه عليه في الأمر بالقطع وهو تغيير صورته إلى ما يجوز لبسه وذلك مشترك بين الخف والسراويل بل هو بالسراويل أولى فإن تقييد المطلق بالقياس جائز كتقييده بلفظ اخر لكن هذا باطل لما تقدم فالآخر مثله وهذا معنى ما ذكره مهنا لأبي عبد الله وقد حكى له أنه ناظر بعض أصحاب الشافعي في قطع الخفين وأن سبيل السراويل وسبيل الخف واحد فتبسم أبو عبد الله وقال ما أحسن ما احتججت عليه الوجه الرابع أن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان اللفظ صالحا له عند الإطلاق ولغيره فيتبين باللفظ المقيد أنما المراد هو دون غيره مثل قوله { فتحرير رقبة } فإنه اسم مطلق يدخل فيه المؤمنة والكافرة فإذا عنى به المؤمنة جاز لأنها رقبة وزيادة وكذلك صوم ثلاثة أيام يصلح للمتتابعة وللمتفرقة فإذا بين أنها متتابعة جاز

وهنا أمر بلبس الخف والسراويل ومتى قطع الخف حتى صار كالحذاء وفتق السراويل حتى صار إزارا لم يبق يقع عليه اسم خف ولا سراويل ولهذا إذا قيل امسح على الخف ويجوز المسح على الخف وأمرنا أن لا ننزع خفافنا لم يدخل فيه المقطوع والمداس ولا يعرف في الكلام أن المقطوع والمداس ونحوهما يسمى خفا ولهذا في حديث فليلبس وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فسماهما خفين قبل القطع وأمر بقطعهما كما يقال افتق السراويل إزارا واجعل القميص رداء ومعلوم أنه إنما يسمى قميصا وسراويل قبل ذلك فعلم أن المقطوع لا يسمى بعد قطعه خفا أصلا إلا أن يقال خف مقطوع كما يقال قميص مفتوق وهو بعد الفتق ليس بقميص ولا سراويل وكما يقال حيوان ميت وهو بعد الموت ليس بحيوان أصلا فإن حقيقة الحيوان الشيء الذي به حياة وكما يقال لعظام الفرس هذا فرس ميت ويقال لخل الخمر هذا خمر مستحيل ومعلوم أنه ليس خمرا يسمى الشيء باسم ما كان عليه إذا وصف بالصفة التي هو عليها الآن لأن مجموع الاسم والصفة ينبيء عن حقيقته فإذا ذكر الاسم وحده لم يجز أن يراه به إلا معناه الذي هو معناه والنبي أمر هنا بلبس الخف وما تحت الكعب لا يسمى خفا فلا يجوز حمل الكلام عليه فضلا عن تقييده به بخلاف الرقبة المؤمنة والأيام المتتابعات فإنها رقبة وأيام وهذا بين واضح الوجه الخامس أنه لو سمى خفا فإن وجوده نادر فإن الأغلب على الخفاف الصحة وإنما يقطع الخف من له في ذلك غرض والنبي قال السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد النعال فذكر الخفاف بصيغة الجمع معرفة بلام التعريف وهذا يقتضي الشمول والإستغراق فلو أراد بذلك ما يقل وجوده من الخفاف لكان حملا للفظ العام على صور نادرة

وهذا غير جائز أصلا ولهذا أبطل الناس تأويل من تأول قوله أيما إمرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها على المكاتبة فكيف إذا كانت تلك الصور النادرة بعض مجازات اللفظ فإنه أعظم في الإحالة لأن من تكلم بلفظ عام وأراد به ما يقل به وجوده من أفراد ذلك العام ويندر ولا يسمى به إلا على وجه التجوز مع نوع قرينة مع أن الأغلب وجودا واستعمالا غيره لا يكون مبينا بالكلام بل ملغزا وهذا أصل ممهد في موضعه وكذلك رواية من روى من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل فإن الخفين مطلق وتقييد المطلق مثل تخصيص العام فلا يجوز أن يقيد بصورة نادرة الوجود ولا يقع عليه الاسم إلا مجازا بعيدا وصار مثل أن يقول البس قميصا ويعنى به قميصا بقرت أكمامه وفتقت أوصاله فإن وجود هذا نادر وبتقدير وجوده لا يسمونه قميصا

ولما تفطن جماعة من أهل الفقه لمثل هذا علموا أن أحد الحديثين لا يجوز أن يعني به ما عنى بالاخر لم يكن لهم طريق إلا أن قالوا هما حديث واحد فيه زيادة حفظها بعضهم وأغفلها غيره

وقد بينا أنهما حديثان وبهذا الذي ذكرنا يتبين بطلان ما قد يورد على هذا مثل أن يقال التخصيص والتقييد أولى من النسخ أو أن من أصلنا أن العام يبنى على الخاص والمطلق على المقيد وإن كان العام والمطلق هما المتأخران في المشهور من المذهب فإنما ذاك حيث يجوز أن يكون التخصيص والتقييد واقعا فيكون الخطاب الخاص المقيد يبين مراد المتكلم من الخطاب العام المطلق أما إذا دلنا دليل على أن المراد باللفظ إطلاقه وعمومه أو أن تخصيصه وتقييده لا يجوز أو أن اللفظ ليس موضوعا لتلك الصورة المخصوصة المقيدة أو كان هناك قرينة تبين قصد النسخ والتغيير إلى غير ذلك من الموجبات فإنه يجب المصير إليه وببعض ما ذكرناه صار قوله { وقاتلوا المشركين كافة } ناسخ لقوله { قتال فيه كبير } وقوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ناسخا لقوله { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } فكيف وما ذكرناه بعيد عن المطلق والمقيد

الوجه السادس أن عبد الرحمن لما أنكر عليه عمر الخف قال قد لبسته مع من هو خير منك يعني رسول الله فقد بين أنه لبس الخف مع رسول الله وإنما كان خفا صحيحا وهذا بين

السابع أن أكابر الصحابة مثل عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعائشة وابن عباس رخصوا في لبس الخفين والسراويلات وترك قطعهما ومعلوم أن النبي قد نهى المحرم عن لبس الخفاف والسرويلات نهيا عاما قد علم ذلك كل أحد فترخيصهم لمن لم يجد الإزار والنعل أن يلبس السراويل والخف لا يجوز أن يكون بإجتهاد بل لا بد أن يكون عن علم عندهم بالسنة ثم ابن عمر أمر بالقطع وغيره لم يأمر به بل جوز لبس الصحيح ومعلوم أن ابن عمر أعتبر سماعه بالمدينة فلو لم يكن عند الباقين علم ناسخ ينسخ ذلك ومجيء الرخصة في بعض ما قد كان حظر لم يحلوا الحرام فإن القياس لا يقتضي

الثامن أن من أصحابنا من حمل حديث ابن عمر على جواز القطع كما سيأتي ويكون فائدة التخصيص أن قطعهما في غير الاحرام ينهى عنه بخلاف حال الإحرام فإن فيه فائدة وهو التشبيه بفعل المحرم ويقوى ذلك أن القطع كان محظورا لأنه إضاعة للمال والنبي نهى عن إضاعة المال وصيغة إفعل إذا وردت بعد حظر إنما تفيد مجرد الإذن والإباحة وهذا الجواب فيه نظر

فعلى هذا هل يستحب قطعهما قال بعض أصحابنا يستحب لأن فيه إحتياطا وخروجا من الخلاف

وقال القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب في حديث ابن عمر يحمل قوله وليقطعهما على الجواز ويكون فائدة التخصيص أنه يكره قطعهما لغير الإحرام لما فيه من الفساد ولا يكره لإحرام لما فيه من التشبيه بالنعلين التي هما شعار الاحرام

وقال أحمد في رواية مهنا ويلبس الخفين ولا يقطعهما حديث ابن عباس لا يقول فيه يقطعهما هشيم عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال سمعت رسول الله يخطب إذا لم يجد المحرم نعلين فليلبس الخفين وذكر حديث ابن عباس قال وقد رواه جابر عن النبي أبو الزبير عن جابر وقد كره القطع عطاء وعكرمة فقالوا القطع فساد

وقال في رواية أبي طالب ويروى عن علي بن أبي طالب قطع الخفين فساد يلبسهما كما هما

ولو كان عليه كفارة في لبسهما ما كان رخصة وهذا الكلام يقتضي كراهة قطع الخف وهذا أصح لأن الأمر بقطعهما منسوخ كما تقدم وقد اطلعوا على ما خفي على غيرهم

فإن قيل فهلا أوجبتم الفدية مع اللبس لأن أكثر ما فيه أنه قد لبس السراويل والخف لحاجة والمحرم إذا استباح شيئا من المحظورات لحاجة فلا بد له من الفدية كما لو لبس القميص أو العمامة لبرد أو حر أو مرض

قلنا لو خيل إلينا أن هذا قياس صحيح لوجب تركه لأن الذي أوجب في حلق الرأس ونحوه للحاجة الفدية هو الذي أباح لبس السراويل والخف بغير فدية حيث أباح ذلك ولو أوجب الفدية لما أمر بقطعة أولا وسما من غير فديه كما تقدم تقريره فإذا قسنا أحدهما بالآخر كان ذلك بمنزلة قياس البيع على الربا فإنه لا يجوز الجمع بين ما فرق الله بينه فكيف وقد تبين لنا أنه قياس فاسد وذلك أن ترك واجبات الحج وفعل محظوراته يوجب الفدية إذا فعلت لعذر خاص يكون ببعض الناس بعض الأوقات

فأما ما رخص فيه للحاجة العامة وهو ما يحتاج إليه في كل وقت غالبا فإنه لا فديه معه ولهذا رخص للرعاة والسقاة في ترك المبيت بمنى من غير كفارة لأنهم يحتاجون إلى ذلك كل عام ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع من غير كفارة لأن الحيض أمر معتاد غالب فكيف بما يحتاج إليه الناس وهو الاحتذاء والاستتار فإنه لما احتاج إليه كل الناس لما في تركهما من الضرر شرعا وعرفا وطبعا لم يحتج هذا المباح إلى فدية لا سيما وكثيرا ما يعدل إلى السراويل والخف للفقر حيث لا يجد ثمن نعل وإزار فالفقر أولى بالرخصة كما قال النبي لما سئل عن الصلاة في ثوب واحد قال أولكلكم ثوبان

فإ قيل فهو يحتاج إلى ستر منكبيه أيضا للصلاة فينبغي إذا لم يجد إزارا أن يلبس القميص

قلنا يمكنه أن يتشح بالقميص كهيئة الرداء من غير تغيير لصورته وذلك يغنيه عن لبسه على الوجه المعتاد

فصل

ومعنى كونه لا يجده أن لا يباع أو يجده يباع وليس معه ثمن فاضل عن حوائجه الأصلية كما قلنا في سائر الإبدال في الطهارة والكفارات وغير ذلك بحيث لا يجب عليه قبوله هبة ويقدم على ثمنه قضاء دينه ونفقة طريقه ونحو ذلك فإن بذل له عارية فينبغي أن لا يلزمه قبوله وإن أوجبنا عليه قبوله إعارة السترة في الصلاة فإن لبس النعل والإزار مدة الاحرام تؤثر فيه وتبليه ومثل ذلك لا يخلوا عن منة بخلاف لبس الثوب مقدار الصلاة فإن غلب على ظنه أنه يجده بالثمن عند الاحرام لم يلزمه حمله فإن وجده وإلا انتقل إلى البدل وإن غلب على ظنه أنه لا يجده فهل عليه اشتراؤه من مكان قريب وبعيد وحمله إذا لم يشق

فإن فرط في ذلك

وأما العبد إذا كان سيده يقدر أن يلبسه إزارا ونعلا فهل يلزمه ذلك على روايتين إحداهما لا يلزمه ذلك كالحر الفقير لأنه لا مال له قال في رواية الميموني في حديث عائشة وأنها كانت تلبس مماليكها التبابين علله بأنهم مماليك

والثانية يلزمه ذلك قاله في رواية الأثرم

ومثل هذا إذا تمتع بإذنه هل يلزمه دم التمتع فيه وجهان

فأما إن أحرم بدون إذن السيد ولم يحلله أو لم نمكنه من تحليله فلا يلزمه لباسه بلا تردد كالدماء التي تجب بفعل العبد لا يلزم السيد منها شيء

فإن وجده ولم يمكنه لبسه فقد قال أحمد في رواية أبي داود فيمن لبس الخف وهو يجد النعل إلا أنه لا يمكنه لبسهما يلبسه ويفتدى وهذا لأن النبي إنما رخص في لبسهما لمن لم يجد فإذا وجد انتفت هذه الرخصة وبقيت الرخصة للعذر وتلك لا بد فيهما من فدية

وقال وهذا نوعان أن يضيق عن رجله بحيث لا يدخل في قدمه أو لصغره أو يكون الإزار ضيقا لا يستر عورته ونحو هذا فهذا بمنزلة من وجد ماء لا يتوضأ به أو رقبة لا يصح عتقها هو كالعادم وكلام أحمد ليس هذا

الثاني أن يسع قدمه لكن لا يمكنه لبسها لمرض في قدمه أو لم يعتد المشي فيها فإذا مشى تعثر وانقطعت ونحو ذلك أو يصيب أصابعه شوك أو حصى أو لا يقدر أن يشرع في السير فيخاف فوات الرفقة أو يكون عليه عمل لا يمكنه أن يعمله ووجه ما روى عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة أنها حجت ومعها غلمان لها فكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء فتأمرهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون

وفي رواية عن القاسم قال رأيت عائشة لا ترى على المحرم بأسا أن يلبس التبان وعن عطاء أنه كان يرخص للمحرم في الخف في الدلجة وهذا يقتضي أنه إذا احتاج إلى السراويل والتبان ونحوهما للستر لكونه لا يستره الإزار أو إحتاج إلى الخف ونحوه لكونه لا يستطيع المشي في النعل لا فدية عليه

فصل

وأما المقطوع دون الخف والجمجم والمداس ونحو ذلك مما يصنع على مقدار القدم فالمشهور في المذهب أن حكمه حكم الخف لا يجوز إلا عند عدم الخف وهو المنصوص عنه قال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن لبس الخفين دون الكعبين فقال يلبسه ما لم يقدر على النعلين إذا اضطر إلى لبسهما

وقال في رواية الأثرم لا يلبس نعلا لها قيد وهو السير يجعل في الزمام معترضا فقيل له فالخف المقطوع قال هذا أشد وقال في رواية المروذي أكره المحمل الذي على النعل والعقب وكان عطاء يقول فيه دم

فإذا منع من أن يجعل على النعل سيرا فأن يمنع من الجمجم ونحوه أولى

وسواء نصب عقبه أو طواه فإن عقبه فإن لبسه فذكر القاضي والشريف وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم أنه يفدي لأن أحمد منع منه وممنوعات الاحرام فيها الفدية ولأنه قد نقل عنه أن في النعال المكلفة والمعقبة الفدية فهذا أولى وقد حكى قول عطاء كالمفتي به

وذكر القاضي في المجرد وابن عقيل في بعض المواضع من الفصول أنه ليس له لباس المقطوعين وأنه يكره النعال المكلفة ونحو ذلك قال ولا فدية في ذلك قال لأنه أخف حكما من الخف المقطوع وقد أباح النبي لبسه وسقطت الفدية فيه

وذكر القاضي وابن عقيل في موضع من خلافهما أنه إذا قطع الخفين جاز لبسهما وإن وجد النعلين لأن النبي جوز لبسهما بعد القطع في حديث ابن عمر فلولا أن قطعهما يخرجهما عن المنع لم يكن في القطع فائدة وإنما ذكر جواز لبسهما مقطوعين لمن لم يجد النعل لأنه إذا وجد النعل لم يجز له أن يقطع الخف ويفسده وإن كان لبس المقطوع جائزا فإذا عدم النعل صار مضطرا إلى قطعها ويؤيد هذا أنه قد تقدم أن النبي لم يرخص في حديث ابن عمر في لبس السراويل ولا الخف وإنما رخص بعد عرفات فعلم أن قوله فليلبس الخفين ويقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين بيان لما يجوز لبسه ويخرج به عن حد الخف الممنوع ويصير بمنزلة النعل المباح وإلا لم يكن فرق بين لبسهما مقطوعين وصحيحين وجعل ذلك لمن لم يجد النعل لما تقدم ثم إنه رخص بعد ذلك في لبس الخف والسراويل للعادم فبقى المقطوع كالسراويل المفتوق يجوز لبسه بكل حال

وأيضا فإن النبي إنما نهى المحرم عن الخف كما رخص في المسح على الخف والمقطوع وما أشبه من الجمجم والحذاء ونحوهما ليس بخف ولا في معنى الخف فلا يدخل في المنع كما لم يدخل في المسح لا سيما ونهيه عن الخف إذن فيما سواه لأنه سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس كذا فحصر المحرم فما لم يذكره فهو مباح

وأيضا فإنه إما أن يلحق بالخف أو بالنعل وهو بالنعل أشبه فإنه لا يجوز المسح عليه كالنعل

وأيضا فإن القدم عضو يحتاج إلى لبس فلا بد أن يباح ما تدعو إليه الحاجة وكثير من الناس لا يتمكن من المشي في النعل فلا بد أن يرخص لهم فيما يشبهه من الجمجم والمداس ونحوهما وهو في ذلك بخلاف اليد فإنها لا تستر بالقفاز ونحوه لعدم الحاجة

ووجه الأول قوله في حديث ابن عمر ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وفي لفظ صحيح إلا أن يضطر يقطعه من عند الكعبين وفي رواية إلا أن يضطر مضطر فيقطعها أسفل من الكعبين وفي روايات متعددة ولا الخفين إلا أحد لا يجد نعلين فليلبسهما أسفل من الكعبين فلم يرخص في لبس المقطوع إلا لعادم النعل وعلقه باضطراره إلى ذلك وهذا صريح في نهيه عنه إذا لم يضطر وإذا كان واجدا وليس بمفهوم قالوا وإنما أمر أولا بالقطع ليقارب النعل لا ليصير مثله من كل وجه إذ لو كان مثله من كل وجه لم ينه عنه إلا في الضرورة ثم إنه نسخ ذلك كما تقدم ويؤيد ذلك أنه قال في حديث ابن عمر وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فلما كانت الأعضاء التي يحتاج إلى سترها ثلاثة ذكر لكل واحد نوعا غير مخيط على قدره والأمر بالشيء نهى عن ضده فعلم أنه لا يجز الاحرام إلا في ذلك ولأنه مخيط مصنوع على قدر العضو فمنع منه المحرم كالمخيط لجميع الأعضاء والحاجة إنما تدعو إلى شيء يقيه مس قدمه الأرض وذلك يحصل بالنعل لما لم يثبت بنفسه رخصة له في سيور تمسكه كما يرخص في عقد الإزار لما لم يثبت إلا بالعقد

فأما ستر جوانب قدمه وظهرها وعقيبته فلا حاجة إليه فلبس ما صنع لستره ترفه ودخول في لباس العادة كلبس القفاز والسراويل ولأن نسبة الجمجم ونحوه إلى النعل كنسبة السراويل إلى الإزار فإن السراويل

فعلى هذا قال أحمد في رواية الأثرم لا يلبس نعلا لها قيد وهو السير في الزمام معترضا فقيل له فالخف المقطوع فقال هذا أشد وقال حرب سئل أحمد عن النعل يوضع عليها شراك بالعرض على ظهر القدم كما يفعله المحرس يلبسه المحرم فكرهه وقال في رواية المروذي أكره المحمل والعقب الذي يجعل للنعل وكان عطاء يقول فيه دم والقيد والمحمل واحد

قال القاضي وغيره هي النعال المكلفات واختلف أصحابنا فمنهم من حمله على التحريم بكل حال على عموم كلامه قال ابن أبي موسى ويزيل ما على نعله من قيد أو عقب فإن لم يفعل فعليه دم وقد روى عن أحمد في القيد في النعل يفتدي لأنا لا نعرف النعال هكذا

ومعنى القيد سير ثان على ظهر القدم والعقب الذي يكون في مؤخر القدم وهذا لأن القدر الذي يحتاج إليه النعل من السيور الزمام لأنه يمنع النعل من التقدم والتأخر والشراك فإنه إذا عقده إمتنع من أن ينتحي يمينا وشمالا فأما سير ثان على ظهر القدم مع الشراك أو عقب بازاء الزمام فلا حاجة إليه ولأنه ستر ظهر القدم وجانبه بما صنع له مما لا حاجة إليه فهو كما لو ستره بظهر قدم الجمجم وعقبه وهذا لأن الظهر والعقب يصير بهما بمنزلة المداس ويصير القدم في مثل الخف فأشبه ما لو صنع قميصا مشبكا أو لبس خفا مخرقا فإنه بمنزلة القميص والخف السليمين

ولأن النبي أباح النعال وأذن فيها فخرج كلامه على النعال التي يعرفونها والقيد والعقب محدثان يصير بهما النعل شبيها بالحذاء كالرداء إذا زرره أو خلله فإنه يصير كالبقير من القمصان وهذا القول مقتضي كلامه وهو أقيس على قول من يمنع المحرم من الجمجم وهو أتبع للأثر وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إنما كره ذلك إذا كان العقب والقيد عريضا يستر بعض الرجل قالوا ولا فدية في ذلك قالوا لأنه أخف حكما من الخف المقطوع وقد أباح النبي لبسه وسقطت الفدية فيه وتخصيصهم الكلام بالعريضة ليس في كلام أحمد تعرض له فإن الرقيق أيضا يستر بحسبه ولا حاجة إليه

وأما إسقاط الفدية فيحتمله كلام أحمد حيث نطق بالكراهة وحكى عن عطاء إن فيه دما ولم يجزم به

فأما إذا طوى وجه الجمجم وعقبه وشد رجله بخيط أو سير ونحوه أو قيد النعل وعقبها ووضع قدمه عليه أو كان الخف له سفل ولا ظهر له فأما أن لحقه ظهر قدم ولا سفل له

فصل

ولا فرق بين أن يكون اللباس الممنوع من قطن أو جلود أو ورق ولا فرق في توصيله على قدر البدن بين أن يكون بخيوط أو أخله أو إبر أو لصوق أو عقد أو غير ذلك فإن كل ما عمل على هيئة المخيط فله حكمه فلو شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز لأنه كالسراويل وما على الساقين كالبالكتين

فصل

فأما القباء والدواج والفرجية ونحو ذلك فإنه لا يدخل منكبيه فيه بل ينكسه إن شاء أو يرتدي به هذا هو المنصوص عنه في رواية حرب لا يلبس الدواج ولا شيئا يدخل منكبيه فيه وفي رواية ابن إبراهيم إذا لبس القباء لا يدخل عاتقه فيه

وقال الخرقي وإن طرح على كتفيه القباء أو الدواج فلا يدخل يديه في كمية وقال ابن أبي موسى لا يلبس القباء والدواج فإن إضطر إلى طرح الدواج على كتفيه لم يدخل يديه في الكمين

وقد روي عنه رواية أخرى أنه قال لا يلبس المحرم الدواج ولا شيئا يدخل منكبيه فيه فحكى في المضطر إلى لبسه روايتين وذلك لأنه لم يشتمل على يديه على الوجه المعتاد وهو محتاج في حفظه إلى تكلف فأشبه الإرتداء بالقميص

ومن فرق بين الضرورة وغيرها قال إن المنكبين يحتاج إلى سترهما في الجملة فإذا اضطر إلى ذلك كان بمنزلة المضطر إلى السراويل والنعل والأول هو المعروف من نصه هو الذي عليه أكثر أصحابنا القاضي وأصحابه لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه قال من اضطر إلى لبس القباء وهو محرم ولم يكن له غيره فلينكس القباء وليلبسه رواه النجاد

ولأنه ليس محنا على وجه قد يلبس مثله في العادة فأشبه إذا أدخل كفيه في الكمين ولم يزره

مسألة الرابع تغطية الرأس والأذنان منه

وجملة ذلك أن تغطية الرأس على المحرم حرام بإجماع المسلمين والأصل في ذلك قول الرسول ولا يلبس العمامة ولا البرنس وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تخمرو رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامه ملبيا متفق عليه فمنع من تخمير رأسه بعد الموت لبقاء الاحرام عليه فعلم أن من حكم المحرم أن لا يخمر رأسه وهذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف وقد روي عن الحسن بن محمد قال أبصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما بعرفه عليهم القمص والعمائم فأمر أن تعاد عليهم الجزية

وعن عون قال أبصر عمر بن الخطاب قوما بعرفة عليهم القمص والعمائم فقال إن علموا فعاقبوهم وإن كانوا جهالا فعلموهم

والأذنان من الرأس لما تقدم في الطهارة وعليه أن يكشف من حدود الوجه والسالفة ما لا ينكشف الرأس إلا به

فأما الوجه ففيه ثلاث روايات إحداهن له أن يغطي وجهه قال في رواية أبي داود يغطي وجهه وحاجبيه وسئل في رواية حنبل عن المحرم يغطي وجهه قال لا بأس بذلك

وقال أيضا في رواية ابن مشيش في محرم مات يغطى وجهه ولا يغطى رأسه وقال مهنا سألت أحمد عن المحرم يموت هل يغطى وجهه قال قد اختلفوا فيه عن ابن عباس عن النبي فقال بعضهم لا يغطى رأسه قلت أيهما أعجب إليك يغطى وجه المحرم إذا مات أو لا يغطى قال أما الرأس فلا أراى أن يغطوه وأما الوجه فأرجو أن لا يكون به بأس وقال أبو الحارث قلت له تذهب إلى أن يخمر وجهه ويكشف رأسه قال نعم على ما جاء عن ابن عباس عن النبي وهو أصح من غيره وهو إختيار القاضي وأصحابه قال الخلال لعل أبا عبد الله صوب القول قديما فذهب إلى ما حكاه إسماعيل بن سعيد ثم ذهب بعد ذلك إلى ما روى مهنا والجميع عنه أنه لا يخمر رأسه ويخمر وجهه

والثانية لا يغطى وجهه قال في رواية ابن منصور وإسماعيل بن سعيد الشالنجي والمحرم يموت لا يغطى رأسه ولا وجهه وذلك لما روى ابن عباس أن رجلا أوقصته راحلته وهو محرم فمات فقال رسول الله إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامه ملبيا رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود والترمذي

وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال إذا مات المحرم لم يغط وجهه حتى يلقى الله محرما رواه أحمد في رواية ابنه عبد الله

والثالثة قال في رواية أبي طالب يخمر أسفل من الأنف وضع يديه على فمه دون أنفه يغطيه من الغبار وفي لفظ قال إحرام الرجل في رأسه ووجه ولا يغطى رأسه ومن نام فوجد رأسه مغطى فلا بأس والأذنان من الرأس يخمر أسفل من الأذنين وأسفل الأنف والنبي قال لا تخمروا رأسه فأذهب إلى قول النبي قال وإحرام المرأة في وجهها لا تنتقب ولا تتبرقع وتسدل الثوب على رأسها من فوق وتلبس من خزها وقزها ومعصفرها وحليها في إحرامها مثل قول عائشة وذلك لأن حد الرأس الأذنان والسالفة فيكشف ما يحاذيه من الأنف وما علاه وما دون ذلك فيغطيه إن شاء لأنه خارج عن حد الرأس

وسواء غطى الرأس بما صنع على قدره من عمامة وقلنسوة وكلته ونحو ذلك أو بغير ذلك مثل خرقة أو عصابة أو ورقة أو خرقة فيها دواء أو ليس فيها دواء وكذلك إن خضب رأسه بحناء أو طينه إلا أن يحتاج إلى شيء من ذلك فيفعله ويفتدي

وسواء كان الغطاء غليظا أو رقيقا فأما

وأيضا ما روي عن الفرافصة قال رأيت عثمان وزيدا وابن الزبير يغطون وجوههم وهم محرمون إلى قصاص الشعر

وعن عائشة بن سعد قالت كان أبي يأمر الرجال أن يخمروا وجوههم وهم حرم وينهى النساء

وعن أبي الزبير عن جابر قال ليغشى وجهه بثوبه وأهوى إلى شعر رأسه وأشار أبو الزبير بثوبه إلى رأسه

وعن عطاء عن ابن عباس قال المحرم يغطى وجهه ما دون الحاجب

فصل

قال أصحابنا وله أن يحمل فوق رأسه شيئا مثل الكبك والطبق ونحوه وحرره ابن عقيل فقال إذا احتاج لحمل متاع من موضعه إلى غيره فحمله فغطى رأسه لم تجب الفدية لأن الحمل لا يقصد به التغطية بل النقل

وإن تعمد لحمل شيء على رأسه تحيلا للتغطية لم تسقط الفدية وكان مأثوما وهذا مقتضى تعليل بقيتهم أن يفرق بين أن يقصد الحمل فقط أو يقصد مع الحمل التغطية

