شرح العمدة في الفقه/كتاب الحج

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​شرح العمدة في الفقه​ المؤلف ابن تيمية
كتاب الحج


في بيان مناسك الحج والعمرة

كتاب الحج[عدل]

جماع معنى الحج في أصل اللغة قصد الشيء واتيانه ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجيء ويسمى ما يقصد الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به سواء قصده القاصد لمصلحته أو لمصلحة غيره ومنه قول النبي من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه

وقول في حاجة الله وحاجة رسوله

ومعلوم أنه إنما يقصد ويؤتى ما يعظم ويعتقد الانتفاع به وإذا كان كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة الحج القصد ويقول بعضهم هو القصد إلى من يعظم ويقول بعضهم كثرة القصد إلى من يعظمه ورجل محجوج ومكا محجوج أي مقصود مأتي ومنه قوله

وأشهد من عوف حلولا كثيرة ** يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت يقول يكثرون الاختلاف إليه

وقوله % قالت تغيرتم تم بعدي فقلت لها % لا والذي بيته يا سلم محجوج % ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرقي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وقال تعالى { وأذن في الناس بالحج } وقال سبحانه { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } وقد بين المحجوج في قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } وقوله تعالى { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فإن اللام في قوله البيت لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الاخر وفيه لغتان قد قرىء بهما الحج والحج والحجة بفتح الحاء وكسرها

ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة والطواف بالبيت وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت فإذا أطلق الإسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة إما في الحج الأكبر أو الأصغر

مسألة يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر

في هذا الكلام فصول

أحدها أن الحج واجب في الجملة وهو أحد مباني الإسلام الخمس وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة وتناقلته خلفا عن سلف والأصل فيه قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وحرف على للإيجاب لاسيما إذا ذكر المستحق فقيل لفلان على فلان وقد أتبعه بقوله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجة ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه لأن الله غني عن العالمين وكذلك قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } على أحد التأويلين وقوله { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } فأذن فيهم إن لربكم بيتا فحجوه

وأما السنة فما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بني الاسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت متفق عليه وفي حديث جبريل في رواية عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي ما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا رواه مسلم وليس الحج في حديث أبي هريرة المتفق عليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله إن الله فرض عليكم الحج فحجوا رواه مسلم وغيره وأحاديث كثيرة في هذا المعنى

وعن شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال بينما نحن جلوس مع النبي النبي في المسجد اذ دخل على جمل ثم أناخه في المسجد ثم علقه ثم قال أيكم محمد والنبي صلى الله عليه واله وسلم متكىء بين ظهرانيهم فقلنا ها الرجل الأبيض المتكيء فقال له الرجل ابن عبد المطلب فقال له النبي قد أجبتك فقال الرجل اني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال سل عما بدالك فقال أسألك بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمر أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال أنشدك الله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال النبي اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبه أخو بني سعد بن بكر رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي عن إسماعيل وعلي بن عبد الحميد وقال رواه سليمان عن ثابت عن أنس عن النبي مثله وروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس قال نهينا في القران أن نسأل رسول الله عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق قال فمن خلق السماء قال الله قال فمن خلق الأرض قال الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال الله قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق قال ثم ولى وقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي إن صدق ليدخلن الجنة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال بعثت بنو سعد بن بكر ضمام ابن ثعلبة وافدا إلى رسول الله فقدم عليه فأناخ بعيرة على باب المسجد ثم عقله ورسول الله جالس في أصحابه في المسجد وكان ضمام بن ثعلبة رجلا جلدا أشعر ذاغديرتين قال فأقبل حتى وقف على رسول الله وهو في أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقال رسول الله أنا عبد المطلب قال أمحمد قال نعم قال يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك فقال لا أجد في نفسي سل عما بدالك قال أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه قال اللهم نعم قال فأنشدك الله الهك واله من كان قبلك واله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس قال اللهم نعم قال ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وسأودي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص قال ثم انصرف إلى بعيرة فقال رسول الله إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة قال فأتة بعيرة فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال ما بئست اللات والعزى قالوا مه يا ضمام اتق البرص اتق الجذام اتق الجنون قال ويلكم إنهما والله ما يضران وما ينفعان وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقدكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته من رجل ولا إمرأة إلا مسلما قال ابن عباس فما سمعنا لوافد قط كان أفضل من ضمام بن ثعلبه ورواه أحمد وأبو داود من طريق ابن إسحاق وهذا لفظ المغازي واختلف في سنة قدومه فقيل كان ذلك في سنة خمس قاله محمد ابن حبيب وغيره وروى عن شريك عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ابن عباس وفيه بعث بنوا سعد ضماما في رجب سنة خمس وقيل في سنة سبع وقيل في سنة تسع ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه لوامع الأمور وحوادث الدهور وزعم ابن عبد البر أن هذا هو الأعرابي الثائر الرأس الذي من أهل نجد الذي يروي حديثه أبو طلحة ويروى نحوا منه أبو هريرة وهذا فيه نظر لأن ذاك أولا أعرابي وهذا من بني سعد بن بكر ثم ذاك رجل ثائر الرأس وهذا رجل له عقيصتان ثم ذاك رجل يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول وهذا رجل عاقل جلد ثم ذاك ليس في حديثه إلا التوحيد والصلاة والزكاة والصوم فإن كان هذا هو ذاك فليس ذكر الحج إلا في بعض رواياته والذي في الصحيحين ليس فيه شيء من هذا ولا يسعهم أن يتركوه وهو يقول لا أزيد ولا أنقص فإن كانت سعد هذه سعد بن بكر بن هوازن أظأر رسول الله فهؤلاء كانوا مشركين يوم حنين وكانت حنين في أواخر سنة ثمان من الهجرة وقدم وفد هوازن على رسول الله منصرفة وهو بالجعرانة عن حصار الطائف فأسلموا ومن النبي على سببهم والقصة مشهورة فتكون بنو بكر بن سعد بن بكر قد أوفدت ضماما في سنة تسع وفيها أسلمت ثقيف أيضا وهذه السنة هي سنة الوفود

وقد أجمع المسلمون في الجملة علي أن الحج فرض لازم الفصل الثاني

أن العمرة أيضا واجبة نص عليه أحمد في مواضع فقال في رواية الأثرم وبكر بن محمد وإسحق بن إبراهيم وأبي طالب وحرب والفضل العمرة واجبة والعمرة فريضة وذكر بعض أصحابنا عنه رواية أخرى أنها سنة لأن الله سبحانه وتعالى قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولم يذكر العمرة ولو كانت واجبة لذكرها كما ذكرنا لما أمر بإتمامها وبالسعي فيها في قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } وقوله سبحانه { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وكذلك أمر خليله عليه السلام بدعاء الناس إلى الحج بقوله تعالى { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } إلى قوله { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } والاختصاص بأيام معلومات هو للحج فقط دون العمرة فعلم أنه لم يأمرهم بالعمرة وإن كانت حسنة مستحبة لأنه لما ذكر معاني الإسلام قال { حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقال في حديث جبريل الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ولم يذكر العمرة وسأله ضمام بن ثعلبه عن فرائض الإسلام إلى أن قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق ثم ولى ثم قال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي صلى اله عليه وسلم إن صدق ليدخلن الجنة ولو كانت العمرة واجبة لانكر قوله لا أزيد عليهن ولم يضمن له الجنة مع ترك أحد فرائض الإسلام ولأن النبي لما حج حجة الوداع كان معه من المسلمين مالا يحصيهم إلا الله تعالى وكل قد جاء يؤدى فرض الله تعالى عليه فلما قضى أيام منى بات بالمحصب بعد النفر وخرج من الغد قافلا إلى المدينة ولم يعتمر بعد ذلك ولم يأمر من معه بالعمرة ولا بأن يسافروا لها سفرة أخرى وقد كان فيهم المفرد والقارن وهم لا يرون أنه قد بقي عليهم فريضة أخرى بل قد سمعوا منه أن الحج لا يجب إلا في عام واحد وقد فعلوه فلو كانت العمرة واجبة كالحج لبين لهم ذلك أو لأقام ريثما أن يعتمر من لم يكن إعتمر

وعن الحجاج بن ارطأة ع محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أتى النبي أعرابي فقال أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال رسول الله لا وإن تعتمر خير لك رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الدارقطني من غير طريق الحجاج

وعن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا أنه قال العمرة تطوع قال الدارقطني والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة

وعن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله يقول الحج جهاد والعمرة تطوع رواه ابن ماجه وفي طريقه الحسن بن يحيى الخشني عن عمر بن قيس أخبرني طلحة بن يحيى عن عمه أسحق بن طلحة عن طلحة بن عبيد الله

وعن أبي صالح الحنفي أن رسول الله قال الحج جهاد والعمره تطوع رواه الشافعي وسعيد

وربما احتج بعضهم بقوله دخلت العمرة في الحج وليس بشيء ولأن العمرة بعض الحج فلم تجب على الإنفراد كالطوف وهذا لأن الحج لم يجب على وجه التكرار وإنما وجب مرة واحدة فلو وجبت العمرة لكان قد وجب على الانسان حجتان صغرى وكبرى فلم يجز كما لم يجب عليه حج وطواف وكل ما يفعله المعتمر فقد دخل في الحج فليس في العمرة شيء يقتضي إفراده بالإيجاب لكن جعل الله المناسك على ثلاث درجات أتمها هو الحج المشتمل على الإحرام والوقوف والطواف والسعي والرمى والإحلال وبعده العمرة المشتملة على الإحرام والطواف والسعي والإحلال وبعده الطواف المجرد ولأنها نسك غير مؤقت الإبتداء والإنتهاء فلم تجب كالطواف

ولأنها عبادة غير مؤقته من جنسها فرض مؤقت فلم تجب كصلاة النافلة وهذا لأن العبادات المحضة إذا وجبت وقتت كما وقتت الصلاة والصيام والحج فإذا شرعت في جميع الأوقات علم أنها شرعت رحمة وتوسعه للتقرب إلى الله تعالى بأنواع شتى من العبادة وسبل متعددة لئلا يمتنع الناس من التقرب إلى الله تعالى في غالب الأوقات

ووجه الأول ما احتج به بعضهم من قوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال حج عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح

وفي رواية لأحمد إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير فأمره بفعلهما عن أبيه ولولا وجوبهما على الأب لما أمره بفعلهما عنه لكن يمكن أن يقال إنما سأله عن جواز الحج والعمرة عن أبيه لأن الابن لا يجب ذلك عليه وفاقا

وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدراقطني بإسناد شرط الصحيح لكن في لفظ أحمد والنسائي الا نخرج فنجاهد معك وكلمة على تقتضي الإيجاب لا سيما وقد سألته عما يجب على النساء من الجهاد فجعله جهادهن كما روي عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت قال رسول الله الحج جهاد كل ضعيف رواه أحمد وابن ماجه

واحتج أحمد بحديث أبي رزين وبحديث ذكره عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي فقال أوصني فقال تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر

قال وعن ابن عباس وابن عمر أنها واجبة وهذا أمر والأمر للإيجاب لا سيما وهو إنما أمره بمباني الاسلام ودعائمه قال جابر بن عبد الله ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه عمرة واجبة ذكره ابن أبي موسى

وفي حديث عمر عن النبي فقال يعني جبريل عليه السلام لما جاء في صورة الأعرابي يا محمد ما الاسلام فقال الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان رواه الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين والدارقطني وقال هذا إسناد صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد

وهذه الزيادة وإن لم تكن في أكثر الروايات فإنها ليست مخالفة لها لكن هي مفسرة لما أجمل في بقية الروايات فإن الحج يدخل فيه الحج الأكبر والأصغر كما أن الصلاة يدخل فيها الوضوء والغسل وإنما ذكر ذلك بالاسم الخاص تبيينا خشية أن يظن أنه ليس داخلا في الأول وقد روى الدارقطني بإسناد ضعيف عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وروى القاضي بإسناده عن قتيبة عن ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله الحج والعمرة فريضتان واجبتان

وروى سعيد بن أبي عروبة في المناسك عن قتادة أن نبي الله قال إنما هي حجة وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة ومن أصاب بعد ذلك فهو تطوع وعن قتادة أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال يا أيها الناس كتب عليكم الحج يا أيها الناس كتب عليكم العمرة يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم من ماله فيبتغي به من فضل الله فإن فيه الغنى والتصديق وأيم الله لأن أموت وأنا ابتغي بما لي في الأرض من فضل الله عز وجل أحب إلى من أموت على فراشي وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر بدليل قوله سبحانه { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فإن الصفة إذا لم تكن مبينة لحال الموصوف فإنها تكون مقيدة له ومميزة له عما يشاركه في الإسم فلما قال { يوم الحج الأكبر } علم أن هناك حجا أصغر لا يختص بذلك اليوم لأن الحج الأكبر له وقت واحد لا يصح في غيره والحج الأصغر لا يختص بوقت وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة

وأيضا ففي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي لما بعثه إلى اليمن وأن العمرة الحج الأصغر رواه الدارقطني من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وهذا الكتاب ذكر هذا فيه مشهور مستفيض عند أهل العلم وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل وهو صحيح بإجماعهم

وإذا كان النبي قد بين أنها الحج الأصغر كما دل عليه كتاب الله عز وجل علم أنها واجبة لأن قوله { ولله على الناس حج البيت } وسائر الأحاديث التي فيها ذكر فرض الحج إما أن يعم الحجين الأكبر والأصغر كما أن قول النبي لا يقبل الله صلاة بغير طهور يعم نوعي الطهور الأكبر والأصغر وإما أن تكون مطلقة ولا يجوز أن يكون المفروض مطلق الحج لأن ذلك يحصل بوجود الأكبر أو الأصغر فيلزم أن تكفيه العمرة فقط وذلك غير صحيح فيجب أن يكون عاما ولا يجوز أن يعني الحج الأكبر فقط لأنه يكون تخصيصا للعام وتقييدا للمطلق وذلك لا يجوز إلا بدليل ولو أريد ذلك لقيد كما قيد في قوله يوم الحج الأكبر بل الناس إلى التقييد هنا أحوج لأن هذا ذكر للمفروض الواجب والإسم يشملها وذاك أمر بالنداء يوم الحج الأكبر والنداء لا يمكن إلا في المجتمع والإجتماع العام إنما يقع في الحج الأكبر لاسيما وقوله يوم والحج الأصغر لا يختص به وبهذا يجاب عن كل موضع أطلق فيه ذكر الحج

وأما المواضع التي عطف فيها فللبيان والتفسير وقطع الشبهة لئلا يتوهم متوهم أن حكم العمرة مخالف لحكم الحج وأنها خارجة عنه في هذا الموضع لأنها كثيرا ما تذكر بالاسم الخاص وكثيرا ما يكون لفظ الحج لا يتناولها

وأما الأحاديث فضعيفة

وأما كونها لا تختص بوقت وكونها بعض الحج فلا يمنع الوجوب وأيضا فإنها عبادة تلزم بالشروع ويجب المضي في فاسدها فوجبت بالشرع كالحج وعكس ذلك الطواف

فصل

وقد أطلق أحمد القول بأن العمرة واجبة وأن العمرة فريضة في رواية جماعة منهم أبو طالب والفضل وحرب وكذلك أطلقه كثير من أصحابه منهم ابن أبي موسى وقال في رواية الأثرم وقد سئل عن أهل مكة فقال أهل مكة ليس عليهم عمرة إنما قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فقيل له إنما ذاك في الهدي في المتعة فقال كان ابن عباس يرى المتعة واجبة ويقول يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت قيل له كأن إقامتهم بمكة يجزيهم من العمرة فقال نعم وكذلك قال في رواية ابن الحكم ليس على أهل مكة عمرة لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم أو تجاوز الحرم وقال في رواية الميموني ليس على أهل مكة عمرة وإنما العمرة لغيرهم قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إلا أن ابن عباس قال يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه التنعيم ولأصحابنا في هذا ثلاثة طرق أحدها أن المسألة رواية واحدة بوجوبها على المكي وغيره وأن قوله ليس عليهم متعة يعني في زمن الحج لأن أهل الأمصار غالبا إنما يعتمرون أيام الموسم وأهل مكة يعتمرون في غير ذلك الوقت قاله القاضي قديما قال لأنه قال لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت وهذه طريقة ضعيفة الثانية أن في وجوبها على أهل مكة روايتين لأنه أوجبها مطلقا في رواية واستثنى أهل مكة في أخرى وهذه طريقة القاضي أخيرا وابن عقيل وجدي وغيرهم والثالثة أن المسألة رواية واحدة أنها لا تجب على أهل مكة وأن مطلق كلامه محمول على مقيده ومجملة على مفسره وهذه طريقة أبي بكر وأبي محمد صاحب الكتاب وهؤلاء يختارون وجوبها على أهل مكة

ووجه عدم وجوبها ما روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يا أهل مكة ليس عليكم عمرة وعن عمرو بن كيسان قال سمعت ابن عباس يقول لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا فإن أبيتهم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد

وعن عطاء إنه كان يقول يا أهل مكة إنما عمرتكم الطواف بالبيت فإن كنتم لا بد فاعلين فجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد رواهن سعيد وهذا مع قوله إن العمرة واجبة ولا يعرف له مخالف من الصحابة ولأن الله سبحانه قال { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فجعل التمتع بالعمرة إلى الحج الموجب لهدي أو صيام لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فإذا كان حاضر المسجد الحرام يفارق غيره في حكم المتعة وواجباتها فارقة في وجوب العمرة وأيضا فإن العمرة هي زيارة البيت وقصده وأهل مكة مجاوروه وعامروه بالمقام عنده فأغناهم ذلك عن زيارته من مكان بعيد فإن الزيارة للشيء إنما تكون للأجنبي منه البعيد عنه وأما المقيم عنده فهو زائر دائما فإن مقصود العمرة إنما هو الطواف وأهل مكة يطوفون في كل وقت

وهؤلاء الذين لا تجب عليهم العمرة هم الذين ليس عليهم هدي متعة على ظاهر كلامه في رواية الأثرم والميموني في إستدلاله بقوله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وظاهر قوله في رواية ابن الحكم والأثرم أيضا إنها إنما تسقط عن أهل مكة وهم أهل الحرم لأنهم هم المقيمون بمكة والطوافون بالبيت فأما المجاور بالبيت فقال عطاء هو بمنزلة أهل مكة الفصل الثالث

أنهما إنما يجبان مرة في العمر يإيجاب الشرع فأما إيجاب المرء على نفسه فيجب في الذمة بالنذر ويجب القضاء لما لم يتمه كما يذكر إن شاء الله تعالى ويجب إتمامها بعد الشروع

وقد أجمعت الأمة على أن الواجب بأصل الشرع مرة واحدة والأصل في ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله فقال يأيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم رواه أحمد ومسلم والنسائي

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله فقال يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال أفي كل عام يا رسول الله فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجة ولفظهما أن الأقرع ابن حابس سأل النبي فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قال المؤمنون يا رسول الله أفي كل عام مرتين فسكت ثم قالوا يا رسول الله أفي كل عام مرتين فقال لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال غريب من هذا الوجه سمعت محمدا يقول أبو البختري لم يدرك عليا وقد احتج به أحمد وعن قتادة قال ذكر لنا أن نبي الله قال في خطبته يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقال رجل من أهل البادية يا نبي الله أكل عام فسكت عنه نبي الله ثم قال يا نبي الله أكل عام فقال نبي الله والذي نفس محمد بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لكفرتم ولما استطعتم فإذا أمرتكم بأمر فاتبعوه وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم وكثرة سؤالهم ألا وإنما هي حجة وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة فما أصاب بعد ذلك فهو تطوع رواه سعيد بن أبي عروبة في مناسكه عنه ا ه الفصل الرابع

أنه لا يجب الوجوب المقتضي للفعل وصحته إلا على مسلم لأن الله سبحانه قال { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } فنهاهم أن يقربوه ومنعهم منه فاستحال أن يؤمروا بحجه ولأنه لا يصح الحج منهم ومحال أن يجب مالا يصح لما روى أبو هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان متفق عليه وكان هذا النداء بأمر رسول الله لما بعث أبا بكر يقيم للناس الحج ويقطع العهود التي بينه وبين المشركين وينهاهم عن الحج وبعث عليا رضي الله عنه يقرأ سورة براءة وينبذ إلى المشركين

وعن زيد بن أثيع ويقال يثيع قال سألت عليا بأي شيء بعثت قال بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ومن كان بينه وبين النبي عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وقد منع الله سبحانه المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم من سكني جزيرة العرب مبالغة في نفيهم عن مجاورة البيت

ومن عرف بالكفر ثم حج حكم بإسلامه في أصح الوجهين

فأما وجوبه عليهم بمعنى أنهم يؤمرون به بشرطه وأن الله يعاقبهم على تركه فهو ظاهر المذهب عندنا لأن الله تعالى قال { ولله على الناس حج البيت } فهم ولم يخص وروى أحمد عن عكرمة قال لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } قالت اليهود فنحن المسلمون فقال الله تعالى لنبيه { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فحجوا فأبو فأنزل الله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } من أهل الملل وفي رواية لما نزلت { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } قالت الملل فنحن المسلمون فأنزل الله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فحج المسلمون وقعد الكفار

ولا يجب على الكافر سواء كان أصليا أو مرتدا في أقوى الروايتين فلو ملك في حال كفره زادا وراحلة ثم أسلم وهو معدم فلا شيء عليه لقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وأما إذا وجب على المسلم فلم يفعله حتى ارتد ثم أسلم فهو باق في ذمته سواء كان قادرا أو عاجزا في المشهور من المذهب

وإن حج ثم إرتد ثم أسلم فهل عليه أن يحج على روايتين إحداهما عليه أن يحج نص عليه في رواية ابن منصور وهذا اختيار القاضي والثانية لا حج عليه ولا يصح الحج من كافر فلو أحرم وهو كافر لم ينعقد إحرامه ولو ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه الفصل الخامس أنه لا حج على مجنون كسائر العبادات

قال أبو عبد الله لا حج على مجنون إلا أن يفيق لقول النبي من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما رفع القلم عن المجنون حتى يفيق وهو حديث حسن مشهور

ولأن المجنون ليس من أهل الخطاب والتكليف لعدم العقل والتمييز فلو كان مؤسرا في حال جنونه فلم يفق إلا وقد أعسر لم يكن في ذمته شيء وأما الذي يفيق أحيانا وهل يصح أن يحج بالمجنون كما يحج بالصبي غير المميز فيعقد له الإحرام وليه على وجهين أحدهما يصح قال أبو بكر فإن حج الصبي أو العبد أو الأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن ماتوا فعليهم كما قال رسول الله والثاني لا يصح وهو المشهور رضي الله عنه قال رسول الله

والثاني لا يصح وهو المشور الفصل السادس

أنه لا حج على الصبي قبل البلوغ لقول النبي رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وفي لفظ حتى يشب

ولأن الحج عبادة تحتاج إلى قطع مسافة فلم تجب على الصبي كالجهاد وقد جعل النبي الحج جهاد كل ضعيف وجهاد النساء

فإذا كان له مال فلم يدرك إلا وقد نفد فلا حج عليه

وإذا أدرك بالسن وهو إستكمال خمس عشرة سنة أو بإنبات شعر العانة الخشن ولم يحتلم فهل يجب عليه الحج الفصل السابع

أنه لا يجب إلا على حر كامل الحرية فأما العبد القن والمعتق بعضه والمكاتب والمدبر وأم الولد فلا يجب عليهم الحج لأنها عبادة يتعلق وجوبها بملك المال والعبد لا مال له فلم يجب عليه شيء كالزكاة ولأنها عبادة تفتقر إلى قطع المسافة البعيدة فلم تجب على العبد كالجهاد

وهذا لأن الحج عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتحتاج إلى مال والعبد مشغول بحقوق سيده ففي الإيجاب عليه إبطال لحق سيده

وهذه الطريقة مستقيمة إذا لم يأذن له السيد وفيها نظر

ولأن العبد ناقص بالرق وقد أجتمع عليه حق لله تعالى وحق لسيده فلو وجب عليه ما يجب على الحر لشق عليه أو عجز عنه والحج كمال الدين وآخر الفرائض ولهذا قال تعالى لما وقف النبي بعرفة اليوم { أكملت لكم دينكم } فلا يجب إلا على كامل مطلق والعبد ناقص الأحكام أسير لغيره

فصل

فقد انقسمت شروط الوجوب هذه إلى ما يشترط الصحة لحج وإلى مالا يشترط لصحته وكلها شرط للأجزاء عن حجة الإسلام

وأما الإستطاعة فهي شرط في الوجوب وليست شرطا في الأجزاء فصارت الشروط ثلاثة أقسام كما قلنا في شروط وجوب الجمعة منها ما هو شرط في وجوبها بنفسه وبغيره ومنها ما هو شرط في وجوبه بنفسه ثم منها ما هو شرط في صحة الجمعة مطلقا ومنها ما هو شرط في صحتها أصلا لا تبعا ومنها ما ليس شرطا في صحتها لا أصلا ولا تبعا

مسألة إذا استطاع إليه سبيلا وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتها مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام

في هذا الكلام فصول أحدها الفصل الأول

أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القران والسنة المستفيضة وإجماع المسلمين ومعنى قوله { من استطاع إليه سبيلا } واستطاعة السبيل عند أبي عبد الله وأصحابه ملك الزاد والراحلة فمناط الوجوب وجود المال فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه ومن لم يجد المال لم يجب عليه الحج وإن كان قادرا ببدنه قال في رواية صالح إذا وجد الرجل الزاد والراحلة وجب الحج

وسئل أيضا في رواية أبي داود على من يجب الحج فقال إذا وجد زادا وراحلة وقال في رواية حنبل وليس على الرجل الحج إلا أن يجد الزاد والراحلة

فإن حج راجلا تجزيه من حجة الإسلام ويكون قد تطوع بنفسه وذلك لما روى إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال يا رسول الله فما الحاج قال الشعث التفل وقام آخر فقال يا رسول الله ما الحج قال العج والثج قال وكيع يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وإبراهيم بن يزيد قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه

وعن ابن جريج قال وأخبرنيه أن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله قال الزاد والراحلة يعني قوله { من استطاع إليه سبيلا } رواه ابن ماجة

وعن أنس قال سئل النبي ما السبيل إليه قال الزاد والراحلة رواه ابن مردويه والدارقطني من طرق متعددة لا بأس ببعضها وروى هذا المعنى من حديث ابن مسعود وعائشة وجابر وغيرهم

وعن الحسن قال لما نزلت { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } قال قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة رواه أحمد وأبو داود في مراسيلة وغيرهما وهو صحيح عن الحسن وقد أفتى به وهذا يدل على ثوبته عنده واحتج به أحمد

وعن ابن عباس قال من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء رواه أحمد وأيضا قوله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب وجود الزاد والراحلة مع علم النبي بأن كثيرا من الناس يقدرون على المشي

وأيضا فإن قول الله سبحانه في الحج { من استطاع إليه سبيلا } إما أ يعني به القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرا زائدا على ذلك فإن كإن المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك وليس هو إلا المال وأيضا فإن الحج عبادة تفتقر إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد

ودليل الأصل قوله تعالى { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج } إلى قوله تعالى { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } الآية

وأيضا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة الفصل الثاني

إنه لا يجب عليه فيما ذكره أصحابنا حتى يملك الزاد والراحلة أو ثمنهما فأما إن كان قادرا على تحصيله بصنعة أو قبول هبة أو وصية أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت المال لم يجب عليه ذلك سواء قدر على ذلك في مصره أو في طريق مكة لما تقدم من قوله يوجب الحج الزاد والراحلة يعني وجودهما وقوله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فعلق الوعيد بملك الزاد والراحلة

ولأن الزاد والراحلة شرط الوجوب وما كان شرطا للوجوب لم يحب على الكلف تحصيله لأن الوجوب منتف عند عدمه

ولأن كل عبادة اعتبر فيها المال فإن المعتبر ملكه لا القدرة على ملكه أصله العتق والهدي في الكفارات وثمن الماء والسترة في الصلاة

فصل

وينبني على ذلك أنه إذا بذل له ابنه أو غيره مالا يحج به أو بذل له ابنه أو غيره طاعته في الحج عنه وكان المبذول له معضوبا أو غير معضوب لم يلزمه عند أكثر أصحابنا مثل ابن حامد والقاضي وأصحابه وهو مقتضى كلام أحمد فإنه علق الوجوب بوجود الزاد والراحلة

وقال القاضي أبو يعلى الصغير ابن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى قياس المذهب أن الاستطاعة تثبت ببذل الابن الطاعة أو المال ولا تثبت ببذل غيره المال وهل تثبت ببذل غيره الطاعة خرجها على وجهين لأن من أصلنا أن الاستطاعة على ضربين تارة بنفسه وتارة بنائبه والمال الذي يأخذه النائب ليس أجرة عندنا في أشهر الروايتين وإنما هو نفقة فيكون قد بذل عمله للمستنيب وقد قال أحمد في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل مبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخيه قال النبي للذي سأله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة افأحج عنه قال نعم

والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إنما الحج عمن له زاد وراحلة ولا يسرف ولا يقتر ولا يمشي إذا كان ورثته صغارا وقال في رواية أبي طالب إذا كان شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه فقد بين أن النائب متبرع بعمله عن الميت مع أن الحج واجب على الميت

وأيضا من أصلنا أن مال الابن مباح لأبن مباح للأب يأخذ منه ما شاء مع عدم الحاجة فإذا بذل له الابن فقد يؤكد الأخذ

وقول أحمد إذا وجد الزاد والراحلة يجوز أن يراد بالموجود المملوك والمباح لقوله تعالى { فلم تجدوا ماء } ولعل كلامه فيمن يجب عليه الحج بنفسه

قال القاضي أبو يعلى وأصله هذا أن الاستطاعة تحصل بالمال المباح كما تحصل بالمال المملوك قال ولو بذل له الرقبة في الكفارة لم يجز له الصيام فعلى هذا لو وجد كنزا عاديا ونحوه وجب عليه أن يأخذ منه ما يحج به ولو عرض عليه السلطان حقه من بيت المال

ولو لم يبذل له الابن فهل يجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحج فإن الجواز لاشك فيه عندنا وذلك لما روى عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس أن أمرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيرة فقال النبي فحجي عنه رواه الجماعة إلا أبا داود والترمذي وهو

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وقف النبي بعرفة وذكر الحديث إلى أن قال ثم أتته إمرأة شابه من خثعم فقالت إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج فهل يجزى أن أحج عنه قال نعم فأدى عن أبيك قال ولوى عنق الفضل فقال له العباس يا رسول الله مالك لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فخفت الشيطان عليهما وفي لفظ فهل يجزى عنه أن أودى عنه قال نعم فأدى عن أبيك وفي لفظ إن أبي كبير وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ولا يستطيع أداءها فيجزى عنه أن أوديها قال نعم رواه في حديث طويل أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح لا نعرفه من حديث على إلا من هذا الوجه وقد روى بعض الحديث الطويل أبو داود وابن ماجه وقد تقدم أيضا حديث أبي رزين العقيلي لما قال للنبي صلى الله علي وسلم إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال حج عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وصححه الترمذي وقد احتج به أحمد وغيره على وجوب العمرة

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال جاء رجل من خثعم إلى رسول الله فقال إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزى عنه قال نعم قال فحج عنه رواه أحمد والنسائي

فقد أقر النبي هؤلاء السؤال على أن المعضوب عليه فريضة الله في الحج وأمرهم النبي بفعلها عنه وشبهها بالدين ولم يستفصل هل له مال يحج به أو ليس له مال وترك الإستفصال دليل على عموم الجواب لاسيما والأصل عدم المال بل أوجب الحج بمجرد بذل الولد أن يحج فدل ذلك على أن بذل الابن موجب وإنما أقرها النبي على الأخبار بفرض الحج على المعضوب لما رأى الولد قد بذل الحج

وأيضا فإن الإستطاعة تحصل بالمباح كما تحصل بالمملوك ويحصل به الوجوب كما يحصل بالمملوك بدليل أن الوضوء يجب بالماء المبذول والمباح والصلاة تجب في السترة المعارة فيجب أن يحصل الحج أيضا بالاستطاعة المبذولة من مال أو عمل نعم ما عليه فيه منه لا يبذل بذلا مطلقا لكن الغالب أنه لا بد أن يطلب منه باذله نوع عوض ولو بالثناء أو الدعاء ويحصل عليه به منة فلا يجب عليه قبوله كما لو بذلت السترة ملكا أو بذل له أجنبي مالا يحج به أو يكفر به

وبذل الابن ليس فيه منة ولا عوض بل هو من كسبه وعمله كما قال النبي إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقال أنت ومالك لأبيك وكذلك دعاء الابن بعد موته من جملة عمله كما قال النبي إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فكيف لا يجب عليه أن يحج مع بذل الابن له ذلك ولا مؤنة عليه فيه أصلا وطرد هذا أنه يجب على الأب أن يقبل من مال ابنه ما يؤدي به دينه بل ينبغي أن يكون هذا مسلما بلا خلاف لأن النبي شبهه بالدين فعلى هذا يشترط في الباذل

ووجه الأول أن الله سبحانه قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقد فسر النبي السبيل بأنه الزاد والراحلة وفي لفظ سئل ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة وفي لفظ من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا فعلم بذلك أن الحج لا يوجبه إلا ملك الزاد والراحلة فإن قيل قوله ما يوجب الحج يعني حج المرء بنفسه ولم يتعرض لحج غيره عنه ولم يفرق في الزاد والراحلة بين أن تكون مملوكة أو مباحة وإنما قال الزاد والراحلة أي وجود ذلك يعم ما وجد مباحا ومملوكا بدليل قوله في آية الوضوء { فلم تجدوا ماء }

وأيضا فإن الإستطاعة صفة المستطيع فلا بد أن يكون قادرا على الحج وهو لا يصير قادرا ببذل غيره لجواز أن يرجع الباذل وذلك أن شرط وجوب العبادة لا بد أن يستمر إلى حين انقضائها فإن أوجب على الباذل التزام ما بذل صار الوعد فرضا وإن لم يجب فكيف يجب فرع لم يجب أصله

وأيضا فإن في إيجاب قبول بذل الغير عليه ضررا عليه لأن ذلك قد يفضي إلى المنة عليه وطلب العوض منه وإن كا الباذل ولدا فإنه قد يقول الولد أنا لا يجب علي أن أحج عنك ولا أن أعطيك ما تحج به ومن فعل مع غيره من الإحسان مالا يجب عليه فإنه في مظنة أن يمن به عليه وأيضا

وأما حديث الخثعمية وأبي رزين ونحوهما فهو صريح بأن الوجوب كان قد ثبت واستقر قبل استفتاء النبي واستفتاؤه متقدم على بذل الولد الطاعة في الحج لأنهم لم يكونوا يعلمون أن الحج يجزىء عن العاجز حتى استفتوا النبي فكيف يبذلون الحج عن الغير وهم لا يعلمون جواز ذلك فإذا كانوا إنما بذلوا الحج عن الوالد بعد الفتوى والوجوب متقدم على الفتوى علم أن هذا البذل لم يكن هو الموجب للحج ولا شرط في وجوبه لأن الشرط لا يتأخر عن حكمه وصار هذا كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري وكذلك حديث بريدة في التي قالت للنبي إن أمي كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها رواه مسلم إلى غير ذلك وشبهه النبي بالدين ولم يكن البذل هو المقرر للوجوب

وأيضا فإن القوم إنما سألوه عن أجزاء الحج عن المعضوب وعنه وقع الجواب ولم يتعرض للوجوب بنفي ولا إثبات وباتفاق لا يجب على الباذل أن يحج

ونحن إنما استدللنا بحديث أبي رزين على وجوب العمرة لأنه استفتى النبي عن أداء ما وجب على أبيه لتبرأ ذمة الأب فأمره أن يحج عنه ويعتمر فعلم أن كلاهما كان واجبا على الأب وإلا لم يحتج أن يأمره به كما لم يأمره بتكرار الحج والطواف فعند هذا يكون قول السائل عليه فريضة الله في الحج إذا أدركته فريضة الله ونحو ذلك كان لملكه الزاد والراحلة وقد بلغ هؤلاء أن من ملك الزاد والراحلة فعليه فريضة الله في الحج ولم يعلموا حكم العاجز عن الركوب أيسقط عنه أم يتجشم المشاق وإن أضر به وهلك في الطريق أم يستخلف من يحج عنه ولهذا جزمت السائلة فقالت إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وقال الآخر أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرجل والحج مكتوب عليه ولن يقول هذا إلا من قد علم أنه مكتوب عليه وواجب فأمرهم النبي بالحج عن الآباء ولم يستفصلهم هل ملكوا مالا أم لا لوجهين أحدهما أنهم إنما سألوه عن جواز النيابة وأسقاطها فرض حجة الإسلام وهذا لا يختلف الحال فيه بين الواجد والمعدم فلم يكن للإستفصال وجه وكل معضوب إذا حج عنه غيره بإذنه أسقط عنه الفرض حتى لو ملك بعد هذا مالا لم يجب عليه حجة أخرى وشبهه النبي بالدين في جواز الأداء عن الغير فإن من عليه دين وهو قادر على وفائه من ماله أو عاجز عنه إذا أداه غيره عنه بإذنه جاز كذلك الحج والثاني أن يكون قد علم أن الحج وجب على الاباء بملك المال إما بعلمه بأن أماكن أولئك السوال قريبة وأن غالب العرب لا يعدم أحدهم بعيرا يركبه وزادا يبلغه أو لأنه رأي جزم السائلين بالوجوب مخصصين لهؤلاء من دون غيرهم من المسلمين فعلم أنهم إنما جزموا لوجود المال الذي تقدم بيانه أنه هو السبيل أو لغير ذلك من الأسباب

ويجوز أن يكون السوال عنوا بقوله أدركته فريضة الله في الحج وعليه فريضة الله في الحج والحج مكتوب عليه الوجوب العام وهو أن الحج أحد أركان الإسلام وقد أوجبه الله سبحانه على كل مسلم حر عاقل بالغ وهو مخاطب به سواء كان قادرا أو عاجزا ولهذا لو فعله أو فعل عنه أجزأه ذلك من حجة الإسلام وإنما سقط عن غير المستطيع السير للعذر لا لكونه ليس من أهل الوجوب بخلاف الصبي والعبد والمجنون فإنهم ليسوا من أهل الوجوب ولهذا يفرق في الجمعه والحج وغيرهما بين أهل الأعذار في كونهم من أهل وجوب هذه العبادة وإنما سقط عنهم السعي إليها للمشقة والعذر ولهذا إذا حضروا وجبت عليهم وانعقدت بهم وبين العبد والمسافر والمرأة ونحوهم في كونهم ليسوا من أهل الوجوب ولهذا إذا حضروا لم تجب عليهم ولا تنعقد بهم

وسبب الفرق بين القسمين أن الوجوب يعتمد كمال الفاعل الذي به يستعد لحمل الأمانة ويعتمد إمكان الفعل الذي به يمكن أداؤها فإذا لم يكن الإنسان من أهل الكمال لنقص عقله أو سنه أو حريته ونحو ذلك لم يخاطب بذلك الوجوب أصلا وليس عليه أن ينظر هل يفعل أو لا يفعل ولو فعل لم يحصل به المقصود وإذا كان كاملا تأهل للخطاب وكان عليه أن يعزم على الأداء إذا قدر وأن ينظر في نفسه هل هو قادر أو عاجز ولو تجشم وفعل لحصل المقصود فالمعضوب من هذا القسم

فقول السائل أدركته فريضة الله في الحج يجوز أن يعني به أنه حر عاقل بالغ من أهل الوجوب لكن هو عاجز عن الأداء فإن إستناب فهل يقوم فعل النائب مقام فعله بحيث يكون بمنزلة من فعل أم لا يصح ذلك فيبقى غير فاعل وهذه طريقة مشهورة في الكلام

فصل

ومن لم يجد الزاد أو الراحلة إذا إكتسب حتى حصل زادا وراحلة فقد أحسن بذلك وكذلك إن كان يعمل صنعته في الطريق أو يكرى نفسه بطعامه وعقبته ويستحب له الحج على هذا الوجه ويجزيء عنه وإن استقرض وكان له وفاء

وإن كان يسأل في المصر أو في الطريق فقال أصحابنا يكوه له الحج بالسؤال

والنصوص عن أحمد أن السؤال لغير ضرورة حرام

وإن لم يسأل لكن بذل له مال يحج به أو بذل له أن يركب ويطعم

وإن حج بغير مال ومن نيته أن لا يسأل ويتوكل على الله ويقبل ما يعطاه فإن وثق باليقين والصبر عن المسألة والاستشراف إلى الناس ولم يضيق على الناس وأما إن كان يزعم أنه يتوكل

وإن حج ماشيا وله زاد مملوك أو مباح أو مكتسب أو كما ذكرناه أولا فقد أحسن وهو أفضل من ترك الحج

فصل

وإنما تعتبر الراحلة في حق من بينه وبين مكة مسافة القصر عند أصحابنا فأما القريب والمكي ونحوهما ممن يقدر على المشي فيلزمه ذلك كما يلزمه المشي إلى الجمعه والعيد فإن كان زمنا لا يقدر على المشي لم يلزمه أن يحج حبوا

وإما الزاد فيعتبر في حق القريب والبعيد قاله ابن عقيل لأنه لا بد منه وقال القاضي لا يعتبر أن يجد الزاد وإنما يعتبر أن يحصل له ما يأكله ولو بكسبه فإن كان متى تشاغل بالحج انقطع كسبه وتعذر الزاد عليه لم يلزمه الحج

وإن قدر على السؤال الفصل الثالث

أنه يعتبر أن يجد الزاد والراحلة بالآلة التي تصلح لمثله من الغرائر وأوعية الماء وأن يكون الزاد مما يقتاته مثله في هذا الطريق طعاما وأدما وأن تكون آلات الراحلة مما تصلح لمثله فإن كان ممن لا يمكنه الركوب إلا في محمل ونحوه بحيث يخاف السقوط أعتبر وجود المحمل وإن كان يكفيه الرحل والقتب بحيث لا يخشى السقوط أجزاء وجود ذلك سواء كانت عادته السفر في المحامل أو على الأقتاب والزوامل والرحال وإن كان ممن يستحي من الركوب على الزوامل لكونه كان من الأشراف والأغنياء والأفضل أن يحج على الرجل والزاملة دون المحمل إذا أمكن لما روى عامر بن عبد الله بن أنس قال حج أنس على رحل ولم يكن شحيحا وحدث أن النبي حج على رحل وكانت زاملته رواه البخاري والزاملة هي البعير الذي يحمل متاع الرجل وطعامه وازدمله احتمله والزميل الرديف والمزاملة المعادلة على بعير

وعن الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس قال حج النبي على رحل رث وقطيفه تسوى أربعة دراهم أو لا تسوى ثم قال اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعه رواه ابن ماجه وفيهما كلام

وهل يكره الحج في المحمل على روايتين إحداهما لا يكره قال في رواية صالح والمحامل قد ركبها العلماء ورخص فيها

والثانية يكره قال في رواية عبد الله عطاء كان يكره المحامل للرجل ولا يرى بها للنساء بأسا وقال عطاء القباب على المحامل بدعة وظاهرة أنه أفتى بذلك

وإذا كان يحتاج إلى من يخدمه في ركوبه وطعامه وغير ذلك اعتبرت القدرة عليه بكراء أو شراء ويعتبر أن يجدهما في ملكه أو هما بكراء أو شراء إذا كان ذلك عوض مثلهما في غالب الأوقات في ذلك المكان وهو واجد له

وإن وجد ذلك بزيادة يسيرة على عوض المثل لزمه الشراء والكراء وإن كانت كثيرة تجحف بماله لم يلزمه بذلها وإن كانت لا تجحف بماله ففيه وجهان

وإن كان السعر غاليا في ذلك العام غلاء خارجا عن الأمر الغالب فقيل يعتبر ثمن مثله في ذلك الوقت

وسواء كان الثمن عينا أو دينا يمكنه اقتضاؤه بأن يكون على مؤسر باذل أو غائب يمكن إحضاره لم يلزمه ذلك ثم إن كان يجد الزاد في بعض المنازل أو في كل منزل لم يلزمه حمله من مصره بل عليه حملة من موضع وجوده إلى موضع وجوده وإن لم يجد فعليه حملة سواء كان من عادته أن يكون موجودا فيما بينه وبين مكة أولا

وأما الماء له ولدوابه وعلف الرواحل فمن عادته أن يكون موجودا في بعض المنال فعليه حملة من موضع وجوده على ما جرت به العادة الغالبة

فإن لم يكن في الطريق ماء ولا علف فقال القاضي وأبو الخطاب وأكثر أصحابنا ليس عليه حمله من بلده ولا من أقرب الأمصار إلى مكة لأن هذا يشق ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطرق

وقال ابن عقيل حكم علف البهائم حكم زاده في وجوب حمله إذا لم يكن موجودا في الطريق الفصل الرابع

أن يجد ذلك بعد ما يحتاج إليه من قضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام

فإذا كان عليه دين لله أو لآدمي وقد ملك الزاد والراحلة بعد وجوبه أو حين وجوبه لم يجب عليه الحج لأن وجوب قضاء دينه متقدم على وجوب الحج ولأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية

فإن كان قد ملك الزاد والراحلة ثم لزمه الدين بعد ذلك

وإن كان الدين مؤجلا أو متروكا

فإذا أراد أن يحج وعليه دين

فإذا كان الدين على أبيه أو غيره قدم الحج قال أحمد في رواية أبي طالب إذا كان معه مائتا درهم ولم يحج قط فإنه يقضي دينه ولا يحج فإن كان على أبيه فليحج الفريضة وإن كان قد حج الفريضة يقضي دين أبيه وإن كان الأب لم يحج دفع إلى أبيه حتى يحج قال أحمد في رواية أبي طالب ويجب على الرجل الحج إذ كان معه نفقة تبلغه إلى مكة ويرجع ويخلف نفقته لأهله ما يكفيهم حتى يرجع

وكذلك ذكر ابن أبي موسى السبيل في الطريق السالكه والزاد والراحلة المبلغان إلى مكة وإلى العود إلى منزله مع نفقة عياله لمدة سفره ولم يعتبر وجود ما ينفقه بعد الرجوع

وهذا محمول على من له قوة على الكسب لأن أحمد وابن أبي موسى صرحا بأنه لا يلزمه بيع المنازل التي يؤجرها لكفايته وكفاية عياله وإنما يبيع ما يفضل عن كفايته وكفاية عياله ولا بد أن يترك لعائلته الذين تجب عليه نفقتهم ما يكفيهم مدة ذهابه ورجوعه لأن وجوب النفقة آكد ولهذا يتعلق بالكسب بخلاف الحج ولأن النبي قال كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت رواه أبو داود

وإن كان فيهم من لا يلزمه بعينه نفقه لكن يخاف عليه الضياع كيتيم وأرملة ونحو ذلك

ولا بد أن يرجع إلى كفاية له ولعياله على الدوام إما ربح تجارة أو صناعة أو أجور عقار ودواب أو ريع وقف عليه بعينه لأن

فإن أمكنه أن يخذ من وقف الفقراء أو الفقهاء أو بيت لما ونحوه من مال المصالح

والمراد بالكفاية ما يحتاج إليه مثله من طعام وكسوة ونحو ذلك ومن مسكن فإنه لا بد له من السكنى فليس عليه أن يبيع مسكنه ثم يسكن بأجر أو في وقف

ولكن إن كان واسعا يمكنه الاعتياض عنه بما دونه من غير مشقة لزمه أن يحج بالتفاوت

وإن كان له كتب علم محتاج إليه لم يلزمه بيعها وإن لم يكن علمها فرضا عليه لأن حاجة العالم إلى علمه فإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغني عن إحداهما باع مالا يحتاج إليه

وإن اراد أن يشتري كتب علم أو ينفق في طلب العلم فقد قال عبد الله سألت أبي عن رجل ملك خمسمائة درهم وهو رجل جاهل أيحج بها أم يطلب العلم فقال يحج لأن الحج فريضة وليس الحديث عليه فريضة وينبغي أن يطلب العلم والفرق بينهما هذا لم يتعلم فالابتداء بفرض العين قبل فرض الكفاية أو النافلة متعين والأول قد تعلم العلم وهو مقيد بالكتاب ففي بيع كتبه إخلال بما قد علمه من علمه

وإذا كان له خادم يحتاج إلى خدمتها لم يلزمه بيعها قال في رواية الميموني إذا كان للرجل المسكن والخادم والشيء الذي لا يمكنه بيعه لأنه كفاية لأهله فلا يباع فإذا خرج عن كفايته ومؤنة عياله يباع

وإذا كان به حاجة إلى النكاح فقال أحمد في رواية أحمد بن سعيد إذا كان مع الرجل مال فإن تزوج به لم يبق معه فضل وإن حج خشي على نفسه فإنه إذا لم يكن له صبر عن التزويج تزوج وترك الحج وكذلك نقل أبو داود وغيره وعلى هذا عامة أصحابنا أنه إن خشي العنت قدم النكاح لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه فهو كالنفقة

وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه يبدأ بالحج وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد في رجل عنده أربعمائة درهم ويخاف على نفسه العنت ولم يحج وأبواه يأمرانه بالتزويج قال يحج ولا يطيعهما في ذلك هكذا ذكرها أبو بكر في زاد المسافر ثم فصل كما تقدم عن أحمد ووجه ذلك أنه متعين عليه بوجود السبيل إليه

والعنت المخوف مشكوك فيه وهو نادر والغالب على الطباع خلاف ذلك فلا يفرط فيما تيقن وجوبه بما يشك فيه وأما إن لم يخش العنت قدم الحج

وإن قلنا إن النكاح واجب فإن كانت له سرية لم يجب عليه بيعها واستبدال ما هو دونها ولا يجب عليه أن يطلق إمرأته ليستفضل نفقتها

فصل

ولا يجب عليه المسير حتى يقدر على المسير بأن يكون يتسع الوقت للسير والأداء فلو وجد ذلك قبل النحر بأيام وبينه وبين مكة شهر ونحو ذلك لم يجب عليه المسير للحج في تلك السنة وليس عليه أن يسير إلا السير المعتاد وما يقاربه وليس عليه أن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز معه عن تحصيل آلة السفر لما في ذلك من المشقة التي لا يجب معها مثل هذه العبادات من الجمعة والجماعة ونحو ذلك

وأن يكون الطريق خاليا من العوائق المانعة فإن كان فيه من يصده عن الحج من قطاع الطريق كالأعراب والأكراد الذين يقطعون الطريق على القوافل أو كفار أو بغاة لم يجب عليه السعي إلى الحج فإن أمكن قتالهم

وإن أمكن بذل خفارة لهم فقال القاضي وأصحابه لا يجب بذلها وإن كانت يسيره لوجهين

أحدهما أنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكثيرة

الثاني أنهم لا يؤمنون مع أخذها فإن من استحل أكل المال بالباطل من وفد الله لم يؤمن على استحلال قتلهم أو نهبهم أو سرقتهم

والثاني يجب بذل الخفارة اليسيرة قاله ابن حامد لأنها نفقة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمتنع الوجوب مع إمكان بذلها كالأثمان والأكرية وقد بذل صهيب للكفار جميع ماله الذي بمكة حتى خلوه يهاجر فأنزل الله تعالى فيه { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله }

وفي معنى ذلك لو إحتاج أن يرشو الولاة لتخليته أو لحراسة طريقة

ولو احتاج أن يبذل مالا لمن يخرج معه ليحرسه فهذا ليس برشوة وإنما هو جعاله أو إجارة لأنه لا يجب عليهم الخروج معه وحفظة وقياس المذهب أن هذا واجب كما يجب على المرأة نفقة محرمها لأنه الحافظ لها وكما يجب عليه أجرة من يحفظ رحله من السراق

وسواء كانت الطريق قريبة أو بعيدة يبقى فيها سنين

وسواء كانت الطريق برا أو بحرا إذا كان الغالب عليه السلامة وإن كان الغالب على البحر الهلاك لم يجب السعي إلى الحج وإن كان يسلم قوم ويتلف قم فقال القاضي يلزمه وقال أبو محمد إن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه سلوكه

فصل

ولا يجب عليه أن يحج بنفسه حتى يقدر على الركوب فمتى قدر على الركوب على حالة من الأحوال لزمه الحج بنفسه فإن عجز عنه لمرض أو كبر لم يلزمه

والمعتبر في ذلك أن يخشى من ركوبه سقوطه أو مرض أو زيادة مرض أو تباطىء برء ونحو ذلك فأما إن كان توهما وجبنا أو مرة يعتريه أحيانا ويقدر أن يستطب

ثم إن كان ميؤسا من برئة فإنه يحج عن نفسه قال أحمد في رواية أبي طالب يحج الرجل عن الرجل وهو حي وعن المرأة وإذا كان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه وإذا كانت إمرأة ثقيله لا يقدر مثلها يركب والمريض الذي قد أويس منه أن يبرأ فيحج عنهم وليهم وهذا الذي أمر فيه النبي الخثعمية قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير وقد أدركته فريضة الله في الإسلام وهو لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك

فإذا كان الرجل والمرأة لا يقدران على الحج وقد وجب عليهما الحج حج عنهما وليهما وإحجاجه عن نفسه واجب عند أصحابنا على ما ذكره أبو عبد الله سواء بلغ وهو معضوب أو عضب بعد ذلك قبل وجود المال أو بعد وجود المال وظاهر كلام أبي بكر وابن أبي موسى أنه لا يجب لأن ابن أبي موسى ذكر أن شروط الوجوب الحرية والبلوغ والإسلام والعقل والصحة والزاد والراحلة والمحرم للمرأة وخلو الطريق وذكر أبو بكر أن الحج يجب على الرجل بثلاثة أوصاف بالزاد والراحلة والصحة وعلى المرأة بأربعة أوصاف الزاد والراحلة والصحة والمحرم

لما تقدم من أن الخثعمية وغيرها أخبرت أن أباها قد فرض عليه الحج وأقرها النبي على ذلك وأمرها أن تحج عنه وشبه ذلك بالدين المقضي ولولا أن الحج قد وجب على هذا المعضوب لما صحح ذلك

فإن قيل المراد أنه من أهل وجوب الحج

وأيضا فإن النبي سئل ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة ولم يفرق بين القادر بنفسه والعاجز

وأيضا فإن فرائص الله إذا قدر أن يفعلها بأصل أو بدل وجب عليه ذلك كما يجب بدل الصوم وهو الإطعام وبدل الكفارات وبدل الوضوء والغسل وأيضا فإنه من أهل وجوب الحج وهذه الحجة تجزيء عنه ويسقط بها عنه فرض الإسلام بنص النبي وقد أمكنته الإستنابة من غير ضرر في دينه ولا دنياه لأن النائب إن كان أجيرا فلا ضرر منه عليه فيه لأن عمله يقع مستحقا للمستأجر كاستيجار على البناء والخياطة والكتابة وإن كان نائبا محضا فإن النفقة إنما تجب في مال المستنيب فلا منة عليه في ذلك يبقى عمل النائب فقط وذلك لامنة فيه لأن له عوضا صحيحا في شهود المشاعر وعمل المناسك وحضور الموسم وله بذلك عمل صالح غير إبراء ذمة المنيب من حج الفرض وإنما بلغ ذلك بمال المستنيب فيصيران متعاونين على إقامة الحج هذا بماله وهذا ببدنه فليس لأحدهما منة على الاخر بخلاف مالو حج عنه بمال نفسه

لا سيما إن كان الحاج وليه فإنه مأمور من جهة الشرع بأن يحج عنه صلة لرحمه وقضاء لحقه كما هو مأمور بالعقل عنه وولايته في النكاح وغيره ولا منة عليه بذلك وإذا حج عن نفسه أجزأ عنه وإن عوفي

قال في رواية اسحق بن منصور وأبي طالب إذا لم يقدر على الحج فحجوا عنه ثم صح بعد ذلك وقدر فقد قضى عنه الحج ولا قضاء عليه وعلى هذا عامة أصحابنا

فإن وجد الزاد والراحلة ولم يجد من يحج عنه فهو كما لو عاقة عائق أو ضاق الوقت هل يثبت الوجوب في ذمته على روايتين

فصل

وإن كان العاجز عن الحج يرجو القدرة عليه كالمريض والمحبوس ومن قطع عليه الطريق أو منعه سلطان ونحو ذلك لم تجز له الاستنابة في فرض الحج عن أصحابنا كما ذكره أحمد لأن النبي إنما أذن في النيابة للشيخ الكبير الذي لا يستمسك على الراحلة فألحق به من في معناه والذي يرجى أن يقدر على الحج ليس في معناه لوجوه

أحدها أن ذاك عاجز في الحال والمآل وهذا إنما هو عاجز في الحال فقط والبدل إنما يجب عند تعذر الأصل بكل حال

الثاني إنه لو عجز عن صوم رمضان بكل حال انتقل إلى البدل وهو الفدية وإن عجز في الحال فقط لم يجز له الانتقال إلى البدل ولزمه الصوم إذا قدر فالحج مثله

الثالث أنه لو جاز ذلك لجاز أن يحج عن الفقير فتسقط حجة الإسلام من ذمته لأنه عاجز في الحال وهو من أهل الخطاب بالوجوب

الرابع أن وجوب الحج لا يختص ببعض الأزمنة دون بعض فإذا لم يغلب على الظن دوام العائق جاز أن يخاطب فيما بعد وجاز أن لا يخاطب فلا يجوز الأقدام على فعل

فصل

إمكان المسير والأداء بسعة الوقت وخلو الطريق والصحة هل هو شرط للوجوب أو للزوم الأداء فقط على روايتين

فأما العائق الخاص مثل الحبس والمرض الذي يرجى برؤه ومنع السلطان فينبغي أن يكون مثل ضيق الوقت وعاقة الطريق ولهذا قلنا إذا عرض مثل ذلك في رمضان لم يجب عليه بعد الموت فدية فإذا قلنا هو شرط للوجوب فمات قبل التمكن أو أنفق ماله أوهلك لم يكن في ذمته شيء وإن قلنا إنما هو شرط في لزوم السعي فإن الحج يثبت في ذمته فإذا أنفق المال فيما بعد بقي الحج في ذمته

وإذا مات قبل التمكن أخرج عنه من تركته لكن لا إثم عليه بالموت وعليه الاثم بانفاق المال مع امكان ابقائه للحج وإذا استقر الحج في ذمته فعليه فعله بكل طريق يمكنه من اكتساب مال أو مشى

فإن قلنا هما شرط في الوجوب وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى فلأن الله تعالى قال { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } بل هو أعجز من أن يقدر على المشي واكتساب المال وأعجز من المعضوب لأنه لا يقدر أن يحج لا بنفسه ولا بنائبه بوجه من الوجوه فكيف يبقى الحج في ذمته ونحن وإن قلنا إن العبادة تجب في الذمة قبل التمكن فإنما ذاك فيما أطلق وجوبه كالصلاة والصيام والزكاة

فأما الحج فقد خص وجوبه بمن استطاع إليه سبيلا فامتنع إيجابه على غير المستطيع بوجه من الوجوه يبين ذلك أن السبيل في الأصل هو الطريق والسبب وكل ما يوصل إلي الشيء فهو طريق إليه وسبب فيه فالتقدير من استطاع التسبب والتوصل إليه أو من استطاع فعل سبيل أو سلوك سبيل ويختص الوجوب بمن كان السبيل مستطاعا له أو مقدورا

وأيضا فإن فريضة الحج قد قيل إنها نزلت ست ولم يحج النبي ولا أحد من أصحابه لأن المشركين كانوا يصدونهم عن البيت ويقيمون الموسم في غير وقته فلم يتمكنوا من فعله قبل الفتح وطرد المشركين مع قدرة أكثرهم على الزاد والراحلة فلو كان الوجوب ثابتا في الذمه لوجب أن يحج عمن مات في تلك السنين منهم ولبين النبي وجوب ذلك في تركاتهم أو سأله أحد منهم كما سألوه عمن أدركته فريضة الحج وهو معضوب

وإن كانت فريضة الحج قد تأخرت إلى سنة تسع أو عشر فإنما سبب تأخيرها صد المشركين عن البيت واستيلاؤهم عليه وعدم تمكن المسلمين من إقامته فامتنع أصل إيجاب الحج في حق الكافة فهو بالمنع في حق الخاصة أولى

وأيضا فإنه لو صد عن البيت بعد الإحرام لم يلزمه إتمام الحج ولا يجب القضاء في ذمته في ظاهر المذهب مع أن إتمامه بعد الشروع أوكد من إبتداء الشروع فيه عد وجوبه فإذا لم يجب القضاء في ذمة المصدود عنه بعد الإحرام فأن لا يجب الأداء في ذمة المصدود قبل الإحرام أولى

وإن قلنا ليسا بشرط في الوجوب وهو قول

فلأن النبي سئل ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة وفسر الإستطاعة بذلك كما ذكر في غير هذا الموضع فلا تجوز الزيادة على ذلك بل يعلم أن وجود ذلك موجب للحج وذلك لأن الوجوب في الذمة إنما يعتمد القدرة على الفعل في الحال أو في المال بنفسه أو بنائبه كوجوب الدين في الذمة وهذا يجب في ذمته الحج ليفعله فيما بعد بنفسه إن أمكن وإلا بنائبه كالمعضوب حتى لو فرض من لا يمكن الحج عنه في المستقبل مثل من يقدر عليه بعد آخر سنة يحج الناس فيها لم يجب في ذمته وهذا لأنه لا فرق بين هذا وبين المعضوب إلا أن المعضوب يمكنه الإحجاج عنه في الحال بخلاف المصدود

والتمكن من فعل العبادة إذا ليس بشرط لوجوبها في الذمة بدليل أن صوم رمضان يجب على الحائض والمريض لا سيما على أصلنا المشهور في الصلاة والزكاة والصوم فإن كل من أمكنه قضاء العبادة وجبت في ذمته إذا انعقد سبب وجوبها

والزاد والراحلة بمنزلة شهود الشهر في رمضان وبمنزلة حؤول الحول في الزكاة فمن ملك ذلك وأمكن فعل الحج أداء أو قضاء وجب عليه

مسألة ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح

في هذا الكلام فصلان

أحدهما الفصل الأول أن المرأة لا يجب عليها أن تسافر للحج ولا يجوز لها ذلك إلا مع زوج أو ذي محرم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله لا تسافر المرأة ثلاثا إلا معها ذو محرم متفق عليه وفي لفظ لمسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومن أو ليلتين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها متفق عليه وفي رواية للجماعة إلا البخاري والنسائي لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها وعن أبي هريرة أن رسول الله قال لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة إلا مع ذي محرم عليها متفق عليه وفي رواية لمسلم وغيره مسيرة يوم إلا مع ذي محرم وفي رواية له ولغيره لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة وإلا ومعها رجل ذو حرمة منها وفي رواية لأبي داود بريدا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله إن أمرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا كذا قال فانطلق فحج مع أمرأتك متفق عليه ولفظ البخاري لا تسافر إمرأة إلا مع محرم ولا يدخل علها رجل إلا ومعها محرم فقال رجل إني أريد جيش كذا وكذا وإمرأتي تريد الحج قال أخرج معها

فهذه نصوص من النبي في تحريم سفر المرأة بغير محرم ولم يخصص سفرا من سفر مع أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها فلا يجوز أن يغفله ويهمله ويستثنيه بالنية من غير لفظ بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك لما سأله ذلك الرجل عن سفر الحج وأقرهم على ذلك وأمره أن يسافر مع أمرأته ويترك الجهاد الذي قد تعين عليه بالاستنفار فيه ولولا وجوب ذلك لم يجز أن يخرج سفر الحج من هذا الكلام وهو أغلب أسفار النساء فإن المرأة لا تسافر في الجهاد ولا في التجارة غالبا وإنما تسافر في الحج ولهذا جعله النبي جهادهن

وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز لها السفر إلا على وجه يؤمن فيه البلاء ثم بعض الفقهاء ذكر كل منهم ما اعتقده حافظا لها وصاينا كنسوة ثقات ورجال مأمونين ومنعه أن تسافر بدون ذلك

فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحق وأوثق وحكمته ظاهرة فإن النساء لحم على وضم إلا ماذن عنه والمرأة معرضة في السفر للصعود والنزول والبروز محتاجة إلى من يعالجها ويمس بدنها تحتاج هي ومن معها من النساء إلى قيم يقوم عليهن وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى الناس فإن القلوب سريعة التقلب والشيطان بالمرصاد وقد قال النبي ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما قال أحمد في رواية الأثرم لا تحج المرأة إلا مع ذي محرم لأن رسول الله نهى أن تحج المرأة إلا مع ذي محرم

وليس يشبه أمر الحج الحقوق التي تجب عليها لأن الحقوق لازمة واجبة مثل الحدود وما أشبهها وأمر النساء صعب جدا لأن النساء بمنزلة الشيء الذي يذب عنه وكيف تستطيع المرأة أن تحج بغير محرم فكيف بالضيعة وما يخاف عليها من الحوادث

ولا يجوز لها أن تسافر بغير محرم إلا في الهجرة لأن الذي تهرب منه شر من الذي تخافه على نفسها وقد خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وغيرها من المهاجرات بغير محرم وفي حضور مجلس الحاكم لأنه ضرورة يخاف منه أن يضيع حق المدعى وفي التغريب لأنه حد قد وجب عليها

فإن كان بينها وبين مكة دون مسافة القصر والعجوز التي لا تشتهي وهل المحرم شرط للوجوب أو للزوم والأداء على روايتين

إحداهما هو شرط للوجوب وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى قال في رواية ابن منصور المحرم للمرأة من السبيل الفصل الثاني في المحرم

وقد قال الشيخ هو وزوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح

وتسمية الزوج محرما تمسك بقوله لا تسافر المرأة إلا مع محرم وفي أكثر الروايات ذو محرم ومعلوم أنها تسافر مع الزوج فيتناوله اسم محرم وربما لم يسم محرما على ما جاء في أكثر الروايات إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها

وسبب هذا أن المحرم إما صفة أو مصدر وهو مشتق إما من التحريم أو من الحرمة فأما الزوج فإنها مباحة له فإن كانت محرمة عليه لكونها معتدة من وطيء شبهة أو محرمة وهو محل أو هما محرمان قد وجب التفريق بينهما لكونهما في قضاء حج فاسد وفي معناه سيد الأمة فإن كانت حراما عليه

وأما من تحرم عليه بالنسب من ولدها وابائها وأخوتها وبني أخوتها وأعمامها وأخوالها فكلهم محارم لها سواء كان سبب النسب نكاحا صحيحا أو فاسدا أو وطء شبهة فإن أحكام الأنساب الثابته على هذه الوجوه سواء في الأحكام

فأما بنته من الزنا وأخته ونحو ذلك فلا نسب بينهما وإن حرمت عليه فليس بمحرم لها في المنصوص بخلاف أمه وكذلك ابنته التي لاعن عليها ليس هو محرما لها ولا ابنه ولا أبوه

وأما السبب فقسمان صهر ورضاع أما الصهر فأربع زوج أمها وابنتها وأبو زوجها وابنه

وأما الرضاع فإنه يحرم منه ما يحرم من النسب وهؤلاء كلهم محارم

وأما من يحرم نكاحها تحريما عارضا كالمطلقة ثلاثا وأخت إمرأته وسريته ونحو ذلك فليس هو محرما لهن لأنه لو كان محرما لهن لكان من تزوج أربعا قد صار محرما لجميع بنات ادم

وذلك لأنها إذا حرمت على التأبيد يئست النفس منها ولم يبق لها طمع في أن تنظر إليها نظر شهوة في الحال ولا في المآل بخلاف من تحرم في الحال فقط فإن اعتقاد حلها بطريق من الطرق تطمع النفس بالنظر إليها ويصير الشيطان ثالثهما في ذلك ولو كان مجرد التحريم كافيا في ذلك لكان محرما لسائر المحصنات بل لسائر النساء

وقال ابن أبي موسى ولو حجت المرأة بغير محرم أجزأتها الحجة عن حجة الفرض مع معصيتها وعظيم الأثم عليها

مسألة فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة وجملة ذلك أن من وجب عليه أن يحج بنفسه أو نائبه في حياته ففرط في ذلك حتى مات وله تركة وجب أن تخرج من ماله حجة وعمرة إذا قلنا بوجوبها وهو المشهور في المذهب

وكذلك من وجب عليه ولم يفرط وهو من كان به مرض يرجى برؤه أو كان محبوسا أو ممنوعا أو كان بطريقة عاقة أو ضاق الوقت عن حجة وعمرته أو لم يكن للمرأة محرم إذا قلنا بوجوب الحج في ذمتهم ويكون هذا الحج دينا عليه يخرج من رأس ماله مقدما على الوصايا والمواريث هذا مذهب أحمد نص عليه في موضع وأصحابه كما قلنا مثل ذلك في الزكاة والصيام لأن الحج دين من الديون بدليل ماروى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال جاء رجل من خثعم إلى النبي فقال إن أبي أدركه الاسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزيء عنه قال نعم قال فاحجج عنه رواه أحمد والنسائي وعن سليمان بن يسار عن الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله فجاءه رجل فقال يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها فقال رسول الله أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاحجج عن أمك رواه النسائي وقال لم يسمع سليمان بن يسار من الفضل ورواه أحمد عن سليمان عن عبيد الله عن الفضل بن عباس أن رجلا سأل رسول الله فقال يا رسول الله إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته أفأحج عنه قال أرأيت لو كان عليه دين فقضيته عنه أكان يجزيه قال نعم قال فأحجج عن أبيك وهذا أشبه بالصواب لأن الذي في حديث الفضل إنما سألت عن أمها وبدليل ما سيأتي من الأحاديث وإذا كان بمنزلة الدين دخل في عموم قوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } فإن الله سبحانه عم بقوله { أو دين } فإنها نكرة في سياق معنى النفي لأن قوله { من بعد وصية يوصي بها أو دين } في معنى قوله إنما الميراث بعد وصية أو دين ولم يخصص دين الآدمي من دين الله سبحانه ولهذا لو كان قد نذر الصدقة بمال ومات قبل أن يتصدق أخرج عنه من صلب المال

وأيضا عن بريدة بن الحصيب قال بينما أنا جالس عند رسول الله إذ أتته إمرأة فقالت اني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميرث قالت يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته إقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري

وعن ابن عباس قال أمرت أمرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل رسول الله أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزيء أمها أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزيء عنها فلتحج عن أمها وعنه أيضا أن أمرأة سألت النبي عن أبيها مات ولم يحج قال حجي عن أبيك وعنه قال قال رجل يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق رواهن النسائي

فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه

أحدها أن النبي أمر بفعل حجة الإسلام والحجة المنذورة عن الميت وبين أنها تجزيء عنه وهذا يدل على بقائها في ذمته وأنها لم تسقط بالموت وأنها تؤدي عنه بعد الموت

وكل ما يبقى من الحقوق بعد الموت ويؤدي بعد الموت فإنه يجب فعله بعد الموت إذا كان له ما يفعل منه وذلك لأن من يقول لا يجب فعله بعد الموت يزعم أن حجة الإسلام قد سقطت بالموت وأن الذي يفعل عنه حج تطوع له أجره وثوابه لأن الواجب زعم لا يفعل إلا بإذنه حتى لو أوصى بذلك فإن الذي يوصى به ليس هو حجة الإسلام عنده والنبي بين أن نفس الواجب هو الذي يقضي عنه

والثاني أن النبي بين أن الحج دين في ذمته وكل من عليه دين فإنه يجب أنه يقضي عنه من تركته بنص القرآن

الثالث قوله اقضوا الله فالله أحق بالوفاء وقوله في حديث اخر عن الصوم فحق الله أحق إما أن يكون معناه أن قضاء دين الله أوجب من قضاء دين الآدمي كما فسره بذلك القاضي وغيره من أصحابنا لأن وجوبه أوكد وأثبت ويرجح هذا المعنى أن وجوب الحج والزكاة آكد من وجوب قضاء دين الآدمي لأنهما من مباني الإسلام مع ظاهر قوله فالله أحق بالوفاء فعلى هذا إذا وجب قضاء دين الآدمي من تركته فأن يجب قضاء دين الله أولى وأحرى