وعلله القاضي في موضع بأنه لا يستدام في العادة فهو كما لو وضع على رأسه يده

قالوا وله أن يضع يده على رأسه وأن يقلب ذوائبة على رأسه

فصل

وأما إذا غطى رأسه بشيء منفصل عنه فهو أقسام أحدها أن يستظل بسقف في بيت أو سوق أو مسجد أو غير ذلك أو يستظل بخيمة أو فسطاط أو نحوهما أو يستظل بشجرة ونحوها ونحو ذلك فهذا جائز قال أحمد في رواية حنبل لا يستظل على المحمل ويستظل بالفازة والخيمة هي بمنزلة البيت

ونص على أنه لو جلس تحت خيمة أو سقف جاز وليس اجتناب ذلك من البر كما كان أهل الجاهلية يفعلونه لقوله تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى } فروى أحمد ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري قال كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرجون من ذلك فكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعدما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيقتحم الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته حتى بلغنا أن النبي أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته فدخل على أثره رجل من الأنصار من بني سلمة فقال له النبي إني أحمس قال الزهري وكانت الحمس لا يبالون ذلك فقال الأنصاري وأنا أحمس يقول وأنا على دينك فأنزل الله عز وجل { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }

وعن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية فينا كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه وكأنه عير بذلك فنزلت { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } متفق عليه

وفي رواية صحيحة لأحمد عن البراء قال كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها ولم يأتوها من أبوابها فنزلت هذه الآية وروي عن قيس بن جرير قال كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيتا من بابه ولكن من ظهره فبينا النبي في بعض حيطان بنى النجار وكانت الحمس يدخلون البيوت من أبوابها فلما دخل النبي ذلك الحائط من بابه تبعه رجل من الأنصار يقال له رفاعه بن تابوت قالوا يا رسول الله إن رفاعة منافق حيث دخل هذا الحائط من بابه فقال يا رفاعة ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله رأيتك دخلت فدخلت فقال إنك لست مثلي أنا من الحمس وأنت ليس منهم قال يا رسول الله إن كنت من الحمس فإن ديننا واحد فنزلت { بأن تأتوا البيوت من ظهورها } إلى اخر الآية وقد روى جابر في صفة حج النبي أن النبي أمر بقبة من شعر تضرب بنمرة فسار رسول الله حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له رواه مسلم

وكان هو وأصحابه

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال حججت مع عمر بن الخطاب فما رأيته ضرب فسطاطا حتى رجع قال فقلت له كيف كان يصنع قال كان يستظل بالنطع والكساء رواه أحمد

وسواء طال زمان ذلك أو قصر لأن هذا يقصد به جمع الرحل والمتاع دون مجرد الاستظلال

وحقيقة الفرق أن هذا شيء ثابت بنفسه لا يستدام في حال السير والمكث

الثاني المحمل والعمارية والقبة والهودج ونحو ذلك مما يصنع على الإبل وغيرها من المراكب لأجل الإستظلال شفعا كانت أو وترا فهذا إذا كان متجافيا عن رأسه فالمشهور عن أحمد الكراهة وعنه لا بأس به ذكرها ابن أبي موسى لأن المنع من الاستظلال والبروز للسماء إنما كان يعتقده برا أهل الجاهلية كما تقدم عنهم وقد رد الله ذلك كما تقدم

ولأن النبي لما رأى أبا إسرائيل قائما في الشمس سأل عنه فقيل نذر أن يقوم ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم قال مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه رواه البخاري

فبين النبي أن الضحى للشمس مثل الصمت والقيام ليس مشروعا ولا مسنونا ولا بر فيه

وأيضا فليس في المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع فوجب أن يبقى على أصل الإباحة

وأيضا فإنه يجوز له الإستظلال بالخيمة والسقف والشجر وغير ذلك وهذا في معناه ولا يقال هذه الأشياء المقصود بها جمع المتاع فإنه لو دخل البيت لقصد الاستظلال أو نصب له خيمة لمجرد الاستظلال جاز بلا تردد وقد احتجوا على ذلك بما روت أم الحصين قالت حججنا مع رسول الله حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي والآخر رافع ثوبه من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم وأبو داود والنسائي وعنده أن الآخذ بالخطام بلال والمظلل بالثوب أسامة

وفي رواية لأحمد حججنا مع رسول الله حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وأنصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به والاخر رافع ثوبه على رأس رسول الله يظله من الشمس قالت فقال رسول الله قولا كثيرا ثم سمعته يقول إن أمر عليكم عبد مجدع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له واطيعوا

فإن قيل هذا التظليل إن كان يوم النحر ففيه مستدل وإن كان في أحد أيام منى فلا حجة فيه لأن النبي حل من إحرامه يوم النحر وليس فيه بيان أن ذلك كان يوم النحر بل فيه ما يشعر أنه كان في أيام منى لأن الجمرة ترمى أيام منى بعد الزوال حين اشتداد الحر فأما يوم النحر فإن النبي رماها ضحى وليس ذلك الوقت للشمس حر يحتاج إلى تظليل قيل قد روى ابن عمر عن النبي كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا راجعا رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا وراجعا ويخبر أن النبي كان يفعل ذلك ورواه أحمد فقال كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ويخبرهم أن النبي كان يفعل ذلك

ففي هذا ما يدل أن ذلك الرمى كان يوم النحر لأنه كان راكبا وهو لم يفض من جمع حتى كادت الشمس تطلع وما بين أن يفيض إلى أن يجيء إلى جمرة العقبة يصير للشمس مس وحر فإن حجته كانت في ويبين ذلك وقد أخبرت أم حصين أنه خطب عند جمرة العقبة وإنما خطب عند جمرة العقبة يوم النحر وتخصيصها جمرة العقبة دون غيرها دليل على أنه إنما رماها اذ لو كان لكن التظليل والله أعلم إنما كان حين الإنصراف من رميها وحينئذ فقد حل وجاز له الحلاق

ووجه المشهور أن النبي وأصحابه معه وخلفاءه من بعده والتابعين لهم بإحسان إنما حجوا ضاحين بارزين لم يتخذوا محملا ولا قبة ولا ظلة على ظهور الدواب وقد قال النبي لتأخذوا عني مناسككم ولهذا عد السلف هذا بدعة والضحى للمحرم أمر مسنون بلا

وقد روي عن جابر عن النبي أنه قال ما من محرم يضحى لله يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه رواه ابن ماجة

وقد كانوا في أول الإسلام يسرفون في البروز والضحى حتى يمتنع أحدهم من الدخول من الباب مبالغة في الامتناع من تخمير الرأس ثم إن الله سبحانه نهاهم عن الدخول من ظهور البيوت وأمرهم بالدخول من أبوابها ولم يعب عليهم أصل الضحى والبروز فعلم أنه سبحانه أقرهم على ذلك ورضيه منهم وأنه لا بأس بدخول ومكث لا يقصد الإستظلال منه ونحو ذلك من الظل ولو عاب عليهم نفس التحرج من الإستظلال لقال وليس البر في البروز أو في الضحى ونحو ذلك كما أنكر النبي على أبي إسرائيل لأنه لم يكن محرما والضحى لمجرد الصوم لا يشرع ولهذا نهاه عن الصمت والقيام في غير عبادة وإن كان ذلك مشروعا للمصلى ولأنه قصد ذلك وأراده وصار دخولهم البيوت مثل نزع المحرم القميص وإن خمر رأسه لكن لما لم يقصد به التخمير ولا بد منه وقت فيه الرخصة

وأيضا فإن المحرم الأشعث الأغبر بدليل ما روي عن ابن عمر قال قال رسول الله إذا كان عشية عرفة باهى الله بالحاج فيقول لملائكة انظروا إلى عبادي شعثا غبرا قد أتوني من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي أشهدكم أني قد غفرت لهم إلا ما كان من تبعات بعضهم بعضا فإذا كان غداة المزدلفة قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لهم تبعات بعضهم بعضا وضمنت لأهلها النوافل رواه أبو داود

ثنا محمد بن أيوب ثنا عبد الرحمن بن هارون الغساني عن عبد العزيز ابن أبي داود عن نافع عنه

فقد وصف كل حاج بأنه أغبر فعلم أنها لازمة للمحرم فمن لم يكن أشعث أغبر لم يكن محرما والإستظلال بالمحمل ينقى الغبار والشعث

وأيضا فإن السلف كرهوا ذلك فعن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره أن يستظل بعود وهو محرم

وعن ابن عمر أنه رأى رجلا محرما على رحل قد رفع ثوبا بعود يستتر به من الشمس فقال إضح لمن أحرمت له رواهما أحمد

وإضح بكسر الهمزة من ضحى بالفتح والكسر يضحى ضحا إذا برز للشمس كما قال { وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } وبعض المحدثين يرويه بفتح الهمزة من أضحى يضحي أيضا ومعناها هنا ضعيف

وعن نافع قال مر ابن عمر بعبد الله بن خالد بن أسيد وقد ضلل عليه كهية الترس وهو على راحلته فقال له عبد الله إتق الله إتق الله

وعن عطاء أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة إستظل بعود على راحلته وهو محرم فنهاه عنه ابن عمر رواهما سعيد

وعن نافع أن ابن عمر رأى رجلا قد نصب على مقدمة راحلته عودا عليه ثوب وهو محرم فقال ابن عمر إن الله لا يحب الخيلاء إن الله لا يحب الخيلاء

وعنه أن ابن عمر رأى رجلا قد وضع عودين على راحلته وهو محرم يستتر بهما فانتزعتهما رواهما النجاد وابن عمر من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها ولم ينكر عليه هذه الفتاوى في الأوقات المتفرقة منكر مع من يجمعه الموسم من علماء المسلمين

وأما ما رواه أحمد والنجاد عن الحسن أن عثمان ظلل عليه وهو محرم وروى النجاد عن عكرمة عن ابن عباس قال لا بأس بالظل للمحرم فهو محمول على صور نذكرها إن شاء الله

وأيضا فإن الرأس يفارق غيره من البدن فإنه يمنع تخميره بكل شيء حتى بالخرقة والورقة وحتى قد كره له الدهن من لم يكرهه للبدن لما فيه من ترجيله والبدن إنما يمنع من أن يلبسه اللباس المعتاد فلو خمره بما شاء من غير ذلك جاز فعلم أن المقصود بقاء الرأس أشعث أغبر ومنعه من الترفة والتنعم بكل شيء ومعلوم أن المحمل يكن الرأس ويواريه ويرفهه بنحو مما قد يحصل له بالعمامة ونحوه لكن الترفه بالعمامة أشد فإن من كشف رأسه في داخل محمل وظلة لم يكشف رأسه فيجب أن يمنع من ذلك ولهذا يفعل ذلك من شج على رأسه يكشفه لله ولا يريد أن يتواضع ولذلك سماه ابن عمر خيلاء

وأما حديث أم الحصين وما في معناه فلا يختلف المذهب في القول بموجبه وسنذكر إن شاء الله وجهه وموضعه على المذهب

فعلى هذا إذا كان في محمل عليه كساء أو لبد ونحو ذلك فكشفه بحيث تنزل الشمس من عيونه

وما ينصبه على المحمل مثل أن يقيم عودا ويرفع عليه ثوبا ونحو ذلك حكمه حكم المحمل مطلقا صرح بذلك ابن عقيل وغيره لأنه يحصل به التظلل المستدام من غير كلفة فهو كالمحمل وحديث ابن عمر إنما كان في مثل هذا

وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية الأثرم لما ذكر حديث أم الحصين وحديث ابن عمر إذا كان يستتر بعود يرفعه بيده من حر الشمس كان جائزا وابن عمر إنما كرهه على الرحل فأما إن تظلل زمنا يسيرا من حر أو مطر ونحو ذلك من غير أن ينصبه على المحمل بل يرفع له ثوبا بعود في يده أو يرفع ثوبه بيده أو يغطى رأسه بيده ونحو ذلك فالمنصوص عنه جواز ذلك وهو قول القاضي وابن عقيل وغيرهما

قال أحمد في رواية الأثرم عن نافع عن ابن عمر أنه رأى محرما على رحل قد رفع ثوبا بعود يستره من حر الشمس قال إضح لمن أحرمت له

وزيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته قالت حججت مع النبي في حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما اخذ بخطاب ناقة النبي والاخر رافع ثوبه يستره من حر الشمس حتى رمى الجمرة قال أبو عبد الله فأكره للمحرم أن يستظل

وكان ابن عيينة يقول لا يستظل البتة وابن عمر إضح لمن أحرمت له وحديث بلال من حديث زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن جدته فإذا كان يستره بعود يرفعه بيده من حر الشمس كان جائزا وابن عمر إنما كرهه على الرحل وكذلك حديث ابن عمر إضح لمن أحرمت له وأهل المدينة يغلظون فيه

وفي رواية الأثرم وذكر له هذا الحديث فقال هذا في الساعة رفع له ثوب بالعود يرفعه بيده من حر الشمس وقال في رواية أبي داود إذا كان بطرف كسائه أرجو أن لا يكون به بأس

وقال في رواية ابن منصور وقد سئل عن القبة للمحرم فقال إلا أن يكون شيئا يسيرا باليد أم ثوبا يلقيه على عود

وقال في رواية حرب وقد سئل هل يتخذ على رأسه الظل فوق المحمل فقال لا إلا الشيء الخفيف وكرهه جدا

وحكى أبو الخطاب وغيره في التظليل اليسير روايتان إحداهما المنع منه لأنه أطلق المنع وأوجب الفدية في رواية جماعة قال جعفر بن محمد لا يستظل المحرم فإن إستظل يفتدي لأنه قد منع المحرم فاستوى قليله وكثيره كالتغطيه واللبس ومن قال هذا حمل حديث أم الحصين على أن الثوب لم يكن فوق رأس النبي وإنما كان عن جانبه وفرق أيضا بين ظل يكون تابعا للمستظل ينتقل بانتقاله ويقف بوقوفه كالقبة والثوب الذي بيده أو على عود معه وبين ما لا يكون تابعا مثل ظل الشجرة والثوب المنصوب حياله وحديث أم الحصين كان من هذا القسم

والثانية الرخصة في اليسير لحديث أم الحصين فإن في بعض ألفاظه والاخر رافع ثوبه على رأس رسول الله يستره من الشمس

وأيضا فإنه لو أحرم وعليه قميصه خلعه ولم يشقه مع أن هذا تظليل لرأسه وتخمير له

قال في رواية ابن القاسم إذا أحرم الرجل وعليه قميص أو جبة يخلعهما خلعا ولا يشقهما وهؤلاء يقولون إن خلعهما فقد غطى رأسه فعليه فدية وعجب من قولهم وقال النبي أمر الأعرابي أن ينزع الجبة حديث يعلي بن أمية ولم يأمره بشقها

وذلك لما روى يعلي بن أمية أن النبي جاءه رجل متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تمضخ بطيب فنظر إليه النبي ساعة فجاءه الوحي ثم سرى عنه فقال أين السائل الذي سألني عن العمرة آنفا فالتمس الرجل فجيء به فقال أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فأنزعها ثم اصنع في العمرة كما تصنع في حجتك متفق عليه وفي رواية أن رجلا أتى النبي وهو بالجعرانة رواه مسلم وفي لفظ لأبي داود فقال له النبي إخلع جبتك فخلعها من رأسه قال عطاء كنا قبل أن نسمع هذا الحديث فيمن أحرم وعليه قميص أو جبة فليخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك رواه سعيد

فقد جوز النبي أن يخلعه من رأسه وإن كان فيه تظليل لرأسه لأنه تدعو الحاجة إليه فعلم أن يسير التظليل لا بأس به

فإن قيل فقد روي عن عبد الرحمن بن عطاء عن نفر من بني سلمة قالوا كان رسول الله جالسا فشق ثوبه فقال إني واعدت هديا يشعر اليوم

وعن جابر قال بينما النبي جالس مع أصحابه شق قميصه حتى خرج منه فقيل له فقال واعدتهم هدي اليوم فنسيت رواهما أحمد

قيل إن صح هذا الحديث فلعله كان في الوقت الذي كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل البيت من بابه كانوا يجتنبون قليلها وكثيرها ثم زال ذلك ويدل على ذلك توقف النبي في جواب السائل حتى أتاه الوحي فعلم أنه سن ذلك الوقت ما أزال الحكم الماضي

وأيضا فإنه يجوز التظليل بالسقوف والخيام ونحوها فعلم أنه لم يكره جنس التظليل وإنما كره منه ما يفضى التي الترفه والتنعم وهذا إنما يكون فيما يدوم ويتصل

وقد روي عن إبراهيم قال كان الأسود إذا اشتد المطر استظل بكساء وهو محرم

وعن عطاء أنه كان يقول يستظل المحرم من الشمس ويستكن من الريح ومن المطر فعلى هذا يجوز الساعة ونحوها كما ذكر في رواية الأثرم فإن في حديث أم الحصين أنه ظلل عليه في حال مسيره ورميه وخطبته والذي يدل على أن النبي إنما استباح يسير التظليل أنه في سائر الأيام كان يسير ولم ينصب له على راحلته شيئا يستظل به ولو كان جائزا لفعله لحاجته إليه ثم إن إستظل بثوب يمسكه بيده أو بيد غيره أو وضع الثوب على عود يمسك العود بيده أو بيد غيره جاز

وإن إستظل يسيرا في محمل أو بثوب موضوع على عمود على المحمل ونحو ذلك مما لا مؤنة فيه ففيه روايتان إحداهما يكره ذلك وهذا هو الذي ذكره في رواية الأثرم قال إذا كان يسيرا بعود يرفعه بيده من حر الشمس كان جائزا وابن عمر إنما كرهه على الرحل وذلك لأن ما على الرحل رفاهة محضة وهو مظنة الطول فلو شرع ذلك لشرع اتخاذ الظل

والثانية لا بأس به وهو قول القاضي وهو ظاهر كلامه في رواية ابن منصور إلا أن يكون شيئا يسيرا باليد أو ثوبا يلقيه على عود فأما أن يظلل بالمحمل ونحوه حال نزوله فقال القاضي وابن عقيل لا فرق بين الراكب والنازل وإنه إن طال ذلك وكثر افتدا راكبا كان أو نازلا

وإن قل ذلك ولم يكثر فلا فدية عليه سواء كان راكبا أم نازلا

وفرقوا بين ذلك وبين الخيمة والسقف بأن ذلك لا يقصد به الترفه في البدن في العادة وإنما يقصد به جمع الرحال وفرق بين ما يقصد به الظل وغيره كما فرق بين من يحمل على رأسه شيئا أو يخمره

وكلام أحمد يدل على الفرق قال في رواية حنبل لا يستظل على المحمل ويستظل بالفازة في الأرض والخيمة وهو بمنزلة البيت وهذا أصح لأن ابن عمر وغيره من الصحابة كانوا ينصبون له الظل المحض في حال النزول ولأنه لو دخل إلى بيت أو خيمة لمجرد الإستظلال لجاز

والفرق بينهما أن هذا الظل ليس بتابع للمحرم ولا ينتقل بإنتقاله

وأيضا فإنه غير متخذ للدوام فلا بد معه من الضحا ويسير الظل في المكان مثل أن يجعل فوقه ما يستر يسيرا من رأسه مثل الزمان

فأما إذا إحتاج للإستظلال من حر أو برد فذكر القاضي وابن عقيل أنه يجوز إذا كان هناك عذر من حر أو برد فإنه يجوز وحمل حديث عثمان وابن عباس على ذلك وحديث ابن عمر على عدم العذر ومعنى ذلك عذر يخاف معه من مرض أو أذى فإنه يبيح التظليل من غير فدية لأن ما كره في الاحرام جاز مع الحاجة وما أبيح يسيره جاز كثيره مع الحاجة

قال أصحابنا القاضي وابن عقيل وغيرهما فله أن يستظل بثوب ينصبه حياله يقيه الحر والبرد عن يمينه أو عن شماله أو أمامه أو وراءه ما لم يكن مظلل فوق رأسه كالهودج والعمارية واللبسة وظاهر كلام أحمد أن كل مانع وصول الشمس إلى رأسه فهو تظليل سواء كان فوق رأسه أو كان من بعض جهاته وحديث ابن عمر يدل عليه

وحيث كره له التظليل فهل تجب الفدية على روايتين منصوصتين فإن أوجب الفدية كان محرما وإن لم يوجبها كان مكروها كراهة تنزيه وقد قال القاضي في المجرد وأبو الخطاب وغيرهما لا يجوز تظليل المحمل رواية واحدة وفي الفدية روايتان

ومعنى ذلك أنه ليس من الجائزات التي يستوي طرفاها بل هو ضمن المتبوعات فأما أن يكون حراما لا يوجب الفدية فهذا لا يكون

إحداهما يوجب الفدية

قال في رواية جعفر بن محمد وبكر بن محمد عن أبيه لا يستظل المحرم فإن إستظل يفتدي بصيام أو صدقة أو نسك بما أمر النبي كعب بن عجرة وهذا إختيار القاضي وأصحابه

والثانيه لا فدية فيه وإنما هو مكروه فقد قال في رواية الأثرم أكره ذلك فقيل له فإن فعل يهريق دما فقال لا وأهل المدينة يغلظون فيه وقال في رواية الفضل الدم عندي كثير وقال عبد الله سألت أبي عن المحرم يستظل قال لا يستظل فإن إستظل أرجو أن لا يكون عليه شيء وقال أيضا سألته عن المحرم يظلل قال لا يعجبني أن يظلل قال أبي يستر قدر ما يرمي الجمرة على حديث أم الحصين وقال سألته عن المحرم يستظل أحب إليك أم تأخذ بقول ابن عمر إضح لمن أحرمت له قال لا يستظل لقول ابن عمر إضح لمن أحرمت له فقد بين أن الإستظلال مكروه مطلقا إلا اليسير لحاجة وأنه لا فدية فيه ويشبه أن تكون هذه الرواية هي المتأخرة لأن روايات ابن الحكم قديمة قال أبو بكر وبهذا أقول وهو أصح إن شاء الله لأن ابن عمر الذي روى عنه كراهة ذلك لم يأمر الذي فعله بفدية وقد رفع الظل بيده

ولأنه قد ابيح نوعه في الجملة فجاز ما لا يدوم وجاز منه ما لا يقصد به التظلل ونحو ذلك

ومحظورات الاحرام يجب إجتنابها بكل حال كالطيب واللباس فصار في الواجبات كالدفع من مزدلفة قبل الفجر لما رخص فيه لبعض الناس من غير ضرورة علم أنه جائز في الجملة وأن السنة تركة بخلاف الدفع من عرفة فإنه لا يجوز لأحد حتى تغرب الشمس

مسألة الخامس الطيب في بدنه وثيابه

وجملة ذلك أن المحرم يحرم عليه ابتداء الطيب بإجماع المسلمين وهذا من العلم العام وقد قال النبي في المحرم الذي أوقصته ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وفي رواية لا تحنطوه متفق عليه

وقال فيما يلبس المحرم من الثياب ولا يلبس ثوبا مسه ورس ولا زعفران رواه الجماعة فإذا نهى عن المورس والمزعفر مع أن ريحهما ليس بذاك فما له رائحة ذكية أولى

فأما إن تطيب قبل الاحرام بما له جرم يبقى كالمسك والذريرة والعنبر ونحوه أو مما لا يبقى كالورد والبخور ثم استدامه لم يحرم ذلك عليه ولم يكره له لحديث عائشة أنها قالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله بعد أيام وهو محرم متفق عليه وفي رواية كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله لله وهو محرم رواه مسلم وأبو داود والنسائي وقد تقدم أنها كانت تطيب رسول الله قبل الإحرام

وعن عائشة قالت كنا نخرج مع النبي إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سأل على وجهها فيراه النبي فلا ينهانا رواه أبو داود وأحمد

ولفظ عنها أنهن كن يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه سلم عليهن الضماد قد أضمدن قبل أن يحرمن ثم يغتسلت وهو عليهم يعرقن ويغتسلن لا ينهاهن عنه ولأن الطيب بمنزلة النكاح لأنه من دواعيه فإذا كان إنما يمنع من إبتداء النكاح دون استدمته فكذلك الطيب

وأيضا فإن الطيب إنما يراد به الاستدامة كالنكاح فإذا منع من ابتدائه لم يمنع من استدامته وعكسه اللباس فإنه لا يراد للاستدامة ولأن الطيب من جنس النظافة من حيث يقصد به قطع الرائحة الكريهة كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمع الشعر والظفر من الوسخ ثم إستحب قبل الاحرام أن يأخذ من شعره وأظفاره لكونه ممنوعا منه بعد الاحرام وإن بقى أثره فكذلك أستحب له التطيب قبله وإن بقى أثره بعده

فإن قيل فقد روى صفوان بن أمية يعني عن يعلى أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب ليتني أرى نبي الله حين ينزل عليه فلما كان النبي بالجعرانة وعلى النبي ثوب قد أظل به ومعه ناس من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمح بطيب فنظر إليه النبي ساعة ثم سكت فجاءه الوحي فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية تعال فجاءه يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي محمر الوجه يغط ساعة ثم سري عنه فقال له النبي أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فأنزعها ثم أصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك متفق عليه لفظ مسلم وفي رواية أن رجلا أتى النبي وهو بالجعرانة قد أهل بعمرة وهو معصفر رأسه ولحيته وعليه جبة فقال يا رسول الله إني أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال إنزع عنك الجبة وأغسل عنك الصفرة وفي رواية وهو متضمخ بالخلوق رواهما مسلم

فهذا يبين أن استدامة الطيب كاستدامة اللباس وقد روى عن عمر وابنه نحو ذلك

قيل قد أجاب أصحابنا عن هذا بجوابين أحدهما أنه أمره بغسله لأنه كان زعفرانا وقد نهى أن يتزعفر الرجل سواء كان حراما أو حلالا لأن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه

الثاني أن هذا كان بالجعرانة وكانت في ذي القعدة سنة ثمان عقب قسم غنائم حنين وقد حج النبي سنة عشر واستدام الطيب وإنما يؤخذ بالاخر فالاخر من أمر رسول الله لأنه يكون ناسخا للأول

فصل

يحرم عليه أن يتطيب في بدنه وثيابه سواء مس الطيب بدنه أو لم يمسه لأن النبي قال في المحرم الموقص لا تقربوه طيبا وفي لفظ لا تحنطوه وجعله في ظاهره تقريب له لا سيما والحنوط هو مشروع بين الأكفان فلما نهى النبي عن تحنيطه علم أن قصد تحنيط بدنه وثيابه ولو كان تحنيط ظاهر الثوب جائزا لم ينه عنه النبي بل أمر به تحصيلا لسنة الحنوط

وأيضا فقد قال لا يلبس المحرم ثوبا مسه ورس أو زعفران ولم يفرق بين أن يمس ظاهره أو باطنه فعلم عموم الحكم وشموله فلا يجوز أن يطيبهما بشيء يعده الناس طيبا سواء كان له لون أو لا لون له مثل المسك والعنبر والكافور والورس والزعفران والند وماء الورد والغالية ونحو ذلك ولا يتبخر بشيء من البخور الذي له رائحة كالعود لأن المقصود من الطيب رائحته لا عينة فإذا عبق بالثوب رائحة البخور فهو طيبه ولأن الورد ودخان العود ونحوه أجزاء تتعلق بالبدن والثوب ولهذا يتجنب وسواء كان الثوب فوقانيا أو تحتانيا

قال أحمد في رواية ابن إبراهيم لا يلبس شيئا فيه طيب

وكذلك أيضا لا يجوز ثوب مطيب قال في رواية ابن القاسم قد سئل عن المحرم يفترش الفراش والثوب المطيب قال هو بمنزلة ما يلبس وذلك لأن النبي نهى أن يلبس المحرم ثوبا مسه ورس أو زعفران والافتراش لبس بدليل قول أنس وعندنا حصير قد أسود من طول ما لبس لأن اللبس هو الاختلاط والمماسة فسواء كان الثوب فوقه أو كان هو فوق الثوب ولأنه قال ولا تقربوه طيبا في المحرم ومعلوم أن جعل الطيب في فراشه تقريب له إليه

وكل ما حرم لبسه حرم الجلوس من الحرير والنجاسة في الصلاة وغير ذلك إلا أن يكون مما يقصد إهانته ولأن جعل الطيب في الفراش أبلغ في إستعمال الطيب من وضعه على البدن

ثم إن كان الطيب في الوجه الأعلى من الفراش فهو طيب لأن مباشرته بثيابه كمباشرته بنفسه

وإن كان في الوجه التحتاني

وإن كان بينه وبين الطيب حائل فقال القاضي في المجرد إن كان صفيقا يمنع المباشرة والرائحة جميعا لم يكره ذلك وإن كان رقيقا يمنع المباشرة دون الرائحة لم يحرم عليه لأنه لا يباشره فأما الثوب الذي عليه فليس بحائل

وقال ابن عقيل إن كان الحائل يمنع وصول ريح الطيب إليه زال المنع وإيجاب الفدية عليه بخلاف ما لو كان في الثوب الفوقاني كما قلنا في النجاسة في الصلاة وهذا أشبه بظاهر المذهب لأن اشتمام الطيب عندنا كاستعماله فإذا كان رائحة الطيب تصل إليه وجبت الفدية

وإن كان الطيب في حواشي الفراش وليس تحته فإن كان يشم الرائحة

ولا فرق بين الثوب المصبوغ بالطيب والمضمخ به والمبخر به فإن النبي قال ولا ثوبا مسه ورس أو زعفران وفي لفظ ولا ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران

ولأن المصبوغ والمبخر يكون لهما ريح كالمضمخ

فإن ذهبت رائحة المصبوغ بالزعفران ونحوه وبقى لون الصبغ فقال أصحابنا إذا انقطعت رائحته ولم يبق إلا لونه فلا بأس به إذا علم أن الرائحة قد ذهبت ولا بالتمضخ بطيب ذهبت رائحته وبقى لونه كماء الورد المنقطع والمسك الذي استحال وسواء كان انقطاع الريح لتقادم عهده أو لكونه قد صبغ بشراب أو سدر أو إذخر ونحو ذلك مما يقطع الرائحة فأما إن إنقطعت الرائحة ليبسه فإذا رش بالماء أو ترطب فاح الطيب فإنه طيب تلزم الفدية به يابسا كان أو رطبا وكذلك الثوب الذي قد انقطعت رائحته

فأما المصبوغ بماء الفواكه التي يشم ريحها فلا بأس به لأنه لا يمنع من شم أصله هذا الذي ذكره القاضي وذكر ابن عقيل أن المصبوغ بماء الفواكه والرياحين كماء الريحان واللفاح والنرجس والبفنسج لا يمنع منه قال ويحتمل عندي أن يفرق بين ورده ومائه كما قلنا في ماء الورد

ولو نزع ثوبه الذي فيه طيب قد لبسه قبل الاحرام ثم أعاده فقد أبتدأ لبس المطيب فأما إن استصحب لبس الثوب المطيب فقال أصحابنا يجوز وظاهر الحديث المنع فإن

فصل

وإذا مس من الطيب ما يعلق لرطوبته كالغالية والمسك المبلول وماء الورد أو لنعومته كسحيق المسك والكافور أو لرطوبة يده ونحو ذلك فهو حرام وعليه الفديه

وإن أمسك ما لا يعلق باليد كاقطاع الكافور والعبنر والمسك غير السحيق والورد ونحو ذلك فقال أصحابنا لا فدية عليه بمجرد ذلك إلا أن يشمه ولو وضع يده عليه يعتقده يابسا لا يعلق بيده فعلق بيده منه شيء فقالوا لا فدية عليه لأنه لم يقصد إلى إستعمال الطيب وينبغي أن يخرج هذا على ما إذا تطيب جاهلا أو ناسيا فأما ما تعلق به من غير إختياره

فصل ولا يجوز أن يأكل ما فيه طيب

فصل

فأما إشتمام الطيب من غير أن يتصل ببدنه ولا بثوبه إما بأن يقرب إليه حتى يجد ريحه أو يتقرب هو إلى موضعه حتى يجد ريحه فلا يجوز في ظاهر المذهب المنصوص وفيه الفدية قال في رواية أحمد بن مضر القاسم في المحرم يشم الطيب عليه الكفارة

وقال أيضا في رواية ابن القاسم في الرجل يحمل معه الطيب وهو محرم كيف يجوز هذا وعطاء يقول إن تعمد شمه فعليه الفدية قيل له يحمله للتجارة فقال لا يصلح إلا أن يكون مما لا ريح له

وقال في رواية حرب أما الطيب فلا يقربه والريحان ليس هو مثل الطيب وهذا لأن المقصود من التطيب وجود رائحة الطيب فإذا تعمد الشم فقد أتى بمقصود المحظور بل اشتمامه للطيب أبلغ في الإستمتاع والترفه من حمل طيب لا يجد ريحه بأن يكون ميتا أو نائما أو أخشم

ولأن الصحابة رضوان الله عليهم إختلفوا في شم المحرم الريحان فمن جعله طيبا منعه ومن لم يجعله طيبا لم يمنعه ولولا أن الشم المجرد يحرم إمتنعت هذه المسألة لأن الرياحين لا يتطيب بها فعلى هذا إن تعمد شم المسك والعنبر ونحوها من غير مس فعليه الكفارة وإن جلس عند العطارين قصدا لشم طيبهم أو دخل الكعبة وقت تخليقها ليشم كيبها لزمته الكفارة وإن ذهب لغير إشتمام فوجد الريح من غير قصد لم يمنع من ذلك كما لو سمع الباطل من غير أن يقصد سماعه أو رأى المحرم من غير أن يقصد الرؤية أو مس حكيم إمرأة من غير أن يقصد مسها وغير ذلك من إدراكات الحواس بدون العمد والقصد فإنه لا يحرم

فإن علم أنه يجد ريح الطيب ولم يقصد الشم فهل له أن يقعد أو يذهب وقال ابن حامد لا فدية في الشم ولا في القعود عند العطارين أو عند الكعبة وهي تطيب لأنه لا يسمى بذلك متطيبا

وقال ابن عقيل الرائحة وليس له أن يستصحب ما يجد ريحه لتجارة ولا غيرها وإن لم يقصد شمه على المنصوص سواء كان في أعداله أو محمله ونحو ذلك بل إن كان معه شيء من ذلك فعليه أن يستره بحيث لا يجد ريحه فإن استصحبه ووجد ريحه من غير قصد فهل عليه كفارة

فأما ما لا يقصد شمه كالعود إذا شمه أو قلبه ونحو ذلك فلا شيء عليه عند أصحابنا وينبغي إذا وجد الرائحة

فصل

وأما النباتات التي لها رائحة طيبة ولا يتطيب بها فقسمها أصحابنا قسمين أحدهما ما يقصد طعمه دون ريحه بحيث يزرعه الناس لغير الريح كالفواكه التي لها رائحة طيبة مثل الأترج والتفاح والسفرجل والخوخ والبطيخ ونحو ذلك فهذا لا بأس بشمه ولا فدية فيه وفيه نظر فإن كلاهما مقصود

وكذلك ما نبت بنفسه مما له رائحة طيبه وهي أنبتة البرية مثل الشيح والقيصوم والأذخر والعبوثران ونحو ذلك فهذا لا بأس بشمه فيما ذكره أصحابنا

والثاني ما يستنبت لذلك وهو الريحان ففيه عن أحمد روايتان

إحداهما أنه لا بأس به قال في رواية جعفر بن محمد المحرم يشم الريحان ليس هو من الطيب ورخص فيه وكذلك نقل ابن منصور عنه في المحرم يشم الريحان وينظر في المرآة وهذا إختيار القاضي وأصحابه

قال ابن أبي موسى وله أن يأكل الاترج والتفاح والموز والبطيخ وما في معنى ذلك ولم يتعرض لشمه قال ولا بأس بنبات الأرض مما لا يتخذ طيبا والثانية المنع منه قال في رواية أبي طالب والأثرام لا يشم المحرم الريحان كرهه ابن عمر ليس هو من الة المحرم وعلى هذه الرواية هو حرام فيه الفدية عند كثير من أصحابنا

قال ابن أبي موسى لا يشم الريحان في إحدى الروايتين لأنه من الطيب وإن فعل افتدى

قال القاضي ويحتمل أن يكون المذهب رواية واحدة لا كفارة عليه ويكون قوله ليس من الة المحرم على طريق الكراهة وقد نص أحمد على أنه مكروه في رواية حرب قال قلت لأحمد فالمحرم يشم الريحان قال يتوقاه أحب إلى قلت فالطيب قال أما الطيب فلا يقربه والريحان ليس مثل الطيب قلت فيشرب دواء قال لا بأس إذا لم يكن فيه طيب

وذلك لأنه ذو رائحة طيبة يتخذ لها فحرم شمه كالمسك وغيره بل أولى لأن المسك ونحوه يتطيب به بجعله في البدن والثوب وأما هذا فإنما منفعته شمه مع انفصاله إذ لا يعلق بالبدن والثوب وفيه من الاستمتاع والترفه ما قد يزيد على شم الزعفران والورس ولأن الورس والزعفران من جملة النباتات وإن تطيب بها وقد جعلها النبي طيبا فألحقت سائر النباتات به

وقد روى الشافعي عن جابر أنه سئل أيشم المحرم الريحان والدهن والطيب فقال لا وروى الأثرم عن عمر أنه كان يكره شم الريحان للمحرم ووجه الأولى أنه لا يتطيب به فعلا فلم يكره شمه كالفاكهة والنبات البري وذلك لأنه لو كان نفس إشتمام الريح مكروها لم يفرق بين ما ينبته الله أو ينبته الآدميون ولا بين ما يقصد به الريح والطعم أو يقصد به الريح فقط فعلى هذا لا فرق بين ما يتخذ منه الطيب كالورد والبنفسج والنيلوفر والياسمين والخيرى وهو المنثور وما لا يتخذ منه الطيب كالريحان الفارسي وهو الأخضر والنمام والبرم والنرجس والمروزنجوس هذه طريقة ابن حامد والقاضي في خلافه وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم لعموم كلام أحمد

وقال القاضي في المجرد وغيره ما يتخذه منه مما يستنبت للطيب كالورد والبنفسخ والياسمين فإنه يتخذ منه الزئبق والخيري وهو المنثور والنيلوفر فهو طيب كالورس والزعفران والكافور والعنبر فإنه يقال هو ثمر شجري فإذا شم الورد أو دهنه أو ما خالطه وكان ظاهرا فيه ففيه الفدية

وأما ما يستنبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب كالريحان الفارسي والنرجس والمرزنجوس ففيه الروايتان المتقدم ذكرهما وذلك لأنه إذا اتخذ منه الطيب فهو ذو رائحة طيبة يتطيب فيكون طيبا كغيره لأن كونه نباتا لا يخرجه عن أن يكون طيبا بدليل الورس والزعفران

ومن قال بالطريقة الأولى قال هذا لا يتطيب بنفسه وإنما يتطيب بما يؤخذ منه بخلاف الزعفران ونحوه ولا يلزم من كون فرعه طيبا أن يكون هو طيبا

فصل

فأما الثياب المصبوغة بغير طيب فلا يكره منها في الاحرام إلا ما يكره في الحل لكن المستحب في الإحرام لبس البياض قال في رواية حنبل لا بأس أن يلبس المحرم الثوب المصبوغ ما لم يمسه ورس ولا زعفران وإن كان غير ذلك فلا بأس ولا بأس أن تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال في رواية الفضل بن زياد لا بأس أن تلبس المرأة الحلي والمعصفر من الثياب ولا تلبس ما مسه ورس ولا زعفران

وقال في رواية صالح وتلبس المرأة المعصفر ولا تلبس ما فيه الورس والزعفران وقال حرب قلت لأحمد المحرم يلبس الثوب المصبوغ قال إذا كان شهرة فلا يعجبني

وقد أطلق كثير من أصحابنا أن للمحرم أن يلبس المعصفر يريدون به المرأة كما ذكره أحمد خصوه بالذكر لأجل الخلاف ليبنوا أن الاحرام لا يمنع منه وقيده آخرون بالمرأة على المنصوص وهو أجود عبارة

قال ابن أبي موسى وللمرأة أن تلبس الحلي والمعصفر والمخيط من الثياب ولا تلبس القفازين ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا طيب

فأما الرجل فإنه يكره له المعصفر في الإحرام والإحلال كما نص عليه أحمد في غير موضع وقد تقدم هذا

وقد زعم بعض أصحابنا أنه لا يكره للرجال ولا للنساء وحمل حديث علي على الخصوص به وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه في هذا الموضع وطائفة معه وهو خلاف المنصوص وخلاف ما ذكره في غير هذا الموضع وهو غلط على المذهب وذلك لأن في حديث ابن عمر أنه سمع النبي ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف رواه أبو داود وتكلم على هذه الزيادة

فإن كانت مرفوعة فقد ثبتت بها الحجة وإن كانت موقوفة على ابن عمر فقد فهم من كلام النبي إباحة ما سوى المورس والمزعفر وذلك لأن النبي لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب فذكر الأصناف الخمسة وذكر من المصبوغ ما مسه ورس أو زعفران حصر المحرم لأن المباح لا ينحصر فعلم أن ما سوى ذلك مباح

وعن كثير بن جهمان قال كان على ابن عمر ثوبين مصبوغين فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن تنهى الناس عن الثياب المصبغة وتلسبها قال ويحك إنما هو بمدر رواه سعيد

وروى أحمد في مسائل حنبل بإسناد صحيح عن عائشة بنت سعد قالت كن أزواج النبي يحرمن في المعصفرات

وعن القاسم بن محمد أنه رأى عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمه رواه الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم

وعن عطاء قال رأيت على عائشة أم المؤمنين درعا موردا وهي محرمة

وعن القاسم قال كانت عائشة تلبس المعصفر وهي محرمة

وعن عبدة بن أبي لبابة عن عائشة أنها سئلت ما تلبس المحرمة فقالت من خزها وقزها وحريرها وعصفرها رواهن سعيد

وعن عروة أن أسماء ابنة أبي بكر كانت تلبس الثياب المصبغة المشبعات بالعصفر ليس فيها زعفران وهي محرمة

وعن نافع قال كن نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفرات وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله رواه أبو بكر ولأن المعصفر ليس بطيب لأنه إنما يقصد به لونه لا ريحه لأن رائحته غير مستلذة ولأنه ليس طيبا إذا إنفرد فلا يكون طيبا إذا صبغ به وعكسه الزعفران والورس

ولأنه صبغ من الأصباع لا يقصد ريحه فلم يكره كالكحلي وغيره من الأصباع

وقد احتج من لم يكرهه للرجال ما روى الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردين فقال له عمر خالفت الناس فقال علي لعمر دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا بالسنة فقال له عمر صدقت

وعن أبي جعفر محمد بن علي أبصر عمر بن الخطاب على عبد الله ابن جعفر ثوبين مضرجين يعني موردني وهو محرم فقال ما هذا فقال علي ما أخال أحدا يعلمنا بالسنة

وعن أبي هريرة أن عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج حاجا ومعه علي رجاء محمد بن جعفر وقد كان دخل بأهله في تلك الليلة فلحقهم بلل فجاء وعليه معصفرة فلما رآه عثمان انتهره وأقف به وقال أما علمت أن رسول الله نهى عن المعصفر فقال له علي إنه لم ينهه ولا إياك إنما نهاني النجاد

وعن أبي الزبير قال كنت مع ابن عمر فأتاه رجل عليه ثوبان معصفران وهو محرم فقال في هذين علي بأس قال فيهما طيب قال لا قال لا بأس

وعن أبي الزبير عن جابر قال إذا لم يكن في الثوب المعصفر طيب فلا بأس به للمحرم أن يلبسه رواهما النجاد

وهذا يحمل على غير المشبع بحيث يكون رقيق الحمرة فإن المكروه منه المشبع وإلا فقد تقدمت سنة رسول الله في نهي الرجال عن المعصفر وهي تقضي على كل أحد

فإن قيل فقد روى أسلم أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم فقال عمر ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة قال طلحة يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر رضي الله عنه إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ولو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من الثياب المصبغة رواه مالك وغيره وفي رواية لسعيد إنه أبصر على طلحة ثوبين مصبوغين بمشق وهو محرم وفي رواية للنجاد إنكم أئمة ينظر إليكم فعليكم بهذا البياض ويراكم الرجل فيقول رأيت على رجل من أصحاب النبي ثوبين مصبوغين فقد حمله بعض أصحابنا على أنه خاف اقتداء الجاهل به في لبس المصبوغات مطلقا من غير فرق بين المطيب وغيره فعلى هذا يكره

وقد أطلق أحمد لبس المصبوغ في رواية وكرهه في رواية إذا كان شهره وهذا يحتمل أن يشتهر فيقتدي به الجاهل أو تمتد إليه الأبصار خصوصا في الاحرام فإن عامه الناس عليهم البياض فعلى هذا يكره ما كان زينة إذا ظهر

وعلى ذلك يحمل ما روى الأسود عن عائشة قالت تلبس المحرمة ما شأت إلا البرقع والمتورد بالعصفر رواه سعيد بإسناد صحيح

وعن إبراهيم عنها أنها قالت يكره الثوب المصبوغ بالزعفران والمشبعة بالعصفر للرجال والنساء إلا أن يكون ثوبا غسيلا رواه النجاد

فهذا محمول على ما إذا ظهرت

فأما الحلي والحرير ونحو ذلك فلا بأس به للمحرمة نص عليه كما تقدم وعنه ما يدل على الكراهة قال في رواية محمد بن حرب الجرجرائي وقد سئل عن الخضاب للمحرم قال ليس بمنزلة طيب ولكنه زينة وقد كره الزينة عطاء للمحرم

فقد أخذ بقول عطاء والمنقول عن عطاء أنه كان يكره للمحرمة الزينة كلها الحلي وغيره رواه سعيد عن ابن جريج عنه وروى عنه أيضا أنه كان يكره للمحرمه الثوب المصبوغ بالمعصفر أو بثوب مسه زعفران أو شيء من الطيب رواه سعيد أيضا

فصل

وأما الزينة في البدن مثل الكحل والخضاب ونحوهما فقال أحمد في رواية العباس بن محمد ويكتحل بالأثمد المحرم ما لم يرد به الزينة قلت الرجال والنساء قال نعم

وقال في رواية اسحق بن منصور ولا تكحل المرأة بالسواد الا بالذرور وقال في رواية محمد بن حرب وقد سئل عن الخضاب للمحرم فقال ليس بمنزلة الطيب ولكنه زينة وقد كره الزينة عطاء للمحرم

وقال في رواية الميموني الحناء مثل الزينة ومن يرخص في الريحان يرخص فيه وقال في رواية حنبل وسئل عن المحرم يخضب رجله بالحناء إذا تشققت فقال الحناء من الزينة ومن يرخص في الريحان يرخص في الحناء

قال أصحابنا تكره الزينة للمحرم وتمنع المحرمة من الزينة ولا فدية في الزينة

ويحتمل كلام أحمد أنه لا يكره الزينة لأنه رخص في الحلي ولم يجزم بالكراهة وإنما نقله عن عطاء لأن الزينة من دواعي النكاح فكرة للمحرم كالطيب ولأن المعتدة لما منعت من النكاح منعت من الطيب والزينة والمحرمة تشبهها في المنع من عقد النكاح فكذلك في توابعه من الزينة والطيب

بخلاف الصائمة والمعتكفة فإنها لا تمنع من عقد النكاح وإنما تمنع من الوطء ولأن زمان الإحرام يطول كزمان العدة فالداعي إلى النكاح في المدة الطويلة وسيلة إليه في وقت النهي بخلاف ما قصر زمانه قد يستغنى بوقت الحل عن وقت الحظر

وقال ابن أبي موسى على المحرم أن يجتنب النساء والطيب والكحل المطيب والدواء الذي فيه طيب رطبا كان أو يابسا ثم قال فيما للمرأة وما تمنع منه وليس لها أن تكتحل بما فيه طيب وما لا طيب فيه ففرق في الكحل الساذج بين الرجل والمرأة لكن المعتدة أشد من حيث تمنع من الخروج من منزلها فكانت أشد من المحرمة ولا فدية في الزينة لأن المتزين لا يستمتع بذلك وإنما يستمتع به غيره منه فأشبه ما لو طيب المحرم الميت فإنه لا فدية عليه بذلك فأما الكحل إذا كان فيه طيب فإنه لا يجوز إلا لضرورة فيكتحل به ويفتدي وإن لم يكن فيه طيب ولم يكن فيه زينة فلا بأس به وإن كان فيه زينة مثل الكحل الأسود ونحوه كره له ذلك إذا قصد به الاكتحال للزينة لا للمنفعة والتداوي ولا فدية فيه عند أصحابنا

وإن قصد به المنفعة وكانت به ضرورة إليه مثل أن يخاف الرمد أو يكون أرمد أو نحو ذلك ولم يقم غيره مقامه جاز قال عبد الله سمعت أبي يقول ويغسل المحرم ثيابه ويدخل الحمام ويتداوى بالأكحال كلها ما لم يكن كحل فيه طيب

وأما إن قام غيره مقامه أو لم يكن ضرورة ولكن فيه منفعة جاز على ما ذكره في رواية العباس بن محمد لأنه قال يكتحل المحرم بالأثمد ما لم يرد به الزينة الرجال والنساء وكذلك على رواية عبد الله جوز له التداوي بكل كحل لا طيب فيه ولم يفصل بين أن يقوم غيره مقامه أو لا يقوم

وأما على رواية ابن منصور لا تكتحل المرأة بالسواد إلا بالذرور فيكره إذا كان فيه زينة وإن لم يقصد به الزينة إذا لم تدع إليه الضرورة وقد خص المرأة بالذكر وذلك لما روى نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله بن معمر إشتكى عينه وهو محرم

فأراد إن يكحلها فنهاه أبان بن عثمان وأمره أن يضمدها بالصبر وحدثه عن عثمان عن النبي أنه كان يفعله وفي رواية فأرسل إليه أن أضمدهما بالصبر فإن عثمان حدث عن رسول الله في الرجل إذا إشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر رواه مسلم

فقد رخص له بالتضميد بالصبر مع الشكاة فعلم أنه لا يكتحل بما فيه زينة أو طيب إذا وجد عنه مندوحة وإن لم يقصد التزين

وعن عطاء قال تكتحل المحرمة بكل كحل إلا كحلا فيه كيب أو سواد فإنه زينه وعن مجاهد قال لا تكتحل المحرمة بالأثمد قيل له ليس فيه طيب قال لا فإنه زينة

وعن ابراهيم قال لا بأس أن تكتحل المحرمة بالكحل الأحمر والذرور

وعن سعيد بن المسيب قال يكتحل المحرم بالصبر رواهن أحمد

ووجه الأول ما روى نافع عن ابن عمر أنه اشتكى فأقطر الصبر في عينيه وهو محرم

وعنه قال يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن كحل فيه طيب رواهما أحمد

وفي رواية أنه كان إذا رمد وهو محرم أقطر في عينيه الصبر إقطارا وأنه قال يكتحل المحرم بأي كحل إذا رمد ما لم يكتحل بطيب ومن غير رمد رواه الشافعي

فأما الطيب فلا يجوز إلا لضرورة وعليه يحمل ما روى أحمد عن ابن عباس أنه اكتحل بكحل فيه طيب وهو محرم وعليه الفدية وأما الخضاب بغير الحناء مثل الوشم والسواد والنيل ونحو ذلك مما ليس بطيب فهو زينة محضة وإن كان من الطيب مثل الزعفران والورس ونحو ذلك لم يجز

وأما بالحناء فقد نص أحمد على أنه ليس بطيب ولكنه زينة وقال أيضا هو مثل الزينة وعلى هذا أصحابنا قالوا لأنه إنما يقصد لونه دون رائحته فأشبه الوشمة ونحوها وشبهوه بالعصفر وبالفواكه في أن المقصود به غير الرائحة من طعم أو لون

وقول أحمد من يرخص في الريحان يرخص في الحناء دليل على أنه عنده بمنزلة الريحان في كونه نباتا له رائحة طيبة ولا يتخذ للتطيب فعلى هذا إذا منعنا من الريحان منعنا من الحناء

ويتوجه أن لا يكره بحال لأن أحمد قال من رخص في الريحان رخص فيه ولم يقل من منع من الريحان لأنه أولى بالرخصة من الريحان إذ الريحان يقصد شمه والحناء لا يقصد شمه فلا يلزم من كراهة الريحان كراهته كما لم يكره المعصفر فإذا كان زينة كره لغير حاجة كما ذكره في رواية ابن أبي حرب وعلى ذلك أصحابنا

ويحتمل قوله الرخصة مطلقا لأنه قال ومن يرخص في الريحان يرخص فيه والريحان على إحدى الروايتين لا كراهة فيه ولأنه إنما نقل الكراهة عن عطاء فأما لحاجة فلا يكره كما قال في روايه حنبل وعلى ذلك يحمل ما روى عن عكرمة أن عائشة وأزواج النبي كن يختضبن وهن حرم رواه بن المنذر

قال أصحابنا وإذا إختضبت ولفت على يديها لفائف وشدتها افتدت كما لو لبست القفازين وكذلك كل خرقة تلفها على يديها وتشدها لأن شدها يجعلها بمنزلة القفازين في كونه شيئا مصنوعا لليد وكذلك الرجل وإن لفتها من غير شد لم تفتد لأنه بمنزلة ما لو وضعت يدها في كمها وكالعمامة التي يلقها الرجل على بطنه فإن غرزت طرف اللفافة في لفة تحتها

وأما النظر في المرآة فقال أحمد ينظر المحرم في المرآة ولا يصلح شيئا قال أصحابنا ينظر في المرآة ولا يصلح شعثا ولا يزيل غبارا ولفظ بعضهم ينظر إلا للزينة لما روى أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة وعن نافع قال رأيت ابن عمر ينظر في المرآة وهو محرم

وعن كثير بن عباس وتمام بن عباس وكريب مولى ابن عباس أنهم كانوا ينظرون في المراة وهم محرمون

وعن الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وعكرمة أنه لا بأس بذلك إلا أن عطاء قال لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة ليميط بها الأذى فأما الزينة فلا

وروى مالك عن ابن عمر أنه نظر في المرآة من شكوى كان بعينيه وهو محرم

وإنما قلنا لا يزيل شعثا ولا ينفض غبارا لأن المحرم الأشعث الأغبر

فصل

وأما النظافة فاللمحرم أن يغسل رأسه وبدنه وثيابه وأن يبدل ثياب الإحرام ويبيعها وإن كان في ذلك إزالة وسخة وإزالة القمل الذي كان بثيابه وإن أفضى إغتساله إلى قتل القمل الذي برأسه حتى له أن يدخل الحمام ما لم يفض ذلك إلى قطع شعر

قال أحمد في رواية عبد الله ويغسل المحرم ثيابه ويدخل الحمام ويتداوى بالأكحال كلها ما لم يكن كحل فيه طيب

وقال في رواية حنبل المحرم يدخل الحمام وليس عليه كفارة ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه

وقال حرب قلت لأحمد يبيع المحرم الثوب الذي أحرم فيه ويشتري غيره قال نعم لا بأس به

وقال عبد الله أيضا سألت أبي عن المحرم يدخل الحمام فقال نعم ولا يمد بيده الشعر مدا شديدا قليل قليل

ولا بأس بالحجامة للمحرم ما لم يقطع شعرا ولا بأس بالكساء إذا أصابه البرد ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قملة ولا يقطع شعرة ولا يدهنه

وقال في رواية محمد بن أبي حرب وسئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب فكرهه وكره الاشنان وذلك لما روى عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما إختلفا بالابواء فقال عبد الله ابن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور بن مخرمة لا يغسل المحرم رأسه فأرسلني عبد الله إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لانسان يصب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته يفعل متفق عليه لفظ مسلم وفي لفظ له فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه جميعا على جميع رأسه فأقبل بهما وأدبر فقال المسور لابن عباس لا أماريك أبدا

وعن يعلى بن عطاء قال قال عمر بن الخطاب أصب الماء على رأسي وأنا محرم فقلت أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال صب فإنه لا يزيده إلا شعثا صب بسم الله

وعن محمد بن علي بن أبي طالب أنه كان يقول للمحرم أغسل رأسك فهو أشعث لك

وعن ابن عمر أنه سئل عن المحرم يغتسل فقال لقد إبتردت يعني إغتسلت منذ أحرمت سبع مرات وفي رواية أخرى لقد إبتردت منذ أحرمت أربع عشرة مرة وعن مجاهد أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يغتسل المحرم أو يغسل ثيابه

وعن ابن عباس قال ربما قال لي عمر بن الخطاب ونحن بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفسا وفي رواية ربما رامست عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون

وعن عكرمة قال دخل ابن عباس حمام الجحفة وهو محرم وقال ما يصنع الله بأوساخنا

وعن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يشم المحرم الريحان وينظر في المرآة ويدخل الحمام

وعن عطاء بن السائب عن إبراهيم كانوا يستحبون إذا أرادوا أن يحرموا أن يأخذوا من أظفارهم وشواربهم وأن يستحدوا ثم يلبسوا أحسن ثيابهم وكانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارا وأن يخرجوا منها ليلا فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له قول إبراهيم قال قلت له أطرح ثيابي التي فيها تفثي وقملي قال نعم أبعد الله القمل رواهن سعيد في سننه

فإن قيل هذا فيه إزالة الوسخ والغبار وقتل القمل وقطع الشعر وتخمير الرأس في الماء

قيل أما تخمير الرأس فإنه ليس المقصود التغطية وإنما المقصود الاغتسال فصار كما لو حمل على رأسه شيئا