وإما أن يكون معناه إذا كان قضاء دين الآدمي يجزيء عنه بعد الموت فدين الله أحق أن يجزىء لأن الله تعالى كريم جواد ومن يكون أحرى بقبول القضاء فحقه أولى أن يقضي لأنه أجدر أن يحصل بقضائه براءة الذمة ويرجح هذا المعنى أن القوم إنما سألوه عن جواز القضاء عن الميت لا عن وجوبه عليهم فعلى هذا إذا وجب فعل الدين عنه لبقائه وكونه يجزيء عنه بعد الموت وجب قضاء الحج ونحوه عنه لبقائه وكونه يجزيء بعد الموت لأن معناهما واحد

الرابع أن هذه الأحاديث تقتضي جواز فعل الحج المفروض عن الميت سواء وصى بذلك أولم يوص وسواء كان له تركة أو لم يكن لأن النبي لم يسألهم عن تركة خلفوها وتقتضي أن ذلك يجزيء عنه ويؤدي عنه ما وجب عليه وهذه الأحكام بعينها أحكام ديون الآدميين

الخامس أن النبي أمر الولي أن يحج عنه والأمر يقتضي الوجوب لا سيما وقد شبهه بالدين الذي يجب قضاؤه من تركته ولما كان الدين يجب قضاؤه إن كانت له تركة ويستحب قضاؤه إذا لم يكن له تركة فكذلك الحج وأيضا فقد تقدم إجماع الصحابة أنه إذا مات وعليه صيام من رمضان أطعم عنه كما يطعم عن نفسه إذا كان شيخا كبيرا فإذا وجب الإطعام في تركته فكذلك يجب الحج من تركته ولا فرق وأيضا فإن الحج حق مستقر في حياته تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كديون الآدمي ولأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كديون الآدميين

فإن قيل إذا مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد بدليل قوله { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } إلى قوله { وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين } وقوله { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } ولأنه إذا مات قبل أن يحج مات عاصيا على كبيرة من الكبائر بل تخوف عليه أن يموت على غير الإسلام كما يذكر إن شاء الله في مسألة الفور فلو كان الحج يجب أن يفعل عنه بعد موته ويجزؤه كما يجزؤه لو فعله في حياته لكان يجوز للرجل أن يؤخره الحج إلى ما بعد الموت كما له أن يؤخر إلى آخر حياته عند من يجوز تأخيره والذي يبين ذلك أن الحج وغيره من العبادة ابتلاء للعبد وامتحان له وأمر له بأن يعبد الله وهذا القدر لا يحصل إلا بأن يقصد العبادة ويفعلها بنفسه أو يأمر من يفعلها وبالموت قد تعذر ذلك ولهذا لو حج عنه في حياته غيره بغير إذنه لم يجز عنه وهذا بخلاف دين العبد فإنه لا يفتقر إلى النية ويصح بدون إذنه لو أداه عنه غيره بغير إذنه جاز ولو اقتضاه الغريم من ماله بدون إذنه برئت ذمته

وإذا كان كذلك فيجب أن تحمل الأحاديث على قوم لم يحجوا ولم يجب عليهم الحج لكونهم لم يملكوا زادا وراحلة أو على أنه وإن وجب عليهم لكن لهم ثواب وأجر ما يفعل عنهم لا أن الواجب نفسه يسقط وإذا لم يسقط الواجب لم يجب على الورثة شيء

قلنا لا ريب أنه يموت عاصيا معرضا للوعيد لكن هذا لا يوجب سقوطه عنه وعدم صحته ووجوبه بعد موته كمن أخر الصلاة عامد حتى خرج وقتها أو أفطر في رمضان عمدا فإن ذلك من الكبائر وإن وجب عليه القضاء وأجزأ عنه وكذلك من مطل الغرماء بديونهم مع اليسار حتى مات فإنه يأثم بهذا المطل والتأخير ويؤدي عنه بعد موته ويجزؤه بل عندنا لو أخره لغير عذر ثم فعله في آخر عمره أجزأ عنه وأثم بالتأخير إلا أن يتوب ويستغفر وهذا لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليه أن يحج وأن يكون الحج بنفسه كما أوجب عليه أن يصلي ويصوم وأن يفعل الصلاة والصوم في وقتهما فمتى تعذر عليه فعله بنفسه وهو أحد الواجبين لم يسقط الواجب الآخر وهو مطلق الحج الذي يمكن أن يفعل عنه وإذا تعذر فعل العبادة في وقتها لم يسقط نفس الفعل بل يفعل بعد الوقت فهذا الذي أخر الحج حتى مات إن لم يفعل عنه لحقه وعيد ترك الحج بالكلية وإن فعل عنه أجزأ عنه نفس الحج وبقي إثم تأخيره وتفريطه فيه وترك فعله كما يبقى على من يقضي الدين إثم المطل وأشد وسؤاله الرجعة وكونه يخاف عليه الموت على غير الإسلام حق لأن ذلك لأجل تركه الحج بنفسه وتفريطه فيه كما أن من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله وإن قضاها وكما يلحق الوعيد الذين هم عن صلاتهم ساهون وإن صلوها بعد الوقت وهنا قد قضوها بأنفسهم فكيف بمن يقضي عنه غيره بغير إذنه

ولأن هذا النكال وهذا الخطر والعذاب الشديد يكون حين الموت قبل أن يحج عنه فإذا حج عنه خفف عنه ذلك بدليل

ولأنه ليس كل من مات يحج عنه إما لأنه قد لا يخلف مالا أو لأنه قد يتهاون الورثة في الإخراج عنه فمن كان في علم الله أنه يحج عنه يكون أمره أخف

وأما كون الفرائض لا يصح فعلها إلا بنية المكلف وأمره لأن امتثال الأمر بدون ذلك محال فذلك فيما وجب أن يفعله بنفسه ولهذا لو حج عنه غيره حجة الإسلام في حياته بدون أمره لم يصح فإذا مات صار المخاطب بالوجوب غيره وهم الورثة ثم إن الله تعالى بكرمه وجوده أقام فعلهم عنه مقام فعله بنفسه وإن كان لم يفرط في التأخير لكونه معذورا وإن كان فرط قام مقامه في نفس الفعل وبقي إثم الترك عليه هو إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا لأن ما وجب أن يفعله بنفسه يستحيل أن ينويه غيره فأما إذا كان الوجوب على غيره مثل أداء الزكاة من مال اليتيم فإن المخاطب بها هو الولي

يبقى الحج عن المعضوب هل يجزيء عنه بدون إذنه قال أصحابنا لا يجزيء عنه بدون إذنه ويتوجه

وأيضا فإن ذلك ما دام إذنه ممكنا فعند تعذر إذنه يجوز أن يجعل الله فعل غيره قائما مقام فعله في الواجبات وامتثال الأوامر كما قد يقوم فعل غيره مقام فعله في المندوبات وحصول الثواب كما تقدم في مسألة إهداء الثواب للموتى وتقدم تقرير هذه القاعدة وأن من زعم أن العمل لا ينفع غير عامله في جميع المواضع فقد خرج عن دين الإسلام

فصل

يجب الحج عن الميت والعاجز من حيث وجب عليه قال القاضي يلزمهم أن يحجوا عنه من دويرة أهله وهو الموضع الذي ملك فيه الزاد والراحلة سواء كان هو وطنه أو لم يكن وسواء مات فيه أو في غيره ثم إن مات في بلد الوجوب حج عنه من ذلك البلد وإن مات في بلد أبعد عن مكة منه أو هو في جهة غير جهة بلد الوجوب حج عنه من بلد الوجوب ولم يجب أن يحج عنه من بلد الموت وإن مات ببلد أقرب إلى مكة من بلد الوجوب وجب أن يحج عنه من بلد الوجوب أيضا إلا أن يكون قد مات قاصدا الحج

قال في رواية الأثرم يحج عنه من حيث وجب عليه من حيث أيسر قيل له فرجل من أهل بغداد خرج إلى خراسان فأيسر ثم تحج عنه من حيث أيسر فذكر له أن رجلا قال يحج عنه من الميقات فأنكره

قيل له فرجل من أهل خراسان أو من أهل بغداد خرج إلى البصرة ومات بها قال يحج عنه من حيث وجب عليه

وقال في رواية أبي داود رجل من أهل الري وجب عليه الحج ببغداد ومات بنيسابور نحج عنه من بغداد وذلك لأن النبي جعل الحج الذي عليه دينا وأمر الوارث أن يفعله عنه كما يفعل الدين وقد كان عليه أن يحج من دويره أهله فكذلك من يحج عنه

ولأن الحجة التي ينشئها من دويرة أهل أفضل وأتم من التي ينشئها من دون ذلك بدليل قوله سبحانه { وأتموا الحج والعمرة لله } قال علي رضي الله عنه إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك يعني أن تنشيء لها سفرا من دويرة أهلك فإذا مات فقد استقرت في ذمته على صفة تامة فلا يجزيء أن يفعلها بدون تلك الصفة ولأنها مسافة وجب قطعها في حال الحياة فوجب قطعها بعد الموت كالمسافة من الميقات وهذا لأنه لو كان مجرد الحج كافيا لأجزأ الحج عنه من مكة لأنها حجة تامة

ولأن قطع المسافة في الحج أمر مقصود لأن النبي جعل ذلك جهاد فقال الحج جهاد كل ضعيف وقال للنساء عليكن جهاد لاقتال فيه الحج والعمرة ولهذا كان ركن الوجوب الزاد والراحلة هو المال فيجب الحج بوجوده وينتفي الوجوب بعدمه

ومعلوم أن المال لا يحتاج إليه في أفعال الحج فإن أكثر المواقيت بينها وبين مكة دون مسافة القصر وذلك القدر لا يعتبر له راحلة ولا ملك زاد أيضا ولهذا ذكر النبي الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك ولم يذكر مثل هذا في المصلي ونحوه لأنه ليس المال من خصائصه

فلو جاز أن يحج عنه من دون الميقات لسقط ما يعتبر له المال من قطع المسافة

وأيضا فإن النائب يجب أن يحج من حيث وجب على المنوب عنه كالمعضوب فإنه لا بد أن يحج عنه من دويرة أهله والميت مثله لأنهما في المعنى سواء

فإن قيل فهذا الميت والمعضوب لو قطع هذه المسافة لغير الحج ثم أراد إن شاء الحج لم يجب عليه أن يرجع إلى دويرة أهله

قلنا وكذلك لو جاوز الميقات غير مريد لمكة ثم عرض له قصدها جاز أن يحرم من موضعه وإن لم يجز له ابتداء أن يجاوز إلا محرما

ولأن من حج بنفسه يسقط عنه الفرض بنفس أداء المناسك على أي صفة كان بخلاف من حج من غيره

فصل

ومتى ملك الزاد والراحلة وجب عليه أن يحج على الفور فإن أخره بعد ذلك عصى بذلك هذا هو المشهور في المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا مثل أبي بكر وابن حامد وغيرهم وقد نص أحمد في رواية عبد الله وابن إبراهيم فيمن استطاع الحج وكان مؤسرا ولم يحبسه علة ولا سبب لم تجز شهادته

وقال إنه لا تقبل شهادة من كان مؤسرا قد وجب عليه الحج ولم يحج إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه

ولم يفرق بين أن يكون عازما على فعله أو غير عازم ولم يأمر الحاكم بالإستفصال

وقال ابن أبي موسى اختلف أصحابنا في الحج هل هو على الفور أو على التراخي على وجهين أصحهما أنه على الفور على من وجد السبيل إليه وهو بين في كلام أحمد رضي الله عنه

ولأن أحمد أوجب أن نخرج عن الميت من حيث يجب عليه وإن مات أبعد منه أو أقرب ولو كان الوجوب في غير وطنه

وذكر القاضي أبو الحسين في المسألة روايتين إحداهما أنه على التراخي ذكرها ابن حامد وكذلك ذكر ابن أخيه لآنه قال وإذا وجد الزاد والراحلة وجب الحج عليه

وقال ولا تقبل شهادة من كان مؤسرا قد وجب الحج عليه ولم يحج إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه وهو قياس على سائر العبادات المؤقتة

وذكر القاضي أبو يعلى الصغير في المسألة روايتين إحداهما أن وجوبه على التراخي واختار ذلك لأن فريضة الحج نزلت على رسول الله في سنة خمس أو ست لأن ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبة وقد وفد على النبي سنة خمس ولأن الله تعالى قال { وأتموا الحج والعمرة لله } فأمر بإتمامهما وذلك يقتضي وجوب فعلهما تامين ووجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما كما أن قوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } يقتضي ذلك لأن حقيقة الإتمام فعل الشيء تاما وذلك أعم من أن يبدأ ثم يتم أو أن يعمل بعد الإبتداء ولو لم يكن الأمر بإتمامهما إلا للداخل فيهما فإنما يجب الإتمام لما كان واجبا بأصل الشرع

أما أن يكون إتمام العبادة واجبا أو جنسها ليس واجبا بالشرع بل العبادات اللواتي يجب جنسهن في الشرع لا يجب إتمامهن فهذا بعيد

وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست من الهجرة بإجماع أهل التفسير

وأيضا فإن الله فرض الحج على لسان إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر } وشرع من قبلنا شرع لنا لا سيما شرع إبراهيم فإنا مأمورون باتباع ملته بقوله تعالى { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا } وبقوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } إلى قوله { من الصالحين } وقوله { وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا } وقد فسر جماعة من السلف الحنيف بالحاج وقوله { قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } وبقوله { إني جاعلك للناس إماما } وبقوله تعالى { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا } وبقوله تعالى { هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم } في اخر سورة الحج والمناسك وقوله تعالى { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي } خصوصا حرمة الكعبة وحجها فإن محمدا لم يبعث بتغيير ذلك وإنما بعث بتقريره وتثبيته وإحياء مشاعر إبراهيم عليه السلام وقد اقتص الله علينا أمر الكعبة وذكر بنائها وحجها واستقبالها وملة إبراهيم في أثناء سورة البقرة وذكر أيضا ملة ابراهيم والبيت وأمره وثلث ذلك في أثناء سورة آل عمران وذكر الحج وأمره وسننه وملة إبراهيم والمناسك والحض عليها وتثبيت أمرها في سورة الحج وسورة الحج بعضها مكي بلا شك وأكثرها أو باقيها مدني متقدم فعلم بذلك أن إيجاب الحج وفرضه من الأمور المحكمة من ملة ابراهيم فيكون وجوبه من أول الإسلام وإذا كان وجوبه متقدما وهو فتح مكة في رمضان سنة ثمان وأقام الحج للناس تلك السنة عتاب بن أسيد أمير رسول الله ثم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه في سنة تسع فأقام للناس الموسم ومعه علي بن أبي طالب بسورة براءة ورجال من المسلمين فلو كان الحج واجبا على الفور لبادر رسول الله إلى فعله

وأيضا فإن الله تعالى أوجبه إيجابا مطلقا وأمر به ولم يخص به زمانا دون زمان فيجب أن يجوز فعله في جميع العمر

ومن قال من أصحابنا قال إن الأمر المطلق لا يقتضي فعل المأمور به على الفور لا سميا والحج هو عبادة العمر فيجب أن يكون جميع العمر وقتا له كما أن الصلاة لما كانت عبادة وقت مخصوص وقضاء رمضان لما كان عبادة سنة مخصوصة كان جميع ذلك الزمن وقتا له

وأيضا فإنه لو وجب على الفور لكان فعله بعد ذلك الوقت قضاء كما لو فعل الصلاة بعد خروج الوقت وليس كذلك

وأيضا فإنه إذا أجره وفعله فقد برئت ذمته والأصل براءة الذمة من إثم التأخير فمن ادعاه فعليه الدليل فعلى هذا هل يجب العزم على الفعل لجواز تأخيره وإنما يجوز تأخيره إلى أن تظهر أمارات العجز ودلائل الموت بحيث يغلب على ظنه أنه إن لم يحج ذلك العام فاته فإن أخره بعد ذلك أثم ومات عاصيا وإن مات قبل ذلك فهل يكون آثما ذكر أبو يعلى فيه وجهين واختار أنه لا يكون اثما كما لو مات من عليه الصلاة وقضاء رمضان في أثناء وقتهما

والأول هو المذهب المعروف لمسلكين عام وخاص

أما العام فهو أن الأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور بل عند أكثر أصحابنا ليس في الشريعة إلا واجب مؤقت أو واجب على الفور

أما واجب يجوز تأخيره مطلقا فلا يجوز لأنه إن جاز التأخير إلى غير غاية موصوفة بحيث لو مات مات غير عاص بطل معنى الوجوب وإن جاز إلى أن يغلب على ظنه الفوت إن لم يفعل لم يجز لوجهين

أحدهما أن هذا القدر غير معلوم ولا مظنون فإن الموت إنما يعلم بأسبابه وإذا نزلت أسباب الموت من المرض الشديد ونحوه تعذر فعل المأمور به وقبل حصول أسبابه فإنه لا يغلب على ظن أحد أنه يموت في هذا العام ولو بلغ تسعين سنة

الثاني إنه إن مات قبل هذا الظن غير عاص لزم أن لا يجب الفعل على أكثر الخلق لأن أكثرهم يموتون قبل هذا الظن وإن عصى بذلك فبأي ذنب يعاقب وإنما فعل ما جاز له وما الفرق بينه وبين من مات في أثناء وقت الصلاة وكيف يجوز أن يقال إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت }

وأما المسلك الخاص فمن وجوه أحدهما ما روى ابن عباس رضي الله عنه عنهما عن النبي قال تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له رواه أحمد فأمر بالتعجيل والأمر يقتضي الإيجاب لا سيما واستحباب التعجيل معلوم الضرورة من نفس الأمر بالحج فلم يبق لهذا الأمر الثاني فائدة إلا الإيجاب وتوكيد مضمون الأمر الأول

وعن مهران أبي صفوان قال قال رسول الله من أراد الحج فليتعجل رواه أبو داود وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال قال رسول الله من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة رواه أحمد وابن ماجه وفيه أبو إسرائيل الملائي

فأمر بالتعجيل كما أمر به في الحديث الأول وأمره بالتعجيل من أراده لا يمنع الوجوب فإن إرادة الواجب واجبة كما قال تعالى { لمن شاء منكم أن يستقيم } ويجب عليه أن يريده ويعزم عليه حين وجوبه عليه وإنما ذكره والله أعلم وبالإرادة ليبين أنه في الحين الذي يعزم عليه ينبغي أن يفعله لا يؤخره ولا يتأخر فعله عن حين إرادته فإن هذه الإرادة هي التي يخرج بها من حيز الساهي والغافل لا إرادة التخيير بين الفعل والترك لقوله من أراد الجمعه فليغتسل

وأيضا فإن فعل القضاء من الحج يجب على الفور فإنه لو أفسد الحج أو فاته لزمه الحج من قابل بدليل قوله عليه السلام من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل وهذا لاخلاف فيه فإذا كان القضاء يجب على الفور فأن تجب حجة الإسلام الأداء بطريق الأولى والأحرى

وأيضا فإن تأخيره إلى العام الثاني تفويت له لأن الحج ليس كغيره من العبادات يفعل في كل وقت وإنما يختص بيوم من السنة فإذا أخره عن ذلك اليوم جاز أن يدرك العام الثاني وجاز أن لا يدركه وأن يموت أو يفتقر أو يمرض أن يعجز أو يحبس أو يقطع عليه الطريق إلى غير ذلك من العوائق والموانع فلا يجوز التأخير إليه وإلى هذا أشار بقوله فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة وقوله في حديث اخر ينتظر أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا

وأيضا فإن من مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد وهو ما روى هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو ثنا أبو اسحق الهمداني عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا رواه الترمذي ورواه ابن بطة وزاد فيه ومن كفر فإن الله غني عن العالمين وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال مجهول والحارث مضعف عضده ما روى شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي قال من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا رواه ابن المقريء أبو عروبة ورواه أحمد ثنا وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط قال قال رسول الله من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ورواه سعيد هكذا مرسلا عن أبي الأحوص عن ليث

وعن عمر رضي الله عنه قال من كان ذا ميسرة ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا

وعن الضحاك بن عزوم قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من مات وهو مؤسر لم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا

وعن عدي بن عدي قال قال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ولولا ما أرى من سرعة الناس في الحج لجبرتهم عليه ولكن إذا وضعتم الرحال فشدوا السروج وإذا وضعتم السروج فشدوا الرحال

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال من وجد إلى الحج سبيلا سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه لا ندري مات يهوديا أو نصرانيا

وعن إبراهيم قال كان للأسود بن يزيد جار مؤسر لم يحج فقال له لو مت لم أصل عليك رواهن سعيد

والمرسل إذا إعتضد بقول الصحابي صار حجة بالإتفاق

وهذا التغليظ يعم من مات قبل أن يغلب على ظنه الفوات وهم أكثر الناس ومن غلب على ظنه ففي تأخيره تعرض لمثل هذا الوعيد وهذا لا يجوز وإنما لحقه هذا لأن سائر أهل الملل من اليهود والنصارى لا يحجون وإن كانوا قد يصلون وإنما يحج المسلمون خاصة

وأيضا فإنه إجماع السلف رواه أحمد وسعيد عن هشيم ثنا منصور عن الحسن قال قال عمر بن الخطاب لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار فينظروا كل رجل ذا جدة لم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين وهذا قاله عمر ولم يخالفه مخالف من الصحابة وإنما عزم على ذلك وإن كان تارك الحج إذا كان مسلما لا يضرب عليه الجزية لأنه كان في أول الإسلام الغالب على أهل الأمصار الكفر إلا من أسلم فمن لم يحج أبقاه على الكفر الأصلي فضرب عليه الجزية ولولا أن وجوبه على الفور لم يجعل تركه شعارا للكفر

وقد روي عن الحسن بن محمد قال أبصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما بعرفه من أهل البحرين عليهم القمص والعمائم فأمر أن تعاد عليهم الجزية رواه سعيد

وعن أبي هارون العبدي قال قال عمر حجوا العام فإن تستطيعوا فقابل مرتين أو ثلاثا فمن لم يستطع فقابل فمن لم يفعل فاذنوني أضرب عليهم الجزية رواه سفيان بن عيينة عنه وهذا صريح بأنه على الفور وقد خاطب به عمر الناس ولم يخالفه مخالف

وأيضا فإن الحج تمام الإسلام لأن الاسلام بني على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ولهذا لما حج النبي أنزل الله قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }

وكانت شرائع الإسلام تنزل شيئا فشيئا فصار الحج كمال الدين وتمام النعمة فإذا لم يحج الرجل لم يكن إسلامه ودينه كاملا بل يكون ناقصا ولا يجوز للمسلم أن يترك دينه ناقصا كما لا يجوز أن يخل بالصلاة والصوم والزكاة بعد وجوبها

وأما ما ذكروه من أن الحج فرض متقدما وأخره النبي وأصحابه فعنه أجوبة

أحدها أنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد أن الله أوجب الحج وكتبه ومكث النبي وعامة أصحابة مؤخرين له من غير عائق أصلا خمس سنين ولا سنة واحدة فإن القوم رضوان الله عليهم كانوا مسارعين في الخيرات وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار يبادرون إلى فعل الصلاة في أول الوقت طلب الفضل والثواب لعلمهم بما في المسابقة من الأجر فكيف يؤخرون الحج بعد وجوبه من غير عذر أصلا

وتأخيره إن لم يكن محرما فإنه مكروه أو هو خلاف الأحسن والأفضل وتأخر عن مقامات السبق ودرجات المقربين فكيف تطبق الأمة مع نبيها على ترك الأحسن والأفضل لغير عذر أصلا

وأيضا فقد مات منهم في تلك السنوات خلق كثير لم يحجوا أفترى أولئك لقوا الله عاصين بترك أحد مباني الإسلام ولم ينبههم النبي على ذلك ولا قال لهم احذروا تفويته مع أنه من لم يحج خير بين أن يموت يهوديا أو نصرانيا وقد علم بغير ريب أن قبل الفتح لم يحج مسلم وبعد الفتح إنما حج عتاب ابن أسيد على عادة الكفار وهديهم وانما حج بعض أهل مكة ثم في السنة الثانية أمر النبي بنفي المشركين عن البيت وبأن لا يطوف بالبيت عار وإنما حج من المسلمين نفر قليل

ثم إن حج البيت من فروض الكفايات وقد قال ابن عباس لو أن الناس تركوا الحج عاما واحدا لا يحج أحد ما نظروه بعده رواه سعيد فكيف يتركون المسلمون الحج بعد وجوبه سنة في سنة فإن حج الكفار غير مسقط لهذا الإيجاب

وأما قولهم إنه فرض سنة خمس أو ست فقد اختلف الناس في ذلك اختلافا مشهورا فقيل سنة خمس وقيل سنة ست وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع وقيل سنة عشر فالله أعلم متى فرض غير أنه يجب أن يعلم إما أنه فرض متأخر أو فرض متقدم وكان هناك مانع عام يمنع من فعله وإلا لما أطبق المسلمون على تركه وتأخيره

الجواب الثاني أن الأشبه والله أعلم أنه إنما فرض متأخر يدل على ذلك وجوه أحدها أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه قوله { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقد قيل إن هذه الآية إنما نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر ويدل على ذلك أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب وتقرير ملة ابراهيم وتنزيهه من اليهودية والنصرانية وصدر سورة آل عمران إنما نزلت لما جاء وفد نجران إلى النبي وناظروه في أمر عيسى بن مريم عليه السلام ووفد نجران إنما قدموا على النبي باخره وأما قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } فإنه نزل عام الحديبية سنة ست من الهجرة لما صد المشركون رسول الله عن إتمام عمرته التي قد كان أهل بها وفيها بايع المسلمين بيعة الرضوان وفيها قاضي المشركين على الصلح على أن يعتمر من قابل فإنما يتضمن الأمر بالإتمام وليس ذلك مقتض للأمر بالابتداء فإن كل شارع في الحج والعمرة مأمور بإتمامها وليس مأمورا بإبتدائهما ولا يلزم من وجوب إتمام العبادة وجوب ابتدائها كما لا يلزم من تأكيد استحباب الإتمام تأكيد استحباب الشروع

وأما كون الحج والعمرة من دين ابراهيم عليه السلام فهذا لا شك فيه ولم يزل ذلك قربة وطاعة من أول الإسلام وجميع آيات القرآن تدل على حسن ذلك واستحبابه وأما وجوبه فلا يعلم أنه كان واجبا في شريعة إبراهيم البتة ولم يكن لإبراهيم عليه السلام شريعة يجب فيها على الناس ويوضح ذلك أنه لم يقل أحد أن الحج كان واجبا من أول الإسلام

الوجه الثاني أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج مثل حديث وفد عبد القيس لما أمرهم بأمر فصل يعملون به ويدعون إليه من وراءهم ويدخلون به الجنة أمرهم بالإيمان بالله وحده وفسره لهم أنه الصلاة والزكاة وصوم رمضان وأن يعطوا من المغنم الخمس ومعلوم أنه لو كان الحج واجبا لم يضمن لهم الجنة إلا به

وكذلك الأعرابي الذي جاء من أهل نجر ثائر الرأس الذي قال لا أزيد على هذا ولا أنقص منه إنما ذكر له النبي الصلاة والزكاة والصوم

وكذلك الذي أوصاه النبي بعمل يدخله الجنة أمره بالتوحيد والصلاة والزكاة وصوم رمضان وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الصيام مع أنه قد ذكر ابن عبد البر أن قدوم وفد عبد القيس كان سنة تسع وأظنه وهما ولعله سنة سبع لأنهم قالوا أن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وهذا إنما يكون قبل فتح مكة وأما ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبه في بعض طرقه وقد تقدم اختلاف الناس في وفود ضمام وبينا أن الصواب أنه إنما وفد سنة تسع فيكون الحج إنما فرض سنة تسع وهذا يطابق نزول الآية في تلك السنة وهذا شبيه بالحق فإن سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي الكفار وقد غيروا شرائع الحج وبدلوا دين إبراهيم عليه السلام ولا يمكن مسلما أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه فكيف يفرض الله على عباده المسلمين مالا يمكنهم فعله وإنما كانت الشرائع تنزل شيئا فشيئا كلما قدروا وتيسر عليهم أمروا به

الوجه الثالث أن الناس قد اختلفوا في وجوبه والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه لاسيما والذين ذكروا وجوبه إنما تأولوا عليه اية من القران أكثر الناس يخالفونهم في تأويلها وليس هناك نقل صحيح عن من يوثق به أنه واجب سنة خمس أو سنة ست الجواب الثالث أنه وإن كان فرض متقدما لكن كانت هناك عوائق تمنع من فعله بل من صحته بالكلية سواء كان واجبا أو غير واجب أظهرها منعا أن الحج قبل حجة الوداع كان يقع في غير حينه لأن أهل الجاهلية كانوا ينسئون النسيء الذي ذكره الله في القران حيث يقول { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين } فكان حجهم قبل حجة الوداع في تلك السنين يقع في غير ذي الحجة

روى أحمد بإسناده عن مجاهد في قوله { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال حجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت

حجة أبي بكر الاخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي بسنة ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة فلذلك حين يقول النبي إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض وروى عبد الرازق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادي وجمادي ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة ثم يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه فيسمون أحسبه قال المحرم صفر ثم يسمون رجب جمادى الاخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم عادوا لمثل هذه القصة قال فكانوا يحجون في كل شهر عامين حتى وافق حجة أبي بكر الأخر من العامين في ذي القعدة ثم حج النبي حجته التي حج فوافق ذلك ذا الحجة فلذلك يقول النبي في خطبته إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض

وكذلك في رواية أخرى عن مجاهد قال هذا في شأن النسيء لأنه كان ينقص من السنة شهرا

وروى سفيان بن عمرو عن طاوس قال الشهر الذي نزع الله من الشيطان المحرم وروى أبو يعلى الموصلي عن إبراهيم في قوله تعالى { إنما النسيء زيادة في الكفر } قال النسيء المحرم وروى أحمد عن أبي وائل في قوله عز وجل { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما } الآية قال كان رجل ينسأ النسيء من كنانة وكان يجعل المحرم صفر يستحل فيه الغنائم فنزلت { إنما النسيء زيادة في الكفر }

وهذا مما أجمع عليه أهل العلم بالأخبار والتفسير والحديث وفي ذلك نزل قوله { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } والتي بعدها

وعن أبي بكرة أن النبي خطب في حجته فقال ألا إن الزمان قد استدار كهيته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذكر الحديث متفق عليه

وإذا كان الحج قبل حجة الوداع في تلك السنين باطلا واقعا في غير ميقاته امتنع أن يؤدي فرض الله سبحانه قبل تلك السنة وعلم أن حجة عتاب بن أسيد وحجة أبي بكر إنما كانتا إقامة للموسم الذي يجتمع فيه وفود العرب والناس لينبذ العهود وينفي المشركون ويمنعون من الطواف عراة تأسيسا وتوطئة للحجة التي أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة وأدى بها فرض الله وأقيمت فيها مناسك إبراهيم عليه السلام ولا يجوز أن يقال فقد كان يمكن المسلم أن يحج في غير وقت حج المشركين أما قبل الفتح فلو فعل ذلك أحد لأريق دمه ولمنه من ذلك وصد وكذلك بعد الفتح لأن القوم حديثوا عهد لجاهلية وفي استعطافهم تأليف قلوبهم وتبليغ الرسالة في الموسم ما فيه

والذي يبين ذلك أن النبي قد اعتمر عمرة الحديبية ثم عمرة القضية من العام المقبل ثم عمرة الجعرانة من العام الذي يليه ومعه خلق كثير من المسلمين فقد كان يمكنه أن يحج بدل العمرة فإنه أكمل وأفضل أن يجعل بدل هذه العمرة حجة أو يأمر أحدا من أصحابه بذلك ولو أنها حجة مستحبة كما أن العمرة مستحبة فلما لم يفعل علم تعذر الحج الذي أذن الله لاختصاصه بوقت دون العمرة

وقد ذكروا أيضا من جملة أعذاره إختلاط المسلمين بالمشركين وطوافهم بالبيت عراة واستلامهم الأوثان في حجهم وإهلالهم بالشرك حيث يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكة وما ملك وإفاضتهم من عرفات قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها ووقوف الحمس عشية عرفة بمزدلفة إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يمكن الحج معها ولم يمكن تغييرها بعد الفتح إلا في سنة أبي بكر حج من العام المقبل لما زالت

ومن الأعذار أيضا اشتغاله بأمر الجهاد وغلبة الكفار على أكثر الأرض والحاجة والخوف على نفسه وعلى المدينة من الكفار والمنافقين وأن الله أعلمه أنه لا بد أن يحج قبل الموت وفي بعض هذه الأمور نظر وإن صحت فهي عذر في خصوصه ليست عذرا لجميع المسلمين

وأما قولهم وجوب الحج مطلقا قلنا الأمر المطلق عندنا يوجب فعل المأمور به على الفور ولو لم يكن الأمر المطلق يقتضي ذلك فقد بينا من جهة السنة وغيرها ما يقتضي وجوب المبادرة إلى فعل الحج فيكون الأمر به مقيدا

وأيضا فإن تأخير الحج تفويت لأنه لا يتمكن من فعله إلا في وقت واحد فيصير كالعبادة المؤقتة من بعض الوجوه وإنما لم يكن فعله بعد ذلك قضاء لأن القضاء هو فعل العبادة بعد خروج وقتها المحدود شرعا حدا يعم المكلفين والحج ليس كذلك وكونه قضاء أو أداء يغير وجوب التقديم ولا جواز التأخير بدليل أن النائم والناسي والحائض والمسافر يأتون بالعبادة بعد خروج الوقت العام المحدود فيكون قضاء مع جواز التأخير أو وجوبه والمزكى يجب عليه أداء الزكاة عقيب الحول ولو أخرها لم يكن قضاء وكذلك القاضي شهر رمضان لو أخر إلى عام ثان أو أخر قضاء الحج إلى عام ثان لم يقل له قضاء القضاء وكذلك من غلب على ظنه تضايق الصلاة أو الحج في وقته فأخره وأخلف ظنه أثم بذلك ولا يكون ما يفعله قضاء وكذلك لو صرح بوجوب الفعل على الفور أو أقام عليه دليل وأخره إلى الوقت الثاني لم يكن قضاء فالحج من هذا الباب

فصل

الميت يحج عنه وليه وكذلك المعضوب كما في الحديث فإن حج غير الولي

فإن حج عن الميت أجنبي بدون إذن الوارث ففيه وجهان أحدهما يصح إختاره ابن عقيل والثاني لا يصح قاله أبو الخطاب في خلافه

فأما الحي فلا يجوز أن يحج عنه الفرض إلا بإذنه وكذلك لا يحج عنه النفل بدون إذنه لكن إن حج وأهدى له ثوابه فأما الميت فيفعل عنه الفرض بدون إذنه وأما النفل إذا فعله عنه وارث أو أجنبي فهل يقع الحج عن المحجوج عنه بحيث يكون الإحرام عنه أو يكون الحج عن الحاج ويكون الثواب للميت ففيه وجهان أحدهما لا ينعقد عن الميت حج غير واجب إلا بإذنه قال القاضي وابن عقيل في موضع

والثاني يقع عن المحجوج عنه قاله القاضي في موضع اخر وابن عقيل فعلى هذا إذا خالف النائب ما أمر به وكان عن حي لم يقع عنه بل يقع عن نفسه وإن كان عن ميت

فصل

وإذا مات وعليه دين لآدمي ودين لله تعالى مثل الزكاة والحج تحاصا في إحدى الروايتين وقال في رواية ابن القاسم إذا مات وعليه دين وزكاة تحاص الغرماء من الزكاة نصفين وهذا اختيار أكثر أصحابنا

والثانية يقدم دين الآدمي قال عبد الله في المناسك سألت أبي عن رجل مات وترك الفي درهم وعليه دين ألف درهم ولم يحج وعليه زكاة فرط فيها قال يبدأ بالدين فيقضي والحج والزكاة فيهما اختلاف من الناس من يقول إن لم يوص فهو ميراث وإن أوصى فهو من ثلثه ونحن نقول يحج عنه ويزكي من جميع المال وما بقي فهو ميراث

والحج والزكاة سواء فيما ذكره ونقله عنه أبو جعفر الجرجرائي فقال سألته عن الرجل يحج عنه قال إذا لم يكن حج فمن جميع المال وكذلك جميع ما يلزمه من الزكاة وغيره والزكاة أشد قال القاضي لم يرد أن تقدم على الحج أو تقضي دونه وإنما أراد أنها أوكد لتعلق حق الله تعالى بها وحق الفقير والحج يتعلق به حق الله فقط

فصل

ولا يخلو إما أن يحج عن غيره متبرعا أو يحج بمال فإن كان متبرعا يحج بمال نفسه جاز أن يحج عن كل أحد وفي مثل ذلك جاء حديث الخثعمية والخثعمي وأبي رزين وحديث الجهنية والمرأة الأخرى وغيرهم لكن الأفضل أن يبدأ بالحج عن أقاربه ويبدأ منهم بأبويه ويبدأ بالأم إلا أن يكون الحج قد وجب على الأب فيبدأ به قال في رواية أحمد بن الحسن ويوسف بن موسى إذا أراد الرجل الحج عن أبويه يبدأ بالأم إلا أن يكون الأب قد وجب عليه

وأما إن حج عن غيره بمال ذلك الرجل فقال في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون متبرعا بحج عن أبيه أو ابنه أو أخيه

وسئل في رواية الجرجرائي عن الرجل يعطى للحج عن ميت قال لا لا يأخذ وقال عبد الله سألت أبي رجل حج ويأخذ كل سنة حجة قال لا يعجبني هذا

وقال سألت أبي عن رجل يحب الحج ترى له أن يحج عن الناس فقال لا يعجبني أن يحج عن الناس إلا أن يبتدي فقيل له حج فلا بأس به

فد رخص فيه لمن ابتدء إذا كان مقصوده الحج

وإن حج عن ميت وارث فقال في رواية أبي الحارث وقد سئل يحج الرجل عن أبيه وعن أمه فقال إن حج من مال نفسه متبرعا وإن كان من مال الميت فلا يحج وارث عن وارث كأنه يرى أنها وصية لوارث

فصل

وتجوز الإستنابة في حج التطوع في الحياة وبعد الموت من المعضوب والقادر في إحدى الروايتين نص عليها في رواية الأثرم وقد سئل عن الصحيح هل له أن يعطي من يحج عنه بعد الفريضة يتطوع بذلك فقال إنما جاء الحديث في الذي لا يستطيع ولكن إذا أحج الصحيح عنه فارجوا أن لا يضره

وقال في رواية ابن منصور يتصدق عن الميت ويحج عنه ويسقى عنه ويعتق عنه ويصام النذر إلا الصلاة

والأخرى لا تجوز الاستنابة إلا في الفرض قال في رواية الجرجاني وقال سألته عن من قد حج الفريضة يعطي دراهم يحج عنه فقال ليس يكون له ليس عليه شيء رأى أنه ليس له أن يحج عنه بعد الفريضة وقال القاضي وظاهر هذا أنه لا تصح النيابة في فعل الحج لأنه قال ليس له أن يحج بعد الفريضة وجعل العلة أنه ليس عليه سواء كان قادر أو عاجزا وسواء فيه الإستنابة في الحياة وبعد الموت

وجعل أبو الخطاب وكثير من أصحابنا هذا فيمن يقدر أن يحج بنفسه فأما العاجز فتجوز إستنابته بلا تردد ولو كان عجزه مرجو الزوال كالمريض والمحبوس فهو كالمعضوب في النفل لأن النفل مشروع في كل عام وهو عاجز عنه في هذا العام فهو كالمعضوب الذي عجز عن الفرض في جميع العمر وهذا فيمن أحرم عن ذلك ولبى عنه

فأما إن حج عن نفسه ثم أهدى ثوابها للميت فهذا يجوز عندنا قولا واحدا لما تقدم

فصل

وإذا استناب رجلا في الحج أو ناب عنه في فرضه فإن الحج يقع عن المحجوج عنه كأنه هو الذي فعله بنفسه سواء كان من جهة المنوب مال أو لم يكن لأن النبي شبه الحج بالدين وجعل فعله عن العاجز والميت كقضاء الدين عنه وقال لأبي رزين حج عن أبيك واعتمر وقال للخثعمية حجي عنه وكذلك قال لغير واحد حج عنه

والشيء إذا فعل عن الغير كان الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب ويكون العمل مستحقا للمعمول عنه ولهذا لو وجب على الإنسان عمل في عقد أجارة فعمله عنه عامل كان العمل للأجير لا للعامل ولأنه ينوي الإحرام عنه ويلبي عنه ولو لم يكن للمحجوج عنه إلا ثواب النفقة كان بمنزلة من أعطى غيره مالا يحج عن نفسه أو يجاهد الكفار فلم يجز أن يلبي عنه

فصل

ويجوز حج الرجل عن المرأة وكذلك يجوز حج المرأة عن الرجل قال في رواية ابن منصور يحج الرجل عن الرجل والمرأة عن المرأة والمرأة عن الرجل وعليه أصحابنا لحديث الخثعمية

وقال في رواية أبي داود وقد سئل يحج عن أمه قال نعم يقضي عنها دينا عليها قيل له فينفق من ماله وينوي عنها قال جائز قيل له فالمرأة تحج عن الرجل قال نعم إذا كانت محتاجه

فصل

ولا يجوز الإستيجار على الحج وغيره من الأعمال التي لا يجوز أن تفعل إلا على وجه التقرب مثل الأذان والإمامة وتعليم القران والحديث والفقه في إحدى الروايتين

فأما أن يأخذ نفقة يحج بها فيجوز هذه طريقة القاضي وأصحابه ومن بعدهم

وقال ابن أبي موسى في الإجارة على الحج روايتان كره أحمد رضي الله عنه في إحداهما أن يأخذ دراهم فيحج بها عن غيره قال إلا أن يكون متبرعا بالحج عن أبيه أو عن أخيه أو عن أمه وأجاز ذلك في موضع اخر

وعلى هذا يكره الأخذ نفقة وأجرة مع الجواز وتجب على الكفاية وإنما تكون الروايتان في الكراهة فقط

وأجاز أبو اسحق بن شاقلا الاستئجار على الحج وما يختص نفعه مما ليس بواجب على الكفاية دون ما يعم فقال لا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر ويجوز أن يؤخذ على الحج عن الغير أجر لأن أفعال الخير على ضربين ما كان فرضا على العامة وغيرهم مثل الأذان والصلاة وما أشبه ذلك لا يجوز أن يؤخذ عليه أجر وما انفرد به من حج عنه فهو جائز مثل فعل البناء لبناء مسجد يجوز أن يأخذ عليه الأجرة لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء المسجد

فأما المنصوص عن أحمد فقال في رواية أبي طالب والذي يحج عن الناس بالأجر ليس عندنا فيه شيء وما سمعنا أن أحدا استأجر من حج عن ميت

وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما فقال أحمد نحن نكره هذا إلا أن يعينه فقد نص على كراهة الأجرة ولم يكره النفقة وقد نص في مواضع كثيرة على من يأخذ مالا يحج به عن ميت وهل يكون له الفاضل أو لا يكون

وأما الرواية التي أخذ القاضي منها جواز الاستيجار فقال في رواية عبد الله وقد سأله عمن يكرى نفسه للحج ويحج قال لا بأس وقال في رواية الكوسج يكرى نفسه ويحج إلا أن هذا إنما أراد به أن يكرى نفسه للخدمة والعمل ولهذا قال يكرى نفسه ويحج وفي مثل هذا جاءت السنة

وقال في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخته قال النبي للذي سأله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إنما الحج عمن كان له زاد وراحلة وينفق ولا يسرف ولا يقتر إذا كان ورثته صغارا

وقال في رواية الجرجرائي وقال في المعضوب يحج عنه وليه

ووجه ذلك أن النبي إنما أذن أن يحج عن المعضوب والميت من يتبرع بالحج عنهم أوجب قضاء دينهم وبراءة ذمتهم وأيضا فإن أخذه الدراهم يحج بها

وإنما كرهت الإجارة لما ذكره أحمد من أن ذلك بدعة لم يكن على عهد النبي ولا على عهد السلف وقد كان فيهم من يحتاج إلى الحج عنه ولم يستأجر أحد أحدا يحج عن الميت ولو كان ذلك جائزا حسنا لما أغفلوه ولأن الله تعالى يقول في كتابه { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } والأجير إنما يريد بهذه العبادة حرث الدنيا وقال تعالى { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون } وقال { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } ولأن ذلك أكل للدنيا بالدين لأنه يبيع عمله الصالح الذي قد قيل فيه من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويشتري به ثمنا قليلا وقد قال النبي لمن إستؤجر بدراهم يغزو بها ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا وهذا لأن الإجارة معاوضة على المنفعة يملك بها المستأجر المنفعة كما يملك المشتري الأعيان المبيعة فالأجير للحج يبيع إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه لمن إستأجره بالأجر الذي أخذه

ولأن أخذ العوض يبطل القربة المقصودة كمن أعتق عبده على مال يأخذه منه لا يجزؤه عن الكفارة

ولأن الحج عمل من شرطة أن يكون قربة لفاعلة فلا يجوز الاستيجار عليه كغيره من القرب وهذا لأن دخلوه في عقد الإجارة يخرجه عن أن يكون قربة لأنه قد وقع مستحقا للمستأجر وإنما كان من شرطه أن يقع قربة لأن الله تعالى أوجب على العبد أن يعمل مناسكه كلها لله ويعبده بذلك فلو أنه عملها بعوض من الناس لم تجزه أجماعا كمن صام أو صلى بالكرا فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله تعالى عمل غيره قائما مقام عمله بنفسه وسادا مسده رحمة ولطفا فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده لأن النبي شبهه بالدين في الذمة وإنما تبرأ ذمة المدين إذا قضى عنه الدين من جنس ما عليه فإذا كان هذا العامل عنه إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده فلا يكون من جنس ما كان على الأول وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم لرحم بينهما أو صداقة أو غير ذلك وله قصد في أن يحج بيت الله فيكون حجه لله فيقام مقام حج المستنب

والجعالة بمنزلة الإجارة إلا أنها ليست لازمة ولا يستحق الجعل حتى يعمل وأما الحج بالنفقة فإنما كرهه أحمد مرة لأنه قد يكون قصده الإنفاق على نفسه مدة الحج فلا يكون حجة لله كما أن الأجير قصده ملك الأجرة وإن كانت شيئا مقدرا مثل وصية ونحوها فقد يكون قصده استفضال شيء لنفسه فيبقى عاملا لأجل الدنيا

ووجه جواز ذلك أن الحج واجب على المستطيع بماله فلا بد أن يخرج هذا المال في الحج

فصل

وإن قلنا يجوز الاستئجار على الحج فاستؤجر رجل فإنه يعتبر له شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الاجارة وتملك الأجرة بالعقد فيتصرف بما شاء ويجب العمل في ذمته فلو أحصر أو ضل الطريق أو ضاعت النفقة كان من ضمانه وإن مات إنفسخت الإجارة واستحق من الأجرة بقدر ما قطع من الطريق ويتمم الحج من حيث بلغ ذكره القاضي وما لزمه من الدماء فهو عليه لأن الحج مستحق عليه

وإن أخذها جعالة بأن يقال له إن حججت فلك هذا الجعل فهذا عقد جائز لا يملك به العوض إلا بعد الفراغ من العمل ولا يجب في ذمته شيء وإن عاقه عائق عن تمام الحج لم يكن له شيء ولا عليه شيء

قال أحمد في رواية محمد بن موسى إذا أخذ حجة عشرين دينارا فلما بلغ الكوفة مرض فرجع فإنه يرد عليهم جميع ما أخذ ولا يحتسب منه ما أنفق فإن تلف منه أو ضل الطريق فهذا يضمن ذلك وهذا إنما يكون إذا كانت جعالة لأنه لم يوجب عليه إتمام الحج ولا إحتسب له بما أنفق وجعل التالف من ضمانه وهذه أحكام الاجعال وإن أخذها نفقة سواء قلنا تصح الإجارة أولا تصح فإنه يكون بمنزلة الوكيل

والنائب المحض كالنائب في القضاء والأعمال العامة ويكون ما يأخذه بمنزلة الرزق الذي يرزقه الأئمة والقضاة والمؤذنون فلو تلف أو ضل الطريق أو مات أو مرض لم يكن عليه ضمان ما أنفق ولو تلف بغير تفريط منه لم يضمن ولم يكن عليه إتمام بقية العمل ويحسب للمستنيب بما عمله وعلى هذا أكثر نصوصه

قال في رواية ابن منصور في رجل أعطى دراهم يحج بها عن إنسان فمات في بعض الطريق فليس عليه شيء مما أنفق ويحجوا بالباقي من حيث بلغ هذا الميت

وقال في رواية أحمد بن الحسين إذا دفع إلى رجل مالا يحج به عن رجل فضاع منه في بعض الطريق فلا غرم عليه قيل له فيجزى عن الموصى حجته قال ما أدري أخبرك أرجو إن شاء الله وكذلك نقل الميموني

وإذا لم يقدر له النفقة فإنه ينفق بالمعروف ويرد ما فضل قال أحمد الذي يأخذ دراهم يحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إذا كان ورثته صغارا

وقال في رجل أخذ حجة عن ميت ففضل معه فضلة يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون مسرفا ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال إما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له حج بهذا فله أن يتوسع فيها وإن فضل شيء فهو له

وإذا قال الميت حجوا عني حجة بألف فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له

وهذه النفقة أمانة بيده له أن ينفق منها بالمعروف وإنما تقدر بأمر الميت أو المستنيب الحي أو بتقدير الورثة إذا كانوا كبارا فإن كان فيهم يتيم فليس لهم أن يقولوا ما فضل فهو لك وليس له أن يتوسع بإذنهم وغير إذنهم إذا كان في الورثة صغارا إلا أن يتبرع الكبار بشيء من حصتهم

ولا يملك الفاضل إلا بعد الحج فليس له أن يتصرف فيه قبل ذلك قال في رواية أبي طالب إذا قال حجوا عني بألف فما فضل من الألف رده على الحج ولو قال حجوا عني حجة بألف فما فضل فهو للذي يحج وإذا قال حجوا عني حجة فما فضل مما دفع إليه رد إلى الورثة وإذا دفع إلى الرجل حجة فقال ما فضل لك فأخذها الرجل فاشترى بها متاعا يتجر به قال لا يجوز له قد خالف إنما قال له امض فما فضل فهو لك لم يقل أتجر قبل

وهل لهذا الذي قدر له النفقة أن يقتر على نفسه أو أن يمشي

فصل

فأما الأجير الذي يكرى نفسه لخدمة الجمال أو الركاب ونحو ذلك ويحج عن نفسه فهو جائز بل لو أنفق عليه غيره متبرعا وحج عن نفسه أجزأه قال في رواية عبد الله والكوسج فيمن يكرى نفسه ويحج لا بأس وقال حرب سألت أحمد قلت رجل استأجر رجلا ليخرج معه فيخدمه فحج عن نفسه قال أرجو أن يجزءه قلت إذا كان أجيرا قال نعم وسألته قلت الرجل يحج مع الرجل فيكفيه نفقته وما يحتاج إليه أترجو أن يجزيء عنه قال نعم يجزيء عنه وهو بمنزلة من يكرى دوابه في هذا الوجه أو يتجر فيه

فإنه حج واعتاض عن منفعة أخرى غير الحج بل إن كان إنما يكرى نفسه ليحج بذلك العوض فهو المحسنين عن أبي أمامة التميمي قال كنت رجلا أكرى في هذا الوجه وكان ناس يقولون ليس لك حج فلقيت ابن عمر فقلت يا أبا عبد الرحمن إني رجل أكرى في هذا الوجه وإن ناسا يقولون إنه ليس لك حج فقال ابن عمر أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار قال قلت بلى قال فإن لك حجا جاء رجل إلى النبي فسأله عن مثل ما سألتني عنه فسكت عنه رسول الله فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } فأرسل إليه رسول الله وقرأ عليه هذه الآية وقال لك حج رواه أحمد وأبو داود وعن أبي السليل قال قلت لابن عباس إني رجل أكرى وإن ناسا يزعمون يقولون إنما أنت خادم إنما أنت أجير قال بلة لك حج حسن جميل إذا اتقيت الله وأديت الأمانة وأحسنت الصحابة رواه حرب

فصل

ما لزم النائب من الدماء بفعل محظور مثل الوطء وقتل الصيد ونحو ذلك فهو في ماله نص عليه لأنه لم يؤذن له في ذلك وإنما هو من جنايته فهو كما لو أتلف نفسا أو مالا وكذلك ما وجب لترك واجب

وأما دم التمتع والقران إذا أذن له فيهما على المستنيب وإلا فعليه ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من السفر فهو كنفقة الرجوع هذا هو الذي ذكره

وقال ابن أبي موسى اختلف أصحابنا في دم الإحصار هل هو من مال الأجير أو من مال المستأجر على وجهين

وإن أفسد الحج أو فوته بتفريطه كان عليه رد ما أخذ لأنه لم يجز عن المستنيب بتفريطه والقضاء عليه في ماله

فصل

وما أنفق زيادة على القدر المعتاد أو على مالا بد منه فهو في ماله فإذا سلك طريقا يمكنه سلوك أقرب منها فنفقة تفاوت ما بيت الطريقين في ماله وكذلك إن تعجل إلى مكة عجلة يمكنه تركها وإن أقام بعد الحج وبعد إمكان الرجوع أكثر من مدة القصر أنفق من مال نفسه

وأما إذا لم يمكنه الرجوع فإنه ينفق من مال المستنيب وله نفقة الرجوع وإن أقام بمكة سنين ما لم يستوطنها فإن استوطنها لم يكن له نفقة الرجوع

وإن مرض في الطريق فله نفقة رجوعه لأنه لا بد منه وقد حصل بغير تفريطه وإن قال خفت أن أمرض فرجعت فقال عليه الضمان لأنه متوهم

ولو أذن له في لنفقة في جميع ذلك جاز إذا كان المال للمستنيب وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يجز

فصل

إذا أمر بالحج فتمتع أو قرن جاز ذلك ووقع عن الآمر والدم على النائب قال أحمد في رواية أبي طالب إذا حج الرجل عن الرجل فتمتع لنفسه فما سمعت أحدا يقول يتمتع عن نفسه

وإذا قالوا له حج ودخل بعمرة فإن العمرة للذي يحج عنه والدم عليه في ماله وكذلك إن دخل قارنا فإن أحرم من مكة جاز له لأن العمرة لمن حج عنه ولو دخل بعمرة لنفسه وأراد أن يحج عن غيره خرج إلى الميقات فأحرم عنه وقال في رواية حنبل إذا قرن أو تمتع فالدم في ماله والحج والعمرة عن صاحب المال وذلك لأن المتمتع والقارن أتيا بحجة وعمرة وذلك أفضل من حجة منفردة ليس بعدها عمرة بلا تردد

وإن دخل بعمرة عن نفسه ثم أراد أن يحج عن غيره فعليه أن يخرج إلى ميقاته فيحرم منه على ما نص لأن المستنيب قد وجب عليه الإحرام من الميقات فلا بد أن يقضي عنه ذلك ولا يجوز له أن يحرم عنه من دون الميقات

وقد نقل عنه علي بن سعيد وسأله عن الرجل يحج عن غيره هل يعتمر قبل الحج فقال بنبغي له أن ينتهي إلى ما أمر فإن لم يكن أمر أن يعتمر اعتمر عن نفسه فإذا حل من عمرته حج عن الميت

وظاهر هذا أنه يحج من مكة وفيه نظر وليس له أن يحرم عنه من مكة فإن خالف وفعل ففيه وجهان

أحدهما عليه دم لترك ميقاته وعليه من النفقة بقدر ما تركه بين الميقات ومكة لأنه أخل بما يجبره دم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم

والثاني لا يقع فعله عن الأمر ويرد جميع النفقة لأنه مخالف له

وإن أمره بأن يحج ويعتمر بعد الحج فتمتع أو قرن وإن أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر وهل يرد نصف النفقة على وجهين وإن أفرد الحج وقع الحج عن المستنيب ورد نصف النفقة لتفويت العمرة من الميقات فإن اعتمر بعد الحج

وإن أمره بالقران فأفراد الحج أو تمتع وقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات

وإن أمره بالحج والعمرة ففعل أحدهما فقط رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع ما فعله عن المستنيب

مسألة ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون

أما الكافر فإن الله سبحانه وتعالى قال { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }

وأمر النبي أن ينادي في الموسم لا يحجن بعد العام مشرك

ولأن الحج عبادة والكافر لا تصح منه العبادات ولأنه مخصوص بالحرم والكافر ممنوع من دخول الحرم

وإذا ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه لأن الردة تبطل جميع العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والإعتكاف

وأما المجنون فقسمان

أحدهما الجنون المطبق مثل المعتوه ونحوه فهذا لا يصح حجه عند أكثر أصحابنا وقال أبو بكر فإن حج بالصبي أو العبد أو الأعرابي أو المعتوه أو المجنون لم تجزهم عن حجة الإسلام وأجزأت الصبي والعبد والأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن بلغوا فعليهم الحج كما قال رسول الله من لم يفعل وقوف عرفة وهو صحيح لم يجزه إلا الصبي فإن النبي قال وله حج ولأمه ولك أجر

فهذا الكلام يقتضي صحة حجة المعتوه لأن أكثر ما فيه أنه مسلوب العقل وذلك لا يمنع صحة حجة كالصبي

ووجه المشهور أن المجنون لا يصح منه شيء من العبادات وإنما هو بمنزلة البهيمة والفرق بينه وبين الصبي الصغير أن هذا له عمل وحركة بنفسه من غير عقل ولا تمييز فأشبه البهيمة وعكسه الصبي فإن غيره هو الذي يعمل به فجاز أن يحرم به ولأن الإحرام إنما يعقده وليه ووليه لا يقدر أن يجنبه محظورات الإحرام بخلاف الصبي ولأن الصبي لما عدم كمال العقل عدم ما يحتاج إلى العقل فعدمه في حقه ليس نقصا والمجنون سلب العقل مع وجود ما يحتاج إلى العقل الثاني أ يجن بعد احرامه فهذا إن كان صرعا وخنقا لم يبطل احرامه لأن هذا بمنزلة الغشي والإغماء لأنه يبطل الحركة لكن هو في هذه الحال بمنزلة المغمى عليه فلا يصح منه أركان الحج الأربعة من الإحرام والطواف والسعي والوقوف فأما المبيت بالمزدلفة ورمي الجمار فيصح في هذه الحال قاله القاضي وابن عقيل وإن كان جنونا محضا لا يبطل الحركة فهل يبطل إحرامه على وجهين ذكرهما ابن عقيل أحدهما لا يبطل فلو قتل بعد ذلك صيدا ضمنه

مسألة ويصح من العبد والصبي ولا يجزئهما

في هذا الكلام فصلان

أحدهما أن العبد يصح حجة ولا يجزؤه عن حجة الاسلام

فإن أعتق فعليه حجة أخرى وإن مات أجزأت عنه تلك الحجة وكانت حجة الإسلام في حقه وإن لم تكن واجبة

وكذلك الصبي لما روى محمد بن كعب القرضي قال قال رسول الله إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أعتق فعليه الحج رواه سعيد وأبو داود في مراسيله واحتج به أحمد

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أسمعوني ما تقولون وافهموا ما أقول لكم أيما مملوك حج به أهله فمات قبل أن يعتق فقد قضى حجه وإن أعتق قبل أن يموت فليحج وأيما غلام حج به أهله فمات قبل أن يدرك فقد قضى حجه وإن بلغ فليحج رواه الشافعي والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة وفاقا وهذا مجمع عليه ولأنه يصح منه الحج لأنه من أهل العبادات ولا يجزؤه لأن فعله قبل أن يصير من أهل وجوبه

فإن عتق العبد أو بلغ الصبي وهما محرمان بالحج بعد الوقوف وخروج وقته لم يجزهما ذلك الحج عن حجة الإسلام لأن الوقوف لا يمكن إعادته وما فعل منه وقع قبل وجوبه فلا يجزيء عن واجب الإسلام

وإن عتق وبلغ قبل الوقوف أو في أثناء الوقوف أو بعد إفاضتهما من عرفة

فرجعا إليها وأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر ليلة النحر أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام هذا هو المنصوص عنه في غير موضع وعليه أصحابه وعنه

لما احتج به أحمد ورواه بإسناده عن ابن عباس قال إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه تلك الحجة وإذا عتق بجمع لم تجزيء عنه وعن الحسن وعطاء قالا إذا عتق العبد بعدما يفيض عن عرفات أو بجمع وحاضت الجارية واحتلم الغلام فرجعوا إلى عرفة قبل طلوع الفجر فقد أجزأت عنهم حجة الإسلام ولا يعرف لهم في السلف مخالف قال أحمد ما أعلم أحدا قال لا تجزؤه إلا هؤلاء

ولأنه أتى بأركان الحج وواجباته من الإحرام والوقوف والطواف وغيره بعد الوجوب فوجب أن يجزءه وإنما أحرم قبل الوجوب والإحرام فرض مستصحب في جميع النسك فتقدمه على وقت وجوبه لا يضر كما لو تطهر الصبي للصلاة ثم بلغ فصلى بتلك الطهارة فرضا بل أولى

وهذا لأن ما فعله قبل البلوغ أسوأ أحواله أن يكون وجوده كعدمه وهو لم يحرم حتى بلغ وهو بعرفات فأحرم حينئذ أجزأه بالإجماع فكذلك إذا بلغ وهو محرم يجب أن يجزءه ما يأتي به من الإحرام بعد ذلك ويكون ما مضى كأن لم يفعل

ومن أصحابنا من قال يكون إحراما مراعا فإذا أدرك الوقوف بالغا تبينا أنه وقع فرضا وإلا فلا كما يجوز إبهامه وتعليقه ويكون مراعا إن أدرك عرفة كان بحج وإلا كان بعمرة ويظهر أثر هذين الوجهين فيما يصيبه في إحرامه قبل الوقوف هل يكون بمنزلة جناية عبد وصبي أو بمنزلة جناية حر بالغ

فإن كانا قد سعيا قبل الوقوف وقلنا السعي ركن ففيه وجهان

أحدهما يجزؤه قاله القاضي وأبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد لأنه لم يفرق بين أن يكونا قد سعيا قبل الوقوف أو لم يسعيا وهذا يتوجه على قول من يقول إنما مضى من الإحرام يصير فرضا

والثاني لا يجزؤهما قال القاضي في المجرد هو قياس المذهب وتبعه ابن عقيل وهذا إذا قلنا السعي ركن لأن السعي ركن غير مستدام وقد وقع قبل وجوب الحج فلم يجزيء عن الواجب كما لو كان البلوغ والإسلام بعد الوقوف فعلى هذا إن أعادة

فصل

وإذا أحرم العبد بإذن سيده لم يملك تحليله لأنها عبادة تلزم بالشروع وقد دخل فيها بإذنه فأشبه ما لو دخل في نذر عليه ولأنه عقد لازم عقده بإذن سيده فلم يكن للسيد فسخه كما لو تزوج بإذنه حتى لو باعة أو وهبة لم يملك المشتري والمتهب تحليله لأنه انتقل إليه مستحق المنفعة في الحج فأشبه ما لو انتقل إليه مؤجرا أو مزوجا لكن يكون الإحرام عيبا بمنزلة الإجارة لأنه ينقص المنفعة فتنقص القيمة فإن علم به لم يكن له الرد وإن لم يعلم فله الرد أو الإرش

وإن كان قد أحرم بدون إذن البائع وقلنا له تحليله لم يكن عيبا وإلا فهو عيب ولو رجع السيد عن الإذن وعلم العبد فهو كما لو لم يأذن له وإن لم يعلم حتى أحرم ففيه وجهان بناء على الوكيل إذا لم يعلم بالعزل

وإن أحرم بدون إذن سيده إنعقد إحرامه في ظاهر المذهب وخرج ابن عقيل وجها أنه لا ينعقد لأنه يغصب سيده منافعة التي يملكها فلم يصح كالحج بالمال المغصوب وأولى والأول هو المنصوص لكن هل يحل له أنه يحرم

وهل يملك السيد تحليله على روايتين إحداهما يملكه اختاره ابن حامد وغيره لأن في بقائه عليه تفويتا لمنافعه بغير إذنه فلم يلزمه ذلك فعلى هذا يكون بمنزلة المحصر بعدو وصفة التحلل

والثانية ليس له تحليله اختاره أبو بكر

وتحليل العبد والزوجة يحصل بقول السيد والزوج قد حللت زوجتي أو عبدي أو فسخت إحرامه فعند ذلك يصير كالمحصر بعدو فيما ذكره أصحابنا فأما بالفعل فقيل قياس المذهب لا يحل به

فصل

وإذا نذر العبد الحج معينا أو مطلقا فإنه ينعقد نذرة لأن النذر بمنزلة اليمين ينعقد ممن ينعقد يمينه ثم إن كان مطلقا فهل يلزمه قضاؤه في حال الرق على وجهين ذكرهما القاضي وقال أشبههما بكلامه الوجوب

وإن كان معينا

وهل لسيده تحليله منه ومنعه من المضي فيه إن قلنا لا يمنعه من التطوع فهنا أولى وإن قلنا يمنعه من التطوع فكذلك هنا قاله القاضي وابن عقيل فعلى هذا يقضيه بعد العتق ويبدأ قبله بحجة الإسلام كما سيأتي في قضاء الفاسد

ولو حلف بالطلاق ليحجن هذا العام أو ليحرمن ونحو ذلك فإنه يحرم نص عليه وينبغي لسيده أن لا يمنعه وهل يملك منعه على روايتين

إحداهما يكره منعه قال في رواية عبد الله في مملوك قال إذا دخل أول يوم من أيام رمضان فامرأته طالق ثلاثا إن لم يحرم أول يوم من رمضان يحرم أول يوم ولا تطلق إمرأته قيل له فيمنعه سيده أن يخرج إلى مكة قال لا ينبغي أن يمنعه أن يخرج

قال القاضي وظاهر هذا على طريق الأخبار وهو اختيار شيخنا

والثانية ليس له منعه نص في هذه المسألة يعينها في رواية اسحق بن إبراهيم قيل له فإن منعه سيده أن يخرج إلى مكة قال ليس له أن يمنعه أن يمضي إلى مكة إذا علم منه رشده

فصل

وإذا فسد احرامه فعليه المضي فيه سواء كان بإذن السيد أو بدون إذنه ولا يملك السيد تحليله إلا كما يملك تحليله من الصحيح وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه أو غير مأذون فيه ويصح القضاء في حال الرق في المشهور عند أصحابنا ومنهم من ذكر فيه وجهين كالوجهين في الصبي ومنهم من لم يحك هنا خلافا مع حكايته للخلاف ثم ويجب عليه

وإذا أحرم بالقضاء فليس للسيد منعه إن كان الإحرام الأول بإذنه لأن اذنه فيه إذن في موجبه ومقتضاه وإن كان بغير إذنه فهو كالحج المنذور هل لسيده منعه على وجهين أحدهما ليس له منعه وهو قول أبي بكر قال ابن عقيل وهو ظاهر كلام أحمد

والثاني له منعه وهو قول ابن حامد والقاضي في المجرد

والأشبه أنه لا فرق في الحج الفاسد بين أن يكون قد أحرم بإذنه أو بغير إذنه لأنه لم يأذن في الإفساد

فإن عتق قبل القضاء فعليه أن يبدأ بحجة الإسلام قبل القضاء فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام في المشهور من المذهب ثم إن كان قد عتق بعد التحلل من الحجة الفاسدة أو بعد وقوفها لم يجزه القضاء عن حجة الإسلام لأن أداءه لا يجزؤه

وإن عتق فيها في أثناء الوقوف أو قبله فقال القاضي وجماعة من أصحابنا يجزؤه عن حجة الإسلام لأنه لو كان صحيحا لأجزأه والفاسد إذا قضاه قام قضاؤه مقام الصحيح

وقال ابن عقيل عندي لا يصح لأنه لا يلزم من إجزاء صحيحه إجزاء قضائه كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في رمضان وقلنا يجزؤه عنهما فإنه لو أفطره لزمه يومان

فصل

وما لزمه من الكفارات التي ليست من موجب الإحرام ومقتضاه مثل ما يجب بترك واجب أو فعل محظور ونحو ذلك فقال أحمد إذا أحرم العبد ثم قتل صيدا فجزاؤه على مولاه إن أذن له قال القاضي وغيره إن أذن له في القتل

فعلى هذا كل محظور فعله بإذن سيده فجزاؤه على سيده وإن كان بغير إذنه فهو على العبد وهو بمنزلة الحر المعسر يكفر بالصوم وليس للسيد منعه منه كما ليس له أن يمنعه من صوم الكفارة هذا قول أكثر أصحابنا خرجها القاضي على الوجهين في منعه من الحج المنذور في كل دم ليس من موجب الإحرام ولا مقتضاه ولم يذكر في الإحصار خلافا وليس له أن يكفر بالمال إلا أن يأذن له سيده في التكفير به فيجوز قاله أبو بكر وابن أبي موسى قال ابن أبي موسى كما كان له أن يتسرى بإذن سيده

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إذا ملكه سيده مالا وملكه لزمه التكفير بالمال وإن قلنا لا يملكه أو لم يملكه السيد لزمه الصوم وذكر القاضي في موضع اخر وغيره أنه إذا ملكه الهدي ليخرجه أنبنى على روايتي التمليك

وما كان من موجب الإحرام مثل دم التمتع والقران إذا أذن له في ذلك فقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إن قلنا لا يملكه ففرض الصيام وإن قلنا يملك فعلى السيد أن يتحمل الهدي عنه وذكر ابن أبي موسى أن فرضه الصيام بكل حال وإذا مات العبد قبل الصيام كان لسيده أن يطعم على الروايتين جميعا قاله القاضي وابن عقيل

فصل

وإذا حج الأعرابي ثم هاجر لم يجب عليه إعادة الحج عند أكثر أصحابنا المتأخرين وقال أبو بكر لا تجزؤه تلك الحجة عن حجة الاسلام وعليه حجة أخرى وكلام أحمد محتمل قال في رواية هذا حديث ابن عباس في الصبي يحج ثم يدرك والعبد يحج ثم يعتق عليهما الحج قلت يقولون إن فيه الأعرابي يحج ثم يهاجر قال نعم

والأعرابي في حديث ابن عباس عليه الحج فيجوز أنه قاله اخذا به ويجوز أنه لم يأخذ به لأنه قد روى حديث محمد بن كعب القرضي المرسل واعتمده وليس فيه ذكر الأعرابي

واحتج أبو بكر بما رواه بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إذا حج المملوك أجزأ عنه حجة المملوك فإذا عتق فعليه حجة الإسلام وكذلك الأعرابي والصبي مثل هذه القصة ومن كفر فإن الله غني عن العالمين الفصل الثاني

أن حج الصبي صحيح سواء كان مميزا أو طفلا بحيث ينعقد إحرامه ويلزمه ما يلزم البالغ من فعل واجبات الحج وترك محظوراته لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي لقي ركبا بالروحاء فقال من القوم قالوا المسلمون فقالوا من أنت قال رسول الله فرفعت إليه إمرأة صبيا فقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجر رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

وعن السائب بن يزيد قال حج بي مع رسول الله في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين رواه أحمد والبخاري وعن جابر قال رفعت إمرأة صبيا لها إلى النبي في حجته فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجره رواه ابن ماجة والترمذي وقال غريب وعنه قال حججنا مع رسول الله معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم رواه أحمد وابن ماجة ورواه الترمذي ولفظه أحرمنا عن الصبيان وأحرمت النساء عن نفسها وفي لفظ له كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان وقال غريب وقد تقدم في الحديث المرسل وقول ابن عباس أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه وإن أدرك فعليه حجة أخرى فإن حج قبل بلوغ الإحتلام بعد بلوغ السن