وأما قطع الشعر فإنما يجوز له من ذلك ما لا يقطع شعرا

وأما إزالة الوسخ وقتل القمل فسنتكلم عليه

وهذا يقتضي أنه يكره تعمد إزالة الوسخ وكذلك قتل القمل فعلى هذا يحرك رأسه تحريكا رفيقا كما فعل أبو أيوب ورواه عن النبي سواء كان عليه جنابة أو لم يكن وهو معنى قول أبي عبد الله ولا يمر بيده على الشعر مرا شديدا يعني أن الخفيف مثل أن يكون ببطون أصابعه ونحو ذلك لا بأس به وذلك خشية أن يقتل قمله أو يزيل وسخا أو يقطع شعرا

وقال في رواية المروذي لا يغسل رأسه بالخطمى ولكن يصب على رأسه الماء صبا ولا يدلكه فمنعه من الدلك مطلقا وكذلك

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا إن لم يكن عليه جنابة صب الماء على رأسه صبا ولم يحكة بيده وإن كان عليه جنابة إستحب أن يغسله ببطون أنامله ويديه ويزايل شعره مزايلة رفيقة ويشرب الماء إلى أصول شعره ولا يحركه بأظافيره ويتوقى أن يقتل منه شيئا فإن حركه تحريكا خفيفا أو شديدا فخرج في يديه منه شعر فالاحتياط أن يفديه ولا يجب ذلك عليه حتى يتيقن أنه قطعه وكذلك شعر اللحية فالإحتياط أن يفديه ولا يجب عليه حتى يتيقن أنه قطعه

قالوا فأما بدنه فيدلكه دلكا شديدا إن شاء فقد جوزوا له دلك البدن شديدا وإن كان فيه إزالة الوسخ بخلاف شعر الرأس فإنه يخاف أن يقطع الشعر

وإذا كان الغسل واجبا فإنه لا بد أن يوصل الماء إلى أصول الشعر بخلاف المباح فإنه لا حاجة به إلى ذلك

والصواب أن الغسل المستحب للمحرم مثل دخول مكة والوقوف بعرفة ونحو ذلك يستحب فيه ذلك ما المباح فإن ذلك جائز فيه كما نص عليه وكلام يقتضي كراهته أو أو أن تركه أفضل والصواب المنصوص

وأما دلك البدن بالماء فإن كراهته للاشنان والمحلب في البدن دليل على أنه كره تعمد إزالة الوسخ

وقال في رواية عبد الله يحك رأسه وجسده حكا رفيقا لأن الحك الشديد إن صادف شعرا قطعه وإن صادف قملا قتله وإن صادف بشرة جرحها وإن كان مع الماء أو الغرف أزال الوسخ

وعلى قول القاضي وابن عقيل يحك بدنه حكا شديدا إن شاء لأن الإدماء وإزالة الوسخ ليس بمكروه عندهم وصرح القاضي بأن ما يزيل الوسخ من الماء والاشنان ونحو ذلك لا فدية فيه وجعله أصلا لمسألة السدر والخطمى

وأما غسل الرأس بالخطمى والسدر فالمنصوص عنه في رواية صالح إذا غسل رأسه بالخطمى إفتدى

وقال في رواية المروذي ولا يغسل رأسه بالخطمى ولكن يصب على رأسه الماء صبا ولا يدلكه

وقال في رواية ابن أبي حرب وسئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب فكرهه وكره الأشنان

وذكر القاضي وغيره رواية أخرى أنه لا فدية عليه بذلك وأخذها من قوله في رواية حنبل لا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه

فأطلق الغسل ومن كونه قد قال في رواية أبي داود حديث ابن عباس أن رجلا وقصت به ناقته وهو محرم فيه خمس سنن كفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا وأغسلوه بماء وسدر أي في الغسلات كلها

وكذلك ذكر في غير موضع تغسيل الميت المحرم بماء وسدر مع أن حكم الاحرام باق عليه بعد الموت فعلم أنه ليس ممنوعا منه في الحياة والدليل على ذلك قول النبي في المحرم الذي وقصته دابته إغسلوه بماء وسدر مع أنه قال لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا وأنه يبعث يوم القيامة ملبيا فعلم الفرق بين الطيب والسدر

وعلى هذه الرواية فاغتساله بالسدر والخطمى مكروه لما فيه من قطع الشعر وإزالة الشعث ونص أيضا على أن المحرم لا يغسل كما يغسل الحلال بل يصب عليه الماء صبا فعلم أن الدعك والمعك لا يجوز للمحرم وفرق بين غسل المحرم وغسل الحلال

والرواية الأولى أصرح عنه لأن المحرم هو الأشعث الأغبر والسدر والخطمى يزيل الشعث والغبار ولأنه غالبا يقطع الشعر ويقتل الدود

وأما المحرم الميت فقد روي عن أحمد أنه بمنزلة الحي فقال في رواية حنبل وقيل له يغسل قال يصب عليه الماء قال لا يغسل كما يغسل الحلال

وقال أبو الحارث سألت أبا عبد الله عن المحرم إذا مات يغسل كما يغسل الحلال أو يغسل بالسدر والماء قال يغسل بالماء والسدر حدثنا ابن عباس عن النبي إغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا قلت فإذا غسل يدلك رأسه بالسدر قال ما أدري كذا جاء الخبر يغسل بماء وسدر قيل له فتذهب إلى أن يخمر وجهه ويكشف رأسه قال نعم على ما جاء عن ابن عباس عن النبي وهو أصح من غيره

قال أبو عبد اله وكان عطاء يقول يخمر رأسه ويغسل رأسه بالسدر وقد روى عطاء عن النبي أنه يخمر رأسه وهو محرم مرسل وحديث ابن عباس أصح

وقال ابن جريج أنا أقول يغسل بالسدر ولا يخمر رأسه قلت فما ترى قال أهاب أن أقول يغسل بالسدر وأحب العافية منها قلت فيجزؤه أن يصب على رأسه الماء فقط قال يجزؤه إن شاء الله

قال أبو عبد الله الذي أذهب إليه حديث ابن عباس عن النبي يغسل بماء وسدر ولا يخمر رأسه ولا يمس طيبا

فقد توقف في دلك رأسه بالسدر وقد ذكر أصحابنا رواية أنه لا يغسل رأسه بالسدر كالحي وحملوا حديث ابن عباس على أن المقصود غسل بدنه بالسدر وأن السدر يذر في الماء

والصواب الفرق بينهما

قال الخلال ما رواه أبو الحارث في غسله فيه توقف وجبن غير أنه قد روى ما روى حنبل أنه لا يدلك رأسه ويصب عليه الماء صبا ويكون فيه السدر وبين عنه حنبل أنه يصب الماء ولا يغسل كما يغسل الحلال وعلى هذا إستقر قوله

ووجه الفرق بين الحي والميت أن الميت محتاج إلى الطهارة والنظافة فإن هذا آخر عهده بالدنيا وليس حال ينتظر فيها إزالة تفثه فجاز أن يرخص له في ذلك كما رخص لمن لم يجد الازار والنعلين في لبس السراويل والخفين إذا كان ذلك مما تدعو إليه الحاجة فكذلك موتى المحرمين بهم حاجة عامة إلى إزالة الوسخ والشعث فرخص لهم في ذلك وإنما منع أحمد من قوة الدلك خشية تقطيع الشعر

قال أبو الحارث قلت لأحمد المحرم يغسل الميت قال نعم فإذا فرغ من غسله طيبه غيره لأن المحرم لا يمس طيبا فيجعله رجل حلال

فصل

قال أحمد في رواية عبد الله ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قمله ولا يقطع شعرا ويغتسل إن شاء ويصب على رأسه ولا يرجل شعره ولا يدهنه ولا يتداوى بما يأكل

وكذلك قال في رواية المروذي لا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قملة ولا يقطع شعرا ويغتسل إن شاء ويصب على رأسه ولا يرجل شعره ولا يدهن ولا ينظر في المرآة ولا يصلح شيئا

فأما التفلي فهو إستخراج القمل من بين الشعر والثياب فأما إن كان ظاهرا على البدن والثوب فألقاه ويحكه لأن حكه يذهب أذى القمل من غير قتل له

فأما الإدهان فإن كان بدهن فيه طيب مثل دهن البنفسج والورد ونحو ذلك فحكمه حكم الطيب لا يجوز إلا لضرورة وعليه الفدية وإن كان غير مطيب مثل الشيرج والزيت فقال أبو بكر قال أحمد إن دهن رأسه بغير طيب كرهته ولا فدية فإن مكروهات الاحرام عند الحاجة تصير غير مكروه ولا فدية فيها بخلاف محظوراته فإنها إذا أبيحت لا بد فيها من فدية

قال في رواية عبد الله لا يرجل شعره ولا يدهنه وكذلك قال في رواية المروذي لا يرجل شعره ولا يدهنه وكذلك قال الخرقي لا يدهن بما فيه طيب وما لا طيب فيه

وقال ويتداوى بما يأكل وهو يأكل الزيت والشيرج ونحوهما فعلم أنه يجوز أن يتداوى به من غير فدية ولا كراهة

وقال في رواية أبي داود الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه فذكرت له حديث ابن عمر أن النبي أدهن بزيت غير مقتت فسمعته يقول المحرم الأشعث الأغبر

وقال في رواية الأثرم وقد سئل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج قال نعم يدهن به إذا إحتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل

فرخص فيه بشرط الحاجة فعلم أنه مكروه بدونها وأنه ليس بمحرم إذ لو كان محرما بدون الحاجة لوجبت فيه الفدية مع الحاجة كالطيب فعلى هذا إن إحتاج إلى الأدهان مثل أن يكون برجله شقوق أو بيديه ونحو ذلك جاز بغير كراهة ولا فدية لأنه يجوز أن يأكله ولو كان بمنزلة الطيب لما جاز أكله وإن كانت الحاجة في رأسه مثل أن ينشق رأسه ونحو ذلك جاز أيضا على عموم كلامه ومقتضاه وعموم كلامه في رواية أبي داود يقتضي المنع من دهن رأسه به بكل حال

وإن لم تكن به حاجة فقد نص على منع دهن رأسه في رواية الجماعة في معنى الرأس وأما دهن بشرته فعلى روايتين إحداهما يكره أيضا لأنه قال في رواية المروذي لا يدهن وقال في رواية الأثرم يدهن به إذا إحتاج إليه ولم يفصل وهذا قول

والثانية أن المنع مختص بالرأس لأنه قال في رواية عبد الله لا يرجل شعره ولا يدهنه

وقال في رواية أبي داود الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه وكذلك نقل أبو بكر عنه إن دهن رأسه بغير طيب كرهته ولا فدية وهذا قول وذلك لأن دهن الشعر يزيل شعثه ويرجله ويرفهه بخلاف دهن البشرة فإنه يوجب لصوق الغبار بها

وأما طريقة القاضي وأصحابه فذكروا في الأدهان مطلقا روايتين سواء كان في الرأس أو في البدن إحداهما الجواز في إستعماله من غير فدية وهو إختياره وإختيار أصحابه

والثانية المنع منه وعليه الفدية قالوا وهو إختيار الخرقي قال القاضي وقد يحتمل أن يكون منع منه على طريق الكراهة من غير الفدية

فأما الدهن بالسمن والشحم وزيت البزر ونحو ذلك من الأدهان فهو بمنزلة الزيت والشيرج هذا هو المعروف في المذهب وكلام أحمد يعمه وذكر القاضي في بعض المواضع أن المنع إنما هو من الزيت والشيرج لأجل أنهما أصل الأدهان

فأما دهن البان فذكره أبو الخطاب من الأدهان غير المطيبة والذي يدل على أنه مكروه دون كراهة الطيب ما روى نافع قال كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب فإذا إستوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله فعل رواه البخاري

وعن مسلم البطين قال كان حسين بن علي إذا أراد أن يحرم ادهن بالزيت وكان أصحابه يدهنون بالطيب

وعن إبراهيم بن سعد قال رأى عثمان بن عفان رجلا بذي الحليفة وهو يريد أن يحرم ولم يحرم مدهون الرأس فأمره أن يغسل رأسه بالطين رواهما سعيد

وعن علي أنه كان إذا أراد أن يحرم ادهن من دبة زيت

فادهانهم قبل الاحرام دليل على أنه غير مشروع بعده وقد أخبر ابن عمر رضي الله عنه أن النبي كان إذا أراد أن يحرم ادهن كما أخبرت عائشة أنه كان تطيب لحرمه قبل أن يحرم

وإنما اختلفوا في إستبقائه فلما استبقاه ابن عمر وهو ممن لا يرى إستبقاء الطيب علم أنه ليس مثله وأما للحاجة فروي عن مرة بن خالد الشيباني قال مررنا بأبي ذر الربذة ونحن محرمون في حج أو عمرة وقد تشققت أيدينا فقال إدهنوا أيديكم

وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول يتداوى المحرم بما يأكل

وعن مجاهد قال أصاب واقد بن عبد الله بن سالم في الطريق متوجها إلى مكة فكواه ابن عمر وعن الأسود بن يزيد وعطاء وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس الرخصة في التداوي بالأدهان التي تؤكل في الاحرام

وعن القاسم بن محمد أنه سئل عن إمرأة تشتكي رأسها وهي محرمة فقال يصب على رأسها زيتانيا رواهن سعيد

وعن عبد الله بن عمر أنه صدع بذات الجيش وهو محرم فقالوا ألا ندهنك بالسمن قال لا قالوا أليس تأكله قال ليس أكله كالدهان به رواه سعيد

مسألة السادس قتل صيد البر وهو ما كان وحشيا مباحا فأما صيد البحر والأهلي وما حرم أكله فلا شيء فيه إلا ما كان متولدا من مأكول وغيره

وجملة ذلك أن الحيوانات بالنسبة إلى المحرم قسمان أحدهما ما يباح له ذبح جميعه بلا شبهة ولا كراهة وهو الحيوان الأنسى من الإبل والبقر والغنم والدجاج والبط والحيوان البحري لأن الأصل حل جميع الحيوانات إلا ما حرم الله في كتابه وإنما حرم صيد البر خاصة قال تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم } وفي قوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه } مطلقا ثم أردفه بقوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم } بيان أن صيد البحر حلال لنا محلين كنا أو محرمين لا سيما وقد ذكر ذلك عقيب قوله { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } إلى قوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } إلى اخر الأية ثم قال { أحل لكم صيد البحر وطعامه } فكان هذا مبينا ومفسرا لما أطلقه في قوله { ليبلونكم الله بشيء من الصيد } وفي قوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } وهذا مما أجمع عليه قال ابن أبي موسى والدجاج الأهلي ليس بصيد قولا واحدا وفي الدجاج السندي روايتان إحداهما أنه صيد فإن أصابه محرم فعليه الجزاء

والرواية الأخرى ليس بصيد ولا جزاء فيه

القسم الثاني صيد البر فهذا يحرم عليه في الجملة لقوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } فإنما أباح لهم بهيمة الأنعام في حال كونهم غير مستحلى الصيد في إحرامهم وقال سبحانه { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا } إلى قوله { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون }

والصيد الذي يضمن بالجزاء ثلاث صفات أحدها أن يكون أصله متوحشا سواء إستأنس أو لم يستأنس وسواء كان مباحا أو مملوكا الثاني أن يكون بريا وهو ما

الثالث أن يكون مباحا أكله فإذا كان مباحا فإنه يضمن بغير خلاف كالظباء والأوعال والنعام ونحو ذلك وكذلك ما تولد من مأكول وغير مأكول كالعيسار وهو ولد الذيبة من الضبعان والسمع وهو ولد الضبع من الذيب وما تولد بين وحشي وأهلي

فأما ما لا يؤكل فقسمان أحدهما يؤذي فالمأمور بقتله وما في معناه

والثاني غير مؤذي فالمباح قتله لا كفارة فيه وأما غير المؤذي فقال أبو بكر كلما قتل من الصيد مما لا يؤكل لحمه فلا جزاء فيه في أحد قولي أحمد وفي الآخر يفدي الثعلب والسنور وما أشبه ذلك وقال ما يفدي المحرم من الدواب والسباع

قال القاضي في المجرد والأمر على ما حكاه أبو بكر وقال ابن عقيل ما لا يؤكل لحمه ولا يؤذي ففيه روايتان إحداهما لا ضمان فيه قال في رواية حنبل إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله فأما السبع فلا أرى فيه كفارة

وفي موضع اخر سألت أبا عبد الله عن أكل الضبع فقال يؤكل لا بأس بأكله قال وكل ما يؤدى إذا أصابه المحرم فإنه يؤكل لحمه وقال في موضع اخر وفيها حكومة إذا أصابها المحرم قيل له نهى النبي عن أكل كل ذي ناب من السباع قال أبو عبد الله هذه خارجة منه وقد حكم النبي فيها وجعلها صيدا وأمر فيه بالجزاء إذا أصابه المحرم فكلما ودى وحكم فيه أكل لحمه

وكذلك قال في غير موضع محتجا على إباحتها بأنها صيد يعنى أن كل ما كان صيدا فهو مباح

وعن أبي الحارث أنه سأله عن لحوم الحمر الوحشية فقال هو صيد وقد جعل جزاؤه بدنه يعنى أنه مباح

وهذا إختيار أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأكثر أصحابنا لكن ذكر ابن أبي موسى في الضفدع حكومة

فعلى طريقته يفرق بين ما نهى عن قتله كالضفدع والنملة والنحلة والهدهد والصرد وما لم ينه عن قتله وهذا إختيار القاضي وأصحابه وصرحوا بأنه لا جزاء في الثعلب إذا قلنا لا يؤكل لحمه

وحمل القاضي نص أحمد في الجزاء على الرواية التي يقول يؤكل لكن لم يختلف نص أحمد وقول قدماء أصحابه أن الثعلب يؤدى بكل حال

والثانية فيه الكفارة قال في رواية ابن القاسم وسندي في الثعلب الجزاء قال أبو بكر الخلال أكثر مذهبه وإن كان يؤدي فإنه عنده سبع لا يؤكل لحمه

وقال أحمد في رواية الميموني الثعلب يؤدي لتعظيم الحرمة ولا يلبسه لأنه سبع

وقال في رواية بكر بن محمد وقد سئل عن محرم قتل ثعلبا قال عليه الجزاء هو صيد ولكنه لا يؤكل

وقال عبد الله سألت أبي قلت ما ترى في أكل الثعلب قال لا يعجبني لأن النبي نهى عن كل ناب من السباع لا أعلم أحدا رخص فيه إلا عطاء فإنه قال لا بأس بجلوده يصلي فيها لأنها تؤدي يعني في المحرم إذا أصابه عليه الجزاء وقال سمعت أبي يقول كان عطاء يقول كل شيء فيه جزاء يرخص فيه فنص على أنه يؤدي مع أنه سبع

وقال ابن منصور في السنور الأهلي وغير الأهلي حكومة

مع أن الأهلي لا يؤكل بغير خلاف والوحش فيه روايتان وقال في رواية أبي الحارث في الثعلب شاة وفي الأرنب شاة وفي اليربوع جفرة وكذلك الوبر فيها الجزاء مع أنه قد اختلفت الرواية عنه في إباحة الوبر واليربوع وحكى عنه الخلاف في الأرانب أيضا وأم حبين فيها الجزاء في وجه وذكر القاضي في بعض كتبه وغيره أن المسألة رواية واحدة أنه لا جزاء إلا في المأكول وحمل نصوصه في الثعلب ونحوه على القول بأكله ونصه في السنور الأهلي على الاستحباب

وهذه الطريقة غلط فإنه قد نص على وجوب الجزاء في الثعلب مع حكمه بأنه سبع محرم وأختار ذلك الخلال وغيره

فعلى هذه الطريقة يضمن ما تعارض فيه دليل الحظر والإباحة وإن قلنا هو حرام قولا واحدا كالصرد والهدهد والخطاف والثعلب واليربوع والجفرة كما يضمن السمع والعسيار كما قلنا في المجوس لما تعارض فيهم سنة أهل الكتاب وسنة المشركين حرم طعامهم ونساؤهم كالمشركين وحرمت دماؤهم بالجزية كأهل الكتاب

فكذلك هذه الدواب التي تشبه السباع ونحوها من المحرمات وتشبه البهائم المباحة يحرم على المحرم قتلها ويديها كالمأكول ولا يؤكل لحمها كالسباع وعلى طريقة أبي بكر وغيره فجميع الدواب المحرمة إذا لم تؤد روايتان كالنسور الأهلي

فوجه الأول أن الله سبحانه قال { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } بعد قوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه }

فلما أباح صيد البحر مطلقا وحرم صيد البر ما دمنا محرمين علم أن الصيد المحرم بالاحرام هو ما أبيح في الاحلال لأنه علق تحريمه بالاحرام وما هو محرم في نفسه لا يعلق تحريمه بالاحرام فعلم أن صيد البر مباح بعد الاحلال كما نصه في قوله { وإذا حللتم فاصطادوا } وكذلك قوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } فإنه يقتضي إبانة إحلاله ونحن حلال

وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار قال سألت جابر بن عبد الله الضبع آكلها قال نعم قلت أصيد هي قال نعم قال سمعت ذاك من نبي الله قال نعم رواه فلولا أن الصيد عندهم هو الذي يؤكل لم يسأل أصيد هي أم لا ولولا أن الصيد نوع من الوحشي لم يخبر النبي عنها أنها صيد ولو كان كونها صيدا باللغة أو بالعرف لما أخبر النبي به فإنه إنما بعث لتعليم الشرع فلما أخبر أنها صيد علم أن كون البهيمة صيدا حكم شرعي وما ذاك إلا أنه هو الذي يحل أكله ووجه الثاني

وقد روي عنه في الضفدع روايتان إحداهما لا شيء فيه قال في رواية ابن منصور لا أعرف في الضفدع حكومة ومن أين يكون فيه حكومة وقد نهى عن قتله وهذا قياس الرواية الأولى عنه

والثانية فيه الجزاء قال في رواية عبد الله هشيم ثنا حجاج عن عطاء قال ما كان يعيش في البر والبحر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه نحو السلحفاة والشرطان والضفادع وظاهرة أنه أخذ بذلك وكذلك ذكره أبو بكر وهذا قول ابن أبي موسى

فعلى هذا كل ما يضمن فإن قتله حرام بلا تردد وهو من الكبائر لأن أصحابنا قالوا يفسق بفعله عمدا

وما لا يضمن قال أحمد في رواية حنبل يقتل المحرم الكلب العقور والذئب والسبع وكلما عدا من السباع ولا كفارة عليه ويقتل القرد والنسر والعقاب إذا وثب ولا كفارة

فإن قتل شيئا من هذه من غير أن يعدو عليه فلا كفارة عليه ولا ينبغي له

وفي لفظ يقتل المحرم الحدأ والغراب الأبقع والزنبور والحية والعقرب والفأرة والذئب والسبع والكلب ويقتل القرد وكلما عدا عليه من السباع ولا كفارة عليه ويقتل النسر والعقاب ولا كفارة عليه شبيه بالحدأ لأن النبي أمر بقتلها محرما وغير محرم وهو يخطف ولا كفارة عليه وإنما جعلت الكفارة والجزاء في الصيد المحلل أكله وهذا سبع فلا كفارة ولا بأس أن يقتل الذر

وقال في رواية أبي الحارث يقتل السبع عدا عليه أو لم يعد

وقال في رواية مهنا يقتل القمل ويقتل المحرم النملة إذا عضته ولا يقتل النحلة فإن اذته قتلها وقد نهى رسول الله عن قتل الذر والصرد والصرد طير

وقال في رواية ابن منصور يقرد المحرم بعيره

وقال في رواية عبد الله والمروذي يقتل المحرم الغراب والحدأة والعقرب والكلب العقور وكل سبع عدا عليك أو عقرك ولا كفارة عليك

وجملة هذا أن ما آذى الناس أو آذى أموالهم فإن قتله مباح سواء كان قد وجد منه الأذى كالسبع الذي قد عدا على المحرم أو لا يؤمن أذاه مثل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور فإن هذه الدواب ونحوها تدخل بين الناس من حيث لا يشعرون ويعم بلواهم بها فأذاهم بها غير مأمون قال أصحابنا قتلها مستحب وهذا إجماع وذلك لما روى ابن عمر قال حدثتني إحدى نسوة النبي عن النبي قال يقتل المحرم الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب

عن عائشة أن رسول الله قال خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور وفي لفظ في الحل والحرم متفق عليه

وفي لفظ لمسلم والغراب الأبقع

وفي رواية للنسائي وابن ماجة خمس يقتلهن المحرم الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور

وفي رواية قالت حفصة قال رسول الله خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن الغراب والفأرة والحدأة والعقرب والكلب العقور متفق عليه وفي رواية لمسلم أنه سأله رجل ما يقتل من الدواب وهو محرم فقال حدثتني إحدى نسوة النبي أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية قال وفي الصلاة أيضا

وفي رواية لمسلم قالت حفصة قال رسول الله خمس من الدواب كلها فواسق لا حرج على من قتلهن وذكره

وعن ابن عمر أن النبي قال خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور رواه الجماعة إلا الترمذي

وفي رواية لمسلم وغيره لا جناح على من قتلهن في الحرم والاحرام

وعن ابن عباس عن النبي قال خمس كلهن فاسقة يقتلهن المحرم ولا يقتلن في الحرم الفأرة والعقرب والحية والكلب العقور والغراب رواه أحمد وعن أبي هريرة أن رسول الله قال خمس قتلهن حلال في الحرم الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور

وعن أبي سعيد أن النبي سئل عما يقتل المحرم قال الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وذكره أحمد في رواية الفضل بن زياد

فذكر النبي ما يؤذي الناس في أنفسهم وأموالهم وسماهن فواسق لخروجهن على الناس

ولم يكن قوله خمس على سبيل الحصر لأن في أحد الحديثين ذكر الحية وفي الاخر ذكر العقرب وفي اخر ذكرها وذكر السبع العادي فعلم أنه قصد بيان ما تمس الحاجة إليه كثيرا وهو هذه الدواب وعلل ذلك بفسوقها لأن تعليق الحكم بالاسم المشتق المناسب يقتضي أن ما منه الاشتقاق علة للحكم فحيث ما وجدت دابة فاسقة وهي التي تضر الناس وتؤذيهم جاز قتلها وقوله في حديث أبي سعيد يرمي الغراب ولا يقتله إما أن يكون منسوخا بحديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة لأن الرخصة بعد النهي لئلا يلزم التغيير مرتين أو يكون رمية هو الأولى وقتله جائزا

فأما ما هو مضر في الجملة لكن ليس من شأنه أن يبتديء الناس بالأذى في مساكنهم ومواضعهم وإنما إذا اجتمع بالناس في موضع واحد أو أتاه الناس اذاهم مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير مثل الأسد والنمر والذئب والدب والفهد والبازي والصقر والشاهين والباشق فهذا كالقسم الأول والمشهور عند أصحابنا المتأخرين مثل القاضي ومن بعده

وقد نص في رواية أبي الحارث على أنه يقتل السبع عدا عليه أو لم يعد وكذلك ذكر أبو بكر وغيره قالوا لأن الله إنما حرم قتل الصيد والصيد إسم للمباح كما تقدم لأن النبي أباح قتل السبع العادي والعادي صفة للسبع سواء وجد منه العدوان أو لم يوجد كما قال الكلب العقور وكما يقال السيف قاطع والخبز مشبع والماء مرو لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن فرق بين السبع وبين الصيد فإن الصيد إذا عدا عليه فإنه يقتله قالوا ولأن النبي ذكر من كل جنس أدناه ضررا لينبه بإباحة قتله على إباحة ما هو أعلى منه ضررا فنص على الفأرة تنبيها على ما هو أكبر منها من الحشرات وذكر الغراب تنبيها به على ما هو أكبر منه من الجوارح وذكر الكلب العقور وهو أدنى السباع تنبيها به على سائر السباع

قالوا وفحوى الخطاب تنبيهه الذي هو مفهوم الموافقة أقوى من دليلة الذي هو مفهوم المخالفة وربما قالوا الكلب العقور إسم لجميع السباع لأن النبي قال في دعائه على عتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله السبع وعنه رواية أخرى أنه إنما يقتل إذا عدا عليه بالفعل فإذا لم يعد فلا ينبغي قتله لأنه قال في رواية حنبل فإن قتل شيئا من هذه من غير أن تعدو عليه فلا كفارة عليه ولا ينبغي له

وقال أيضا يقتل ما عدا عليه من السباع ولا كفارة عليه

فخص قتله بما إذا عدا عليه أو بما إذا عدا في الرواية الأخرى وهذا يقتضي أنه لا يقتله إذا لم يعدو ولو أراد أبو عبد الله أن العدوان صفة لازمة للسبع لم يقل كلما عدا من السباع فإن جميع السباع عادية بمعنى أنها تفترس ولذلك حرم أكلها فعلم أنه أراد عدوانا تنشئه وتفعله فلا تقصد في مواضعها ومساكنها فتقتل إلا أن يقصد ما من شأنه أن يعدوا على بني ادم كالأسد فيقتل الذي من شأنه أن يعدو دون أولادها الصغار ودون ما لا يعدو على الناس وهذا مذهب مالك فينظر وهو قول أبي بكر لأنه قال يقتل السبع مطلقا ول الهم