فإن كان الصبي مميزا أحرم بنفسه بإذن الولي وفعل أفعال الحج واجتنب محظوراته فإن أحرم عنه الولي أو فعل عنه شيئا مثل الرمي وغيره لم يصح لأن هذا دخول في العبادة فلم يصح من المميز دون قصده كالصوم والصلاة

فإن أحرم بدون إذن الولي ففيه وجهان

أحدهما لا يصح قاله أبو الخطاب وجماعة معه قال متأخروا أصحابنا وهو أصح لأنه عقد يجب عليه به حق فلم يملك فعله بدون إذن الولي كالنكاح فعلى هذا قال القاضي في موضع إحرامه بدون إذن الولي كإحرام العبد فعلى هذا هل يملك الولي تحليله على وجهين

والثاني يصح لأنها عبادة فجاز أن يفعلها بدون إذن الولي كالصوم والصلاة

وإن كان غير مميز عقد الاحرام له وليه سواء كان حراما أو حلالا كما يعقد له النكاح وغيره من العقود ويلبي عنه فيقول لبيك عن فلان وإن لم يسمه جاز ويطوف به ويسعى ويحضره المواقف ويرمي عنه ويجنبه كلما يجتنبه الحرام وإذا لم يمكنه الرمي استحب أن يوضع الحصى في يده ثم يؤخذ فيرمى عنه وإن وضعه في يده ورمى بها وجعلها كالآلة جاز قال أصحابنا ولا يرمي عنه حتى يرمي عن نفسه فإن كان رمى عن الصبي وقع عن نفسه وهذا بناء على أن عن حج من غيره قبل أن يحج عن نفسه وقع عن نفسه فإن قلنا يقع عن الغير أو يقع باطلا فكذلك

ونفقة السفر التي تزيد على نفقة الحضر تجب في مال الولي في إحدى الروايتين ومنهم من يحكيها على وجهين اختارها القاضي في المجرد وأبو الخطاب وغيرهما إلا أن لا يجد من يضعه عنده لأنها نفقة وهو مستغن عنها فلم تجب في ماله كالزيادة على نفقة مثله في الحضر

وفي الأخرى هي في مال الصبي وهذا اختيار القاضي في خلافه وقال هو قياس قول أحمد لأنه قال يضحي الوصي عن اليتيم من ماله لأن هذا مما له فيه منفعة لأنه يعرف أفعال الحج ويألفها فهو كالنفقة على تعليم الخط وكفارات الحج التي تلزمه بترك واجب أو فعل محظور كالنفقة فما كان من الكفارات لا يجب إلا على العامد كاللباس والطيب في المشهور لم يجب على الصبي لأن عمده خطأ قاله أصحابنا وتخرج إذا أوجبنا الدية في ماله دون عاقلته وما يجب على العامد والمخطيء مثل قتل الصيد وحلق الشعر وتقليم الظفر في المشهور فقال هي كالنفقة هل تجب في مال الصبي أو وليه على روايتين والمنصوص عنه

والولي هنا هو الذي يملك التصرف في ماله من الأب والحاكم والوصي قاله القاضي فأما من لا ولاية له على المال كالأم ونحوها فقال ظاهر كلام أحمد أنه لا يصح إحرامه لأن الإحرام متعلق به الزام مال

والمنصوص عن أحمد أنه يحرم عنه أبواه أو وليه فعلى هذا تحرم عنه الأم أيضا وهذا اختيار ابن عقيل وغيره من أصحابنا لقول النبي للمرأة التي سألته نعم ولك أجر ولا يكون لها أجر حتى تكون هي التي تحج به وهذا بناء على أن النفقة تلزم الولي والمحرم به فلا ضرر في ماله ولأن الأم قد نقل عنه أنها تقبض للابن وخرج بعض أصحابنا سائر الأقارب على الأم وأما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا وقياس المذهب في هذا أنا إن قلنا إن النفقة في ماله فإنما يحرم به من يتصرف في ماله وهم هؤلاء الثلاثة أو غيرهم عند الضرورة فإن أحمد قد نص على أنه يجوز أن يقبض الزكاة أكبر الأخوة لإخوته ويقبضها لليتيم من يعوله

وإن قلنا ليست في ماله فمن كان في حضانته الصبي فإنه يعقد له الإحرام لأن الولاية هنا تبقى على البدن لا على المال حتى لو كان في حضانة أمه حتى يحرم به اللقيط والكافل لليتيم ونحو هؤلاء فأراد أبوه أن يحرم به وسواء في ذلك المميز والطفل

وإذا وطيء في الحج أو وطيء فسد حجه لأن أكثر ما فيه أن عمده خطأ ووطء الناسي يفسد الحج وعليه المضي في فاسده وفي وجوب القضاء وجهان أحدهما لا يجب عليه لأن بدنه ليس من أهل الوجوب لكن تجب الفدية في ماله عند القاضي وعند أبي الخطاب على وليه والثاني يجب القضاء قال القاضي وهو أشبه بقول أحمد لأنه أوجب القضاء على العبد إذا أفسد الحج لأن الوجوب هنا بسبب من جهته وجهة وليه فلم يمتنع كوجوب الإتمام بخلاف إيجاب الشرع إبتداء فعلى هذا هل يلزمه القضاء في حال صغره أو بعد بلوغه على وجهين قال القاضي أصحهما في حال صغره لأن القضا على الفور

والثاني بعد البلوغ لأن الصغير ليس من أهل الوجوب المبتدأ في الحال فعلى هذا إن قضاه في الصغر فهل يصح فيه وجهان فإن أخر القضاء إلى ما بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام وإن أحرم بالقضاء أولا انصرف إلى حجة الاسلام على المشهور في المذهب ثم إن كانت الحجة المقضية تجزؤه عن حجة الإسلام لو تمت صحيحة بأن يكون قد أدرك فيها قبل الوقوف كان قضاؤها مجزئا عن حجة الإسلام وأن لم تكن مجزئة عن حجة الإسلام لم يجزيء قضاؤها عن حجة الإسلام فيما ذكره أصحابنا كالقاضي وأصحابه ومن بعده والقياس أن تكون كالمنذورة

فصل

ولا يجوز للمرأة أن تسافر بدون إذن الزوج في حج التطوع وليس للزوج أن يمنعها من حج الفرض ويستحب لها أن تستأذنه إن كان حاضرا وتراسله إن كان غائبا تطييبا لنفسه كما يستحب استئذان المرأة في نكاح بنتها وإستئذان البكر في نفسها عند من يقول بجواز إجبارها لأن ذلك أدعى إلى الألفة وصلاح ذات البين وأبعد عن الشقاق وكل ما فيه صلاح ذات البين فإنه مستحب فإن منعها فإنها تخرج بغير اختياره لأنها عبادة قد وجبت عليها ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق حتى لو قلنا يجوز لها تأخير الحج فإن لها أن تسارع إلى إبراء ذمتها كما لها أن تصلي المكتوبة في أول الوقت وتقضي شهر رمضان في أول الحول وأولى لأن هذه عبادة مؤقته وتأخير العبادات المؤقته أجوز من تأخير العبادات المطلقة

ثم إن قلنا الحج واجب على الفور فعليها أن تحج ولا تطيع الزوج في القعود وإن قلنا هو على التراخي فالأفضل لها أن تسارع إليه وذلك أولى بها من طاعة الزوج في القعود لأن في تأخير الحج تعريضا لتفويته

مسألة ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم وتجزؤها

وجملة ذلك أن من لم يجب عليه لعدم استطاعته مثل المريض والفقر والمعضوب والمقطوع طريقة والمرأة التي لا محرم لها ونحو ذلك إذا تكلفوا شهود المشاعر أجزأهم الحج

ثم منهم من هو محسن في ذلك كالذي يحج ماشيا ومنهم من هو مسيء في ذلك كالذي يحج بالمسألة والمرأة تحج بغير محرم

وإنما أجزأهم لأن الأهلية تامة والمعصية إن وقعت فهي في الطريق لا في نفس المقصود

مسألة ومن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه أو عن نذرة ونفله قبل حجة الإسلام وقع عن فرض نفسه دون غيره

في هذا الكلام فصلان

أحدهما الفصل الأول أن من عليه حجة واجبة سواء كانت حجة الإسلام أو نذرا أو قضاء فليس له أن يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه في ظاهر المذهب المشهور عنه وعن أصحابه قال في رواية صالح لا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه وقد بين ذلك النبي فقال حج عن نفسك ثم عن شبرمة وحديث ابن عباس إذ قالت المرأة يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك هو جملة لم يبين حجت أو لم تحج وقال في رواية إسماعيل بن سعيد الصرورة يحج عن غيره لا يجزؤه إن فعل لأن النبي قال لمن لبى عن غيره وهو صرورة اجعلها عن نفسك

وعنه رواية أخرى يجوز قال في رواية محمد بن ماهان في رجل عليه دين وليس له مال يحج الحج عن غيره حتى يقضي دينه قال نعم وقد جعل جماعة من أصحابنا هذه رواية بجواز الحج عن غيره مطلقا قبل نفسه وهو محتمل لكن الرواية إنما هي منصوصة في غير المستطيع ووجه ذلك أن النبي أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها ولم يستفصل هل حجت عن نفسها أو لم تحج وكذلك الجهنية أذن لها أن تحج عن أمها نذرها وللمرأة الأخرى ولأبي رزين وغيرهم ولم يستفصل واحدا منهم ولا أمره أن يبدأ بالحج عن نفسه

والخثعمية وإن كان الظاهر أنه قد علم أنها حجت عن نفسها لأنها سألته غداة النحر حين أفاض من مزدلفة إلى منى وهي مفيضة معه وهذه حال من قد حج ذلك العام لكن غيرها ليس في سؤاله ما يدل على أنه حج ولأنه شبهه بقضاء الدين والرجل يجوز أن يقضي دين غيره قبل دينه

وأيضا فإنه عمل تدخله النيابة فجاز أن ينوب عن غيره قبل أن يؤديه عن نفسه كقضاء الديون وأداء الزكاة والكفارات

وإن كان الكلام مفروضا فيمت لم يستطع الحج فهو أوجه وأظهر فإن الرجل إنما يؤمر بإيبداء بالحج عن نفسه إذا كان واجبا عليه وغير المستطيع لم يجب عليه فيجوز أن يحج عن غيره

ولا يقال إذا حضر تعين عليه لأنه إنما يتعين أن لو لم يكن أحرم عن غيره فإذا حضر وقد انعقد إحرامه لغيره فهو بمنزلة من لم يحضر في حق نفسه

ووجه المشهور ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أو قريب لي قال حججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة رواه أبو داود وابن ماجة وقال فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة رواه الدارقطني من وجوه عن عطاء عن ابن عباس وعن عائشة أيضا

فإن قيل هذا الحديث موقوف على ابن عباس ذكرالأثرم عن أحمد أن رفعه خطأ وقال رواه عدة موقوفا على ابن عباس وهو مشهور من حديث قتادة عن عروة عن سعيد بن جبير وقد قال يحيى عزرة لا شيء قلنا قد تقدم أن أحمد حكم بأنه مسند وأنه من قول رسول الله فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه وقرر رفعه جماعة

على أنه إن كان موقوفا فليس لابن عباس مخالف

فوجه الحجة أن النبي أمره أن يحج عن نفسه ثم يحج عن شبرمة وستأتي بقية الألفاظ الدالة على أن تلك لم تجز عن شبرمة ولم يفصل بين أن يكون الحاج مستطيعا واجدا للزاد والراحلة أو لا يكون وترك الإستفصال والتعريف في حكاية الأحوال يدل على العموم

وأيضا فإن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره لأن الأول فرض والثاني نفل كمن عليه دين هو مطالب به ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه وكذلك كل ما إحتاج إلى صرفه في واجب عنه فلم يكن له أن يفعله عن غيره وأيضا فإنه إذا حضر المشاعر تعين الحج عليه فلم يكن له أن يفعله عن غيره كما لو حضر صف القتال فأراد أن يقاتل عن غيره فعلى هذا إذا خالف وأحرم عن غيره ففيه روايتان ذكرهما كثير من أصحابنا إحداهما ينعقد احرامه عن نفسه وعليه أن يعتقد أن ذلك الإحرام عن نفسه فإن لم يعتقد ذلك حتى قضى الحج وقع عنه وأجزأ عن حجة الإسلام في حقه ولم يقع عن الملبى عنه وهذا قول الخرقي وأكثر أصحابنا

والأخرى يقع الإحرام باطلا فلا يجزيء عنه ولا عن غيره وهذا قول أبي بكر وقدمه ابن أبي موسى وقال أبو حفص العكبري ينعقد الإحرام عن المحجوج عنه ثم يقلبه الحاج عن نفسه

ووجه هذين قوله حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة وقوله إجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة وفي رواية للدارقطني حسنة لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة وفي رواية له إن كنت حججت عن نفسك فلب عنه وإلا فاحجج عن نفسك فإن هذا دليل على أنه يحتاج أن يلبي ويحج عن نفسه ثم قال أبو بكر إحرامه عن غيره وقع باطلا وعن نفسه لم ينوه وإنما لكل إمرىء ما نوى والإحرام لا يقع إلا عن أحدهما فيقع باطلا

وقال أبو حفص أمره بأن يجعلها عن نفسه دليل على انعقاد الإحرام وذلك أن الإحرام في نفسه صحيح وإنما اشتمل على صفة محرمة فيجب عليه أن يزيلها كما لو أحرم في ثياب وعمامة فإن لم يجعله عن نفسه البتة فقياس قوله أنه لا يجزيء عنه ولا عن غيره

ووجه الأول أن قوله فاجعل هذه عنك أي إجعل هذه التلبية عنك كما قد جاء مفسرا أيها الملبي عن فلان لب عن نفسك ثم عن فلان فعلم أن الحجة عن نفسه إذ لو كان باطلا لما صح ذلك وقد روى الدارقطني هذه عنك وحج عن شبرمة وإن كان الضمير عائدا إلى الحجة فقوله إجعل هذه عن نفسك أي اعتقدها عن نفسك وقوله حج عن نفسك أي استدم الحج عن نفسك لأنه لو كان الاحرام قد وقع باطلا لأمر باستئنافه ولم يكن هناك حجة ولا تلبية صحيحة تجعل عن نفسه ولو انعقد عن الغير لم يجز نقله عنه لأن الحج الواقع لشخص لا يجوز نقله إلى غيره كما لو لبى عن أجنبي ثم أراد نقله إلى أبيه

وأيضا فإن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد وينعقد مطلقا ومجهولا ومعلقا فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله لأنه لا يقع إلا لازما فيكون كأنه قد عقده مطلقا ولو عقده مطلقا أجزأه عن نفسه بلا تردد الفصل الثاني

إذا كان عليه فرض ونفل لم يجز أن يحرم إلا بالفرض وإن كان عليه فرضان لم يجز أن يبدأ إلا بأوكدهما فإذا كان عليه حجة الإسلام ونذر بدأ بحجة الإسلام وإن كان عليه نذر وقضاء

وإن كان عليه حجة الإسلام وقضاء هذا هو المنصوص عنه في مواضع وذكر بعض أصحابنا رواية أخرى أنه يجوز أن يبدأ بالنفل قبل الفرض وبالنذر قبل حجة الإسلام تخريجا من المسألة قبلها ومن جواز الإبتداء بالنفل على إحدى الروايتين في الصوم والصلاة ومن كونه قد نص على أن الفرض لا يجزيء إلا بتعيين النية

ووجه الأول ما اعتمده أحمد من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وقد سئل عمن حج في نذره ولم يكن حج حجة الإسلام فقال كان ابن عباس يقول يجزؤه عن حجة الإسلام وقال ابن عمر هذه حجة الإسلام أوف بنذرك فقد اتفقا على أنه إذا نوى النذر لا بد أن يقع عن حجة الإسلام

وأيضا ما تقدم من أن الحج واجب على الفور أو أنه يتعين بشهود المشاعر فإن مأخذ هذه المسألة والتي قبلها واحد

وأيضا فإن الحج مدته طويلة ولا يبلغ إلا بكلفة ومشقة ولا يفعل في العام إلا مرة ففي تقديم النفل على الفرض تغرير به وتفويت بخلاف الصوم إن سلمناه فعلى هذا إذا خالف ونوى النفل أو النذر ففيه روايتان منصوصتان إحداهما أنه يقع عن حجة الإسلام كما ذكره الشيخ وهو اختيار أكثر أصحابنا

قال عبد الله قلت لأبي من نذر أن يحج وما حج حجة الإسلام قال لا يجزؤه يبدأ بفريضة الله ثم يقضي ما أوجب على نفسه واحتج بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن إمرأة سألته فقال هذه حجة الإسلام أوفي بنذرك

ومعنى قوله لا يجزؤه عنهما بل تكون الأولى لحجة الإسلام وإن نوى النذر لأنه احتج بحديث ابن عمر وقال مرة قلت لأبي من حج عن نذرة ولم يكن حج حجة الإسلام يجزيء عنه من حجة الإسلام قال كان ابن عباس يقول يجزؤه من حجة الإسلام

وقال ابن عمر هذه حجة الإسلام أوف بنذرك فقد حكا اتفاقهما على أن ذلك يجزيء عن حجة الإسلام وأفتى بذلك وإنما اختلفا في الأجزاء عن النذر

والثانية لا يجزيء عن الفرض قال في رواية ابن القاسم في الرجل يحج ينوي التطوع فالحج والصوم سواء لا يجزيء إلا بنية وهذا اختيار أبي بكر لأن النبي قال وإنما لكل إمريء ما نوى ولأنها إحدى العبادات فلا تجزيء عن الفرض بنية النفل كالصوم والصلاة وهذه الرواية مترددة بين صحة النفل وعلى ذلك حملها القاضي وبين فساد الإحرام وإذا قلنا فاسد فهل يمضي فيه فعلى هذا هل يصح بنية مطلقة

ووجه الأول ما احتد به أحمد من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فعلى هذا إذا أحرم بالنذر وقلنا يجزؤه عن حجة الإسلام فهل عليه قضاء النذر على روايتين وإن نوى عن الفرض فقط أو نوى عنهما أصحهما عليه قضاؤه كما قال ابن عمر وهو منصوصه في رواية عبد الله

والثانية تكفيه عنهما اختاره أبو حفص

وإن أحرم بحجة الإسلام في سنة قد نذر أن يحج فيها فهل تسقط عنه المنذورة فيه روايتان نقل أبو طالب تسقط عنه ونقل ابن منصور لا تسقط وهو أصح قال القاضي وأصلهما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم أول يوم من شهر رمضان

باب المواقيت[عدل]

الميقات ما حدده ووقت للعبادة من زمان ومكان والتوقيت التحديد فلذلك نذكر في هذا الباب ما حدده الشارع للإحرام من المكان والزمان

مسألة وميقات أهل المدينة ذو الحليفة والشام ومصر والمغرب الجحفة واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق

هذه المواقيت الخمسة منصوصة عن النبي عند جمهور أصحابنا وهو المنصوص عن أبي عبد الله قال في رواية المروذي فإن النبي وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل الطائف ونجد قرنا ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق

وقال في رواية عبد الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل الشام من الجحفة ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم

وقال في رواية أبي داود وقت لأهل العراق من ذات عرق وذلك أن النبي والله أعلم وقت المواقيت ثلاث طبقات فوقت أولا ثلاث مواقيت فلما فتحت اليمن وقت لها ثم وقت للعراق فالأول ما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل أهل نجد من قرن قال ابن عمر وذكر لي ولم أسمع أن رسول الله قال ومهل أهل الشام مهيعة وهي الحجفة رواه الجماعه الا الترمذي وفي رواية لأحمد قال ابن عمر وقاس الناس ذات عرق بقرن

والثاني ما روى ابن عباس قال وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن وفي لفظ من غيرهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها وفي لفظ من كان دونهن فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة متفق عليه والثالث ما روي عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المهل فقل سمعت أحسبه رفع إلى النبي فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة ومهل أهل العراق ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم رواه مسلم ورواه ابن ماجة بلا شك من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد احتج به أحمد مرفوعا ورواه أبو عبد الرحمن المقرى عن ابن لهيعة عن أبي الزبير مرفوعا بلا شك

وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو واللفظ له قال وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن وأهل تهامة يلملم ولأهل الطائف وهي نجد قرنا ولأهل العراق ذات عرق رواه أحمد وفي إسناده الحجاج بن ارطأة وروى المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة قالت وقت رسول الله لأهل العراق ذات عرق رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم وهذا إسناد جيد وقد رواه عبد الله بن أحمد وغيره مستوفى في المواقيت الخمسة قالت وقت رسول الله لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل نجد قرنا ولأهل العراق ذات عرق وقال أبو عاصم ثنا محمد بن راشد عن مكحول أن النبي وقت لأهل العراق ذات عرق وعن عطاء قال وقت رسول الله لأهل المشرق ذات عرق وعن عطاء قال وقت رسول الله لأهل المشرق ذات عرق رواه سعيد فهذا قد روى مرسلا من جهة أهل المدينة ومكة والشام ومثل هذا يكون حجة

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال وقت رسول الله لأهل المشرق ذات عرق رواه أحمد عن وكيع عنه وعن الحارث بن عمرو السهمي قال أتيت النبي وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال فيجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا هذا وجه مبارك قال ووقت ذات عرق لأهل العراق رواه أبو داود والدارقطني ولفظه وقت لأهل اليمن يلملم أن يهلوا منها وذات عرق لأهل العراق

وذهب أبو الفرج بن الجوزي وغيره من أصحابنا إلى أن ذات عرق إنما ثبتت بتوقيت عمر رضي الله عنه اجتهادا ثم انعقد الإجماع على ذلك لما روى ابن عمر قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله حد لأهل نجد قرنا وإنه جور عن طريقنا وإنا إن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق رواه البخاري

فهذا يدل على أنها حدت بالإجتهاد الصحيح لأن من لم يكن على طريقه ميقات فإنه يحرم إذا حاذي أقرب المواقيت إلى طريقه وهم يحاذون قرنا إذا صاروا بذات عرق ولو كانت منصوصة لم يحتج إلى هذا وأحاديث المواقيت لا تعارض هذا فعلى هذا هل يستحب الإحرام من العقيق

والأول هو الصواب لما ذكرناه من الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان التي يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى

وأما حديث عمر فإن توقيت ذات عرق كان متأخرا في حجة الوداع كما ذكره الحارث بن عمرو وقد كان قبل هذا سبق توقيت النبي لغيرها فخفي هذا على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من السنن وإن كان علمها عند عماله وسعاته ومن هو أصغر منه مثل دية الأصابع وتوريث المرأة من دية زوجها فاجتهد وكان محدثا موفقا للصواب فوافق رأيه سنة رسول الله وليس ذلك ببدع منه رضي الله عنه فقد وافق ربه في مواضع معروفة مثل المقام والحجاب والأسرى وأدب أزواج النبي فعلى هذا لا يستحب الإحرام قبلها كما لا يستحب قبل غيرها من المواقيت المنصوصة قال عبد الله سمعت أبي يقول أرى أن يحرم من ذات عرق

فإن قيل فقد روى يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال وقت رسول الله لأهل المشرق العقيق رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن فإن لم يكن هذا مفيدا لوجوب الإحرام منها فلا بد أن يفيد الإستحباب

قيل هذا الحديث مداره على يزيد بن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة وقالوا يزيد يزيد

ويدل على ضعفه أن حديث ابن عباس المشهور الصحيح قد ذكر فيه المواقيت الأربعة ولم يذكر هذا مع أن هذا مما يقصد المحدث ذكره مع إخوته لعموم الحاجة إليه أكثرمن غيره فإن حجاج المشرق أكثر من حجاج سائر المواقيت

وأن الناس أجمعوا على جواز الإحرام دونه فلو كان ميقاتا لوجب الإحرام منه كما يجب الإحرام من سائر ما وقته النبي إذ ليس لنا ميقات يستحب الإحرام منه ولا يجب على أن قوله وقت لا يقتضي إلا وجوب الإحرام منه

قال ابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات وأن الأحاديث التي هي أصح منه وأكثر تخالفه وتبين أن النبي وقت ذات عرق

ويشبه والله أعلم أنه إن كان لهذا الحديث أصل أن يكون منسوخا لأن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع حيث أكمل الله دينه وبعد أن أكمل الله دينه لم يغيره

ولأن ابن عباس لم يذكره لما ذكر حديثه المشهور فيكون إن كان حدث به مرة قد تركه لما علم من نسخه ولهذا لم يروه عنه إلا ولده الذي قد يقصد بتحديثهم اخبارهم بما قد وقع لا لأن يبني الحكم عليه

وما روي عن أنس أنه كان يحرم منه فكما كان عمران بن حصين يحرم من البصرة وكان بعضهم يحرم من الربذة

فصل

وأما ذو الحليفة فهي أبعد المواقيت عن مكة كأنها الله أعلم تصغير حلفة وحليفة وهي واحدة الحلفاء وهي خشب ينبت في الماء بينها وبين مكة عشر مراحل وهي من المدينة علي ميل هكذا ذكره القاضي وأظن هذا غلط بل هي من المدينة على فرسخ وبها المسجد الذي أحرم منه رسول الله والبئر الذي تسميها العامة بئر علي وحدها من ؟؟

ويليها في البعد الجحفة قيل سميت بذلك لأن السيل أجحف بأهلها إلى الجبل الذي هناك وهي من مكة على ثلاث مراحل وتسمى مهيعة وهي التي دعى النبي بنقل حمى المدينة إليها وهي قرية قديمة وهي اليوم خراب وبها أثر الحمام التي دخلها ابن عباس وهو محرم وقد صار الناس لأجل خرابها يحرمون قبلها من رابغ لأجل أن بها الماء للاغتسال وأما قرن بسكون الراء فيقال له قرن الثعالب وقرن المنازل وهو وبينه وبين مكة مرحلتان فهو ميقات لأهل نجد والطائف وتهامة نجد وما بتلك النواحي

وأما يلملم ويقال له ألملم فهو جبل بتهامة وبينه وبين مكة مرحلتان وهي ميقات لأهل اليمن وتهامة اليمن وهو تهامة المعروف

وذات عرق وبينها وبين مكة مرحلتان قاصدتان وهذه المواقيت هي الأمكنة التي سماها رسول الله بعينها في زمانه ولو كان قرية فخربت وبنى غيرها وسميت بذلك الاسم فالميقات هو القرية القديمة لأنه هو الموضع الذي عينه الشارع للإحرام ويشبه والله أعلم أن يكون النبي جعلها على حد متقارب مرحلتان لكونه مسافة القصر إلا ميقات أهل المدينة فإن مسافة سفرهم قريبة إذا هي أكبر الأمصار الكبار إلى مكة فلما كان غيرهم يقطع مسافة بعيدة بين مصره ومكة عوض عن ذلك بأن قصرت عنه مسافة إهلاله وأهل المدينة لا يقطعون إلا مسافة قريبة فجعلت عامتها إهلالا وأهل الشام أقرب من غيرهم فكذلك كان ميقاتهم أبعد ومن مر على غير بلده فإنه بمروره في ذلك المصر يجد من الرفاهية والراحة ما يلحقه بأهل ذلك البلد

مسألة وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر عليها

وجملة ذلك أنه من مر بهذه المواقيت فعليه أن يحرم منها سواء كان من أهل ذلك الوجه الذي وقت الميقات له أو كان من غير أهل ذلك الوجه لكنه سلكة مع أهله وسواء كان بعد هذا يمر على ميقات الوجه الذي هو منه أو لا يمر وذلك مثل أهل الشام فإنهم قد صاروا في هذه الأزمان يعرجون عن طريقهم ليمروا بالمدينة فيمرون بذي الحليفة فعليهم أن يحرموا منها وكذلك لو عرج أهل العراق إلى المدينة أو خرج بعض أهل المدينة على غير ذي الحليفة وهي الطريق الأخرى

ومن مر على ميقاتين فعليه أن يحرم من أبعدهما من مكة قال أحمد في رواية ابن القاسم إذا مر رجل من أهل الشام بالمدينة وأراد الحج فإنه يهل من ذي الحليفة وابن عباس يروي عن النبي في المواقيت هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن وذلك لأن النبي قال فهن لهن أي لهذه الأمصار وأهلها ولمن أتى عليهن من غير أهلهن أي ولمن أتى على المواقيت من غير أهل المحل أي ممن أتى على ميقات من غير أهل مصره لأن الرجل لا يأتي عليهن جميعهن وليس أحد يخرج عن هذه الأمصار فجعل الميقات لكل من مر به من أهل وجهه ومن غير أهل وجهه ولم يفرق بين أن يكون من أهل وجه ميقات اخر

وقوله لهن أي لمن جاء على طريقهن وسلكه وقد روى سعيد أن ابن يحيى قال ثنا هشام بن عروة عن عروة أن رسول الله وقت لأهل المشرق ذات عرق ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم ولأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر ومن ساحل الحجفة

وروى سعيد عن سفيان قال سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه أن رسول الله وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفه

فقد بين عروة في روايته أن النبي وقت ذا الحليفة لأهل المدينة ومن مر بهم وأن الجحفة إنما وقتها للشامي إذا سلك تلك الطريق طريق الساحل

وأيضا فإن المواقيت محيطة بالبيت كاحاطة جوانب الحرم فكل من مر من جوانب الحرم لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض

وأيضا فإن قرب هذه المواقيت وبعدها لما يحل لأهل بعيدها من الرفاهية وذلك بشركهم فيه كل من دخل مصرهم فإن المسافر إذا دخل مصرا وأقام فيها أياما انحط عنه عظمة مشقة سفره فوجد الطعام والعلف والظل والأمن وخفف اجماله إلى غير ذلك من أسباب الرفق

وأيضا فإن هذه المواقيت حدود النسك فليس لأحد أن يتعدى حدود الله

مسألة ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه حتى أهل مكة يهلون منها لحجهم ويهلون للعمرة من الحل في هذا الكلام فصلان أحدهما الفصل الأول في غير المكي إذا كان مسكنه دون الميقات إلى مكة فإنه يهل من أهله لقول رسول الله صلى الله علي وسلم في حديث ابن عباس فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها أي ومثل هذا الذي قلت يفعل هؤلاء حتى أهل مكة

قال أحمد فمن كان منزله بالجحفة أهل منها وكذلك كل من كان دون الجحفة إلى مكة أهل من موضعه حتى أهل مكة يهلون من مكة

فإن كان في قرية فله أن يحرم من الجانب الذي يلي مكة والجانب البعيد منها وإحرامه منه أفضل

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما ويتوجه أن يكون إحرامه من منزله أفضل لأن إستحباب الرجوع له إلى آخر القرية لا دليل عليه

وإن كان في واد يقطعه عرضا فميقاته حذو مسكنه وإن كان في حلة من حلل البادية أحرم من حلته

وهذا فيمن كان مستوطنا في مكان دون الميقات كأهل عسفان وجدة والطائف أو ثمت في بعض المياه فأنشأ قصد الحج من وطنه أو لم يكن مستوطنا بل أقام ببعض هذه الأمكنة لحاجة يقضيها فبدا له الحج منها أو لم يكن مقيما بل جاء مسافرا إليها لحاجة ثم بدا له الحج منها فأما إن كان بعض أهلها قد سافر إلى أبعد من الميقات ثم مر على الميقات مريدا للحج أو لمكة

وإن سافر إلى أبعد من مسكنه دون الميقات وبدا له سفرا الحج من هناك بحيث يمر على أهله مرور مسافر للحج فأما إن عرض له هناك أنه إذا جاء أهله سافر للحج الفصل الثاني

في أهل مكة وهم ثلاثة أقسام مستوطن بها سواء كان في الأصل مكيا أو لم يكن ومقيم بها سواء غير مستوطن كالمجاورين ونحوهم ومسافر

فأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج من مكة كما في الحديث حتى أهل مكة يهلون منها والمستحب أن يحرموا

قال أحمد والخرقي في أهل مكة يهلون من مكة فإن أحرم المكي خارج مكة من الحرم الذي يلي عرفة كالأبطح ومنى ومزدلفة فهل يجزؤه على وجهين ذكرهما القاضي

فعلى المشهور إذا أحرم من الحل جاز في إحدى الروايتين ولا دم عليه سواء عاد إلى الحرم أو لم يعد ومضى على إحرامه إلى عرفة

قال في رواية ابن منصور وقد ذكر له قول سفيان الحرم ميقات أهل مكة فمن خرج من الحرم فلم يهل أمرته أن يرجع وأرى عليه إذا كان ذلك حدهم بما أرى على غيرهم إذا جاوز الميقات فقال أحمد ليس لهم حد مؤقت إلا أنه أعجب إلي أن يحرموا من الحرم إذا توجهوا إلى منى

ونقل عنه الأثرم في رجل تمتع بعمرة فحل منها ثم أقام بمكة فلما كان يوم التروية خرج إلى التنعيم فأحرم بالحج ثم توجه إلى منى وعرفات ولم يأت البيت ليس عليه شيء إلا أن هذا قد أحرم من الحل الأقصى من عرفات ومر بمنى في طريقه وهي من الحرم وليس في مثل هذا خلاف عنه ولفظه والذي يحرم من مكة يحرم من مكة إذا توجه إلى منى كما صنع رسول الله ولو أن متمتعا جهل فأهل بالحج من التنعيم ثم توجه إلى منى وعرفات ولم يأت البيت فلا شيء عليه وهذا اختيار القاضي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وغيرهم لأن المقصود أن يجمعوا في الإحرام بين الحل والحرم وهذا يحصل بعد التعريف لأنه لو كان الواجب أن يحرموا من نفس مكة لكونها ميقاتا لم يجز الخروج منها إلا بالإحرام وقد دلت السنة على جواز الخروج منها بغير إحرام وجواز الإحرام من البطحاء ولأن الإحرام في الأصل إنما وجب لدخول الحرم أما للخروج إلى الحل فلا فإذا خرج أهل مكة لم يجب عليهم إحرام لخروجهم إلى عرفات بخلاف ما إذا رجعوا ولأن قطع المسافة بالخروج إلى عرفات ليس من الحج المقصود لنفسه ولهذا لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة لم يجب عليه دم والرواية الثانية

فصل

وأما المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل سواء في ذلك أهل البلد وغيرهم ممن هو في الحرم قال أحمد في رواية الميموني ليس على أهل مكة عمرة وإنما العمرة لغيرهم قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } إلا أن ابن عباس قال يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر

وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه من التنعيم وقال أيضا ليس على أهل مكة عمرة لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم وتجاوز الحرم وذلك لما روت عائشة قالت لما خرجت معه تعني النبي في النفر الاخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال أخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم لتطف بالبيت فإني أنتظركما هاهنا فخرجنا فأههللت ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة فجئنا رسول الله وهو في منزله في جوف الليل فقال هل فرغت قلت نعم فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة متفق عليه وفي رواية متفق عليها من حديث القاسم والأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم أئتينا بمكان كذا وكذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك وفي لفظ متفق عليه فلما كانت ليلة الحصبة قالت قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا متفق عليه

وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال أمرني رسول الله أن أردف عائشة وأعمرها من التنعيم متفق عليه وعن ابن سيرين قال وقت رسول الله لأهل مكة التنعيم رواه أبو داود في مراسيله وعن ابن عباس

فقد تبين أن العمرة لمن هو بالحرم لا بد فيها من الخروج إلى الحل قال أصحابنا وغيرهم لأنه لا بد في النسك من الجمع بين الحل والحرم وأفعال العمرة هي في الحرم فلو أحرم بالعمرة من الحرم لما وقع شيء منها في الحل بخلاف الحج فإن أحد ركنيه وهو الوقوف بعرفة يقع في الحل لأن عرفات من الحل وذلك لأن العمرة هي الزيارة ومنه العمرة وهو أن يبني الرجل بامرأته في أهلها فإن نقلها إلى أهله فهو العرس قاله ابن الأعرابي

والزيارة لا تكون مع الإقامة بالمزور وإنما تكون إذا كان خارجا منه فجاء إليه ليزوره ولهذا والله أعلم لم يكن على أهل مكة عمرة لأنهم مقيمون بالبيت على الدوام

وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر والحج أن يقصد المحجوج في بيته والحرم هو فناء بيت الله فمن لم يقصد الحرم من الحل لم يتحقق معنى الحج في حقه إذ هو لم ينزح من داره ولم يقصد المحجوج

والإحرام بالعمرة من أقصى الحل أفضل من أدناه وكلما تباعد فيها فهو أفضل حتى يصير إلى الميقات

قال أحمد في رواية الحسن بن محمد وقد سئل من أين يعتمر الرجل قال يخرج إلى المواقيت فهو أحب إلي كما فعل ابن عمر وابن الزبير وعائشة رضوان الله عليهم أحرموا من المواقيت فإن أحرم من التنعيم فهو عمرة وذاك أفضل والعمرة على قدر تعبها

والعمرة كلما تباعد فيها أعظم للأجر وهو على قدر تعبها وإن دخل في شعبان أو رمضان فإن شاء أن يعتمر إعتمر

وقال عبد الله سألت أبي عن عمرة المحرم تراه من مسجد عائشة أو من الميقات أو المقام بمكة والطواف بقدر ما تعبت أو الخروج إلى الميقات للعمرة فقال يروى عن عائشة أنها قالت في عمرة التنعيم هي على قدر نصبها ونفقتها فكل ما كان أكثر من النفقة والتعب فالأجر على قدر ذلك

وهذا نص بأن الخروج بها إلى الميقات أفضل وأن ذلك أفضل من المقام بمكة

وقال في رواية أبي طالب قال الله عز وجل { وأتموا الحج والعمرة لله } وقالت عائشة إنما العمرة على قدر سفرك ونفقتك وقال عمر رضي الله عنه للرجل لذهب إلى علي رضي الله عنه فقال علي أحرم من دويرة أهلك

وقال طاوس الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون أو يعذبون قيل له فلم يعذبون قال لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير شيء وذلك لأن النبي قال لعائشة ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك

وعن علقمة في العمرة بعد الحج هي بحسبها قالت عائشة له من الأجر على قدر نفقته ومسيرة رواه سعيد

فعلى هذا يستحب لمن هو بمكة من غير أهلها أن يخرج إلى أقصى الحل وإن خرج إلى ميقاته فهو أفضل وإن رجع إلى مصره فأنشأ لها سفرة أخرى فهو أفضل من الجميع وكذلك قال أبو بكر العمرة على قدر تعبها ونصبها وبعد موضعها ونفقتها وأن ينشيء لها قصدا من موضعه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلما تباعد في العمرة فهو أعظم أجرا

وظاهر هذا يقتضي أن المستحب أن يتباعد فيحرم من الميقات الشرعي وهو أفضل من إحرامه من أدنى الحل

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما المستحب أن يحرم بالعمرة من الميقات الشرعي على ظاهر كلامه قال في رواية صالح والعمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف واحتج من اختارها بأن النبي أعمر عائشة من التنعيم

وقال القاضي يستحب الإحرام من الجعرانة فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم فإن فاته فمن الحديبية

وكذلك ذكر ابن عقيل إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا وعمدة ذلك أن النبي اعتمر من الجعرانة واعتمر عمرة الحديبية وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم فخصت هذه بالفضل وكان أفضل هذه المواقيت

وقال أبو الخطاب الأفضل أن يحرم من التنعيم فأما الاعتمار من الحديبية فلا فضل فيه على غيره لأن النبي لم يعتمر من الحديبية قط وإنما اعتمر من ذي الحليفة فلما صده المشركون حل بالحديبية من إحرامه وكذلك الجعرانة ليس في خروج المكي إليها بخصوصها سنة لأن النبي لم يعتمر من مكة قط وإنما أعمر عائشة رضي الله عنها من التنعيم في حجة الوداع وإنما اعتمر من الجعرانة لما قسم غنائم حنين لأنها كانت الموضع الذي أنشأ منه العمرة وهو دون المواقيت فينشيء العمرة في موضعه ولا يقاس بهذا أن يخرج المكي إلى ذاك الموضع فيحرم منه

وإنما السنة في الخروج إلى الحل من أي الجوانب كان لكن جهة بلد المعتمر

وإن أحرم الحرمي بالعمرة من الحرم فهو بمنزلة من أحرم دون الميقات فلا يجوز له ذلك وإذا فعله فعليه دم لتركه بعض نسكه

ولا يسقط الدم بخروجه إلى الحرم كما لا يسقط الدم بعودة إلى الميقات إذا أحرم دونه لكنه إن خرج إلى الحل قبل الطواف ورجع صحت عمرته وإن لم يخرج إلى الحل حتى طاف وسعى وقصر ففيه وجهان خرجهما القاضي وغيره

أحدهما أنه لا يعتد بطوافه وسعيه بل يقع باطلا لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج

ولأن الحل لو لم يجب إلا لأنه ميقات لكان من إن شاء العمرة دونه تجزئه كمواقيت الحج ولما أمر النبي عائشة أن تخرج إلى الحل فتهل بالعمرة علم أنه لا بد أن تكون العمرة من الحل

فعلى هذا وجود الطواف وما بعده كعدمه لا يتحلل بذلك بل عليه أن يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك فإن قصر رأسه كان بمنزلة من قصر قبل الطواف فعليه دم وإن وطيء لاعتقاده أنه تحلل كان كمن وطىء قبل الطواف فتفسد بذلك عمرته وعليه دم الإفساد وإتمامها بالخروج إلى الحل والطواف بعد ذلك وقضاها بعد ذلك

والثاني وهو المشهور وهو الذي ذكره أبو الخطاب وغيره أن العمرة صحيحة وعليه دم لما تركه من الإحرام من الميقات لأن من ترك من نسكه شيئا فعليه دم لأن أكثر ما فيه أنه ترك بعض الميقات وهذا لا يفسد الحج وإنما يوجب الدم

ابن أبي موسى ومن أراد العمرة من أهل مكة فليخرج إلى أقرب الحل فيحرم منه ومن كان بمكة من غير أهلها وأراد العمرة الواجبة فليخرج إلى الميقات ليحرم بها وإن لم يخرج إلى الميقات وأحرم بها دون الميقات أجزأته وعليه دم كما قلنا فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم بالحج إن عليه وما

مسألة ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه

ومعنى ذلك أنه إذا كان طريقه على غير ميقات في بر أو بحر فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إلى طريقه سواء كان هذا الميقات هو الأبعد عن مكة أو الأقرب مثل من يمر بين ذي الحليفة والجحفة فإنه إن كان يقرب إلى ذي الحليفة إذا حاذاها أكثر مما يقرب إلى الجحفة أحرم منها وإن كان قربه إلى الجحفة إذا حاذاها أكثر أحرم منها لأن أهل العراق قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن قرنا جور عن طريقنا وأنا إن أردنا أن نأتيها شق علينا فقال انظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق فلم يأمرهم عمر والمسلمون بالمرور بقرن بل جعلوا ما يحاذيها بمنزلتها وذلك لأن الإحرام مما يحاذى الميقات بمنزلة الإحرام من نفس الميقات فإنه إذا كان بعدهما عن البيت واحدا لم يكن في نفس الميقات مقصود ولأن في الميل والتعريج إلى نفس المؤقت مشقة عظيمة وإنما يحرم مما يقرب منه إذا حاذاه لأنه لما كان أقرب المواقيت إليه وإلى طريقه إذا مر كان اعتباره في حقه أولى من اعتبار البعيد كما لو مر به نفسه فلو مر بين ميقاتين وكان قربه إليهما سواء أحرم من حذو أبعدهما من مكة كما لو مر في طريقه على ميقاتين فإنه يحرم من أبعدهما لأن المقتضي للاحرام منه موجود من غير رجحان لغيره عليه ويعرف محاذاته للمؤقت وكونه هو الأقرب اليه بالاجتهاد والتحري فإن شك فالمستحب له الإحتياط فيحرم من حيث يتيقن أنه لم يجاوز حذو الميقات القريب إليه إلا محرما ولا يجب عليه ذلك حتى يغلب على ظنه أنه قد حاذى الميقات الأقرب

مسألة ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح أو حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه ثم إن أراد النسك أحرم من موضعه وإن تجاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع

في هذا الكلام فصول الفصل الأول

أن من مر بهذه المواقيت غير مريد لمكة بل يريد موضعا من الحل فلا إحرام عليه

وإن أراد موضعا من الحرم غير مكة

وإن أراد مكة للحج أو العمرة لم يجز له تجاوز الميقات إلا محرما لأن النبي قال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن وهذا أمر بصيغة الخبر وكذلك قوله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة إلى قوله هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة وإنما فائدة التوقيت وجوب الإحرام من هذه المواقيت لأن ما قبلها يجوز الإحرام منه فلو كان ما بعدها يجوز تأخير الإحرام إليه لم يكن لها فائدة

وإن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة مثل تجارة أو زيارة أو سكن أو طلب علم أو غير ذلك من الحاجات التي لا يشق معها الإحرام فإن السنة أن لا يدخلها إلا محرما بحجة أو بعمرة سواء كان واجبا أو تطوعا وهذا واجب عليه في أشهر الروايتين

قال في رواية ابن منصور لا يدخلها أحد إلا بإحرام وقال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن رجل أراد أن يدخل مكة بتجارة أيجوز أ يدخلها بغير إحرام فقال لا يدخل مكة إلا بإحرام يطوف ويسعى ويحلق ثم يحل وقد نص على ذلك في مواضع والرواية الأخرى أنه مستحب وترك الإحرام مكروه قال في رواية الأثرم والمروذي لا يعجبني أ يدخل مكة تاجر ولا غيره إلا بإحرام تعظيما للحرم وقد دخل ابن عمر بغير إحرام

لأن النبي أن الحج والعمرة إنما تجب مرة واحدة فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ولأن النبي قال في المواقيت هن لهن ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة وهذا لا يريد حجا ولا عمرة ولأن النبي لما رجع هو أصحابه من حنين إلى مكة

ولأن النبي لما بعث عثمان عام الحديبية لخبرهم بقدوم رسول الله لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ولأن الصحابة الذين بعثهم لاستخراج خبيب

ولأن هذه قربة مشروعة لتعظيم البقعة فلم تجب كتحية المسجد الحرام بالطواف وتحية غيره بالصلاة

وهل يجوز أن يحضر عرفة والموسم مع الناس من لم ينو الحج ولم يحرم من أهل مكة أو غيرهم ظاهر حديث عمر وابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يجوز تعظيما للفعل كتعظيم المكان

ووجه الأول ما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم رواه سعيد والاثرم وفي رواية قال لا يدخلن أحد من الناس مكة من أهلها ولا من غيرهم غير حرام رواه حرب ولا يعرف له مخالف وسنتكلم على أثر ابن عمر

وأيضا ما روي عن مجاهد وطاوس قالا ما دخلها رسول الله وأصحابه إلا وهم محرمون

وفي رواية عن هشام بن حجير أظنه عن طاوس قال ما دخل رسول الله مكة إلا محرما إلا عام الفتح

وعن عطاء قال ما نعلم رسول الله دخل مكة قط إلا وهم محرمون رواهن سعيد

وعن خصيف عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات ذكره بعض الفقهاء

ولا فرق بين أن يكون دون المواقيت إلى مكة أو يكون وراء المواقيت قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندى لا يدخل أحد مكة بغير إحرام وقد أرخص للحطابين والرعاة ونحو هؤلاء أن يدخلوا بغير إحرام فقيل له إنهم يقولون ابن عمر لم يكن بلغ الميقات فمن أجل ذلك دخل بغير إحرام فقال الميقات وغيره سواء وإنما رجع لاضطراب الناس والفتنة فدخل كما هو

وكان ابن عباس يشدد في ذلك فقيل له فالنبي دخلها عام الفتح بغير إحرام فقال ذلك من أجل الحرب ألا تراه يقول حلت لي ساعة من نهار وهذا يدخل مع فعل ابن عمر

وقال في رواية الأثرم في الرجل يقيم بمكة متمتعا أو غيره ثم يخرج منها لبعض الحاجة فيعجبني أن لا يدخلها إلا باحرام وأن لا يخرج منها أبدا حتى يودع البيت فقد أمر بالإحرام كل داخل إليها ممن خرج عنها أو لم يخرج سواء كان رجوعه إليها من الميقات أو من فوق وهذا لأن المقصود بذلك تعظيم الحرم لشرفه وكرامته وذلك يستوى فيه كل داخل إليه ممن قربت داره أو بعدت ولهذا يستويان في وجوب الإحرام إذا أراد الحج أو العمرة

وأما نفس مجاوزة الميقات فليس بموجب للإحرام بدليل ما لو لم يقصد مكة وإنما قصد بعض أماكن الحل فأما إن قصدها من نفس الحرم فلا إحرام عليه لأن الحجيج يدخلونها من منى بعد أن حلوا الحل كله ولا إحرام عليهم واجب ولا مستحب ولأن الحرم كله شيء واحد فأشبه الانتقال في طرقات القرية ولأن ذلك فيه مشقة شديدة على القاطنين

فأما إن أراد بعض مواضع الحرم خارج مكة أو أراد أن يخترق الحرم ابن سبيل أو أراد أن يخترقها من غير مقام

فإن دخل مكة غير محرم لزمه قضاء هذا الإحرام نص عليه في رواية حرب قال قلت لأحمد فإن قدم من بلدة بعيدة تاجر فقدم مكة بغير إحرام قال يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج وإن كان في أيام الحج أهل بحجة

وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وابنه وأبو الخطاب وغيرهم

وذكر الشريف أبو جعفر أنه يثبت في ذمته الدم وهو إن لم يكن غلطا في النسخة فإنه وهم والله أعلم ولعل وجهه أنه ترك إحراما واجبا

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل في بعض المواضع وغيرهما من أصحابنا ليس عليه قضاء ولا دم ولا غير ذلك لأنها قربة مفعولة لحرمة المكان فوجب ألا تقضي كتحية المسجد ولأن الإحرام يراد للدخول فإذا حصل الدخول بدونه لم تشرع اعادته كالوضوء لصلاة النافلة ولأنها عبادة مشروعة بسبب فتسقط عند فوات السبب كصلاة الكسوف

فعلى هذا بأي شيء يسقط هل يسقط بدخول الحرم وهل يجب عليه أن يعود إلى الميقات فإن أحرم دونه

ووجه الأول أنه إحرام لزمه فإذا لم يفعله لزمه قضاؤه كالنذر المعين ولأن من وجب عليه عبادة فإنها لا تسقط بفوات وقتها بل عليه إعادتها كسائر الواجبات من الصوم والصلاة والهدي والأضحية وغيرذلك خصوصا الحج وهذا لأن الواجب الثابت في الذمة لا بد من فعله على أي حال كان إما في وقته وإما بعد وقته وعكسه ما لا يجب من النوافل على أنا نقول النوافل المؤقته تقضي وتحية المسجد على أنه قد يفرق بين من يستديم المكث وبين من يخرج فعلى هذا

فإن قيل فهو إذا رجع إلى الميقات لزمه إحرام آخر قلنا إنما يلزمه الدخول بإحرام سواء كان وجب عليه قبل ذلك أو لم يجب

فإن أدى بهذا الإحرام حجة الاسلام أو حجة منذورة في سنته أجزاء عنه من عمرة القضاء فيما ذكره أصحابنا وهو منصوصه في رواية أبي طالب فيمن دخل مكة بغير إحرام وهو يريد الحج فإن كان عليه وقت رجع إلى الميقات فأهل منه ولا شيء عليه وهذا لأنه كان مأمورا أن يدخل بإحرام ولو أنه للحج المفروض فإذا عاد ففعل ذلك فقد فعل ما كان مأمورا به ودخوله حلالا لا يوجب عليه دم كما لو جاوز الميقات غير المحرم ثم رجع فأحرم منه

وإن أخر الحج إلى السنة الثانية لم تجزه حجة الإسلام عنه ولزمه حجة أو عمرة ذكره القاضي وغيره لأن حجة في العام المقبل لا يسد مسد الإحرام في ذلك العام لأن الإحرام الذي لزمه بالدخول لا يؤدي به الحج في العام المقبل ويتخرج أن يجزءه لأن حجة الإسلام تسقط ما عليه من نذر وفاسد على إحدى الروايتين

وإن أحرم بالحج عما وجب بالدخول وقع عن حجة الإسلام وأما العمرة فمتى اعتمر فإن أحرم هذا بالعمرة أو بالحج بعد مجاوزة الميقات لزمه دم وإنما يستقر عليه القضاء بالدخول فلو رجع قبل أن يدخل لم يلزمه شيء الفصل الثاني

أن من دخل مكة لقتال مباح فإنه لا إحرام عليه نص عليه كما تقدم وإنما يجيء على أصلنا إذا كان هناك بغاة أو كفار أو مرتدة قد بدوا بالقتال فيها فأما إذا لم يبدأوا بقتال لم يحل قتالهم وذلك لما روى مالك عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه قال مالك ولم يكن رسول الله يومئذ محرما رواه الجماعة ولفظه متفق عليه

وعن جابر رضي الله عنه أن النبي دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام رواه مسلم والنسائي ورواه بقية الجماعة إلا البخاري ولم يقولوا بغير إحرام ولأن أصحاب النبي دخلوا عام الفتح كذلك بغير إحرام

فإن قيل فهذا خاص للنبي لأنه قال لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار

قيل الذي خص به جواز إبتداء القتال فيها ولما أبيح له ذلك ترك الإحرام فإذا أبيح نوع من القتال لغيره شركه في صفة الإباحة

وأيضا فإن من أبيح له القتال قد أبيح له بها سفك الدم الذي هو أعظم المحظورات فلأن تباح له سائر المحظورات أولى ولأنه يحتاج إلى الدخول بغير إحرام فأشبه الحطابة

وكذلك من دخلها خائفا لفتنة عرضت ونحو ذلك لما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر فرجع فدخل مكة بغير إحرام

وعن عبيد الله بن عمر عن نافع قال خرج ابن عمر من مكة يريد المدينة فلما بلغ قديدا بلغة عن جيش قدم المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام رواه سعيد

وهذا الجيش ولأن الخائف ولم يذكر القاضي ودخولها إلا لقتال مباح أو حاجة تكرر كما ذكره الشيخ ومقتضى كلامهم أن الخائف الذي لا يقاتل لا يدخلها إلا محرما وتأول القاضي فعل ابن عمر على أنه أحرم من دون الميقات ولم يحرم منه وإنما أحرم من دونه لأنه لم يقصده قصدا إبتداء وإنما تأول هذا لأنه بلغه أن ابن عمر دخل بغير إحرام ولو بلغه السياق الذي ذكرناه لم يتأول هذا التأويل

وأما من يتكرر دخوله إلى مكة كل يوم مثل الحطابين والرعاة ونحوهم فإن لهم أن يدخلوها بغير إحرام كما نص عليه لما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخلن انسان مكة إلا محرما إلا الجمالين والحطابين وأصحاب منافعها رواه حرب وهذا يقتضي لكونه ينتفعون به لا لتكراره لأن هؤلاء لو وجب عليهم الإحرام كلما دخلوا لشق عليهم مشقة عظيمة ولا بد لهم من مكة لتعلق مصالحهم بها وتعلق مصالح البلد بهم

قال أصحابنا وكذلك من كان من أهلها له صنعة بالحل يتردد إليها وكذلك الفيوج الذي يتكرر دخلوهم وحد التكرار قال حرب قلت لأحمد الرجل يدخل مكة بغير إحرام قال إذا كان من الحطابة وهؤلاء الذين يختلفون كل يوم فإنه لا بأس فقيده بيوم

فصل

وإنما يجب الإحرام على الداخل إذا كان من أهل وجوب الحج فأما العبد والصبي والمجنون فيجوز لهم الدخول بغير إحرام لأنه إذا لم تجب عليهم حجة الإسلام وعمرته فأن لا يجب ما هو من جنسه بطريق الأولى هكذا ذكره أصحابنا ابن أبي موسى والقاضي وغيرهم الفصل الثالث

أن من جاز له مجاوزة الميقات بغير إحرام إما لأنه لم يقصد مكة أو قصدها وهو ممن يجوز له دخلوها بغير إحرام كالمحارب وذي الحاجة المتكررة وغيرهم إذا أراد النسك بعد ذلك فإنه يحرم من موضعه وليس عليه أن يعود إلى الميقات في أشهر الروايتين

فصل

فأما الصبي والمجنون والعبد إذا دخلوا مكة بغير إحرام ثم أرادوا الحج بأن يأذن للصبي مولاه وللعبد سيده أو صاروا من أهل الوجوب فإنهم يحرمون بالحج من حيث أنشأوه ولا دم عليهم قال أحمد في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان في مملوك جاز المواقيت بغير إحرام منعه مواليه أن يحرم حتى وقف بعرفة قال يحرم مكانه وليس عليه دم لأن سيده منعه قال أحمد جيد حديث أبي رجاء عن ابن عباس لأنه جاز لهم مجاوزة الميقات بغير إحرام وإنما وجب عليهم الإحرام حين صاروا من أهل الوجوب فصاروا كالمكي ولأنهما لا يملكان الإحرام إلا باذن الولي وهذا فيما إذا دخلوا غير مريدين للنسك أو أراده ومنعهم السيد والولي من الإحرام فإن أذن لهما الولي في الإحرام من الميقات فلم يحرما لزمهما دم ذكره القاضي

وأما الكافر إذا جاوز الميقات أو دخل مكة ثم أسلم وأراد الحج ففيه روايتان

أحدهما عليه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه فإن تعذر ذلك أحرم من موضعه وعليه دم قال في رواية أبي طالب في نصراني أسلم بمكة يخرج إلى الميقات فيحرم فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم وهذا اختيار القاضي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم لأنه قد وجب عليه الإحرام وتمكن منه فإذا لم يفعله فعليه دم بتركه كالمسلم وذلك لأن الكافر يمكنه أن يسلم ويحرم وهو غير معذور في ترك الإسلام وإن كان لا يصح منه الإحرام في حال كفره فأشبه من ترك الصلاة وهو محدث حتى خرج الوقت

والرواية الثانية يحرم من موضعه ولا دم عليه قال في رواية ابن منصور في نصراني أسلم بمكة ثم أراد أن يحج هو بمنزلة من ولد بمكة وقال في رواية حنبل في الذمى يسلم بمكة يحرم من مكة أو من موضع أسلم وهذا اختيار أبي بكر وهذا لأنه لا يصح منه الإحرام فأشبه المجنون ولأنه إنما جاوز الميقات قبل الإسلام وقد غفر له ما ترك قبل الإسلام من الواجبات بقوله تعالى { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وبقوله الإسلام يجب ما قبله فصار بمنزلة العبد إذا عتق والصبي إذا بلغ سواء وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من ترك الصلاة محدثا فإنه هناك لا يسقط عنه ما تركه من الواجبات في حال حدثه وهنا يغفر له ما تركه في حال كفره حتى يخاطب بالوجوب من حين الإسلام

ولأن مكة قد استوطنها أقوام في الجاهلية من غير أهلها فإما أن يكونوا دخولها بغير إحرام أو بإحرام لا يصح ثم لما أسلموا لم يؤمروا أن يخرجوا إلى الميقات فيحرموا منه إلا أن يقال لا نسلم أنه استوطنها أفقي بعد فرض الحج الفصل الرابع

أنه إن جاوز الميقات غير هؤلاء وأرادوا النسك لزمهم أن يرجعوا إلى الميقات فيحرموا منه فيدخل في هذا كل من كان مقصوده الحج أو العمرة ومن كان مقصوده دخول مكة لتجارة أو زيارة ونحو ذلك

وإن قلنا يسقط الإحرام بالدخول أو قلنا ليس بواجب عليه فإنه إذا أراد الحج أو العمرة فإن عليه أن يخرج إلى الميقات فيحرم منه سواء كان الحج واجبا أو تطوعا قال ابن أبي موسى فأما المسلم يدخل مكة لتجارة بغير إحرام ثم يريد الحج فإنه يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن خشي الفوت أحرم من مكانه وكان عليه دم قولا واحدا ذكر ذلك بعد أن حكى في الذمى إذا أسلم بمكة الروايتين وقد نص على ذلك في رواية أبي طالب وإذا دخل مكة بغير إحرام فإن كان عليه وقت وأراد الحج رجع إلى الميقات فأهل منه ولا دم عليه فإن خاف الفوت أحرم من مكة وعليه دم

ومن دخل مكة والحج واجب عليه ولم يرده وهذا لأن الإحرام من الميقات واجب قد أمكن فعله فلزمهم كسائر الواجبات

وإذا رجعوا فأحرموا فلا دم عليهم لأنهم قد أتوا بالواجب وتلك المجاوزة ليست نسكا فإذا لم يتركوا نسكا ولم يفعلوا نسكا في غير وقته ولم يفعلوا في الإحرام محظورا فلا وجه لإيجاب الدم قال جابر بن زيد رأيت ابن عباس يردهم إلى المواقيت إذا جاوزوها بغير إحرام رواه سعيد

فإن ضاق الوقت بحيث يخافون من الرجوع فوت الحج أو لم يمكن الرجوع لتعذر الرفقة ومخافة الطريق ونحو ذلك فإنه لا يجب عليهم الرجوع فيحرمون من موضعهم وعليهم دم

وكذلك لو أحرموا من دونه مع إمكان العودة فعليهم دم لأن ابن عباس ولا يسقط الدم بعودهم إلى الميقات

مسألة والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات فإن فعل فهو محرم

مذهب أحمد أن الأفضل أن لا يحرم بالحج ولا بالعمرة حتى يبلغ الميقات قال في رواية الأثرم وقد سئل أيما أعجب إليك يحرم من الميقات أم قبل فقال من الميقات أعجب إلي

قيل له وسئل في رواية ابن منصور إنهم كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات فقال وجه العمل المواقيت

وكذلك قال عبد الله قرأت على أبي كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات فقال وجه العمل المواقيت

وقال في رواية محمد بن الحسن بن هارون إذا أحرم الرجل أحرم من ميقات أعجب إلي ولا يحرم من قبل الميقات فإن أحرم قبل الميقات انعقد إحرامه قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم

قال بعض أصحابنا يكره الإحرام قبل الميقات وقال أكثرهم لا يكره وهو المنصوص عنه قال حرب قلت لأحمد الرجل يحرم قبل الميقات قال قد فعل ذلك قوم وكأنه سهل فيه

وقال في رواية صالح إن قوي على ذلك أرجو أن لا يكون فيه بأس

وذلك لأن النبي حج حجة الوداع هو وعامة المسلمون واعتمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء هو وخلق كثير من أصحابه وفي كل ذلك يحرم هو والمسلمون من الميقات ولم يندب أحدا إلى الإحرام قبل ذلك ولا رغب فيه ولا فعله أحد على عهده فلو كان ذلك أفضل لكان أولى الخلق بالفضائل أفضل الخلائق وخير القرون ولو كان خير لسبقونا إليه وكانوا به أولى وبفضل لو كان فيه أحرى ولندب رسول الله إلى ذلك كما ندب إلى جميع الفضائل إذ هو القائل وما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد أمرتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد نهيتكم عنه

فإن قيل فعل ذلك لأنه أيسر فتقتدي الأمة به وقد يختار غير الأفضل للتعليم قيل قد أحرم عدة مرات مع أن العمرة لا تجب إلا مرة فقد كان الجواز والبيان يحصل بمرة واحدة فلما أحرم فيها كلها على وجه واحد علم أنه أحب إلى الله

ولأنه قد كرر العمر مع أنه ليس عليه إلا عمرة واحدة فزيادة موضع الإحرام لو كان فيه فضل أولى من ذلك وأيسر

ولأن ذلك إنما يكون في الفعل الذي يتكرر فيفعل المفضول مرات لبيان الجواز كالصلاة في آخر الوقت فأما مالا يفعله إلا مرة واحدة فما كان الله ليختار لرسوله أدنى الأمرين ويدخر لمن بعده أفضلهما وفاعل هذا وقائله يخاف عليه الفتنة

وقد سئل مالك عمن أحرم قبل الميقات فقال أخاف عليه الفتنة قيل له وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة أميال فقال وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بأمر لم يفعله رسول الله ثم لو كان الفضل في غير ذلك لبينه للمؤمنين ولدلهم عليه إذ هو أنصح الخلق للخلق وأرحم الخلق بالخلق كما دلهم على الأعمال الفاضلة وإن كان فيها مشقة كالجهاد وغيره

وكونه أيسر قد يكون مقتضيا لفضله كما أن صوم شطر الدهر أفضل من صيامه كله وقيام الليل أفضل من قيامه كله والتزوج وأكل ما أباحه الله أفضل من تحريم ما أخل الله والله عز وجل يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته

وأيضا فإن قوله يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وقول الصحابة وقت رسول الله لأهل المدينة من ذي الحليفة أمر بالإهلال من هذه المواقيت وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن يكون تركها أفضل

وأيضا ما روي عن أبي سورة عن أبي أيوب قال قال رسول الله ليستمتع أحدكم بحلة ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في حرمته رواه أبو كريب وأبو يعلي الموصلي وقد روى الترمذي وابن ماجة بمثل إسناده لكن أبو سورة ضعفوه

وأيضا فإن المكان أحد الوقتين فلم يكن الإحرام قبله مستحبا كالزمان ولأن الأصل أن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمرات ونحو ذلك لا يشرع كالنقص منه فإذا لم تكن الزيادة مكروهة فلا أقل من أن لا يكون فيها فضل وأيضا فإن الترفه بالحل قبل الميقات رخصة كالأكل بالليل في زمان الصوم والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته

وأيضا فإن في زيادة الإحرام على ما وجب تعريضا لأخطار من مواقعة المحظورات وملاله النفس فكان الأولى السلامة كما سئل ابن عباس عن رجل قليل الطاعة قليل المعصية ورجل كثير الطاعة كثير المعصية فقال لا أعدل بالسلامة شيئا وطرد هذا عند أصحابنا أنه لا يستحب الإحرام بالحج للمتمتع قبل يوم التروية وإنما اسحببنا للمعتمر أن يخرج إلى المواقيت فيحرم منها لأنه ميقات شرعي

فإن قيل فقد قال الله { وأتموا الحج والعمرة لله } قال علي وابن مسعود تمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله يقول من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد وفي لفظ له من أحرم من بيت المقدس غفر له ما تقدم من ذنبه وأبو داود ولفظه ومن أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك الراوي وابن ماجه ولفظه من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب

وقد أحرم جماعة من الصحابة من فوق المواقيت فعن ابن عمر أنه أحرم عام الحكمين من بيت المقدس وعنه أنه أحرم من بيت المقدس بعمرة ثم قال بعد ذلك لوددت أني لو جئت بيت المقدس فأحرمت منه

وعن أنس بن مالك أنه أحرم من العقيق رواهما سعيد وقد قيل أهل ابن عباس من الشام وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية وقال إبراهيم كانوا يحبون أول ما يحج الرجل أو يعتمر أن يحرم من أرضه التي يخرج منها ولأن الإحرام عبادة وتركه عادة والعبادات أفضل من العادات

قيل أما أثر علي رضي الله عنه فقد رواه سعيد وحرب وغيرهما عن عبد الله بن سلمة عن علي أن رجلا سأله عن هذه الآية { وأتموا الحج والعمرة لله } قال إن اتمامها أن تحرم من دويرة أهلك قال حرب سمعت أحمد يقول قال سفيان بن عيينة في تفسير الحديث أن تحرم من دويرة أهلك قال هو أن ينشيء سفرها من أهله وقال أحمد في رواية ابن الحكم وقد سئل عن الحديث أن تحرم من دويرة أهلك قال بشيء لها سفرا من أهله كأنه يخرج للعمرة عامدا كما يخرج للحج عامدا وهذا مما يؤكد أمر العمرة والذي يدل على هذا التفسير ما روى عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه قال أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألته عن تمام العمرة فقال أئت عليا فسله فعدت فسألته فقال ائت عليا عليه السلام فسله فأتيت عليا فقلت إني قد ركبت الخيل والإبل والسفن فأخبرني عن تمام العمرة فقال تمامها أن تنشئها من بلادك فعدت إلى عمر فسألته فقال ألم أقل لك ائت عليا فسله فقلت قد سألته فقال تمامها أن تنشئها من بلادك قال هو كما قال رواه سعيد وذكره أحمد وقال قال علي أحرم من دويرة أهلك فقد توافق عمر وعلي رضي الله عنهما على أن تمامها أن ينشئها من بلدة فيسفار لها سفرا مفردا كسفر الحج كما فعل النبي حين أنشأ لعمرة الحديبية والقضية سفرا من بلدة وهذا مذهبنا فإن العمرة التي ينشيء لها سفرا من مصره أفضل من عمرة المتمتع وعمرة المحرم والعمرة من المواقيت وهذا هو الذي كان يقصده عمر بنهيهم عن المتعة أن ينشؤا للعمرة سفرا آخرا

فأما أن يراد به الدخول في الإحرام من المصر فكلا لأن عمر قد زجر عن ذلك وعلي لم يفعله قط هو ولا أحد من الخلفاء الراشدين بل لم يفعله رسول الله فكيف يكون التمام الذي أمر الله به لم يفعله رسول الله ولا أحد من خلفائه ولا جماهير أصحابه

وقوله أن تحرم من أهلك كما يقال تحج من أهلك وتعتمر من أهلك لمن سافر سفر الحج وإن كان لا يصير حاجا ولا معتمرا حتى يهل بهما كما قال النبي لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله ولهذا كره جماعة من السلف أن يطلق عليه ذلك قال عبد الله بن مسعود من أراد منكم هذا الوجه فلا يقولن إني حاج ولكن ليقل اني وافد فإنما الحاج المحرم وفي رواية عنه لا يقول أحدكم إني حاج وإنما الحاج المحرم ولكن يقول أريد الحج ولا يقولن أحدكم إني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة

وعن عاصم الأحول قال سمعت أنسا يقول لا تقل إني حاج حتى تهل ولكن لتقل إني مسافر فذكرت ذلك لأبي العالية فقال صدق أنس أو ليس إن شاء رجع من الطريق رواهما سعيد

تقديره أن تقصد الإحرام والإهلال من أهلك من أهلك وتنشيء سفرهما من أهلك

وأما حديث بيت المقدس فقد قيل هو مخصوص به فيكون الإحرام من بيت المقدس أفضل خصوصا لأنه يعمر ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بالعبادة وهما أولى مساجد الأرض وبينهما كان مسرى رسول الله وهما القبلتان ومنهما المبدأ والمعاد فإن الأرض دحيث من تحت الكعبة وتعاد من تحت الصخرة وعامة الأنبياء الكبار بعثوا من بينهما ويدل على ذلك إهلال ابن عمر منه ولم يفعل ذلك في حجة وعمرته من المدينة

وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور إن الإحرام من الميقات أفضل من بيت المقدس وكذلك ذكر القاضي وغيره من أصحابنا ثم منهم من ضعف الحديث

وتأوله القاضي على أن ينشيء السفر من بيت المقدس ويكون الإحرام من الميقات وفيه نظر

وأما من أحرم من الصحابة قبل المواقيت فأكثر منهم عددا وأعظم منهم قدرا لم يحرموا إلا من المواقيت وقد أنكروه بالقول فروى الحسن أن عمران ابن حصين أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله أحرم من مصره

وعن الحسن أن عبد الله بن عامر أحرم من خرسان فلما قدم على عثمان رضي الله عنه لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد قال البخاري وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خرسان أو كرمان

وفي رواية في حديث عمران فقدم على عمر فأغلظ له وقال يتحدث الناس أن رجلا من أصحاب النبي أحرم من مصر من الأمصار

وعن مسلم أبي سلمان أن رجلا أحرم من الكوفة فرأى عمر سيء الهيئة فأخذ بيده وجعل يديره في الخلق ويقول انظروا إلى هذا ما صنع بنفسه وقد وسع الله عليه

وعن أبي ذر قال استمتعوا بثيابكم فإن ركابكم لا تغني عنكم من الله شيئا رواهن النجاد

مسألة وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة

هذا نصه ومذهبه قال في رواية عبد الله أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وقال في رواية

ويوم النحر من أشهر الحج وهو يوم الحج الأكبر نص عليه في رواية حرب وأبي طالب لما روى أبو الأحوص عن عبد الله قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم

وعن ابن الزبير في قوله { الحج أشهر معلومات } قال شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة رواه سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم وعن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله { الحج أشهر معلومات } وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة جعله الله للحج وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عنه وعن الضحاك عن ابن عباس قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه الدارقطني

وعن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والدارقطني وفي لفظ وعشر ذي الحجة وذكره البخاري في صحيحه وهذا قول الشعبي والنخعي ومجاهد والضحاك وعطاء والحسن ومرادهم بعشر من ذي الحجة عشر ذي الحجة بكماله كما قد جاء في روايات أخرى

وعشر ذي الحجة اسم لمجموع الليالي وأيامها فإن يوم النحر من عشر ذي الحجة ولهذا قال النبي ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر وقال تعالى { وليال عشر } ويوم النحر داخل فيها وقال تعالى { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } ويوم النحر هو آخر الأربعين ولفظ العشر وإن كان في الأصل اسما للمؤنث لأنه بغير هاء فإنما دخل فيه اليوم لسببين

أحدهما أنهم في التاريخ إنما يؤخرون بالليالي لأنها أول الشهر الهلالي وتدخل الأيام تبعا ولهذا لو نذر اعتكاف عشر ذي الحجة لزمه اعتكاف يوم النحر

الثاني أنه قد يجيء هذا في صفة المذكر بغير هاء لقول النبي من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال وقوله من هذه الأيام العشر

وأيضا فإن يوم النحر يوم الحج الأكبر

وأيضا فإن أشهر الحج هي الأشهر التي سن الله فيها الحج وشرعه والحج له إحرام وإحلال فأشهره هي الوقت الذي يسن فيه الإحرام به والإحلال منه وأول وقت شرع الإحرام فيه بالحج شوال والوقت الذي يشرع فيه الإحلال يوم النحر وما بعد يوم النحر لا يشرع التأخير إليه وليلة النحر لا يسن التعجيل فيها كما لا يسن الإحرام بالحج قبل أشهره

وأيضا فإن هذه المدة أولها عيد الفطر وآخرها عيد النحر والحج هو موسم المسلمين وعيدهم فكأنه جعل طرفي وقته عيدين

فإن قيل فقد روى عروة ابن الزبير قال قال عمر بن الخطاب { الحج أشهر معلومات } قال شوال وذو القعدة وذو الحجة { فمن فرض فيهن الحج } قال عمر بن الخطاب لا عمرة في أشهر الحج فكلم في ذلك فقال إني أحب أن يزار البيت إذا جعلت العمرة في أشهر الحج لم يفد الرجل إذا حج البيت أبدا

وعن التميمي عن ابن عباس قال شوال وذو القعدة وذو الحجة ذكره البخاري وعن مجاهد عن ابن عمر قال شوال وذو القعدة وذو الحجة رواهن سعيد قبل ليس بين الروايتين إختلاف في المعنى كما يقال قد مضى ثلاثة أشهر وإن كان قبل ذلك في أثناء الشهر الثالث ويقال له خمسون سنة وإن كان لم يكملها فكثير ما يعبر السنين والشهور والأيام عن التام منها والناقص فمن قال وذو الحجة أنه من شهور الحج في الجملة ومن قال وعشر ذي الحجة فقد بين ما يدخل منه في شهور الحج على سبيل التحديد والتفصيل

فإن قيل فقد قال { الحج أشهر معلومات }

قلنا الشهران وبعض الثالث تسمى شهورا لا سيما إذا كانت بالأهلة

وذكر القاضي أن فائدة هذه المسألة اليمين وليس كذلك وهذا التحديد له فائدة في أول الأشهر وهو أنه لا يشرع الإحرام بالحج قبلها وأن الأفضل أن يعتمر قبلها وهي عمرة رمضان وأنه إن اعتمر فيها كان متمتعا وقبل ذلك هو وقت الصيام فإذا انسلخ دخل وقت الإحرام بالحج

ومن فوائده أنه لا يأتي بالأركان قبل أشهره فلو أحرم بالحج قبل أشهره وطاف للقدوم لم يجزه سعي الحج عقيب ذلك لأن أركان العبادة لا تفعل إلا في وقتها وفائدته في آخر الأشهر أن السنة أن يتحلل من يوم النحر فلا يتقدم قبل ذلك ولا يتأخر عن ذلك فإنه أكمل وأفضل

وذكر ابن عقيل أن طواف الزيارة في غير أشهر الحج مكروه

فصل والإحرام بالحج قبل أشهره مكروه

قال في رواية ابن منصور إذا أهل بالحج في غيره أشهره فهو مكروه قال القاضي أود بهذا كراهة تنزيه وقال في موضع آخر ميقات المكان ضرب لئلا يتجاوز قبل الإحرام وميقات الزمان ضرب لئلا يتقدم عليه بالإحرام فإن خالف وتجاوز انعقد إحرامه مكروها وكذلك إذا خالف في ميقات الزمان يجب أن ينعقد مكروها

ومن أصحابنا من يقول يستحب أن لا يستحب أن لا يحرم بالحج قبل أشهره وذكر ابن عقيل هل يكره الإحرام بالحج قبل أشهره على روايتين

إحداهما لا يكره كالإحرام قبل ميقات المكان وإن كان الأفضل أن يحرم من الميقات فيهما

والثانية يكره لأنه ركن فكره فعله في غير أشهر الحج كطواف الزيارة والصواب الأول ولم يذكر القاضي في الكراهة خلافا لأن الله تعالى قال { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج } ومعناه أشهر الحج أشهر معلومات أولهما شوال فلا بد أن يكون لهذا التوقيت والتحديد فائدة ولا يجوز أن يكون هذا التوقيت لأجل الوقوف والطواف لأن الوقوف لا يكون إلا في يوم واحد اخر هذه المدة والطواف إنما يكون بعده فلا يجوز أن يؤقت بأول شوال فعلم أن التوقيت للإحرام ولأن الحج اسم للإحرام والوقوف والطواف والسعي فيجب أن تكون هذه الأشهر مواقيت لجميع ذلك وإذا كان وقتا لها لم يكن تقديمه قبل الوقت مشروعا لأن التوقيت لا يكون لمجرد الفضيلة بدليل الصلاة في أول الوقت فإنها أفضل من الصلاة في اخره ولا يجعل ذلك هو وقتها

وأيضا قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق } خص الفرض بهن فعلم أنه في غيرهن لا يشرع فرضه

وأيضا ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر وعن ابن عباس قال من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ذكره البخاري في صحيحه ورواه النجاد

والصحابي إذا أطلق السنة انصرف ذلك إلى سنة رسول الله وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الرجل أيهل بالحج قبل أشهر الحج فقال لا رواه الشافعي والدارقطني ورواه النجاد ولفظه لا يحرم المحرم إلا في أشهر الحج وعن عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وإبراهيم أنهم كانوا يكرهون أن يحرم الرجل بالحج في غير أشهر الحج ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة ولا التابعين

فإن قيل فقد روي عن علي وعبد الله أنهما قالا إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك وإذا كانت داره بعيدة لم يحرم إلا قبل أشهر الحج

قلنا قد فسرناه بأن المراد به إنشاء السفر لهما ولو كان المراد نفس الدخول في الحج فهذا لأن غالب ديار الإسلام يتأتي الإحرام منها في أشهر الحج

فإن خالف وأحرم بالحج قبل أشهره فإنه ينعقد الإحرام بالحج في أشهر الروايتين قال أحمد في رواية أبي طالب وسندي من أحرم بالحج في غير أشهر الحج لزمه إلا أن يريد فسخه بعمرة فله ذلك قال القاضي فقد نص على انعقاده وأجاز له فسخه إلى العمرة بناء على أصله في جواز فسخ الحج إلى العمرة

فعلى ما قاله القاضي إن فسخه بعمرة قبل أشهر الحج لم يلزمه دم لأنه ليس بتمتع وعليه من تلك السنة لأن فسخ الحج إلى العمرة إنما يجوز بشرط أن يحج من عامه ذلك وكذلك قال ابن أبي موسى من أهل بالحج قبل أشهر الحج أحببنا له أن يجعلها عمرة فإذا حل منها أنشأ الحج فإن لم يفعل وأقام على إحرامه لما أهل به إلى أن أتى الحج أجزأه وقد تحمل مشقة

والأشبه والله أعلم أن مقصود أحمد أنه يفسخه بعمرة لا لأجل فضل التمتع بل لأن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه فيتخلص بفسخه إلى العمرة من المكروه وإن لم يحج

والرواية الثانية لا ينعقد الإحرام بالحج قبل أشهره رواها هبة الله الطبري واختارها القاضي أبو يعلى الصغير فعلى هذا هل ينعقد بعمرة ذكر القاضي أبو يعلى هذا فيه وجهين أحدهما لا ينعقد بعمرة لأنه لم يقصده ولا بحج لأن وقته لم يدخل كما قلنا فيمن أحرم بالنفل قبل الفرض أو عن غيره قبل أن يحج عن نفسه في الرواية التي اختارها أبو بكر

والثاني وهو المشهور أنه ينعقد بعمرة وقد قال أحمد في رواية عبد الله إذا أحرم بالحج قبل أشهره يجعلها عمرة وفسره القاضي بأنه يفسخ الحج إلى العمرة وكذلك قال ابن أبي موسى يستحب لمن أحرم بالحج قبل أشهره أن يجعلها عمرة ويفرغ منها ويحرم بالحج في أشهره

والأشبه أن أحمد إنما قصد بهذا أن يعتقد أنها عمرة ويتمها بعمل عمرة لأنه روي عن عطاء من غير وجه فيمن أهل بالحج قبل أشهره قال يجعلها عمرة وفي رواية إجعلها عمرة فإن الله تعالى يقول { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج } ومذهبه أن نفس الإحرام بالحج ينعقد عمرة فالأظهر أن أحمد إنما قصد الأخذ بقول عطاء فتكون هذه الرواية الثانية وذلك لأن الإحرام بعض الحج وجزء منه ودليل ذلك أنه بدخوله فيه يسمة حاجا أو معتمرا وأنه يلزم بالشروع فيه وأن العمرة للشهر الذي يهل فيه لا الشهر الذي يحل فيه وأنه يجب عليه به السعي إلى الحج في الوقت الذي يدرك الوقوف فلا يجوز له تفويت الحج وإذا كان كذلك لم يجز فعله قبل وقت العبادة كسائر الأبعاض وكنية الصلاة ونحوها ولأن الله تعالى قال { فمن فرض فيهن الحج } فخص الفرض فيهن بالذكر فعلم أن حكم ما عداه بخلافه ولأن هذا مخالف للسنة وقد قال النبي من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

وإذا لم ينعقد الحج ولم يكن سبيل إلى بطلان الإحرام فإنه لا يقع إلا لازما موجبا إنعقد موجبا لعمرة كمن أحرم بالفرض قبل وقته فإنه ينعقد نفلا

وأيضا فإنه لو جاز الإحرام قبل أشهر الحج لوجب أن يحرم بالحج في هذا العام وقف بعرفة في العام المقبل

ووجه الأول أن الشروع في الإحرام يوجب إتمامه كما أن النذر يوجب فعل المنذور فإذا أحرم بالحج لزمه إتمامه كما لو نذره وكونه مكروها لا يمنع لزوم الوفاء به كما أن عقد النذر مكروها ويجب الوفاء به ثم النذر يوجب فعل المنذور وكذلك الإحرام يوجب فعل ما أحرم به

وأيضا فإن أكثر ما فيه أن إحرامه بالحج قبل أشهره غير جائز وهذا لا يمنع لزومه وانعقاده على الوجه الذي عقده كما لو عقده وهو لابس عالما ذاكرا فإن ذلك لا يحل له ومع هذا ينعقد إحرامه صحيحا موجبا للدم بل لو عقده وهو مجامع إنعقد إحراما فاسدا فوجب المضي فيه والقضاء له والهدي نعم هؤلاء وجب عليهم دم لما فعلوه من المحظور لأنهم نقصوا الإحرام وهذا لم ينقصه وإنما زاد عليه فأسوأ أحواله أن يجعل المزيد كالمعدوم وأيضا فإن الإحرام قبل أشهر الحج إحرام في أشهر الحج وزيادة على الإحرام المشروع فإنه يبقى محرما إلى حين الوقوف والطواف والزيادة على المناسك قبلها أو بعدها وإن لم تكن مشروعة فإنها لا تقدح في القدر المشروع كما لو وقف بالمعرف قبل وقته أو أقام به إلى نصف ليلة النحر أو طاف ليلة النحر أو طاف أكثر من أسبوع بالبيت وبين الصفا والمروة أو رمي الجمار بأكثر من سبع حصيات أو بات بمنى بعد لياليها وإذا لم يكن ذلك قادحا في الإحرام الواقع في أشهر الحج فيكون إحراما صحيحا قد التزمه فيلزمه ذلك الإحرام وإذا لزمه ذلك الإحرام لزمه ما قبله لأنه لا يمكن الحكم بصحته إلا بصحة ما قبله ولزومه يبين ذلك ويوضحه أن الصبي والعبد لو أدركا الوجوب وهما بعرفة صح إتمام الحج بما وجد من الإحرام بعد الوجوب وكان بعض هذا الإحرام مجزءا عن الواجب وبعضه ليس مجزءا عنه وإنما يصح المجزيء منه بصحة غير المجزيء فلذلك يجوز أن يبني المشروع منه على غير المشروع جعلا لما وجد قبل الوقت والوجوب وجوده كعدمه ما لم يقع فاسدا

وبهذا يظهر الفرق بين الإحرام وبين سائر أجزاء العبادات فإنها إنما لم تجزيء لكون الجزء المفعول قبل الوقت واجب بكل حال وفعل الواجب قبل وقته غير جائز لأنه يكون وجوده كعدمه وعدم الواجب في العبادة يبطلها وهنا الإحرام الموجود قبل الوقت إذا كان وجوده كعدمه فعدمه لا يؤثر

وأيضا فإنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام المتقدم عليه كالميقات المكاني وذلك لأن الحج مخصوص بزمان ومكان والوقوف والطواف أخص مكانا وزمانا من الإحرام فإن الإحرام يتقدم عليهما في مكانه وزمانه ومن السنة أن لا يحرم بالنسك قبل مكان الإحرام فلو أحرم به إنعقد فكذلك إذا أحرم به قبل زمانه

قال بعض أصحابنا وميقات الزمان جميعه بمنزلة البقعة التي يشرع الإحرام منها له أن يحرم من أولها وآخرها وليس له أن يتأخر عنها وإن تقدم انعقد لكن بينهما فرق وهو ميقات المكان نهى عن التأخر عنه وإن تأخر انعقد ولزمه دم لأن ذلك نقص لبعض النسك وميقات الزمان إذا أخره عن وقت جوازه فات الحج فلم ينعقد وإن كان التقدم في الزمان مكروها لأن من أراد أن يقطع الوقت بالإحرام فإنه يمكنه أن يحرم بالعمرة بخلاف المكان وأيضا فإنه قد التزم الحج فإن جعلناه التزاما صحيحا وجب أن يتمه كما التزمه وإن كان فاسدا فلا شيء عليه أما العمره فلم يقصدها ولم ينوها وهي بعض ما التزمه أو هي مخالفة له فكيف تقوم مقام الحج

وقد احتج جماعة من أصحابنا وغيرهم بقوله { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } قالوا وهذا عام في جمع الأهلة فيقتضي أن تكون جميعا ميقاتا للحج وهذا غلط محقق لأن الهلال إنما يكون وقتا للشيء إذا اختلف حكمه به وجودا وعدما مثل أن تنقضي به العدة أو يحل به الدين أو يجب به الصوم أو الفطر ونحو ذلك فلو كان جميع العام وقتا للإحرام بالحج لم تكن الأهلة ميقاتا للحج كما لم تكن ميقاتا للنذر ولا ميقاتا لسائر الأشياء التي تفعل في جميع الأزمنة بل هذه الآية دالة على أن الحج مؤقت بالأهلة ومحال أن يكون مؤقتا بكل واحد من الأهلة فعلم أن المراد أن جنس الأهلة ميقات للحج كما قال { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } والجنس يحصل بهلال واحد وباثنين وثلاثة فأفادت الآية أن الأهلة ميقات للحج يعلم جوازه بوجودها في الجملة وذلك حق فإن الحج إنما يكون لهلال خاص وهو هلال ذي الحجة

ويجوز أن يراد أن مجموع أهلة السنة وقت للحج فإن الحج إنما يدخل وقته عند انتهاء الاثنى عشر ويجوز أن يراد بعضها ميقات للناس وبعضها ميقات للحج ويجوز أن يراد

وأما قوله سبحانه { فمن فرض فيهن الحج } فهو دليل على أن فرضه قبلهن غير مشروع إن لم يكن قوله { فيهن } متعلقا بالحج

وأما كونه خلاف السنة فصحيح لكن ذلك لا يمنع الانعقاد

وأما كون الإحرام ركنا للحج وبعضا منه فقد إختلفت عبارة أصحابنا في ذلك فزعم طائفة من متأخريهم أنه شرط للحج وليس بركن له والشروط تفعل قبل وقت العبادة كالطهارتين والستارة قالوا ولهذا يجب استصحابه في جميع الحج والركن إنما يفعل بعد إنقضاء الركن كالوقوف والطواف والركوع والسجود

وأكثر فقهاء أصحابنا يجعلونه ركنا ثم قال القاضي وغيره كونه ركنا لا يوجب إختصاص جوازه بأشهر الحج كالطواف فإنه يجوز تأخيره عن أشهر الحج فنقول ركن في طرف الحج فجاز فعله في غير وقته كالطواف وعكسه الوقوف فإن ركن في وسط الحج وقياسه بالطواف أولى لأن ذاك تأخير وهذا تقديم

ولأن الطواف لا يفعل إلا في وقت واحد والإحرام يدوم ويستمر في أشهر الحج وفي غير أشهره وهذا أشبه بأصولنا فإن العمرة عندنا للشهر الذي يحرم منه ولو كان شرطا مختصا لم يصح ذلك نعم هو يشبه النية لأنه به ينعقد الحج ويلزم وبه يدخل في الحج كما يدخل بالنية في الصلاة والنية منها ما يتقدم وقت العبادة كالصوم ومنها مالا يتقدم كالصلاة وتحقيقه أن له شبها بالشرائط وشبها بالأركان والأصول لا يقاس بعضها ببعض كما أن الحج لا يقاس بغيره من العبادات

فإن قيل إذا قلتم ينعقد وله فسخه إلى عمرة يحج بعدها فهذا ظاهر أما أنه ينعقد ويفسخه إلى عمرة من غير حج ويكون ذلك أفضل من تمام حجة فكيف هذا

قلنا فسخ الحج إلى العمرة يجوز لغرض صحيح وهو تحصيل ما هو أفضل من حجة مفردة فلما كان تحصيل عمرة يتمتع بها وحجة أفضل من حجة مفردة جاز له الفسخ لذلك وهنا إحرامه بعمرة قبل أشهر الحج يأتي بها من غير حج أفضل من حجة يحرم بها قبل أشهر الحج لأن هذا مكروه مع كثرته وذاك لا كراهية فيه فإذا انتقل إلى ما هو أفضل كان له ذلك وإذا أقام على إحرامه بالحج إلى أن تدخل أشهر الحج فهنا ينبغي أن لا يكون له الفسخ إلا إلى متعة

فصل

ومتى أحرم بالحج فعليه أ يحج تلك السنة وليس له أن يؤخر الحج إلى العام المقبل حتى لو بقى محرما حتى فاته الحج لم يجز له أن يستديم الإحرام إلى العام المقبل وإن جوزنا الإحرام قبل لأن الإحرام يوجب فعل الحج ذلك العام فإذا فإنه لم يجز أن يؤدي بهذا الإحرام حجة أخرى

فصل

وأما العمرة فيحرم بها متى شاء لا تختص بوقت لأن أفعالها لا تختص بوقت فأولى أن لا يختص إحرامها بوقت قال أصحابنا لا يكره في شيء من السنة بل له أن يحرم في أيام الحج وله أن يبقى محرما بالعمرة السنة والسنتين قال أحمد في رواية أبي الحارث يعتمر الرجل متى شاء في شعبان أو رمضان

وهذا فيمن لم يبق عليه شيء من أعمال الحج فأما إذا تحلل من الحج وبقي عليه الرمي لم ينعقد إحرامه بالعمرة وإن نفر النفر الأول

وقد قال أحمد في رواية ابن إبراهيم فيمن واقع قبل الزيارة يعتمر إذا انقضت أيام التشريق قال القاضي وظاهر هذا أنه لم ير العمر في أيام التشريق والمذهب على ما حكيناه لأنه قد قال في رواية الأثرم العمرة بعد الحج لا بأس بها عندي وهذه الرواية تحتمل ما قاله القاضي وتحتمل أن الحاج نفسه لا يعتمر إلا بعد أيام التشريق لأنها من تمام الحج وقد روى النجاد عن عائشة أنها قالت العمرة في السنة كلها إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق وفي لفظ حلت العمرة الدهر إلا ثلاثة أيام يوم النحر ويومين من أيام التشريق وهذا يقتضي أنما كره ذلك لآجل التلبس بالحج

باب الإحرام[عدل]

مسألة من أراد الإحرام إستحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين

وجملة ذلك أنه يستحب الاغتسال قبل الإحرام للرجل والمرأة سواء كانت طاهرا أو حائضا قال أحمد في رواية صالح ويغتسل الرجل والمرأة إذا أرادا أن يهلا ويغتسلان إذا أرادا أن يدخلا الحرم فإن لم يفعلا فلا بأس وقال في رواية عبد الله والحائض إذا بلغت الميقات فتغتسل وتصنع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة ولا تدخل المسجد أعجب إلي لما روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي تجرد لإهلاله واغتسل رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب والدارقطني وعن عائشة قالت كان رسول الله إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وإشنان ودهنه بزيت غير كثير وعن ابن عمر قال من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم وإذا أراد أن يدخل مكة رواهما الدارقطني وروى أيضا عن ابن عباس قال اغتسل رسول الله ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيرة فلما استوى به على البيداء أحرم بالحج وفيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح وقد تكلم فيه

وأما الحائض والنفساء فروى خصيف عن مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي أن النفساء أو الحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت وفي لفظ أن النبي قال الحائض والنفساء إذا أتيا على الوقت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت حتى تطهر رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه

وعن عائشة قالت نفست أسماء بمحمد بن أبي بكر بالشجرة فأمر رسول الله أبا بكر أن يأمرها أن تغتسل وتهل رواه مسلم والترمذي وكذلك في حديث جابر أن أسماء بنت عميس نفست بذي الحليفة فأمر رسول الله أبا بكر فأمرها أن تغتسل وتهل رواه مسلم وغيره وعن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد ابن أبي بكر بالبيداء فذكر أبو بكر لرسول الله فقال رسول الله مرها فلتغتسل ثم لتهل رواه مالك وأحمد والنسائي وإذا رجت الحائض والنفساء أن تطهر أقامت حتى إذا طهرت اغتسلت إذا اتسع الزمان هكذا ذكر أصحابنا القاضي وابن عقيل وليس هذا الغسل واجبا نص عليه وقيل إن بعض المدنين يقول من ترك الإغتسال فعليه دم لقول النبي لأسماء وهي نفساء إغتسلي فكيف الطاهر فأظهر التعجب من هذا القول وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل أجزأه وذلك لما روي عن ابن عمر أنه توضأ مرة في عمرة اعتمرها ولم يغتسل وكان في عمرة إذا أتى ذا الحليفة تجرد واغتسل رواهما سعيد

وإن لم يكن هناك ماء فهل يتيمم على وجهين ويقال روايتين إحداهما يتيمم قاله القاضي وابن عقيل

فصل

وأما التنظيف فالمراد به أن يجز شاربه ويقلم أظفاره وينتف إبطه ويحلق عانته إن احتاج إلى شيء من ذلك ويزيل شعثه وقطع الرائحة

قال أحمد في رواية المروذي فإذا أردت أن تحرم فخذ من شاربك وأظفارك واستحد وانتف ما تحت يدك وتنظف واغتسل إن أمكنك وتوضأ وضوءك للصلاة فإن وافقت صلاة مكتوبة صليت وإلا فصل ركعتين فإن أردت المتعة فإنها آخر الأمرين من رسول الله لقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فلم يحل لأنه ساق الهدي وأبو عبد الله يختارها فقل اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وأعني عليها تسر ذلك في نفسك مستقبل القبلة وتشترط عند إحرامك تقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وإن شئت أهللت على راحلتك

وذكر في الإفراد والقران نحو ذلك إلا أنه قال فقل اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني لبيك اللهم عمرة وحجا فقل كذلك ولم يذكر في المتعة والقران لفظه في التلبية ثم قال وإن شاء تطيب قبل أن يحرم ويغتسل المحرم إن شاء قبل دخول الحرم وذلك لأن هذه عبادة فاستحب أن يدخل فيها بنظافة كغيرها لا سيما وهو ممنوع من ذلك بعد الإحرام فإن أراد أن يأخذ من شعر رأسه بالجز ونحوه فهل يكره رخص فيه عمر والحجازيون وكرهه

فصل

وأما التطيب فقد قال في رواية المروذي وإن شاء تطيب قبل أن يحرم وقال عبد الله سألت أبي عن المحرم الطيب أحب إليك له أم ترك الطيب قال لا بأس إن يتطيب قبل أن يحرم ونذهب فيه إلى حديث عائشة وكذلك نقل حنبل وإنما لم يؤكده لأن النبي لم يأمر به وإنما فعله فيجوز أن يكون فعله لأنه عبادة ويجوز أن يكون فعله على الوجه المعتاد وفي مراعاته نوع مشقة وفيه اختلاف وظاهر كلامه أنه مستحب غير مؤكد بحيث لا يكره تركه بخلاف الاغتسال والتنظيف

قال أصحابنا يستحب له أن يتطيب بما شاء من طيب الرجال سواء كان مما يبقى أثره أو لا يبقى لما روى عروة عن عائشة قالت كنت أطيب النبي عند إحرامه بأطيب ما أجد وفي رواية قالت كنت أطيب النبي بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم متفق عليه وفي رواية كنت أطيب النبي عند إحرامه بأطيب ما أجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته لفظ البخاري وفي رواية مسلم كان رسول الله إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الدهن في لحيته ورأسه بعد ذلك وفي رواية القاسم عنها كنت أطيب النبي لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك متفق عليه

وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنا نخرج مع رسول الله إلى مكة فنضمد جباها بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي فلا ينهانا رواه وأبو داود

وعن نافع قال كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة أدهن بدهن ليس له رائحة طيبة ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله يفعل رواه البخاري

وعن درة قالت كنت أغلف رأس عائشة بالمسك والصبر عند إحرامها وعن عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص قالت كنت أسحق له المسك يعني سعدا بالبان الجيد فأضمخ منه لحيته ورأسه وأجمر حلته فيروح فيها مهلا

وعن مسلم بن صبيح قال رأيت في رأس ابن الزبير ولحيته من الطيب وهو محرم ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال وعن علي بن حسين قال قال لي ابن عباس وعائشة إدهن بأي دهن شئت وأنت محرم وقال ابن عمر إدهن بالزيت

وعن ابن عباس أنه سئل عن الطيب قبل الإحرام قال أما أنا فأصعصعه في رأسي ثم أحب بقاءه

وعن ابن المنتشر قال سألت ابن عمر ما تقول في الطيب عند الإحرام فقال ما أحب أن أصبح محرما ينضح مني الطيب وفي لفظ لأن أصبح مطليا بقطران أحب إلى من أصبح محرما أنضح طيبا فلما سمع ذاك أرسل إلى عائشة فقالت أنا أطيب رسول الله فسكت رواهن أحمد في رواية ابنة عبد الله

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا يستحب أن يتطيب في بدنه دون ثيابه لأنه إذا طيب الثوب فربما خلعه ثم لبسه وذلك لا يجوز وإنما ذكرت عائشة أنها كانت ترى الطيب في رأس رسول الله ولحيته

قالوا وإن طيبهما جاز لأن النبي نهى أن يلبس المحرم ثوبا مسه ورس أو زعفران فلو كان تطييب الثوب مشروعا لما نهى عن لبسه

قالوا ويستحب للمرأة أن تتطيب كالرجل لما تقدم من حديث عائشة ولأنها لا تقرب من الرجال بخلاف الطيب عند الخروج إلى الجماعات والجمع والأعياد فإنهن يختلطن بالرجال فكره ذلك قالوا ويستحب للمرأة أن تختضب قبل الإحرام سواء كانت أيما أو ذات زوج

فأما غير المحرمة فقال القاضي يستحب لها الخضاب إن كانت ذات زوج ولا يستحب إذا كانت أيما

فصل

وأما التجرد عن المخيط ولباس ازار ورداء نظيفين أبيضين فلما روى ابن عمر في حديث له ذكره عن النبي قال وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس خفين ولقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين رواه أحمد ولأن النبي وأصحابه أحرموا في الأزر والأردية والنعال ولأن ستر العورة والمنكبين مشروع في الصلاة وغيرها وسترهما بالمخيط غير جائز فيستر عورته بازار ومنكبيه برداء

ولم يذكر أحمد والخرقي والشيخ وأبو الخطاب وغيرهم الأمر بالإحرام في نعلين وذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما لما تقدم وليس بينهما خلاف وإنما يشرع ذلك لمن أراد أن يمشي وينتعل ومن أراد الركوب أو المشي حافيا من غير ضرر فله أن لا ينتعل بخلاف اللباس فإنه مشروع بكل حال

وإنما استحب أصحابنا البياض وسواء كانا جديدين أو غسيلين ليس أحدهما أفضل

وإن أحرم في ملون لا يكره لبسه فجائز من غير كراهة

وإنما استحببنا أن يكونا نظيفين من النجاسة ومن الوسخ

مسألة ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام ويستحب أن ينطق به ويشترط فيقول اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني

في هذا الكلام فصول

أحدهما الفصل الأول أنه يستحب أن يكون الإحرام بعد صلاة لأن الذين وصفوا حج رسول الله كلهم ذكروا أنه صلى في مسجد ذي الحليفة كما سيأتي ثم أحرم عقب ذلك وفي بعض الروايات من حديث ابن عباس وأنس أنها كانت صلاة الظهر

وعن ابن عمر كان رسول الله يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات يعني التلبية رواه مسلم

ثم إن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقيبها لأن النبي أحرم عقيب المكتوبة ولم يصل بعدها شيئا ولم يكن يصلي مع الفرض شيئا وإن صلى بعدها سنة أو ركعتين وإن لم تحضر مكتوبة صلى ركعتين إن كان وقت صلاة فإن كان وقت نهى وإن لم يصل فلا بأس قال عبد الله سألت أبي يحرم الرجل في دبر الصلاة أحب إليك قال أعجب إلى أن يصلي فإن لم يصل فلا بأس وكذلك نقل ابن منصور عنه وقد سئل يحرم في دبر الصلاة أحب إليك قال أعجب إلى أن يصلي فإن لم يصل فلا بأس الفصل الثاني

في الوقت الذي يستحب فيه الإحرام والذي عليه أصحابنا أنه يستحب فيه الإحرام في دبر الصلاة وهو جالس مستقبل القبلة وإن أحرم بعد ذلك فحسن وقد تقدم قول أحمد في رواية المروذي فإن وافقت صلاة مكتوبة صليت وإلا فصل ركعتين فإن أردت المتعة فقل اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وأعني عليها تسر ذلك في نفسك مستقبل القبلة وتشترط عند إحرامك تقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وإن شئت أهللت على راحتك وذكر في الإفراد والقران مثل ذلك إلا أنه قال فقل اللهم إني أريد العمرة والحج فيسرهما لي وتقبلهما مني لبيك اللهم عمرة وحجا قبل ذلك وكذلك قال في رواية حنبل إذا أراد الإحرام فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم وإن شاء إذا استوى على راحلته وإن أحب أن يحرم من المسجد أحرم وإن شاء بعدما صلى في دبر الصلاة فأي ذلك فعل أجزأه بعد خروجه من المسجد في حديث ابن عمر وقال في رواية عبد الله فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم وإن شاء إذا استوى على راحلته

وقال في رواية أبي طالب إذا أراد الإحرام استحب له أن يغتسل ويلبس إزارا ورداء فإن وافق صلاة مكتوبة صلى ثم أحرم وإن شاء إذا استوى على راحلته فلبى تلبية النبي

وجعل القاضي وغيره هذه النصوص منه مقتضيه للاستحباب عقيب الصلاة وإن شاء أحرم إذا استوت به راحلته لأن أحمد بدأ بالأمر بذلك ثم جوز الآخر ولأنه إنما شرع الإحرام عقيب الصلاة بناء على أن النبي أحرم عقيبهما فيكون ذلك زائدا على رواية من روى أنه أحرم عند استواء ناقته وانبعاثها به ولأنه إذا كان مشروعا في هاتين الحالتين فتقديمه أفضل

وقال في رواية الأثرم وقد سئل أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته قال كل قد جاء دبر الصلاة وإذا استوت به ناقته وإذا علا البيداء قال القاضي وظاهر هذا أنه مخير في جميع ذلك وليس أحدهما بأولى من الاخر

ولفظ أبي الخطاب وعنه أن إحرامه عقيب الصلاة وإذا استوى على راحلته وإذا بدأ في السير سواء ولفظ غيره فيها أن الإحرام عقيب الصلاة وحين تستوي به راحلته على البيداء سواء

والمذهب على ما حكينا وأن المستحب أن يحرم دبر الصلاة ومعنى قولنا إذا استوى على راحلته أنها الحال التي يريد أن يأخذ في المسير

وقد نقل عبد الله عن أبيه أنه يبلس ثوبين ثم يقلد بدنته ثم يشعر ثم يحرم هكذا الأمر هكذا يروى عن النبي

وعلى هذا يستحب الإحرام إذا ركب وأراد الأخذ في السير لأن تقليد الهدي وإشعاره بعد الصلاة وقد جعل الإحرام بعده

وإذا أحرم دبر الصلاة ففي أول أوقات التلبية ثلاثة أوجه

أحدها أنه يلبي إذا استوت به راحلته كما ذكره الشيخ قاله الخرقي وذكره القاضي وابن عقيل في المجرد والفصول وهو المنصوص عنه في رواية الأثرم قال قد يكون الرجل محرما بغير تلبية إذا عزم على الإحرام وقد يلبي الرجل ولا يحرم ولا يكون عليه شيء وهو يعزم على الإحرام فإذا إنبعثت به راحلته لبى

والثاني أن أول حال تشرع فيها التلبية إذا أشرف على البيداء لا في أول الإحرام ذكره القاضي في بعض المواضع

والثالث أنه يلبي عقيب إحرامه في دبر الصلاة وهو الذي استقر عليه قول القاضي وغيره من أصحابنا وقد نص في رواية المروذي على أنه يصل الإحرام بالتلبية

قال أحمد في رواية حرب وقد سأله عن الرجل إذا أحرم في دبر الصلاة أيلبي ساعة يسلم أم متى قال يلبي متى شاء ساعة يسلم وإن شاء بعد ذلك وسهل فيه

وأكثر نصوص أحمد تدل على أن زمن الإحرام هو زمن التلبية كما تقدم عنه أنه مخير بين الإحرام والإهلال عقيب الصلاة وعلى الراحلة ولم يذكر في شيء من ذلك أنه يحرم عقيب الصلاة ويلبي إذا استوت به راحلته

وسبب هذا الإختلاف في وقت إحرام النبي وإهلاله فروى نافع قال كان ابن عمر يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله رواه البخاري

وفي لفظ له رأيت رسول الله يركب راحلته بذي الحليفة ثم يهل حين تستوي به قائمة

وعن ابن عمر قال بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله فيها ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة وفي رواية ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيرة متفق عليها

وفي رواية عنه سمعت رسول الله يهل ملبيا يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وقال كان رسول الله يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل بهؤلاء الكلمات رواه مسلم

وعنه أيضا قال كان رسول الله إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة متفق عليه

وهذا يبين أنه أهل لما انبعثت به إلى القيام وهو استواؤها لأن البعير إذا نهض يكون منحنيا فإذا استوى صار قائما

وهذا كله يبين أنه أهل حين استواء البعير وأرادة المسير قبل أن يشرع في السير فعلى هذا تكون التلبية عوضا عن الذكر المشروع وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن إهلال رسول الله من ذي الحليفة حين استوت به راحلته رواه البخاري وقال رواه أنس وابن عباس

وعن أنس بن مالك قال صلى النبي بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهل رواه البخاري ولمسلم إلى قوله ركعتين

وعن ابن عباس قال صلى النبي الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها ولقدها نعلين ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

فهذه نصوص صحيحة أنه إنما أهل حين استوت به راحلته واستوى عليها ورواتها مثل ابن عمر وجابر وأنس وابن عباس في رواية صحيحة

ثم من قال من أصحابنا يحرمون عقيب الصلاة قال قد جاء أنه أحرم عقيب الصلاة وهنا أنه أهل إذا استوت به راحلته فتحمل تلك الرواية على الإحرام المجرد وهذه على الإهلال لأن التلبية إجابة الداعي وإنما تكون الإجابة إذا أراد أن يأخذ في الذهاب إليه بخلاف الإحرام فإنه عقد وإيجاب ففعله عقيب الصلاة أقرب إلى الخشوع

وأما رواية البيداء فروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد روى البخاري نحوه وعن جابر بن عبد الله قال لما أراد رسول الله الحج أذن في الناس فاجتمعوا فلما أتى البيداء أحرم رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه مسلم في حديثه الطويل ولفظه فصلى رسول الله في المسجد ثم ركب القصوى حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينيه مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ورسول الله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

وعن سعيد بن أبي وقاص قال كان رسول الله إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا أشرف على جبل البيداء رواه أبو داود

ووجه الأول ما روى خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي لبى في دبر الصلاة رواه الخمسة إلا أبا داود ولفظ أحمد لبى في دبر الصلاة وقال الترمذي حديث حسن غريب وفي رواية لأحمد وأبي داود عن سعيد قال قلت لابن عباس عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله في إهلاله فقال إني لأعلم الناس بذلك إنما كانت منه حجة واحدة فمن هنالك إختلفوا خرج رسول الله حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أوجب في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظوا عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل فأدرك ذلك منه أقوام فحفظوا عنه وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته ثم مضى فلما علا على شرف البيداء أهل فأدرك ذلك أقوام فقالوا إنما أهل رسول الله حين علا شرف البيداء وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به راحلته وأهل حين علا على شرف البيداء

ورواه الأثرم وقال أوجب رسول الله الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب راحلته واستوت به ناقته أهل ولعل هذا اللفظ هو الذي اعتمده بعض أصحابنا وروى عن ابن عباس أنه قال أهل رسول الله في مسجد ذي الحليفة وأنا معه وناقة رسول الله عند باب المسجد وابن عمر معها ثم خرج فركب فأهل فظن ابن عمر أنه أهل في ذلك الوقت

وهذه رواية مفسرة فيها زيادة علم وإطلاع على ما خفي في غيرها فيجب التقيد بها واتباعها وليس هذا مخالفا لما تقدم عنه أنه أهل حين استوت به على البيداء لأن تلك الرواية بعض هذه

وعن أشعث بن عبد الملك عن الحسن عن أنس أن رسول الله صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر رواه النسائي ويدل عليه ما روى عمر قال سمعت رسول الله وهو بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة وفي لفظ عمرة وحجة رواه البخاري وغيره فلم يجعل بين الصلاة والإحرام فصلا وأيضا فإن كل صلاة مشروعة لسبب بعدها فإنه يستحب أن يوصل بها كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة وصلاة الإستسقاء وغير ذلك

فإن إحرامه جالسا مستقبل القبلة أقرب إلى إجتماع همه وحضور قلبه وهو بعد الصلاة أقرب إلى الخشوع منه عند الركوب فإحرامه حال الخشوع أولى وقد بين في هذا الحديث أنه لبى عقيب الصلاة وكذلك جميع الأحاديث ليس فيها فرق بين الإحرام والتلبية

بل التلبية والإهلال والإحرام وفرض الحج بمعنى واحد ولهذا في حديث ابن عمر أنه أحرم حين استوت به ناقته وفي لفظ أنه أهل فعلم أنه إنما قصد إبتداء الإحرام فمن زعم أنه أحرم ولم يلب ثم لبى حين استوت به ناقته فهو مخالف لجميع الأحاديث ولعامة نصوص أحمد

والإحرام من مكة من المتمتع كغيره يحرم عقيب الركعتين اللتين يصليهما بعد طواف سبع ذكره القاضي وغيره وقد قال أحمد في رواية حرب إذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد

والمنصوص عنه في رواية عبد الله في حق المتمتع إذا كان يوم التروية طاف بالبيت فإذا خرج من المسجد لبى بالحج فذكر أنه يهل إذا خرج من المسجد وفي موضع اخر قلت من أين يحرم بالحج قال إذا جعل البيت خلف ظهره قلت فإن بعض الناس يقول يحرم من الميزاب قال إذا جعل البيت خلف ظهره أهل

فقد نص على أنه يهل إذا أخذ في الخروج من المسجد والذهاب إلى منى وهذا يوافق رواية من روى أنه يهل إذا استقلت به ناقته خارجا من مسجد ذي الحليفة

والتلبية عقيب الإحرام إنما تستحب إذا كانت في البرية والصحراء فإن كانت في الأمصار لم تستحب حتى يبرز لأنها لا تستحب في الأمصار ذكره القاضي في رواية أحمد بن علي وقد سئل إذا أحرم في مصره يلبي فقال ما يعجبني كأنه ذهب إلى التلبية من وراء الجدر

وقال في رواية المروذي التلبية إذا برز عن البيوت

فإن كان الإحرام في مسجد في البرية أو في قرية الفصل الثالث

إن الإحرام ينعقد بمجرد النية عند أصحابنا

قال أحمد في رواية الأثرم الرجل يكون محرما بالنية إذا عقد على الإحرام وحديث قيس بن سعد أنه نظر إلى هدية مقلد فقال ذاك كان قد عقد الإحرام بتقليده الهدي وكان ابن عمر لا يسمى حجا ولا عمرة وقد يكون الرجل محرما بغير تلبية إذا عزم على الإحرام وقد يلبي الرجل ولا يحرم ولا يكون عليه شيء وهو يعزم على الإحرام فإذا انبعثت به راحلته لبى

فصل

وقد استحب أصحابنا أن ينطق بما أحرم به وقد تقدم نصه على ذلك في رواية المروذي فيقول اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني لأن في حديث علي أنه قال للنبي حين قال له كيف قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله رواه مسلم وفي حديث عمر عن النبي أتاني آت من ربي وقال قل عمرة في حجة وفي لفظ عمرة وحجة وفي حديث ابن عمر أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم قال أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرة

واستحبوا الإشتراط وهو منصوصه أيضا وقال ابن أبي موسى يستحب له الإشتراط وهو أن يقول بعد التلبية إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني

وأكثر أصحابنا يقولون ينطق بالإشتراط قبل التلبية

مسألة وهو مخير بين التمتع والافراد والقران وأفضلها التمتع وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يشرع في الحج في عامه ثم الإفراد وهو أن يحرم بالحج مفردا ثم القران وهو أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة

في هذا الكلام فصول

أحدها الفصل الأول أن من أراد النسك فهو مخير بين التمتع والإفراد والقران فإذا أراد أن يجمع بين النسكين في سفرة واحدة يمر فيها على الميقات في أشهر الحج فالأفضل التمتع ثم الأفراد ثم القران لمن لم يسق الهدي قال أبو عبد الله رحمه الله في رواية المروذي ما تقدم حيث خيره بين الثلاثة وأختار له المتعة

وقال في رواية صالح التمتع آخر فعل النبي والذي نختار المتعة لأنه آخر ما أمر به النبي وهو يجمع الحج والعمرة جميعا ويعمل لكل واحد منهما على حدة ولما قدم النبي مكة أمر أصحابه أن يحلوا وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولأحللت كما تحلون وهذا بعد أن قدم مكة وهو آخر الأمرين

وقال عبد الله سألت أبي عن القران والإفراد قال التمتع آخر فعل النبي يعني أمر النبي وقال سمعت أبي يقول والمتعة آخر الأمرين من رسول الله ويجمع الله فيها الحج والعمرة واختيار رسول الله لها إذ قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فلم يحل النبي لأنه ساق الهدي

وسئل عن القران قال التمتع أحب إلى وهو آخر الأمرين من النبي

وقال اجعلوا حجكم عمرة قال أبو عبد الله يعني الحج والأمران من سنة النبي فالحج والمتعة على هذا من سنة النبي

وقال في رواية أبي طالب فلما قدم مكة قال إجعلوا حجكم عمرة فأمرهم بالعمرة وهي آخر الأمرين من النبي وهذا بين ألا من ضاق علمه بالفقه لأن النبي أهل بالحج وأصحابه ولم يكونوا يرون إلا أنه الحج فلما قدم مكة قال لوإستقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولأحللت كما تحلون فقالوا أي الحل قال الحل كله قالوا نخرج كذا وكذا فقال أحلوا وغضب فحلوا فقال سراقة بن مالك يا رسول الله عمرتنا لعامنا هذا أم للأبد فقال بل للأبد

وأما ساق الهدي ففيه روايتان

إحداهما القران أفضل قال في رواية المروذي إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسق فالتمتع نقلها أبو حفص

والثانية التمتع أفضل بكل حال وقد صرح بذلك في رواية حرب قال سمعت أبا عبد الله يقول أنا أختار في الحج التمتع قال وقال ابن عباس هي واجبة قال وسألته مرة أخرى ما تختار في الحج قال أنا أختار التمتع يدخل مكة بعمرة ويطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ويحل إن لم يكن معه هدي فإذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد وإن كان ساق الهدي طاف بالبيت وبين الصفا والمروة لعمرته ثم قام على إحرامه فإذا كان يوم التروية أهل بالحج هذا مذهبه وذلك لما اعتمده أحمد وبنى مذهبه عليه وهو أن النبي لما أحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة قال من شاء أن يهل بحج ومن شاء أن يهل بعمرة ومن شاء أن يهل بعمرة وحج فلما قدموا مكة أمرهم كلهم أن يحلوا من إحرامهم إذا طافوا بالبيت وبالصفا والمروة ويجعلوها عمرة ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج إلا من ساق الهدي فإن سوق الهدي يمنعه من التحلل

وكان دخولهم مكة يوم الأحد رابع ذي الحجة فلما كان يوم التروية أمرهم أن يهلوا بالحج فحج المسلمون كلهم مع رسول الله بأمره متمتعين حجة الوداع التي هي أكمل بها الدين وأتم بها النعمة وقد كرهوا ذلك والنبي يأمرهم بالمتعة ويغضب على من لم يفعلها ويقول لو اسقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولولا الهدي لأحللت لعلمه بفضل الإحلال فثبت بذلك أن المتعة أفضل من حجة مفردة ومن القران بين العمرة والحج من وجوه

أحدها أنها آخر الأمرين من النبي فإنه أمرهم بها عينا بعد أن خيرهم عند الميقات بينها وبين غيرها فعلم أنه لم يكن يعلم أولا فضل المتعة حتى أمره الله بها وحضه عليها فأمر أصحابه بها وحضهم عليها ولو كان يعلم أولا من فضل المتعة ما علمه بعد قدومه مكة لكان قد أمرهم بالإهلال بها من الميقات ولم يخيرهم بينها وبين غيرها ليستريح من كراهتهم لفسخ الحج ومشقته عليهم فإنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما ولهذا قال ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة الثاني أن المسلمين حجوا معه متمتعين جميعهم إلا من ساق الهدي وكانوا قليلا وذلك بأمره وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله لو كان الفعل معارضا له { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ولا ينبغي لمؤمن أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله ورسوله

الثالث أن هذه الحجة حجة الوداع لم يحج النبي بالمسلمين قبلها ولا بعدها وفيها أكمل الله الدين وأتم النعمة وأحييت مشاعر إبراهيم وأميت أمر الجاهلية فلم يكن الله تعالى يختار لرسوله وللمؤمنين من السبل إلا أقومها ومن الأعمال إلا أفضلها وقد إختار الله لهم المتعة

وهذه الجملة التي ذكرناها من حجة النبي وأمره المسلمين بالمتعة مما أجمع عليه علماء الأثر واستفاض بين أهل العلم واشتهر حتى لعله قد تواتر عندهم ونحن نذكر من الأخبار بعض ما يبين ذلك فروى الزهري عن سالم عن أبيه قال تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله مكة قال للناس من كان أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجة ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أهله

وطاف رسول الله حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجة ونحر هدية يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله من أهدى فساق الهدي من الناس

وعن الزهري عن عروة عن عائشة زوج النبي أنها أخبرته عن رسول الله في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي متفق عليه وعن سالم أنه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال عبد الله بن عمر هي حلال قال الشامي أن أباك قد نهى عنها فقال عبد الله بن عمر أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله فقال الرجل بل أمر رسول الله فقال لقد صنعها رسول الله رواه الترمذي وروى النسائي عنه العمرة في أشهر الحج تامة قد عمل بها رسول الله وأنزلها الله تعالى في كتابه

وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله لبد رأسه وأهدى فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن قلن مالك أنت لا تحل قال إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أحل من حجتي وأحلق رأسي رواه أحمد وعن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله عن عبد الله بن عمر قال قدم رسول الله مكة وأصحابه مهلين بالحج فقال رسول الله من شاء أن يجعلها عمرة إلا من كان معه الهدي قالوا يا رسول الله أيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا قال نعم وسطعت المجامر وقدم علي بن أبي طالب من اليمن فقال رسول الله بم أهللت قال بما أهل به النبي قال فإن لك معنا هديا قال حميد فحدثت به طاوسا فقال هكذا فعل القوم وفي رواية إجعلها عمرة

وفي رواية خرج رسول الله ولبى بالحج ولبينا معه فلما قدم أمر من لم يكن معه الهدي أن يجعلوها عمرة رواه أحمد بإسناد صحيح وبعضه في الصحيحين

وذكر ابن الجوزي أنه في الصحيحين وأظنه وهما

وعن الأسود عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله ولا نرى إلا أنه الحج فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر رسول الله من لم يكن ساق الهدي أن يحل قالت فحل من لم يكن ساق الهدي ونساؤه لم يسقن فأحللن قالت عائشة فحضت فلم أطف بالبيت فلما كانت ليلة الحصبة قالت قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا قالت صفية ما أراني إلا حابستكم قال عقرى حلقى أو ما كنت طفت يوم النحر قالت بلى قال لا بأس عليك إنفري قالت عائشة فلقيني رسول الله وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها

وفي رواية الأعمش عن إبراهيم عن الأسود خرجنا مع رسول الله نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة وساق الحديث بمعناه

وعن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا أنه الحج فلما كنا بسرف حضت حتى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل قالت عائشة فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا فقال ذبح رسول الله عن أزواجه قال يحيى فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد فقال أتتك والله بالحديث على وجهه

وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سرف فطمثت فدخل علي رسول الله وأنا أبكى فقال ما يبكيك فقلت والله لوددت أني لم أكن خرجت العام فقال مالك لعلك نفست قلت نعم قال هذا شيء كتبه الله على بنات آدم إفعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري قالت فلما قدمت مكة قال رسول الله لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل الناس إلا من كان معه هدي قالت فكان الهدي مع رسول الله وأبي بكر وعمر وذي اليسارة ثم أهلوا حين راحوا قالت فلما كان يوم النحر طهرت فأمرني رسول الله فأفضت قالت فأتينا بلحم بقر فقلت ما هذا فقالوا أهدى رسول الله عن نسائه البقر فلما كانت ليلة الحصبة قلت يا رسول الله أيرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع بحجة قالت فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأردفني على جمله قالت فإني لا أذكر وأنا حديثة السن أنعس فتصيب وجهي مؤخرة الرحل حتى جئنا إلى التنعيم فأهللت منها بعمرة جزاء بعمر الناس التي اعتمروا

وعن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله في أشهر الحج وليالي الحج وحرم الحج فنزلنا بسرف قالت فخرج إلى أصحابه فقال من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه الهدي فلا قالت فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه قالت فأما رسول الله ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة قالت فدخل علي رسول الله وأنا أبكى فقال ما يبكيك يا هنتاه قلت سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة قال وما شأنك قلت لا أصلي قال فلا يضرك إنما أنت إمرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فسعي الله أن يرزقكيها قالت فخرجنا في حجته وفي لفظ فخرجت في حجتي حتى قدمنا منى فطهرت ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت قالت ثم خرجت معه في النفر الآخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال إخراج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم إفرغا ثم أتيا هاهنا فإني أنتظركما حتى تأتياني قالت فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف ثم جئته بسحر فقال هل فرغتم فقلت نعم قالت فاذن بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس فمر متوجها إلى المدينة وفي لفظ فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة متفق على هذه الأحاديث كلها

وعن ذكوان عن عائشة قالت قدم رسول الله لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي وهو غضبان فقلت من أغضبك أدخله الله النار قال أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون فلو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريته ثم أحل كما حلوا رواه مسلم

وعن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله لو إستقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلوا رواه البخاري فهذا الحديث مبين أن الصحابة حلوا إلا من ساق الهدي وأن النبي وأصحابه صدروا عن مكة ليلة الحصبة وهي الليلة التي تلي ليالي منى ولم يقيموا بمكة بعد ليالي منى شيئا وأنه لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي إلا عائشة وحدها حتى أخوها عبد الرحمن الذي كان معها لم يعتمر من التنعيم لأنهم كانوا قد اعتمروا قبل الحج وقولها لا نرى إلا أنه الحج تعني من كان أحرم بالحج أو قرن بينهما وربما كانوا أكثر الوفد ترى أنهم يقيمون على حجهم ولا يتحللون منه قبل الوقوف لأنها قالت فلما قدمنا تطوفنا بالبيت وهي لم تتطوف فكانت الكناية عن الحاج في الجملة وقولها لا نذكر حجا ولا عمرة تعني في التلبية لأنها فد بينت في رواية أخرى أن منهم من أهل بالحج ومنهم من أهل بالعمرة ومنهم من قرن بينهما وأنها كانت هي متمتعة وقولها فالاخذ بها والتارك لها من الصحابة هذا كان يسرف قبل أن يقدموا مكة لأنه كان أذنا ولم يكن أمرا فلما قدموا جزم النبي بالأمر وتردد بعض الناس فغضب النبي على من تردد فأطاعوا الله ورسوله وتمتعوا وتوجع النبي على كونه لم يمكنه موافقتهم في الإحلال من أجل هدية وبين ذلك ما روى عبد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة قالت منا من أهل بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع رواه البخاري وروى الزهري عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج فقدمنا مكة فقال رسول الله من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ومن أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى يحل نحر هديه ومن أهل بحج فليتم حجة قالت فحضت فلم أزل حائضا حتى كان يوم عرفة ولم أهلل إلا بعمرة فأمرني النبي أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك حتى قضيت حجتي فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم وفي رواية عنها قالت خرجنا مع رسول الله فقال من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عائشة وأهل رسول الله بالحج وأهل به ناس معه وأهل معه ناس بالعمرة والحج وأهل ناس بعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة

وعن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت خرجنا مع رسول الله عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وأهل رسول الله بالحج فأما من أهل بعمرة فحل وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر

وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله موافين لهلال ذي الحجة فقال رسول الله من أحب أن يهل بعمرة فليهل ومن أحب أن يهل بحجة فليهل ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة فمنهم من أهل بعمرة ومنهم من أهل بحجة فكنت فيمن أهل بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكة فأدركت يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله فقال دعي عمرتك وانقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ففعلت فلما كانت ليلة الحصبة أرسل معي عبد الرحمن إلى التنعيم فأردفها فأهلت بعمرة مكان عمرتها قال هشام فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صدقة ولا صوم متفق على هذه الأحاديث وليس في رواية عروة هذه ذكر الفسخ ولهذا كان ينكره حتى جرى بينه وبين ابن عباس فيه ما جرى

فأما قوله ومن أهل بالحج فليتم حجه فيتحمل شيئين

أحدهما من إستمر إهلاله بالحج ولم يحوله إلى عمرة فإنه لا يتحلل منه وكان هذا في حق من ساق الهدي ممن أحرم بالحج وكذلك قوله في الحديث وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر إن لم يكن هذا من قول عروة وكان من قول عائشة فإن معناه من دام إهلاله بالحج أو بالحج والعمرة واستمروا هم الذين لم يحلوا لأجل سوق الهدي لأنها قد أخبرت في غير موضع أنهم كانوا لا يرون إلا الحج وأن رسول الله أمر من لم يسق الهدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل أو أن هذا كان قبل أن يأذن لهم في الفسخ قبل أن يدنوا من مكة في أوائل الإحرام

وأما قولها خرجنا مواقين لهلال ذي الحجة وعن أبي عمران أسلم قال حججت مع موالي فدخلت على أم سلمة زوج النبي فقلت أعتمر قبل أن أحج قالت إن شئت فاعتمر قبل أن تحج وإن شئت فبعد أن تحج قال فقلت إنهم يقولون من كان ضرورة فلا يصلح أن يعتمر قبل أن يحج قال فسألت أمهات المؤمنين فقلن مثل ما قالت فرجعت إليها فأخبرتها بقولهن قال فقالت نعم وأشفيك سمعت رسول الله يقول أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج رواه أحمد

وعن طاوس عن ابن عباس قال كانوا يرون أن الغمرة في أشهر الحج افجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفر ويقولون إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل فقال حل كله متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم من أفجر الفجور وقال الحل كله

قال سفيان بن عيينة كان عمرو يقول إن هذا الحديث له شأن رواه البخاري

وعن طاوس عن ابن عباس قال تمتع رسول الله حتى مات وأبو بكر حتى مات وعمر حتى مات وعثمان حتى مات وكان أول من نهى عنها معاوية قال ابن عباس فعجبت منه وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله بمشقص رواه أحمد وهذا لفظه والترمذي وقال حديث حسن وفيه ليث بن أبي سليم

وعن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال قدم النبي وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه هدي متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم لأربع خلون من العشر وهم يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة وفي لفظ صلى رسول الله الصبح بذي طوى وقدم لأربع مضين من ذي الحجة وأمر أصحابه أن يحلوا إحرامهم بعمرة إلا من كان معه الهدي وفي لفظ له أهل رسول الله بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى الصبح وقال حين صلى الصبح من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة وفي لفظ فصلى الصبح بالبطحاء

وعن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده هدي فليحلل الحل كله فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

وعن مجاهد عن ابن عباس قال أهل النبي بالحج فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يقصر ولم يحل من أجل الهدي وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى ويقصر أو يحلق ثم يحل رواه أبو داود وفيه يزيد بن أبي زياد

وعن ابن عباس قال قدمنا مع رسول الله حجاجا فأمرهم فجعلوها عمرة ثم قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلوا لكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ثم أنشب أصابعه بعضها في بعض فحل الناس إلا من كان معه الهدي وقدم علي عليه السلام من اليمن فقال له رسول الله أهللت قال أهللت بما أهللت به قال فهل معك هدي قال لا قال فأقم كما أنت ولك ثلث هديي قال وكان مع رسول الله مائة بدنة رواه أحمد

وعن النهاس عن عطاء عن ابن عباس عن النبي قال إذا أهل الرجل بالحج ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل وهي عمرة رواه أبو داود ورواه أحمد وغيره عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس موقوفا وهو أشبه

وعن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله إجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله تعالى { فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أمصاركم الشاة تجزيء فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة قال الله تعالى { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى شوال وذو القعدة وذو الحجة فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم والرفث الجماع والفسوق المعاصي والجدال المراء رواه البخاري

وعن أبي جمرة قال تمتعت فنهاني ناس فسألت ابن عباس فأمرني فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة متقبلة فأخبرت ابن رواه أحمد ومسلم وروى أبو داود أوله

وعن مسلم أيضا قال سألت ابن عباس عن متعة الحج فرخص فيها وكان ابن الزبير ينهى عنها فقال هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله رخص فيها فادخلوا عليها فسألوها قال فدخلنا عليها فإذا هي أمرأة ضخمة عمياء فقالت قد رخص رسول الله فيها رواه مسلم

وعن صفية بنت شيبة عن أسماء قالت خرجنا محرمين فقال رسول الله من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلل فلم يكن معي هدي فحللت وكان مع الزبير هدي فلم يحل قالت فلبست ثيابي ثم خرجت إلى الزبير فقال قومي عني فقلت أتخشى أن أثبت عليك وفي رواية قدمنا مع رسول الله مهلين بالحج رواه مسلم

وعن مجاهد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قدمنا مع رسول الله ونحن نقول لبيك اللهم لبيك بالحج فأمرنا رسول الله فجعلناها عمرة رواه البخاري

وعن جابر بن عبد الله قال أهللنا بالحج مع رسول الله فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا فقال يا أيها الناس أحلوا فلولا الهدي الذي معي لفعلت كما فعلتم قال فأحللنا حتى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج قال أهل النبي هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير رسول الله وطلحة وقدم علي من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي فأمر النبي أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ويقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي قالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي فقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلما طهرت طافت بالبيت قالت يا رسول الله تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي بالعقبة وهو يرميها فقال ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال لا بل للأبد وفي رواية عن ابن شهاب قال قدمت مكة متمتعا بعمرة فدخلنا قبل التروية بثلاثة أيام فقال لي ناس من أهل مكة تصير الآن حجتك حجة مكية فدخلت على عطاء استفتيه فقال حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه مع النبي يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال إفعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا متفق عليه وهذان البخاري عباس فقال سنة النبي فقال لي أقم عندي فاجعل لك سهما من مالي فقال شعبة فقلت لم فقال للرؤيا التي رأيت وفي لفظ سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها وسألته عن الهدي فقال فيها جزور أو بقرة أو شرك في دم قال وكأن ناسا كرهوها فنمت فرأيت في المنام كأن المنادي ينادي حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس فحدثته فقال الله أكبر سنة أبي القاسم متفق عليه

وعن مسلم القرى سمع ابن عباس يقول أهل النبي بعمرة وأهل أصحابه بحج فلم يحل النبي ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم وكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل ولمسلم فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكرينا المني قال جابر بيده كأني أنظر إلى قوله بيده يحركها قال فقام النبي فينا فقال قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هدي لحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا فحللنا وسمعنا وأطعنا ولمسلم قال أمرنا النبي لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح فقال سراقة بن مالك بن جعشم يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد فقال رسول الله لأبد

ورواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح وفيه ثم قام سراقة بن مالك فقال يا رسول الله أريت متمتعا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال رسول الله بل هي أبد

وعن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر في صفة حج النبي قال جابر لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا وذكر طوافه وسعيه قال حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لأبد أبد وقدم علي من اليمن ببدن النبي فوجد فاطمه ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت فأنكر ذلك عليها فقالت أبي أمرني بهذا قال وكان علي عليه السلام يقول بالعراق فذهبت إلى رسول الله محرشا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله فيما ذكرت عنه فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها فقال صدقت ماذا قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسولك قال فإن معي الهدي فلا تحل قال فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به رسول الله مائة قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج رواه مسلم وغيره

ورواه سعيد عن عتاب بن بشير ثنا خصيف عن عطاء عن جابر قال لما قدمنا مكة سألنا رسول الله بأي شيء أهللتم فقال بعضنا بالحج وقال بعضنا بالعمرة وقال بعضنا بالذي أهللت به يا رسول الله فقال أحلوا أجمعين إلا إنسان معه الهدي قلده ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي حتى أكون معكم حلالا فرأى أن الفضل في الإحلال فقال سراقة بن مالك بن جعشم ألعامنا هذا أم للأبد قال لأبد الآبدين

وعن أبي نضرة قال كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله فلما قدم عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء وإن القران قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله واتقوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح إمرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة وفي رواية وافصلوا حجكم عن عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم رواه مسلم وفي رواية صحيحة لأحمد قال جابر تمتعنا مع رسول الله ومع أبي بكر فلما ولى عمر خطب الناس فقال إن القرآن هو القرآن وإن رسول الله هو الرسول وإنها كانتا متعتان على عهد رسول الله إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء وعن سعيد قال خرجنا مع رسول الله نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج رواه أحمد ومسلم

وعن البراء بن عازب قال خرج رسول الله وأصحابه قال فأحرمنا بالحج فلما قدمنا مكة قال إجعلوا حجكم عمرة قال الناس قد أحرمنا بالحج كيف نجعلها عمرة قال انظروا ما آمركم به فافعلوا فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة فرأت الغضب في وجهه فقالت من أغضبك أغضبه الله فقال ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع رواه أحمد ثنا أبو بكر بن عياش ثنا أبو إسحق عن البراء وابن ماجة

وقال أبو داود ثنا يحيى بن معين ثنا حجاج ثنا يونس ابن أبي إسحق عن البراء قال لما قدم علي من اليمن على رسول الله قال وجدت فاطمة قد لبست ثيابا صبغيا وقد نضحت الظهر للبيت بنضوح فقالت مالك فإن رسول الله قد أمر أصحابه فأحلو قلت لها إني أهللت بإهلال النبي قال فأتيت النبي فقال لي كيف صنعت قال قلت أهللت بإهلال النبي قال فإني سقت الهدي وقرنت قال فقال لي انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين وامسك من كل بدنة منها بضعة رواه أبو داود بإسناد صحيح

وعن أنس بن مالك قال صلى رسول الله ونحن بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما فلما قدمنا أمر الناس فحلوا حتى كان يوم التروية أهلوا بالحج وقال ونحر النبي بدنات بيده قياما وذبح بالمدينة كبشين أملحين رواه البخاري

وعن الربيع بن سبرة عن أبيه قال خرجنا مع رسول الله حتى إذا كان بعسفان قال له سراقة بن مالك المدلجي يا رسول الله أقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي رواه أبو داود

وعن سراقة بن مالك بن جعشم قال تمتع رسول الله وتمتعنا معه فقلنا ألنا خاصة أم للأبد قال بل للأبد رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وفي رواية أنه قال للنبي اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم ألعامنا أو للأبد قال بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة رواه سعيد وفي لفظ أنه سأل رسول الله صلى الله علي وسلم عن العمرة فقال يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد قال بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة رواه الدارقطني وقال كلهم ثقات

وعن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال بعثني النبي إلى قومي باليمن فجئت وهو بالبطحاء فقال بم أهللت قلت أهللت بإهلال النبي قال هل معك من هدي قلت لا فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت إمرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي فقدم عمر فقال إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمرنا بالتمام قال الله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله } وإن نأخذ بسنة النبي فإنه لم يحل حتى نحر الهدي متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولفظ مسلم قدمت على رسول الله وهو منيخ بالبطحاء فقال بم أهللت قال قلت أهللت بإهلال النبي قال هل سقت من هدي قلت لا قال فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل قال فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت إمرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فأئتموا فلما قدم قلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدث في شأن النسك فقال إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال { وأتموا الحج والعمرة لله } وإن نأخذ بسنة رسول الله فإن النبي لم يحل حتى نحر الهدي

وعن إبراهيم بن أبي موسى عن أبيه أنه كان يفتي بالمتعة فقال رجل رويدك ببعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك فلقيه بعد فسأله فقال عمر قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يضلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم رواه أحمد ومسلم وفي رواية لأحمد عن أبي بردة عن أبي موسى أن عمر قال هي سنة رسول الله يعني المتعة ولكن أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا وعن غنيم بن قيس المازني قال سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة في الحج قال فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش يعني بيوت مكة يعني معاوية رواه مسلم ويشبه والله أعلم أن يكون سعد إنما عني العمرة في أشهر الحج في الجملة وعني عمرة القضية لأن معاوية سعد إنما عنى العمرة في أشهر الحج في الجملة وعنى عمرة القضية لأن معاوية كان مسلما في حجة الوداع ولم يكن بمكة يومئذ كافر

وعن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله فقال سعد بئس ما قلت يا ابن أخي قال الضحاك فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك فقال سعد قد صنعها رسول الله وصنعناها معه رواه مالك والنسائي والترمذي وقال حديث صحيح

وعن مطرف عن عمران بن حصين قال نزلت آية المتعة في كتاب الله فقلناها مع رسول الله ولم ينزل قران يحرمه ولم ينه عنها حتى مات متفق عليه ولمسلم تمتع النبي وتمتعنا معه وله نزلت آية المتعة في كتاب الله يعني متعة الحج ولم ينه عنها حتى مات وفي رواية لأحمد ومسلم عن مطرف قال قال لي عمران بن حصين أحدثك بحديث عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه قال فيها رجل برأيه ما شاء وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعاد وفي رواية صحيحة لأحمد أعلم أن رسول الله قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم ينزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه رسول الله حتى مضى لوجهه أرتأى كل إمريء بعد ما شاء أن يرتأى

وعن عبد الله بن شقيق أن عليا كان يأمر بالمتعة وعثمان ينهي عنها فقال عثمان كلمة فقال علي لقد علمت أنا تمتعنا مع رسول الله فقال عثمان أجل ولكنا كنا خائفين رواه أحمد ومسلم

وعن علي بن الحسين عن مروان بن الحكم قال شهدت عثمان وعليا بين مكة والمدينة وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما فلما رأى ذلك علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة فقال عثمان تراني أنهى الناس وأنت تفعله قال ما كنت لأدع سنة النبي لقول أحد رواه أحمد والبخاري وفي لفظ ولكن سمعت رسول الله يلبي بهما جميعا رواه سعيد في سننه بإسناد صحيح

وعن سعيد بن المسيب قال اختلف علي وعثمان وهما بعسفان في المتعة فقال علي ما تريد إلى أن تنهى عن أمر فعله رسول الله فلما رأى ذلك علي أهل بهما جميعا متفق عليه وهذا لفظ البخاري ولمسلم اجتمع علي وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال علي ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى علي ذلك أهل بهما جميعا وفي رواية لأحمد عن سعيد قال خرج عثمان حاجا حتى إذا كان ببعض الطريق قيل لعلي رضي الله عنه إنه قد نهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال علي لأصحابه إذا ارتحل فارتحلوا فأهل علي وأصحابه بعمرة فلم يكلم عثمان في ذلك فقال له علي ألم أخبر أنك نهيت عن التمتع قال فقال بلى قال فلم تسمع رسول الله صلى الله عيه وسلم تمتع قال بلى

وعن عبد الله بن الزبير قال والله إنا لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج إن أتم الحج والعمرة ألا يكونا في أشهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد وسع في الخير وعلي بن أبي طالب ببطن الوادي يعلف بعيرا له فبلغه الذي قال عثمان فأقبل حتى وقف على عثمان فقال أعمدت إلى سنة سنها رسول الله ورخصة رخص الله بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بحجة وعمرة معا فأقبل عثمان على الناس فقال وهل نهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه رواه أحمد

ومعنى قول عثمان رضي الله عنه إنا كنا على عهد رسول الله لأنا كنا مشغولين بالجهاد عن إنشاء سفرة أخرى للعمرة لكون أكثر الأرض كانوا كفارا فأما اليوم فالناس قد أمنوا فإفراد كل واحد من النسكين بسفرة هو الأفضل

وقد روى سعيد عن سلام بن عمرو قال شهدت عليا وعثمان وهما يفتيان فتيا شتى علي يأمر بالمتعة وعثمان ينهى عنها فقال عثمان لعلي هل أنت منته ثم قال يا أيها الناس إن الله عز وجل قد أمنكم ألا إن الحج التام من أهليكم والعمرة التامة من أهليكم ومثل هذا عن إبراهيم قل إنما كانت المتعة إذ كان الناس يشغلهم الجهاد عن الحج فأما اليوم فقد أمن الله الساحة ونفى العدو فجردوا رواه سعيد

وعن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله وهو بوادي العقيق يقول أتاني الليلة آت من ربي عز وجل فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة وفي لفظ للبخاري وقل عمرة وحجة قال الوليد بن مسلم يعني ذا الحليفة وهذا يحتمل أن يكون هو القران كما فسره بعض الناس ويحتمل أن يكون هو التمتع كما جاء دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة يعني بها المتعة