وقال في رواية عبد الله ويقتل الحية والعقرب والكلب العقور وكل سبع عدا عليك أو عقرك فنص على أن المقتول من السباع هو الذي يعدو على المحرم ويريد عقره وهذه الرواية أصح إن شاء الله وهي إختيار لوجوه

أحدها أن النبي لو أراد بهذا الحديث الإذن في قتل كل ما لا يؤكل لقال يقتل كل ما لا يؤكل ويقتل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير فإنه كان قد أوتي جوامع الكلم ألا تراه لما أراد النهي عنها قال كل ذي ناب من السباع حرام ولم يعدد أنواعا منها

الثاني أنه سئل عما يقتل المحرم من الدواب

الثالث أنه علل الحكم بأنهن فواسق والفاسق هو الذي يخرج على غيره إبتداء بأن يقصده في موضعه أما من لا يخرج حتى يقصد في موضعه فليس بفاسق

الرابع أنه خص الكلب العقور ولو قصد ما لا يؤكل أو ما هو سبع في الجملة لم يخص العقور من غيره فإن الكلب سبع من السباع وأكله حرام

الخامس أنه ذكر من الدواب والطير ما يأتي الناس في مواضعهم ويعم بلواهم به بحيث لا يمكنهم الاحتراز منه في الغالب إلا بقتله مثل الحديا والغراب والحية والعقرب ومعلوم أن هذا وصف مناسب للحكم فلا يجوز إهداره عن الاعتبار وإثبات الحكم بدونه إلا بنص آخر

السادس أنه قال والسبع العادي ولا يجوز أن يكون العدوان صفة لازمة بل يجب أن يكون المراد به السبع الذي يعتدي أو السبع إذا إعتدى ونحو ذلك أو السبع الذي من شأنه أن يعتدي على الناس فيأتيهم في أماكنهم ونحو ذلك كما يقال الرجل الظالم كما قال الكلب العقور فكان ذلك نوعا خاصا من الكلاب فلذلك هذا يجب أن يكون نوعا خاصا من السباع لوجوه

أحدها أنه لو كان المراد به العدوان الذي في طباع السباع وهو كونه يفترس غيره من الحيوان لكانت جميع السباع عادية بهذا الاعتبار فتبقى الصفه ضائعه وهذا وإن كان قد يأتي للتوكيد في بعض المواضع لكن الأصل فيه التقييد لا سيما وهو لم يذكر ذلك في الحية والعقرب مع أن العدوان صفة لازمة لهما فعلم أنه أراد صفة تخص بعض السباع

الثاني أن الأصل في الصفات أن تكون لتمييز الموصوف مما شاركه في الاسم وتقييد الحكم بها وقد تجيء لبيان حال الموصوف وإظهاره وإيضاحه لكن هذا خلاف للأصل وإنما يكون إذا كان في إظهار الصفة فائدة من مدح أو ذم أو تنبيه على شيء خفي أو غير ذلك وهنا قال العادي فيجب أن يكون العادي تقييدا للسبع أو إخراجا للسبع الذي ليس بعادي إذ إرادة عدوان لازم مخالف للأصل ثم ذلك العدوان الطبيعي معلوم بنفس قوله سبع فلا فائدة في ذكره

الثالث أن العدوان الذي هو فعل السبع معلوم قطعا والعدوان الذي هو طبعه يجوز أن يكون مرادا ويجوز أن لا يكون مرادا فلا يثبت بالشك

السابع أن كثيرا من الدواب قد نهى عن قتلها في الاحلال مثل الضفدع والنملة والنحلة والهدهد والصرد فكيف يكون في الاحرام وقد قال في الفواسق يقتلن في الحل والحرم

الثامن أنه قال في الكلاب لولا أنها أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم متفق عليه

وهذا يقتضي أن كونها أمة وصف يمنع من إستيعابها بالقتل لتبقي هذه الأمة تعبد الله وتسبحه نعم خص منها ما يضر بني ادم ويشق عليهم الاحتراز منه لأن رعاية جانبهم أولى من رعاية جانبه ويبقى ما يمكنهم الاحتراز منه على العموم

فعلى هذا قتله حرام أو مكروه وبكل حال لا جزاء فيه نص عليه

وإذا لم يقتل هذا فغيره ممن لا يؤكل لحمه ولا في طبعه الأذى أولى أن لا يقتل

قال ابن أبي موسى للمحرم أن يقتل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والأسود البهيم والسبع والذئب والحدأة والغراب الأبقع والزنبور والقرد والنسر والعقاب إذا وثب عليه والبق والبعوض والحلم والقردان وكلما عدا عليه واذاه ولا فدية عليه

فأما على الرواية الأولى فقال أبو الخطاب يباح قتل كل ما فيه مضرة كالحية والعقرب وسمى ما تقدم ذكره وقال والبرغوث والبق والبعوض والقراد والوزغ وسائر الحشرات والذباب ويقتل النمل إذا اذاه

وقال القاضي وابن عقيل الحيوانات التي لا تؤكل ثلاثة أقسام قسم يضر ولا ينفع كالأسد والذئب والجرجس والبق والبرغوث والبعوض والعلق والقراد فهذا يستحب قتله

الثاني ما يضر وينفع كالبازي والفهد وسائر الجوارح من الطير والمخلب الذي ليس بمعلم فقتله جائز لا يكره ولا يستحب

الثالث ما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان وبنات وردان والرخم والذباب والنحل والنمل إذا لم يلسعه يكره قتله ولا يحرم

وأما الذباب فذكره ابن عقيل في القسم وهو ما يضر ولا ينفع وذكره القاضي في القسم الثالث وهو ما لا يضر ولا ينفع وقد تقدم الكلام على القسم الأول وذكرنا الروايتين فيه

وأما القسم الثاني والثالث فالمنصوص عنه المنع من قتله كما تقدم ما لم يضر قد أدخلوا فيه الكلب والمذهب أن قتله حرام

وأما الذباب فقد ذكره أبو الخطاب وابن عقيل من المؤذي وذكره القاضي فيما لا يؤذي وهذا على قولنا لا يجوز أكله فأما إذا قلنا يجوز أكله فينبغي أن يضمن وأما الذر فقد روى عنه لا بأس أن يقتله وقال في الرواية الأخرى قد نهى رسول الله عن قتل الذر

وقال ابن أبي موسى ويكره له أن يقتل القملة ولا يقتل النملة في حل ولا حرم ولا يقتل الضفدع وهذه المنهيات عن قتلها مثل الصرد والنحلة والنملة

مرد هل هو منع تنزيه أو تحريم قال ابن أبي موسى ولا يقتل النمل في حل ولا حرم ولا الضفدع وظاهر كلام أحمد التحريم قال في رواية مهنا وقد سأله عن قتل النحلة والنملة فقال إذا اذته قتلها فقيل له أليس قد نهى النبي عن قتل النحلة قال نعم قد نهى عن قتل النحل والصرد وهو طير

وقال في رواية عبد الله وأبي الحارث في الضفادع لا تؤكل ولا تقتل نهى النبي عن قتل الضفدع

وقال في رواية ابن القاسم وقال له يا أبا عبد الله الضفدع لا لايؤكل فغضب وقال النبي نهى عن أن يجعل في الدواء من يأكله فهذا يقتضي أن قتلها وأكلها سواء وأنه محرم فأما إذا عضته النحلة أو النملة أو تعلق القراد ببعيره ونحو ذلك فإنه يقتله وإن أمكن دفع أدناه بدون ذلك بحيث له أن يقتل النملة بعد أن تقرصه

فصل

وما حرم قتله فإنه يحرم قصد قتله بمباشرة أو تسبب ويحرم عليه تملكه بإصطياد أو إبتياع أو اتهاب وسائر أنواع التملكات مثل كونه عوضا في صداق أو خلع أو صلح عن قصاص أو غير ذلك لأن الله قال { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } فإن قبضه بعقد البيع فتلف في يده ضمنه بالجزاء وضمن القيمة لمالكه بخلاف ما قبضة بعقد الهبة ومتى رده على البائع والواهب زال الضمان

فأما ملكة بالارث ففيه وجهان

وإذا اصطاده ولم يرسله حتى حل فعليه إرساله لأنه لم يملكه بذلك الاصطياد فإن لم يفعل حتى تلف في يده فعليه ضمانه وإن ذبحه بعد التحلل فهو ميتة نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي وهو قول ابن أبي موسى والقاضي وقال أبو الخطاب وابن عقيل يباح أكله وعليه ضمانه لأنه ذبيحة حلال أكثر ما فيه أنه كالغاصب فيجب عليه قيمته

والأول أجود لأنه ممنوع لحق الله

وإذا أحرم وفي ملكه صيد ليست يده الحسية عليه بأن يكون في مصرة غائبا عنه فملكه باق عليه ولا يلزمه إرساله وإن كانت يده المشاهدة الحسية عليه بأن يكون مربوطا معه حال الاحرام أو هو في قفصه أو في يده فإنه يجب عليه إزالة يده عنه في ظاهر المذهب

قال في رواية ابن القاسم وسندي في رجل أحرم وفي يده صيد يرسله فإن كان في منزله ليس عليه وقد كان عبد الله بن الحارث يحرم وفي بيته النعام فإن لم يفعل فأزال يده إنسان فلا شيء عليه لأنه قد فعل ما يجب عليه فأشبه ما لو أزال يده عن المكاتب

وأما ملكه فلا يزول عنه فيما ذكره أصحابنا

فإن لم يرسله حتى حل لم يجب عليه إرساله بخلاف ما اصطاده في الإحرام ذكره أصحابنا لأن ما حرم إستدامته من المحظورات لا يجب إزالته إذا إستدامه في الحلال كاللباس والطيب

وقال ابن أبي موسى لو إصطاد محرم صيدا فأمسكه حتى حل من إحرامه لزمه إرساله واجبا فإن تلف في يده أو ذبحه بعد الاحلال فعليه جزاؤه ولا يحل له أكله وكذلك لو أحرم وفي يد المملوك صيده لزمه إرساله

وظاهره الفرق فإن أراد يبيع الصيد أو يهبه فقال القاضي في خلافه لا يصح ذلك لأن في ذلك تصرف فيه لأنه عاجز شرعا عن نقل الملك فيه

فعلى هذا هل له أن يعيره

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا يجوز أن يبيعه ويهبه لأنه إخراج له عن ملكه فأشبه إزالة يده عنه ولأن إزالة الملك أقوى من إزالة اليد ولهذا نقول في العبد الكافر إذا أسلم عند سيده الكافر فإنه ممنوع من إقرار يده عليه وله أن يبيعه لمسلم ويهبه له هذا إذا لم تكن يده المشاهدة عليه فأما إن كانت اليد الحسية عليه لم يصح بيعه ولا هبته لأنه مأمور في الحال برفع يده عنه وذكر ابن عقيل في موضع اخر أن له أن يعتبره من حلال لأنه إخراج له عن يده وهذا يلائم حاله فعلى هذا

وإذا باعه ثم أراد فسخ البيع لإفلاس المشتري أو لعيب في الثمن أو لخيار شرط ونحو ذلك لم يكن له ذلك فيما ذكره أصحابنا لأنه إبتداء بملك إلا أن نقول إن الملك لا ينتقل إلى المشتري فيكون مثل الرجعة للزوجة فيما ذكره بعض أصحابنا وغيره أطلق المنع

فأما إن كان المشتري حلالا وأراد رده على البائع المحرم بعيب أو خيار ونحو ذلك فله ذلك قاله ابن عقيل

فإذا صار في يد البائع لزمه إطلاقه لأجل إحرامه ويتخرج إذا قلنا لا يورث

وإن كان المشتري محرما فأراد رده على بائع محرم أو حلال بعيب أو خيار ونحو ذلك فهو كإبتداء بيعه على ما تقدم فيما ذكره ابن عقيل فإن كانت يد المشاهدة عليه لم يجز وإلا جاز على ما ذكره القاضي وابن عقيل وعلى قول القاضي في خلافه لا يجوز مطلقا وعلى قول

ومن هذا الباب لو أراد الواهب أن يسترجعه لم يكن له ذلك وإذا طلق امرأته وهو محرم والصداق صيد لم يمنع من طلاقها لكن هل يدخل نصف الصداق في ملكه

فصل

وإذا ذبح المحرم صيدا فهو حرام كما لو ذبحه كافر غير الكتابي وهو بمنزلة الميتة وتسمية الفقهاء المتأخرون ميتة بمعنى أن حكمه حكم الميتة إذ حقيقة الميتة ما مات حتف أنفه قال في رواية حنبل إذا ذبح المحرم لم يأكله حلال ولا حرام هو بمنزلة الميتة

وفي لفظ لحنبل وإبراهيم في محرم ذبح صيدا هو ميتة لأن الله تعالى قال { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فسماه قتلا فكلما إصطاده المحرم أو ذبحه فإنما هو قتل قتله

وفي لفظ لا إذا ذبح المحرم الصيد لم يأكله أحد لأن الله سماه قتلا فلا يعجبنا لأحد أن يأكله

وذلك لم إحتج به أحمد من قول الله سبحانه { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فسمى الله سبحانه رمى الصيد بالسهم ونحو ذلك قتلا ولم يسميه تذكية

وذلك يقتضي كونه حراما من وجوه

أحدها أن كل حيوان نهى الشرع عن قتله فإنه حرام كما نهى عن قتل الضفدع وعن الهدهد والصرد وعن قتل الآدمى لأن النهي عن قتله يقتضي شرفه وكرامته وذلك يوجب حرمته

الثاني أنه سمى جرحه قتلا والقتل إذا أطلق في لسان الشرع فإنه يقتضي الفعل المزهق للروح الذي لا يكون ذكاة شرعية كما قال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } إلى غير ذلك من ذكر قتل الآدمى وقال النبي ينزل ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير وقال خمس من الدواب يقتلن في الحل ولا جناح على من قتلهم وقال إقتلوا الأبتر وذو الطفيتين وأمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب ونهى عن قتل الحيوان لغير مأكله وقال من قتل عصفورا بغير حقه فإنه يعج إلى الله يوم القيامة يقول ربى سل هذا فيم قتلني وسئل عن ضفدع تجعل في دواء فنهى عن قتلها وقال إن نقيقها تسبيح ونهى عن قتل أربع من الدواب وقال في الفعل المبيح إلا ما ذكيتم وقال دباغ الأديم ذكاته وقيل له أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة فلما سمى الله سبحانه رمى الصيد بالسهم وإزهاق روحه قتلا ولم يسمه ذكاة ولا عقرا علم أنه ليس مذكا تذكية شرعية

وأيضا فإن هذا عقر قد حرمه الشرع لمعنى في القاتل فلم يفد الإباحة ولا الطهارة كذبح المجوسي والمرتد وعكسه ذبح المسروق والمغصوب إن سلم فإن ذلك المعنى في المالك وهو أن نفسه لم تطب به ولهذا لا يختلف حال الغاصب قبل الإذن وبعده إلا فينما يتعلق بالمغصوب خاصة بخلاف المحرم فإن إحرامه صفة في نفسه تكون مع وجود الصيد وعدمه كدين المشرك والمرتد

وأيضا فإنه عقر محرم لحق الله فلم يفد الإباحة كالعقر في غير الحلق واللبة وبكلب غير معلم وبدون التسمية وبدون قصد الذكاة وعقر المشرك وذلك لأن الحيوان قبل الذكاة حرام فلا يباح إلا بأن يذكى على الوجه المأذون فيه كما أن الفرج قبل العقد محرم فلا يباح إلا بعقد شرعي فإذا نهى الشارع عن عقره لم يكن عقره مشروعا فيبقى على أصل التحريم كما لو نكح المرأة نكاحا لم يبحه الشارع ولأنه قتل لا يبيحه المقتول لقاتله بحال فلا يباح لغيره كسائر ما نهى عنه الشرع من القتل ولأنه قتل محرم لحرمة الحيوان وكرامته فلا يفيد الحل كذبح الانسان والضفدع والهدهد ولأن جرح الصيد الممتنع يفيد الملك والإباحة واقتضاؤه الملك أقوى من إقتضائه الإباحة لأنه يحصل بمجرد إثباته وبدون قصد الذكاة ويثبت للمشرك فإذا كان جرح الصيد في حال الصيد لا يفيد الملك فأن لا يفيد الإباحة أولى وأحرى

وصيد الحرم إذا ذبح فيه بمنزلة الميتة كالصيد الذي يذبحه المحرم قال في رواية ابن منصور وقد سئل هل يؤكل الصيد في الحرم قال إذا ذبح في الحل ونقل عنه أيضا إذا رماه في الحل فتحامل فدخل الحرم يكره أكله

وقال في رواية حنبل وإن دخل الحرم فلا يصطاد ولا أرى أن يذبح إلا أن يدخل مذبوحا من خارج الحرم فيأكله ولا أرى أن يذبح شيئا من صيد الحل ولا الحرم وكذلك صيد المدينة الذي يصطاد فيه قال في رواية حنبل صيد المدينة حرام أكله حرام صيده وخرجها القاضي على وجهين أحدهما كذلك والثاني الفرق لأن حرمة حرم المدينة لا يوجب زوال الملك في الصيد المنقول إليها من خارج بخلاف حرمة حرم مكة

وإن أخرجه من الحرم ثم ذبحه لم يحل أيضا كما لو أمسكه حتى تحلل ثم ذبحه وإذا إشترك حلال وحرام في قتل صيد فهو حرام أيضا كما لو إشترك مسلم ومجوسي في الذكاة

وإن أعان المحرم حلالا بدلالة أو إعارة آلة ونحو ذلك فقال القاضي وأصحابه هو ذكي مباح للحلال ولغير المحرم الدال لأن في حديث أبي قتادة فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا أكلنا لحما ونحن محرمون فحملوا ما بقى من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله قالوا يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقالوا أنأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقى فقال هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها رواه البخاري وفي لفظ مسلم هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء قال قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها

وهذا يقتضي أنه لو أشار بعضهم حرم على جميعهم

وقال أبو بكر إذا أبان المحرم فأصطاده حلال فعلى المحرم الجزاء ولا يأكل الحلال والمحرم من الصيد لأنه في حكم الميتة

ولأنه إذا أعان المحرم على قتله كان مضمونا عليه وضمانه يقتضي أنه قتل بغير حق فيكون ميتة فإن الذكي لا يضمن كما لو ذبحه الحلال لحرم وإن كسر بيضة أو قطع شجرة لم يجز له الانتفاع بها وأما لغيره فإذا أضطر إلى الصيد جاز له عقره ويأكله وعليه الجزاء لأن الضرورة تبيح أكل جميع المحظورات سواء كان المنع لحق الله أو لحق ادمي والصيد لا يخرج عن هذين

وإذا قتله فهل يكون ذكيا بحيث يباح أكله للمحلين أو ميتة قال ليست هذه ذكاة بل هو ميتة في جميع الأحوال لأن أحمد قال إنما سماه الله قتلا

وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا فإنه يأكل الميتة ويدع الصيد نص عليه في رواية الجماعة لأن الله إستثنى حل الميتة في كتابه للمضطر بقوله { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ولم يستثن حل الصيد لأحد وإنما أبيح استدلالا وقياسا وما ثبت حكمه بالنص مقدم على ما ثبت بالاجتهاد لا سيما وهو في هذا الحال قد لا يكون مضطرا إلى الصيد وأيضا فإن الصيد يحرم أخذه وقتله وأكله والميتة إنما يحرم أكلها خاصة وما حرم فيه ثلاثة أفعال أعظم مما يحرم فيه فعل واحد

وأيضا فإن الصيد قد صار بالاحرام حيوانا محترما يشبه الآدمي وماله والميتة لا حرمة لها في نفسها فيكون إستحلال ما لا حرمة له أولى من إستحلال ما هو محترم كما تقدم الميتة على أخذ أموال الناس

وأيضا فإن الصيد قد صار بالاحرام حيوانا محترما يشبه الآدمي وماله والميتة لا حرمة لها في نفسها فيكون إستحلال ما لا حرمة له أولى من إستحلال ما هو محترم كما تقدم الميتة على أخذ اموال الناس وأيضا فإن الصيد يوجب بقاء الجزاء في ذمته والميتة بخلاف ذلك

فإن قيل الصيد أيسر لأن من الناس من يقول هو ذكى وأن أكله حلال قيل هذا غلط لأن أحدا من المسلمين لم يقل إنه حلال للقاتل ولا ذكي بالنسبة إليه وكونه حلالا لغيره لا يؤثر فيه كطعام الغير مع الميتة فإن الميتة تقدم عليه

فإن وجد ميتة وصيدا قد ذبحه محرم فقال القاضي يأكل ذبيحة المحرم هنا ويترك الميتة لأنه لا يحتاج أن يفعل في الصيد غير الأكل وأكله أخف حكما من أكل الميتة لأن من الناس من يقول هو ميتة وذكي

فأما إن ذبح هو الصيد فهنا ينبغي أن يقدم الميتة

وإن وجد صيدا وطعاما مملوكا لا يعرف مالكه فقال يقدم أكل طعام الغير وقيل

فصل فأما ما صاده الحلال بغير معونة من المحرم وذكاة فإنه مباح للمحرم إذا لم يصده لأجله ولا عقره لأجله ومتى فعل ذلك لأجله فهو حلال للحلال حرام على المحرم سواء علم الحرام بذلك أو لم يعلم

وهل يحرم على غيره نص على هذا في رواية الجماعة فقال إذا صيد الصيد من أجله لم يأكله المحرم ولا بأس أن يأكل من الصيد إذا لم يصد من أجله إذا إصطاده الحلال وذلك لما روى عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن عبد المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن النبي قال صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الشافعي هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس

وقال أحمد في رواية عبد الله قد روي عن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال لحم الصيد لكم حلال إلا ما صدتم أو صيد لكم وكرهه عثمان بن عفان لما صيد له

وحديث أبي قتادة أن النبي أمرهم أن يأكلوا وهم حرم وكان أبو قتادة صاده وهو حلال فإذا صاده الحلال فلا بأس أن يأكله المحرم إذا لم يصد من أجله ولا يأكله إذا صيد من أجله

وعلي وعائشة وابن عمر كانوا يكرهون أن يأكل المحرم لحم الصيد وكانوا ذهبوا إلى ظاهر الآية { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وهذا يدل على صحة الحديث عنده

فإن قيل فقد قال الترمذي المطلب لا نعرف له سماعا من جابر قيل قد رواه أحمد عن رجل ثقة من بني سلمة عن جابر قال سمعت رسول الله يقول لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده أو يصد له وهذا الحديث مفسر لما جاء عن النبي من كراهة صيد الحلال للمحرم ومن إباحته له

أما الأول فروى ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى رسول الله حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم متفق عليه وفي رواية لحم حمار وفي رواية من لحم حمار وحش وفي رواية شق حمار وحش فرده وفي رواية عجز وحش يقطر دما رواهن مسلم وغيره

فهذا لم يكن النبي أعان عليه بوجه من الوجوه ولا أمر به ولا علم أنه يصاد له وإنما يشبه والله أعلم أن يكون قد رأى لما أهداه أنه صاده لأجله لأن الناس كانوا قد تسامعوا بقدوم رسول الله وكل يحب أن يقترب إليه ويهدي إليه فلعل الصعب إنما صاده لأجل النبي

وإذا كان هذا يكون تركه واجبا أو يكون خشى أن يكون صيد لأجله فيكون قد تركه تنزها وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه كما كان يدع التمرة خشية أن تكون من تمر الصدقة

وعن طاوس قال قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله وهو حرام قال أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال إنا لا نأكله إنا حرم رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة

وعن الحسن بن محمد عن عائشة قالت أهدي لرسول الله وشيقة ظبي وهو محرم ولم يأكله رواه عبد الرزاق وأحمد في مسائل عبد الله وقال قال ابن عيينة الوشيقة ما طبخ وقدد

وعن اسحق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه وكان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاما فيه من الحجل واليعاقيب ولحم الوحش وبعث إلى علي فجاءه الرسول وهو يخبط لا باعر له فجاءه وهو ينفض الخبط عن يده فقالوا له كل فقال اطعموه قوما حلالا فإنا حرم فقال علي أنشد من كان هاهنا من أشجع أيعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله قالوا نعم رواه أبو داود ورواه أحمد من حديث علي بن زيد بن عبد الله بن الحارث قال كان أبي الحارث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان فأقبل عثمان إلى مكة فقال عبد الله بن الحارث فاستقبلت عثمان بالنزول بقديد فاصطاد أهل الماء حجلا فطبخناه بماء وملح فجعلناه عرقا للثريد فقدمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا فقال عثمان صيد لم يصطده ولم يأمر بصيده إصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس فقال عثمان من يقول في هذا فقالوا علي فبعث إلى علي فجاء قال عبد الله بن الحارث فكأني أنظر إلى علي حين جاء يحت الخبط عن كفيه فقال له عثمان صيد لم يصده ولم يأمر بصيده إصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس فغضب علي وقال أنشد الله رجلا شهد رسول الله حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله إنا قوم حرم فأطعموه أهل قال فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله ثم قال علي أنشد الله رجلا شهد رسول الله حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل قال فشهد دونهم من العدة من الاثنى عشر قال فثنى عثمان وركه عن الطعام فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء

فهذا الصيد قد كان صنع لعثمان وأصحابه وكان عثمان يرى أن ما لم يعن على صيده بأمر أو فعل فلا بأس به فلما أخبره علي رضي الله عنه عن النبي أنه لم يقبل ما أهدى إليه رجع عن ذلك وكان لا يأكل مما صنع له فروى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عثمان عليه السلام بالعرج وهو محرم في يوم صائف وقد غطى رأسه بقطيفة أرجوان ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا قالوا ولا تأكل أنت قال أني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلى رواه مالك وغيره وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال خرج أبي مع عثمان إلى مكة فنزلوا ببعض الطريق وهم محرمون فقرب إلى عثمان ظبي قد صيد فقال لهم كلوا فإني غير آكله فقال له عمرو أتأمرنا بما لست بآكله فقال عثمان لولا أني أظن أنما صيد لي وأميت من أجلي لأكلت فأكلوا ولم يأكل عثمان منه شيئا رواه سعيد والدارقطني ولفظه إني لست في ذاك مثلكم إنما صيد لي وأميت باسمي

وما نقل عن عثمان من الرخصة مطلقا فقد رجع عنه بدليل ما روى سعيد عن بشر بن سعيد أن عثمان رضي الله عنه كان يصاد له الوحش على المنازل ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته أو ثلاث ثم إن الزبير كلمه فقال ما أدري ما هذا يصاد لنا أو من أجلنا أن لو تركناه فتركه وهذا متأخر عما روى عبد الله بن الحارث عن أبيه قال حججت مع عثمان رضي الله عنه وأتى بلحم صيد صاده حلال فأكل منه وعلي جالس فلم يأكل فقال عثمان والله ما صدنا ولا أشرنا ولا أمرنا فقال علي { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }

ثم إتفق رأي عثمان والزبير على أن معنى سنة رسول الله أن ما صيد للمحرم لا يأكله وكان ذلك بعد أن حدثه علي والأشجعيون بالحديث فعلم أنهم فهموا ذاك من الحديث ويدل على ذلك أن ابن عباس هو الذي روى حديث الصعب وحديث زيد وروى عبد الله في مسند أبيه عن علي قال أتي النبي بلحم صيد وهو محرم فلم يأكله

وعن طاوس عن عباس قال لا يحل لحم الصيد وأنت محرم وتلا هذه الآية { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } رواه سعيد وغيره

ومع هذا فقد روى سعيد وأحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال ما صيد قبل أن تحرم فكل وما صيد بعدما تحرم فلا تأكل فيشبه والله أعلم أن يكون ما صيد بعد إحرامه يخاف أن يكون صيد لأجله بخلاف ما صيد قبل الاحرام فتتفق الاثار المروية في ذلك عن الصحابة على تفسير الحديث وقد روى أحمد عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان أتى بقطا مذبوح وهو محرم فأمر أصحابه أن يأكلوا ولم يأكل وقال إنما صيد لي وكان علي يكره ذلك على كل حال

وعن عبد الرحمن بن حاطب أن عثمان كره اكل يعاقيب أصيدت له وقال إنما أصيدت وأميتت لي

وأما أحاديث الرخصة فما روى عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي وهو ابن أخي طلحة قال كنا مع طلحة ونحن حرم فأهدى لنا طير وطلحة راقد فمنا من اكل ومنا من تورع فلم يأكل فلما أفاق طلحة وفق من أكله وقال أكلناه مع رسول الله رواه أحمد ومسلم والنسائي وعن عمير بن سلمة الضمري عن رجل من بهز أنه خرج مع رسول الله يريد مكة حتى إذا كانوا في بعض وادي الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبي فقال أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهزي وكان صاحبه فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون قال ثم مررنا حتى إذا كنا بالإثاية إذا نحن بظبي حاقف في ظل فيه سهم فأمر رسول الله رجلا أن يقف عنده حتى يجيز الناس عنه رواه مالك وأحمد والنسائي

وعن أبي قتادة قال كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي في منزل في طريق مكة ورسول الله أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنونني وأحبوا لو أني أبصرته والتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح فقالوا والله لا نعينك عليه فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد معي فأدركنا رسول الله فسألناه عن ذلك فقال هل معكم منه شيء فقلت نعم فناولته العضد فأكلها وهو محرم وفي رواية هو حلال فكلوه متفق عليه وللبخاري قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها ولمسلم هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء قالوا لا قال فكلوا

وقد روى عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال خرجت مع رسول الله زمن الحديبية وأحرم أصحابي ولم أحرم فرأيت حمارا فحملت عليه فإصطدته فذكرت شأنه لرسول الله وذكرت أني لم أكن أحرمت وأني إنما صدته لك فأمر النبي أصحابه فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني إصطدته له رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وقال أبو بكر النيسابوري قوله إني أصطدته لك وقوله لم يأكل منه لا أعلم أحدا ذكره في هذا الحديث غير معمر وهو موافق لما روي عن عثمان أنه صيد له طائر وهو محرم فلم يأكل وهذا إسناد جيد الا أن الروايات المشهورة فيها أنه أكل منه فينظر وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه أقبل من البحرين حتى إذا كان بالربذة وجد ركبا من العراق محرمين فسألوه عن صيد وجدوه عند أهل الربذة فأمرهم بأكله قال ثم إني شككت فيما أمرتهم فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فقال ماذا أمرتهم به قال بأكله فقال عمر لو أمرتهم بغير ذلك لفعلت بك يتواعده

وعن ابن عمر قال قدم أبو هريرة من البحرين حتى إذا كان بالربذة سئل عن قوم محرمين أهدى لهم لحم صيد أهداه حلال فأمرهم بأكله فلما قدم على عمر ذكر ذلك له فقال عمر ما أمرتهم قال أمرتهم بأكله قال لو أمرتهم بغير ذلك لأوجعتك ضربا فقال رجل لابن عمر أتأكله فقال أبو هريرة خير مني وعمر خير مني رواه سعيد

وروي عن الشعبي ومجاهد قال إذا رأيتم الناس يختلفون فأنظروا ما فعل عمر فاتبعوه

وأيضا فإن الله سبحانه قال { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } والمراد بالصيد نفس الحيوان المصيد لا كما قال بعضهم أنه مصدر صاد يصيد صيدا وأصطاد يصطاد إصطيادا وأن المعنى حرم عليكم الاصطياد في حال من الاحرام لوجوه أحدها أن الله حيث ذكر الصيد فإنما يعني به ما يصاد كقوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } وانما يستمعون بما يصاد لا بالاصطياد

وقوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } بعد قوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام }

الثاني أن التحريم والتحليل في مثل هذا إنما يضاف إلى الأعيان وإذا كان المراد أفعال المكلفين كقوله { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } { أحل لكم الطيبات } { أحلت لكم بهيمة الأنعام } { غير محلي الصيد } { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وهذا كثير في القرآن والحديث

ثم قال تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر } فعلم أن المراد نفس المصيد

الثالث أن قوله { صيد البحر } المراد به ما يصاد منه لأنه عطف عليه وطعامه مالحة وطافية فلا بد أن يكون المقرون بالطعام هو النوع الاخر وهو الرطب الصيد ولأنه قال { متاعا لكم } وإنما يستمتع بنفس ما يصاد لا بالفعل فإذا كان صيد البحر قد عني به الصيد فكذلك صيد البر لأنه مذكور في مقابلته

الرابع أن الصحابة فسروه بذلك كما تقدم عنهم ولم ينقل عن مثلهم خلاف في ذلك

الخامس أن الفعل لا يضاف إلى البر والبحر إلا على تكلف بأن يقال الصيد في البر والصيد في البحر ثم ليس مستقيما لأن الصائد لو كان في البحر وصيده في البر لحرم عليه الصيد ولو كان بالعكس لحل له فعلم أن العبرة بمكان الصيد الذي هو الحيوان لا بمكان الاصطياد الذي هو الفعل

السادس أنه إذا أطلق صيد البر وصيد البحر فهم منه الصيد البري والبحري فيجب حمل الكلام على ما يفهم منه وإذا كان المعنى حرم عليكم الصيد الذي في البر فالتحريم إذا أضيف إلى المعين كان المراد الفعل فيها وقد فسرت سنة رسول الله أن المراد فعل يكون سببا إلى هلاك الصيد وأكل صيد يكون للمحرم سبب في قتله بما ذكرنا عنه كما فسر قوله { ولا تقربوهن حتى يطهرن } على اجتناب الفروج خاصة ودل على ذلك أشياء أحدها أنه إنما حرم أكل الصيد لأن إباحته تفضي إلى قتله ولهذا بدأ الله سبحانه بالنهي عن قتله فقال { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ثم أتبعه بقوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فالمقصود من التحريم إستحياء الصيد وإستبقاؤه من المحرمين وألا يتعرضوا له بأذى ولهذا إذا قتلوه حرم عليهم وعلى غيرهم قطعا لطمع الانتفاع به إذا قتله المحرم بوجه من الوجوه فإذا كان الحلال هو الذي قد صاده كما أباحه الله له وذكاة لم يقع شيء من الفعل المكروه فلا وجه للتحريم على المحرم وخرج على هذا ما إذا كان قصد الحلال إصطياده للحرام فإن المحرم صار له سبب في قتل الصيد وإن لم يقصده فإذا علم الحلال إنما صاده الحلال لا يحل كف الحلال عن الاصطياد لأجل الحرام فلم يبق للمحرم سبب في قتله بوجه من الوجوه وصار وجود المحرم في قتل الصيد كعدمه

الثاني أن الصيد اسم للحيوان الذي يصاد وهذا إنما يتناوله إذا كان حيا فأما بعد الموت فلم يبق يصد فإذا صاد المحرم الصيد وأكله فقد أكل لحم الصيد وهو محرم أما إذا كان قد صيد قبل إحرامه أو صاده حلال لنفسه ثم جاء به قديدا أو شواء أو قديرا فلم يعترض المحرم لصيد البر وإنما تعرض لطعامه وقد فرق الله بين صيد البحر وطعامه فعلم أن الصيد هو ما إصطيد منه والطعام ما لم يصطد منه إما لكونه قد طفا أو لكونه قد ملح ثم إن ما حرم على المحرم صيد البر خاصة دون طعام صيد فعلم أنه إنما حرم ما إصطيد في حال الاحرام

فإذا كان قد إصطاده هو أو صيد لاجله فقد صار للمحرم سبب في قتله حين هو صيد فلا يحل أما إذا صاده الحلال وذبحه لنفسه ثم أهداه أو باعة للمحرم فلم يصادفه المحرم إلا وهو طعام لا صيد فلا يحرم عليه وهذا بين حسن وقد روي عن عروة عن الزبير أنه كان يتزود صفيف الظباء في الاحرام رواه مالك

الثالث أن الله إنما حرم الصيد ما دمنا حرما ولو أحل الرجل وقد صاد صيدا أو قتله وهو محرم لحرم عليه بعد الاحرام فعلم أن المقصود تحريمه إذا كان صيدا وقت الاحرام فإذا صيد قبل الاحرام أو صاده غير محرم فلم يتناول الصيد وقت الاحرام ولا تناوله أحد بسبب محرم فلا يكون حراما في حال الاحرام كما أنه لو تناوله أحد في حال الاحرام كان حراما في حال الاحلال الرابع أن الصيد إسم مشتق من فعل لأن معناه المصيد

الخامس أن الله سبحانه وتعالى لو أراد تحريم أكله لقال ولحم الصيد كما قال { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } وذلك أن المحرم إذا كان لا حياة فيه كالدم والميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطحية أضيف التحريم إلى عينه للعلم بأن المراد الأكل ونحوه أما إذا كان حيا فلو قيل والخنزير لم يدر ما المحرم منه أهو قتله أو أكله أو غير ذلك فلما قيل ولحم الخنزير علم أن المراد تحريم الأكل ونحوه فلما قال في الصيد وحرم عليكم صيد البر علم أن المراد تحريم قتله وتحريم الأكل الذي يفضي إباحته إلى قتله لا مطلق تحريم أكل لحمه وهذا حسن لمن تأمله

فعلى هذا إذا صيد من أجل محرم بعينه جاز لغيره من المحرمين الأكل منه ذكره أصحابنا القاضي قال في رواية عبد الله المحرم إذا أصيد الصيد من أجله لا يأكله المحرم لأنه من أجله صيد ويأكله غيره ولا بأس أن يأكل المحرم من الصيد الذي لم يصد من أجله إذا صاده حلال

وقد أخذ بحديث عثمان وفيه أنه أمر أصحابه بأكله ولم يأكل هو وكذلك في الحديث المرفوع إن كان محفوظا ولأن قوله صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم دليل على أن المحرم إذا لم يصده ولا صيد له فهو حلال وإن صيد لمحرم اخر ولأنه إذا لم يقصد لهذا المحرم لم يكن له سبب في قتله

فأما إن كان الصيد لنوع المحرمين مثل أن يكون أهل المياه والاعراب وغيرهم يعدون لحم الصيد لمن يمر بهم من المحرمين يبيعونهم أو يهدون لهم وكذلك إذا صادوه للرئيس وأصحابه

وإن كانوا قد صادوه ليبيعوه على المحرمين وغيرهم إذا إتفق وإنما يتفق غالبا المحرم مثل مرارة الضبع التي تشتريه الناس من الاعراب

فإذا أكل الصيد من صيد لأجله من المحرمين وجب عليه الجزاء كما لو أعان على قتله بدلالة أو إشارة لأن هذا الأكل إتلاف ممنوع منه لحق الاحرام فضمنه بالجزاء كما لو قتله بخلاف أكل لحم الصيد الذي قتله فإن ذاك إنما يحرم لكونه ميتة

فإن أتلف الصيد الذي صيد لأجله بإحراق ونحوه بإذن ربه ففيه وجهان أحدهما يضمنه كالأكل والثاني وهو أظهر لا يضمنه لأنه لم ينتفع على الوجه الذي قصد لأجله وهو نفسه ليس بصيد محترم فأشبه ما لو حرق الطيب ولم يتطيب به وهذا لأنه إذا أكله فكأنه قد أعان على قتله بموافقة قصد الصائد فيصير ذلك ذريعة إلى قتل الصيد بسبب المحرمين

أما إذا أحرقه فليس ذلك مقصود الصائد وسائر وجوه الانتفاع من اللبس والتداوي ونحو ذلك مثل الأكل وما لا منفعة أصلا مثل الاحراق

فصل

وكما يحرم قتل الصيد تحرم الإعانة عليه بدلالة أو إشارة أو إعارة الة لصيده أو لذبحه

وإذا أعان على قتله بدلالة أو إشارة أو إعارة الة ونحو ذلك فهو كما لو شرك في قتله فإن كان المعان حلالا فالجزاء جميعه على المحرم وإن كان حراما إشتراكا فيه لما تقدم في حديث أبي قتادة أنه قال فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنونني وأحبوا لو أني أبصرته وألتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح فقالوا والله لا نعينك عليه فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت لفظ البخاري وفي رواية لهما فجعل بعضهم يضحك إلى بعض فنظرت فرأيته فحملت عليه الفرس فطعنته فأتيته فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني مسلم وفي رواية فرأيت أصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش يعني فوقع سوطه فقالوا لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون فتناولته فأخذته هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم فإذا حمار وحش فأسرجت فرسي وأخذت رمحي ثم ركبت فسقط مني السوط فقلت لأصحابي وكانوا محرمين ناولوني السوط فقالوا والله لا نعينك عليه بشيء فنزلت فتناولته وفي رواية فسأل أصحابه أن يناوله سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا عليه فأخذه ثم شد على الحمار فقتله وفي الحديث فلما أتوا رسول الله قالوا يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا أنأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقى من لحمها فقال هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها وفي لفظ لمسلم هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء قالوا لا قال فكلوا وللبخاري منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها وللنسائي هل أشرتم أو أعنتم قالوا لا قال فكلوا فقد إمتنع القوم من دلالته بكلام أو إشارة ومن مناولته سوطه أو رمحه وسموا ذلك إعانة وقالوا لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون وما ذاك إلا أنه قد أستقر عندهم إن المحرم لا يعين على قتل الصيد بشيء

قال القاضي ولا خلاف أن الإعانة توجب الجزاء

والنبي قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها فجعل ذلك بمثابة الإعانة على القتل ولهذا قال هل أشرتم أو أعنتم ومعلوم أن الإعانة على القتل توجب الجزاء والضمان فكذلك الإشارة

وأيضا ما روي عن عكرمة عن علي وابن عباس في محرم أشار إلى بيض نعام فجعل عليه الجزاء

وعن مجاهد قال أتى رجل ابن عباس فقال أني أشرت بظبي وأنا محرم قال فضمنه

وعن أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال له يا أمير المؤمنين أني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف ما ترى قال أرى عليه شاة قال فأنا أرى ذلك رواهن النجاد

مسألة السابع عقد النكاح لا يصح منه ولا فدية فيه

وجملة ذلك أن المحرم إن كان رجلا لا يصح أن يتزوج بنفسه ولا وكيله ولا وليه بحيث لو وكل وهو حلال رجلا لم يجز أن يزوجه بعدما يحرم الموكل فأما إذا وكل وهو حرام من زوجه بعد الحل فقال القاضي وابن عقيل يجوز ذلك

فعلى هذا لو وكل وهو حلال ثم أحرم ثم حل جاز أن يزوج الوكيل بذلك التوكيل المتقدم وأولى لأن العبرة بحال العقد ولأن التصرف بالوكالة الفاسدة جائز لكن هل يجوز الإقدام على التوكيل

وإن كانت إمرأة لم يجز أن تزوج وهي محرمة بإذن متقدم على الاحرام أو في حال الإحرام لكن إذا أذنت حال الإحرام وذلك لقوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق }

وعن عثمان بن عفان أن رسول الله قال لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب رواه الجماعة الا البخاري والترمذي وفي رواية عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبأن وزعم أن عثمان حدث عن رسول الله قال المحرم لا ينكح ولا ينكح وفي رواية أراد ابن معمر أن ينكح ابنه بنت شيبة بن جبير فبعثني إلى أبان بن عثمان وهو أمير الموسم فأتيته فقلت إن أخاك أراد أن ينكح ابنه فأراد أن يشهدك ذاك فقال ألا أراه عراقيا جافيا إن المحرم لا ينكح ولا ينكح ثم حدث عن عثمان بمثله يرفعه رواهما أحمد بإسناد صحيح وفي رواية عن نافع عن نبيه مثله قال نافع وكان ابن عمر يقول هذا القول ولا يرفعه إلى النبي رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك

وعن أيوب بن عتبى ثنا عكرمة بن خالد قال سألت عبد الله بن عمر عن إمرأة أراد أن يتزوجها رجل وهو خارج من مكة فأراد أن يعتمر أو يحج فقال لا يتزوجها وهو محرم نهى رسول الله عنه رواه أحمد وأبو بكر النيسابوري

وروى سعيد ثنا عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى عن عكرمة بن خالد المخزومي أن ابن عمر نهاه أن ينكح وهو محرم

وروى النفيلي ثنا مسلم بن خالد الزنجي عن إسماعيل عن ابن عمر قال قال رسول الله المحرم لا ينكح ولا ينكح قال النفيلي هذا حديث منكر وهذا رجل ضعيف الزنجي رواه الخلال عن الميموني عنه في العلل

وعن أنس بن مالك أن النبي قال لا يتزوج المحرم ولا يزوج رواه الدارقطني

وأيضا فقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة فعن غطفان بن طريف المري أن أباه طريفا تزوج وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه

وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره رواهما مالك وغيره

وعن الحسن أن عليا قال من تزوج وهو محرم نزعنا منه إمرأته ولا نجيز نكاحه رواه ابن أبي عروبة وأبو بكر النيسابوري من حديث قتاده عنه

وعن شوذب مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد ابن ثابت رواه عبد الله بن أحمد وقال قرأت على أبي يتزوج المحرم قال لا يتزوج قال يروى عن عمر وعلي يفرق بينهما وزيد بن ثابت قال يفرق بينهما وابن عمر قال لا ينكح ولا ينكح

وروي عن عثمان بن عفان عن النبي قال لا ينكح المحرم ولا ينكح

وهؤلاء أكابر الصحابة لم يقدموا على إبطال نكاح المحرم والتفريق بينهما إلا بأمر بين وعلم اطلعوه ربما يخفى على غيرهم بخلاف من نقل عنه إجازة نكاح المحرم فإنه يجوز أن يبني على استصحاب الحال

فإن قيل فقد روى ابن عباس أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم رواه الجماعة ال ر وفي رواية للبخاري وبني بها وهو حلال وماتت بسرف وللبخاري تعليقا تزوج النبي في عمرة القضاء ميمونة وهو حلال وماتت بسرف وفي رواية للنسائي جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه وفي رواية عن عكرمة عن أن عباس أن النبي تزوج ميمونة بنت الحارث وهما محرمان رواه أحمد من حديث حماد بن سلمة عن حميد عنه

وعن الشعبي وعطاء وعكرمة أن رسول الله تزوج ميمونة وهو محرم ولفظ الشعبي إحتجم وهو محرم وتلاوج الهلالية وهو محرم رواهن سعيد

وعن أبي هريرة وعائشة وعن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى به يعني بنكاح المحرم بأسا ويحدث أن رسول الله تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم بسرف وبنى بها لما رجع بذلك الماء رواه سعيد بن أبي عروبة عن يعلي بن خليفة عنه

ويؤيد ذلك أن النبي اعتمر عمرة القضية من ذي الحليفة فإنه لم يجزها بغير إحرام قط وكانت ميمونة بمكة وقد روى أنه قال لأهل مكة دعوني أعرس بينكم لتأكلوا من وليمتها فقالوا لا حاجة لنا في وليمتك فأخرج من عندنا فخرج حتى أتى سرفا وأعرس بها

قيل عنه أجوبة أحدها أنه قد روى يزيد بن الأصم عن ميمونة أن رسول الله تزوجها وهي حلال قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس رواه مسلم وابن ماجة وفي رواية لأحمد والترمذي والبرقاني عن يزيد عن ميمونة أن رسول الله تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف فدفناها في الطلحة التي بنى بها فيها وفي رواية لأبي داود تزوجني ونحن حلالان بسرف

وعن أبي رافع مولى أن رسول الله تزوج ميمونة حلالا وبني بها حلالا وكنت الرسول بينهما رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن ولا يعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان أن النبي مرسلا ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا وهذه الرواية مقدمة على رواية ابن عباس لوجوه أحدها أنها هي المنكوحة وهي أعلم بالحال التي تزوجها رسول الله فيها هل كانت في حال إحرامه أو في غيرها من ابن عباس

الثاني أن أبا رافع كان الرسول بينهما وهو المباشر للعقد فهو أعلم بالحال التي وقع فيها من غيره

الثالث أن ابن عباس كان إذ ذاك صبيا له نحو من عشر سنين وقد يخفي على من هذه سنة تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه أما أولا فلعدم كمال الادراك والتمييز وأما ثانيا فلأنه لا يداخل في هذه الأمور ولا يباشرها وإنما يسمعها من غيره إما في ذلك الوقت أو بعده الرابع أن السلف طعنوا في رواية ابن عباس هذه فروى أبو داود عن سعيد ابن المسيب قال وهم ابن عباس في قوله تزوج ميمونة وهو محرم

وقال أحمد في رواية أبي الحارث وقد سئل عن حديث ابن عباس هذا الحديث خطأ وقال في رواية المروذي أذهب إلى حديث نبيه ابن وهب فقال له المروذي إن أبا ثور قال لي

بأي شيء تدفع حديث ابن عباس فقال أبو عبد الله الله المستعان قال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وميمونة تقول تزوج وهو حلال وقال إن كان ابن عباس ابن أخت ميمونة فيزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة وقال أبو رافع كنت السفير بينهما

وعمر بن الخطاب يفرق بينهما هذا بالمدينة لا ينكرونه وقال ميمون بن مهران أرسل إلى عمر بن عبد العزيز أن سل يزيد بن الأصم كيف تزوج رسول الله ميمونة فسألته فقال تزوجها وهو حلال رواه سعيد وقال عمرو بن دينار أخبرت الزهري به يعني بحديثه عن عمرو بن دينار عن ابن عباس فقال أخبرني يزيد عن ابن الأصم وهي خالته أن رسول الله تزوجها وهو حلال رواه مسلم

فهذا سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري وهو قول أبي بكر ابن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعامة علماء المدينة وهم أعلم الناس بسنة ماضيه وأبحثهم عنها قد استبان لهم أن الصواب رواية من روى أنه تزوجها حلالا وكذلك سليمان بن يسار يقول ذلك وهو مولاها

الخامس أن الرواية بأنه تزوجها حلالا كثيرون فهي منهم وأبو رافع وعن ميمون بن مهران عن صفية بنت شيبة وكانت عجوزا أن النبي ملك ميمونة وهو حلال وبني بها وهو حلال وخطبها وهو حلال ذكره القاضي عن ميمون عن مهران قال أتيت صفية ابنة شيبة إمرأة كبيرة فقلت لها أتزوج رسول الله ميمونة وهو محرم قالت لا والله ولقد تزوجها وهما حلالان رواه ابن أبي خيثمة ورواه من التابعين خلق كثير

وأما الرواية الأخرى فلم ترد إلا عن ابن عباس وعن أصحابه الذين أخذوها عنه قال ابن عبد البر ما أعلم أحدا من الصحابة روي عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم الا ابن عباس

وإذا كان أحد الخبرين أكثر نقلة ورواة قدم على مخالفة فإن تطرق الوهم والخطأ إلى الواحد أولى من تطرقه إلى العدد لا سيما إذا كان العدد أقرب إلى الضبط وأجدر بمعرفة باطن الحال

السادس أن في رواية عكرمة عن ابن عباس أن النبي تزوجها وهما محرمان وأن عقد النكاح كان بسرف ولا ريب أن هذا غلط فإن عامة أهل السير ذكروا أن ميمونة كانت قد بانت من زوجها بمكة ولم تكن مع النبي في عمرته فإنه لم يقدم بها من المدينة وإذا كانت مقيمة بمكة فكيف تكون محرمه معه بسرف أم كيف وإنما بعث إليها جعفر بن أبي طالب خطبها وهو يوهن الحديث ويعلله

السابع أن النبي تزوجها في عمرة القضية في خروجه ورجع بها معه من مكة وإنما كان يحرم من ذي الحليفة فيشبه أن تكون الشبهة دخلت على من أعتقد أنه تزوجها محرما من هذه الجهة فإن ظاهر الحال أنه تزوجها في حال إحرامه

أما من روى أنه تزوجها حلالا فقد أطلع على حقيقة الأمر وأخبر به فإما أن يكون تزوجها قبل الاحرام أو بعد قضاء عمرته لا سيما ومن روى أنه تزوجها قبل الاحرام معه مزيد علم

وقد روى مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله بعث مولاه أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله بالمدينة قبل أن يخرج ورواه الحميدي عن عبد العزيز ابن محمد عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله بعث العباث بن عبد المطلب وأبا رافع فزوجاه بسرف وهو حلال بالمدينة

وهذا فيه نظر وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو يقوى من جهتين إحداهما أن سليمان بن يسار هو مولاها فمثله وقد يطلع على باطن حالها ومعه مزيد علم خفي على غيره

الثاني أنه هو الذي روى حديث أبي رافع عنه كما تقدم وأهل الحديث يعدونه حديثا واحدا أسنده سليمان تارة وأرسله أخرى فيعلم أنه تلقى هذا الحديث عن أبي رافع وهو كان الرسول في النكاح

وقد روى يونس بن بكير عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم قال تزوج رسول الله ميمونة وهو حلال بعث إليها الفضل بن العباس ورجل معه فزوجوه إياها وهذا يوافق الذي قبله في تقدم النكاح ويخالفه في تسمية أحد الرجلين

فإن قيل فقد تقدم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت تزوجني رسول الله ونحن حلالان بسرف وفي رواية بسرف ونحن حلال بعدما رجعنا من مكة رواه أحمد وهذا لا يمكن إلا بعد العمرة وهو قافل من مكة إلى المدينة

وقد روى الأوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم قال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وإن كانت خالته وتزوج رسول الله بعدما حل رواه ابن عبد البر

وقال بن إسحق حدثني نفر عن ابن المسيب أنه قال هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم وكذب وإنما قدم رسول الله مكة فكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس

وهذا يدل على أن من روى أنه تزوجها حلالا أعتقد تأخر العقد عن الاحرام وابن عباس أخبر بوقوعه قبل ذلك فيكون هو الذي قد أطلع على ما خفي على غيره

يؤيد ذلك ما روى سنيد بن الحباب عن أبي معشر عن شرحبيل ابن سعد قال لقى العباس بن عبد المطلب رسول الله بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية فقال له العباس يا رسول الله تأميت ميمونة بنت الحارث بن حرب بن أبي رهم بن عبد العزى فهل لك في أن تزوجها فتزوجها رسول الله وهو محرم فلما أن قدم مكة أقام ثلاثا فجاءه سهيل ابن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال يا محمد اخرج عنا اليوم آخر شرطك فقال دعوني أبتني بأمرأتي وأصنع لكم طعاما فقال لا حاجة لنا بك ولا بطعامك أخرج عنا فقال له سعد يا عاض بظر أمة أرضك وأرض أمك دونه لا يخرج رسول الله إلا أن يشاء فقال رسول الله دعهم فإنهم زارونا لا نؤذيهم فخرج فبنى بها بسرف

وروى ابن اسحق قال حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله تزوج ميمونة بنت الحارث في سفرته في هذه العمرة وكان الذي زوجه العباس بن عبد المطلب فأقام رسول الله ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس ابن عبدود في نفر من قريش وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله من مكة فقالوا قد انقضى أجلك فأخرج عنا فقال لهم لو تركتموني فعرست بين أظهركم وصنعنا طعاما فحظرتموه فقالوا لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا فخرج وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى عليها رسول الله هنالك

وقد ذكر البخاري بعض هذا الحديث تعليقا فقال وزاد بن إسحق حدثني ابن نجيح وأبان بن صالح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس تزوج النبي ميمونة في عمرة القضاء

فقد اضطربت هذه الروايات في وقت تزوجه فمن قائل أنه تزوجها قبل الإحرام ومن قائل عقب الحل بمكة ومن قائل بسرف وهما حلالان إما قبل الاحرام أو بعد رجوعه إلى المدينة ثم أجود ما فيها حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة وحديث سليمان بن يسار عن أبي رافع وقد رويا مرسلين من وجوه هي أقوى من رواية من أسند وهذه علة فيهما إن لم توجب الرد فإنها توجب ترجح حديث ابن عباس الذي هو أصح إسنادا

قال عمرو بن دينار حديث ابن شهاب عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم فقال ابن شهاب حدثني يزيد ابن الأصم أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال قال عمرو فقلت لابن شهاب أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على عقبيه

قيل أما رواية من روى أنه تزوجها وهما حلالان بسرف إن كانت محفوظة فإن معناها والله أعلم أنه بنى بها ودخل بها بسرف كما فسرت ذلك جميع الروايات فإنها كلها متفقة على أنه بنى بها بعد منصرفه من عمرته بسرف وأكثر الروايات على أن عقد النكاح تقدم على ذلك وقد تقدم أنه أراد أن يبني بها بمكة اللهم الا أن يكون تقدم الخطبة والركون ولم يعقد العقد الا بسرف حين البناء فإن هذا ممكن وعلى هذا حمل القاضي الروايتين وفسر قوله دعوني أعرس معناه أعقد وأعرس فلما منعوه خرج إلى سرف فعقد وأعرس وأما رواية من روى أنه تزوجها قبل الاحرام أو بعده فإما أن يكون الأول هو المطلع على حقيقة الأمر وخفى على الثاني فإن ذاك مثبت وهذا ناف لا سيما وسليمان بن يسار ويزيد بن الأصم أعلم بهذه القضية من غيرهما ثم لم يتحدث بالعقد ولم يظهر إلا بعد مقدمه مكة وانقضاء عمرته ومن هنا إعتقد من أعتقد أن العقد وقع في أثناء الاحرام وقد ذكر هذا القاضي وقال هذا تأويل جيد أو أن يكون بعث أبا رافع ومن معه فخطبا له ووقع الاتفاق والمواطأة على العقد ثم لم يعقد إلا بعد الاحرام