وكذلك أم سلمة وأزواج النبي أمرت الرجل أن يعتمر قبل أن يحج واحتجت أم سلمة بقول النبي أهلوا يا آل محمد بعمرة في حج فعلم أن المعتمر في أشهر الحج قد أهل بعمرة في حجة وفي حديث سبرة بن معبد أن الله قد أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي وهذا لأن المتمتع إنما يريد الحج الأكبر وله يسافر وإليه يقصد ويدخل في ضمن حجه عمرة ولهذا قال عمرة في حجة فعلم أنها عمرة تفعل في أثناء حجة ولو كان ذلك القران لقال حجة فيها عمرة لأنه إنما يحرم بالحج والعمرة تدخل بالنية فقط وقوله عمرة وحجة لا تخالف ذلك لأن التمتع بالعمرة إلى الحج أقرب إلى أن يكون أتى بعمرة وحجة من القارن الذي لم يزد على عمل الحاج

فهؤلاء أصحاب رسول الله أخبروا أن النبي أمرهم بالمتعة وأنهم تمتعوا معه وأنها كانت اخر الأمرين وأخبروا أيضا أن النبي تمتع لكن هل كانت متعة عمرة أو متعة قران هذا هو الذي وقع التردد فيه

وكذلك اختلفت الرواية عن الإمام أحمد هل الأفضل في حق من ساق الهدي أن يتمتع بعمرة أو أن يقرن بينهما فروي عنه أن القران أفضل بناء على أن النبي كان قارنا وذكر ابن عبد البر عنه أنه قال لا شك أن النبي كان قارنا والتمتع أحب إلي وأحتج لاختياره التمتع بأن النبي قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة

ويوضح هذا أنه قد روى أنه قرن مفسرا فروى بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال سمعت النبي يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبي بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال أنس ما تعدونا إلا صبيانا سمعت رسول الله يقول لبيك عمرة وحجا متفق عليه وهذا إخبار عن لفظ رسول الله وقد تقدم عن أنس أن النبي صلى الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بحج وعمرة وأهل الناس بهما رواه البخاري

وعن يحيى بن أبي إسحق وعبد العزيز بن صهيب وحميد أنه سمعوا أنسا قال سمعت رسول الله أهل بهما لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا رواه مسلم

وعن أبي قدامة قال قلت لأنس بن مالك بأي شيء كان رسول الله يهل فقال سمعته يقول مرارا بعمرة وحجة بعمرة وحجة رواه أحمد وقد تقدم عن البراء أن النبي قال لعلي أو قرنت وهذا أيضا صريح لا يعارضه ظاهر وقد تقدم عن علي وعثمان أنهما أخبرا أن النبي تمتع وكذلك عن عمران بن حصين وفسروا التمتع بأن جمع بين الحج والعمرة

وعن سراقة بن مالك قال سمعت رسول الله يقول دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال وقرن رسول الله في حجة الوداع رواه أحمد

وعن الصبي بن معبد قال كنت رجلا نصرانيا فأسلمت فأهللت بالحج والعمرة فسمعني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعا بالقادسية فقالا لهذا أضل من بعيره فكأنما حمل علي بكلمتهما جبل فقدمت على عمر بن الخطاب فأخبرته فأقبل عليهما فلامهما ثم أقبل علي فقال هديت لسنة النبي رواه الخمسة إلا الترمذي قال الدارقطني هو حديث صحيح

وعن ابن عباس قال أخبرني أبو طلحة أن رسول الله جمع بين الحج والعمرة رواه أحمد وابن ماجة وفيه حجاج بن أرطأة وعن أبي قتادة قال إنما جمع رسول الله بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها رواه الدارقطني

وكل من روى أن النبي تمتع فإنه لا يخالف هذا فإن الروايات قد اتفقت على أن النبي لم يحل من إحرامه لأجل الهدي الذي ساقه فعلم أنه ليس المقصود بذلك أنه حل من إحرامه

والمتعة إسم جامع للعمرة في أشهر الحج فمن اعتمر في أشهر الحج قبل حجته أو مع حجته فإنه يسمى متمتعا كما تقدم ذكره في هذه الأحاديث وغيرها لأنه ترفه بسقوط أحد السفرين ولهذا وجب الدم عليهما فيحمل قول من روى أنه تمتع على تمتع القران فإن كل قارن متمتع

وأما المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يحل من إحرام العمرة حتى أهل بالحج فإن من أصحابنا من يقول هذا قارن لأنه جمع بين النسكين بإحلال وإحرام لكن طاف للعمرة أولا وسعى ثم أحرم بالحج وأكثر أصحابنا يجعلون هذا متمتعا وهو المنصوص عن أحمد فيجوز أن يقال إن النبي كان قارنا بهذا الإعتبار ولو سمي المتمتع قارنا لأنه جمع بين النسكين في أشهر الحج لكن المتمتع يطوف أولا ويسعى لعمرته والقارن يطوف أولا لعرمته وحجته ثم يطوف ويسعى

والرواية الثانية

فإن قيل أما ما ذكرتم من أمر النبي أصحابه بالإحلال والمتعة فهذا حق لكن هذا هو فسخ الحج إلى العمرة وهذا الفسخ كان خاصا لأصحاب النبي وإذا كان الفسخ خاصا لهم والمتعة إنما حصلت بالفسخ فتكون تلك المتعة المستحبة في حقهم خاصة لهم فلا يتعدى حكمها إلى غيرهم والدليل على أن الفسخ خاص لهم فلا يتعدى حكمها إلى غيرهم والدليل على أن الفسخ خاص لهم أن الله أمر في كتابه بإتمام الحج والعمرة بقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } ومن فسخ الحج إلى العمرة لم يتمه وهذا معنى ما ذكره عمر رضي الله عنه حيث قال إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمرنا بإتمام الحج والعمرة وهذا الخطاب عام خرجوا هم منه بالسنة فيبقى باقي الناس على العموم

وأيضا ما روى عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لنا خاصة رواه الخمسة إلا الترمذي وفي رواية أو لمن بعدنا وهذا نص منه

وأيضا فلو لو تكن متعة الفسخ خاصة بهم بل كان حكمها عاما لوجب أن يجب ذلك على الناس لأن النبي أمرهم بذلك وغضب إذ لم يطيعوه ومعلوم أنه لا يجب الفسخ فعلم أن ذلك كان مختصا بهم

وأيضا فما روي عن إبراهيم التميمي عن أبيه عن أبي ذر قال كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة رواه مسلم والنسائي وابن ماجة وعن سليم بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله رواه أبو داود

وعن يحيى بن سعيد الأنصاري حدثني المرقع الأسدي وكان رجلا مرضيا أن أبا ذر صاحب النبي قال كانت رخصة لنا ليست لأحد بعدنا قال يحية وحقق ذلك عندنا أن أبا بكر وعمر وعثمان لم ينقضوا حجا لعمرة ولم يرخصوا لأحد وكانوا هم أعلم برسول الله وبما فعل في حجة ذلك ممن سهل نقضه رواه الليث عنه

وقد قال أحمد في رواية الأثرم المرقع شاعر من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر وقد تقدم قول عمر إن الله يحل لرسوله ما شاء وإن القران قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله وقول عثمان لعلي لما احتج عليه بفعل المتعة على عهد رسول الله فقال كنا خائفين

وعن عثمان أيضا أن سئل عن متعة الحج فقال كانت لنا وليست لكم رواه سعيد

وأيضا فإنه قد ثبت نهي عمر وعثمان ومعاوية وابن الزبير وغيرهم من الصحابة النهي عن المتعة وكراهتهم لها كما تقدم بعضه

وعن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن متعة الحج ومتعة النساء

وعن أبي قلابة قال قل عمر رضي الله عنه متعتان كانت على عهد رسول الله أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج رواهما سعيد

ومعلوم أن التمتع بالعمرة إلى الحج لا يكره بالاتفاق فيجب أن يحمل نهيهم على متعة الفسخ والرخصة على المتعة المبتدأة توفيقا بين أقاويلهم ولولا علمهم بأن ذلك خاص للركب الذين كانوا مع النبي لم يقدموا على تغيير حكم الشريعة ولم يطاوعهم المسلمون على ذلك ولا يجوز لمسلم أن يظن بهم ذلك

وإن كانوا قد نهوا عن جميع أنواع المتعة نهي تنزيه أو نهي اختيار للأولى فيعلم أنهم اعتقدوا أن الإفراد أفضل ولهذا إنما كانت المنازعة في جواز التمتع لا في فضله ويجعلونها رخصة للبعيد عن مكة

وأيضا فإنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون التمتع بالعمرة إلى الحج من أفجر الفجور فأمرهم النبي بفسخ الحج إلى العمرة ليبين جواز العمرة في أشهر الحج وقد حصل معرفة ذلك وعلم فلا حاجة إلى الخروج عن عقد لازم أو أنه أذن لهم في الفسخ لأنه لم يكن يعلم أولا جوازا العمرة قبل الحج

والذي يبين أن الإفراد أفضل من متعتي القران والعمرة المبتدأة أن النبي أفرد الحج بدليل ما روى القاسم عن عائشة أن النبي أفرد الحج رواه الجماعة إلا البخاري وقد تقدم عنها في المتفق عليه أن رسول الله أهل بالحج وأهل به ناس معه وأن ناسا أهلوا بعمرة وناسا أهلوا بالحج والعمرة

وعن ابن عمر قال أهللنا مع رسول الله بالحج مفردا وفي لفظ أن رسول الله أهل بالحج مفردا رواهما مسلم

وعن زيد بن أسلم قال جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن حج النبي فقال أفرد الحج فلما كان العام المقبل أتاه فسأله عنه فقال أليس قد أعلمتك عام أول أنه أفرد الحج قال أتانا أنس بن مالك فأخبرنا أن النبي قرن فقال ابن عمر إن أنس بن مالك كن يتولج على النساء وهن منكشفات لا يستترن لصغرة وكنت أنا تحت ناقة رسول الله يسيل علي لعابها رواه وعن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وتقدم عن ابن عباس أن النبي أهل بالحج فقدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى الصبح وقال لما صلى الصبح من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة رواه مسلم

وعن جابر أن النبي أفرد الحج رواه ابن ماجة وفي حديثه المتفق عليه أهل النبي وأصحابه بالحج وجابر من أحسن الناس سياقا لحجة رسول الله وهو يقول لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة وإذا ثبت أنه أهل بالحج فيجب أن تحمل رواية من روى أنه تمتع على أنه أمر به أصحابه لما أمرهم بالفسخ وهو لم يفسخ وما فعله رسول الله فهو أفضل مما فعله غيره لا سيما فيما لا يتكرر منه فما كان الله ليؤثر نبيه إلا بأفضل السبل والشرائع وقوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها متعة إنما قال ذلك لما رآهم قد كرهوا المتعة فأحب موافقتهم وإن كان ما معه أفضل وقد يؤثر المفضول إذا كان فيه إتفاق القلوب كما قال لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة الحديث فترك ما كان يحبه تسكينا للقلوب وقد كان يدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم فعلم ويبين ذلك ما روى ويقرر ذلك أن الخلفاء الراشدين بعده أفردوا الحج

وإذا اختلفت الأحاديث عن النبي نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون فروى أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن أنه سأل عروة بن الزبير فقال قد حج النبي فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم اخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت يطوفان به ثم لا يحلان وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة فلما مسحوا الركن حلوا رواه البخاري

وأيضا فإن المتعة تفتقر إلى دم فإن كان دم جبران فالنسك التام الذي لا يفتقر إلى جبر أفضل مما يجبر بدليل حجتين أو عمرتين قد جبر إحداهما بدم وتم الآخر بنفسه وإن كان دم نسك فمعلوم أنه إنما وجب لما سقط عن المتمتع من أحد السفرين وهو نسك وإذا دار الأمر بين نسك الفعل ونسك الذبح كان نسك الفعل أفضل فإن فيه عبادة بدنية ومالية ولهذا عامة الدماء لا تشرع إلا عند عوز الأعمال

وأيضا فإن المفرد يأتي بالإحرام تاما كاملا من حين يهل من الميقات ثم يأتي بالعمرة كاملة فيفعل كل ما يفعله المتمتع وزيادة ويستوعب الزمان بالإحرام

وأيضا فإن المتعة في الأصل رخصة والعزائم أفضل من الرخص

قلنا أما قولهم فسخ الحج كان مختصا بهم والتمتع إنما كان بالفسخ فعنه أجوبه

أحدها أن الفسخ حكم ثابت في حق جميع الأمة كما سنبينه إن شاء الله فمتعته كذلك ولهذا مذهب أحمد وأصحابه أن المستحب لمن أحرم بحج مفرد أو بعمرة وحج وأحرم إحراما مطلقا أو أحرم بمثل ما أحرم به فلان أن يفسخوا الحج إلى العمرة ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج امتثالا لأمر رسول الله وطاعة له وإن كان بعض العلماء لا يجيزه فليس لأحد مع السنة كلام ولا يشرع الإحتراز من اختلاف يفضي إلى ترك ما ندبت إليه السنة كما استحببنا التطيب قبل الإحرام وبعد الإحلال الأول إتباعا للسنة وفي جوازه من الخلاف ما قد علم وكما استحببنا التلبية إلى أن يرمي جمرة العقبة وفي كراهته من الخلاف ما قد علم ونظائره كثيرة

الثاني أن أمرهم بالمتعة تضمن شيئين

والثاني إستحباب التمتع وإختياره فإذا بطل أحدهما لم يبطل الاخر وهذا لأنه لو لم تكن المتعة أفضل من غيرها لكان النبي قد اختار لأصحابه ما غيره أفضل منه وحضهم على ذلك والتزم لأجله فسخ الحج وبين أنه إنما منعه من التحلل معهم سوق هدية ولا يجوز أن يعتقد أن النبي يختار لهم ما غيره أفضل منه

الثالث أن في حديث عائشة المتفق عليه عن النبي أنه قال من أحب أن يهل بعمرة فليهل ومن أحب أن يهل بحج فليهل فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة وهذا نص في أن الإهلال بالعمرة لغير المهدي أفضل وقال أيضا

الرابع أنه قال في آخر الأمر بمكة لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وفي لفظ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت فبين أنه لو كان ذلك الوقت مستقبلا للإحرام الذي استدبره لأحرم بعمرة إذا لم يكن معه هدي وهو لا يتأسف إلا على فوات الأفضل فعلم أن من لم يسق الهدي فإن الأفضل له العمرة

وأما قولهم إنما تأسف على الموافقة

قلنا في الحديث ما يرد هذا فإنه قال فرأى أن الفضل في الإحلال هكذا في حديث جابر ثم ذلك في سوق الهدي أي لو استقبلت من أمري ما سقت الهدى موافقة لكم وإن كان سوق الهدى أفضل لكن إذا لم يسق الهدي فقد بين أنه يحل من إحرامه ويجعلها عمرة مع أنه لا ضرورة إلى هذا فلو كان هذا مفضولا مع ترك سوق الهدي لكان قد اختار لنفسه ولأصحابه ما غيره أفضل منه وذلك غير جائز والدليل على أن فسخ الحج إلى العمرة جائز وأنه هو الأفضل من المقام على الحج لمن يريد أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة هذه الأحاديث الصحاح الصراح التي ذكرناها معما احتج به ابن عباس من ظاهر القران

قال أحمد في رواية عبد الله كان ابن عباس يختار المتعة من أمر رسول الله أصحابه بالإحلال قال ثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء قال قلت له من أين كان ابن عباس أخذ أنه من طاف بالبيت فقد حل قال من قول الله عز وجل { ثم محلها إلى البيت العتيق } ومن أمر النبي أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع فكأن ابن عباس رأى أن الشعائر إسم يجمع مواضع النسك كما قال تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله } وقال { المشعر الحرام } ويعم الأفعال التي يفعلها الناسك ويعم الهديا التي تهدي إلى البيت وبين أن محل وأما قوله إن الفسخ لا يجوز إلا لذلك الوفد خاصة فغير صحيح لوجوه

أحدها أن ما ثبت في حق الواحد من الأحكام ثبت في حق جميع الأمة وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام وحيث ما خص الواحد بحكم فلا بد أن يكون اختصاصه بذلك الحكم لعلة اختص بها لو وجدت في غيره لكان حكمه حكمه ولا بد من دليل على التخصيص كما قال لأبي بردة بن نيار في الأضحية تجزؤك ولا تجزؤ عن أحد بعدك لأنه كان قد ذبح قبل أن يسن وقت الأضحية وكما خص سالما مولى أبي حذيفة بأن يرضع كبيرا لأنه قد تبني قبل أن يحرم سبحانه أن يدعى الرجل لغير أبيه

ثم إن التخصيص يكون لواحد وهنا أمر جميع من حج معه بالتحلل وقد أمر من بعدهم بالإقتداء بهم فلو كانوا مخصوصين بذلك لوجب بيانه وإظهار ذلك وإشاعته وإلا فلو ساغ دعوى مثل هذا لساغ أن يدعى اختصاصهم بكثير من الأحكام وحينئذ ينقطع إتباع غيرهم له والحاقهم به وفي هذا تعطيل للشريعة وما ذكروه من مستند التخصيص سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى

الثاني أن النبي قد بين بيانا شافيا أن هذه العمرة المتمتع بها التي فسخ الحج إليها حكم مؤبد إلى يوم القيامة لما أطلعه الله عليه أن سيكون قوم يدعون أن هذه كان مخصوصا بهم

ففي صحيح مسلم من حديث جابر حتى إذا كان اخر طواف على المروة قال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد فشبك النبي أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لابل لأبد أبد وفي رواية للبخاري أن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي بالعقبة وهو يرميها فقال ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال لا بل للأبد وفي حديث ابن عباس فأمرهم فجعلوها عمرة ثم قال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما فعلوا لكن دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ثم أنشبت أصابعه بعضها في بعض

فبين النبي أن ذلك الذي فعلوه ليس لهم خاصة وإنما هو للأبد ولا يجوز أن يقال إنما أشار إلى العمرة قبل الحج وهو التمتع فبين أن التمتع جائز إلى يوم القيامة ولم يقصد الفسخ لما روى ابن بطة في مسألة أفردها في الفسخ عن جابر عن عبد الله أن سراقة بن مالك بن جعشم سأل النبي فقال يا رسول الله أرأيت ما أمرتنا به من المتعة وإحلالنا لنا خاصة أو هو شيء للأبد فقال بل هو للأبد وفي لفظ اخر قال يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للأبد قال بل للأبد وهذا نص في أن المراد فسخ الحج إلى عمرة التمتع وأن حكم ذلك باق إلى الأبد

وروي أيضا عن طاوس قال علي هو الذي سأل النبي أنفسخ لمدتنا هذه أم للأبد قال للأبد

وعن طاوس قال له رجل من سنتنا هذه قال لا بل للأبد لأن النبي أشار إلى الذي فعلوه والذي فعلوه أنهم قدموا ينوون الحج لا يعرفون العمرة فقال لهم إذا طفتم بالبيت وبين الصفا والمروة فحلوا من إحرامكم واجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي وسياق حديث جابر واضح في ذلك والتمتع المحض لم يجر له ذكر ولا فعله عامتهم وإن كان قد فعله قليل منهم وقد قال له سراقة بن جعشم أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد قال للأبد وقوله عمرتنا هذه صريح في العمرة التي تحللوا بها من حجهم

وأيضا فإنه لو كان هذا هو المقصود لبين النبي ذلك ولم يطلق الجواب إطلاقا بل قال أما المتعة فجائزة وأما الفسخ فخاص لنا لأن السؤال وقع عما فعلوه فلو كان مشتملا على ما هو لذلك العام وللأبد لوجب تفصيل الجواب

وأيضا فقوله دخلت العمرة في الحج مرتين نص في أن الحج تدخل فيه العمرة إلى يوم القيامة وهو يعم الإعتمار قبل الحج سواء كان نوى العمرة أولا أو نوى الحج أم حل من إحرامه ولا يجوز أن يقصد به القسم الأول فقط لأن سبب الحديث هو القسم الثاني وسبب اللفظ العام لا بد أن يكون داخلا فيه لا يجوز إخراجه منه وظاهره أن كل حج يجوز أن يدخل فيه عمرة سواء كان قد أحرم بها ابتداء أو حل من الحج بعمرة ثم أهل بالحج وليس المراد بذلك جواز فعل العمره في أشهر الحج سواء حج أو لم يحج لأن قوله في الحج حقيقة في الفعل ولا سيما وقد شبك بين أصابعه واليدان كل واحدة منهما من جنس الأخرى فلا بد أن يكون الداخل من جنس المدخول فيه

وأيضا فقد قال سراقة بن جعشم هذا وهو بعسفان إقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم فقال إن الله أدخل عليكم في حجكم عمرة فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه الهدي فبين النبي أن ذلك الحج الذي حجوه قد أدخل الله عليهم فيه عمرة وإنما ذلك بأن يحلوا من الحج ويجعلوها عمرة ثم بين أن إدخال العمرة في الحج إلى يوم القيامة فهذا نص قاطع لاخفاء به أن كل حاج له أن يدخل في حجة عمرة سواء كان أحرم من الميقات أو أحرم أولا بالحج

وأيضا فإن كل من أم هذا البيت يريد الوقوف بعرفة فهو حاج من حين يحرم من الميقات وإن أحرم أولا بالعمرة فإذا اعتمر في هذا الحج فقد أدخل في حجته عمرة فلا معدل عن هذا الأمر الواضح البين

وأيضا فإنه إذا اعتمر في أشهر الحج وحج فقد أدخل العمرة في الحج وإن لم يحج ذلك العام فلم يدخلها

وأيضا فلو كان معناه جواز العمرة في أشهر الحج لكان هذا قد علموه قبل ذلك حيث إعتمر في ذي القعدة ثلاث عمران وأيضا

الوجه الثالث أن النبي بين أن فسخ الحج إلى العمرة ليس هو شيئا خارجا عن القياس وتغيظ على من توقف فيه وقد إعترضوا عليه بمثل ما يعترض به بعض أهل زماننا فالاعتراض عليه نفثة من الشيطان في نفوس الناس

قال جابر فقال لهم أحلوا من إحرامكم بالطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال إفعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا وفي رواية مسلم فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المنى قال جابر فقام النبي فينا فقال قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم ولولا هدي لأحللت كما تحلون ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلوا فححلنا وسمعنا وأطعنا وهذا كله يدل على أن ذلك أمر حسن مباح في نفسه وأن توقف من توقف فيه خطأ عظيم ولذلك تغيظ عليه كما تغيض على من توقف عن الإحلال في عمرة الحديبية وكما تغيظ على من تحرج عن القبلة للصائم وقال يحل الله لرسوله ما شاء وكما تغيظ على من كره أن يصبح صائما وهو جنب وكما يرخص في أشياء فبلغه أن ناسا تحرجوا من ذلك وفي كل ذلك يقول إني أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي فتبين بذلك أن هذا ليس مما يتقى ويجتنب ولم أفعله لخصوص في فلو كان البقاء على الإحرام هو الوجب في الأصل وإنما وقعت الرخصة في وقت خاص لم يتغيظ مثل هذا التغيظ

الوجه الرابع أن النبي قال في هذه الحجة لتأخذوا عني مناسككم رواه مسلم من حديث جابر ومعلوم أنهم إنما يأخذونها ليقتدوا به فيها ويهتدوا بهديه ويستنوا بسنته فلو كانت تلك الحجة خارجة عن القياس ومختصة بأولئك الركب لم يجز أن يقال خذوا عني مناسككم بل خذوا مناسككم إلا في التحلل أو نحو ذلك

الوجه الخامس أن أصحاب رسول الله أفتوا بالفسخ بعده ولو كان مختصا بذلك الركب لم يخف ذلك عليهم وقد تقدم ذكر ذلك عن أبي موسى الأشعري وابن عباس

الوجه السادس أنه لا موجب لإختصاصهم بها وذلك لأنه إن كان المقصود بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج فقد بين هذا باعتماره في ذي القعدة هو وأصحابه عمرة الحديبية وعمرة القضية وعمرة الجعرانة فهو لم يعتمر قط إلا في أشهر الحج وإن كان المقصود بيان العمرة قبل الحج في أشهره فهذا حصل بقوله عند الميقات وبفعل بعض أصحابه وهو الذين أحرموا من الميقات بعمرة مثل عائشة ونحوها فإنه قد قال لهم عند الميقات من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بعمرة وحجة فليفعل بأي بيان لجواز العمرة قبل الحج أبين من هذا وقد أحرم كثير منهم بالعمرة قبل الحج بإذنه

وأيضا فإنه إما أن يكون قد عزم على أمرهم بالتمتع قبل الإحرام أو في أثناء الطريق فإن كان قد عزم عليه أولا فلأي شيء لم يأمرهم أن يحرموا كلهم بالعمرة ويترك هو سوق الهدي كما قد أسف عليه ويريحهم من مؤنة الفسخ الذي هو على خلاف ظاهر القرآن على زعم من يقول ذلك وإن كان عزم عليه في أثناء الطرق فلا بد أن يكون قد بدا له ما لم يكن قد بدا له قبل ذلك وهو لم يبد له بيان جواز الإعتمار قبل ذلك فإنه قد بين ذلك قبل هذا فعلم أن الذي بدا له جواز الإحلال من هذا الإحرام بعمرة وأن يكونوا كلهم متمتعين وأن الفضل في ذلك

قال طاوس خرج رسول الله ينتظر القضاء في حجته فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة فنزل عليه القضاء فأمر من لم يكن معه هدي أن يحل قال فدخلت العمرة في الحج وفي لفظ أحرم رسول الله ينتظر أمر ربه فلما كان بمكة أمر بلأمر رواه سعيد ومعناه أنه ينتظر هل يتمون ما أحرموا به أو يغيرونه لأنه قد صح بالروايات المستفيضة أنهم أحرموا إما بعمرة أو بحج أو بعمرة وحج

وأيضا فلو كان المقصود بيان جواز العمرة في أشهر الحج لبين ذلك بالكلام كما بين لهم كثيرا من الأحكام

الوجه السابع لو كان الفسخ خارجا عن مقتضى الكتاب وهو مختص بهم لم يفرق الحال بين من ساق الهدي ومن لم يسقه حتى ينشأ من ذلك ترددهم وتأسفه على سوق الهدي وموافقتهم وقد بين أن سائق الهدي لا يجوز له الفسخ إمتثالا لقوله { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } فهلا أمر الجميع بالإتمام إمتثالا لقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } أيضا أو جوز تخصيص ذلك الركب من حكم هاتين الايتين لقصد بيان جواز العمرة قبل الحج في أشهره فإن دلالة الآيتين على الحكم عند من يخالف في ذلك سواء فلما أمر بالفسخ من لم يسق الهدي دون من ساق وبين أن السوق يمنع الفسخ علم قطعا أن الفسخ في نفسه أمر جائز مستحب وأن لا مانع منه غير سوق الهدي وهذا واضح لمن أنصف

الوجه الثامن أن الله أمر نبيه بإتمام الحج والعمرة لله قبل حجة الوداع بأربع سنين فلا يخلوا إما أن يكون الفسخ تركا لإتمام الحج لله فلا يكون أولئك الصحابة مخاطبين بهذه الآية ولا داخلين في حكمها وهم المواجهون بالخطاب المقصودون به قبل الناس كلهم ثم كيف يجوز لمسلم أن يعتقد أنهم لم يتموا الحج لله وإن لم يكن الفاسخ تاركا لإتمام الحج لله بل هو متم له كما أمر الله فلا فرق في هذا بين ناس وناس

الوجه التاسع أن الله قد أرخص لهم في المتعة بقوله { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } وقد نزل ذلك في سنة ست وقد أحرم منهم نفر بالعمرة كما في حديث جابر وعائشة فكيف يقال أن المسلمين كانوا لا يرون الاعتمار في أشهر الحج نعم كان المشركون يرون ذلك والمسلمون قد بين الله لهم في كتابه وعلى لسان نبيه قبل حجة الوداع جواز الاعتمار في أشهر الحج سواء حج في ذلك العام أو لم يحج وقد فعلوا ذلك فعلم أن توقفهم وترددهم إنما كان في فسخ الحج إلى العمرة والإحلال من الإحرام لفضل التمتع لا لبيان جوازه

العاشر أن

وأما قوله { وأتموا الحج والعمرة لله } فإن المتمتع متم للحج والعمرة سواء كان قد أهل أولا بالحج أو بالعمرة وذلك لأنه إذا أهل بالحج أولا فإنما يفسخه إلى عمرة متمتع بها إلى الحج وإنما يجوز له فسخه إذا قصد التمتع فيكون قد قصد الحج وحده فيكون مدخلا للعمرة في حجه وفاعلا للعمرة والحج وهذا أكثر مما كان دخل فيه ولو أراد أن يخرج من الحج بعمرة غير متمتع بها لم يجز ذلك

وأما حديث الحارث بن بلال عن إسماعيل قال عبد الله قيل لأبي حديث بلال بن الحارث قال لا أقول به ولا نعرف هذا الرجل ولم يروه إلا الدراوردي وقال أيضا حديث بلال عندي ليس يثبت لأن الأحاديث التي تروى عن النبي أنه قال إجعلوا حجكم عمرة ولو إستقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحل الناس مع النبي وقال أيضا هذا حديث ليس إسناده بالمعروف وإنما يروى عن أبي ذر إنما كانت المتعة لنا خاصة يعني متعة الحج

وقال أيضا في رواية الفضل وابن هانيء من الحارث بن بلال ومن روى عنه أبوه من أصحاب النبي وهو فلا وقال في رواية الميموني أرأيت لو عرف الحارث بن بلال إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب النبي أين يقع بلال بن الحارث منهم

وفي رواية أبي داود ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافه أبي بكر وصدر من خلافة عمر فقد ضعف أحمد هذا الحديث لجهل الراوي وأنه لا يعرف الحارث بن بلال لا سيما وقد انفرد به الدراوري عن ربيعة ولم يروه عنه مثل مالك ونحوه

وتخصيصهم بهذا الحديث ترك للعمل بتلك الأحاديث المستفيضة وهو مثل النسخ لها ومثل هذا الإسناد لا يبطل حكم الأحاديث ثم بين أحمد أنه يخالف تلك الأحاديث ويعارضها وهو حديث شاذ لأن الحديث الشاذ هو الذي يتضمن خلاف ما تضمنته الأحاديث المشهورة

فلو كان راوية معروفا لوجب تقديمها عليه لأن قول رسول الله إجعلوا حجكم عمرة ولو استقلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فعم ولم يذكر أن هذا مختص بهم ولو كان ذلك مخصوصا بهم لوجب بيانه ولم يؤخر ذلك حتى سأله بلال بن الحارث وقد بين لهم في الحديث الصحيح أن هذا ليس لهم خاصة وإنما هو للناس عامة على ما ذكرناه فدلالة تلك الأحاديث على عموم حكم الفسخ دليل على ضعف هذا الحديث لو كان رواية معروفا بالعدل

ودليل على أن هذا الحديث ليس بمضبوط ولا محفوظ ولو كان هذا صحيحا لكان له من الظهور والشياع مالا خفاء به ولكان النبي قد بينه بيانا عاما وذلك لأن ما ثبت في حق بعض الأمة من الأحكام ثبت في حق الجميع لاسيما في مثل ذلك المشهد العظيم الذي يقول فيه لتأخذوا عني مناسككم فلو كانوا مخصوصين بذلك الحكم لوجب على النبي أن يبين ذلك ابتداء كما بين حكم الأضحية لما سأله أبو بردة بن نيار عن الأضحية بالجذع فقال يجزؤ عنك ولا يجزؤ عن أحد بعدك فلو كان الفسخ خاصا لهم لقال إذا طفتم بالبيت وبين الصفا والمروة فحلوا وليس ذلك لغيركم ولم يؤخر بيان ذلك إلى أن يسأله بلال بن الحارث فإنه بتقدير أن لا يسأله بلال كان التلبيس واقعا وهذا بخلاف قوله لسراقة لما سأله أعتمرنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال بل لأبد الأبد فإن هذا الحكم كان معلوما بنفس فعله وإنما أجاب السائل توكيدا ولما كانت هذه الأحاديث مقتضية لعموم الحكم وثبوته في حق الأمة عارض أحمد بينها وبين حديث بلال ابن الحارث وحكم بشذوذه لما انفرد بما يخالف الأحاديث المشاهير والذي يبين ذلك أن الصحابة الذين حدثوا بتلك إنما ذكروها لتعليم السنة وبيانها واتباعها والأخذ بها لم يكن قصدهم مجرد القصص ولو كان الحكم مخصوصا بهم لم يجز أن يرووها رواية مرسلة حتى يبينوا اخصتصاهم بها فكيف إذا ذكروها لتعليم السنة وهذا دليل على أنهم علموا أن هذه السنة ماضية فيهم وفيمن بعدهم فلا يرد هذا بحديث من لم يخبر قوة ضبطه وتيقظه ويدفع هذه السنن المشهورة المتواترة براوية غير معروف

وقد تأول بعض أصحابنا ذلك على أن المراد به هو لنا خاصة من بين من ساق الهدي لأن من ساق الهدي لم يكن يجوز له الفسخ إلا لنفر مخصوص

وهذا تأويل ساقط لأن سائق الهدي لم يحل أحد منهم ولم يكن يجوز لهم ذلك ولكن يشبه والله أعلم إن كان لهذا الحديث أصل وهو محفوظ ولم ينقلب على رواية النفي بالإثبات فإن غيره ممن هو أحفظ منه بين أنه ليس لنا خاصة وهو يقول لنا خاصة فإن كان قد حفظ ذلك فمعناه أن الفسخ كان واجبا عليهم متحتما لأمر النبي لهم به وتغيظ عليهم حيث لم يفعلوه وغيرهم من الناس وإن جاز له الفسخ لكنه لا يجب عليه ويكون سبب وجوبه عليهم أنه قال أولا من شاء منكم جعلها عمرة وندبهم إلى ذلك فرأى أناسا قد كرهوا ذلك وامعضوا منه واستهجنوه لأنهم لم يكونوا يعهدون الحل قبل عرفة في أشهر الحج فعزم عليهم الأمر حسما لمادة الشيطان وإزالة لهذه الشبهة كما أمرهم أولا بالفطر في السفر أمر رخصة ثم لما دنوا من العدو أمرهم به أمر عزيمة وكما أمرهم بالإحلال في عمرة الحديبية أمر عزيمة لما رآهم قد كرهوا الصلح ومعلوم أنه لو لم يصالحهم ومضى في عمرته لكان جائزا على أن بلالا لم يبين من يعود الضمير إليه في قوله لنا فيجوز أن يعود الضمير إلى ذلك الوفد كما تقدم ويجوز أن يكون بلالا ممن لم يسق الهدي فقال هو لنا من لا هدي معه خاصة أم للناس عامة فقال بل لنا خاصة

وأما قولهم فهلا وجب الفسخ على كل حاج وصار كل من طاف بالبيت حلالا سواء قصد التحلل أو لم يقصد كما يروى عن ابن عباس وامتنع الإفراد والقران لكونهما مفسوخين

قلنا لأن أصحاب رسول الله من بعده حجوا مفردين وقارنين كما تقدم ذكره عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن الزبير وغيرهم فعلم أنهم لم يفهموا وجوب التمتع مطلقا

وأما ما ذكر عن أبي ذر وغيره من الصحابة في أنهم كانوا مخصوصين بالمتعة فقد عارض ذلك أبو موسى وابن عباس وبنو هاشم وهم أهل بيت رسول الله وأعلم الناس بسنته وقول المكيين من الفقهاء وهم أعلم أهل الأمصار كانوا بالمناسك قال مجاهد قدم علينا ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما متمتعين قال وقال لي مجاهد لو خرجت من بلدك الذي تحج منه أربعين عاما ما قدمت إلا متمتعا هو أحدث عهد برسول الله الذي فارق الناس عليه ولا ينبغي أن يرغب عن ما ثبت عن أهل البيت رضوان الله عليهم لاتباع بعض أهل الأهواء لهم في ذلك قال سلمة بن شبيب قلت لأحمد قويت قلوب الروافض حين أفتيت أهل خرسان بمتعة الحج فقال يا سلمة كنت توصف بالحمق فكنت أدفع عنك وأراك كما قالوا

وقال ابن بطة سمعت أبا بكر بن أيوب يقول سمعت إبراهيم الحربي يقول وسئل عن فسخ الحج فقال قال سلمة بن شبيب لأحمد كل شيء منك حسن غير خلة واحدة قال وما هي قال تقول بفسخ الحج قال أحمد كنت أراى لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا أتركها لقولك وقال أبو الحسن اللباني سمعت إبراهيم الحربي وذكر له أحمد رحمه الله فقال ما رأيت أنا أحدا أشد اتباعا للحديث والآثار منه لم يكن يزاله عقل ثم قال جاء سلمة بن شبيب إلى أحمد يوما فقال يا أبا عبد الله تفتي بحج وعمرة فقال أحمد ما ظننت أنك أحمق إلى اليوم ثمانية عشر حديثا أروي عن النبي ولا أفتي به فلم كتبت الحديث قال وما رأيت أحمد رحمه الله قط إلا وهو يفتي به

وأما نهي عمر وعثمان وغيرهما عن المتعة وحمل ذلك على الفسخ أو على كونها مرجوحة فأعلم أن عمر وعثمان وغيرهما نهوا عن العمرة في أشهر الحج مع الحج مطلقا وأن نهيهم له موضع غير الذي ذكرناه

أما الأول فهو بين في الأحاديث قال عمران بن حصين جمع رسول الله بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنها حتى مات ولم ينزل قران يحرمها قال رجل برأيه ما شاء رواه مسلم وغيره وفي لفظ تمتعنا مع رسول الله ورحم الله عمرا إنما ذاك رأي وقد تقدم هذا الحديث فبين أن المتعة التي نهى عنها عمر أن يجمع الرجل بين حجة وعمرة سواء جمع بينها بإحرام واحد أو أحرم بالعمرة وفرغ منها ثم أحرم بالحج وكذلك عثمان لما نهى عن المتعة فأهل علي بهما فقال تسمعني أنهى الناس عن المتعة وأنت تفعلها فقال لم أكن لأدع سنة رسول الله لقول أحد وفي حديث اخر عنه أنه أمر أصحابه أن يهلوا بالعمرة لما بلغه نهي عثمان

وعن السائب بن يزيد أنه استأذن عثمان بن عفان في العمرة في شوال فأبي أن يأذن له رواه سعيد

وعن نبيه بن وهب أن عثمان سمع رجلا يهل بعمرة وحج فقال علي بالمهل فضربه وحلقه قال نبيه فما نبت في رأسه شعرة وقال نبيه إن عمر ابن الخطاب قال إن الناس يتمتعون بالعمرة مع الحج ثم أمر نوفا فأذن في الناس إن الصلاة جامعة فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال أقد مللتم الحج دفرة أقد مللتم شعثه أقد مللتم وسخة والله لأن مللتم ليأتين الله عز وجل بقوم لا يملونه ولا يستعجلونه قبل محله والله لو أذنا لكم في هذا لأخذتم بخلاخيلهن في الأراك يريد أراك عرفة ثم رجعتم مهللن بالحج

وأما الثاني فقد صح عن عمر وعثمان وغيرهما المتعة قولا وفعلا فهذا عمر يروي عن النبي أنه فعل المتعة هو وأصحابه ويقول للصبي ابن معبد لما أهل جميعا هديت سنة نبيك ويروي عن النبي أنه قال أتاني الليلة آت من ربي في هذا الوادي المبارك فقال قل عمرة في حجة

وعن طاوس عن ابن عباس قال هذا الذي تزعمون أنه نهى عن المتعة يعني عمر سمعته يقول لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت وقال له أبي ابن كعب وأبو موسى الأشعري إلا تبين للناس أمر متعتهم هذه فقال وهل بقي أحد لا يعلمها

وقال ابن عباس وما تمت حجة رجل قط إلا بمتعة إلا رجل اعتمر في وسط السنة وفي رواية عن ابن عباس عن عمر قال لو حججت مرة واحدة ثم حججت لم أحج إلا بمتعة رواهما سعيد وفي لفظ لأبي عبيد لو اعتمرت ثم حججت لتمتعت ورواه أبو حفص عن طاوس أن عمر قال لو إعتمرت وسط السنة لتمتعت ولو حججت خمسين حجة لتمتعت وروي الأثرم عن عمر نحو الحديث الأول فقال عمر وهل بقي أحد إلا علمها أما أنا فأفعلها

وعن نافع بن جبير عن أبيه قال ما حج عمر قط حتى توفاه الله إلا تمتع فيها وإنما وجه ما فعلوه أن عمر رأي الناس قد أخذوا بالمتعة فلم يكونوا يزورون الكعبة إلا مرة في السنة في أشهر الحج ويجعلون تلك السفرة للحج والعمرة فكره أن يبقى البيت مهجورا عامة السنة وأحب أن يعتمر في سائر شهور السنة ليبقى البيت معمورا مزورا كل وقت بعمرة ينشؤ لها سفر مفرد كما كان النبي يفعل حيث إعتمر قبل الحجة ثلاث عمر مفردات

وعلم أن أتم الحج والعمرة أن ينشأ لهما سفر من الوطن كما فعل النبي ولم ير لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقا إلا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحج وإن كان جائزا فقد ينهى السلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات والمستحبات لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حراما

قال يوسف بن ماهك إنما نهى عمر رضي الله عنه عن متعة الحج من أجل أهل البلد ليكون موسمين في عام فيصيب أهل مكة من منفعتهما

وقال عروة بن الزبير إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج إرادة ألا يعطل البيت في غير أشهر الحج رواهما سعيد وأيضا فخاف إذا تمتعوا بالعمرة إلى الحج أن يبقوا حلالا حتى يقفوا بعرفة محلين ثم يرجعوا محرمين كما بين ذلك في حديث أبي موسى وغيره حيث قال كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك يعني أراك عرفة ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم

ونحن نذهب إلى ذلك فإن الرجل إذا أنشأ للعمرة سفرا من مصره كان أفضل من عمرة التمتع فعن ابن عمر أن عمر قال افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم أن يعتمر في غير أشهر الحج وأتم لعمرته رواه مالك

وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري عن سالم قال سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إنك تخالف أباك فقال إن أبي لم يقل الذي تقولن إنما قال أفردوا العمرة من الحج أي أن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله عز وجل وعمل بها رسول الله فإذا أكثروا عليه قال أو كتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر

وعن أبي يعفور قال كنت عند ابن عمر فجاءه رجل فسأله عن العمرة في أشهر الحج فقال هي في غير أشهر الحج أحب إلي

وعن محمد بن سيرين قال ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج

وأما الخلاف فيمن أراد أن يجمع بينهما في سفرة واحدة إما العجزة عن سفرة أخرى أو لأنه مشغول عن سفرة أخرة بما هو أهم من الحج من جهاد ونحوه أو لأنه لا يمكنه قصد مكة إلا في أيام الموسم لعدم القوافل أو خوف الطريق ونحو ذلك فإن اعتماره قبل الحج أفضل من أن يعتمر من التنعيم في بقية ذي الحجة لأن أصحاب النبي كلهم فعلوا كذلك ولم يعتمر أحد منهم بعد الحجة في تلك السفرة إلا عائشة خاصة ولم يقم النبي بالمسلمين بعد ليلة الحصبة ولا يوما واحدا بل قضى حجة ورجع قافلا إلى المدينة وكذلك عمر كان وكانوا ينهون عن العمرة بعد الحج في ذلك العام كما ينهون عنها قبله قال أبو بشر حججت أنا وصاحب لي فلما كان ليلة الصدر قال صاحبي إني لا أقدر على هذا المكان كلما أردت أفأعتمر فلم أدر ما أقول له فانطلقنا إلى نافع بن جبير بن مطعم فسألناه فكأنه هابنا ثم إنه اطمئن بعد فقال أما أمراؤكما فينهون عن ذلك وأما رسول الله فقد أعمر عائشة رحمها الله ليلة الصدر من التنعيم ثم أمره أن يخرج من الحرم من سنن وجهه الذي بداء منه ثم يحرم

ومن فعل ذلك فعله رخصة بعد أن يستفتي مع عملهم أنهم لو اعتمروا قبل الحج كان أفضل عن ابن عباس قال والله ما أعمر رسول الله عائشة رضي الله عنها في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون إذا عفى الوبر وبر الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم رواه أبو داود

عن صدقة بن يسار قال سمعت ابن عمر يقول عمرة في العشر الأول أحب إلي من عمرة في العشرين الأواخر قال صدقة فحدثت نافعا فقال كان عبد الله يقول لأن أعتمر عمرة يكون علي فيها هدي أو صيام أحب إلي من أن أعتمر عمرة ليس علي فيها هدي ولا صيام رواه سعيد ورواه مالك عنه قال والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدى أحب إلى من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة

وروى أبو عبيد عن نافع عن ابن عمر قال لأن أعتمر في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة في شهر يجب علي فيه الهدي أحب إلى من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي

على أن هذا الرأي الذي قد رآه عمر وعثمان ومن بعدهما قد خالفهم فيه خلق كثير من الصحابة وأنكروا عليهم مثل علي بن أبي طالب وعمران بن حصين وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وأبي بن كعب

فأما أن يكونوا خافوا من النهي أن يعتقد الناس ذلك مكروها فخالفوهم في ذلك أو رأوا أن ترك الناس آخذين برخصة الله أفضل وأولى

وقد تقدم بعض ما روي في ذلك عن علي وسعد وعمران وابن عباس وعن الحسن أن عمر بن الخطاب أراد أن ينهي عن المتعة فقال له أبي ابن كعب ليس ذلك لك قد تمتعنا مع رسول الله فلم ينهانا عن ذلك قال فأضرب عمر عن ذلك

وعن عمرو قال سمعت ابن عباس وأنا قائم على رأسه وسألوه عن المتعة متعة الحج فقيل له إن معاوية ينهي عنها فقال إنظروا في كتاب الله فإن وجدتموها فيد فقد كذب على الله وعلى رسوله وإن لم تجدوها فقد صدق

وعن سعيد بن جبير قال سمعت ابن الزبير يعرض بابن عباس فقال إن هاهنا قوما أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون في المتعة أنه لا بأس بها فقال ابن عباس أما لي فليسأل أمه فسألها فقالت صدق ابن عباس قد كان ذلك فقال ابن عباس لو شئت أن أسمي ناسا من قريش ولدوا منها لفعلت رواهن سعيد

وعن ابن عباس قال تمتع رسول الله قال عروة بن الزبير نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال النبي ويقولون نهى أبو بكر وعمر رواه أبو حفص وأما كون النبي أفرد الحج ولم يعتمر في أشهره فعنه ثلاثة أجوبة

أحدها أن هذا ليس بصحيح فإن أكابر الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وعمران بن حصين وابن عمر وعائشة وابن عباس وأبي طلحة وأنس بن مالك وسراقة بن مالك كل هؤلاء يروون التمتع إما بأن يكون أحرم بالعمرة فلما قضاها أحرم بالحج أو أحرم بالعمرة والحج جميعا

فإن رواية من قرن لا تخالف رواية من روى التمتع سواء أراد به أنه أهل بهما جميعا أو جمعهما في سفرة واحدة من شهر الحج وهذا لا يشك فيه لأنه قد صح عنه أنه اعتمر مع حجته

فروى أنس بن مالك أن رسول الله اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعمرة الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة وعمرة مع حجة متفق عليه

وعن ابن عمر أيضا أن رسول الله اعتمر أربع عمر وأقرته عائشة على ذلك متفق عليه وعن عائشة أنها قالت للنبي اعتمرت ولم أعتمر قال يا عبد الرحمن إذهب بأختك فأعمرها من التنعيم رواه البخاري

وفي جميع الأحاديث تقول للنبي تذهبون بحجة وعمرة وأذهب أنا بحجة

وهذه نصوص في أن النبي اعتمر قبل أن يحل من حجة وهو أيضا دليل على أن جميع الصحابة قد اعتمروا مع حجهم قبل ليلة الحصبة فعلم أنهم كانوا متمتعين أو قارنين

وعن ابن عباس قال إعتمر رسول الله أربع عمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء من قابل والثالثة من الجعرانة والرابعة مع حجته رواه الخمسة إلا النسائي

وعن جابر أن النبي حج ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة رواه ابن ماجة والترمذي وقال غريب

ومعلوم قطعا أن النبي لم يعتمر عقيب الحجة هو ولا أحد من أصحابه سوى عائشة وإنما خرج من مكة ليلة الصدر

وإنما إعتمد الناس في العمرة بعد الحج على حديث عائشة وقد تقدم ذلك مفسرا فيجب أن يكون إعتمر في أشهر الحج إما قبل الحج أو معه ولم يحل من إحرامه ومثل هذا يسمى قارنا ومتمتعا بكل حال لأنه جمعهما في إحرام واحد

وأيضا فإنه قد روي عنه ألفاظ صريحة من قوله مثل قوله لبيك عمرة وحجا وقوله إني قرنت وقوله قل عمرة في حجة ومثل ما روت حفصة قالت قلت يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر متفق عليه ومن ذكر أنه أفرد الحج فإنما أخبر عن إعتقاده

وأيضا فإن رواة التمتع أكثر عددا وأجل قدرا وروايتهم أصح سندا وأشهر نقلا

وأيضا فإن كل من روى الأفراد روى عنه أنه تمتع من غير عكس بل طرق الروايات عن ابن عمر وعائشة بأنه تمتع أصح

وأيضا فإن عامة الروايات التي فيها الإفراد إنما ذكروه مع أصحابه مثل حديث جابر وابن عباس وكان قصدهم بذلك وأيضا فمعنى قولهم أفرد الحج أي أنه لم يحل من إحرامه بعمرة مفردة ولم يطف للعمرة طوافا يتميز به فصورته صورة المفرد وإن لم يكن لكلامهم محمل صحيح فيجب أن يحكم بوقوع الخطأ في تلك الروايات لما تقدم

وأيضا فإن من روى أنه تمتع مثبت لزيادة نفاها غيره والمثبت أولى من النافي

وقال أحمد في رواية أبي طالب كان هذا في أول الأمر بالمدينة وقد زعم بعض أصحابنا أنه يجوز أنه كان قد تحلل من عمرته ثم أحرم بالحج مفردا فيسمى مفردا لذلك قال وعلى هذا يجمع بين كونه متمتعا وكونه لم يفسح الحج وإنما يمتنع الفسخ ممن كان قارنا أو مفردا وهذا غلط فإن النبي لم يتحلل في حجته وهم إنما سألوه عن كونه لم يحل سواء كان قد أحرم بعمرة أو بحجة ولم يسألوه عن كونه لم يفسخ كأن من أراد أن يجمع بينهما تمتع ولم يفرد على أنهم لو سألوه عن ذلك فالأنه كان قارنا الثاني أنه وإن كان أفرد فهو لم يعتمر بعد حجته من التنعيم ولا من غيره هو ولا أحد من أصحابه غير عائشة وإنما كان قد اعتمر قبل ذلك والافراد على هذا الوجه هو أفضل من التمتع ومن القران عندنا وهذا هو الجواب عمن أفرد الحج من الخلفاء الراشدين فإن أحدا منهم لم ينقل عنه أنه إعتمر في سفرته تلك وإنما كانوا يحجون ويرجعون ويعتمرون في وقت اخر أو لا يعتمرون وإفراد الحج على هذا الوجه أفضل من المتعة

الثالث أن اخر الأمرين منه كان التأسف على المتعة لأنه رأى الإحلال أفضل كما في حديث جابر وهو لم يكن يشك في جواز العمرة في أشهر الحج حتى يعتقد ما اعتقده في أصحابه من أنهم فسخوا لكونهم لم يكونوا يجوزون العمرة في أشهر الحج

وأما كون المتعة تفتقر إلى دم فذلك الدم دم نسك بدليل أنه يجوز التمتع لغير عذر ودماء الجبران لا يجوز إلتزامها إلا لعذر وبدليل جواز الأكل منه كما نطقت به الأحاديث الصحيحة ثم نقول وإن كان دم جبران فهو مخير بين إستدامة الإحرام بلا جبران وبين الإحلال والجبران وهذا أفضل لأن كلامهم فيمن يعتمر في ذي الحجة من أدنى الحل وهذه العمرة ليست بطايل فالإحلال والدم والعمرة في أثناء الحج أفضل منها وهذا هو الجواب عن قولهم المفرد يأتي بنسكين تامين فإنه متى أتم العمرة من دويرة أهله أو من فهو أفضل من التمتع والعمرة من أدنى الحل ليست بتلك التامة

وأما كون المتعة رخصة فكذلك الإحرام من أدنى الحل رخصة ثم الرخص في العبادات أفضل من الشدائد كما تقدم تقريره في الصلاة

وأيضا فإنه إذا اعتمر بعد الحجة لم يتمكن من حلق رأسه لأنه لم يكن قد نبت شعره والحلق أو التقصير سنة عظيمة فعمرة وحجة يأتي فيها بالحلق أفضل من عمرة تخلوا إحداهما عن الحلق والتفصير فإنه من جملة أعمال النسك وأيضا فإن بعض الناس قد ذهب إلى أن العمرة من أدنى الحل لا تجزىء عن حجة الإسلام وكذلك عمرة القارن وهو إحدى الروايتين عن أحمد وذهب بعضهم إلى أن الإعتياض عنها بالطواف أفضل فيجب أن يكون ما أجمع على أجزائه ويتسع الوقت بعده للطواف أفضل

وأيضا فإنه إذا أراد أن يجمع بينهما في سفرة واحدة كان تقديم العمرة أحوط له بخلاف ما إذا أخرها فإنه تغرير بها لأن وقت الواحد واحد لا يتغير بتقديم العمرة وتأخيرها وهذا معنى قول أحمد هو آخر فعل النبي وهو يجمع الحج والعمرة جميعا ويعمل لكل واحد على حده فبين أنه يجمع الحج والعمرة فيحل منهما جميعا إذا قضى حجه وله فضيلة على القارن بأنه يعمل لكل واحد على حدة وأيضا فإن التمتع بالعمرة إلى الحج مخالفة لهدي المشركين ودلهم فإنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور وكلما كان من المناسك فيه مخالفة لهدي المشركين فإنه واجب أو مستحب مثل الخروج إلى عرفة وترك الوقوف عشية عرفة بمزدلفة والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس والإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس والطواف بالثياب ودخول البيت من الباب وهو محرم والطواف بالصفا والمروة

وأيضا فما أشار إليه أحمد في رواية أبي طالب فقال إذا دخل بعمرة فيكون قد جمع الله له عمرة وحجة ودما وهذا لأنه يأتي بالعمرة والحج على حدة وذلك أفضل من أن يجمعها بإحرام واحد لأنه يأتي بإحلالين وإحرامين وتلبيتين وطوافين وسعيين فهو يترجح على القارن من هذا الوجه وعمرته تجزؤه عن عمرة الإسلام بالإتفاق بخلاف عمرة القارن فإن فيها اختلاف وليس القارن بأعجل من المتمتع لأن كلاهما يفرغ من العمرة والحج جميعا ويزيد المتمتع عليه بأنه يفرغ من العمرة قبله فيكون أسبق إلى أداء النسك

ويترجح على المفرد بأنه يأتي بالعمرة والحج في الوقت الذي يأتي فيه المفرد بالحج وحده ونسكان أفضل من نسك وأنه يأتي مع ذلك بدم المتمتع وهو دم نسك كما تقدم فيكون ما اشتمل علي زيادة أفضل كما فضل المفرد على القارن لأنه يطوف ويسعى مرتين وعمرة وحجة وهدي أفضل من حجة لا عمرة فيها ولا هدي وقد تقدم عن ابن عمر أنه نبه على هذا المعنى حيث قال لأن أعتمر في أشهر الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر في ذي الحجة بعد الحج ولا أهدي ويتسع الوقت للمتمتع بعد الصدر من منى إن أحب أن يأتي بعمرة أخرى وإن أحب أن يطوف بالبيت فيكون ذلك زيادة لا سيما إن خيف أن لا يتمكن من الاعتمار بعد الحج لخوف أو غلاء أو غير ذلك فتحصيل العمرة قبل الحج أوثق وإن كان الحاج إمرأة خيف عليها أن تحيض بعد الصدر ويستمر بها الحيض حتى لا تتمكن من الإعتمار فإذا دخلت متمتعة وحاضت صنعت كما صنعت عائشة رضي الله عنها

فأما إن ساق الهدي فينبغي أن يكون أفضل من الإفراد بلا تردد لأن النبي لا شك أنه ساق الهدي وكان قارنا أو متمتعا والأظهر أنه كان قارنا فكيف يفضل ما لم يفعله النبي على فعله وذلك لأنه يأتي بالعمرة والحج جميعا كما تقدم

وأما كون الافراد أفضل من القرن فهكذا قال أصحابنا وهذا إذا لم يق الهدي ولم أجد عن أحمد نصا بذلك قالوا لأن في عمل المفرد زيارة على القارن وهو أنه يأتي بإحرامين وإحلالين وتلبيتين وطوافين وسعيين ويتوجه

وأيضا فإن المتعة قد اختلف في وجوبها سواء أحرم بالعمرة أولا أو بالحج أو بهما فكان ابن عباس يرى وجوبها فعن عطاء ومجاهد أن ابن عباس كان يأمر القارن أن يجعلها عمرة إذا لم يكن ساق الهدي وعن أبي هشام أنه قد قدم حاجا فسأل ابن عباس فقال اجعلها عمرة ثم لقيت ابن عمر فقال اثبت على إحرامك ثم رجعت إلى أبن عباس فأخبرته بقوله فقال إن طوافك بالبيت ينقض حرمك كلما طفت فجدد إهلالا وفي رواية قال أهللت بالحج فلقيت ابن عباس وأنا أطوف وألبي فقال أبحجة أو بعمرة قلت حجة قال إجعلها عمرة قلت كيف أجعلها عمرة وهذا أول ما حججت قال فأكثر من التلبية فإن التلبية تشد الإحرام وإن البيت ينقض والصفا والمروة تنقض

وعن مسلم القري قال سمعت ابن عباس يقول يحل الحج الطواف والسعي

وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني قدمت حاجا ولم أذكر عمرة فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة فقال له ابن عباس اعتمرت فقال له القوم إنك لم تفهمه فعاد فقال إني قدمت حاجا قال فصنعت ماذا قال طفت بالبيت وبين الصفا والمروة فقال اعتمرت فقالوا له عد فإنه لم يفهم فقال إني قدمت حاجا ولم أذكر عمرة فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة فقال حدث أمر هي ثلاثا فإن أنت فأربع ولم يقل هو ذاك قال وددت أنك قصرت وتقدم عنه أنه قال والله ما تمت حجة رجل إلا بمتعة إلا رجل اعتمر في وسط السنة وقد تأول على ذلك الكتاب والسنة

قال أحمد ثنا يحيى بن سعيد حدثني ابن جريج قال أخبرني عطاء قال قلت له من أين كان ابن عباس يأخذ أنه من طاف بالبيت فقد حل قال من قول الله عز وجل { ثم محلها إلى البيت العتيق } ومن أمر النبي أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع

قال ابن أبي موسى لا يستحب لأحد أن يحرم بنية الفسخ فأما من أحرم بالحج بنية المضي فيه ثم بدا له أن يفسخ رغبة في الجمع بين النسكين في قلبه جاز

فإن قيل فقد اختلف في كراهة المتعة كما حكيتم عن رجال من الصحابة وعن حيوة بن شريح قال أخبرني أبو عيسى الخرساني عن عبد الله بن القاسم عن سعيد بن المسيب أن رجلا من أصحاب النبي في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج

وعن قتادة عن أبي شيخ الهنائي ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة أن معاوية بن أبي سيفان قال لأصحاب النبي هل تعلمون أن رسول الله نهى عن كذا وكذا وركوب جلود النمور قالوا نعم قال فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة فقالوا أما هذا فلا قال أما إنها معها ولكن نسيتم رواهما أبو داود وهذا النهي إما أن يفيد الكراهة أو يكون معناه النهي عن فسخ الحج إلى العمرة وهو جمع بين الحج والعمرة

قلنا قد أجمع العلماء على أن المتعة لا تكره وقد ذكرنا معنى ما نقل في ذلك عن الصحابة ولكن كان بعض أمراء بني مروان يشدد في ذلك ويعاقب على المتعة وهذا قد يكون رأى ذلك لنوع مصلحة مع أن هذا لا يعد خلافا وقد أنكر الصحابة الذين علموا معنى كلام عمر مثل ابنه عبد الله وغيره ذلك على أنه لو نطق أحد بكراهة المتعة لكان مخصوما بكتاب الله وسنة رسول الله بخلاف من قال بوجوبها فإنه أوجه حجة وأحسن انتزاعا إذ كان رسول الله قد أمر المسلمين بها وتغيظ على من إمتنع منها

وأما الحديثان فشاذان منكران مخالفان لكتاب الله وسنة رسوله الناطقة بأن هذا الحكم لا ينسخ حيث قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة قال أبو بكر الأثرم قد يكون من الحافظ الوهم أحيانا والأحاديث إذا تظاهرت وكثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ كما قال إياس بن معاوية وإياك والشاذ من العلم وقال إبراهيم بن آدم إنك إن حملت شاذا من العلم حملت شرا كثيرا قال والشاذ عندنا هو الذي يجيء على خلاف ما جاء به غيره وليس الشاذ الذي يجيء وحده بشيء لم يجيء أحد بمثله ولم يخالفه غيره

ولعل معناه أن يعتمر الرجل قبل الحج ثم يرجع إلى مصره ويؤخر الحج عن ذلك العام فيكون هذا منهي عنه لكون الحج أوجب من العمرة وقد تكلف مشقة السفر إلى مكة ثم رجع بغير حج والحج واجب على الفور

وأما الاخر

فصل

وإذا اعتمر قبل أشهر الحج وأفرد الحج من سنته فهو أفضل من التمتع

قال أحمد في رواية إسحق بن إبراهيم والأثرم هي في شهر رمضان أفضل وهي في غير أشهر الحج أفضل

وقال الأثرم وسعدان بن يزيد قبل لأبي عبد الله تأمر بالمتعة وتقول العمرة في غير أشهر الحج أفضل فقال إنما سئلت عن أتم العمرة فالمتعة تجزؤه من عمرته فأما أتم العمرة فإ تكون في غير أشهر الحج

فإذا اعتمر في رمضان أو قبل رمضان وأقام بمكة حتى يحج من سنته فهو أفضل من المتعة لما تقدم عن عمر وعثمان وعلي وغيرهم في ذلك

وإن أقام بعد الحج إلى المحرم حتى يعتمر فهل هو أفضل من التمتع وإن عاد بعد الحج إلى مصره ثم عاد للعمرة

وإن اعتمر في أثناء السنة ثم عاد في أشهر الحج فهل الأفضل أن يتمتع أو يفرد ومن حج واعتمر ثم أراد أن يحج فهل الأفضل أن يعتمر ويحج أو يحج فقط أو يحج

وأما إذا حج ثم اعتمر في ذي الحجة فالمتعة أفضل من هذا كما تقدم وظاهر رواية الأثرم وسعدان بن يزيد

فإن عاد في ذي الحجة أو المحرم إلى الميقات فهل هو أفضل من المتعة

فصل

ويجوز الإحرام بنسك معين من عمرة أو حجة أو عمرة وحجة سواء كانت عمرة تمتع أو عمرة مفردة ويجوز أن يحرم مطلقا من غير أن ينوي عمرة أو حجة ويجوز أن يحرم بمثل ما أحرم به فلان وإن لم يعرف ما أحرم به لما روى أنس بن مالك قال قدم علي على رسول الله من اليمن فقال بم أهللت قال بما أهل به النبي قال لولا أن معي الهدي لأحللت متفق عليه وفي حديث جابر فقدم علي من اليمن ومعه هدي فقال أهللت بما أهل به النبي وفي لفظ قال له النبي بم أهللت يا علي قال بما أهل به النبي قال فاهد وأمكث حراما كما أنت وفي لفظ قال أمر النبي عليا أن يقيم على إحرامه متفق عليه وهذا للبخاري ولمسلم ما قلت حين فرضت الحج قال قلت اللهم إني أهل بما أهل به النبي قال فإن معي الهدي فلا تحل وكذلك في حديث البراء

وعن أبي موسى قال سقدمت على النبي وهو منيخ بالبطحاء فقال بم أهللت قال أهللت بإهلال النبي قال سقت من هدي قال لا قال فطف بالبيت والصفا والمروة ثم حل وفي لفظ فقال كيف قلت حين أحرمت قال قلت لبيك بإهلال كأهلال النبي وذكره متفق عليه

ثم إن علم ما أحرم فلان تعين عليه وكان حكمه حكم فلان

فإن علم في أثناء الحج

وإن لم يعلم بأن مات زيد أو فقال ابن عقيل هو كالمطلق في جواز صرفه إلى أحد الأنساك الثلاثة وقال القاضي هو كالمنشيء يصرفه إلى ما شاء وهذا أصح وإن أحرم مطلقا فقال أصحابنا بخير في صرفه إلى تمتع إو إفراد أو قران والمستحب له صرفه إلى المتعة وقد قال أحمد في رواية مهنا فيمن أحرم ولم ينو حجا ولا عمرة حتى مضت أيام فقال يقدم مكة بعمرة ويطوف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يحلق ويقصر ثم يحرم بالحج

وحمل القاضي وغيره من أصحابنا هذا على الإختيار والإستحباب لأنا نستحب التمتع لمن عين الحج والقران فأن نستحبه لمن أبهم الإحرام أولى ولأن أصحاب رسول الله كانوا قد أحرم بعضهم شبيه بهذا الإحرام فأمره النبي أن يفعل كذلك

فإن كان الإحرام قبل أشهر الحج إنعقد إحرامه بعمرة فيما ذكره أصحابنا لأن الإحرام بالحج قبل أشهر مكروه وإن أراد أن يصرفه إلى عمرة مفردة جاز أيضا فيما ذكره أصحابنا

فإن طاف وسعى قبل أن يفرضه في شيء فقال القاضي في المجرد وا وغيرهما لا يعتد بذلك الطواف لأنه طاف لا في حج ولا في عمرة وقال يتعين طوافه للعمرة المسألة الثانية

أنه يجوز أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ويصير قارنا لأن في حديث ابن عمر وعائشة المتقدم وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج متفق عليه إلا أن هذا يحتمل أن يكون بعد انقضاء عمل العمرة وفي حديث علي أنه لما رأى ذلك من عثمان أهل بهما جميعا وعن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا وذكرت الحديث متفق عليه

وعن نافع قال أراد ابن عمر الحج عام حجت الحرورية في عهد ابن الزبير فقيل له إن الناس كائن بينهم قتال ونخاف أن يصدوك فقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إذا أصنع كما صنع رسول الله أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحد أشهدكم أني قد جمعت حجة مع عمرتي وأهدي هديا مقلدا اشتراه بقديد وانطلق حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا ولم يزد على ذلك ولم يتحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر فحلق ونحر ورأى أن قد قضي طواف الحج والعمرة بطوافة الأول ثم قال كذلك صنع رسول الله متفق عليه

ومعنى قوله كذلك صنع رسول الله أنه لم يطف بالبيت وبين الصفا والمروة إلا مرة قبل التعريف مع أنه كان قد جمع الحج إلى العمرة ولم يرد به أنه لم يطف بالبيت بعد النحر فإن النبي قد طاف بعد التعريف وقد روى ذلك ابن عمر في غير موضع هو وسائر الصحابة وإنما قصد نافع أنه اكتفى للقران بطواف واحد بالبيت وبين الصفا والمروة لم يطف طوافين ويسع سعيين

وعن عبد الرحمن بن أبي نصر عن أبيه قال خرجت وأنا أريد الحج فقلت أمر بالمدينة فألقى عليا فاقتدى به فقدمت المدينة فإذا علي قد خرج حاجا فأهللت بالحج ثم خرجت فأدركت عليا في الطريق وهو يهل بعمرة وحجة فقلت له يا أبا الحسن إنما خرجت من الكوفة لأقتدى بك وقد سبقتني فأهللت بالحج أفأستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه فقال لا إنما ذاك لو كنت أهللت بعمرة فخرجت معه حتى قدم فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة لعمرته ثم عاد فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة لحجته ثم أقام حراما إلى يوم النحر رواه سعيد والأثرم

ويجوز إضافة الحج إلى العمرة لكل محرم بالعمرة ثم إن أضافه إليها قبل الطواف وقع الطواف عن القران وكان قارنا وإن فعل ذلك بعد الشروع في الطواف لم يجز ذلك وهذه الإفاضة تتعين على من أحرم بعمرة وضاق الوقت عن أن يعتمر قبل الحج فخشي فوته إما بأن تكون إمرأة وقد حاضت فلم بمكنها أن تطوف بالبيت فتحرم بالحج وتصير قارنة وتترك طواف القدوم كما لو كانت مفردة أو بأن يوافي مكة يوم عرفة ويضيق الوقت عن إتمام العمرة والإحرام بالحج ونحو ذلك فلو أراد أن يبقى على العمرة ويفوت الحج وكذلك من لم يخش فوات الحج وهو قارن إذا وقف قبل أن يطوف بالبيت فهو باق على قرانه والوقوف يعرفه لا ينقض العمرة هذا هو المذهب المنصوص في رواية أبي طالب فيمن قدم بعمرة فخشي الفوت لم يطف وأهل بالحج وأمسك عن العمرة كما فعلت عائشة

قيل له أن أبا حنيفة يقول قد رفض العمرة وصار حجا فقال ما قال هذا أحد غير أبي حنيفة إنما قال النبي أمسكي عن عمرتك وامتشطي وأهلي بالحج وما رفضت العمرة فلما قالت أيرجع أزواجك بعمرة وحج قال لعبد الرحمن أعمرها من التنعيم أراد أن يطيب نفسها ولم يأمرها بالقضاء

وقال أبو طالب سألته عن حديث عائشة لما حاضت كيف يصنع مثلها قال لما دخلت بعمرة حاضت بعدما أهلت فقال لها رسول الله أمسكي عن العمرة وأهلي بالحج فهذه شبهت بالقارن فتذهب فتقضي المناسك كلها فإذا كان يوم النحر جاءت مكة فطافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة قيل له طواف قال نعم طواف واحد يجزؤ القارن وهذه يجزؤها طواف واحد

وقال في رواية الميموني وقد ذكر له عن أبي معاوية يرويه انقضي عمرتك فقال غير واحد يرويه أمسكي عن عمرتك أيش معنى إنقضي هو شيء ينقضه هو ثوب تلقيه وعجب من أبي معاوية وهذا يستقيم على قولنا إنه ليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد

فأما إذا قلنا يلزم القارن أن يطوف ويسعى أولا للعمرة ثم يطوف بعد ذلك ويسعى للحج فإن عمرته تنقضي قبل التعريف ولا يبقى إلا في إحرام الحج

فعلى هذا إذا لم يطف للعمرة ولم يسع قبل الوقوف فإن عمرته تنتقض وعليه قضاؤها ويكون مفردا وعليه دم جناية ذكر ذلك القاضي وابن عقيل وغيرهما فعلى هذا إذا رفض العمرة لم يحل وإنما يكون قد فسخ العمرة إلى الحج

وأصل ذلك حديث عائشة فإنها قدمت مكة وهي متمتعة فأمرها رسول الله أن تهل بالحج وتترك العمرة