وأما كونهما قد رويا مرسلين وكون يزيد بن الأصم لا يعدل ابن عباس فليس بشيء فإنه قد روي مسندا من وجوه مرضية مخرجة في الصحاح والحسان والقصة إذا أسندها من يحدثها تارة وأرسلها أخرى كان أوكد في ثبوتها عنده وثقته بحديث من حدثه فإنه إنما يخاف في الإرسال من ضعف الواسطة فمتى سماه مرة أخرى زال الريب

وابن عباس رضي الله عنه لم يعارض به يزيد بن الأصم في شيء يكون ابن عباس أعلم به منه وإنما هو أمر نقلي العالم والجاهل فيه سواء ثم ابن عباس لم يسند روايته إلى أحد ويزيد قد أسند روايته إلى خالته المنكوحة أم المؤمنين ولا ريب أنها أعلم بحالها من ابن أختها ابن عباس

الجواب الثاني أن تزوج ميمونة وإن لم يحكم فيه بصحة رواية من روى أنه تزوجها حلالا فلا ريب أنه قد اضطربت فيه النقلة ومع ما تقدم فلا وجه يصح الاحتجاج به لعدم الجزم بأنه تزوجها وهو محرم فتتساقط الروايتان وحديث عثمان لا اضطراب فيه ولا معارض له الجواب الثالث أنه لو تيقنا أنه تزوجها محرما لكان حديث عثمان هو الذي يجب أن يعمل به لأوجه أحدها أن حديث عثمان ناقل عن الأصل الذي هو الإباحة وحديث ابن عباس مبق على الأصل فإن قدرنا حديث ابن عباس متأخرا لزم تغيير الحكم مرتين وإن قدرنا حديث عثمان متأخرا لكان تزوج ميمونة قبل التحريم فلا يلزم إلا تغيير الحكم مرة واحدة فيكون أولى

الثاني أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضية قبل فتح مكة وقبل فرض الحج كما تقدم ولم تكن أحكام الحج قد مهدت ولا محظورات الإحرام قد بينت وحديث عثمان إنما قاله بعد ذلك لأن النهي عن اللباس والطيب إنما بين في حجة الوداع فكيف النهى عن عقد النكاح إذ حاجة المحرمين إلى بيان أحكام اللباس أشد من حاجتهم إلى بيان حكم النكاح والغالب أن البيان إنما يقع وقت الحاجة فهذه القرائن وغيرها تدل من كان بصيرا بالسنن كيف كانت تسن وشرائع الإيمان كيف كانت تنزل أن النهي عن النكاح متأخر

الثالث أن تزوجه فعل منه والفعل يجوز أن يكون خاصا به وحديث عثمان نهى لأمته والمرجع إلى قوله أولى من فعله ومن رد نص قوله وعارضه بفلعه فقد أخطأ

الرابع أن حديث عثمان حاضر وحديث ابن عباس مبيح والأخذ بالحاضر أحوط من الأخذ بالمبيح

الخامس أن أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان وإذا اختلفت الاثار عن رسول الله نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون ولم يخالفهم أحد من الصحابة فيما بلغنا إلا ابن عباس وقد علم مستند فتواه وعلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفى على من لم يحرمه فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس وأصحاب رسول الله أعلم بالله وأخشى من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون بخلاف من أباحه فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند اخر مضطرب

السادس أن أهل المدينة متفقون على هذا علما ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد ونظرائه وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة كان أولى من غيره في أصح الوجهين وهو المنصوص عن أحمد في مواضع وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة أهل المدينة لا سيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار وهم أعلم بالسنة من سائر أهل الأمصار وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم وإنما كان الناس تبعا لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان وبعد ذلك فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم فلم يكونوا بدون من سواهم ونحن وإن لم نطلق القول بأن إجماعهم حجة فإنا نضعهم مواضعهم ونؤتي كل ذي حق حقه ونعرف مراتب المحدثين والمفتين والعاملين لترجح عند الحاجة من يستحق الترجيح وفي المسألة أقيسة شبيهة ومعان فقهية

وأيضا فإن الاحرام تحريم جميع دواعي النكاح تحريما يوجب الكفارة مثل القبلة والطيب ويمنع التكلم بالنكاح والزينة وهذه مبالغة في حسم مواد النكاح عنه

وعقد النكاح من أسبابه ودواعيه فوجب أن يمنع منه وعكسه الصيام والاعتكاف فإنه يحرم القبلة ولا يمنع الطيب والتكلم بالنكاح والاعتكاف وإن قيل بكراهة الطيب فيه فإنه لا يحرم ذلك ثم لا كفارة في شيء من مقدمات النكاح إذا فعله في الصيام والاعتكاف

وقد بالغ الشرع في قطع أسبابه حتى أنه يفرق بين الزوجين في قضاء الحجة الفاسدة

وأيضا فإن المقصود بالنكاح حل الاستمتاع فمن حقه ألا يصح إلا في حل يقبل الاستمتاع وأن لا يتأخر حل الاستمتاع عن العقد لأن السبب إذا لم يفد حكمه ومقصوده وقع باطلا كالبيع في محل لا يملكه والإجارة على منافع لا تستوفى ولهذا لم يصح في المعتدة من نكاح أو في شبهة أو زنا ولا في المستبرأة في ظاهر المذهب وإن قيل تعتد بعد العقد وسائر أحكام النكاح من الإرث ووجوب النفقة وجواز الخلوة والنظر توابع لحل الاستمتاع

وإنما صح نكاح الحائض والنفساء والصائمة لأن بعض أنواع الاستمتاع هناك ممكن أو وقت الاستمتاع قريب فإن الصائم يستمتع بالليل والحائض يستمتع منها بما دون الفرج وأما المعتكف فإن أصحابنا قالوا يصح نكاحه لأن منعه

والإحرام يمنع الاستمتاع بكل حال منعا مؤكدا تطول مدته على وجه يفضى الاستمتاع إلى مشاق شديدة من المضي في الفاسد ووجوب القضاء والهدى والتعرض لسخط الله وعقابه والاحرام لا ينال إلا بكلف ومشاق وليس في العبادات أشد لزوما وأبلغ نفوذا منه فإيقاع النكاح فيه إيقاع له

وأيضا فإن الاحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه وترك أنواع الاستمتاعات فلا يلبس اللباس المعتاد ولا يتطيب ولا يتزين ولا يتظلل ويلازم الخشوع والإخشيشان ويقصد بيت الله أشعث أغبر أدفر قملا ولا شك أن من يتزوج فقد فتح باب التنعم والاستمتاع وعقد أسباب اللذة والشهوة وتعرض للهو واللعب وحاله مخالفة لحال الخاشع المعرض عن جميع العادات والصائم يخالفه في عامة هذه الأشياء فإن تحفية الطيب والمجمر والمعتكف بينهما

وأيضا فإن المعتدة عن وفاة الزوج منعت الطيب والزينة حسما لمواد النكاح ومفارقة لحال المتزوجة وألزمت لزوم المنزل والمحرمة قد منعت الطيب والزينة فهي كالمعتدة من الوجه

وأيضا فإن المقصود من النكاح الاستمتاع فلما منع المحرم من النكاح منع من مقصوده كتملك الصيد لما كان مقصوده ابتذال الصيد وإتلافه منع منه لما كان ممنوعا من مقصوده يوضح ذلك أن نفس ملك الصيد لا محظور فيه كملك

ولهذا لا يمنع دوام ملك النكاح والصيد وإنما يمنع من إبتدائهما وعكسه شراء الجواري والطيب واللباس لما لم يكن مقصوده مجرد الاستمتاع لم يمنع منه

فصل

وإذا تزوج وهو محرم

فصل

ولا كفارة في النكاح لأنه يقع باطلا فلم يوجب الكفارة كشراء الصيد واتهابه لأنه لا أثر لوقوعه فإن مقصوده لم يحصل بخلاف الوطء واللباس ونحو ذلك وكلما وقع على مخالفة الشرع وأمكن إبطاله إكتفى بإبطاله عن كفارة أو فدية بخلاف الأمور التي لا يمكن إبطالها ولأنه من باب الأقوال والأحكام وهذا الباب لا يوجب كفارة في الاحرام تختص به كما لو تكلم بكلام محرم

فصل

وأما تزويجه للحلال من رجل أو إمرأة بطريق الولاية أو الوكالة أو بطريق الفضول وقلنا ينعقد تصرف الفضولي فلا يصح في أشهر الروايتين وفي الأخرى يصح لأن الزوجين لا مانع فيهما والمنع القائم بالوكيل أو الولي لا يتعدا إليهما

فعلى هذه الرواية يحمل النهي على الكراهة والأول أصح لأن النبي نهى المحرم أن ينكح أو ينكح نهيا واحدا فالتفريق بينهما لا يجوز ولأن أصل النهي التحريم وكل من لا يصح منه العقد لنفسه بحال لا يصح لغيره كالسفيه والمجنون والمرتد

ولأن المحرم ممنوع أن يتكلم بالنكاح وذلك منه رفثا وعقده له تكلم به ولأن تزويجه لغيره يفضي إلى تذكره واشتهائه والمحرم ممنوع من جميع مقدماته ولأنه اعانة على استحلال ما هو محرم عليه فلم يجز كاعانة الحلال على الوطء أو اللباس أو التطيب فإنه اعانة على الاستمتاع بما هو مباح له لا على استحلال ما هو محرم عليه وهذا لأن فرج الزوجة لا يباح إلا بالعقد كما أن الصيد المباح لا يباح إلا بتملك ولحمه لا يباح إلا بالتذكية بخلاف اللباس والطيب والوطء للحلال فإنه حلال في نفسه وهذا شبه وتمثيل حسن وهذا في التزويج بالولاية الخاصة وهي السبب فأما الولاية العامة وهي ولاية السلطان من الإمام والحاكم ففيه وجهان

أحدهما ليس له أن يزوج بذلك أيضا لعموم الحديث والقياس وهذا ظاهر كلام أحمد فإنه منع المحرم أن يزوج مطلقا ولم يفرق فعلى هذا يجوز خلفاء السلطان المحلون

والثاني يجوز ذلك لأن الحاجة العامة تدعو إلى ذلك وقد يستباع بالولاية العامة ما لا يستباح بالخاصة كتزويج الكافرة

وهذا ضعيف فإن الأدلة الشرعية قد عمت والفرق بينه وبين غيره إنما هو في أصل ثبوت الولاية ولا ريب أن ولايته لا تزول بالاحرام كما لا تزول ولاية غيره من الأولياء أما نفس العقد بالولاية فلا فرق بينه وبين غيره ولأن المانع هو شيء قائم به يقدح في احرامه ولا فرق بينه وبين غيره في ذلك ولا حاجة إلى مباشرة لوجود خلفائه هذه طريقة القاضي وغيره من أصحابنا

وقال ابن عقيل ليس له أن يباشر العقد لكن هل يصح أن يباشر خلفاؤه وهو محرم على وجهين وهذا بعيد جدا

فأما التزويج بملك اليمين

وأما غيره من الأولياء إذا أحرم واحتاجت المرأة إلى من يزوجها فقيل قياس المذهب أن الولاية تنتقل إلى من هو أبعد منه من العصبة كما لو غاب ويتوجه أن لا تتزوج حتى يحل

ومن وكل في النكاح وهو محرم وزوج بعد تحليله جاز على مقتضى ما ذكره القاضي وابن عقيل سواء قبل الوكالة وهو محرم أو بعد الاحرام ولو كان التوكيل قبل الاحرام لم يبطل بالإحرام بطريق الأولى

فصل

وأما ارتجاع زوجته المطلقة قبل الإحرام أو في حال الإحرام ففيه روايتان

إحداهما له ذلك قالها عبد الله وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب وغيرهم لأن الرجعية زوجة بدليل ثبوت الارث بينهما وثبوت الطلاق والخلع بينهما وأن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا مهر ولا رضاء فارتجاعها ليس ابتداء ملك وإنما هو إمساك كما قال تعالى { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } ولأن الرجعة كانت مباحة فارتجاعها ليس استحلالا لفرج وإن كان محظورة فمجرد إزالة الحظر ليس ممنوعا منه كتكفير المظاهر ولأن الأصل عدم الحظر والمنع وإنما حظرت السنة النكاح والرجعة ليست نكاحا ولا في معناه فتبقى على الأصل

والثانية لا تجوز الرجعة وإن أفضى إلى البينونة في حال الاحرام نقلها أحمد بن أبي عبده والفضل بن زياد وحرب وهي اختيار القاضي وأكثر أصحابه مثل الشريف أبي جعفر وابن عقيل وأبي المواهب العكبري وأبي الخطاب في خلافه لأن المحرم ممنوع من التكلم بالنكاح وهو الرفث والارتجاع تكلم به ولأن النبي نهاه أن ينكح أو ينكح أو يخطب وارتجاعه أقرب إليه من أن ينكح غيره أو أن يخطب فإذا منع من أن يزوج أو يخطب فمنعه من الرجعة أولى وهذا لأن المقصود حسم أبواب النكاح ومنع التعلق به بوجه من الوجوه والمرتجع متعلق به تعلقا ظاهرا ولأن الارتجاع وسيلة إلى الوطء ومقدمة له فإن الراغب في الرجعة لا يؤمن عليه أن يرغب في الوطء فمنع منها كالطيب وعامة المعاني والأشياء المعتبرة في النكاح قد يمكن اعتبارها في الرجعة بل ربما كان الارتجاع أشد داعية من ابتداء النكاح فإن تشوق النفس إلى أمرأة يعرفها أكثر من تشوقها إلى أمرأة لا يعرفها ولهذا منع في قضاء الحج من الاجتماع بالمرأة ولأن المنع من النكاح لم يكن لنقص في ملك التصرف ونقص في المحل وإنما كان المعنى يعود إلى

ولأن الرجعة استحلال مقصود للبضع وإثبات لملك النكاح فمنع منه كالعقد المبتدأ وذلك لأن الطلاق يوجب التحريم وزوال ملك النكاح أما في الحال أو في المال بعد انقضاء العدة والرجعة ترفع هذا التحريم وتعيد الملك تماما ولا نسلم أنه ليس بنكاح بل هو نكاح ولهذا تصح بلفظه على أحد الوجهين وفي الآخر إنما لم يصح بلفظه لكونه لا يدل على خصوص معنى الرجعة كالوجهين في صحة الإجارة بلفظ البيع من أن الإجارة معاوضة محضة ولأن كل من لا يصح منه النكاح بحال لا يصح الرجعة كالصبي والمجنون والكافر ولأن من حظر عليه الإحرام شيئا حظر عليه استصلاحه واستيقاؤه

فأما المرأة المطلقة إن كانت هي المحرمة فهل للزوج الحلال أن يرتجعها

فإن لم يكن له ذلك فهل للرجعية أن تحرم

ويجوز أن يفيء المولى باللسان وهو محرم ذكره ابن عقيل لأن الإيلاء لا يوجب التحرم ويجوز أن يصالح الناشز ويجوز أن يكفر المظاهر وهو محرم لأن الظهار لا يوجب خللا في العقد حتى تكون الكفارة مصلحة للعقد وليست كلاما من جنس الرفث فليست مثل النكاح لفظا ولا معنى وإنما هي عتق أو إطعام أو صيام يحلل يمينا عليه ولأن مقصودها لرفع حكم اليمين تحليلا أو تكفيرا كما أن مقصود شراء الجارية ملك الرقبة ولهذا قد تؤثر في حل الفرج وقد لا تؤثر كما لو وطيء ثم زال النكاح بموت المرأة أو طلاقها فإنه يجب عليه التكفير كما أن ملك الرقبة قد يؤثر في حل الفرج وقد لا يؤثر

فصل

فأما إذا خطب المحرم إمرأة لنفسه وتزوجها بعد الحل أو خطبها لرجل حلال أو خطبت المحرمة لمن يتزوجها بعد الحل فقال القاضي وابن عقيل في بعض المواضع وأبو الخطاب وكثير من أصحابنا تكره الخطبة ولا تحرم ويصح العقد في هذه الصور

وقال ابن عقيل في موضع لا يحل له أن يخطب ولا يشهد وهذا قياس المذهب لأن النبي نهى عن الجميع نهيا واحدا ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس لنا ما يعارض ذلك من أثر ولا نظر بل روي ما يؤكد ذلك فعن نافع أن عبد الله بن عمر قال لا يصلح للمحرم أن يخطب ولا ينكح ولا يخطب على غيره ولا ينكح غيره رواه حرب

ولأن الخطبة مقدمة النكاح وسبب إليه كما أن العقد سبب للوطىء والشرع قد منع من ذلك كله حسما للمادة ولأن الخطبة كلام في النكاح وذكر له وربما طال فيه الكلام وحصل بها أنواع من ذكر النساء والمحرم ممنوع من ذلك كله ولأن الخطبة توجب تعلق القلب بالمخطوبة واستثقال الاحرام والتعجل إلى انقضائه لتحصيل مقصود الخطبة كما يقتضي العقد تعلق القلب بالمنكوحة ولهذا منعت المعتدة أن تخطب كما منعت أن تنكح ونهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه كما نهيت المرأة أن تسأل طلاق أختها

فأما الشهادة فقد سوى كثير من أصحابنا بينها وبين الخطبة كراهة وحظرا

وقال القاضي في المجرد لا يمنع من الشهادة على عقد النكاح لأنه لا فعل له فهو كالخاطب أن الشهادة لا تكره مطلقا إذ لا نص فيها ولا هي في معنى المنصوص

فأما توكيل غيره أو التوكل له

مسألة الثامن المباشرة لشهوة فيما دون الفرج فإن أنزل بها ففيها بدنة وإلا ففيها شاة في هذا الكلام مسألتان إحداهما أن المحرم لا يجوز له أن يباشر لشهوة سواء في ذلك القبلة والغمز والوطء دون الفرج وغير ذلك وسواء باشر أمرأة أو صبيا أو بهيمة ولا يحل له الاستمتاع ولا النظر لشهوة

عن ميمون بن مهران أن عائشة سئلت ما يحل للصائم من أمرأته قالت كل شيء ما خلا الفرج قيل لها ما يحل للرجل من أمرأته إذا كانت حائضا قالت ما فوق الإزار قيل لها ما يحرم إذا كانا محرمين قالت كل شيء إلا كلامها رواه أحمد

ومن باشر لشهوة ولم ينزل لم يفسد حجة وقد ذكر غير واحد أن ذلك إجماع لكن عليه الكفارة وأما قدرها فذكر أصحابنا فيه روايتين

إحداهما عليه شاة سواء كان في الحج أو العمرة وسواء باشر بوطء دون الفرج أو بغير ذلك نص في رواية ابن الحكم في الذي يقبض على فرج أمرأته قال يهريق دم شاة تجزيه

وقال في رواية صالح في الذي يقبل لشهوة أكثر الناس يقولون فيه دم وذكر في رواية عبد الله عن سعيد بن جبير وقتادة وأبي معشر والحسن والزهري وعطاء وابن شبرمة وعبد الله بن حسن بن حسن أنه عليه دما

قال وروي عن عطاء قال يستغفر الله ولا يعد ولم يحكي عن أحد أن عليه بدنة وهذا اختيار الخرقي

وقال في رواية المروذي في المحرم يقبل أمرأته عليه دم فإن أنزل فقد فسد حجه لأنه استمتاع مجرد لا إنزال معه

والثانية عليه بدنة في جميع المباشرات إذا كانت في الحج قال في رواية ابن إبراهيم في محرم وطيء دون الفرد فأنزل فسد حجة فإن لم ينزل فعليه بدنة وهذا اختيار القاضي وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب لأنه مباشرة لشهوة أوجب كفارة فكان بدنة كالوطء وهذا لأن جنس المباشرة أغلظ المحظورات فتعلق بجنسها أرفع الكفارات وهو البدنة جزاء لكل محظور بقدره ولا يصح الفرق بالإفساد لأن الإفساد يوجب القضاء ويوجب الكفارة

والأجود إقرار نصوص الإمام فإن كانت المباشرة وطأ دون الفرج ففيها بدنة وإن كانت قبلة أو غمزا ففيها شاة كما فرقنا بينهما في التعزيز وقد قال في رواية أبي طالب في محرم أتى أهله دون الفرج فسد حجه لأنه قد قضى حاجته

ولم يذكر إنزالا لكن قد يحمل على الغالب

المسألة الثانية إذا أنزل المني بالمباشرة بقبلة أو غمز أو بالوطء دون الفرج ونحو ذلك فهل يفسد نسكه على ثلاث روايات

أحدها يفسد حجة كالوط في الفرج نقلها المروذي في القبلة ونقلها أبو طالب وابن إبراهيم في الوطء دون الفرج وهذا اختيار القاضي وأصحابه لأن كل عبادة أفسدها الوطء أفسدها الإنزال عن مباشرة كالصيام والاعتكاف لا سيما ومنع الاحرام من المباشرة أشد من منع الصيام فإذا أفسد ما لا يعظم وقعه فيه فإفساد ما يعظم وقعه أولى

وأيضا فإن المباشرة مع الإنزال قد يحصل بها من المقصود واللذة أكثر من الوطء المجرد عن إنزال ولهذا ما زال الإنزال موجبا للغسل والوطء المجرد قد عرى عن الغسل في الإسلام

والرواية الثانية لا يفسد نقلها الميموني في المباشرة إذا أمنى مطلقا ونقلها ابن منصور في الجماع دون الفرج إذا أنزل وهذا اختيار لأن الأمر إنما جاء في الجماع

والمباشرة دون الفرج دونه في أكثر الأحكام فلم يجز أن يلحق به بمجرد القياس لجواز أن يكون الإفساد معلقا بما في الجماع من الخصائص

والرواية الثالثة الفرق بين الجماع دون الفرج وبين القبلة والغمز فإن وطيء دون الفرج فأنزل فسد حجة وإن قبل فأنزل لم يفسد وهذه اختيار الخرقي وقد ذكر الرواية الأولى ولم يذكر الثانية وذكر ابن أبي موسى الروايتين في الوطء دون الفرج ولم يذكر في المباشرة خلافا

فإن قلنا قد فسد حجة فعليه بدنة بلا ريب في الحج وإن قلنا لم يفسد فعليه بدنة أيضا نص عليه في رواية الميموني في المباشرة إذا أمنى مطلقا وهذا قول كثير من أصحابنا في القبلة وغيرها من المباشرات ونقل عنه ابن منصور إن جامع دون الفرج وأنزل فعليه بدنة وقد تم حجة وإن قبل فأمنى أو أمذى أو لم يمن ولم يمذ أرجو أن يجزيه شاة

وكذلك قال ابن أبي موسى ولو باشرها كان عليه دم شاة ولو قبلها لزمه دم شاة فإن وطئها دون الفرج فأنزل فعليه بدنة قولا واحدا وفي فساد حجه روايتان

وإن أمذى بالمباشرة فنقل عنه ابن منصور أن في ذلك ما في المباشرة المجرده كما تقدم

فأما المباشرة من فوق حائل فقال أصحابنا القاضي وابن عقيل وغيرهما لا أثر لها كما لا أثر لها في نقض الوضوء ويحرم عليه أن ينظر لشهوة فإن نظر لشهوة فلم ينزل قال الخرقي وإن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم وإن أمذى فعليه شاة وإن أمنى لم يفسد حجة وعليه دم وهل هو بدنة أو شاة على روايتين وحكى ابن عقيل إحدى الروايتين عليه بدنة في مطلق الإنزال والأخرى عليه بدنة إن أمني وشاة إن أمذى وذكر أنها اختيار شيخه وهذا غلط وذلك لما روى مجاهد قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال يا ابن عباس أحرمت فأتتني فلانة في زينتها فما ملكت نفسي أن سبقتني شهوتي فضحك ابن عباس رحمه الله حتى استلقى ثم قال إنك لشبق لا بأس عليك أهرق دما وقد تم حجك رواه سعيد وفي رواية النجاد عن ابن عباس في محرم نظر إلى أمرأته حتى أمنى قال عليه شاة وفي رواية له قال جاء رجل إلى ابن عباس قال فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت وأتتني كلمتني وحجثتني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس انحر بدنة وتم حجك

ولا يعرف له مخالفا في الصحابة ولا في التابعين بل المنقول عن سعيد بن جبير أن عليه دما وحجه تام وقال عطاء عليه ناقة ينحرها وقال الحسن عليه بدنة والحج من قابل

وهذا لأن تكرار النظر لشهوة حرام يمكن الاحتراز منه فإذا اقترن به الإنزال تغلظ فأوجب الفدية كالمباشرة وإنما يفسد الحج لما تقدم عن ابن عباس ولأن ويتخرج فساد الحج كالصوم

ثم إن قلنا يجب بدنة وهو اختيار الخرقي والقاضي وابن عقيل وهذا فيما إذا كرر النظر فأما النظرة الواحدة إذا تعمدها ولم يدمها فأمنى فعليه شاة هكذا قال أصحابنا وعنه ما يدل على أنه لا شيء عليه قال في رواية ابن إبراهيم إذا كرر النظر فأنزل فعليه دم

وعنه ما يدل على أن عليه بدنة قال في رواية حنبل إذا أمنى من نظر وكان لشهوة فعليه بدنة وإن أمذى فعليه شاة

وإن أمنى أو أمذى بفكر غالب فلا شيء عليه وإن استدعى الفكر ففيه وجهان أحدهما لا شيء عليه قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما

والثاني أن الفكر كالنظر قاله ابن عقيل

فعلى هذا إذا لم يستدمه ففيه دم وإن استدامه فهل فيه بدنة أو شاة على وجهين ولا يفسد الحج بحال ويتخرج في النظر والتفكير إذا استدامهما أن يفسد الحج والمنقول عن أحمد في التفكير يتحمل الوجهين زعم القاضي أن ظاهره يقتضي أن لا يتعلق بالتفكير حكم وزعم ابن عقيل أنه يدل على أنه يتعلق بالمستدعى منه حكم

قال في رواية أبي طالب وأحمد بن جميل في محرم نظر فأمنى فعليه دم قيل له فإن ذكر شيئا فأمنى قال لا ينبغي أن يذكر قيل له وقع في قلبه شيء قال أرجو أن لا يكون عليه شيء

فمن حيث جعل في الإنزال بالنظر دما ولم يجعل في الإنزال بالذكر شيئا بل نهاه عنه كان قول القاضي متوجها ومن حيث فرق بين ما يقع في قلبه في أنه لا شيء عليه وبين ما يذكره عمدا يتوجه قول ابن عقيل إلا أن للقاضي أن يقول استدعاء الفكر مكروه فينهى عنه ولهذا قال لا ينبغي له أن يذكر حيث الغالب منه فإنه لا يوصف بالكراهة فالفرق عاد إلى هذا لا إلى وجوب الدم والدم الواجب بالمباشرة ونحوها من الاستمتاع يتعين ولا يجزيء عنه الصيام والصدقة مع وجوده بخلاف ما يجب بالطيب واللباس قاله القاضي في خلافه والمنصوص عنه أنه يجبر قال في رواية الميموني والمتمتع إذا طاف فجامع قبل أن يقصر أو يحلق فإن ابن عباس قد أفتى بهذا بعينه عليه دم أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك وإنما يحل بالحلق أو التقصير وهكذا ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا إذا كان الدم شاة فإن كان بدنة قضى ولم يفسد حجة فهل هو على الترتيب أو التخيير على وجهين أحدهما أنه على الترتيب قاله ابن عقيل

مسألة التاسع الوطء في الفرج فإن كان قبل التحلل الأول أفسد الحج ووجب المضي في فاسده والحج من قابل وعليه بدنة وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من التنعيم ليطوف محرما

هذا الكلام فيه فصول : أحدهما أن الجماع حرام في الاحرام وهو من الكبائر لقوله سبحانه { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث } قال ابن عبد البر أجمع علماء المسلمين على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم حتى يطوف طواف الإفاضة

الفصل الثاني أن المحرم إذا وطيء في الإحرام فسد حجه والإحرام باق عليه وعليه أن يمضي فيه فيتمه ويكون حكم هذا الاحرام الفاسد حكم الإحرام الصحيح في تحريم المحظورات ووجوب الجزاء بقتل الصيد وغيره من المحظورات ثم عليه قضاء الحج من قابل وعليه أن يهدي بدنة

قال ابن عبد البر أجمعوا على أن من وطيء قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وعليه قضاء الحج والهدي قابلا

قال بعض أصحابنا لا نعلم في وجوب القضاء خلافا في المذهب ولا في غيره ونصوص أحمد وأصحابه توجب قضاء الحجة الفاسدة أكثر من أن تحصر وقد ذكر أبو الخطاب الحكم هذا كما ذكر غيره في المناسك وقال في الصيام من دخل في حجة تطوع أو صوم تطوع لزمه اتمامها فإن أفسدهما أو فات وقت الحج فهل يلزمه القضاء على روايتين وأصحابنا يعدون هذا غلطا وإنما الروايتان في الفوات خاصة وفي الإحصار أيضا لما روى يحيى بن أبي كثير قال أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم شك الراوي أن رجلا من جذام جامع إمرأته وهما محرمان فسأل الرجل رسول الله فقال لهما أقضيا نسككما وأهديا هديا ثم إرجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وأتما نسككما واهديا رواه أبو داود في المراسيل

وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب أن رجلا من جذام جامع أمرأته وهما محرمان فسأل الرجل النبي فقال لهما أتما حجكما ثم أرجعا وعليكما حجة أخرى من قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فأحرما وتفرقا ولا يؤاكل واحد منكما صاحبه ثم أتما مناسككما واهديا رواه النجاد وهذا المرسل قد شهد له ظاهر القرآن وعمل أصحاب رسول الله وعوام علماء الإسلام

وأيضا فإنه إجماع الصحابة والتابعين عن يزيد بن جابر قال سألنا مجاهدا عن الرجل يأتي إمراته وهو محرم قال كان على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما ثم يرجعان حلالا كل منهما لصاحبه حلالا حتى إذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا من حيث أصابا فلم يجتمعا حتى يقضيا حجهما وعن عمر بن أسيد عن سيلاه قال كنت عند عبد الله بن عمرو فأتاه رجل فقال أهلكت نفسي فأفتني إني رأيت إمرأتي فأعجبتني فوقعت عليها ونحن محرمان فقال له هل تعرف ابن عمر قال لا فقال لي اذهب به إلى ابن عمر فانطلقت معه إلى ابن عمر فسأله وأنا معه عن ذلك فقال له ابن عمر أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فأقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فحج أنت وامرأتك وأهديا هديا قال فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما فرجع إلى عبد الله بن عمرو فقال هل تعرف ابن عباس قال لا قال فاذهب به إلى ابن عباس فسله قال فذهب إلى ابن عباس فسأله وأنا معه فقال له مثل قول ابن عمر فرجع إلى عبد الله بن عمرو فقال أفتني أنت فقال هل عسى أن أقول إلا كما قال صاحباي

وعن أبي بشر عن رجل من قريش من بني عبد الدار قال بينما نحن جلوس في المسجد الحرام إذا دخل رجل وهو يقول يا لهفة يا ويلة فقيل له ما شأنك فقال وقعت على أمرأتي وأنا محرم فقيل له ائت جبير بن مطعم فإنه يصلي عند المقام فأتاه فقال له أحرمت حتى إذا بلغت الصفاح زين لي الشيطان فوقعت على أمرأتي فقال أف لك لا أقول لك فيها شيئا وطرح بيده فقيل له أئت ابن عباس ابن عم رسول الله وهو في زمزم فسله فيفرج عنك قال فدفعه الناس حتى أدخلوه على ابن عباس فقال يابن عباس وقعت على إمرأتي وأنا محرم فقال اقضيا ما عليكما من نسككما هذا وعليكما الحج من قابل فإذا أتيتما على المكان الذي فعلتما فيه ما فعلتما فتفرقا ولا تجتمعان حتى تقضيان نسككما وعليكما الهدى جميعا قال أبو بشر فحدثت به سعيد بن جبير فقال صدقت هكذا كان يقول ابن عباس

وعن عبد العزيز بن رفيع قال رجل ابن عباس عن محرم جامع قال يمضيان لحجهما وينحر بدنة ثم إذا كان من قابل فعليه الحج ولا يمران على المكان الذي أصابا فيه ما أصابا إلا وهما محرمان ويتفرقا إذا أحرما رواهن سعيد

وعن مالك أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدى قال علي فإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما وذلك لأن الله أمر بإتمام الحج والعمرة فيجب عليهما المضي فيه إمتثالا لما أوجبته هذه الآية وعليهما القضاء لأنهما التزما حجة صحيحة ولم يوفيا ما التزماه فوجب عليهما الإتيان بما التزماه أولا ووجب الهدي لأن كل من فعل شيئا من المحظورات فعليه دم ووجب القضاء من قابل لأن القضاء على الفور هذا هو المذهب المنصوص وسواء قلنا الحج المبتدأ على الفور أو على التراخي لما تقدم من إجماع الصحابة على ذلك ولأن الأداء كان قد وجب فعله بالشروع فيه فصار واجبا على الفور والقضاء يقوم مقام الأداء ولأن

الفصل الثالث أنه لا فرق بين الوطء قبل الوقوف بعرفة أو بعده إذا وقع قبل التحلل الأول في أنه يفسد الحج وعليه القضاء وهدي بدنة لما روى النجاد عن مجاهد عن عمر بن الخطاب قال يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما وعليهما الحج من قابل ويفترقان من حيث وقع عليهما وينحر بدنة عنه وعنها

وعن الحكم بن عتيبة عن علي قال يفترقان ولا يجتمعان الا وهما حلالان وينحر كل واحد منهما جزورا وعليهما الحج من قابل يحرمان بمثل ما كانا أحرما به في أول مرة فإذا مرا بالمكان الذي أصابها فيه تفرقا فلم يجتمعا إلا وهما حلالان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن رجل أصاب أمرأته وهو محرم قال يمضيان لوجههما ثم يحجان من قابل ويحرمان من حيث أحرما ويتفرقان ويهديان جزورا رواهن النجاد وقد تقدم عن ابن عباس مثل ذلك أيضا

فهؤلاء أصحاب رسول الله أوجبوا عليه القضاء والبدنة جميعا والهدي الذي فسروه هنا يبين الهدي المطلق الذي جاء في كلامهم وفي المرفوع المرسل أن المراد به البدنة

وهذا لأن الجماع فيه معنيان أنه محظور في الاحرام وهو أكبر المحظورات وأنه يفسد للإحرام فمن حيث هو محظور يوجب الفدية وهو أكبر مما يوجب شاة فأوجب بدنة ومن حيث فسد الاحرام وجب قضاؤه فحجة القضاء هي الحجة التي التزمها أولا وهذا كالوطء في رمضان يوجب الكفارة العظمى ويوجب القضاء

وإنما لم يفرق بين ما قبل الوقوف وما بعده لأن أصحاب رسول الله سئلوا عن المحرم إذا جامع أمرأته فأفتوا بما ذكرناه من غير استفصال ولا تفصيل وذلك يوجب عموم الحكم وفي أكثر مسائلهم لم يبين السائل أن الجماع كان قبل الوقوف ولأن ما بعد الوقوف وقبل الرمي احرام تام ففسد الحج بالوطء فيه كما قبل الوقوف وهذا لأن الوقوف يوجب ادراك الحج ويؤمن من فواته وادراك العبادة في وقتها لا يمنع ورود الفساد عليها كما لو أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها أو أدرك ركعة من الجمعة أو الجماعة مع الإمام فإنه قد أدرك ومع هذا فلو ورد عليها الفساد لفسدت قال ولأن كل ما أفسد العبادة إذا ورد قبل الخروج منها أفسدها وإن كان قد مضى معظمها كما لو أكل قبيل غروب الشمس أو أحدث قبل السلام أو قبل القعدة الأخيرة

فإن قيل بعد الوقوف لم يبق عليه ركن إلا الطواف والوطء قبل الإفاضة وبعد التحلل لا يفسد فإذا لا يبطل قبل الإفاضة لم يبق إلا واجبات من الوقوف بمزدلفة ورمي الجمرة وهذه لو تركها بالكلية لم يبطل حجه فأن لا يبطل إذا أفسدها أولى وأحرى

قيل العبادة بالكلية أخف من إبطالها ولهذا لو ترك صوم رمضان لم تجب عليه كفارة ولو جامع فيه مع النية وجبت الكفارة ولو ترك حج النافلة لم يكن عليه شيء ولو أبطله لأثم ولزمه القضاء والهدي وكذلك سائر الأعمال قد يكره إبطالها وإن لم يكره تركها والصلاة في أول الوقت له تأخيرها وليس له إبطالها فإذا وطيء فقد راغم العبادة وتعدي الحد بخلاف التارك

وأيضا فإنه لو ترك رمي الجمرة حتى فات وقتها أو ترك الحلق فإن احرامه باق عليه حتى الفصل الرابع

إذا وطيء بعد التحلل الأول لم يبطل حجه لأنه قد حل من جميع المحظورات إلا النساء أو جاز له التحلل منها وقد قضى تفثه كما أمره الله وما خرج منه وقضاه لا يمكن إبطاله نعم يبطل ما بقي منه كما سنذكره

ولأنه بعد التحلل الأول ليس بمحرم إذ لو كان محرما لما جاز له قتل الصيد ولا لبس الثياب ولا الطيب ولا حلق الشعر لكن عليه بقية من الاحرام هو تحريم الوطء ومجرد تحريم الوطء لا يبطل ما مضى قبله من العبادة

ومعنى قولنا إذا وطىء بعد التحلل الأول أي بعد رمي جمرة العقبة سواء ذبح وحلق أو لم يحلق ولم يذبح وسواء قلنا التحلل يحصل بمجرد الرمي أو لا يحصل إلا به وبالحلق هذا هو المنصوص عن أحمد وهو الذي عليه قدماء الأصحاب ومن حقق هذا منهم مثل الخرقي وأبي بكر وابن أبي موسى وغيرهم فانهم كلهم جعلوا الفرق بين ما قبل رمي جمرة العقبة وما بعدها من غير تعرض إلى الحلق

قال في رواية أبي الحارث في الذي يطأ ولم يرم الجمرة أفسد حجه وإن وطيء بعد رمي الجمرة فعليه أن يأتي مسجد عائشة فيحرم بعمرة فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال وعليه دم

وهذا لأننا إن قلنا التحلل الأول يحصل بالرمي وحده فلا كلام سواء قلنا الرمي واجب أو مستحب

وإن قلنا يحصل بالرمى والحلق والوطء قبل الحلق كالرمي قبل الحلق في العمرة وذلك غير مفسد أيضا لأنه جاز له الخروج من هذا الاحرام بالحلق

وإذا جاز الخروج بفعل ما ينافيه لم يكن الإحرام باقيا على حاله وإلى هذا أشار أحمد في رواية أبي الحارث فقال الإحرام قائم عليه فإذا رمى الجمرة انتقض احرامه

وأما القاضي في المجرد وأصحابه فعندهم إذا وطيء قبل الحلق وقلنا هو نسك واجب فسد حجه لأنه وطيء قبل التحلل الأول وهذا يضاهى قولهم تفسد عمرته إذا وطيء فيها قبل الحلق

وإن قدم الحلق قبل الرمي ووطيء بعده

وإن طاف قبل الرمي والحلق والذبح ثم وطيء لم يفسد نسكه لأنه لم يبق عليه ركن وقد تحلل وقد طاف في احرام صحيح وعليه دم فقط ويحتمل أنه لا دم عليه ويتوجه أن يلزمه الاحرام من التنعيم ليرمي في احرام صحيح

ولو أخر الرمي وسائر أفعال التحلل عن أيام منى لم يتحلل فلو وطيء فسد حجه أيضا نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي فيمن لم يرم جمرة العقبة إلى الغد ووطيء النساء قبل الغد فسد حجه فقيل له إنهم يقولون إذا كان الوطء بعد خروج وقت الرمي فليس هو بمنزلة من وطيء قبل الرمي فقال أليس قد وطيء قبل الرمي وانما يحل الوطء بالرمي

قال القاضي وابن عقيل فقد نص على أن التحلل لا يقع بخروج وقته وإنما يحصل بفعل التحلل لأنها عبادة ذات أفعال فلم يقع التحلل منها إلا بفعل التحلل كالصلاة لا يقع التحلل منها إلا بفعل التحلل وهو السلام بخلاف الصوم فإنه فعل واحد فيقع التحلل منه بخروج وقته وإذا ثبت أن التحلل لا يقع بخروج وقت التحلل فإذا وطيء قبل أفعال التحلل وهو الرمي والطواف والحلاق فيجب أن يفسد حجة كما لو كان الوقت باقيا

وهذا لأن فوات وقت الرمي لا يوجب حصول التحلل بمجرد مضي الوقت كما أن فوات وقت الوقوف لا يوجب حصول التحلل من الحج بمضيه بل يتحلل بغير الرمي من الحلق والطواف كما يتحلل من فاته الحج بالطواف والسعي

فصل

وهل عليه بدنة أو شاة على روايتين إحداهما عليه بدنه نقلها الميموني فيمن بقى عليه شوط هل عليه دم قال الدم قليل ولكن عليه بدنة وأرجو أن تجزءه لما روى مجاهد عن ابن عباس قال إذا وقع الرجل على أمرأته بعد كل شيء غير الزيارة فعليه ناقة ينحرها

وعن عطاء عن ابن عباس أنه قال عليه بدنة وقد تم حجة رواهما سعيد بن منصور وابن أبي عروبة ولفظه كان يأمر من غشى أهله بعد رمي الجمرة ببدنة

وروي عن إبراهيم وعطاء والشعبي مثل ذلك وروي أيضا عن ابن عباس وعطاء وإبراهيم والشعبي على كل واحد منهما جزرو ولا يعرف له مخالف في ايجاب البدنة

وعن عطاء عن ابن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة رواه مالك

والثانية عليه دم شاة أو غيرها نقلها بكر بن محمد كما ذكره الشيخ وهو اختيار الخرقي وأبي بكر وابن أبي موسى

فصل

وأما الواجب عليه إذا وطيء بعد التحلل الأول فقد قال في رواية أبي الحارث يأتي مسجد عائشة فيحرم بعمرة فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال وعليه دم وقال في رواية الميموني وابن منصور وابن الحكم إذا أصاب الرجل أهله بعد رمي الجمرة ينتقض احرامه يتعمر من التنعيم ويهريق دم شاة ويجزؤه فإذا خرج إلى التنعيم فأحرم فيكون احرام مكان احرام ويهريق دما يذهب إلى قول ابن عباس يأتي بدم ويتعمر من التنعيم

وقال في رواية المروذي فيمن وطيء قبل رمي جمرة العقبة فسد حجه وعليه الحج من قابل فإن رمي وحلق وذبح ووطيء قبل أن يزور البيت عليه دم ويتعمر من التنعيم لأن عليه أربعة أميال مكان أربعة وكذلك نقل أبو طالب يعتمر من التنعيم لأنه من منى إلى مكة أربعة أميال ومن التنعيم أربعة أميال

وقال في رواية الفضل بن زياد فيمن واقع قبل الزيارة يعتمر من التنعيم بعد انقضاء أيام التشريق

وذلك لما روى قتادة عن علي بن عبد الله البارقي أن رجلا ومرأة أتيا ابن عمر قضيا المناسك كلها ما خلا الطواف فغشيها فقال ابن عمر عليهما الحج عاما قابلا فقال أنا إنسانا من أهل عمان وإن دارنا نائية فقال وإن كنتما من أهل عمان وكانت داركما نائية حجا عاما قابلا فأتيا ابن عباس فأمرهما أن يأتيا التنعيم فيهلا منه بعمرة فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال وإحرام مكان إحرام وطواف مكان طواف رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك عنه وروى مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة قال لا أظنه إلا عن ابن عباس قال الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يتعمر ويهدي ورواه النجاد عن عكرمة عن ابن عباس من غير شك فإذا اختلف الصحابة على قولين أحدهما إيجاب حج كامل والثاني إيجاب عمرة لم يجز الخروج عنهما والإجتزاء بدون ذلك ولا يعرف في الصحابة من قال بخلاف هذين وقد تقدم أنه لا يفسد جميع الحجة فبقى قول ابن عباس

وأيضا فإنه كان قد بقى عليه من الحج أن يفيض من منى إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة ويسعى معه وإن كان لم يسع أولا فيما بقي عليه من إحرامه وهو الاحرام من النساء خاصة فإذا وطيء فقد فسد هذا الاحرام فإن ما يفسد الاحرام الكامل يفسد الإحرام الناقص بطريق الأولى ولو لم يجب عليه استبقاء الاحرام من النساء إلى تمام الإفاضة لجاز الوطء قبلها وهو غير جائز بالسنة والإجماع فإذا فسد ما بقي من الاحرام فلو جاز أن يكتفي به لجاز الاكتفاء بالاحرام الفاسد عن الصحيح ولو وقعت الإفاضة وطوافها في غير احرام صحيح وهذا غير مجزيء وإذا وجب أن يأتي بإحرام صحيح فلا بد أن يخرج إلى الحل ليجمع في احرامه بين الحل والحرم ثم اختلف أصحابنا في صفة ما يفعل فمنهم من أطلق القول بأن عليه عمرة يخرج إلى التنعيم فيهل بها على لفظ المنقول عن ابن عباس وأحمد

وقال الخرقي يمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف وهو محرم وكذلك قال ابن أبي موسى ويخرجان إلى التنعيم فيحرمان بعمرة ليطوفا طواف الإفاضة وهما محرمان إنما الواجب عليه الإحرام فقط ليطوف في احرام صحيح وليس عليه سعي ولا حلق لكن هل يلبي وكيف يحرم

وقال القاضي في اخر أمره يمضي في بقية الحج في الاحرام الذي أفسده فيطوف طواف الافاضة ويسعى إن كان لم يسع في ذلك الاحرام الفاسد ثم يقضي هذا باحرام صحيح من الحل يطوف فيه ويسعى سواء كان قد سعى عقب طواف القدوم أو لم يسع قال لأن أحمد أطلق القول في رواية الجماعة أنه يحرم بعمرة ولم يقل يمضي في بقية احرامه ومعناه أنه يحرم ليفعل أفعال العمرة وقد نقل عنه ما يدل على أنه يمضي فيما بقى

وقال في رواية الفضل إنه يعتمر من التنعيم بعد إنقضاء أيام التشريق فقد أمره بتأخير الإحرام بعد أيام التشريق وليس هذا إلا لاشتغاله ببقية أفعال الحج لأن القضاء إنما يكون تمام ما بقي عليه قال وقد نص فيمن نسى طواف الزيارة حتى رجع بلده يدخل متعمرا فيطوف بعمرة ثم يطوف طواف الزيارة

ووجه هذا أنه قد أفسد ما بقى عليه والافساد يوجب المضي فيما بقى من النسك وقضاؤه فوجب عليه أن يمضي فيه ووجب القضاء لكن الإحرام المبتدأ لا يكون إلا بحج أو عمرة فوجب عليه أن يأتي بعمرة تامة تكون قضاء لما أفسده من بقية النسك وعلى هذا فيلبي في احرامه ويحلق أو يقصر إذا قضاه لأنها عمرة تامة

وقال القاضي في المجرد والشريف أبو جعفر وابن عقيل وغيرهم إنما عليه عمرة فقط وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأحمد وهو الصواب

ثم اختلفت عباراتهم فقال القاضي في موضع والشريف معناه أنه يحرم للطواف والسعي وهو أفعال العمرة فالمعنى أنه يأتي في احرامه بأفعال العمرة وقال ابن عقيل كلام أحمد يدل على أنه يحرم بنفس العمرة حتى لا يكون احرامه لمجرد الطواف والسعي الذي هو فعل من أفعال الحج بل يحرم بنسك كامل ويجعل ما بقى من الحج داخلا في أثنائه ولا يكفيه أن يأتي بما بقي من غير احرام وهذا أجود فعليه أن يأتي بعمرة تامة يتجرد لها ويهل من الحل ويطوف ويسعى ويقصر أو يحلق ويعتقد أن هذه العمرة قائمة مقام ما بقى عليه وأن طوافها هو طواف الحج الذي كان عليه فإن ابن عباس وأحمد صرحا بأنه يتعمر ويهدي وفسرا ذلك بأربعة أميال مكان أربعة أميال

نعم وجب عليه انشاء الإحرام ليأتي بما بقى عليه في احرام صحيح ومن لوازم الإحرام المبتدأ أن يتجنب فيه جميع المحظورات وأن يهل فيه وأن لا يتحلل منه إلا بعد السعي والحلق وهذه الزيادات وإن لم تكن كانت واجبة فإنها وجبت لجبر ما قد فسد من احرامه إذ لا يمكن الجبر إلا بإحرام صحيح ولا يكون الإحرام الصحيح إلا هكذا

وقول أحمد يعتمر أيام التشريق ليس فيه دليل على أنه يفيض في ذلك الإحرام الفاسد وإنما أمره بذلك لأن العمرة يشرع أن تكون بعد أيام التشريق وهو يرمي الجمار أيام التشريق لأن الجمار إنما يكون بعد الحل كله فوقوعه بعد فساد الإحرام لا يضره ووقوع طواف الإفاضة بعد أيام منى جائز نعم قد يكره وإنما لم يجب عليه المضي فيما بقى باحرامه الفاسد وقضاؤه لأن القضاء المشروع يحكى الأداء وهنا ليس القضاء مثل الأداء وإنما وجب عليه عمرة فيها احرام تام وخروج إلى الحل وطواف وسعي وغير ذلك وإنما كان عليه طواف فقط وهو متطيب لابس يفيض إلى مكة من منى فأغنى ايجاب هذه الزيادات عن طوافه في ذلك الإحرام الفاسد

وأما من أوجب عليه احراما صحيحا ليطوف فيه فقط فهذا خلاف الأصول لأن كل احرام صحيح من الحل يتضمن الإهلال لا بد له من إحلال والمحرم لا يحل إلا بالحلق أو التقصير بعد طواف وسعي فكيف يحل بمجرد السعي اللهم إلا على قولنا بأن السعي والحلاق شيئان غير واجبين فهنا يحل بمجرد الطواف ويكون هذا عمرة

ولا يتعين الإحرام من التنعيم بل له أن يحرم من أي الجوانب شاء

وإن إعتمر في أيام التشريق

وإن وطىء بعد افاضته وقبل طوافه أو قبل تكميل الطواف فنقل الميموني

مسألة وإن وطيء في العمرة أفسدها وعليه شاة

وجملة ذلك أن ما يفسد العمرة يفسد الحج وهو الوطء وإلا نزال عن مباشرة في إحدى الروايتين ويجب المضي في فسادها كالمضي في فاسد الحج وحكم الاحرام باق عليه كما تقدم في الحج وعليه قضاؤها على الفور بحسب الإمكان من المكان الذي أحرم به أولا إلا أن يكون أحرم دون الميقات فعليه أن يحرم من الميقات

قال أحمد في رواية أبي طالب وإذا واقع المحرم أمرأته وهما معتمران فقد أفسدا عمرتها وعليهما قضاء يرجعان إن كان عليهما فيهلان من حيث أحرما من الميقات ولا يجزئهما إلا من الميقات الذي أهلا بالعمرة وقضيا مثل ما أفسدا وإن خشيا الفوات ولم يقدرا أن يرجعا أحرما من مكة وحجا حجهما صحيح فإذا كان يوم النحر ذبحا لتركهما الميقات لما دخلا بغير احرام من الميقات فإذا فرغا من حجهما خرجا إلى ذي الحليفة فأحرما بعمرة مكان العمرة التي أفسدا فإذا قدما مكة ذبح كل واحد منهما هديا لما أفسدا من عمرتها من الوقوع فإذا كانت بدنة كانت أجود وإلا فشاة تجزؤه وعلى كل واحد منهما هدي إن كان استكرهها وابن عباس يقول على كل واحد منهما هدي أكرهها أو لم يكرها

فقد بين أنه يجب قضاؤها على الفور إلا إذا خشى فوت الحج فإنه يحرم بالحج وعليه دم غير دم الفساد لدخوله مكة بغير احرام صحيح كما لو دخلها حلالا وأحرم بالحج منها والدم الواجب شاة والأفضل بدنة هذا منصوصه وقول أصحابه

ويتخرج إذا أوجبنا في الوطء بعد التحلل الأول بدنة أنه يجب في العمرة التامة بدنة وأولى

والوطء المفسد للعمرة بلا ريب إذا وقع قبل كمال طوافها فإن وطئها بعد الطواف وقبل السعي وقلنا السعي ركن أفسدها أيضا وإن قلنا هو واجب

وإن وطئها بعد السعي وقبل الحلق أو بعد الطواف قبل الحلق وقلنا السعي سنة لم تبطل عمرته بحال سواء قلنا الحلاق واجب أو سنة هذا هو المنصوص عنه في غير موضع وعليه عامة أصحابه قال ابن أبي موسى من وطيء في العمرة بعد الطواف قبل السعي بين الصفا والمروة أفسد العمرة وعليه دم شاة للفساد وعمرة مكانه وإن وطيء فيها بعد السعي قبل الحلاق أساء والعمرة صحيحه وعليه دم قال في رواية أبي طالب في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى فسدت عمرته وعليه مكانها ولو طاف وسعى ثم وطيء قبل أن يحلق ويقصر فعليه دم

وقال في رواية أبي داود إذا جامع قبل أن يقصر فقال ابن عباس عليه دم وإنما يحل بالحلق أو التقصير فقد نص على بقاء الاحرام ووجوب الدم مع صحة العمرة وعنه رواية أخرى لا دم عليه وهذا بناء على أن الحلاق مستحب وأنه يتحلل بدونه قال في رواية ابن إبراهيم وابن منصور فإذا أصاب أهله في العمرة قبل أن يقصر فإن الدم لهذا عندي كثير

وقال القاضي في المجرد إذا وطيء قبل الحلق فسدت عمرته وعليه دم لأنه وطيء قبل التحلل من احرامه فأفسده كما لو وطيء في الحج قبل التحلل الأول ولأنه احرام تام صادفه الوطء فأفسده كاحرام الحج ولأن الحلق يحل به من العبادة فإذا ورد قبله أفسدها كما لو أحدث المصلي قبل السلام وعلى هذا يكون الحلق ركنا في العمرة لأن الواجب هو ما يجبره الدم إذا ترك والحلق لا يتصور تركه على هذا القول لأنه ما لم يطأ ولم يحلق فاحرامه باق وهو لم يتحلل وكلما فعل محظورا فعليه جزاؤه وإذا وطيء لم يخرج الفساد من الإحرام بل يحلق ويقضي وأما على المذهب فيفوت الحلق بالوطء لما روى سعيد ثنا هشيم ثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال جاءت أمرأة إلى ابن عباس رضي الله عنه فذكرت أن زوجها أصابها وكانت اعتمرت فوقع بها قبل أن تقصر فقال ابن عباس شبق شديد شبق شديد مرتين فاستحيت المرأة فانصرفت وكره ابن عباس ما فرط منه وندم على ما قال واستحيا من ذلك ثم قال علي بالمرأة فأتي بها فقال عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك قالت فأي ذلك أفضل قال النسك قالت فأي النسك أفضل قال إن شئت فناقة وإن شئت فبقره قالت أي ذلك أفضل قال انحري بدنة

وقال ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أن أمرأة أتت ابن عباس فقالت إني خرجت مع زوجي فأحرمنا بالعمرة فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة فوقع بها قبل أن تقصر ثم ذكر نحوه وروى سعيد بن أبي عروبة في المناسك عن قتادة عن علي بن عبد الله البارقي أن رجلا وامرأته أتيا ابن عباس قد قضيا احرامهما من عمرتهما ما خلا التقصير فغشيها قال أيكما كان أعجل وقال بعدما ذهب بصره فاستحيت المرأة فأدبرت فدعاها فقال عليكما فدية صيام أو صدقة أو نسك فقالت المرأة أي ذلك أفضل قال النسك قالت فأي النسك أفضل قال ناقة تنحرينها ولا يعرف له في الصحابة مخالف

وأيضا فإنه وإن كان على احرامه فقد نقض احرامه بجواز التحلل منه بالحلق فلم يبق احراما تاما

وأيضا فالحلق وإن كان نسكا واجبا فلا ريب أنه تحلل من الاحرام ليس هو ممال يفعل في الاحرام بل هو برزخ بين كمال الحرم وكمال الحل فإذا وطيء فإنما أساء لكونه قد تحلل بغير الحلق ومثل هذا لا يفسد الاحرام فعلى هذا لا يحلق بعد الوطء ولا يقصر

وأما كونه إحراما تاما فغير مسلم

مسألة ولا يفسد النسك بغيره

قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء حال الاحرام إلا الجماع

وذلك لأن الله سبحانه ذكر حلق الرأس قبل الاحلال للمعذور وأوجب به الفدية ولم يوجب القضاء كما أوجبه في من أفطر في رمضان لمرض أو سفر وحرم قتل الصيد حال الاحرام وذكر فيه العقوبة والجزاء ولم يفسد به الاحرام ولم يوجب قضاء ذلك الاحرام وقد أمر النبي من أحرم في جبته أن ينزعها ولم يأمره بكفارة ولا قضاء

والفرق بين المباشرة وبين غيرها من المحظورات من وجوه أحدها أن سائر محظورات الاحرام تباح لعذر فإنه إذا احتاج إلى اللباس والطيب والحلق وقتل الصيد فعله وافتدى والمباشرة لا تباح فإن قيل فلو كان به شبق شديد يخاف من تشقق أنثييه وقد قلتم إنه يفطر في رمضان ويقضي

فصل

وكل وطء في الفرج فإنه يفسد سواء كان قبلا أو دبرا من ادمى أو بهيمة وقد خرج أبو الخطاب وغيره في وطء البهيمة وجها أنه لا يبطل وسوى حكمه على الروايتين في وجوب الحد به وفرق غيرهم من أصحابنا كما تقدم في الصيام فأما إن وطيء ذكرا أو بهيمة دون الفرج

وإن حك ذكره بس