فمن قال بالوجه الثاني قال أمرها برفض العمرة وأن تصير مفردة للحج ولم يوجب عليها دم قران بل ذبح عنها يوم النحر دم جبران لتأخير العمرة وأوجب عليها قضاء ذلك العمرة التي رفضتها قالوا لأن في حديثها قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول الله من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا فقدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلى النبي فقال إنقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة قالت ففعلت فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت فقال هذه مكان عمرتك فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا وفي لفظ قالت فحضت فلم أزل حائضا حتى يوم عرفة ولم أهل إلا بعمرة فأمرني النبي أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج وأترك العمرة ففعلت ذلك حتى قضيت حجي فبعث معي عبد الرحمن أبن أبي بكر فأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم وفي لفظ أهللت مع رسول الله في حجة الوداع فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي فزعمت أنها حاضت ولم تطهر حتى دخلت ليلة عرفة قالت يا رسول الله هذه ليلة عرفة وإنما كنت تمتعت بعمرة فقال لها رسول الله إنقضي رأسك وامتشطي وامسكي عن عمرتك وفي رواية فلما كانت ليلة الحصبة قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة وفي لفظ حتى جئنا إلى التنعيم فأهللت منها بعمرة جزاء بعمرة الناس التي اعتمروها وفي لفظ قلت يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم أتينا بمكان كذا وكذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك وفي لفظ فدخل علي رسول الله وأنا أبكي فقال ما يبكيك يا هنتاه قلت سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة قال وما شأنك قلت لا أصلي قال فلا يضرك إنما أنت إمرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجك فعسى الله أن يرزقكيها قالت فخرجنا في حجته وفي لفظ فخرجت في حجتي حتى قدمنا منى فطهرت وساق الحديث متفق عليه وللبخاري إنها قالت يا رسول الله اعتمرتم ولم أعتمر قال يا عبد الرحمن اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم وفي رواية له أنها قالت يا رسول الله يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ولم أزد على الحج فقال لها اذهبي وليردفك عبد الرحمن فأمر عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم وفي رواية لمسلم أنها قالت يا رسول الله أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر

قالوا فهذا دليل على أنها صارت مفردة وأنها رفضت العمرة لقول النبي إنقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ولو كان الإحرام بحاله لم يأمرها بالإمتشاط ولقوله أهلي بالحج ودعي العمرة واتركي العمرة وفي لفظ وإمسكي عن عمرتك وهذا ظاهر في أنها ترفض العمرة

وقد روى لا سيما وكان هذا ليلة عرفة أويومها والناس قد خرجوا من مكة يوم التروية وقد تعذر فعل العمرة فعلم أنه أراد ترك إحرامها

ولقوله هذه مكان عمرتك ولو كانت عمرتها بحالها لم يقل هذه مكان عمرتك كما لم يحتج إلى ذلك سائر من قرن من أصحابه لأنه كانت لهم عمرة صحيحة

وأيضا فقولها أيرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة فقال أوما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت لا قال فاذهبي مع أخيك فأهلي بعمرة ثم بين أن من لم يطف تلك الليالي يكون حاله كذلك يرجع بحجة بدون عمرة ثم أمرها بالقضاء بحرف الفاء وأيضا فقوله لها لما ذكرت له الحيض فعسى الله أن يرزقكيها قالت فخرجنا في حجته دليل على أنها لم تبق في عمرة وأنها ترتجي ذلك فيما بعد

وأيضا فلو كان الواقف بعرفة في إحرام بعمرة لكان لا يحل حتى يطوف بالبيت ومعلوم أنه رمى جمرة العقبة تحلل التحلل الأول

وأيضا فإن الوقوف من خصائص الحج فامتنع أن يكون في عمرة وهو واقف بعرفه وكذلك ما بعد الوقوف بمزدلفة ومنى ولهذا إذا فاته الوقوف تحلل بطواف وسعي ولم يقف بالمواقف الثلاثة لأن ذلك لا يكون في عمرة

ووجه الأول ما روى طاوس عن عائشة أنها أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي يوم النحر يسعك طوافك لحجك وعمرتك فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج رواه أحمد ومسلم

وعن مجاهد عن عائشة أنها حاضت بسرف فتطهرت بعرفة فقال لها النبي يجزيء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك رواه مسلم

وعن عطاء عن عائشة أن النبي قال لها طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك رواه أبو داود وعن جابر قال دخل رسول الله على عائشة ثم وجدها تبكي وقالت قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل ولم أطف بالبيت فقال اغتسلي ثم أهلي بالحج ففعلت ووقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة ثم قال قد حللت من حجك وعمرتك جميعا قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت قال فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم وذلك ليلة الحصبة متفق عليه فهذا نص في أنه لا يجب عليها قضاء العمرة وأن الطواف الذي طافته يوم النحر بالبيت وبين الصفا والمروة يسعها لحجها وعمرتها وأنها باقية على عمرتها مقيمة عليها وأن النبي لم يأمرها بقضاء العمرة حتى ألحت عليه ويؤيد ذلك أن عامة الروايات تدل على أن النبي لم يأمرها ابتداء بالعمرة ولو كان القضاء واجبا عليه لما أهمل النبي الأمر به حتى تطلب هي ذلك بل كان أمرها بذلك بل أعملها به حين قال لها إقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت بأن يقول فإذا حللت فاقضي عمرتك ويؤيد ذلك أن النبي أهدى عنها وبعث إليها من هديها فعلم أنه كان دم نسك لأنه لو كان دم جناية لم يجز الأكل منه

وقوله لها دعي عمرتك وامسكي عن عمرتك يعني عن إتمامها مفردة كما كنت أوجبته وأهلي بالحج فتصير العمرة في ضمن الحج ولا يبقى لها صورة فإنه صرح ببقاء العمرة كما ذكرناه ولهذا قال امسكي عنها والإمساك عنها لا يقتضي الخروج منها يقتضي ترك عملها الذي به تتم وتخرج منها وأما نقض الرأس

وأما القضاء فإنما يدل على ضعف عمرة القران وأنها ليست بتامة وسنتكلم إن شاء الله على ذلك وكذلك قولها يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة المسألة الثالثة

أنه إذا أحرم بالحج لم يجز أن يدخل عليه العمرة فإن أدخلها عليه لم تنعقد هذه ولم يلزمه بها شيء وهو باق على حجه هذا هو المذهب المنصوص في غير موضع

قال في رواية المروذي فيمن قدم يوم عرفة معتمرا فخاف أن يفوته الحج إن طاف أدخل الحج على العمرة ويكون قارنا قيل له فيدخل العمرة على الحج فقال لا

ونقل عنه حنبل إذا أهل بعمرة أضاف إليها الحج وإذا أهل بالحج لم يضف إليه عمرة ونقل عنه أبو الحارث إذا أحرم بعمرة فلا بأس أن يضيف إليها حجة فإذا أهل بالحج لم يضف إليه عمرة

وقد روى عنه حرب وقد سأله عمن أهل بالحج فأراد أن يضم إليها عمرة فكرهه

ونقل عنه الأثرم إذا أهل بعمرة أضاف إليها الحج ولا بأس إنما الشأن في الذي يهل بالحج أيضيف إليه عمرة ثم قال علي يقول لو كنت بدأت بالعمرة

وقال في رواية عبد الله قوله دخلت العمرة في الحج يعني العمرة في أشهر الحج وقال لم أسمع في ضم العمرة إلى الحج إلا شيئا ضعيفا

ولعل هذا يحمل على كراهة ذلك لا على بطلانه فإنهم كلهم يكرهون ذلك

ووجه ذلك ما احتج به أحمد من حديث علي المتقدم لما سأله المحرم بالحج وكان علي قد أحرم بالعمرة والحج فقال هل أستطيع أن أدخل معك فيما أنت فيه قال لا إنما ذلك لو كنت أهللت بعمرة فأخبره علي رضي الله عنه أنه لايستطيع القران إذا أحرم بالحج أولا ويستطيعه إذا أحرم بالعمرة أولا وقوله لا تستطيعه دليل أن ذلك لا يمكن البتة وهو أبلغ من النهي

فصل

فأما إذا أحرم بحجتين أو عمرتين فإنه ينعقد بإحداهما ولا يلزمه قضاء الاخر نص عليه فيمت أهل بحجتين لا يلزمه إلا حجة وذلك لأن الجمع بينهما غير ممكن فأشبه ما لو أحرم بصلاتين قال في رواية أبي طالب إذا قال لبيك العام وعام قابل فإن عطاء يقول يحج العام ويعتمر قابل فإن قال لبيك بحجتين فليس عليه إلا حجة واحدة التي لبى بها ولا يكون إهلالا بشيئين

ولو قال لبيك بمائة حجة أكان يجب عليه مائة حجة ليس عليه شيء وأصل قول عطاء التسهيل يقول المشيء إلى بيت الله وعليه حجة وكفارة وذكر معه أبو بكر إذا نذر أن يطوف على أربع

فصل

وإذا نسي المحرم ما أحرم به أو أحرم بمثل فلان وتعذر معرفته قال أحمد في رواية أبي داود في رجل لبى فنسي لا يدري بحج أو عمرة يجعلها عمرة ثم يلبي من مكة

وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سيفان في رجل أهل لا يدري بحج أو عمرة فأحب إلى أن يجمعهما قال أحمد أنا أقول إن كان أهل بحج فشاء أن يجعله عمرة فعل وإن كان أهل بحج وعمرة ولم يسق الهدي وشاء أن يجعلها عمرة فعل فقد نص على أنه يجعله عمرة فيتمتع بها إلى الحج وهذا حسن مستقيم على الأصل الذين تقدم فإنه إذا شرع لمن يذكر ما أحرم به أن يجعله متعة فلمن لا يذكر أولى

ثم اختلف أصحابنا فأقره بعضهم على ظاهرة وهذه طريقة أبي الخطاب وغيره ثم بعض هؤلاء قال إنما يلزمه عمرة على ظاهر رواية أبي طالب والصواب أنه يلزمه عمرة يتمتع بها إلى الحج فلزمه عمرة وحج كما بينه في رواية أبي داود إلا أن يكون قد ساق الهدي فإن قياس هذا أن يلزمه القران وهذا لأنه قد تيقن وجوب أحد الثلاثة في ذمته فلزمه الخروج منه بيقين كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها وإذا تمتع فإنه قد خرج بيقين أما إذا أفرد جاز أن يكون الذي في ذمته عمرة أو قرانا وإذا قرن جاز أن يكون قد أحرم بالحج أولا فلا يصح إدخال العمرة عليه

وأما القاضي وأكثر أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافة وابن عقيل وغيرهم فإنهم يخيرونه بين العمرة والحج وحملوا كلام أحمد على الإستحباب لأن الأصل براءة ذمته من الأنساك الثلاثة فلم يجب إلزامه بالشك وزعم القاضي أنه لو نذر إحراما ونسيه لم يلزمه إلا عمرة لأنها الأولى وكذلك هنا ولأن الشك في التعيين يجعل التعيين كعدمه فيكون بمنزلة من أحرم مطلقا فله صرفه إلى ما شاء وهذا بخلاف الصلاة فإن التعيين شرط في إحرامها فإذا صلى صلاة مطلقة لم تصح والحج بخلاف ذلك فإنه يصح مع الإبهام فإذا شك في عين ما أحرم به فالأصل عد التعيين وإنما يتقين أنه محرم والإحرام بأحد الثلاثة يبريء الذمه من هذا الإحرام

فعلى هذا إن عينه بقران فإن كان قارنا فقد أجزأ عنه وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة وذلك صحيح إلا أن يقال إن المتمتع يجب عليه الحج وإن كان مفردا فقد أدخل الحج على العمرة

فإن قيل يصح إدخال العمرة على الحج أجزأته عنهما وإن قيل لا يصح على المشهور من المذهب فيصح له الحج بكل حال

وأما العمرة فهل تجزئه على وجهين أحدهما تجزئه لأنه قد صار قارنا

والثاني لا تجزئه وهو أصح لأنه غير متيقن لصحة قرانه فعلى هذا إن كان قد طاف للعمرة وسعى لها ثم طاف للحج وسعى وإن لم يزد على أعمال المفرد وقلنا بأن أعمال العمرة لا تدخل في الحج لم يخرج من إحرامه إلا بطواف للعمرة وهل يحتاج إلى إعادة طواف الحج لكونه قد شرك في طوافه الأول بين الحج والعمرة على ما سيأتي

وإن قلنا تدخل أعمال العمرة في الحج وهو ظاهر المذهب فإنه قد شرك في الطواف بين حج صحيح وعمرة لم تصح وذلك يجزئه في أشهر الوجهين قاله القاضي

ثم إن قلنا يسقط النسكان عنه لزمه الدم وإن قلنا إنما يسقط الحج ففي وجوب الدم وجهان

أحدهما لا يجب وهو الصحيح للشك في سببه والثاني يجب لأنه التزمه ظاهرا ولأنه أحوط

وإن اختار الافراد سقط عنه الحج يقينا سواء كان قد أحرم أولا به أو بالعمة أو بهما ولا دم عليه لأنه لم يلتزمه ولا تحقق وجوبه وهل يحتاج في خروجه من الإحرام إلى طواف بنية العمرة على وجهين

وإن عينه بتمتع ولم يسق الهدي فهو متمتع ظاهرا وباطنا ويجزئه عن العمرة والحج قال بعض أصحابنا ولو بداله بعد قضاء العمرة أنه لا يحج لم يكن عليه شيء وهذا ليس بجيد

وإن كان قد ساق الهدي وتمم أعمال الحج فقد حصل له الحج يقينا وأما العمرة فهو فيا كالقارن لجواز أن يكون قد أحرم أولا بالحج فلا يصح فسخه إلى العمرة ثم هو قد طاف أولا وسعى للعمرة ثم طاف بعد التعريف وسعى للحج

فإن قلنا إن أفعال العمرة لا تدخل في أعمال الحج إذا كان قارنا فقد خرج من الإحرام بيقين وكذلك إن قلنا إنه يجوز للقارن أن يطوف لها قبل التعريف

وأما إن قلنا أن أفعال العمرة تدخل في الحج ولا يجزيء الطواف لها قبل التعريف فإن طوافه قبل التعريف لم يقع عن عمرة القران وهو بعد الوقوف إنما طاف عن الحج خاصة فلا يخرج من إحرامه حتى يطوف لها ثانيا بعد الوقوف وهذا على قول من يوجب على القارن أن ينوي عنهما

وأما من قال الطواف للحج يجزيء عن النسكين إذا كان في الباطن كذلك فكذلك هنا وفي وجوب الدم وجهان ذكرهما القاضي وغيره كما قلنا في القارن

أحدهما عليه الدم لأنه التزم موجبة وهو أحوط

والثاني لادم عليه لجواز أن يكون إحرامه في الأصل بحجة وقد فسخها بعمرة فلا دم عليه وهذا غير مستقيم على أصلنا بل الصواب أنه إن حج من عامه فهو متمتع ظاهرا وباطنا فعليه دم المتعة بلا تردد إلا أن يكون إحرامه أولا بعمرة بلا نية تمتع ونقول إن نية التمتع شرط في وجوب الدم وإن لم يحج من عامة فلا دم عليه قولا واحدا ولا وجه لا يجابه

مسألة وإذا استوى على راحلته لبى فيقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

وقد تقدم الكلام في أول أوقات التلبية

وأما صفتها فكما ذكره الشيخ رحمه الله نص عليه أحمد في رواية أبي داود وحنبل

قال في رواية حنبل إذا لبى يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

والأصل في ذلك ما روى ابن عمر أن رسول الله كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وفي لفظ إن تلبية رسول الله لبيك اللهم لبيك إلى آخره

وكان عبد الله بن عمر يزيد مع هذا لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه وفي رواية في الصحيح سمعت رسول الله يهل ملبيا لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لا يزيد على هذه الكلمات

وفي رواية في الصحيحين وكان عبد الله بن عمر يقول كان عمر ابن الخطاب يهل بإهلال رسول الله من هؤلاء الكلمات ويقول لبيك اللهم لبيك لبيك وسعديك الخير في يديك والرغباء إليك والعمل

وفي رواية صحيحة لأحمد قال أربعا تلقنتهن من رسول الله لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك

وفي رواية صحيحة كان ابن عمر يزيد فيها لبيك لبيك لبيك ثلاثا إلى آخره رواه وعن عائشة قالت إني لأعلم كيف كان النبي يلبي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك رواه البخاري ورواه سعيد من حديث الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن عن عائشة قالت كانت تلبية رسول الله ثلاثا لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك

وعن ابن مسعود قال كان من تلبية رسول الله لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك رواه النسائي وأحمد ولفظه عن عبد الله ذكر النبي أنه كان يقول لبيك اللهم مثله سواء

وعن عبد الله أنه كان يلبي كذلك رواه سعيد

وعن جابر في ذكر حجة النبي قال فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه شيئا منه رواه مسلم وأحمد وأبو داود بإسناد صحيح ولفظهما والناس يزيدون ذالمعارج ونحوه من الكلام والنبي يسمع فلا يقول لهم شيئا

وعن الضاحك عن ابن عباس أن تلبية رسول الله مثل حديث ابن عمر وجابر رواه سعيد وداود بن عمرو

وسبب التلبية ومعناها على ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل { وأذن في الناس بالحج } قال لما أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج قال يا أيها الناس إن ربكم إتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه فاستحاب له ما سمعه من حجر أو شجر أو أكمه أو تراب أو شيء فقالوا لبيك اللهم لبيك رواه آدم عن ورقاء عن عطاء ابن السائب عنه

وعن مجاهد في قوله { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } قال نادى إبراهيم يا أيها الناس أجيبوا ربكم وفي رواية عنه أن إبراهيم حين أمر أن يؤذن بالحج قام على المقام فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم قالوا لبيك لبيك فمن حج اليوم فقد أجاب إبراهيم يومئذ في أصلاب آبائهم رواهما أبو يعلى الموصلي بإسناد صحيح

وعنه أيضا قال أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج فقام على المقام فتطاول حتى صار كطول الجبل فنادى يا أيها الناس أجيبوا ربكم مرتين فأجابوه من تحت التخوم السبع لبيك أجبنا لبيك أطعنا فمن يحج إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب له فوقرت في قلب كل مسلم رواه سفيان الثوري عن منصور وسلمه بن كهيل عنه

وعنه أيضا قال لما أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج قام فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه لبيك اللهم لبيك وفي رواية لما أذن إبراهيم بالحج قال يا أيها الناس أجيبوا ربكم قال فلبي كل رطب ويابس

وقيل لعطاء { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } إبراهيم أو محمد قال إبراهيم وفي رواية عنه قال

لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بناء البيت أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس على المقام فنادى بصوت أسمع من بين المشرق والمغرب فقال يا أيها الناس أجيبوا ربكم قال فأجابوه من أصلاب الرجال لبيك اللهم لبيك فإنما يحج اليوم من أجاب يومئذ رواهن أبو سعيد الأشج وأما إشتقاقها فقد قال قوم إنه من قولهم ألب بالمكان إذا أقام به ولزمه ولب أيضا لغة فيه حكاها الخليل والمعنى وأنا مقيم على طاعتك ولازمها لا أبرح عنها ولا أفارقها أو أنا لازم لك ومتعلق بك لزوم الملب بالمكان وهو منصوب على المصدر بالفعل الازم إضماره كما قالوا حنانيك وسعديك ودواليك والياء فيه للتثنية

وأصل المعنى لبيت مرة بعد مرة لبا بعد لب ثم صيغ بلفظ التثنية الذي يقصد به التكرار والمداومة كقوله { ثم ارجع البصر كرتين } وكقول حذيفة وجعل يقول بين السجدتين رب اغفر لي رب اغفرلي ويقول في الاعتدال لربى الحمد لربى الحمد يريد بذلك أنه يكرر هذا اللفظ هذا قول الخليل وأكثر النحاة

وزعم يونس أنها كلمة واحدة ليست مثناة وأن الياء فيها أصلية بدليل قولهم لبي يلبي

والأجود في اشتقاقها أن جماع هذه المادة هو العطف على الشيء والإقبال إليه والتوجه نحوه ومنه اللبلاب وهو نبت يلتوي على الشجر واللبلبة الرقة على الولد ولبلبت الشاة على ولدها إذا لحسته وأسلبت عليه حين تضعه ومنه لب بالمكان وألب به إذا لزمه لإقباله عليه ورجل لب ولبيب أي لازم للأمر ويقال رجل لب طب قال

لبابا بإعجاز المطي لاحقا

قال

فقلت لها فيئي إليك فإنني ** حرام وإني بعد ذاك لبيب وامرأة لبه قال أبو عبيد أي قريبة من الناس لطيفة ومنه اللبة وهي المنحر واللبب وهو موضع القلادة من الصدر من كل شيء وهو ما يشد أيضا على صدر الناقة أو الدابة يمنع الرحل من الاستئجار سمي مقدم الحيوان لببا ولبة لأنه أول ما يقبل به ويتوجه ثم قيل لببت الرجل تلبيبا إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جررته لأن انقياده واستجابته تكون بهذا الفعل وقد تلبب إذا انقاد

وسمي العقل لبا لأنه الذي يعلم الحق فيتبعه فلا يكون للرجل لب حتى يستجيب للحق ويتبعه وإلا فلو عرفه وعصاه لم يكن ذا لب وصاحبه لبيب

ويقال بنات البب عروق في القلب تكون منها الرقة

وقيل لأعرابية تعاقب ابنا لها مالك لا تدعين عليه قالت تأبى له ذلك بنات الببي

وقد قيل في قول الكميت

إليكم ذوي آل النبي تطلعت ** نوازع من قلب ظماء والبب إنه من هذا وقيل إنه جمع لب وإنما فك الإدغام للضرورة فالداعي إلى الشيء يطلب استجابة المدعو وانقياده وإقباله إليه وتوجهه نحوه فيقول لبيك أي قد أقبلت إليك وتجهت نحوك وانقدت لك فأما مجرد الإقامة فليست ملحوظة

والمستحب في تقطيعها

فظاهر حديث عائشة أنه يقطعها ثلاثا يقول في الثانية لبيك لا شريك لك ثم يبتدي لبيك إن الحمد والنعمة لك لأنها ذكرت أنه كان يلبي ثلاثا لبيك اللهم لبيك وكذلك ابن عمر ذكر أنهن أربع

وعن محمد بن قيس قال كان رسول الله يلبي بأربع كلمات لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك رواه داود بن عمرو

وعن أبي معشر عنه والمستحب كسر إن نص عليه ويجوز فتحها فإذا فتح كان المعنى لبيك لأن الحمد لك أو بأن الحمد لك وعلى هذا فينبغي أن توصل أن بالتلبية التي قبلها لأنها متعلقة بها تعلق المفعول بفاعله وتكون التلبية فيها خصوص أي لبيناك بالحمد لك أو بسبب أن الحمد لك أو لأن الحمد لك وأما الحمد فلا خصوص فيه كما توهمه بعض أصحابنا

وأما إذا كسر فإنها تكون جملة مبتدأة وإن كانت تتضمن معنى التعليل فتكون التلبية مطلقة عامة والحمد مطلق كما في قوله لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وفي قوله { يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد }

فصل

والأفضل أن يلبي تلبية رسول الله كما تقدم ذكره لأن أصحابه رووها على وجه واحد وبينوا أنه كان يلزمها

وإن نقل عنه أنه زاد عليها شيئا فيدل على الجواز لأن ما داوم عليه هو الأفضل

فإن زاد شيئا مثل قوله لبيك إن العيش عيش الاخرة أو لبيك ذا المعارج أو غير ذلك فهو جائز غير مكروه ولا مستحب عند أصحابنا

قال في رواية أبي داود وقد سئل عن التلبية فذكرها فقيل له يكره أن يزيد على هذا قال وما بأس أن يزيد

وقال الأثرم قلت له هذه الزيادة التي يزيدها الناس في التلبية فقال شيئا معناه الرخصة

وقال في رواية حرب في الرجل يزيد في التلبية كلاما أو دعاء قال أرجو أن لا يكون به بأس

وقال في رواية المروذي كان في حديث ابن عمر والملك لا شريك لك فتركه لأن الناس تركوه وليس في حديث وعن ليث عن طاوس أن تلبية رسول الله لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك زاد فيها عمر بن الخطاب والملك لا شريك لك رواه سعيد وهذا يقوي رواية المروذي فينظر

وإنما جاز ذلك لأن النبي أقره عليه ولم يغيره كما ذكره جابر

وعن أبي هريرة أن رسول الله قال في تلبيته لبيك إله الحق لبيك رواه أحمد وابن ماجة والنسائي

فعلم أنه كان يزيد أحيانا على التلبية المشهورة وقد زاد ابن عمر الزيادة المتقدمة وهو من أتبع الناس للسنة

وعن عمر أنه زاد لبيك ذا النعماء والفضل الحسن لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك رواه الأثرم وعن أنس أنه كان يزيد لبيك حقا حقا

وعن عبد الله أنه كان يقول لبيك عدد التراب

وعن الأسود أنه كان يقول لبيك غفار الذنوب لبيك رواهما سعيد

وأما ما روى سعد أنه سمع رجلا يقول لبيك ذا المعارج فقال إنه لذو المعارج ولكنا كنا مع رسول الله لا نقول ذلك رواه أحمد فقد حمله القاضي على ظاهره في أنه أنكر الزيادة ولعله فهم من حال الملبي أنه يعتقد أن هذه هي التلبية المشروعة

وقد قيل لعله اقتصر على ذلك وترك تمام التلبية المشروعة

ولا تكره الزيادة على التلبية سواء جعل الزيادة متصلة بالتلبية منها أم لا بل تكون الزيادة من جملة التلبية

وقال القاضي في خلافه لا تكره الزيادة على ذلك إذا أوردها على وجه الذكر لله والتعظيم له لا على أنها متصلة بالتلبية كالزيادة على التشهد بما ذكره من الدعاء بعده ليس بزيادة فيه

لأن ما ورد عن الشرع منصوصا مؤقتا تكره الزيادة فيه كالأذان والتشهد

فأما إن نقص من التلبية المشروعة

وإذا فرغ من التلبية فقال أصحابنا يستحب أن يصلي على النبي ويدعوا بما أحب من خير الدنيا والاخر

قال القاضي إذا فرغ من الصلاة على النبي أحببنا له أن يسأل الله رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار

وذلك لما روي عن القاسم بن محمد قال كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبية أن يصلي على النبي رواه الدارقطني وعن خزيمة بن ثابت عن النبي أنه كان إذا فرغ من تلبية سأل الله رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار رواه الشافعي والدارقطني

ولأن الملبي قد أجاب الله في دعائه إلى حج بيته فيستجيب الله له دعاءه جزاء له

والصلاة على النبي مشروعة عند كل دعاء وقد قال القاضي وأصحابه إن ذكر النبي لا يشرع عند الإفعال كالذبح والعطاس والإحرام

وظاهر كلام أحمد في رواية حرب أن زيادة الدعاء من جنس زيادة الكلام لا بأس به ولا يرفع صوته بذلك

مسألة ويستحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء

وذلك لما روى السائب بن خلاد أن جبريل أتى النبي فقال كن عجابا ثجاجا والعج التلبية والثج نحر البدن رواه أحمد

وعن أبي بكر الصديق أن رسول الله سئل أي الأعمال أفضل قال العج والثج رواه ابن ماجة والترمذي ولفظه أي الحج أفضل وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك وابن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع وقد رواه الطبراني من حديث محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه عن أبي بكر

والعج رفع الصوت يقال قد عج يعج عجيجا ولا يكاد يقال إلا إذا تابع التصويت وأكثر منه وقد أمره أن يكون عجاجا وهو اسم لمن يكثر العجيج

وعن خلاد بن السائب بن خلاد عن أبيه قال قال رسول الله أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي وفي لفظ ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية وفي لفظ بالإهلال أو التلبية يريد أحدهما رواه الخمسة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح

وعن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله جاءني جبريل فقال يا محمد مر أصحابك فليرفعوا أصواتم بالتلبية فإنها من شعائر الحج رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي روى بعضهم هذا الحديث عن خلاد بن السائب عن زيد بن خالد عن النبي ولا يصح والصحيح عن خلاد بن السائب عن أبيه

وعن أبي هريرة قال قال رسول الله أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال فإنه من شعائر الحج رواه أحمد

وعن أبي حازم قال كان أصحاب رسول الله إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم

وعن أبي بكر بن عبد الله قال سمعت ابن عمر يرفع صوته بالتلبية حتى إني لأسمع دوى صوته من الجبال

وعن أيوب قال رأيت سعيد بن جبير في المسجد يوقظ الحاج ويقول قوموا فلبوا فإني سمعت ابن عباس يقول هي زينة الحج

وعن إبراهيم أنه كان يقول أكثروا من التلبية فإنها زينة الحج رواه سعيد

ولأن رفع الصوت قال أصحابنا ويستحب رفع الصوت بها على حسب طاقته ولا يتحامل في ذلك بأشد ما يقدر عليه فينقطع كالأذان

وأما المرأة فيستحب لها أن تسمع رفيقتها قال أحمد في رواية حرب تجهر المرأة بالتلبية ما تسمع زميلتها لما روى سليمان بن يسار أن السنة عندهم أن المرأة لا ترفع الصوت بالإهلال رواه سعيد

وعن عطاء أنه كان يقول يرفع الرجال أصواتهم بالتلبية فأما المرأة فإنها تسمع نفسها ولا ترفع صوتها رواه سعيد

وقد جاء في فضلها ما روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا رواه الترمذي وابن ماجه وعن جابر قال قال رسول الله ما من محرم يضحي لله يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه رواه ابن ماجة

وتستحب التلبية على كل حال قائما وقاعدا ومضطجعا وسائرا ونازلا وطاهرا وجنبا وحائضا إلى غير ذلك من الأحوال

مسألة وهي آكد فيما إذا علا نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا أو فعل محظورا ناسيا أو التقت الرفاق وفي أدبار الصلوات وبالأسحار وإقبال الليل والنهار

وذلك لأن ذلك مأثور عن السلف قال خيثمة بن عبد الرحمن كان أصحاب عبد الله يلبون إذا هبطوا واديا أو أشرفوا على أكمة أو لقوا ركبانا وبالأسحار ودبر الصلوات رواه سعيد

وفي لفظ كنت أحج مع أصحاب عبد الله فكانوا يستحبون أن يلبوا في دبر كل صلاة وحين يلقى الركب وبالأسحار وإذا أشرفوا على أكمة أو هبط واديا أو انبعثت به راحلته رواه عمر بن حفص بن غياث ولأن النبي أهل حين انبعثت به ناقته واستوت به قائمة ثم أهل حين علا على شرف البيداء

وروي عن جابر قال كان النبي يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي أدبار الصلوات المكتوبة ومن اخر الليل

ولأن المسافر يستحب له إذا علا على شرف أن يكبر الله تعالى وإذا هبط واديا أن يسبحه فالتلبية للمحرم أفضل من غيرها من الذكر

ولأن البقاع إذا اختلفت

ومن جملة الأشراف إذا علا على ظهر دابته كما تقدم عن النبي وعن السلف ويستحب أن يبدأ قبلها بذكر الركوب سئل عطاء أيبدأ الرجل بالتلبية أو يقول سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين قال يبدأ بسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وقد تقدم من حديث أنس أن النبي ركب حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله تعالى وسبح وكبر ثم أهل بحج أو عمرة رواه البخاري

ولأن هذا الذكر مختص بالركوب فيفوت بفوات سببه بخلاف التلبية ولهذا لو سمع مؤذنا كان يشتغل بإجابته عن التلبية والقراءة ونحوهما

ولأن هذا الذكر في هذا الموطن أوكد من التلبية فيه لأنه مأمور به بقوله تعالى { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } وأما إذا سمع ملبيا

وأما إذا فعل محظور ناسيا مثل أن يغطي رأسه أو يلبس قميصا ونحو ذلك فإن ذلك سيئة تنقص الإحرام فينبغي أن يتبعها بحسنة تجبر الإحرام ولا أحسن فيه من التلبية ولأنه بذلك كالمعرض عن الإحرام ويتذكره بالتلبية وقد تقدم عن ابن عباس أنه قال لمن طاف في إحرامه لما رأى أنه يحل أكثر من التلبية فإن التلبية تشد الإحرام

وأما إذا التقت الرفاق

فأما القافلة الواحدة إذا جاء بعضهم إلى عند بعض وهل يبدؤن قبل ذلك بالسلام

وأما أدبار الصلوات فلما تقدم من الحديث والأثر

وأما السحر فلما تقدم من الحديث والأثر ولأنها ساعة يستحب فيها ذكر الله تعالى وأما في إقبال الليل والنهار فقد ذكره أصحابنا ومعنى إقبال النهار ولم يذكر الخرقي وابن أبي موسى السحر وطرفي النهار

فصل

ويكفيه أن يلبي لهذه الأسباب مرة واحدة بحيث يكون دعاؤه عقيب تلك المرة

قال في رواية الأثرم كان ابن عمر يزيد في التلبية لبيك ذا المعارج ولا أدري من أين جاءت به العامة يلبون في دبر الصلوات ثلاث مرات قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ما شيء تفعله العامة يلبون في دبر الصلوات ثلاث مرات فتبسم وقال ما أدري من أين جاؤا به قلت أليس تجزئه مرة واحدة قال بلى

وكذلك أيضا إذا لبى لغير سبب فإن المرة الواحدة تحصل بها سنة التلبية بحيث يدعوا بعدها إن أحب وذلك لأن الصحابة ذكروا أن النبي لما ركب راحلته أهل بهؤلاء الكلمات ثم لما علا البيداء أهل بهن ولم يذكروا أنه كررهن في حالته تلك ولو كان ذلك لبينوه فإن مثل هذا لم يكونوا ليغفلوه ويهملوه بل ظاهر حديث ابن عمر حين قال أهل بهؤلاء الكلمات وقوله فلما استوت به راحلته قائمة قال لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك وكان ابن عمر يزيد فيها ما يزيد كالنص في أنه إنما لبى بهذا واحدة وقد قال أربعا تلقنتهن من رسول الله أفتراه يعد كلمات التلبية ولا يعد مراتها وذكر عددها أهم لأنه لا يعلم إلا بذكره بخلاف كلمات التلبية فإن ذكرها يغني عن عدها وكذلك المأثور عن السلف ليس فيه أمر بتكرير ولذلك أنكر أحمد هذا وبين أنه لا أصل له عن السلف وقال لا أدري من أين جاؤا به

وأيضا فإن كلمات التلبية مبنية على تكرارها فإنها متضمنة الثلاث مرات

فإن كررها ثلاثا أو أكثر من ذلك على نسق واحد فقال أبو الخطاب وطائفة معه لا يستحب تكرارها في حال واحدة

وقال ابن عقيل لا يستحب تكرارها ثلاثا

وقال القاضي لا يستحب تكرارها ثلاثا عقيب الصلاة بل يأتي بها عقيب الصلوات كما يأتي بها مفردة عن الصلاة

وقالو يستحب استدامتها على كل حال

وقال أبو محمد لا بأس بالزيادة على مرة وتكراره ثلاثا حسن فإن الله تعالى وتر يحب الوتر

وقال القاضي في الخلاف يسن تكرارها بعد تمامها لأجل تلبسه بالعبادة وإن لم تستحب الزيادة عليها وفرق بين الزيادة والتكرار بأن هذا الذكر شعار هذه العبادة كالأذان وتكبيرة الإحرام فلم تستحب الزيادة عليه مثلهما بخلاف التكرار فإنما ذلك لأجل تلبسه بالعبادة وهذا المعنى موجود ما لم يحل وهذا يقتضي استحباب تكرارها في الموضع الذي اختلف في استحباب الزيادة وهو عقيب التلبية سواء

وحقيقة المذهب أن استدامتها وتكرارها على كل حال حسن مستحب من غير تقييد بعدد كما في التكبير في العشر وأيام التشريق لكن التقييد بعدد مخصوص لا أصل له وكذلك الأمر به والزام المأموين

فصل

قال أصحابنا لا يستحب أن يتخللها غيرها من الكلام ليأتي بها نسقا فإن سلم عليه رد لأن ذلك فرض والتلبية سنة

فإن لم يحسن التلبية بالعربية فإنه يتعلمها وإن لم يفقهها

قال في رواية حنبل والأعجمي والأعجمية إذا لم يفقها يعلمان على قدر طاقتها وبرر لماى المناسك ويشهدان مع الناس المناسك والله أعلم بالنية وأرجو أن يجزيء ذلك عنهما

ولا يجوز أن يلبي بغير العربية وهو يقدر على التلبية بالعربية أو على تعلمها لأنه ذكر مشروع فلم يجز بالعربية كالأذان والتكبير وغير ذلك من الأذكار المشروعة لاسيما والتلبية ذكر مؤقت فهي بالأذان أشبه منها بالخطبة ونحوها ثم الخطبة لا تكون إلا بالعربية فالتلبية أولى فإن عجز عن التلبية بالعربية فقال أبو محمد يجوز أن يلبي بلسانه ويتوجه أن لا يجوز لأنه قد منع عن الدعاء في الصلاة بغير العربية فإن عجز عن التلبية بأن لا يحسنها بالكلية أو يكون أخرس أو مريضا لا يطيق الكلام أو صغيرا فقال أحمد في رواية أبي طالب الأخرس والمريض والصبي يلبي عنهم وظاهره أنه إذا عجز عن الجهر يلبي عنه وذلك لأن جابرا ذكر أنهم كانوا يلبون عن الصبيان وما ذاك إلا لعجزهم عن التلبية ففي معنى الصبيان كل عاجز ولأن أمور الحج كلها تدخلها النيابة إذا عجز عنها كالرمي ونحوه فإذا عجز عن التلبية بنفسه لبى عنه غيره ويكون كما لو لبى عن ميت أو معضوب إن ذكره في التلبية فحسن وإن اقتصر على النية جاز

قال أصحابنا القاضي ومن بعده والتلبية سنة لا شيء في تركها لأنها ذكر مشروع في الحج فكان سنة كسائر أذكاره من الدعاء بعرفة ومزدلفة ومنى وغير ذلك

فصل

وتشرع التلبية من حين الإحرام إلى الشروع في الإحلال ففي الحج يلبي إلى أن يأخذ في رمي جمرة العقبة وفي العمرة إلى أن يشرع في الطواف

قال أحمد الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة وفي رواية يقطع عند أول حصاة وقال في رواية الجماعة في المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الركن وهذا هو المذهب

وقال الخرقي من كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت فمن أصحابنا من قال ظاهر هذا أنه يقطع التلبية برؤية البيت قبل الطواف فجعل هذا خلافا ومنهم من فسر وصوله إليه باستلامه الحجر وهذا أشبه لأنه حقيقة الوصول أن يتصل به وإنما يتصل به إذا لمسه لا إذا رآه وذلك لما روى الفضل بن عباس أن النبي لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة وفي لفظ للبخاري حتى بلغ الجمرة

وعن ابن عباس أن أسامة كان ردف النبي من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال فكلاهما قال لم يزل النبي يلبي حتى رمى جمرة العقبة متفق عليها

وعن عكرمة قال أفضت مع الحسين بن علي من المزدلفة فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة فسألته فقال أفضت مع أبي من المزدلفة فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة فسألته فقال أفضت مع النبي فلم أزل أسمعه يلبي حتى رمى جمرة العقبة رواه أحمد من حديث ابن إسحق عن أبان بن صالح عنه وعن ابن عباس عن النبي قال يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر رواه أبو داود وعنه يرفع الحديث أنه يعني النبي كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر رواه الترمذي وقال حديث صحيح

وعن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال اعتمر رسول الله ثلاث عمر كل ذلك في ذي القعدة يلبي حتى يستلم الحجر رواه أحمد

فأما التلبية في الطواف والسعي وفي حال الوقوف بعرفة ومزدلفة

ويكره إظهار التلبية في الأمصار والحلل قال أحمد في رواية المروذي التلبية إذا برز عن البيوت وقال في رواية أبي داود ولا يعجبني أن يلبي في مثل بغداد حتى يبرز وقال في رواية حمدان بن علي إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي وفي لفظ يلبي الرجل إذا وارى الجدران قول ابن عباس ولا يعجبني من المصر

وحمل أصحابنا قوله على إظهار التلبية وإعلانها وعبارة كثير منهم لا يستحب إظهارها وربما قالوا لا يشرع ذلك كما قالوا لا يستحب تكرارها في حال واحدة وذلك يقتضي التسوية بين المسألتين إما في الكراهة أو في أن الأولى تركه وذلك لما احتج به أحمد ورواه بإسناده عن عطاء عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال إن هذا لمجنون ليست التلبية في البيوت وإنما التلبية إذا برزت وعلله القاضي بأن التلبية مستحبة وإخفاء التطوع أولى من أظهاره لمن لا يشركه فيه ولهذا لم يكره ذلك في الصحراء وفي أمصار الحرم لوجود الشركاء وهذا ليس بشيء ويحتمل أن يكون ذلك لأن المقيم في مصر ليس بمسافر ولا متوجه إلى الله تعالى والتلبية إجابة الداعي وإنما يجيبه إذا شرع في السفر فإذا فارق البيوت شرع في السفر فيجيبه وكلام ابن عباس وأحمد يحتمل هذا فعلى هذا لو مر بمصر اخر في طريقه لبى منه

وعلى هذا فلا يستحب إخفاؤها ولا إطهارها وهو ظاهر كلام أحمد وابن عباس

فأما المساجد فقال القاضي وأبو الخطاب لا يستحب إظهارها في الأمصار ومساجد الأمصار ومساجد الأمصار هي المبينة في المصر وذلك لأن حكمها كحكم المصر وأولى من حيث كره رفع الصوت فيها لا من إظهارها في مساجد الحل وأمصاره فعلى هذا للمساجد المبينة في البرية مثل مسجد ذي الحليفة ونحوه لا يظهر فيه لأن النبي نهى عن رفع الصوت في المسجد وإنما خص من ذلك الإمام خاصة والمأمون إذا احتيج إلى تلبيغ تكبير الإمام

فيبقى رفع الصوت بالتلبية على عمومه وهذا قوى على قول من لا يرى

وحديث ابن عباس في إهلال النبي بمسجد ذي الحليفة عقيب الركعتين وقول أحمد وغيره بذلك يخالف هذا القول

قال أصحابنا ويستحب إظهارها في المسجد الحرام وغيره من مساجد الحرم مثل مسجد منى وفي مسجد عرفات وإظهارها في مكة لأنها مواضع المناسك

فصل

ولا بأس بتلبية الحلال ولا يصير محرما بذلك إلا أن ينوي الإحرام قال أحمد في رواية الأثرم قد يلبي الرجل ولا يحرم ولا يكون عليه شيء لما روي عن إبراهيم قال أقبل عبد الله من ضيعته التي دون القادسية فلقي قوما يلبون عند النجف فكأنهم هيجوا أشواقه فقال لبيك عدد التراب لبيك رواه سعيد

عن عطاء والحسن وإبراهيم أنه ملم يروا بأسا للحلال أن يتكلم بالتلبية يعلمها الرجل وذلك لأن النبي كان يقول في دعاء الاستفتاح لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك أنا منك وإليك رواه مسلم

فصل

وأما تسمية ما أحرم به في تلبيته فقال أبو الخطاب لا يستحب أن ينطق بما أحرم به ولا يستحب أن يذكره في تلبية لما روي عن ابن عمر يقول لا يضر الرجل أن لا يسمي بحج ولا بعمرة يكفيه من ذلك نيته إن نوى حجا فهو حج وإن نوى عمرة فهو عمرة

وعنه أنه كان إذا سمع بعض أهله يسمي بحج يقول لبيك بحجة صك في صدره وقال أتعلم الله بما في نفسك

وعنه أنه سئل أيتكلم بالحج والعمرة فقال أتنبون الله بما في قلوبكم وذلك لأن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة متفق عليه والذين وصفوا تلبيته رسول الله لما استوى على دابته مثل ابن عمر وغيره ذكروا أنه لبى ولم يذكروا في تلبيته ذكر حج ولا عمرة والمنصوص عن أحمد في رواية المروذي قال إن أردت المتعة فقل اللهم إني أريد العمرة فيسرها لي وتقبلها مني وأعني عليها تسر ذلك في نفسك مستقبل القبلة وتشترط عند إحرامك فتقول إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وإن شئت أهللت على راحلتك وذكر في الإفراد والقران نحو ذلك إلا أنه قال اللهم اني أريد العمرة والحج فيسرهما وتقبلهما مني لبيك اللهم عمرة وحجا فقل كذلك ولم يذكر في المتعة والإفراد لفظه في التلبية فقد استحب أن يسمي في تلبيته العمرة والحج أول مرة لما روى بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال سمعت النبي يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر فقال لبى بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته فقال أنس ما تعودنا إلا صبيانا سمعت رسول الله يقول لبيك عمرة وحجا متفق عليه وقال قل عمرة وحجة وفي لفظ عمرة في حجة ولكن هذا يحتمل النطق قبل التلبية وبعد وفيها

وعن علي أنه أهل بهما لبيك بعمرة وحجة وقال ما كنت لأدع سنة رسول الله لقول أحد رواه البخاري

وفي حديث الصبي بن معبد أنه وسمعه سلمان وزيد وهو يلبي بهما فقال عمر هديت لسنة نبيك

وقال ابن أبي موسى إن أراد الإفراد بالحج قل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وأتتمه ويلبي فيقول لبيك اللهم لبيك بحجة تمامها عليك لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك إلى اخرها ويستحب له الإشتراط وهو أن يقول بعد التلبية إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني وقال في القارن هو كالمفرد غير أنه يقول في تلبيته لبيك بعمرة وحجة تمامها عليك بعد أن ينوي القران

وقد جاء في حديث عائشة أن النبي قال من أراد أن يهل بحجة فليفعل ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحجة وعمرة فليفعل

وفي حديث ابن عباس أهل بالعمرة وأهل أصحابه بالحج

وفي حديث ابن عمر لبى بالحج وحده إلا أن هذا يقال لمن نوى ذلك ولمن يعلم به في تلبيته كما يقال بدليل أن ابن عمر يروي ذلك وكان ينكر اللفظ به في التلبية

باب محظورات الإحرام[عدل]

مسألة وهي تسع حلق الشعر وقلم الظفر وجملة ذلك أن المحرم يحرم عليه أشياء ويكره له أشياء

فمما يحرم عليه أن يزيل شيئا من شعره بحلق أو نتف أو قطع أو تنور أو إحراق أو غير ذلك سواء في ذلك شعر الرأس والبدن والفخذ الذي يسن ازالته لغير الحرام كشعر العانة والابط والذي لا يسن كشعر اللحية والحاجب والصدر وغير ذلك وكذلك يحرم عليه أن يزيل شيئا من ظفره لأن الله سبحانه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وأيضا قوله سبحانه { ثم ليقضوا تفثهم } فروى عطاء عن ابن عباس قال التفث الدماء والذبح والحلق والتقصير والأخذ من الشارب والأظفار واللحية وعن عطاء قال الحلق وتقليم الأظفار ومناسك الحج وعن محمد بن كعب قال الشعر والأظفار رواهن أبو سعيد الأشج

وعن أبي طلحة عن ابن عباس يعني بالتفث وضع احرامهم من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ونحو ذلك

وعن مجاهد قال التفث حلق الرأس وتقليم الأظافر وفي رواية حلق الرأس وقص الشارب وقلم الأظفار ونتف الابط وحلق العانة وقص اللحية والشارب والأظفار ورمى الجمار

فعلم أنه كان ممنوعا من ذلك قبل الاحرام ولأن ذلك إجماع سابق

قال أحمد في في رواية حبيش بن سندي شعر الرأس واللحية والأبط سواء لا أعلم أحدا فرق بينهما ولأن ازالة ذلك ترفه وتنعم

مسألة ففي ثلاث منها دم وفي كل واحد مما دونها مد طعام وهو ربع الصاع

وجملة ذلك أنه متى أزال شعره أو ظفره فعليه الفدية سواء كان لعذر أو لغير عذر وانما يفترقان في إباحة ذلك وغيره من الأحكام

وأما الفدية فتجب فيهما لأن الله سبحانه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فجوز لمن مرض فاحتاج إلى حلق الشعر أو اذاه قمل برأسه أن يحلق ويفتدى بصيام أو صدقة أو نسك فلأن يجب ذلك على من فعله لغير عذر أولى

وعن عبد الله بن معقل قال جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال نزلت في خاصة وهي لكم عامة حملت إلى رسول الله والقمل يتناثر على وجهي فقال ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى تجد شاة فقلت لا قال فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع متفق عليه

وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال أتى علي رسول الله زمن الحديبية وأنا أقود تحت قدري والقمل يتناثر على وجهي فقال أيوذيك هوام رأسك قال قلت نعم قال فاحلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك نسيكه لا أدري بأي ذلك بدأ متفق عليه وهذا لفظ مسلم وللبخاري أن رسول الله راه وأنه يسقط قمله على وجهه فقال أيوذيك هوامك قلت نعم فأمره أن يحلق وهو بالحديبية ولم يتبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام

ولمسلم أتى علي رسول الله زمن الحديبية فقال كأن هوام رأسك تؤذيك فقلت أجل قال فاحلقه واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين وفي رواية له فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصع أصم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكه وفي رواية له فقال له النبي احلق ثم أذبح شاة نسكا أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة اصع تمر على ستة مساكين

وفي رواية لأبي داود فدعاني رسول الله فقال لي احلق رأسك وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين فرقا من زبيب أو أنسك شاة فحلقت رأسي ثم نسكت

ثم الكلام فيما يوجب الدم وما دونه

أما ما يوجب الدم ففيه ثلاث روايات إحداها أنه لا يجب الا في خمس شعرات وخمسة أظفار حكاها ابن أبي موسى وهذا اختيار أبي بكر لأن الأظفار الخمسة أظفار يد كاملة فوجب أن يتعلق بها كمال الجزاء كما يتعلق كمال اليد بخمسة أصابع وما دون ذلك ناقص عن الكمال وإذا لم تجب كمال الفدية إلا في خمسة أصابع فأن لا تجب إلا في خمس شعرات أولى

والثانية أنه لا يجب إلا في اربعة فصاعدا وهي اختيار الخرقى فقال في رواية المروذي قال كان عطاء يقول إذا نتف ثلاث شعرات فعليه دم وكان ابن عيينة يستكثر الدم في ثلاث ولست أوأقت فإذا نتف متعمدا أكثر من ثلاث شعرات متعمدا فعليه دم والناسي والمتعمد سواء

والثالثة يجب في ثلاث فصاعدا وهي اختيار القاضي وأصحابه قال في رواية حنبل إذا نتف المحرم ثلاث شعرات أراق لهن دما فإذا كانت شعرة أو اثنتين كان فيهما قبضة من طعام والأظفار كالشعر في ذلك وأولى فيها الروايات الثلاث

قال في رواية مهنا في محرم قص أربعة أصابع من يده فعليه دم

قال عطاء في شعرة مد وفي شعرتان مدان وفي ثلاث شعرات فصاعدا دم والأظفار أكثر من ثلاث شعرات

ولو قطعها في أوقات متفرقة وكفر عن الأول فلا كلام وإن لم يكفر ضم بعضها إلى بعض ووجب فيها ما يجب فيها لو قطعها في وقت واحد فيجب الدم في الثلاث أو الأربع أو الخمس وأما ما لا يوجب الدم ففيه روايتان منصوصتان ورواية مخرجة

إحداهن في كل شعرة وظفر مد قال في رواية أبي داود إذا نتف شعرة أطعم مدا وهذا اختيار عامة أصحابنا الخرقى وأبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأصحابه وغيرهم

والثانية قبضة من طعام قال في رواية حنبل إذا كانت شعرة أو اثنتين كان فيهما قبضة من طعام ثم من أصحابنا من يقول في كل شعرة قبضة من طعام وظاهر كلامه أن في الشعرتين قبضة من طعام

والثالثة خرجها القاضي ومن بعده من قوله فيمن ترك ليلة من ليالي منى أنه يتصدق بدرهم أو نصف درهم وكذلك خرجوا في ترك ليلة من ليالي منى وحصاة من حصى الجمار ما في حلق شعرة وظفر فجعلوا الجميع بابا واحدا قالوا لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يتعلق وجوب الدم بجميعه ويتعلق ببعضه وجوب الصدقة

ووجه الأول أن أقل ما يتقدر بالشرع من الصدقات طعام مسكين وطعام المسكين مد فعلى هذا يخير بين مد بر أو نصف تمر أو شعير وظاهر كلامه هنا أنه يجزئه من الأصناف كلها مد فإن أحب أن يصوم يوما أو يخرج ثلث شاة

وإن قطع بعض شعرة أو ظفر ففيه ما في جميعها في المشهور وفيه وجه أنه يجب بالحساب

مسألة وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء فيه

وذلك لما روي عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا للمحرم أن ينزع ضرسه إذا اشتكى ولا يرى بأسا أن يقطع المحرم ظفره إذا انكسر وعن عكرمة أنه سئل عن المحرم إذا انكسر ظفره يقلمه فإن ابن عباس كان يقول إن الله لا يعبأ بأذاكم شيئا رواهما سعيد

ولأن الظفر إذا انكسر

فعلى هذا قال أبو الخطاب يقص منه ما انكسر وقال ابن أبي موسى إن انكسر ظفره فقصه فلا فدية عليه وبه قال ابن عباس ولا بد أن يكون الانكسار بغير فعل منه

وأما الشعر إذا خرج في عينه وآلمه فإنه هو الذي إعتدى عليه وأما إذا نزل على عينيه شعر خاصة رأسه فإنه يقص منه ما نزل على عينيه

فصل

ولا بأس أن يحلق المحرم رأس الحلال ويقلم أظفاره ولا فدية عليه وليس لحلال ولا حرام أن يحلق رأس محرم أو يقلم أظفاره فإن فعل ذلك فأذن المحلوق فالفدية عليه دون الحالق وإن فعل ذلك الحلال بالمحرم وهو نائم أو أكرهه عليه فقرار الفدية على الحالق وهل تجب على المحرم ثم يرجع بها عليه على وجهين سيأتي ذكرهما

مسألة الثالث لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه

في هذا الكلام فصلان

أحدهما الفصل الأول أن المحرم يحرم عليه أن يلبس على بدنه المخيط المصنوع على قدر العضو مثل القميص والفروج والقباء والجبة والسراويل والتبان والخف والبرنس ونحو ذلك وكذلك لو وضع على مقدار العضو بغير خياطة مثل أن ينسج نسجا أو يلصق بلصوق أو يربط بخيوط أو يخلل بخلال أو يزر ونحو ذلك مما يوصل به الثوب المقطع حتى يصير كالمخيط فإن حكمه حكم المخيط وإنما يقول الفقهاء المخيط بناء على الغالب

فأما إن خيط أو وصل لا ليحيط بالعضو ويكون على قدره مثل الإزار والرداء الموصل والمرقع ونحو ذلك فلا بأس به فإن مناط الحكم هو اللباس المصنوع على قدر الأعضاء وهو اللباس المخيط بالأعضاء واللباس المعاد

والأصل في ذلك ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال سئل النبي ما يلبس المحرم قال لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوب مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين متفق عليه ورواه أحمد ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رجلا نادى يا رسول الله ما يجتنب المحرم من الثياب فقال لا يلبس السراويل ولا القميص ولا البرنس ولا العمامة ولا ثوبا مسه زغفران ولا ورس وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين

وفي رواية صحيحة لأحمد والنسائي عن نافع عن أبن عمر أن رجلا سأل رسول الله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا قال لا تلبسوا القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس ولا الخفاف إلا أن يكون رجل ليست له نعلان فليلبس الخفين ويجعلهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس

وفي رواية لأحمد عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس إذا أحرموا عما يكره لهم لا تلبسوا العمائم ولا القمص ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفين إلا أن يضطر مضطر فيقطعهما أسفل من الكعبين ولا ثوبا مسه الورس ولا الزعفران قال وسمعته ينهى النساء عن القفاز والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب ورواه أبو داود أيضا بهذا الإسناد عن ابن عمر قال سمعت النبي ينهى النساء في الإحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سراويلا أو قميصا قال أبو داود وقد رواه من حديث أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن ابن إسحاق روى هذا الحديث عن ابن إسحاق عبدة ومحمد بن مسلمة عن ابن إسحاق إلى قوله وما مس الورس والزعفران من الثياب لم يذكرا ما بعده

قلت وكذلك رواه أحمد عن يعلى بن عبيد ويزيد بن هارون عن ابن اسحق وقد قيل إنه ليس فيه ذكر سماع ابن اسحق عن نافع وإنما هو معنعن أو قال نافع

وفي رواية لأحمد والبخاري وأبي داود والنسائي والترمذي من حديث نافع عن ابن عمر قال قام رجل فقال يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام فقال النبي لا تلبس القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرنس ولا الخف إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطعها أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران والورس ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين قال الترمذي هذا حديث صحيح قال أبو داود وقد روي هذا الحديث حاتم بن إسماعيل ويحيى بن أيوب عن موسى بن عقبة عن نافع على ما قال الليث يعني مرفوعا ورواه موسى بن طارق موقوفا على ابن عمر وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب موقوفا وإبراهيم بن سعيد المديني عن نافع عن ابن عمر عن النبي المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين وابراهيم بن سعيد شيخ من أهل المدينة ليس له كثير حديث

وعن ابن إسحاق قال ذكرت لابن شهاب قال حدثني سالم أن عبد الله ابن عمر كان يصنع يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة حدثتها أن رسول الله رخص للنساء في الخفين فترك ذلك رواه أحمد وأبو داود وفي رواية لأحمد ولا تلبس ثوبا مسه الورس والزعفران إلا أن يكون غسيلا رواه عن أبي معاوية ثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر

وفي رواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال نهى رسول الله أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بزعفران أو ورس

فنهى رسول الله عن خمسة أنواع من اللباس تشمل جميع ما يحرم فإنه قد أوتى جوامع الكلم وذلك أن اللباس إما أن يصنع فقط فهو القميص وما في معناه من الجبة والفروج ونحوهما أو للرأس فقط وهو العمامة وما في معناه أولهما وهو البرنس وما في معناه أو للفخذين والساق وهو السراويل وما في معناه من تبان ونحوه أو للرجلين وهو الخف ونحوه وهذا مما أجمع المسلمون عليه

الفصل الثاني إذا لم يجد ازارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه بل يلبسه على حاله وإذا لم يجد نعلين فإنه يلبس الخفين وليس عليه أن يقطعهما ولا فدية عليه هذا هو المذهب المنصوص عنه في عامة المواضع في رواية أبي طالب ومهنا واسحق وبكر بن محمد وعليه أصحابه وروى عنه أن عليه أن يقطعهما قال في رواية حنبل الزهري عن سالم عن ابن عمر وذكر الحديث إلى قوله وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وظاهره أنه أخذ به

وقد حكى ابن أبي موسى وغيره الروايتين إحداهما عليه أن يقطعهما أسفل من الكعبين فإن لم يقطعهما فعليه دم لأن ذلك في حديث ابن عمر وهو مقيد فيقضى به على غيره من الأحاديث المطلقة فإن الحكم واحد والسبب واحد وفي مثل هذا يجب حمل المطلق على المقيد وفاقا ثم هذه زيادة حفظها ابن عمر ولم يحفظها غيره وإذا كان في أحد الحديثين زيادة وجب العمل به

ووجه الأول ما روى ابن عباس قال سمعت رسول الله يخطب بعرفات من لم يجد أزارا فليلبس سراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين وفي لفظ السراويل لمن لم يجد الأزار والخفاف لمن لم يجد النعلين متفق عليه قال مسلم لم يذكر أحد منهم يخطب بعرفان غير شعبة وحده

وفي رواية صحيحة لأحمد قال من لم يجد أزارا ووجد سراويل فليلبسه ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما قلت ولم يقل ليقطعهما قال لا

وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد أزارا فليلبس سراويل رواه أحمد ومسلم

وعن بكر بن عبد الله أن رسول الله صلى صلاة فلما انصرف لبى ولبى القوم وفي القوم رجل أعرابي عليه سراويل فلبى معهم كما لبوا فقال رسول الله السراويل أزار من لا أزار له والخفاف نعلان لم لا نعل له رواه النجاد وهو مرسل

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عبد الرحمن بن عوف يطوف وعليه خفان قال له عمر تطوف وعليك خفان فقال لقد لبسهما من هو خير منك يعني رسول الله رواه أبو حفص في شرحه ورواه النجاد ولفظه فرأى عليه خفين وهو محرم

فقد أمر النبي بلبس الخفين عند عدم النعلين والسراويل عند عدم الأزار ولم يأمر بتغييرهما ولم يتعرض لفدية والناس محتاجون إلى البيان لأنه كان بعرفات وقد اجتمع عليه خلق عظيم ولا يحصيهم إلا الله يتعلمون وبه يقتدون وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز

فلو وجب تغييرهما أوجبت فيهما فدية لوجب بيان ذلك لا سيما ومن جهل جواز لبس الازار والخفين فهو يوجب الفدية أو التغيير وأجهل ألا ترى أن الله سبحانه ورسوله حيث أباح شيئا لعذر فإنه يذكر الفدية كقوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقول النبي لكعب بن عجرة إحلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة أو انسك شاة

وأيضا فإن اللام في السراويل والخف لتعريف ما هو معهود ومعروف عند المخاطبين وذلك هو السراويل الصحيح والخف الصحيح فيجب أن يكون هو مقصود المتكلم وأن يحمل كلامه عليه

وأيضا فإن المفتوق والمقطوع لا يسمى سراويلا وخفا عند الإطلاق ولهذا لا ينصرف الخطاب إليه في لسان الشارع كقوله أمرنا أن لا ننزع خفافنا وقوله امسحوا على الخفين والخمار وغير ذلك ولا في خطاب الناس مثل الوكالات والإيمان وغير ذلك من أنواع الخطاب والنبي أمر بلبس الخفين والسراويل فعلم أنه أراد ما يسمى خفا وسراويل عند الإطلاق

وأيضا فإنه وإن سمى خفا وسراويل فإنه ذكره باللام الذي تقتضي تعريف الحقيقة أو بلفظ التنكير الذي يقتضي مجرد الحقيقة فيقتضي ذلك أن يجوز مسمى الخف والسراويل على أي حال كان كسائر أسماء الأجناس

وأيضا فإن وجود المعبر عن هيئة الخفاف والسراويلات نادر جدا لا يكون إلا بقصد واللفظ العام المطلق لا يجوز أن يحمل على ما يندر وجوده من أفراد الحقيقة فكيف ما يندر وجوده من مجازاته

وأيضا فإنه لو افتقر ذلك إلى تغيير أوجبت فيه فدية لوجب أن يبين مقدار التغيير الذي يبيح لبسه أو مقدار الفدية الواجبة فإن مثل هذا لا يعلم الا بتوقيف

وأيضا فقد رأى على الأعرابي سراويل وأقره على ذلك وبين أن السراويل بمنزلة الأزار عند عدمه والخف بمنزلة النعل عند عدمه ومعلوم أن الأزر والنعل لا فدية فيهما

وأيضا فإنه إنما جوز لبسهما عند عدم الأصل فلو افتقر ذلك إلى تغيير أوجبت فدية لاستوى حكم وجود الأصل وعدمه في عامة المواضع وبيان ذلك أنهما إذا غيرا إن صارا بمنزلة الأزار والنعل فيجوز لبسهما مغيرين مع وجود الأزار والنعل إذ لا فرق بين نعل ونعل وإزار وإزار وهذا مخالف لقوله السراويل لمن لم يجد الأزار والخفاف لمن لم يجد النعلين فجعلهما لمن لم يجد كما في قوله { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وقوله { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وقوله { فمن لم يجد فصيام شهرين } إلى غير ذلك من المواضع ومخالف لقوله من لم يجد ازارا فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومخالف لقوله السراويل أزار من لا أزار له والخفان نعلان من لا نعل له وهذا واضح

وإن لم يصير بالتغيير بمنزلة الأزار والخف فلا فائدة في التغيير بل هو إتلاف بغير فائدة أصلا وإفساد له والله لا يحب الفساد

وأيضا فإن عامة الصحابة وكبراءهم على هذا فروي عن الأسود قال سألت عمر بن الخطاب قلت من أين أحرم قال من ذي الحليفة وقال الخفان نعلان لمن لا نعل له

وعن الحارث عن علي قال السراويل لمن لم يجد الأزار والخفان لمن لم يجد النعلين

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا لم يجد المحرم الأزار فليلبس السراويل وإذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال كنت مع عبد الرحمن بن عوف في سفر ومعنا حاد أو مغن فأتاه عمر في بعض الليل فقال ألا أرى أن يطلع الفجر أذكر الله ثم التفت فرأى عليه خفين وهو محرم قال وخفين فقال قد لبستهما مع من هو خير منك

وعن مولى الحسن بن علي قال رأيت على المسور بن مخرمة خفين وهو محرم فقيل له ما هذا فقال أمرتنا عائشة به

وأما حديث ابن عمر فحديث صحيح وزيادته صحيحة محفوظة وقد زعم القاضي وأصحابه وابن الجوزي وبعض أصحابنا أنه اختلف في إتصاله

فقال أبو داود رواه موسى بن طارق عن موسى بن عقبة موقوفا على ابن عمر قال وكذلك رواه عبيد الله بن عمر ومالك وأيوب

قالوا وقد روي فيه القطع وتركه فإن النجاد روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله قال السراويل لمن لم يجد الازار والخفاف لمن لم يجد النعلين

وهذا غلط فإنه لم يختلف أحد من الحفاظ في اتصاله وأن هذه الزيادة متصلة وإنما تكلم أبو داود في قوله لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين وذكر أن هذه الزيادة من الناس من وقفها ومنهم من رفعها مع أنه قد أخرجها البخاري وهذا بين في سنن أبي داود فمن توهم أن أبا داود عنى زيادة القطع فقد غلط عليه غلطا بينا فاحشا

واعتذر بعضهم عنه بأن عائشة روت عن النبي أنه رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما وكان ابن عمر يفتى بقطعهما قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع

وهذا غلط بين أيضا فإن حديث عائشة إنما هو في المرأة المحرمة لكن هذه الزيادة متروكة في حديث بن عباس وجابر وغيرهما

وليس هذا مما يقال فيه الزيادة من الثقة مقبولة لأن ابن عمر حفظ هذه الزيادة وغيره عقلها وذهل عنها أو نسيها فإن هذين حديثان تكلم النبي بهما في وقتين ومكانين

فحديث ابن عمر تكلم به النبي وهو بالمدينة قبل إن يحرم على منبره لما سأله السائل عما يلبس المحرم من الثياب وقد تقدم أن في بعض طرقه سمعته يقول على هذا المنبر وهو ينهى الناس إذا أحرموا عما يكره لهم وذلك إشارة إلى منبره بالمدينة وفي رواية أن رجلا نادى رسول الله وهو في المسجد رواه الدارقطني

وتقدم في لفظ اخر صحيح أن رجلا سأله ما نلبس من الثياب إذا أحرمنا فعلم أنهم سألوه قبل أن يحرموا

وحديث ابن عباس كان وهو محرم بعرفات كما تقدم وقد بين فيه أنه لم يذكر القطع

قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول في حديث ابن جريج وليث بن سعد وجويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر قال نادى رجل رسول الله في المسجد ما يترك المحرم من الثياب وهذا يدل على أنه قبل الاحرام بالمدينة وحديث شعبة وسعيد بن زيد عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس أنه سمع النبي يخطب بعرفات هذا بعد حديث ابن عمر

فمن زعم أن هذه الزيادة حفظها ابن عمر دون غيره فقد أخطأ قال المروذي احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي قلت وهو زيادة في الخبر فقال هذا حديث وذاك حديث

ويبين ذلك أنهما حديثان متغيرا اللفظ والمعنى في هذا ما ليس في هذا وفي هذا ما ليس في هذا

وإذا كان كذلك فحديث ابن عباس هو الحديث المتأخر فإما أن يبنى على حديث ابن عمر ويقيد به أو يكون ناسخا له ويكون النبي أمرهم أولا بقطعها ثم رخص لهم في لبسها مطلقا من غير قطع وهذا هو الذي يجب حمل الحديثين لوجوه

أحدها أن النبي أمرهم بلبس الخفاف والسراويلات وموجب هذا الكلام هو لبس الخف المعروف ولا يجوز أن يكون ترك ذكر القطع لأنه قد تقدم منه أولا بالمدينة لأن الذين سمعوا ذلك منه بالمدينة كانوا بعض الذين اجتمعوا بعرفات وأكثر أولئك الذين جاؤا بعرفات من النواحي ليسوا من فقهاء الصحابة بل قوم حديثوا عهد بالإسلام وكثير منهم لم ير النبي قبل تلك الأيام وفيهم الأعراب ونحوهم وقد قال لهم في الموسم لتأخذوا عنى مناسككم فكيف يجوز أن يأمرهم بلبس الخفاف والسراويلات ومراده الخف المقطوع والسراويلات المفتوقة من غير أن يكون هناك قرينة مقالية ولا حالية تدل على ذلك بل القرائن تقضي بخلاف ذلك بناء على أنه أمر بالقطع لناس غيرهم هذا لا يجوز أن يحمل عليه كلام رسول الله فإن ذلك تلبيس وتأخير للبيان عن وقت الحاجة وذلك لا يجوز عليه وما هذا إلا بمثابة أن يقول رجل لخياط خط لي قميصا أو خفا فيخيط له صحيحا فيقول إنما أردت قميصا نفيرا أو خفا مقطوعا لأني قد أمرت بذلك للخياط الآخر فيقول وإذا أمرت ذاك ولم تأمرني أفأعلم الغيب بل أمره بلبس الخف والسراويل وسكوته عن تغييرهما يدل أصحابه الذين سمعوا الحديث الأول أنه أراد لبسهما على الوجه المعروف وأنه لو أراد تغييرهما لذكره كما ذكره أولا كما فهموا ذلك منه على ما تقدم

ويوضح ذلك أنه لو كان مكتفيا بالحديث الأول لاكتفى به في أصل الأمر بلبس الخف لمن لم يجد النعل ولم يعده ثانيا فإذا لم يستغن عن أصل الأمر فكيف يستغنى عن صفته ويتركه ملبسا مدلسا وقد كان الإعراض عن ذكر أصله وصفته أولى في البيان لو كان حاصلا بالحديث الأول من ذكر لفظ يفهم خلاف المراد

الثاني أن حديث ابن عمر نهي النبي فيه وهم بالمدينة قبل الاحرام عن لبس السراويل مطلقا كما نهى عن لبس العمامة والقميص ولم يأذن في لبسه بحال ونهى عن لبس الخف إلا إذا عدم النعل فيلبس مقطوعا ففهم ابن عمر منه الأمر بالقطع للرجال والنساء لعموم الخطاب لهما كما عمهم النهي عن لبس ثوب مسه ورس أو زعفران وإن لم يعمهم النهي عن لبس ثوب القميص والبرانس والسراويلات فإن المرأة محتاجة إلى ستر بدنها ورأسها فكان ذلك قرينة عند ابن عمر تعلمه أنها لم تدخل في النهي عن ذلك وليس بها حاجة إلى الخف الصحيح فجوز أن تنهى عن لبس ما يصنع لرجلها كما نهيت عن القفاز والنقاب فلو ترك الناس وهذا الحديث لم يجز لأحد لبس السراويل إلا أن يفتقه أو يفتدى بلبسه صحيحا وكان معناه أن عدم الأزار والنعل لا يبيح غيره إلا أن يكون قريبا منه وذكر هذا في ضمن ما نهى عنه من سائر الملابس مثل العمامة والبرنس والقميص والمصبوغ بالورس والزعفران

فمضمون هذا الحديث هو المنهي عنه من اللباس ليجتنبه الناس في إحرامهم وكان قطع الخف إذ ذاك مأمور به وإن أفسده إتباعا لأمر الله ورسوله حيث لا رخصة في البدل ثم جاء حديث ابن عباس بعد هذا بعرفة ليس فيه شيء من المنهيات إنما فيه الأمر لمن لم يجد الإزار أن يلبس السراويل ولمن لم يجد النعل أن يلبس الخف وترك ذكر بقية الملابس وهذا يبين لذى لب أن هذه رخصة بعد نهى حيث رأى النبي في أيام الاحرام المشقة والضرورة بكثير من الناس إلى السراويلات والخفاف فرخص فيهما بدلا عن الإزار والنعل وأعرض عن ذكر بقية الملابس إذ لا بدل لها لعدم الحاجة إلى البدل منها

فإن بالناس حاجة عامة إلى ستر العورة شرعا وبهم حاجة عامة إلى الاحتذاء طبعا فإن الاحتفاء فيه ضرر عظيم ومشقة شديدة خصوصا على المسافرين في مثل أرض الحجاز واقتطع ذكر الخف والسراويل دون غيره ليبين أنه إنشاء حكم غير الحكم الأول وبيانه وأنه ليس مقصوده إعادة ما كان ذكره بالمدينة إذ لو كان مقصوده بيان أنواع الملابس لذكر ما ذكره بالمدينة فسمع ذلك ابن عباس وجابر وغيرهما وأفتى بمضمونه خيار الصحابة وعامتهم ولم يسمع ابن عمر هذا فبقي يفتي بما سمعه أولا

كما أن حديثه في المواقيت ليس فيه ميقات أهل اليمن لأنه وقت بعد وكما أفتى النساء بالقطع حتى حدثته عائشة أن رسول الله رخص للنساء في الخفاف مطلقا أو أنهن لم يعنين لهذا الخطاب

ولهذا أخذ بحديثه بعض المدنيين في أن السراويل لا يجوز لبسه وأن لابسه للحاجة عليه الفدية حيث لم يأذن النبي فيه ومعلوم أن هذا موجب حديثه فإذا نسخ موجب حديثه في السراويل نسخ موجبه في الخف لأن النبي ذكرهما جميعا وسبيلهما واحد

قال مالك وقد سئل النبي أنه قال من لم يجد إزارا فيلبس سراويل قال مالك لم أسمع بهذا ولا أرى أن يلبس المحرم سراويل لأن رسول الله نهى عن لبس السراويلات فيما نهى عنه من لبس الثياب التي لا ينبغي للمحرم أن يلبسها ولم يستثن فيها كما استثنى في الخفين

فهذا قول من لم يبلغه حديث ابن عباس وقد أحسن فيما فهم مما سمع الثالث أنه لما قال الخفاف لمن لم يجد النعلين والسراويل لمن لم يجد الإزار لو قصد بذلك الخف المقطوع لوجب أن يقصد بذلك السراويل المفتوق لأن المقصود بقطع الخف تشبيهه بالنعل فكذلك السراويل ينبغي أن يشبه بالإزار بل فتق السراويل أولى لوجوه

أحدها أنه مخيط بأكثر مما يحيط به الخف

والثاني أنه ليس في فتقه افساد له بل يمكن اعادته سراويلا بعد انقضاء الاحرام

والثالث أن فتق السراويل يجعله بمنزلة الإزار حتى يجوز لبسه مع وجود الإزار بالإجماع بخلاف قطع الخف فإنه يقربه إلى النعل ولا يجعله مثله فإذا لم يقصد إلا السراويل المعروف كما تقدم فالخف أولى أن لا يقصد به إلا الخف المعروف وإن جاز أن يدعى أنه إكتفى بما ذكره إلا من القطع جاز أن يدعى أنه إكتفى بالمعنى الذي نبه عليه في الأمر بالقطع وهو تغيير صورته إلى ما يجوز لبسه وذلك مشترك بين الخف والسراويل بل هو بالسراويل أولى فإن تقييد المطلق بالقياس جائز كتقييده بلفظ اخر لكن هذا باطل لما تقدم فالآخر مثله وهذا معنى ما ذكره مهنا لأبي عبد الله وقد حكى له أنه ناظر بعض أصحاب الشافعي في قطع الخفين وأن سبيل السراويل وسبيل الخف واحد فتبسم أبو عبد الله وقال ما أحسن ما احتججت عليه الوجه الرابع أن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان اللفظ صالحا له عند الإطلاق ولغيره فيتبين باللفظ المقيد أنما المراد هو دون غيره مثل قوله { فتحرير رقبة } فإنه اسم مطلق يدخل فيه المؤمنة والكافرة فإذا عنى به المؤمنة جاز لأنها رقبة وزيادة وكذلك صوم ثلاثة أيام يصلح للمتتابعة وللمتفرقة فإذا بين أنها متتابعة جاز

وهنا أمر بلبس الخف والسراويل ومتى قطع الخف حتى صار كالحذاء وفتق السراويل حتى صار إزارا لم يبق يقع عليه اسم خف ولا سراويل ولهذا إذا قيل امسح على الخف ويجوز المسح على الخف وأمرنا أن لا ننزع خفافنا لم يدخل فيه المقطوع والمداس ولا يعرف في الكلام أن المقطوع والمداس ونحوهما يسمى خفا ولهذا في حديث فليلبس وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين فسماهما خفين قبل القطع وأمر بقطعهما كما يقال افتق السراويل إزارا واجعل القميص رداء ومعلوم أنه إنما يسمى قميصا وسراويل قبل ذلك فعلم أن المقطوع لا يسمى بعد قطعه خفا أصلا إلا أن يقال خف مقطوع كما يقال قميص مفتوق وهو بعد الفتق ليس بقميص ولا سراويل وكما يقال حيوان ميت وهو بعد الموت ليس بحيوان أصلا فإن حقيقة الحيوان الشيء الذي به حياة وكما يقال لعظام الفرس هذا فرس ميت ويقال لخل الخمر هذا خمر مستحيل ومعلوم أنه ليس خمرا يسمى الشيء باسم ما كان عليه إذا وصف بالصفة التي هو عليها الآن لأن مجموع الاسم والصفة ينبيء عن حقيقته فإذا ذكر الاسم وحده لم يجز أن يراه به إلا معناه الذي هو معناه والنبي أمر هنا بلبس الخف وما تحت الكعب لا يسمى خفا فلا يجوز حمل الكلام عليه فضلا عن تقييده به بخلاف الرقبة المؤمنة والأيام المتتابعات فإنها رقبة وأيام وهذا بين واضح الوجه الخامس أنه لو سمى خفا فإن وجوده نادر فإن الأغلب على الخفاف الصحة وإنما يقطع الخف من له في ذلك غرض والنبي قال السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد النعال فذكر الخفاف بصيغة الجمع معرفة بلام التعريف وهذا يقتضي الشمول والإستغراق فلو أراد بذلك ما يقل وجوده من الخفاف لكان حملا للفظ العام على صور نادرة

وهذا غير جائز أصلا ولهذا أبطل الناس تأويل من تأول قوله أيما إمرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها على المكاتبة فكيف إذا كانت تلك الصور النادرة بعض مجازات اللفظ فإنه أعظم في الإحالة لأن من تكلم بلفظ عام وأراد به ما يقل به وجوده من أفراد ذلك العام ويندر ولا يسمى به إلا على وجه التجوز مع نوع قرينة مع أن الأغلب وجودا واستعمالا غيره لا يكون مبينا بالكلام بل ملغزا وهذا أصل ممهد في موضعه وكذلك رواية من روى من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل فإن الخفين مطلق وتقييد المطلق مثل تخصيص العام فلا يجوز أن يقيد بصورة نادرة الوجود ولا يقع عليه الاسم إلا مجازا بعيدا وصار مثل أن يقول البس قميصا ويعنى به قميصا بقرت أكمامه وفتقت أوصاله فإن وجود هذا نادر وبتقدير وجوده لا يسمونه قميصا

ولما تفطن جماعة من أهل الفقه لمثل هذا علموا أن أحد الحديثين لا يجوز أن يعني به ما عنى بالاخر لم يكن لهم طريق إلا أن قالوا هما حديث واحد فيه زيادة حفظها بعضهم وأغفلها غيره

وقد بينا أنهما حديثان وبهذا الذي ذكرنا يتبين بطلان ما قد يورد على هذا مثل أن يقال التخصيص والتقييد أولى من النسخ أو أن من أصلنا أن العام يبنى على الخاص والمطلق على المقيد وإن كان العام والمطلق هما المتأخران في المشهور من المذهب فإنما ذاك حيث يجوز أن يكون التخصيص والتقييد واقعا فيكون الخطاب الخاص المقيد يبين مراد المتكلم من الخطاب العام المطلق أما إذا دلنا دليل على أن المراد باللفظ إطلاقه وعمومه أو أن تخصيصه وتقييده لا يجوز أو أن اللفظ ليس موضوعا لتلك الصورة المخصوصة المقيدة أو كان هناك قرينة تبين قصد النسخ والتغيير إلى غير ذلك من الموجبات فإنه يجب المصير إليه وببعض ما ذكرناه صار قوله { وقاتلوا المشركين كافة } ناسخ لقوله { قتال فيه كبير } وقوله { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ناسخا لقوله { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } فكيف وما ذكرناه بعيد عن المطلق والمقيد

الوجه السادس أن عبد الرحمن لما أنكر عليه عمر الخف قال قد لبسته مع من هو خير منك يعني رسول الله فقد بين أنه لبس الخف مع رسول الله وإنما كان خفا صحيحا وهذا بين

السابع أن أكابر الصحابة مثل عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وعائشة وابن عباس رخصوا في لبس الخفين والسراويلات وترك قطعهما ومعلوم أن النبي قد نهى المحرم عن لبس الخفاف والسرويلات نهيا عاما قد علم ذلك كل أحد فترخيصهم لمن لم يجد الإزار والنعل أن يلبس السراويل والخف لا يجوز أن يكون بإجتهاد بل لا بد أن يكون عن علم عندهم بالسنة ثم ابن عمر أمر بالقطع وغيره لم يأمر به بل جوز لبس الصحيح ومعلوم أن ابن عمر أعتبر سماعه بالمدينة فلو لم يكن عند الباقين علم ناسخ ينسخ ذلك ومجيء الرخصة في بعض ما قد كان حظر لم يحلوا الحرام فإن القياس لا يقتضي

الثامن أن من أصحابنا من حمل حديث ابن عمر على جواز القطع كما سيأتي ويكون فائدة التخصيص أن قطعهما في غير الاحرام ينهى عنه بخلاف حال الإحرام فإن فيه فائدة وهو التشبيه بفعل المحرم ويقوى ذلك أن القطع كان محظورا لأنه إضاعة للمال والنبي نهى عن إضاعة المال وصيغة إفعل إذا وردت بعد حظر إنما تفيد مجرد الإذن والإباحة وهذا الجواب فيه نظر

فعلى هذا هل يستحب قطعهما قال بعض أصحابنا يستحب لأن فيه إحتياطا وخروجا من الخلاف

وقال القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب في حديث ابن عمر يحمل قوله وليقطعهما على الجواز ويكون فائدة التخصيص أنه يكره قطعهما لغير الإحرام لما فيه من الفساد ولا يكره لإحرام لما فيه من التشبيه بالنعلين التي هما شعار الاحرام

وقال أحمد في رواية مهنا ويلبس الخفين ولا يقطعهما حديث ابن عباس لا يقول فيه يقطعهما هشيم عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال سمعت رسول الله يخطب إذا لم يجد المحرم نعلين فليلبس الخفين وذكر حديث ابن عباس قال وقد رواه جابر عن النبي أبو الزبير عن جابر وقد كره القطع عطاء وعكرمة فقالوا القطع فساد

وقال في رواية أبي طالب ويروى عن علي بن أبي طالب قطع الخفين فساد يلبسهما كما هما

ولو كان عليه كفارة في لبسهما ما كان رخصة وهذا الكلام يقتضي كراهة قطع الخف وهذا أصح لأن الأمر بقطعهما منسوخ كما تقدم وقد اطلعوا على ما خفي على غيرهم

فإن قيل فهلا أوجبتم الفدية مع اللبس لأن أكثر ما فيه أنه قد لبس السراويل والخف لحاجة والمحرم إذا استباح شيئا من المحظورات لحاجة فلا بد له من الفدية كما لو لبس القميص أو العمامة لبرد أو حر أو مرض

قلنا لو خيل إلينا أن هذا قياس صحيح لوجب تركه لأن الذي أوجب في حلق الرأس ونحوه للحاجة الفدية هو الذي أباح لبس السراويل والخف بغير فدية حيث أباح ذلك ولو أوجب الفدية لما أمر بقطعة أولا وسما من غير فديه كما تقدم تقريره فإذا قسنا أحدهما بالآخر كان ذلك بمنزلة قياس البيع على الربا فإنه لا يجوز الجمع بين ما فرق الله بينه فكيف وقد تبين لنا أنه قياس فاسد وذلك أن ترك واجبات الحج وفعل محظوراته يوجب الفدية إذا فعلت لعذر خاص يكون ببعض الناس بعض الأوقات

فأما ما رخص فيه للحاجة العامة وهو ما يحتاج إليه في كل وقت غالبا فإنه لا فديه معه ولهذا رخص للرعاة والسقاة في ترك المبيت بمنى من غير كفارة لأنهم يحتاجون إلى ذلك كل عام ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع من غير كفارة لأن الحيض أمر معتاد غالب فكيف بما يحتاج إليه الناس وهو الاحتذاء والاستتار فإنه لما احتاج إليه كل الناس لما في تركهما من الضرر شرعا وعرفا وطبعا لم يحتج هذا المباح إلى فدية لا سيما وكثيرا ما يعدل إلى السراويل والخف للفقر حيث لا يجد ثمن نعل وإزار فالفقر أولى بالرخصة كما قال النبي لما سئل عن الصلاة في ثوب واحد قال أولكلكم ثوبان

فإ قيل فهو يحتاج إلى ستر منكبيه أيضا للصلاة فينبغي إذا لم يجد إزارا أن يلبس القميص

قلنا يمكنه أن يتشح بالقميص كهيئة الرداء من غير تغيير لصورته وذلك يغنيه عن لبسه على الوجه المعتاد

فصل

ومعنى كونه لا يجده أن لا يباع أو يجده يباع وليس معه ثمن فاضل عن حوائجه الأصلية كما قلنا في سائر الإبدال في الطهارة والكفارات وغير ذلك بحيث لا يجب عليه قبوله هبة ويقدم على ثمنه قضاء دينه ونفقة طريقه ونحو ذلك فإن بذل له عارية فينبغي أن لا يلزمه قبوله وإن أوجبنا عليه قبوله إعارة السترة في الصلاة فإن لبس النعل والإزار مدة الاحرام تؤثر فيه وتبليه ومثل ذلك لا يخلوا عن منة بخلاف لبس الثوب مقدار الصلاة فإن غلب على ظنه أنه يجده بالثمن عند الاحرام لم يلزمه حمله فإن وجده وإلا انتقل إلى البدل وإن غلب على ظنه أنه لا يجده فهل عليه اشتراؤه من مكان قريب وبعيد وحمله إذا لم يشق

فإن فرط في ذلك

وأما العبد إذا كان سيده يقدر أن يلبسه إزارا ونعلا فهل يلزمه ذلك على روايتين إحداهما لا يلزمه ذلك كالحر الفقير لأنه لا مال له قال في رواية الميموني في حديث عائشة وأنها كانت تلبس مماليكها التبابين علله بأنهم مماليك

والثانية يلزمه ذلك قاله في رواية الأثرم

ومثل هذا إذا تمتع بإذنه هل يلزمه دم التمتع فيه وجهان

فأما إن أحرم بدون إذن السيد ولم يحلله أو لم نمكنه من تحليله فلا يلزمه لباسه بلا تردد كالدماء التي تجب بفعل العبد لا يلزم السيد منها شيء

فإن وجده ولم يمكنه لبسه فقد قال أحمد في رواية أبي داود فيمن لبس الخف وهو يجد النعل إلا أنه لا يمكنه لبسهما يلبسه ويفتدى وهذا لأن النبي إنما رخص في لبسهما لمن لم يجد فإذا وجد انتفت هذه الرخصة وبقيت الرخصة للعذر وتلك لا بد فيهما من فدية

وقال وهذا نوعان أن يضيق عن رجله بحيث لا يدخل في قدمه أو لصغره أو يكون الإزار ضيقا لا يستر عورته ونحو هذا فهذا بمنزلة من وجد ماء لا يتوضأ به أو رقبة لا يصح عتقها هو كالعادم وكلام أحمد ليس هذا

الثاني أن يسع قدمه لكن لا يمكنه لبسها لمرض في قدمه أو لم يعتد المشي فيها فإذا مشى تعثر وانقطعت ونحو ذلك أو يصيب أصابعه شوك أو حصى أو لا يقدر أن يشرع في السير فيخاف فوات الرفقة أو يكون عليه عمل لا يمكنه أن يعمله ووجه ما روى عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة أنها حجت ومعها غلمان لها فكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء فتأمرهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها وهم محرمون

وفي رواية عن القاسم قال رأيت عائشة لا ترى على المحرم بأسا أن يلبس التبان وعن عطاء أنه كان يرخص للمحرم في الخف في الدلجة وهذا يقتضي أنه إذا احتاج إلى السراويل والتبان ونحوهما للستر لكونه لا يستره الإزار أو إحتاج إلى الخف ونحوه لكونه لا يستطيع المشي في النعل لا فدية عليه

فصل

وأما المقطوع دون الخف والجمجم والمداس ونحو ذلك مما يصنع على مقدار القدم فالمشهور في المذهب أن حكمه حكم الخف لا يجوز إلا عند عدم الخف وهو المنصوص عنه قال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن لبس الخفين دون الكعبين فقال يلبسه ما لم يقدر على النعلين إذا اضطر إلى لبسهما

وقال في رواية الأثرم لا يلبس نعلا لها قيد وهو السير يجعل في الزمام معترضا فقيل له فالخف المقطوع قال هذا أشد وقال في رواية المروذي أكره المحمل الذي على النعل والعقب وكان عطاء يقول فيه دم

فإذا منع من أن يجعل على النعل سيرا فأن يمنع من الجمجم ونحوه أولى

وسواء نصب عقبه أو طواه فإن عقبه فإن لبسه فذكر القاضي والشريف وأبو الخطاب وابن عقيل وغيرهم أنه يفدي لأن أحمد منع منه وممنوعات الاحرام فيها الفدية ولأنه قد نقل عنه أن في النعال المكلفة والمعقبة الفدية فهذا أولى وقد حكى قول عطاء كالمفتي به

وذكر القاضي في المجرد وابن عقيل في بعض المواضع من الفصول أنه ليس له لباس المقطوعين وأنه يكره النعال المكلفة ونحو ذلك قال ولا فدية في ذلك قال لأنه أخف حكما من الخف المقطوع وقد أباح النبي لبسه وسقطت الفدية فيه

وذكر القاضي وابن عقيل في موضع من خلافهما أنه إذا قطع الخفين جاز لبسهما وإن وجد النعلين لأن النبي جوز لبسهما بعد القطع في حديث ابن عمر فلولا أن قطعهما يخرجهما عن المنع لم يكن في القطع فائدة وإنما ذكر جواز لبسهما مقطوعين لمن لم يجد النعل لأنه إذا وجد النعل لم يجز له أن يقطع الخف ويفسده وإن كان لبس المقطوع جائزا فإذا عدم النعل صار مضطرا إلى قطعها ويؤيد هذا أنه قد تقدم أن النبي لم يرخص في حديث ابن عمر في لبس السراويل ولا الخف وإنما رخص بعد عرفات فعلم أن قوله فليلبس الخفين ويقطعهما حتى يكونا أسفل الكعبين بيان لما يجوز لبسه ويخرج به عن حد الخف الممنوع ويصير بمنزلة النعل المباح وإلا لم يكن فرق بين لبسهما مقطوعين وصحيحين وجعل ذلك لمن لم يجد النعل لما تقدم ثم إنه رخص بعد ذلك في لبس الخف والسراويل للعادم فبقى المقطوع كالسراويل المفتوق يجوز لبسه بكل حال

وأيضا فإن النبي إنما نهى المحرم عن الخف كما رخص في المسح على الخف والمقطوع وما أشبه من الجمجم والحذاء ونحوهما ليس بخف ولا في معنى الخف فلا يدخل في المنع كما لم يدخل في المسح لا سيما ونهيه عن الخف إذن فيما سواه لأنه سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال لا يلبس كذا فحصر المحرم فما لم يذكره فهو مباح

وأيضا فإنه إما أن يلحق بالخف أو بالنعل وهو بالنعل أشبه فإنه لا يجوز المسح عليه كالنعل

وأيضا فإن القدم عضو يحتاج إلى لبس فلا بد أن يباح ما تدعو إليه الحاجة وكثير من الناس لا يتمكن من المشي في النعل فلا بد أن يرخص لهم فيما يشبهه من الجمجم والمداس ونحوهما وهو في ذلك بخلاف اليد فإنها لا تستر بالقفاز ونحوه لعدم الحاجة

ووجه الأول قوله في حديث ابن عمر ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين وفي لفظ صحيح إلا أن يضطر يقطعه من عند الكعبين وفي رواية إلا أن يضطر مضطر فيقطعها أسفل من الكعبين وفي روايات متعددة ولا الخفين إلا أحد لا يجد نعلين فليلبسهما أسفل من الكعبين فلم يرخص في لبس المقطوع إلا لعادم النعل وعلقه باضطراره إلى ذلك وهذا صريح في نهيه عنه إذا لم يضطر وإذا كان واجدا وليس بمفهوم قالوا وإنما أمر أولا بالقطع ليقارب النعل لا ليصير مثله من كل وجه إذ لو كان مثله من كل وجه لم ينه عنه إلا في الضرورة ثم إنه نسخ ذلك كما تقدم ويؤيد ذلك أنه قال في حديث ابن عمر وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فلما كانت الأعضاء التي يحتاج إلى سترها ثلاثة ذكر لكل واحد نوعا غير مخيط على قدره والأمر بالشيء نهى عن ضده فعلم أنه لا يجز الاحرام إلا في ذلك ولأنه مخيط مصنوع على قدر العضو فمنع منه المحرم كالمخيط لجميع الأعضاء والحاجة إنما تدعو إلى شيء يقيه مس قدمه الأرض وذلك يحصل بالنعل لما لم يثبت بنفسه رخصة له في سيور تمسكه كما يرخص في عقد الإزار لما لم يثبت إلا بالعقد

فأما ستر جوانب قدمه وظهرها وعقيبته فلا حاجة إليه فلبس ما صنع لستره ترفه ودخول في لباس العادة كلبس القفاز والسراويل ولأن نسبة الجمجم ونحوه إلى النعل كنسبة السراويل إلى الإزار فإن السراويل

فعلى هذا قال أحمد في رواية الأثرم لا يلبس نعلا لها قيد وهو السير في الزمام معترضا فقيل له فالخف المقطوع فقال هذا أشد وقال حرب سئل أحمد عن النعل يوضع عليها شراك بالعرض على ظهر القدم كما يفعله المحرس يلبسه المحرم فكرهه وقال في رواية المروذي أكره المحمل والعقب الذي يجعل للنعل وكان عطاء يقول فيه دم والقيد والمحمل واحد

قال القاضي وغيره هي النعال المكلفات واختلف أصحابنا فمنهم من حمله على التحريم بكل حال على عموم كلامه قال ابن أبي موسى ويزيل ما على نعله من قيد أو عقب فإن لم يفعل فعليه دم وقد روى عن أحمد في القيد في النعل يفتدي لأنا لا نعرف النعال هكذا

ومعنى القيد سير ثان على ظهر القدم والعقب الذي يكون في مؤخر القدم وهذا لأن القدر الذي يحتاج إليه النعل من السيور الزمام لأنه يمنع النعل من التقدم والتأخر والشراك فإنه إذا عقده إمتنع من أن ينتحي يمينا وشمالا فأما سير ثان على ظهر القدم مع الشراك أو عقب بازاء الزمام فلا حاجة إليه ولأنه ستر ظهر القدم وجانبه بما صنع له مما لا حاجة إليه فهو كما لو ستره بظهر قدم الجمجم وعقبه وهذا لأن الظهر والعقب يصير بهما بمنزلة المداس ويصير القدم في مثل الخف فأشبه ما لو صنع قميصا مشبكا أو لبس خفا مخرقا فإنه بمنزلة القميص والخف السليمين

ولأن النبي أباح النعال وأذن فيها فخرج كلامه على النعال التي يعرفونها والقيد والعقب محدثان يصير بهما النعل شبيها بالحذاء كالرداء إذا زرره أو خلله فإنه يصير كالبقير من القمصان وهذا القول مقتضي كلامه وهو أقيس على قول من يمنع المحرم من الجمجم وهو أتبع للأثر وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إنما كره ذلك إذا كان العقب والقيد عريضا يستر بعض الرجل قالوا ولا فدية في ذلك قالوا لأنه أخف حكما من الخف المقطوع وقد أباح النبي لبسه وسقطت الفدية فيه وتخصيصهم الكلام بالعريضة ليس في كلام أحمد تعرض له فإن الرقيق أيضا يستر بحسبه ولا حاجة إليه

وأما إسقاط الفدية فيحتمله كلام أحمد حيث نطق بالكراهة وحكى عن عطاء إن فيه دما ولم يجزم به

فأما إذا طوى وجه الجمجم وعقبه وشد رجله بخيط أو سير ونحوه أو قيد النعل وعقبها ووضع قدمه عليه أو كان الخف له سفل ولا ظهر له فأما أن لحقه ظهر قدم ولا سفل له

فصل

ولا فرق بين أن يكون اللباس الممنوع من قطن أو جلود أو ورق ولا فرق في توصيله على قدر البدن بين أن يكون بخيوط أو أخله أو إبر أو لصوق أو عقد أو غير ذلك فإن كل ما عمل على هيئة المخيط فله حكمه فلو شق الإزار وجعل له ذيلين وشدهما على ساقيه لم يجز لأنه كالسراويل وما على الساقين كالبالكتين

فصل

فأما القباء والدواج والفرجية ونحو ذلك فإنه لا يدخل منكبيه فيه بل ينكسه إن شاء أو يرتدي به هذا هو المنصوص عنه في رواية حرب لا يلبس الدواج ولا شيئا يدخل منكبيه فيه وفي رواية ابن إبراهيم إذا لبس القباء لا يدخل عاتقه فيه

وقال الخرقي وإن طرح على كتفيه القباء أو الدواج فلا يدخل يديه في كمية وقال ابن أبي موسى لا يلبس القباء والدواج فإن إضطر إلى طرح الدواج على كتفيه لم يدخل يديه في الكمين

وقد روي عنه رواية أخرى أنه قال لا يلبس المحرم الدواج ولا شيئا يدخل منكبيه فيه فحكى في المضطر إلى لبسه روايتين وذلك لأنه لم يشتمل على يديه على الوجه المعتاد وهو محتاج في حفظه إلى تكلف فأشبه الإرتداء بالقميص

ومن فرق بين الضرورة وغيرها قال إن المنكبين يحتاج إلى سترهما في الجملة فإذا اضطر إلى ذلك كان بمنزلة المضطر إلى السراويل والنعل والأول هو المعروف من نصه هو الذي عليه أكثر أصحابنا القاضي وأصحابه لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه قال من اضطر إلى لبس القباء وهو محرم ولم يكن له غيره فلينكس القباء وليلبسه رواه النجاد

ولأنه ليس محنا على وجه قد يلبس مثله في العادة فأشبه إذا أدخل كفيه في الكمين ولم يزره

مسألة الرابع تغطية الرأس والأذنان منه

وجملة ذلك أن تغطية الرأس على المحرم حرام بإجماع المسلمين والأصل في ذلك قول الرسول ولا يلبس العمامة ولا البرنس وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تخمرو رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامه ملبيا متفق عليه فمنع من تخمير رأسه بعد الموت لبقاء الاحرام عليه فعلم أن من حكم المحرم أن لا يخمر رأسه وهذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف وقد روي عن الحسن بن محمد قال أبصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما بعرفه عليهم القمص والعمائم فأمر أن تعاد عليهم الجزية

وعن عون قال أبصر عمر بن الخطاب قوما بعرفة عليهم القمص والعمائم فقال إن علموا فعاقبوهم وإن كانوا جهالا فعلموهم

والأذنان من الرأس لما تقدم في الطهارة وعليه أن يكشف من حدود الوجه والسالفة ما لا ينكشف الرأس إلا به

فأما الوجه ففيه ثلاث روايات إحداهن له أن يغطي وجهه قال في رواية أبي داود يغطي وجهه وحاجبيه وسئل في رواية حنبل عن المحرم يغطي وجهه قال لا بأس بذلك

وقال أيضا في رواية ابن مشيش في محرم مات يغطى وجهه ولا يغطى رأسه وقال مهنا سألت أحمد عن المحرم يموت هل يغطى وجهه قال قد اختلفوا فيه عن ابن عباس عن النبي فقال بعضهم لا يغطى رأسه قلت أيهما أعجب إليك يغطى وجه المحرم إذا مات أو لا يغطى قال أما الرأس فلا أراى أن يغطوه وأما الوجه فأرجو أن لا يكون به بأس وقال أبو الحارث قلت له تذهب إلى أن يخمر وجهه ويكشف رأسه قال نعم على ما جاء عن ابن عباس عن النبي وهو أصح من غيره وهو إختيار القاضي وأصحابه قال الخلال لعل أبا عبد الله صوب القول قديما فذهب إلى ما حكاه إسماعيل بن سعيد ثم ذهب بعد ذلك إلى ما روى مهنا والجميع عنه أنه لا يخمر رأسه ويخمر وجهه

والثانية لا يغطى وجهه قال في رواية ابن منصور وإسماعيل بن سعيد الشالنجي والمحرم يموت لا يغطى رأسه ولا وجهه وذلك لما روى ابن عباس أن رجلا أوقصته راحلته وهو محرم فمات فقال رسول الله إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامه ملبيا رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود والترمذي

وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال إذا مات المحرم لم يغط وجهه حتى يلقى الله محرما رواه أحمد في رواية ابنه عبد الله

والثالثة قال في رواية أبي طالب يخمر أسفل من الأنف وضع يديه على فمه دون أنفه يغطيه من الغبار وفي لفظ قال إحرام الرجل في رأسه ووجه ولا يغطى رأسه ومن نام فوجد رأسه مغطى فلا بأس والأذنان من الرأس يخمر أسفل من الأذنين وأسفل الأنف والنبي قال لا تخمروا رأسه فأذهب إلى قول النبي قال وإحرام المرأة في وجهها لا تنتقب ولا تتبرقع وتسدل الثوب على رأسها من فوق وتلبس من خزها وقزها ومعصفرها وحليها في إحرامها مثل قول عائشة وذلك لأن حد الرأس الأذنان والسالفة فيكشف ما يحاذيه من الأنف وما علاه وما دون ذلك فيغطيه إن شاء لأنه خارج عن حد الرأس

وسواء غطى الرأس بما صنع على قدره من عمامة وقلنسوة وكلته ونحو ذلك أو بغير ذلك مثل خرقة أو عصابة أو ورقة أو خرقة فيها دواء أو ليس فيها دواء وكذلك إن خضب رأسه بحناء أو طينه إلا أن يحتاج إلى شيء من ذلك فيفعله ويفتدي

وسواء كان الغطاء غليظا أو رقيقا فأما

وأيضا ما روي عن الفرافصة قال رأيت عثمان وزيدا وابن الزبير يغطون وجوههم وهم محرمون إلى قصاص الشعر

وعن عائشة بن سعد قالت كان أبي يأمر الرجال أن يخمروا وجوههم وهم حرم وينهى النساء

وعن أبي الزبير عن جابر قال ليغشى وجهه بثوبه وأهوى إلى شعر رأسه وأشار أبو الزبير بثوبه إلى رأسه

وعن عطاء عن ابن عباس قال المحرم يغطى وجهه ما دون الحاجب

فصل

قال أصحابنا وله أن يحمل فوق رأسه شيئا مثل الكبك والطبق ونحوه وحرره ابن عقيل فقال إذا احتاج لحمل متاع من موضعه إلى غيره فحمله فغطى رأسه لم تجب الفدية لأن الحمل لا يقصد به التغطية بل النقل

وإن تعمد لحمل شيء على رأسه تحيلا للتغطية لم تسقط الفدية وكان مأثوما وهذا مقتضى تعليل بقيتهم أن يفرق بين أن يقصد الحمل فقط أو يقصد مع الحمل التغطية

وعلله القاضي في موضع بأنه لا يستدام في العادة فهو كما لو وضع على رأسه يده

قالوا وله أن يضع يده على رأسه وأن يقلب ذوائبة على رأسه

فصل

وأما إذا غطى رأسه بشيء منفصل عنه فهو أقسام أحدها أن يستظل بسقف في بيت أو سوق أو مسجد أو غير ذلك أو يستظل بخيمة أو فسطاط أو نحوهما أو يستظل بشجرة ونحوها ونحو ذلك فهذا جائز قال أحمد في رواية حنبل لا يستظل على المحمل ويستظل بالفازة والخيمة هي بمنزلة البيت

ونص على أنه لو جلس تحت خيمة أو سقف جاز وليس اجتناب ذلك من البر كما كان أهل الجاهلية يفعلونه لقوله تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى } فروى أحمد ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري قال كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء يتحرجون من ذلك فكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعدما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيقتحم الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته حتى بلغنا أن النبي أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته فدخل على أثره رجل من الأنصار من بني سلمة فقال له النبي إني أحمس قال الزهري وكانت الحمس لا يبالون ذلك فقال الأنصاري وأنا أحمس يقول وأنا على دينك فأنزل الله عز وجل { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }

وعن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية فينا كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه وكأنه عير بذلك فنزلت { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها } متفق عليه

وفي رواية صحيحة لأحمد عن البراء قال كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيوت من ظهورها ولم يأتوها من أبوابها فنزلت هذه الآية وروي عن قيس بن جرير قال كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيتا من بابه ولكن من ظهره فبينا النبي في بعض حيطان بنى النجار وكانت الحمس يدخلون البيوت من أبوابها فلما دخل النبي ذلك الحائط من بابه تبعه رجل من الأنصار يقال له رفاعه بن تابوت قالوا يا رسول الله إن رفاعة منافق حيث دخل هذا الحائط من بابه فقال يا رفاعة ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله رأيتك دخلت فدخلت فقال إنك لست مثلي أنا من الحمس وأنت ليس منهم قال يا رسول الله إن كنت من الحمس فإن ديننا واحد فنزلت { بأن تأتوا البيوت من ظهورها } إلى اخر الآية وقد روى جابر في صفة حج النبي أن النبي أمر بقبة من شعر تضرب بنمرة فسار رسول الله حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له رواه مسلم

وكان هو وأصحابه

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال حججت مع عمر بن الخطاب فما رأيته ضرب فسطاطا حتى رجع قال فقلت له كيف كان يصنع قال كان يستظل بالنطع والكساء رواه أحمد

وسواء طال زمان ذلك أو قصر لأن هذا يقصد به جمع الرحل والمتاع دون مجرد الاستظلال

وحقيقة الفرق أن هذا شيء ثابت بنفسه لا يستدام في حال السير والمكث

الثاني المحمل والعمارية والقبة والهودج ونحو ذلك مما يصنع على الإبل وغيرها من المراكب لأجل الإستظلال شفعا كانت أو وترا فهذا إذا كان متجافيا عن رأسه فالمشهور عن أحمد الكراهة وعنه لا بأس به ذكرها ابن أبي موسى لأن المنع من الاستظلال والبروز للسماء إنما كان يعتقده برا أهل الجاهلية كما تقدم عنهم وقد رد الله ذلك كما تقدم

ولأن النبي لما رأى أبا إسرائيل قائما في الشمس سأل عنه فقيل نذر أن يقوم ولا يتكلم ولا يستظل ويصوم قال مروه فليقعد وليستظل وليتكلم وليتم صومه رواه البخاري

فبين النبي أن الضحى للشمس مثل الصمت والقيام ليس مشروعا ولا مسنونا ولا بر فيه

وأيضا فليس في المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع فوجب أن يبقى على أصل الإباحة

وأيضا فإنه يجوز له الإستظلال بالخيمة والسقف والشجر وغير ذلك وهذا في معناه ولا يقال هذه الأشياء المقصود بها جمع المتاع فإنه لو دخل البيت لقصد الاستظلال أو نصب له خيمة لمجرد الاستظلال جاز بلا تردد وقد احتجوا على ذلك بما روت أم الحصين قالت حججنا مع رسول الله حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي والآخر رافع ثوبه من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم وأبو داود والنسائي وعنده أن الآخذ بالخطام بلال والمظلل بالثوب أسامة

وفي رواية لأحمد حججنا مع رسول الله حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وأنصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به والاخر رافع ثوبه على رأس رسول الله يظله من الشمس قالت فقال رسول الله قولا كثيرا ثم سمعته يقول إن أمر عليكم عبد مجدع حسبتها قالت أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له واطيعوا

فإن قيل هذا التظليل إن كان يوم النحر ففيه مستدل وإن كان في أحد أيام منى فلا حجة فيه لأن النبي حل من إحرامه يوم النحر وليس فيه بيان أن ذلك كان يوم النحر بل فيه ما يشعر أنه كان في أيام منى لأن الجمرة ترمى أيام منى بعد الزوال حين اشتداد الحر فأما يوم النحر فإن النبي رماها ضحى وليس ذلك الوقت للشمس حر يحتاج إلى تظليل قيل قد روى ابن عمر عن النبي كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا راجعا رواه الترمذي وصححه ورواه أبو داود عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا وراجعا ويخبر أن النبي كان يفعل ذلك ورواه أحمد فقال كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ويخبرهم أن النبي كان يفعل ذلك

ففي هذا ما يدل أن ذلك الرمى كان يوم النحر لأنه كان راكبا وهو لم يفض من جمع حتى كادت الشمس تطلع وما بين أن يفيض إلى أن يجيء إلى جمرة العقبة يصير للشمس مس وحر فإن حجته كانت في ويبين ذلك وقد أخبرت أم حصين أنه خطب عند جمرة العقبة وإنما خطب عند جمرة العقبة يوم النحر وتخصيصها جمرة العقبة دون غيرها دليل على أنه إنما رماها اذ لو كان لكن التظليل والله أعلم إنما كان حين الإنصراف من رميها وحينئذ فقد حل وجاز له الحلاق

ووجه المشهور أن النبي وأصحابه معه وخلفاءه من بعده والتابعين لهم بإحسان إنما حجوا ضاحين بارزين لم يتخذوا محملا ولا قبة ولا ظلة على ظهور الدواب وقد قال النبي لتأخذوا عني مناسككم ولهذا عد السلف هذا بدعة والضحى للمحرم أمر مسنون بلا

وقد روي عن جابر عن النبي أنه قال ما من محرم يضحى لله يومه يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه رواه ابن ماجة

وقد كانوا في أول الإسلام يسرفون في البروز والضحى حتى يمتنع أحدهم من الدخول من الباب مبالغة في الامتناع من تخمير الرأس ثم إن الله سبحانه نهاهم عن الدخول من ظهور البيوت وأمرهم بالدخول من أبوابها ولم يعب عليهم أصل الضحى والبروز فعلم أنه سبحانه أقرهم على ذلك ورضيه منهم وأنه لا بأس بدخول ومكث لا يقصد الإستظلال منه ونحو ذلك من الظل ولو عاب عليهم نفس التحرج من الإستظلال لقال وليس البر في البروز أو في الضحى ونحو ذلك كما أنكر النبي على أبي إسرائيل لأنه لم يكن محرما والضحى لمجرد الصوم لا يشرع ولهذا نهاه عن الصمت والقيام في غير عبادة وإن كان ذلك مشروعا للمصلى ولأنه قصد ذلك وأراده وصار دخولهم البيوت مثل نزع المحرم القميص وإن خمر رأسه لكن لما لم يقصد به التخمير ولا بد منه وقت فيه الرخصة

وأيضا فإن المحرم الأشعث الأغبر بدليل ما روي عن ابن عمر قال قال رسول الله إذا كان عشية عرفة باهى الله بالحاج فيقول لملائكة انظروا إلى عبادي شعثا غبرا قد أتوني من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي أشهدكم أني قد غفرت لهم إلا ما كان من تبعات بعضهم بعضا فإذا كان غداة المزدلفة قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لهم تبعات بعضهم بعضا وضمنت لأهلها النوافل رواه أبو داود

ثنا محمد بن أيوب ثنا عبد الرحمن بن هارون الغساني عن عبد العزيز ابن أبي داود عن نافع عنه

فقد وصف كل حاج بأنه أغبر فعلم أنها لازمة للمحرم فمن لم يكن أشعث أغبر لم يكن محرما والإستظلال بالمحمل ينقى الغبار والشعث

وأيضا فإن السلف كرهوا ذلك فعن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره أن يستظل بعود وهو محرم

وعن ابن عمر أنه رأى رجلا محرما على رحل قد رفع ثوبا بعود يستتر به من الشمس فقال إضح لمن أحرمت له رواهما أحمد

وإضح بكسر الهمزة من ضحى بالفتح والكسر يضحى ضحا إذا برز للشمس كما قال { وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } وبعض المحدثين يرويه بفتح الهمزة من أضحى يضحي أيضا ومعناها هنا ضعيف

وعن نافع قال مر ابن عمر بعبد الله بن خالد بن أسيد وقد ضلل عليه كهية الترس وهو على راحلته فقال له عبد الله إتق الله إتق الله

وعن عطاء أن عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة إستظل بعود على راحلته وهو محرم فنهاه عنه ابن عمر رواهما سعيد

وعن نافع أن ابن عمر رأى رجلا قد نصب على مقدمة راحلته عودا عليه ثوب وهو محرم فقال ابن عمر إن الله لا يحب الخيلاء إن الله لا يحب الخيلاء

وعنه أن ابن عمر رأى رجلا قد وضع عودين على راحلته وهو محرم يستتر بهما فانتزعتهما رواهما النجاد وابن عمر من أعلم الناس بالسنة وأتبعهم لها ولم ينكر عليه هذه الفتاوى في الأوقات المتفرقة منكر مع من يجمعه الموسم من علماء المسلمين

وأما ما رواه أحمد والنجاد عن الحسن أن عثمان ظلل عليه وهو محرم وروى النجاد عن عكرمة عن ابن عباس قال لا بأس بالظل للمحرم فهو محمول على صور نذكرها إن شاء الله

وأيضا فإن الرأس يفارق غيره من البدن فإنه يمنع تخميره بكل شيء حتى بالخرقة والورقة وحتى قد كره له الدهن من لم يكرهه للبدن لما فيه من ترجيله والبدن إنما يمنع من أن يلبسه اللباس المعتاد فلو خمره بما شاء من غير ذلك جاز فعلم أن المقصود بقاء الرأس أشعث أغبر ومنعه من الترفة والتنعم بكل شيء ومعلوم أن المحمل يكن الرأس ويواريه ويرفهه بنحو مما قد يحصل له بالعمامة ونحوه لكن الترفه بالعمامة أشد فإن من كشف رأسه في داخل محمل وظلة لم يكشف رأسه فيجب أن يمنع من ذلك ولهذا يفعل ذلك من شج على رأسه يكشفه لله ولا يريد أن يتواضع ولذلك سماه ابن عمر خيلاء

وأما حديث أم الحصين وما في معناه فلا يختلف المذهب في القول بموجبه وسنذكر إن شاء الله وجهه وموضعه على المذهب

فعلى هذا إذا كان في محمل عليه كساء أو لبد ونحو ذلك فكشفه بحيث تنزل الشمس من عيونه

وما ينصبه على المحمل مثل أن يقيم عودا ويرفع عليه ثوبا ونحو ذلك حكمه حكم المحمل مطلقا صرح بذلك ابن عقيل وغيره لأنه يحصل به التظلل المستدام من غير كلفة فهو كالمحمل وحديث ابن عمر إنما كان في مثل هذا

وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية الأثرم لما ذكر حديث أم الحصين وحديث ابن عمر إذا كان يستتر بعود يرفعه بيده من حر الشمس كان جائزا وابن عمر إنما كرهه على الرحل فأما إن تظلل زمنا يسيرا من حر أو مطر ونحو ذلك من غير أن ينصبه على المحمل بل يرفع له ثوبا بعود في يده أو يرفع ثوبه بيده أو يغطى رأسه بيده ونحو ذلك فالمنصوص عنه جواز ذلك وهو قول القاضي وابن عقيل وغيرهما

قال أحمد في رواية الأثرم عن نافع عن ابن عمر أنه رأى محرما على رحل قد رفع ثوبا بعود يستره من حر الشمس قال إضح لمن أحرمت له

وزيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته قالت حججت مع النبي في حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما اخذ بخطاب ناقة النبي والاخر رافع ثوبه يستره من حر الشمس حتى رمى الجمرة قال أبو عبد الله فأكره للمحرم أن يستظل

وكان ابن عيينة يقول لا يستظل البتة وابن عمر إضح لمن أحرمت له وحديث بلال من حديث زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن الحصين عن جدته فإذا كان يستره بعود يرفعه بيده من حر الشمس كان جائزا وابن عمر إنما كرهه على الرحل وكذلك حديث ابن عمر إضح لمن أحرمت له وأهل المدينة يغلظون فيه

وفي رواية الأثرم وذكر له هذا الحديث فقال هذا في الساعة رفع له ثوب بالعود يرفعه بيده من حر الشمس وقال في رواية أبي داود إذا كان بطرف كسائه أرجو أن لا يكون به بأس

وقال في رواية ابن منصور وقد سئل عن القبة للمحرم فقال إلا أن يكون شيئا يسيرا باليد أم ثوبا يلقيه على عود

وقال في رواية حرب وقد سئل هل يتخذ على رأسه الظل فوق المحمل فقال لا إلا الشيء الخفيف وكرهه جدا

وحكى أبو الخطاب وغيره في التظليل اليسير روايتان إحداهما المنع منه لأنه أطلق المنع وأوجب الفدية في رواية جماعة قال جعفر بن محمد لا يستظل المحرم فإن إستظل يفتدي لأنه قد منع المحرم فاستوى قليله وكثيره كالتغطيه واللبس ومن قال هذا حمل حديث أم الحصين على أن الثوب لم يكن فوق رأس النبي وإنما كان عن جانبه وفرق أيضا بين ظل يكون تابعا للمستظل ينتقل بانتقاله ويقف بوقوفه كالقبة والثوب الذي بيده أو على عود معه وبين ما لا يكون تابعا مثل ظل الشجرة والثوب المنصوب حياله وحديث أم الحصين كان من هذا القسم

والثانية الرخصة في اليسير لحديث أم الحصين فإن في بعض ألفاظه والاخر رافع ثوبه على رأس رسول الله يستره من الشمس

وأيضا فإنه لو أحرم وعليه قميصه خلعه ولم يشقه مع أن هذا تظليل لرأسه وتخمير له

قال في رواية ابن القاسم إذا أحرم الرجل وعليه قميص أو جبة يخلعهما خلعا ولا يشقهما وهؤلاء يقولون إن خلعهما فقد غطى رأسه فعليه فدية وعجب من قولهم وقال النبي أمر الأعرابي أن ينزع الجبة حديث يعلي بن أمية ولم يأمره بشقها

وذلك لما روى يعلي بن أمية أن النبي جاءه رجل متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تمضخ بطيب فنظر إليه النبي ساعة فجاءه الوحي ثم سرى عنه فقال أين السائل الذي سألني عن العمرة آنفا فالتمس الرجل فجيء به فقال أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فأنزعها ثم اصنع في العمرة كما تصنع في حجتك متفق عليه وفي رواية أن رجلا أتى النبي وهو بالجعرانة رواه مسلم وفي لفظ لأبي داود فقال له النبي إخلع جبتك فخلعها من رأسه قال عطاء كنا قبل أن نسمع هذا الحديث فيمن أحرم وعليه قميص أو جبة فليخرقها عنه فلما بلغنا هذا الحديث أخذنا به وتركنا ما كنا نفتي به قبل ذلك رواه سعيد

فقد جوز النبي أن يخلعه من رأسه وإن كان فيه تظليل لرأسه لأنه تدعو الحاجة إليه فعلم أن يسير التظليل لا بأس به

فإن قيل فقد روي عن عبد الرحمن بن عطاء عن نفر من بني سلمة قالوا كان رسول الله جالسا فشق ثوبه فقال إني واعدت هديا يشعر اليوم

وعن جابر قال بينما النبي جالس مع أصحابه شق قميصه حتى خرج منه فقيل له فقال واعدتهم هدي اليوم فنسيت رواهما أحمد

قيل إن صح هذا الحديث فلعله كان في الوقت الذي كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل البيت من بابه كانوا يجتنبون قليلها وكثيرها ثم زال ذلك ويدل على ذلك توقف النبي في جواب السائل حتى أتاه الوحي فعلم أنه سن ذلك الوقت ما أزال الحكم الماضي

وأيضا فإنه يجوز التظليل بالسقوف والخيام ونحوها فعلم أنه لم يكره جنس التظليل وإنما كره منه ما يفضى التي الترفه والتنعم وهذا إنما يكون فيما يدوم ويتصل

وقد روي عن إبراهيم قال كان الأسود إذا اشتد المطر استظل بكساء وهو محرم

وعن عطاء أنه كان يقول يستظل المحرم من الشمس ويستكن من الريح ومن المطر فعلى هذا يجوز الساعة ونحوها كما ذكر في رواية الأثرم فإن في حديث أم الحصين أنه ظلل عليه في حال مسيره ورميه وخطبته والذي يدل على أن النبي إنما استباح يسير التظليل أنه في سائر الأيام كان يسير ولم ينصب له على راحلته شيئا يستظل به ولو كان جائزا لفعله لحاجته إليه ثم إن إستظل بثوب يمسكه بيده أو بيد غيره أو وضع الثوب على عود يمسك العود بيده أو بيد غيره جاز

وإن إستظل يسيرا في محمل أو بثوب موضوع على عمود على المحمل ونحو ذلك مما لا مؤنة فيه ففيه روايتان إحداهما يكره ذلك وهذا هو الذي ذكره في رواية الأثرم قال إذا كان يسيرا بعود يرفعه بيده من حر الشمس كان جائزا وابن عمر إنما كرهه على الرحل وذلك لأن ما على الرحل رفاهة محضة وهو مظنة الطول فلو شرع ذلك لشرع اتخاذ الظل

والثانية لا بأس به وهو قول القاضي وهو ظاهر كلامه في رواية ابن منصور إلا أن يكون شيئا يسيرا باليد أو ثوبا يلقيه على عود فأما أن يظلل بالمحمل ونحوه حال نزوله فقال القاضي وابن عقيل لا فرق بين الراكب والنازل وإنه إن طال ذلك وكثر افتدا راكبا كان أو نازلا

وإن قل ذلك ولم يكثر فلا فدية عليه سواء كان راكبا أم نازلا

وفرقوا بين ذلك وبين الخيمة والسقف بأن ذلك لا يقصد به الترفه في البدن في العادة وإنما يقصد به جمع الرحال وفرق بين ما يقصد به الظل وغيره كما فرق بين من يحمل على رأسه شيئا أو يخمره

وكلام أحمد يدل على الفرق قال في رواية حنبل لا يستظل على المحمل ويستظل بالفازة في الأرض والخيمة وهو بمنزلة البيت وهذا أصح لأن ابن عمر وغيره من الصحابة كانوا ينصبون له الظل المحض في حال النزول ولأنه لو دخل إلى بيت أو خيمة لمجرد الإستظلال لجاز

والفرق بينهما أن هذا الظل ليس بتابع للمحرم ولا ينتقل بإنتقاله

وأيضا فإنه غير متخذ للدوام فلا بد معه من الضحا ويسير الظل في المكان مثل أن يجعل فوقه ما يستر يسيرا من رأسه مثل الزمان

فأما إذا إحتاج للإستظلال من حر أو برد فذكر القاضي وابن عقيل أنه يجوز إذا كان هناك عذر من حر أو برد فإنه يجوز وحمل حديث عثمان وابن عباس على ذلك وحديث ابن عمر على عدم العذر ومعنى ذلك عذر يخاف معه من مرض أو أذى فإنه يبيح التظليل من غير فدية لأن ما كره في الاحرام جاز مع الحاجة وما أبيح يسيره جاز كثيره مع الحاجة

قال أصحابنا القاضي وابن عقيل وغيرهما فله أن يستظل بثوب ينصبه حياله يقيه الحر والبرد عن يمينه أو عن شماله أو أمامه أو وراءه ما لم يكن مظلل فوق رأسه كالهودج والعمارية واللبسة وظاهر كلام أحمد أن كل مانع وصول الشمس إلى رأسه فهو تظليل سواء كان فوق رأسه أو كان من بعض جهاته وحديث ابن عمر يدل عليه

وحيث كره له التظليل فهل تجب الفدية على روايتين منصوصتين فإن أوجب الفدية كان محرما وإن لم يوجبها كان مكروها كراهة تنزيه وقد قال القاضي في المجرد وأبو الخطاب وغيرهما لا يجوز تظليل المحمل رواية واحدة وفي الفدية روايتان

ومعنى ذلك أنه ليس من الجائزات التي يستوي طرفاها بل هو ضمن المتبوعات فأما أن يكون حراما لا يوجب الفدية فهذا لا يكون

إحداهما يوجب الفدية

قال في رواية جعفر بن محمد وبكر بن محمد عن أبيه لا يستظل المحرم فإن إستظل يفتدي بصيام أو صدقة أو نسك بما أمر النبي كعب بن عجرة وهذا إختيار القاضي وأصحابه

والثانيه لا فدية فيه وإنما هو مكروه فقد قال في رواية الأثرم أكره ذلك فقيل له فإن فعل يهريق دما فقال لا وأهل المدينة يغلظون فيه وقال في رواية الفضل الدم عندي كثير وقال عبد الله سألت أبي عن المحرم يستظل قال لا يستظل فإن إستظل أرجو أن لا يكون عليه شيء وقال أيضا سألته عن المحرم يظلل قال لا يعجبني أن يظلل قال أبي يستر قدر ما يرمي الجمرة على حديث أم الحصين وقال سألته عن المحرم يستظل أحب إليك أم تأخذ بقول ابن عمر إضح لمن أحرمت له قال لا يستظل لقول ابن عمر إضح لمن أحرمت له فقد بين أن الإستظلال مكروه مطلقا إلا اليسير لحاجة وأنه لا فدية فيه ويشبه أن تكون هذه الرواية هي المتأخرة لأن روايات ابن الحكم قديمة قال أبو بكر وبهذا أقول وهو أصح إن شاء الله لأن ابن عمر الذي روى عنه كراهة ذلك لم يأمر الذي فعله بفدية وقد رفع الظل بيده

ولأنه قد ابيح نوعه في الجملة فجاز ما لا يدوم وجاز منه ما لا يقصد به التظلل ونحو ذلك

ومحظورات الاحرام يجب إجتنابها بكل حال كالطيب واللباس فصار في الواجبات كالدفع من مزدلفة قبل الفجر لما رخص فيه لبعض الناس من غير ضرورة علم أنه جائز في الجملة وأن السنة تركة بخلاف الدفع من عرفة فإنه لا يجوز لأحد حتى تغرب الشمس

مسألة الخامس الطيب في بدنه وثيابه

وجملة ذلك أن المحرم يحرم عليه ابتداء الطيب بإجماع المسلمين وهذا من العلم العام وقد قال النبي في المحرم الذي أوقصته ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وفي رواية لا تحنطوه متفق عليه

وقال فيما يلبس المحرم من الثياب ولا يلبس ثوبا مسه ورس ولا زعفران رواه الجماعة فإذا نهى عن المورس والمزعفر مع أن ريحهما ليس بذاك فما له رائحة ذكية أولى

فأما إن تطيب قبل الاحرام بما له جرم يبقى كالمسك والذريرة والعنبر ونحوه أو مما لا يبقى كالورد والبخور ثم استدامه لم يحرم ذلك عليه ولم يكره له لحديث عائشة أنها قالت كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله بعد أيام وهو محرم متفق عليه وفي رواية كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله لله وهو محرم رواه مسلم وأبو داود والنسائي وقد تقدم أنها كانت تطيب رسول الله قبل الإحرام

وعن عائشة قالت كنا نخرج مع النبي إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سأل على وجهها فيراه النبي فلا ينهانا رواه أبو داود وأحمد

ولفظ عنها أنهن كن يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه سلم عليهن الضماد قد أضمدن قبل أن يحرمن ثم يغتسلت وهو عليهم يعرقن ويغتسلن لا ينهاهن عنه ولأن الطيب بمنزلة النكاح لأنه من دواعيه فإذا كان إنما يمنع من إبتداء النكاح دون استدمته فكذلك الطيب

وأيضا فإن الطيب إنما يراد به الاستدامة كالنكاح فإذا منع من ابتدائه لم يمنع من استدامته وعكسه اللباس فإنه لا يراد للاستدامة ولأن الطيب من جنس النظافة من حيث يقصد به قطع الرائحة الكريهة كما يقصد بالنظافة إزالة ما يجمع الشعر والظفر من الوسخ ثم إستحب قبل الاحرام أن يأخذ من شعره وأظفاره لكونه ممنوعا منه بعد الاحرام وإن بقى أثره فكذلك أستحب له التطيب قبله وإن بقى أثره بعده

فإن قيل فقد روى صفوان بن أمية يعني عن يعلى أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب ليتني أرى نبي الله حين ينزل عليه فلما كان النبي بالجعرانة وعلى النبي ثوب قد أظل به ومعه ناس من أصحابه فيهم عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمح بطيب فنظر إليه النبي ساعة ثم سكت فجاءه الوحي فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية تعال فجاءه يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي محمر الوجه يغط ساعة ثم سري عنه فقال له النبي أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فأنزعها ثم أصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك متفق عليه لفظ مسلم وفي رواية أن رجلا أتى النبي وهو بالجعرانة قد أهل بعمرة وهو معصفر رأسه ولحيته وعليه جبة فقال يا رسول الله إني أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال إنزع عنك الجبة وأغسل عنك الصفرة وفي رواية وهو متضمخ بالخلوق رواهما مسلم

فهذا يبين أن استدامة الطيب كاستدامة اللباس وقد روى عن عمر وابنه نحو ذلك

قيل قد أجاب أصحابنا عن هذا بجوابين أحدهما أنه أمره بغسله لأنه كان زعفرانا وقد نهى أن يتزعفر الرجل سواء كان حراما أو حلالا لأن طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه

الثاني أن هذا كان بالجعرانة وكانت في ذي القعدة سنة ثمان عقب قسم غنائم حنين وقد حج النبي سنة عشر واستدام الطيب وإنما يؤخذ بالاخر فالاخر من أمر رسول الله لأنه يكون ناسخا للأول

فصل

يحرم عليه أن يتطيب في بدنه وثيابه سواء مس الطيب بدنه أو لم يمسه لأن النبي قال في المحرم الموقص لا تقربوه طيبا وفي لفظ لا تحنطوه وجعله في ظاهره تقريب له لا سيما والحنوط هو مشروع بين الأكفان فلما نهى النبي عن تحنيطه علم أن قصد تحنيط بدنه وثيابه ولو كان تحنيط ظاهر الثوب جائزا لم ينه عنه النبي بل أمر به تحصيلا لسنة الحنوط

وأيضا فقد قال لا يلبس المحرم ثوبا مسه ورس أو زعفران ولم يفرق بين أن يمس ظاهره أو باطنه فعلم عموم الحكم وشموله فلا يجوز أن يطيبهما بشيء يعده الناس طيبا سواء كان له لون أو لا لون له مثل المسك والعنبر والكافور والورس والزعفران والند وماء الورد والغالية ونحو ذلك ولا يتبخر بشيء من البخور الذي له رائحة كالعود لأن المقصود من الطيب رائحته لا عينة فإذا عبق بالثوب رائحة البخور فهو طيبه ولأن الورد ودخان العود ونحوه أجزاء تتعلق بالبدن والثوب ولهذا يتجنب وسواء كان الثوب فوقانيا أو تحتانيا

قال أحمد في رواية ابن إبراهيم لا يلبس شيئا فيه طيب

وكذلك أيضا لا يجوز ثوب مطيب قال في رواية ابن القاسم قد سئل عن المحرم يفترش الفراش والثوب المطيب قال هو بمنزلة ما يلبس وذلك لأن النبي نهى أن يلبس المحرم ثوبا مسه ورس أو زعفران والافتراش لبس بدليل قول أنس وعندنا حصير قد أسود من طول ما لبس لأن اللبس هو الاختلاط والمماسة فسواء كان الثوب فوقه أو كان هو فوق الثوب ولأنه قال ولا تقربوه طيبا في المحرم ومعلوم أن جعل الطيب في فراشه تقريب له إليه

وكل ما حرم لبسه حرم الجلوس من الحرير والنجاسة في الصلاة وغير ذلك إلا أن يكون مما يقصد إهانته ولأن جعل الطيب في الفراش أبلغ في إستعمال الطيب من وضعه على البدن

ثم إن كان الطيب في الوجه الأعلى من الفراش فهو طيب لأن مباشرته بثيابه كمباشرته بنفسه

وإن كان في الوجه التحتاني

وإن كان بينه وبين الطيب حائل فقال القاضي في المجرد إن كان صفيقا يمنع المباشرة والرائحة جميعا لم يكره ذلك وإن كان رقيقا يمنع المباشرة دون الرائحة لم يحرم عليه لأنه لا يباشره فأما الثوب الذي عليه فليس بحائل

وقال ابن عقيل إن كان الحائل يمنع وصول ريح الطيب إليه زال المنع وإيجاب الفدية عليه بخلاف ما لو كان في الثوب الفوقاني كما قلنا في النجاسة في الصلاة وهذا أشبه بظاهر المذهب لأن اشتمام الطيب عندنا كاستعماله فإذا كان رائحة الطيب تصل إليه وجبت الفدية

وإن كان الطيب في حواشي الفراش وليس تحته فإن كان يشم الرائحة

ولا فرق بين الثوب المصبوغ بالطيب والمضمخ به والمبخر به فإن النبي قال ولا ثوبا مسه ورس أو زعفران وفي لفظ ولا ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران

ولأن المصبوغ والمبخر يكون لهما ريح كالمضمخ

فإن ذهبت رائحة المصبوغ بالزعفران ونحوه وبقى لون الصبغ فقال أصحابنا إذا انقطعت رائحته ولم يبق إلا لونه فلا بأس به إذا علم أن الرائحة قد ذهبت ولا بالتمضخ بطيب ذهبت رائحته وبقى لونه كماء الورد المنقطع والمسك الذي استحال وسواء كان انقطاع الريح لتقادم عهده أو لكونه قد صبغ بشراب أو سدر أو إذخر ونحو ذلك مما يقطع الرائحة فأما إن إنقطعت الرائحة ليبسه فإذا رش بالماء أو ترطب فاح الطيب فإنه طيب تلزم الفدية به يابسا كان أو رطبا وكذلك الثوب الذي قد انقطعت رائحته

فأما المصبوغ بماء الفواكه التي يشم ريحها فلا بأس به لأنه لا يمنع من شم أصله هذا الذي ذكره القاضي وذكر ابن عقيل أن المصبوغ بماء الفواكه والرياحين كماء الريحان واللفاح والنرجس والبفنسج لا يمنع منه قال ويحتمل عندي أن يفرق بين ورده ومائه كما قلنا في ماء الورد

ولو نزع ثوبه الذي فيه طيب قد لبسه قبل الاحرام ثم أعاده فقد أبتدأ لبس المطيب فأما إن استصحب لبس الثوب المطيب فقال أصحابنا يجوز وظاهر الحديث المنع فإن

فصل

وإذا مس من الطيب ما يعلق لرطوبته كالغالية والمسك المبلول وماء الورد أو لنعومته كسحيق المسك والكافور أو لرطوبة يده ونحو ذلك فهو حرام وعليه الفديه

وإن أمسك ما لا يعلق باليد كاقطاع الكافور والعبنر والمسك غير السحيق والورد ونحو ذلك فقال أصحابنا لا فدية عليه بمجرد ذلك إلا أن يشمه ولو وضع يده عليه يعتقده يابسا لا يعلق بيده فعلق بيده منه شيء فقالوا لا فدية عليه لأنه لم يقصد إلى إستعمال الطيب وينبغي أن يخرج هذا على ما إذا تطيب جاهلا أو ناسيا فأما ما تعلق به من غير إختياره

فصل ولا يجوز أن يأكل ما فيه طيب

فصل

فأما إشتمام الطيب من غير أن يتصل ببدنه ولا بثوبه إما بأن يقرب إليه حتى يجد ريحه أو يتقرب هو إلى موضعه حتى يجد ريحه فلا يجوز في ظاهر المذهب المنصوص وفيه الفدية قال في رواية أحمد بن مضر القاسم في المحرم يشم الطيب عليه الكفارة

وقال أيضا في رواية ابن القاسم في الرجل يحمل معه الطيب وهو محرم كيف يجوز هذا وعطاء يقول إن تعمد شمه فعليه الفدية قيل له يحمله للتجارة فقال لا يصلح إلا أن يكون مما لا ريح له

وقال في رواية حرب أما الطيب فلا يقربه والريحان ليس هو مثل الطيب وهذا لأن المقصود من التطيب وجود رائحة الطيب فإذا تعمد الشم فقد أتى بمقصود المحظور بل اشتمامه للطيب أبلغ في الإستمتاع والترفه من حمل طيب لا يجد ريحه بأن يكون ميتا أو نائما أو أخشم

ولأن الصحابة رضوان الله عليهم إختلفوا في شم المحرم الريحان فمن جعله طيبا منعه ومن لم يجعله طيبا لم يمنعه ولولا أن الشم المجرد يحرم إمتنعت هذه المسألة لأن الرياحين لا يتطيب بها فعلى هذا إن تعمد شم المسك والعنبر ونحوها من غير مس فعليه الكفارة وإن جلس عند العطارين قصدا لشم طيبهم أو دخل الكعبة وقت تخليقها ليشم كيبها لزمته الكفارة وإن ذهب لغير إشتمام فوجد الريح من غير قصد لم يمنع من ذلك كما لو سمع الباطل من غير أن يقصد سماعه أو رأى المحرم من غير أن يقصد الرؤية أو مس حكيم إمرأة من غير أن يقصد مسها وغير ذلك من إدراكات الحواس بدون العمد والقصد فإنه لا يحرم

فإن علم أنه يجد ريح الطيب ولم يقصد الشم فهل له أن يقعد أو يذهب وقال ابن حامد لا فدية في الشم ولا في القعود عند العطارين أو عند الكعبة وهي تطيب لأنه لا يسمى بذلك متطيبا

وقال ابن عقيل الرائحة وليس له أن يستصحب ما يجد ريحه لتجارة ولا غيرها وإن لم يقصد شمه على المنصوص سواء كان في أعداله أو محمله ونحو ذلك بل إن كان معه شيء من ذلك فعليه أن يستره بحيث لا يجد ريحه فإن استصحبه ووجد ريحه من غير قصد فهل عليه كفارة

فأما ما لا يقصد شمه كالعود إذا شمه أو قلبه ونحو ذلك فلا شيء عليه عند أصحابنا وينبغي إذا وجد الرائحة

فصل

وأما النباتات التي لها رائحة طيبة ولا يتطيب بها فقسمها أصحابنا قسمين أحدهما ما يقصد طعمه دون ريحه بحيث يزرعه الناس لغير الريح كالفواكه التي لها رائحة طيبة مثل الأترج والتفاح والسفرجل والخوخ والبطيخ ونحو ذلك فهذا لا بأس بشمه ولا فدية فيه وفيه نظر فإن كلاهما مقصود

وكذلك ما نبت بنفسه مما له رائحة طيبه وهي أنبتة البرية مثل الشيح والقيصوم والأذخر والعبوثران ونحو ذلك فهذا لا بأس بشمه فيما ذكره أصحابنا

والثاني ما يستنبت لذلك وهو الريحان ففيه عن أحمد روايتان

إحداهما أنه لا بأس به قال في رواية جعفر بن محمد المحرم يشم الريحان ليس هو من الطيب ورخص فيه وكذلك نقل ابن منصور عنه في المحرم يشم الريحان وينظر في المرآة وهذا إختيار القاضي وأصحابه

قال ابن أبي موسى وله أن يأكل الاترج والتفاح والموز والبطيخ وما في معنى ذلك ولم يتعرض لشمه قال ولا بأس بنبات الأرض مما لا يتخذ طيبا والثانية المنع منه قال في رواية أبي طالب والأثرام لا يشم المحرم الريحان كرهه ابن عمر ليس هو من الة المحرم وعلى هذه الرواية هو حرام فيه الفدية عند كثير من أصحابنا

قال ابن أبي موسى لا يشم الريحان في إحدى الروايتين لأنه من الطيب وإن فعل افتدى

قال القاضي ويحتمل أن يكون المذهب رواية واحدة لا كفارة عليه ويكون قوله ليس من الة المحرم على طريق الكراهة وقد نص أحمد على أنه مكروه في رواية حرب قال قلت لأحمد فالمحرم يشم الريحان قال يتوقاه أحب إلى قلت فالطيب قال أما الطيب فلا يقربه والريحان ليس مثل الطيب قلت فيشرب دواء قال لا بأس إذا لم يكن فيه طيب

وذلك لأنه ذو رائحة طيبة يتخذ لها فحرم شمه كالمسك وغيره بل أولى لأن المسك ونحوه يتطيب به بجعله في البدن والثوب وأما هذا فإنما منفعته شمه مع انفصاله إذ لا يعلق بالبدن والثوب وفيه من الاستمتاع والترفه ما قد يزيد على شم الزعفران والورس ولأن الورس والزعفران من جملة النباتات وإن تطيب بها وقد جعلها النبي طيبا فألحقت سائر النباتات به

وقد روى الشافعي عن جابر أنه سئل أيشم المحرم الريحان والدهن والطيب فقال لا وروى الأثرم عن عمر أنه كان يكره شم الريحان للمحرم ووجه الأولى أنه لا يتطيب به فعلا فلم يكره شمه كالفاكهة والنبات البري وذلك لأنه لو كان نفس إشتمام الريح مكروها لم يفرق بين ما ينبته الله أو ينبته الآدميون ولا بين ما يقصد به الريح والطعم أو يقصد به الريح فقط فعلى هذا لا فرق بين ما يتخذ منه الطيب كالورد والبنفسج والنيلوفر والياسمين والخيرى وهو المنثور وما لا يتخذ منه الطيب كالريحان الفارسي وهو الأخضر والنمام والبرم والنرجس والمروزنجوس هذه طريقة ابن حامد والقاضي في خلافه وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم لعموم كلام أحمد

وقال القاضي في المجرد وغيره ما يتخذه منه مما يستنبت للطيب كالورد والبنفسخ والياسمين فإنه يتخذ منه الزئبق والخيري وهو المنثور والنيلوفر فهو طيب كالورس والزعفران والكافور والعنبر فإنه يقال هو ثمر شجري فإذا شم الورد أو دهنه أو ما خالطه وكان ظاهرا فيه ففيه الفدية

وأما ما يستنبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب كالريحان الفارسي والنرجس والمرزنجوس ففيه الروايتان المتقدم ذكرهما وذلك لأنه إذا اتخذ منه الطيب فهو ذو رائحة طيبة يتطيب فيكون طيبا كغيره لأن كونه نباتا لا يخرجه عن أن يكون طيبا بدليل الورس والزعفران

ومن قال بالطريقة الأولى قال هذا لا يتطيب بنفسه وإنما يتطيب بما يؤخذ منه بخلاف الزعفران ونحوه ولا يلزم من كون فرعه طيبا أن يكون هو طيبا

فصل

فأما الثياب المصبوغة بغير طيب فلا يكره منها في الاحرام إلا ما يكره في الحل لكن المستحب في الإحرام لبس البياض قال في رواية حنبل لا بأس أن يلبس المحرم الثوب المصبوغ ما لم يمسه ورس ولا زعفران وإن كان غير ذلك فلا بأس ولا بأس أن تلبس المحرمة الحلي والمعصفر وقال في رواية الفضل بن زياد لا بأس أن تلبس المرأة الحلي والمعصفر من الثياب ولا تلبس ما مسه ورس ولا زعفران

وقال في رواية صالح وتلبس المرأة المعصفر ولا تلبس ما فيه الورس والزعفران وقال حرب قلت لأحمد المحرم يلبس الثوب المصبوغ قال إذا كان شهرة فلا يعجبني

وقد أطلق كثير من أصحابنا أن للمحرم أن يلبس المعصفر يريدون به المرأة كما ذكره أحمد خصوه بالذكر لأجل الخلاف ليبنوا أن الاحرام لا يمنع منه وقيده آخرون بالمرأة على المنصوص وهو أجود عبارة

قال ابن أبي موسى وللمرأة أن تلبس الحلي والمعصفر والمخيط من الثياب ولا تلبس القفازين ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا طيب

فأما الرجل فإنه يكره له المعصفر في الإحرام والإحلال كما نص عليه أحمد في غير موضع وقد تقدم هذا

وقد زعم بعض أصحابنا أنه لا يكره للرجال ولا للنساء وحمل حديث علي على الخصوص به وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه في هذا الموضع وطائفة معه وهو خلاف المنصوص وخلاف ما ذكره في غير هذا الموضع وهو غلط على المذهب وذلك لأن في حديث ابن عمر أنه سمع النبي ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب ولتلبس بعد ذلك ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف رواه أبو داود وتكلم على هذه الزيادة

فإن كانت مرفوعة فقد ثبتت بها الحجة وإن كانت موقوفة على ابن عمر فقد فهم من كلام النبي إباحة ما سوى المورس والمزعفر وذلك لأن النبي لما سئل عما يلبس المحرم من الثياب فذكر الأصناف الخمسة وذكر من المصبوغ ما مسه ورس أو زعفران حصر المحرم لأن المباح لا ينحصر فعلم أن ما سوى ذلك مباح

وعن كثير بن جهمان قال كان على ابن عمر ثوبين مصبوغين فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن تنهى الناس عن الثياب المصبغة وتلسبها قال ويحك إنما هو بمدر رواه سعيد

وروى أحمد في مسائل حنبل بإسناد صحيح عن عائشة بنت سعد قالت كن أزواج النبي يحرمن في المعصفرات

وعن القاسم بن محمد أنه رأى عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمه رواه الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم

وعن عطاء قال رأيت على عائشة أم المؤمنين درعا موردا وهي محرمة

وعن القاسم قال كانت عائشة تلبس المعصفر وهي محرمة

وعن عبدة بن أبي لبابة عن عائشة أنها سئلت ما تلبس المحرمة فقالت من خزها وقزها وحريرها وعصفرها رواهن سعيد

وعن عروة أن أسماء ابنة أبي بكر كانت تلبس الثياب المصبغة المشبعات بالعصفر ليس فيها زعفران وهي محرمة

وعن نافع قال كن نساء ابن عمر وبناته يلبسن الحلي والمعصفرات وهن محرمات لا ينكر ذلك عبد الله رواه أبو بكر ولأن المعصفر ليس بطيب لأنه إنما يقصد به لونه لا ريحه لأن رائحته غير مستلذة ولأنه ليس طيبا إذا إنفرد فلا يكون طيبا إذا صبغ به وعكسه الزعفران والورس

ولأنه صبغ من الأصباع لا يقصد ريحه فلم يكره كالكحلي وغيره من الأصباع

وقد احتج من لم يكرهه للرجال ما روى الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردين فقال له عمر خالفت الناس فقال علي لعمر دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا بالسنة فقال له عمر صدقت

وعن أبي جعفر محمد بن علي أبصر عمر بن الخطاب على عبد الله ابن جعفر ثوبين مضرجين يعني موردني وهو محرم فقال ما هذا فقال علي ما أخال أحدا يعلمنا بالسنة

وعن أبي هريرة أن عثمان بن عفان رضي الله عنه خرج حاجا ومعه علي رجاء محمد بن جعفر وقد كان دخل بأهله في تلك الليلة فلحقهم بلل فجاء وعليه معصفرة فلما رآه عثمان انتهره وأقف به وقال أما علمت أن رسول الله نهى عن المعصفر فقال له علي إنه لم ينهه ولا إياك إنما نهاني النجاد

وعن أبي الزبير قال كنت مع ابن عمر فأتاه رجل عليه ثوبان معصفران وهو محرم فقال في هذين علي بأس قال فيهما طيب قال لا قال لا بأس

وعن أبي الزبير عن جابر قال إذا لم يكن في الثوب المعصفر طيب فلا بأس به للمحرم أن يلبسه رواهما النجاد

وهذا يحمل على غير المشبع بحيث يكون رقيق الحمرة فإن المكروه منه المشبع وإلا فقد تقدمت سنة رسول الله في نهي الرجال عن المعصفر وهي تقضي على كل أحد

فإن قيل فقد روى أسلم أن عمر بن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم فقال عمر ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة قال طلحة يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر رضي الله عنه إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ولو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من الثياب المصبغة رواه مالك وغيره وفي رواية لسعيد إنه أبصر على طلحة ثوبين مصبوغين بمشق وهو محرم وفي رواية للنجاد إنكم أئمة ينظر إليكم فعليكم بهذا البياض ويراكم الرجل فيقول رأيت على رجل من أصحاب النبي ثوبين مصبوغين فقد حمله بعض أصحابنا على أنه خاف اقتداء الجاهل به في لبس المصبوغات مطلقا من غير فرق بين المطيب وغيره فعلى هذا يكره

وقد أطلق أحمد لبس المصبوغ في رواية وكرهه في رواية إذا كان شهره وهذا يحتمل أن يشتهر فيقتدي به الجاهل أو تمتد إليه الأبصار خصوصا في الاحرام فإن عامه الناس عليهم البياض فعلى هذا يكره ما كان زينة إذا ظهر

وعلى ذلك يحمل ما روى الأسود عن عائشة قالت تلبس المحرمة ما شأت إلا البرقع والمتورد بالعصفر رواه سعيد بإسناد صحيح

وعن إبراهيم عنها أنها قالت يكره الثوب المصبوغ بالزعفران والمشبعة بالعصفر للرجال والنساء إلا أن يكون ثوبا غسيلا رواه النجاد

فهذا محمول على ما إذا ظهرت

فأما الحلي والحرير ونحو ذلك فلا بأس به للمحرمة نص عليه كما تقدم وعنه ما يدل على الكراهة قال في رواية محمد بن حرب الجرجرائي وقد سئل عن الخضاب للمحرم قال ليس بمنزلة طيب ولكنه زينة وقد كره الزينة عطاء للمحرم

فقد أخذ بقول عطاء والمنقول عن عطاء أنه كان يكره للمحرمة الزينة كلها الحلي وغيره رواه سعيد عن ابن جريج عنه وروى عنه أيضا أنه كان يكره للمحرمه الثوب المصبوغ بالمعصفر أو بثوب مسه زعفران أو شيء من الطيب رواه سعيد أيضا

فصل

وأما الزينة في البدن مثل الكحل والخضاب ونحوهما فقال أحمد في رواية العباس بن محمد ويكتحل بالأثمد المحرم ما لم يرد به الزينة قلت الرجال والنساء قال نعم

وقال في رواية اسحق بن منصور ولا تكحل المرأة بالسواد الا بالذرور وقال في رواية محمد بن حرب وقد سئل عن الخضاب للمحرم فقال ليس بمنزلة الطيب ولكنه زينة وقد كره الزينة عطاء للمحرم

وقال في رواية الميموني الحناء مثل الزينة ومن يرخص في الريحان يرخص فيه وقال في رواية حنبل وسئل عن المحرم يخضب رجله بالحناء إذا تشققت فقال الحناء من الزينة ومن يرخص في الريحان يرخص في الحناء

قال أصحابنا تكره الزينة للمحرم وتمنع المحرمة من الزينة ولا فدية في الزينة

ويحتمل كلام أحمد أنه لا يكره الزينة لأنه رخص في الحلي ولم يجزم بالكراهة وإنما نقله عن عطاء لأن الزينة من دواعي النكاح فكرة للمحرم كالطيب ولأن المعتدة لما منعت من النكاح منعت من الطيب والزينة والمحرمة تشبهها في المنع من عقد النكاح فكذلك في توابعه من الزينة والطيب

بخلاف الصائمة والمعتكفة فإنها لا تمنع من عقد النكاح وإنما تمنع من الوطء ولأن زمان الإحرام يطول كزمان العدة فالداعي إلى النكاح في المدة الطويلة وسيلة إليه في وقت النهي بخلاف ما قصر زمانه قد يستغنى بوقت الحل عن وقت الحظر

وقال ابن أبي موسى على المحرم أن يجتنب النساء والطيب والكحل المطيب والدواء الذي فيه طيب رطبا كان أو يابسا ثم قال فيما للمرأة وما تمنع منه وليس لها أن تكتحل بما فيه طيب وما لا طيب فيه ففرق في الكحل الساذج بين الرجل والمرأة لكن المعتدة أشد من حيث تمنع من الخروج من منزلها فكانت أشد من المحرمة ولا فدية في الزينة لأن المتزين لا يستمتع بذلك وإنما يستمتع به غيره منه فأشبه ما لو طيب المحرم الميت فإنه لا فدية عليه بذلك فأما الكحل إذا كان فيه طيب فإنه لا يجوز إلا لضرورة فيكتحل به ويفتدي وإن لم يكن فيه طيب ولم يكن فيه زينة فلا بأس به وإن كان فيه زينة مثل الكحل الأسود ونحوه كره له ذلك إذا قصد به الاكتحال للزينة لا للمنفعة والتداوي ولا فدية فيه عند أصحابنا

وإن قصد به المنفعة وكانت به ضرورة إليه مثل أن يخاف الرمد أو يكون أرمد أو نحو ذلك ولم يقم غيره مقامه جاز قال عبد الله سمعت أبي يقول ويغسل المحرم ثيابه ويدخل الحمام ويتداوى بالأكحال كلها ما لم يكن كحل فيه طيب

وأما إن قام غيره مقامه أو لم يكن ضرورة ولكن فيه منفعة جاز على ما ذكره في رواية العباس بن محمد لأنه قال يكتحل المحرم بالأثمد ما لم يرد به الزينة الرجال والنساء وكذلك على رواية عبد الله جوز له التداوي بكل كحل لا طيب فيه ولم يفصل بين أن يقوم غيره مقامه أو لا يقوم

وأما على رواية ابن منصور لا تكتحل المرأة بالسواد إلا بالذرور فيكره إذا كان فيه زينة وإن لم يقصد به الزينة إذا لم تدع إليه الضرورة وقد خص المرأة بالذكر وذلك لما روى نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله بن معمر إشتكى عينه وهو محرم

فأراد إن يكحلها فنهاه أبان بن عثمان وأمره أن يضمدها بالصبر وحدثه عن عثمان عن النبي أنه كان يفعله وفي رواية فأرسل إليه أن أضمدهما بالصبر فإن عثمان حدث عن رسول الله في الرجل إذا إشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر رواه مسلم

فقد رخص له بالتضميد بالصبر مع الشكاة فعلم أنه لا يكتحل بما فيه زينة أو طيب إذا وجد عنه مندوحة وإن لم يقصد التزين

وعن عطاء قال تكتحل المحرمة بكل كحل إلا كحلا فيه كيب أو سواد فإنه زينه وعن مجاهد قال لا تكتحل المحرمة بالأثمد قيل له ليس فيه طيب قال لا فإنه زينة

وعن ابراهيم قال لا بأس أن تكتحل المحرمة بالكحل الأحمر والذرور

وعن سعيد بن المسيب قال يكتحل المحرم بالصبر رواهن أحمد

ووجه الأول ما روى نافع عن ابن عمر أنه اشتكى فأقطر الصبر في عينيه وهو محرم

وعنه قال يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكن كحل فيه طيب رواهما أحمد

وفي رواية أنه كان إذا رمد وهو محرم أقطر في عينيه الصبر إقطارا وأنه قال يكتحل المحرم بأي كحل إذا رمد ما لم يكتحل بطيب ومن غير رمد رواه الشافعي

فأما الطيب فلا يجوز إلا لضرورة وعليه يحمل ما روى أحمد عن ابن عباس أنه اكتحل بكحل فيه طيب وهو محرم وعليه الفدية وأما الخضاب بغير الحناء مثل الوشم والسواد والنيل ونحو ذلك مما ليس بطيب فهو زينة محضة وإن كان من الطيب مثل الزعفران والورس ونحو ذلك لم يجز

وأما بالحناء فقد نص أحمد على أنه ليس بطيب ولكنه زينة وقال أيضا هو مثل الزينة وعلى هذا أصحابنا قالوا لأنه إنما يقصد لونه دون رائحته فأشبه الوشمة ونحوها وشبهوه بالعصفر وبالفواكه في أن المقصود به غير الرائحة من طعم أو لون

وقول أحمد من يرخص في الريحان يرخص في الحناء دليل على أنه عنده بمنزلة الريحان في كونه نباتا له رائحة طيبة ولا يتخذ للتطيب فعلى هذا إذا منعنا من الريحان منعنا من الحناء

ويتوجه أن لا يكره بحال لأن أحمد قال من رخص في الريحان رخص فيه ولم يقل من منع من الريحان لأنه أولى بالرخصة من الريحان إذ الريحان يقصد شمه والحناء لا يقصد شمه فلا يلزم من كراهة الريحان كراهته كما لم يكره المعصفر فإذا كان زينة كره لغير حاجة كما ذكره في رواية ابن أبي حرب وعلى ذلك أصحابنا

ويحتمل قوله الرخصة مطلقا لأنه قال ومن يرخص في الريحان يرخص فيه والريحان على إحدى الروايتين لا كراهة فيه ولأنه إنما نقل الكراهة عن عطاء فأما لحاجة فلا يكره كما قال في روايه حنبل وعلى ذلك يحمل ما روى عن عكرمة أن عائشة وأزواج النبي كن يختضبن وهن حرم رواه بن المنذر

قال أصحابنا وإذا إختضبت ولفت على يديها لفائف وشدتها افتدت كما لو لبست القفازين وكذلك كل خرقة تلفها على يديها وتشدها لأن شدها يجعلها بمنزلة القفازين في كونه شيئا مصنوعا لليد وكذلك الرجل وإن لفتها من غير شد لم تفتد لأنه بمنزلة ما لو وضعت يدها في كمها وكالعمامة التي يلقها الرجل على بطنه فإن غرزت طرف اللفافة في لفة تحتها

وأما النظر في المرآة فقال أحمد ينظر المحرم في المرآة ولا يصلح شيئا قال أصحابنا ينظر في المرآة ولا يصلح شعثا ولا يزيل غبارا ولفظ بعضهم ينظر إلا للزينة لما روى أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة وعن نافع قال رأيت ابن عمر ينظر في المرآة وهو محرم

وعن كثير بن عباس وتمام بن عباس وكريب مولى ابن عباس أنهم كانوا ينظرون في المراة وهم محرمون

وعن الحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وعكرمة أنه لا بأس بذلك إلا أن عطاء قال لا بأس أن ينظر المحرم في المرآة ليميط بها الأذى فأما الزينة فلا

وروى مالك عن ابن عمر أنه نظر في المرآة من شكوى كان بعينيه وهو محرم

وإنما قلنا لا يزيل شعثا ولا ينفض غبارا لأن المحرم الأشعث الأغبر

فصل

وأما النظافة فاللمحرم أن يغسل رأسه وبدنه وثيابه وأن يبدل ثياب الإحرام ويبيعها وإن كان في ذلك إزالة وسخة وإزالة القمل الذي كان بثيابه وإن أفضى إغتساله إلى قتل القمل الذي برأسه حتى له أن يدخل الحمام ما لم يفض ذلك إلى قطع شعر

قال أحمد في رواية عبد الله ويغسل المحرم ثيابه ويدخل الحمام ويتداوى بالأكحال كلها ما لم يكن كحل فيه طيب

وقال في رواية حنبل المحرم يدخل الحمام وليس عليه كفارة ولا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه

وقال حرب قلت لأحمد يبيع المحرم الثوب الذي أحرم فيه ويشتري غيره قال نعم لا بأس به

وقال عبد الله أيضا سألت أبي عن المحرم يدخل الحمام فقال نعم ولا يمد بيده الشعر مدا شديدا قليل قليل

ولا بأس بالحجامة للمحرم ما لم يقطع شعرا ولا بأس بالكساء إذا أصابه البرد ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قملة ولا يقطع شعرة ولا يدهنه

وقال في رواية محمد بن أبي حرب وسئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب فكرهه وكره الاشنان وذلك لما روى عبد الله بن حنين عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما إختلفا بالابواء فقال عبد الله ابن عباس يغسل المحرم رأسه وقال المسور بن مخرمة لا يغسل المحرم رأسه فأرسلني عبد الله إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب قال فسلمت عليه فقال من هذا فقلت أنا عبد الله بن حنين أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله يغسل رأسه وهو محرم فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لانسان يصب فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ثم قال هكذا رأيته يفعل متفق عليه لفظ مسلم وفي لفظ له فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه جميعا على جميع رأسه فأقبل بهما وأدبر فقال المسور لابن عباس لا أماريك أبدا

وعن يعلى بن عطاء قال قال عمر بن الخطاب أصب الماء على رأسي وأنا محرم فقلت أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال صب فإنه لا يزيده إلا شعثا صب بسم الله

وعن محمد بن علي بن أبي طالب أنه كان يقول للمحرم أغسل رأسك فهو أشعث لك

وعن ابن عمر أنه سئل عن المحرم يغتسل فقال لقد إبتردت يعني إغتسلت منذ أحرمت سبع مرات وفي رواية أخرى لقد إبتردت منذ أحرمت أربع عشرة مرة وعن مجاهد أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يغتسل المحرم أو يغسل ثيابه

وعن ابن عباس قال ربما قال لي عمر بن الخطاب ونحن بالجحفة تعال أباقيك أينا أطول نفسا وفي رواية ربما رامست عمر بن الخطاب بالجحفة ونحن محرمون

وعن عكرمة قال دخل ابن عباس حمام الجحفة وهو محرم وقال ما يصنع الله بأوساخنا

وعن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يشم المحرم الريحان وينظر في المرآة ويدخل الحمام

وعن عطاء بن السائب عن إبراهيم كانوا يستحبون إذا أرادوا أن يحرموا أن يأخذوا من أظفارهم وشواربهم وأن يستحدوا ثم يلبسوا أحسن ثيابهم وكانوا يستحبون أن يدخلوا مكة نهارا وأن يخرجوا منها ليلا فلقيت سعيد بن جبير فذكرت له قول إبراهيم قال قلت له أطرح ثيابي التي فيها تفثي وقملي قال نعم أبعد الله القمل رواهن سعيد في سننه

فإن قيل هذا فيه إزالة الوسخ والغبار وقتل القمل وقطع الشعر وتخمير الرأس في الماء

قيل أما تخمير الرأس فإنه ليس المقصود التغطية وإنما المقصود الاغتسال فصار كما لو حمل على رأسه شيئا

وأما قطع الشعر فإنما يجوز له من ذلك ما لا يقطع شعرا

وأما إزالة الوسخ وقتل القمل فسنتكلم عليه

وهذا يقتضي أنه يكره تعمد إزالة الوسخ وكذلك قتل القمل فعلى هذا يحرك رأسه تحريكا رفيقا كما فعل أبو أيوب ورواه عن النبي سواء كان عليه جنابة أو لم يكن وهو معنى قول أبي عبد الله ولا يمر بيده على الشعر مرا شديدا يعني أن الخفيف مثل أن يكون ببطون أصابعه ونحو ذلك لا بأس به وذلك خشية أن يقتل قمله أو يزيل وسخا أو يقطع شعرا

وقال في رواية المروذي لا يغسل رأسه بالخطمى ولكن يصب على رأسه الماء صبا ولا يدلكه فمنعه من الدلك مطلقا وكذلك

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا إن لم يكن عليه جنابة صب الماء على رأسه صبا ولم يحكة بيده وإن كان عليه جنابة إستحب أن يغسله ببطون أنامله ويديه ويزايل شعره مزايلة رفيقة ويشرب الماء إلى أصول شعره ولا يحركه بأظافيره ويتوقى أن يقتل منه شيئا فإن حركه تحريكا خفيفا أو شديدا فخرج في يديه منه شعر فالاحتياط أن يفديه ولا يجب ذلك عليه حتى يتيقن أنه قطعه وكذلك شعر اللحية فالإحتياط أن يفديه ولا يجب عليه حتى يتيقن أنه قطعه

قالوا فأما بدنه فيدلكه دلكا شديدا إن شاء فقد جوزوا له دلك البدن شديدا وإن كان فيه إزالة الوسخ بخلاف شعر الرأس فإنه يخاف أن يقطع الشعر

وإذا كان الغسل واجبا فإنه لا بد أن يوصل الماء إلى أصول الشعر بخلاف المباح فإنه لا حاجة به إلى ذلك

والصواب أن الغسل المستحب للمحرم مثل دخول مكة والوقوف بعرفة ونحو ذلك يستحب فيه ذلك ما المباح فإن ذلك جائز فيه كما نص عليه وكلام يقتضي كراهته أو أو أن تركه أفضل والصواب المنصوص

وأما دلك البدن بالماء فإن كراهته للاشنان والمحلب في البدن دليل على أنه كره تعمد إزالة الوسخ

وقال في رواية عبد الله يحك رأسه وجسده حكا رفيقا لأن الحك الشديد إن صادف شعرا قطعه وإن صادف قملا قتله وإن صادف بشرة جرحها وإن كان مع الماء أو الغرف أزال الوسخ

وعلى قول القاضي وابن عقيل يحك بدنه حكا شديدا إن شاء لأن الإدماء وإزالة الوسخ ليس بمكروه عندهم وصرح القاضي بأن ما يزيل الوسخ من الماء والاشنان ونحو ذلك لا فدية فيه وجعله أصلا لمسألة السدر والخطمى

وأما غسل الرأس بالخطمى والسدر فالمنصوص عنه في رواية صالح إذا غسل رأسه بالخطمى إفتدى

وقال في رواية المروذي ولا يغسل رأسه بالخطمى ولكن يصب على رأسه الماء صبا ولا يدلكه

وقال في رواية ابن أبي حرب وسئل عن المحرم يغسل بدنه بالمحلب فكرهه وكره الأشنان

وذكر القاضي وغيره رواية أخرى أنه لا فدية عليه بذلك وأخذها من قوله في رواية حنبل لا بأس أن يغسل المحرم رأسه وثوبه

فأطلق الغسل ومن كونه قد قال في رواية أبي داود حديث ابن عباس أن رجلا وقصت به ناقته وهو محرم فيه خمس سنن كفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا وأغسلوه بماء وسدر أي في الغسلات كلها

وكذلك ذكر في غير موضع تغسيل الميت المحرم بماء وسدر مع أن حكم الاحرام باق عليه بعد الموت فعلم أنه ليس ممنوعا منه في الحياة والدليل على ذلك قول النبي في المحرم الذي وقصته دابته إغسلوه بماء وسدر مع أنه قال لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا وأنه يبعث يوم القيامة ملبيا فعلم الفرق بين الطيب والسدر

وعلى هذه الرواية فاغتساله بالسدر والخطمى مكروه لما فيه من قطع الشعر وإزالة الشعث ونص أيضا على أن المحرم لا يغسل كما يغسل الحلال بل يصب عليه الماء صبا فعلم أن الدعك والمعك لا يجوز للمحرم وفرق بين غسل المحرم وغسل الحلال

والرواية الأولى أصرح عنه لأن المحرم هو الأشعث الأغبر والسدر والخطمى يزيل الشعث والغبار ولأنه غالبا يقطع الشعر ويقتل الدود

وأما المحرم الميت فقد روي عن أحمد أنه بمنزلة الحي فقال في رواية حنبل وقيل له يغسل قال يصب عليه الماء قال لا يغسل كما يغسل الحلال

وقال أبو الحارث سألت أبا عبد الله عن المحرم إذا مات يغسل كما يغسل الحلال أو يغسل بالسدر والماء قال يغسل بالماء والسدر حدثنا ابن عباس عن النبي إغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا قلت فإذا غسل يدلك رأسه بالسدر قال ما أدري كذا جاء الخبر يغسل بماء وسدر قيل له فتذهب إلى أن يخمر وجهه ويكشف رأسه قال نعم على ما جاء عن ابن عباس عن النبي وهو أصح من غيره

قال أبو عبد اله وكان عطاء يقول يخمر رأسه ويغسل رأسه بالسدر وقد روى عطاء عن النبي أنه يخمر رأسه وهو محرم مرسل وحديث ابن عباس أصح

وقال ابن جريج أنا أقول يغسل بالسدر ولا يخمر رأسه قلت فما ترى قال أهاب أن أقول يغسل بالسدر وأحب العافية منها قلت فيجزؤه أن يصب على رأسه الماء فقط قال يجزؤه إن شاء الله

قال أبو عبد الله الذي أذهب إليه حديث ابن عباس عن النبي يغسل بماء وسدر ولا يخمر رأسه ولا يمس طيبا

فقد توقف في دلك رأسه بالسدر وقد ذكر أصحابنا رواية أنه لا يغسل رأسه بالسدر كالحي وحملوا حديث ابن عباس على أن المقصود غسل بدنه بالسدر وأن السدر يذر في الماء

والصواب الفرق بينهما

قال الخلال ما رواه أبو الحارث في غسله فيه توقف وجبن غير أنه قد روى ما روى حنبل أنه لا يدلك رأسه ويصب عليه الماء صبا ويكون فيه السدر وبين عنه حنبل أنه يصب الماء ولا يغسل كما يغسل الحلال وعلى هذا إستقر قوله

ووجه الفرق بين الحي والميت أن الميت محتاج إلى الطهارة والنظافة فإن هذا آخر عهده بالدنيا وليس حال ينتظر فيها إزالة تفثه فجاز أن يرخص له في ذلك كما رخص لمن لم يجد الازار والنعلين في لبس السراويل والخفين إذا كان ذلك مما تدعو إليه الحاجة فكذلك موتى المحرمين بهم حاجة عامة إلى إزالة الوسخ والشعث فرخص لهم في ذلك وإنما منع أحمد من قوة الدلك خشية تقطيع الشعر

قال أبو الحارث قلت لأحمد المحرم يغسل الميت قال نعم فإذا فرغ من غسله طيبه غيره لأن المحرم لا يمس طيبا فيجعله رجل حلال

فصل

قال أحمد في رواية عبد الله ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قمله ولا يقطع شعرا ويغتسل إن شاء ويصب على رأسه ولا يرجل شعره ولا يدهنه ولا يتداوى بما يأكل

وكذلك قال في رواية المروذي لا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا ولا يقتل قملة ولا يقطع شعرا ويغتسل إن شاء ويصب على رأسه ولا يرجل شعره ولا يدهن ولا ينظر في المرآة ولا يصلح شيئا

فأما التفلي فهو إستخراج القمل من بين الشعر والثياب فأما إن كان ظاهرا على البدن والثوب فألقاه ويحكه لأن حكه يذهب أذى القمل من غير قتل له

فأما الإدهان فإن كان بدهن فيه طيب مثل دهن البنفسج والورد ونحو ذلك فحكمه حكم الطيب لا يجوز إلا لضرورة وعليه الفدية وإن كان غير مطيب مثل الشيرج والزيت فقال أبو بكر قال أحمد إن دهن رأسه بغير طيب كرهته ولا فدية فإن مكروهات الاحرام عند الحاجة تصير غير مكروه ولا فدية فيها بخلاف محظوراته فإنها إذا أبيحت لا بد فيها من فدية

قال في رواية عبد الله لا يرجل شعره ولا يدهنه وكذلك قال في رواية المروذي لا يرجل شعره ولا يدهنه وكذلك قال الخرقي لا يدهن بما فيه طيب وما لا طيب فيه

وقال ويتداوى بما يأكل وهو يأكل الزيت والشيرج ونحوهما فعلم أنه يجوز أن يتداوى به من غير فدية ولا كراهة

وقال في رواية أبي داود الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه فذكرت له حديث ابن عمر أن النبي أدهن بزيت غير مقتت فسمعته يقول المحرم الأشعث الأغبر

وقال في رواية الأثرم وقد سئل عن المحرم يدهن بالزيت والشيرج قال نعم يدهن به إذا إحتاج إليه ويتداوى المحرم بما يأكل

فرخص فيه بشرط الحاجة فعلم أنه مكروه بدونها وأنه ليس بمحرم إذ لو كان محرما بدون الحاجة لوجبت فيه الفدية مع الحاجة كالطيب فعلى هذا إن إحتاج إلى الأدهان مثل أن يكون برجله شقوق أو بيديه ونحو ذلك جاز بغير كراهة ولا فدية لأنه يجوز أن يأكله ولو كان بمنزلة الطيب لما جاز أكله وإن كانت الحاجة في رأسه مثل أن ينشق رأسه ونحو ذلك جاز أيضا على عموم كلامه ومقتضاه وعموم كلامه في رواية أبي داود يقتضي المنع من دهن رأسه به بكل حال

وإن لم تكن به حاجة فقد نص على منع دهن رأسه في رواية الجماعة في معنى الرأس وأما دهن بشرته فعلى روايتين إحداهما يكره أيضا لأنه قال في رواية المروذي لا يدهن وقال في رواية الأثرم يدهن به إذا إحتاج إليه ولم يفصل وهذا قول

والثانية أن المنع مختص بالرأس لأنه قال في رواية عبد الله لا يرجل شعره ولا يدهنه

وقال في رواية أبي داود الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه وكذلك نقل أبو بكر عنه إن دهن رأسه بغير طيب كرهته ولا فدية وهذا قول وذلك لأن دهن الشعر يزيل شعثه ويرجله ويرفهه بخلاف دهن البشرة فإنه يوجب لصوق الغبار بها

وأما طريقة القاضي وأصحابه فذكروا في الأدهان مطلقا روايتين سواء كان في الرأس أو في البدن إحداهما الجواز في إستعماله من غير فدية وهو إختياره وإختيار أصحابه

والثانية المنع منه وعليه الفدية قالوا وهو إختيار الخرقي قال القاضي وقد يحتمل أن يكون منع منه على طريق الكراهة من غير الفدية

فأما الدهن بالسمن والشحم وزيت البزر ونحو ذلك من الأدهان فهو بمنزلة الزيت والشيرج هذا هو المعروف في المذهب وكلام أحمد يعمه وذكر القاضي في بعض المواضع أن المنع إنما هو من الزيت والشيرج لأجل أنهما أصل الأدهان

فأما دهن البان فذكره أبو الخطاب من الأدهان غير المطيبة والذي يدل على أنه مكروه دون كراهة الطيب ما روى نافع قال كان ابن عمر إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة ثم يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلي ثم يركب فإذا إستوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله فعل رواه البخاري

وعن مسلم البطين قال كان حسين بن علي إذا أراد أن يحرم ادهن بالزيت وكان أصحابه يدهنون بالطيب

وعن إبراهيم بن سعد قال رأى عثمان بن عفان رجلا بذي الحليفة وهو يريد أن يحرم ولم يحرم مدهون الرأس فأمره أن يغسل رأسه بالطين رواهما سعيد

وعن علي أنه كان إذا أراد أن يحرم ادهن من دبة زيت

فادهانهم قبل الاحرام دليل على أنه غير مشروع بعده وقد أخبر ابن عمر رضي الله عنه أن النبي كان إذا أراد أن يحرم ادهن كما أخبرت عائشة أنه كان تطيب لحرمه قبل أن يحرم

وإنما اختلفوا في إستبقائه فلما استبقاه ابن عمر وهو ممن لا يرى إستبقاء الطيب علم أنه ليس مثله وأما للحاجة فروي عن مرة بن خالد الشيباني قال مررنا بأبي ذر الربذة ونحن محرمون في حج أو عمرة وقد تشققت أيدينا فقال إدهنوا أيديكم

وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول يتداوى المحرم بما يأكل

وعن مجاهد قال أصاب واقد بن عبد الله بن سالم في الطريق متوجها إلى مكة فكواه ابن عمر وعن الأسود بن يزيد وعطاء وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس الرخصة في التداوي بالأدهان التي تؤكل في الاحرام

وعن القاسم بن محمد أنه سئل عن إمرأة تشتكي رأسها وهي محرمة فقال يصب على رأسها زيتانيا رواهن سعيد

وعن عبد الله بن عمر أنه صدع بذات الجيش وهو محرم فقالوا ألا ندهنك بالسمن قال لا قالوا أليس تأكله قال ليس أكله كالدهان به رواه سعيد

مسألة السادس قتل صيد البر وهو ما كان وحشيا مباحا فأما صيد البحر والأهلي وما حرم أكله فلا شيء فيه إلا ما كان متولدا من مأكول وغيره

وجملة ذلك أن الحيوانات بالنسبة إلى المحرم قسمان أحدهما ما يباح له ذبح جميعه بلا شبهة ولا كراهة وهو الحيوان الأنسى من الإبل والبقر والغنم والدجاج والبط والحيوان البحري لأن الأصل حل جميع الحيوانات إلا ما حرم الله في كتابه وإنما حرم صيد البر خاصة قال تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم } وفي قوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه } مطلقا ثم أردفه بقوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم } بيان أن صيد البحر حلال لنا محلين كنا أو محرمين لا سيما وقد ذكر ذلك عقيب قوله { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } إلى قوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } إلى اخر الأية ثم قال { أحل لكم صيد البحر وطعامه } فكان هذا مبينا ومفسرا لما أطلقه في قوله { ليبلونكم الله بشيء من الصيد } وفي قوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } وهذا مما أجمع عليه قال ابن أبي موسى والدجاج الأهلي ليس بصيد قولا واحدا وفي الدجاج السندي روايتان إحداهما أنه صيد فإن أصابه محرم فعليه الجزاء

والرواية الأخرى ليس بصيد ولا جزاء فيه

القسم الثاني صيد البر فهذا يحرم عليه في الجملة لقوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد } فإنما أباح لهم بهيمة الأنعام في حال كونهم غير مستحلى الصيد في إحرامهم وقال سبحانه { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا } إلى قوله { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون }

والصيد الذي يضمن بالجزاء ثلاث صفات أحدها أن يكون أصله متوحشا سواء إستأنس أو لم يستأنس وسواء كان مباحا أو مملوكا الثاني أن يكون بريا وهو ما

الثالث أن يكون مباحا أكله فإذا كان مباحا فإنه يضمن بغير خلاف كالظباء والأوعال والنعام ونحو ذلك وكذلك ما تولد من مأكول وغير مأكول كالعيسار وهو ولد الذيبة من الضبعان والسمع وهو ولد الضبع من الذيب وما تولد بين وحشي وأهلي

فأما ما لا يؤكل فقسمان أحدهما يؤذي فالمأمور بقتله وما في معناه

والثاني غير مؤذي فالمباح قتله لا كفارة فيه وأما غير المؤذي فقال أبو بكر كلما قتل من الصيد مما لا يؤكل لحمه فلا جزاء فيه في أحد قولي أحمد وفي الآخر يفدي الثعلب والسنور وما أشبه ذلك وقال ما يفدي المحرم من الدواب والسباع

قال القاضي في المجرد والأمر على ما حكاه أبو بكر وقال ابن عقيل ما لا يؤكل لحمه ولا يؤذي ففيه روايتان إحداهما لا ضمان فيه قال في رواية حنبل إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله فأما السبع فلا أرى فيه كفارة

وفي موضع اخر سألت أبا عبد الله عن أكل الضبع فقال يؤكل لا بأس بأكله قال وكل ما يؤدى إذا أصابه المحرم فإنه يؤكل لحمه وقال في موضع اخر وفيها حكومة إذا أصابها المحرم قيل له نهى النبي عن أكل كل ذي ناب من السباع قال أبو عبد الله هذه خارجة منه وقد حكم النبي فيها وجعلها صيدا وأمر فيه بالجزاء إذا أصابه المحرم فكلما ودى وحكم فيه أكل لحمه

وكذلك قال في غير موضع محتجا على إباحتها بأنها صيد يعنى أن كل ما كان صيدا فهو مباح

وعن أبي الحارث أنه سأله عن لحوم الحمر الوحشية فقال هو صيد وقد جعل جزاؤه بدنه يعنى أنه مباح

وهذا إختيار أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأكثر أصحابنا لكن ذكر ابن أبي موسى في الضفدع حكومة

فعلى طريقته يفرق بين ما نهى عن قتله كالضفدع والنملة والنحلة والهدهد والصرد وما لم ينه عن قتله وهذا إختيار القاضي وأصحابه وصرحوا بأنه لا جزاء في الثعلب إذا قلنا لا يؤكل لحمه

وحمل القاضي نص أحمد في الجزاء على الرواية التي يقول يؤكل لكن لم يختلف نص أحمد وقول قدماء أصحابه أن الثعلب يؤدى بكل حال

والثانية فيه الكفارة قال في رواية ابن القاسم وسندي في الثعلب الجزاء قال أبو بكر الخلال أكثر مذهبه وإن كان يؤدي فإنه عنده سبع لا يؤكل لحمه

وقال أحمد في رواية الميموني الثعلب يؤدي لتعظيم الحرمة ولا يلبسه لأنه سبع

وقال في رواية بكر بن محمد وقد سئل عن محرم قتل ثعلبا قال عليه الجزاء هو صيد ولكنه لا يؤكل

وقال عبد الله سألت أبي قلت ما ترى في أكل الثعلب قال لا يعجبني لأن النبي نهى عن كل ناب من السباع لا أعلم أحدا رخص فيه إلا عطاء فإنه قال لا بأس بجلوده يصلي فيها لأنها تؤدي يعني في المحرم إذا أصابه عليه الجزاء وقال سمعت أبي يقول كان عطاء يقول كل شيء فيه جزاء يرخص فيه فنص على أنه يؤدي مع أنه سبع

وقال ابن منصور في السنور الأهلي وغير الأهلي حكومة

مع أن الأهلي لا يؤكل بغير خلاف والوحش فيه روايتان وقال في رواية أبي الحارث في الثعلب شاة وفي الأرنب شاة وفي اليربوع جفرة وكذلك الوبر فيها الجزاء مع أنه قد اختلفت الرواية عنه في إباحة الوبر واليربوع وحكى عنه الخلاف في الأرانب أيضا وأم حبين فيها الجزاء في وجه وذكر القاضي في بعض كتبه وغيره أن المسألة رواية واحدة أنه لا جزاء إلا في المأكول وحمل نصوصه في الثعلب ونحوه على القول بأكله ونصه في السنور الأهلي على الاستحباب

وهذه الطريقة غلط فإنه قد نص على وجوب الجزاء في الثعلب مع حكمه بأنه سبع محرم وأختار ذلك الخلال وغيره

فعلى هذه الطريقة يضمن ما تعارض فيه دليل الحظر والإباحة وإن قلنا هو حرام قولا واحدا كالصرد والهدهد والخطاف والثعلب واليربوع والجفرة كما يضمن السمع والعسيار كما قلنا في المجوس لما تعارض فيهم سنة أهل الكتاب وسنة المشركين حرم طعامهم ونساؤهم كالمشركين وحرمت دماؤهم بالجزية كأهل الكتاب

فكذلك هذه الدواب التي تشبه السباع ونحوها من المحرمات وتشبه البهائم المباحة يحرم على المحرم قتلها ويديها كالمأكول ولا يؤكل لحمها كالسباع وعلى طريقة أبي بكر وغيره فجميع الدواب المحرمة إذا لم تؤد روايتان كالنسور الأهلي

فوجه الأول أن الله سبحانه قال { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } بعد قوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه }

فلما أباح صيد البحر مطلقا وحرم صيد البر ما دمنا محرمين علم أن الصيد المحرم بالاحرام هو ما أبيح في الاحلال لأنه علق تحريمه بالاحرام وما هو محرم في نفسه لا يعلق تحريمه بالاحرام فعلم أن صيد البر مباح بعد الاحلال كما نصه في قوله { وإذا حللتم فاصطادوا } وكذلك قوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } فإنه يقتضي إبانة إحلاله ونحن حلال

وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار قال سألت جابر بن عبد الله الضبع آكلها قال نعم قلت أصيد هي قال نعم قال سمعت ذاك من نبي الله قال نعم رواه فلولا أن الصيد عندهم هو الذي يؤكل لم يسأل أصيد هي أم لا ولولا أن الصيد نوع من الوحشي لم يخبر النبي عنها أنها صيد ولو كان كونها صيدا باللغة أو بالعرف لما أخبر النبي به فإنه إنما بعث لتعليم الشرع فلما أخبر أنها صيد علم أن كون البهيمة صيدا حكم شرعي وما ذاك إلا أنه هو الذي يحل أكله ووجه الثاني

وقد روي عنه في الضفدع روايتان إحداهما لا شيء فيه قال في رواية ابن منصور لا أعرف في الضفدع حكومة ومن أين يكون فيه حكومة وقد نهى عن قتله وهذا قياس الرواية الأولى عنه

والثانية فيه الجزاء قال في رواية عبد الله هشيم ثنا حجاج عن عطاء قال ما كان يعيش في البر والبحر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه نحو السلحفاة والشرطان والضفادع وظاهرة أنه أخذ بذلك وكذلك ذكره أبو بكر وهذا قول ابن أبي موسى

فعلى هذا كل ما يضمن فإن قتله حرام بلا تردد وهو من الكبائر لأن أصحابنا قالوا يفسق بفعله عمدا

وما لا يضمن قال أحمد في رواية حنبل يقتل المحرم الكلب العقور والذئب والسبع وكلما عدا من السباع ولا كفارة عليه ويقتل القرد والنسر والعقاب إذا وثب ولا كفارة

فإن قتل شيئا من هذه من غير أن يعدو عليه فلا كفارة عليه ولا ينبغي له

وفي لفظ يقتل المحرم الحدأ والغراب الأبقع والزنبور والحية والعقرب والفأرة والذئب والسبع والكلب ويقتل القرد وكلما عدا عليه من السباع ولا كفارة عليه ويقتل النسر والعقاب ولا كفارة عليه شبيه بالحدأ لأن النبي أمر بقتلها محرما وغير محرم وهو يخطف ولا كفارة عليه وإنما جعلت الكفارة والجزاء في الصيد المحلل أكله وهذا سبع فلا كفارة ولا بأس أن يقتل الذر

وقال في رواية أبي الحارث يقتل السبع عدا عليه أو لم يعد

وقال في رواية مهنا يقتل القمل ويقتل المحرم النملة إذا عضته ولا يقتل النحلة فإن اذته قتلها وقد نهى رسول الله عن قتل الذر والصرد والصرد طير

وقال في رواية ابن منصور يقرد المحرم بعيره

وقال في رواية عبد الله والمروذي يقتل المحرم الغراب والحدأة والعقرب والكلب العقور وكل سبع عدا عليك أو عقرك ولا كفارة عليك

وجملة هذا أن ما آذى الناس أو آذى أموالهم فإن قتله مباح سواء كان قد وجد منه الأذى كالسبع الذي قد عدا على المحرم أو لا يؤمن أذاه مثل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور فإن هذه الدواب ونحوها تدخل بين الناس من حيث لا يشعرون ويعم بلواهم بها فأذاهم بها غير مأمون قال أصحابنا قتلها مستحب وهذا إجماع وذلك لما روى ابن عمر قال حدثتني إحدى نسوة النبي عن النبي قال يقتل المحرم الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب

عن عائشة أن رسول الله قال خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور وفي لفظ في الحل والحرم متفق عليه

وفي لفظ لمسلم والغراب الأبقع

وفي رواية للنسائي وابن ماجة خمس يقتلهن المحرم الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور

وفي رواية قالت حفصة قال رسول الله خمس من الدواب لا حرج على من قتلهن الغراب والفأرة والحدأة والعقرب والكلب العقور متفق عليه وفي رواية لمسلم أنه سأله رجل ما يقتل من الدواب وهو محرم فقال حدثتني إحدى نسوة النبي أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية قال وفي الصلاة أيضا

وفي رواية لمسلم قالت حفصة قال رسول الله خمس من الدواب كلها فواسق لا حرج على من قتلهن وذكره

وعن ابن عمر أن النبي قال خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور رواه الجماعة إلا الترمذي

وفي رواية لمسلم وغيره لا جناح على من قتلهن في الحرم والاحرام

وعن ابن عباس عن النبي قال خمس كلهن فاسقة يقتلهن المحرم ولا يقتلن في الحرم الفأرة والعقرب والحية والكلب العقور والغراب رواه أحمد وعن أبي هريرة أن رسول الله قال خمس قتلهن حلال في الحرم الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور

وعن أبي سعيد أن النبي سئل عما يقتل المحرم قال الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وذكره أحمد في رواية الفضل بن زياد

فذكر النبي ما يؤذي الناس في أنفسهم وأموالهم وسماهن فواسق لخروجهن على الناس

ولم يكن قوله خمس على سبيل الحصر لأن في أحد الحديثين ذكر الحية وفي الاخر ذكر العقرب وفي اخر ذكرها وذكر السبع العادي فعلم أنه قصد بيان ما تمس الحاجة إليه كثيرا وهو هذه الدواب وعلل ذلك بفسوقها لأن تعليق الحكم بالاسم المشتق المناسب يقتضي أن ما منه الاشتقاق علة للحكم فحيث ما وجدت دابة فاسقة وهي التي تضر الناس وتؤذيهم جاز قتلها وقوله في حديث أبي سعيد يرمي الغراب ولا يقتله إما أن يكون منسوخا بحديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة لأن الرخصة بعد النهي لئلا يلزم التغيير مرتين أو يكون رمية هو الأولى وقتله جائزا

فأما ما هو مضر في الجملة لكن ليس من شأنه أن يبتديء الناس بالأذى في مساكنهم ومواضعهم وإنما إذا اجتمع بالناس في موضع واحد أو أتاه الناس اذاهم مثل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير مثل الأسد والنمر والذئب والدب والفهد والبازي والصقر والشاهين والباشق فهذا كالقسم الأول والمشهور عند أصحابنا المتأخرين مثل القاضي ومن بعده

وقد نص في رواية أبي الحارث على أنه يقتل السبع عدا عليه أو لم يعد وكذلك ذكر أبو بكر وغيره قالوا لأن الله إنما حرم قتل الصيد والصيد إسم للمباح كما تقدم لأن النبي أباح قتل السبع العادي والعادي صفة للسبع سواء وجد منه العدوان أو لم يوجد كما قال الكلب العقور وكما يقال السيف قاطع والخبز مشبع والماء مرو لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن فرق بين السبع وبين الصيد فإن الصيد إذا عدا عليه فإنه يقتله قالوا ولأن النبي ذكر من كل جنس أدناه ضررا لينبه بإباحة قتله على إباحة ما هو أعلى منه ضررا فنص على الفأرة تنبيها على ما هو أكبر منها من الحشرات وذكر الغراب تنبيها به على ما هو أكبر منه من الجوارح وذكر الكلب العقور وهو أدنى السباع تنبيها به على سائر السباع

قالوا وفحوى الخطاب تنبيهه الذي هو مفهوم الموافقة أقوى من دليلة الذي هو مفهوم المخالفة وربما قالوا الكلب العقور إسم لجميع السباع لأن النبي قال في دعائه على عتبة بن أبي لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله السبع وعنه رواية أخرى أنه إنما يقتل إذا عدا عليه بالفعل فإذا لم يعد فلا ينبغي قتله لأنه قال في رواية حنبل فإن قتل شيئا من هذه من غير أن تعدو عليه فلا كفارة عليه ولا ينبغي له

وقال أيضا يقتل ما عدا عليه من السباع ولا كفارة عليه

فخص قتله بما إذا عدا عليه أو بما إذا عدا في الرواية الأخرى وهذا يقتضي أنه لا يقتله إذا لم يعدو ولو أراد أبو عبد الله أن العدوان صفة لازمة للسبع لم يقل كلما عدا من السباع فإن جميع السباع عادية بمعنى أنها تفترس ولذلك حرم أكلها فعلم أنه أراد عدوانا تنشئه وتفعله فلا تقصد في مواضعها ومساكنها فتقتل إلا أن يقصد ما من شأنه أن يعدوا على بني ادم كالأسد فيقتل الذي من شأنه أن يعدو دون أولادها الصغار ودون ما لا يعدو على الناس وهذا مذهب مالك فينظر وهو قول أبي بكر لأنه قال يقتل السبع مطلقا ول الهم

وقال في رواية عبد الله ويقتل الحية والعقرب والكلب العقور وكل سبع عدا عليك أو عقرك فنص على أن المقتول من السباع هو الذي يعدو على المحرم ويريد عقره وهذه الرواية أصح إن شاء الله وهي إختيار لوجوه

أحدها أن النبي لو أراد بهذا الحديث الإذن في قتل كل ما لا يؤكل لقال يقتل كل ما لا يؤكل ويقتل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير فإنه كان قد أوتي جوامع الكلم ألا تراه لما أراد النهي عنها قال كل ذي ناب من السباع حرام ولم يعدد أنواعا منها

الثاني أنه سئل عما يقتل المحرم من الدواب

الثالث أنه علل الحكم بأنهن فواسق والفاسق هو الذي يخرج على غيره إبتداء بأن يقصده في موضعه أما من لا يخرج حتى يقصد في موضعه فليس بفاسق

الرابع أنه خص الكلب العقور ولو قصد ما لا يؤكل أو ما هو سبع في الجملة لم يخص العقور من غيره فإن الكلب سبع من السباع وأكله حرام

الخامس أنه ذكر من الدواب والطير ما يأتي الناس في مواضعهم ويعم بلواهم به بحيث لا يمكنهم الاحتراز منه في الغالب إلا بقتله مثل الحديا والغراب والحية والعقرب ومعلوم أن هذا وصف مناسب للحكم فلا يجوز إهداره عن الاعتبار وإثبات الحكم بدونه إلا بنص آخر

السادس أنه قال والسبع العادي ولا يجوز أن يكون العدوان صفة لازمة بل يجب أن يكون المراد به السبع الذي يعتدي أو السبع إذا إعتدى ونحو ذلك أو السبع الذي من شأنه أن يعتدي على الناس فيأتيهم في أماكنهم ونحو ذلك كما يقال الرجل الظالم كما قال الكلب العقور فكان ذلك نوعا خاصا من الكلاب فلذلك هذا يجب أن يكون نوعا خاصا من السباع لوجوه

أحدها أنه لو كان المراد به العدوان الذي في طباع السباع وهو كونه يفترس غيره من الحيوان لكانت جميع السباع عادية بهذا الاعتبار فتبقى الصفه ضائعه وهذا وإن كان قد يأتي للتوكيد في بعض المواضع لكن الأصل فيه التقييد لا سيما وهو لم يذكر ذلك في الحية والعقرب مع أن العدوان صفة لازمة لهما فعلم أنه أراد صفة تخص بعض السباع

الثاني أن الأصل في الصفات أن تكون لتمييز الموصوف مما شاركه في الاسم وتقييد الحكم بها وقد تجيء لبيان حال الموصوف وإظهاره وإيضاحه لكن هذا خلاف للأصل وإنما يكون إذا كان في إظهار الصفة فائدة من مدح أو ذم أو تنبيه على شيء خفي أو غير ذلك وهنا قال العادي فيجب أن يكون العادي تقييدا للسبع أو إخراجا للسبع الذي ليس بعادي إذ إرادة عدوان لازم مخالف للأصل ثم ذلك العدوان الطبيعي معلوم بنفس قوله سبع فلا فائدة في ذكره

الثالث أن العدوان الذي هو فعل السبع معلوم قطعا والعدوان الذي هو طبعه يجوز أن يكون مرادا ويجوز أن لا يكون مرادا فلا يثبت بالشك

السابع أن كثيرا من الدواب قد نهى عن قتلها في الاحلال مثل الضفدع والنملة والنحلة والهدهد والصرد فكيف يكون في الاحرام وقد قال في الفواسق يقتلن في الحل والحرم

الثامن أنه قال في الكلاب لولا أنها أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم متفق عليه

وهذا يقتضي أن كونها أمة وصف يمنع من إستيعابها بالقتل لتبقي هذه الأمة تعبد الله وتسبحه نعم خص منها ما يضر بني ادم ويشق عليهم الاحتراز منه لأن رعاية جانبهم أولى من رعاية جانبه ويبقى ما يمكنهم الاحتراز منه على العموم

فعلى هذا قتله حرام أو مكروه وبكل حال لا جزاء فيه نص عليه

وإذا لم يقتل هذا فغيره ممن لا يؤكل لحمه ولا في طبعه الأذى أولى أن لا يقتل

قال ابن أبي موسى للمحرم أن يقتل الحية والعقرب والفأرة والكلب العقور والأسود البهيم والسبع والذئب والحدأة والغراب الأبقع والزنبور والقرد والنسر والعقاب إذا وثب عليه والبق والبعوض والحلم والقردان وكلما عدا عليه واذاه ولا فدية عليه

فأما على الرواية الأولى فقال أبو الخطاب يباح قتل كل ما فيه مضرة كالحية والعقرب وسمى ما تقدم ذكره وقال والبرغوث والبق والبعوض والقراد والوزغ وسائر الحشرات والذباب ويقتل النمل إذا اذاه

وقال القاضي وابن عقيل الحيوانات التي لا تؤكل ثلاثة أقسام قسم يضر ولا ينفع كالأسد والذئب والجرجس والبق والبرغوث والبعوض والعلق والقراد فهذا يستحب قتله

الثاني ما يضر وينفع كالبازي والفهد وسائر الجوارح من الطير والمخلب الذي ليس بمعلم فقتله جائز لا يكره ولا يستحب

الثالث ما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والجعلان وبنات وردان والرخم والذباب والنحل والنمل إذا لم يلسعه يكره قتله ولا يحرم

وأما الذباب فذكره ابن عقيل في القسم وهو ما يضر ولا ينفع وذكره القاضي في القسم الثالث وهو ما لا يضر ولا ينفع وقد تقدم الكلام على القسم الأول وذكرنا الروايتين فيه

وأما القسم الثاني والثالث فالمنصوص عنه المنع من قتله كما تقدم ما لم يضر قد أدخلوا فيه الكلب والمذهب أن قتله حرام

وأما الذباب فقد ذكره أبو الخطاب وابن عقيل من المؤذي وذكره القاضي فيما لا يؤذي وهذا على قولنا لا يجوز أكله فأما إذا قلنا يجوز أكله فينبغي أن يضمن وأما الذر فقد روى عنه لا بأس أن يقتله وقال في الرواية الأخرى قد نهى رسول الله عن قتل الذر

وقال ابن أبي موسى ويكره له أن يقتل القملة ولا يقتل النملة في حل ولا حرم ولا يقتل الضفدع وهذه المنهيات عن قتلها مثل الصرد والنحلة والنملة

مرد هل هو منع تنزيه أو تحريم قال ابن أبي موسى ولا يقتل النمل في حل ولا حرم ولا الضفدع وظاهر كلام أحمد التحريم قال في رواية مهنا وقد سأله عن قتل النحلة والنملة فقال إذا اذته قتلها فقيل له أليس قد نهى النبي عن قتل النحلة قال نعم قد نهى عن قتل النحل والصرد وهو طير

وقال في رواية عبد الله وأبي الحارث في الضفادع لا تؤكل ولا تقتل نهى النبي عن قتل الضفدع

وقال في رواية ابن القاسم وقال له يا أبا عبد الله الضفدع لا لايؤكل فغضب وقال النبي نهى عن أن يجعل في الدواء من يأكله فهذا يقتضي أن قتلها وأكلها سواء وأنه محرم فأما إذا عضته النحلة أو النملة أو تعلق القراد ببعيره ونحو ذلك فإنه يقتله وإن أمكن دفع أدناه بدون ذلك بحيث له أن يقتل النملة بعد أن تقرصه

فصل

وما حرم قتله فإنه يحرم قصد قتله بمباشرة أو تسبب ويحرم عليه تملكه بإصطياد أو إبتياع أو اتهاب وسائر أنواع التملكات مثل كونه عوضا في صداق أو خلع أو صلح عن قصاص أو غير ذلك لأن الله قال { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } فإن قبضه بعقد البيع فتلف في يده ضمنه بالجزاء وضمن القيمة لمالكه بخلاف ما قبضة بعقد الهبة ومتى رده على البائع والواهب زال الضمان

فأما ملكة بالارث ففيه وجهان

وإذا اصطاده ولم يرسله حتى حل فعليه إرساله لأنه لم يملكه بذلك الاصطياد فإن لم يفعل حتى تلف في يده فعليه ضمانه وإن ذبحه بعد التحلل فهو ميتة نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي وهو قول ابن أبي موسى والقاضي وقال أبو الخطاب وابن عقيل يباح أكله وعليه ضمانه لأنه ذبيحة حلال أكثر ما فيه أنه كالغاصب فيجب عليه قيمته

والأول أجود لأنه ممنوع لحق الله

وإذا أحرم وفي ملكه صيد ليست يده الحسية عليه بأن يكون في مصرة غائبا عنه فملكه باق عليه ولا يلزمه إرساله وإن كانت يده المشاهدة الحسية عليه بأن يكون مربوطا معه حال الاحرام أو هو في قفصه أو في يده فإنه يجب عليه إزالة يده عنه في ظاهر المذهب

قال في رواية ابن القاسم وسندي في رجل أحرم وفي يده صيد يرسله فإن كان في منزله ليس عليه وقد كان عبد الله بن الحارث يحرم وفي بيته النعام فإن لم يفعل فأزال يده إنسان فلا شيء عليه لأنه قد فعل ما يجب عليه فأشبه ما لو أزال يده عن المكاتب

وأما ملكه فلا يزول عنه فيما ذكره أصحابنا

فإن لم يرسله حتى حل لم يجب عليه إرساله بخلاف ما اصطاده في الإحرام ذكره أصحابنا لأن ما حرم إستدامته من المحظورات لا يجب إزالته إذا إستدامه في الحلال كاللباس والطيب

وقال ابن أبي موسى لو إصطاد محرم صيدا فأمسكه حتى حل من إحرامه لزمه إرساله واجبا فإن تلف في يده أو ذبحه بعد الاحلال فعليه جزاؤه ولا يحل له أكله وكذلك لو أحرم وفي يد المملوك صيده لزمه إرساله

وظاهره الفرق فإن أراد يبيع الصيد أو يهبه فقال القاضي في خلافه لا يصح ذلك لأن في ذلك تصرف فيه لأنه عاجز شرعا عن نقل الملك فيه

فعلى هذا هل له أن يعيره

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا يجوز أن يبيعه ويهبه لأنه إخراج له عن ملكه فأشبه إزالة يده عنه ولأن إزالة الملك أقوى من إزالة اليد ولهذا نقول في العبد الكافر إذا أسلم عند سيده الكافر فإنه ممنوع من إقرار يده عليه وله أن يبيعه لمسلم ويهبه له هذا إذا لم تكن يده المشاهدة عليه فأما إن كانت اليد الحسية عليه لم يصح بيعه ولا هبته لأنه مأمور في الحال برفع يده عنه وذكر ابن عقيل في موضع اخر أن له أن يعتبره من حلال لأنه إخراج له عن يده وهذا يلائم حاله فعلى هذا

وإذا باعه ثم أراد فسخ البيع لإفلاس المشتري أو لعيب في الثمن أو لخيار شرط ونحو ذلك لم يكن له ذلك فيما ذكره أصحابنا لأنه إبتداء بملك إلا أن نقول إن الملك لا ينتقل إلى المشتري فيكون مثل الرجعة للزوجة فيما ذكره بعض أصحابنا وغيره أطلق المنع

فأما إن كان المشتري حلالا وأراد رده على البائع المحرم بعيب أو خيار ونحو ذلك فله ذلك قاله ابن عقيل

فإذا صار في يد البائع لزمه إطلاقه لأجل إحرامه ويتخرج إذا قلنا لا يورث

وإن كان المشتري محرما فأراد رده على بائع محرم أو حلال بعيب أو خيار ونحو ذلك فهو كإبتداء بيعه على ما تقدم فيما ذكره ابن عقيل فإن كانت يد المشاهدة عليه لم يجز وإلا جاز على ما ذكره القاضي وابن عقيل وعلى قول القاضي في خلافه لا يجوز مطلقا وعلى قول

ومن هذا الباب لو أراد الواهب أن يسترجعه لم يكن له ذلك وإذا طلق امرأته وهو محرم والصداق صيد لم يمنع من طلاقها لكن هل يدخل نصف الصداق في ملكه

فصل

وإذا ذبح المحرم صيدا فهو حرام كما لو ذبحه كافر غير الكتابي وهو بمنزلة الميتة وتسمية الفقهاء المتأخرون ميتة بمعنى أن حكمه حكم الميتة إذ حقيقة الميتة ما مات حتف أنفه قال في رواية حنبل إذا ذبح المحرم لم يأكله حلال ولا حرام هو بمنزلة الميتة

وفي لفظ لحنبل وإبراهيم في محرم ذبح صيدا هو ميتة لأن الله تعالى قال { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } فسماه قتلا فكلما إصطاده المحرم أو ذبحه فإنما هو قتل قتله

وفي لفظ لا إذا ذبح المحرم الصيد لم يأكله أحد لأن الله سماه قتلا فلا يعجبنا لأحد أن يأكله

وذلك لم إحتج به أحمد من قول الله سبحانه { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فسمى الله سبحانه رمى الصيد بالسهم ونحو ذلك قتلا ولم يسميه تذكية

وذلك يقتضي كونه حراما من وجوه

أحدها أن كل حيوان نهى الشرع عن قتله فإنه حرام كما نهى عن قتل الضفدع وعن الهدهد والصرد وعن قتل الآدمى لأن النهي عن قتله يقتضي شرفه وكرامته وذلك يوجب حرمته

الثاني أنه سمى جرحه قتلا والقتل إذا أطلق في لسان الشرع فإنه يقتضي الفعل المزهق للروح الذي لا يكون ذكاة شرعية كما قال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } إلى غير ذلك من ذكر قتل الآدمى وقال النبي ينزل ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير وقال خمس من الدواب يقتلن في الحل ولا جناح على من قتلهم وقال إقتلوا الأبتر وذو الطفيتين وأمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب ونهى عن قتل الحيوان لغير مأكله وقال من قتل عصفورا بغير حقه فإنه يعج إلى الله يوم القيامة يقول ربى سل هذا فيم قتلني وسئل عن ضفدع تجعل في دواء فنهى عن قتلها وقال إن نقيقها تسبيح ونهى عن قتل أربع من الدواب وقال في الفعل المبيح إلا ما ذكيتم وقال دباغ الأديم ذكاته وقيل له أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة فلما سمى الله سبحانه رمى الصيد بالسهم وإزهاق روحه قتلا ولم يسمه ذكاة ولا عقرا علم أنه ليس مذكا تذكية شرعية

وأيضا فإن هذا عقر قد حرمه الشرع لمعنى في القاتل فلم يفد الإباحة ولا الطهارة كذبح المجوسي والمرتد وعكسه ذبح المسروق والمغصوب إن سلم فإن ذلك المعنى في المالك وهو أن نفسه لم تطب به ولهذا لا يختلف حال الغاصب قبل الإذن وبعده إلا فينما يتعلق بالمغصوب خاصة بخلاف المحرم فإن إحرامه صفة في نفسه تكون مع وجود الصيد وعدمه كدين المشرك والمرتد

وأيضا فإنه عقر محرم لحق الله فلم يفد الإباحة كالعقر في غير الحلق واللبة وبكلب غير معلم وبدون التسمية وبدون قصد الذكاة وعقر المشرك وذلك لأن الحيوان قبل الذكاة حرام فلا يباح إلا بأن يذكى على الوجه المأذون فيه كما أن الفرج قبل العقد محرم فلا يباح إلا بعقد شرعي فإذا نهى الشارع عن عقره لم يكن عقره مشروعا فيبقى على أصل التحريم كما لو نكح المرأة نكاحا لم يبحه الشارع ولأنه قتل لا يبيحه المقتول لقاتله بحال فلا يباح لغيره كسائر ما نهى عنه الشرع من القتل ولأنه قتل محرم لحرمة الحيوان وكرامته فلا يفيد الحل كذبح الانسان والضفدع والهدهد ولأن جرح الصيد الممتنع يفيد الملك والإباحة واقتضاؤه الملك أقوى من إقتضائه الإباحة لأنه يحصل بمجرد إثباته وبدون قصد الذكاة ويثبت للمشرك فإذا كان جرح الصيد في حال الصيد لا يفيد الملك فأن لا يفيد الإباحة أولى وأحرى

وصيد الحرم إذا ذبح فيه بمنزلة الميتة كالصيد الذي يذبحه المحرم قال في رواية ابن منصور وقد سئل هل يؤكل الصيد في الحرم قال إذا ذبح في الحل ونقل عنه أيضا إذا رماه في الحل فتحامل فدخل الحرم يكره أكله

وقال في رواية حنبل وإن دخل الحرم فلا يصطاد ولا أرى أن يذبح إلا أن يدخل مذبوحا من خارج الحرم فيأكله ولا أرى أن يذبح شيئا من صيد الحل ولا الحرم وكذلك صيد المدينة الذي يصطاد فيه قال في رواية حنبل صيد المدينة حرام أكله حرام صيده وخرجها القاضي على وجهين أحدهما كذلك والثاني الفرق لأن حرمة حرم المدينة لا يوجب زوال الملك في الصيد المنقول إليها من خارج بخلاف حرمة حرم مكة

وإن أخرجه من الحرم ثم ذبحه لم يحل أيضا كما لو أمسكه حتى تحلل ثم ذبحه وإذا إشترك حلال وحرام في قتل صيد فهو حرام أيضا كما لو إشترك مسلم ومجوسي في الذكاة

وإن أعان المحرم حلالا بدلالة أو إعارة آلة ونحو ذلك فقال القاضي وأصحابه هو ذكي مباح للحلال ولغير المحرم الدال لأن في حديث أبي قتادة فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا أكلنا لحما ونحن محرمون فحملوا ما بقى من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله قالوا يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقالوا أنأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقى فقال هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها رواه البخاري وفي لفظ مسلم هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء قال قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها

وهذا يقتضي أنه لو أشار بعضهم حرم على جميعهم

وقال أبو بكر إذا أبان المحرم فأصطاده حلال فعلى المحرم الجزاء ولا يأكل الحلال والمحرم من الصيد لأنه في حكم الميتة

ولأنه إذا أعان المحرم على قتله كان مضمونا عليه وضمانه يقتضي أنه قتل بغير حق فيكون ميتة فإن الذكي لا يضمن كما لو ذبحه الحلال لحرم وإن كسر بيضة أو قطع شجرة لم يجز له الانتفاع بها وأما لغيره فإذا أضطر إلى الصيد جاز له عقره ويأكله وعليه الجزاء لأن الضرورة تبيح أكل جميع المحظورات سواء كان المنع لحق الله أو لحق ادمي والصيد لا يخرج عن هذين

وإذا قتله فهل يكون ذكيا بحيث يباح أكله للمحلين أو ميتة قال ليست هذه ذكاة بل هو ميتة في جميع الأحوال لأن أحمد قال إنما سماه الله قتلا

وإذا وجد المضطر ميتة وصيدا فإنه يأكل الميتة ويدع الصيد نص عليه في رواية الجماعة لأن الله إستثنى حل الميتة في كتابه للمضطر بقوله { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ولم يستثن حل الصيد لأحد وإنما أبيح استدلالا وقياسا وما ثبت حكمه بالنص مقدم على ما ثبت بالاجتهاد لا سيما وهو في هذا الحال قد لا يكون مضطرا إلى الصيد وأيضا فإن الصيد يحرم أخذه وقتله وأكله والميتة إنما يحرم أكلها خاصة وما حرم فيه ثلاثة أفعال أعظم مما يحرم فيه فعل واحد

وأيضا فإن الصيد قد صار بالاحرام حيوانا محترما يشبه الآدمي وماله والميتة لا حرمة لها في نفسها فيكون إستحلال ما لا حرمة له أولى من إستحلال ما هو محترم كما تقدم الميتة على أخذ أموال الناس

وأيضا فإن الصيد قد صار بالاحرام حيوانا محترما يشبه الآدمي وماله والميتة لا حرمة لها في نفسها فيكون إستحلال ما لا حرمة له أولى من إستحلال ما هو محترم كما تقدم الميتة على أخذ اموال الناس وأيضا فإن الصيد يوجب بقاء الجزاء في ذمته والميتة بخلاف ذلك

فإن قيل الصيد أيسر لأن من الناس من يقول هو ذكى وأن أكله حلال قيل هذا غلط لأن أحدا من المسلمين لم يقل إنه حلال للقاتل ولا ذكي بالنسبة إليه وكونه حلالا لغيره لا يؤثر فيه كطعام الغير مع الميتة فإن الميتة تقدم عليه

فإن وجد ميتة وصيدا قد ذبحه محرم فقال القاضي يأكل ذبيحة المحرم هنا ويترك الميتة لأنه لا يحتاج أن يفعل في الصيد غير الأكل وأكله أخف حكما من أكل الميتة لأن من الناس من يقول هو ميتة وذكي

فأما إن ذبح هو الصيد فهنا ينبغي أن يقدم الميتة

وإن وجد صيدا وطعاما مملوكا لا يعرف مالكه فقال يقدم أكل طعام الغير وقيل

فصل فأما ما صاده الحلال بغير معونة من المحرم وذكاة فإنه مباح للمحرم إذا لم يصده لأجله ولا عقره لأجله ومتى فعل ذلك لأجله فهو حلال للحلال حرام على المحرم سواء علم الحرام بذلك أو لم يعلم

وهل يحرم على غيره نص على هذا في رواية الجماعة فقال إذا صيد الصيد من أجله لم يأكله المحرم ولا بأس أن يأكل من الصيد إذا لم يصد من أجله إذا إصطاده الحلال وذلك لما روى عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله بن عبد المطلب بن حنطب عن جابر بن عبد الله أن النبي قال صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم رواه الخمسة إلا ابن ماجة وقال الشافعي هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس

وقال أحمد في رواية عبد الله قد روي عن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال لحم الصيد لكم حلال إلا ما صدتم أو صيد لكم وكرهه عثمان بن عفان لما صيد له

وحديث أبي قتادة أن النبي أمرهم أن يأكلوا وهم حرم وكان أبو قتادة صاده وهو حلال فإذا صاده الحلال فلا بأس أن يأكله المحرم إذا لم يصد من أجله ولا يأكله إذا صيد من أجله

وعلي وعائشة وابن عمر كانوا يكرهون أن يأكل المحرم لحم الصيد وكانوا ذهبوا إلى ظاهر الآية { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وهذا يدل على صحة الحديث عنده

فإن قيل فقد قال الترمذي المطلب لا نعرف له سماعا من جابر قيل قد رواه أحمد عن رجل ثقة من بني سلمة عن جابر قال سمعت رسول الله يقول لحم الصيد حلال للمحرم ما لم يصده أو يصد له وهذا الحديث مفسر لما جاء عن النبي من كراهة صيد الحلال للمحرم ومن إباحته له

أما الأول فروى ابن عباس عن الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى رسول الله حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم متفق عليه وفي رواية لحم حمار وفي رواية من لحم حمار وحش وفي رواية شق حمار وحش فرده وفي رواية عجز وحش يقطر دما رواهن مسلم وغيره

فهذا لم يكن النبي أعان عليه بوجه من الوجوه ولا أمر به ولا علم أنه يصاد له وإنما يشبه والله أعلم أن يكون قد رأى لما أهداه أنه صاده لأجله لأن الناس كانوا قد تسامعوا بقدوم رسول الله وكل يحب أن يقترب إليه ويهدي إليه فلعل الصعب إنما صاده لأجل النبي

وإذا كان هذا يكون تركه واجبا أو يكون خشى أن يكون صيد لأجله فيكون قد تركه تنزها وكذلك قال الشافعي رضي الله عنه كما كان يدع التمرة خشية أن تكون من تمر الصدقة

وعن طاوس قال قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله وهو حرام قال أهدي له عضو من لحم صيد فرده وقال إنا لا نأكله إنا حرم رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة

وعن الحسن بن محمد عن عائشة قالت أهدي لرسول الله وشيقة ظبي وهو محرم ولم يأكله رواه عبد الرزاق وأحمد في مسائل عبد الله وقال قال ابن عيينة الوشيقة ما طبخ وقدد

وعن اسحق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه وكان الحارث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاما فيه من الحجل واليعاقيب ولحم الوحش وبعث إلى علي فجاءه الرسول وهو يخبط لا باعر له فجاءه وهو ينفض الخبط عن يده فقالوا له كل فقال اطعموه قوما حلالا فإنا حرم فقال علي أنشد من كان هاهنا من أشجع أيعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله قالوا نعم رواه أبو داود ورواه أحمد من حديث علي بن زيد بن عبد الله بن الحارث قال كان أبي الحارث على أمر من أمر مكة في زمن عثمان فأقبل عثمان إلى مكة فقال عبد الله بن الحارث فاستقبلت عثمان بالنزول بقديد فاصطاد أهل الماء حجلا فطبخناه بماء وملح فجعلناه عرقا للثريد فقدمناه إلى عثمان وأصحابه فأمسكوا فقال عثمان صيد لم يصطده ولم يأمر بصيده إصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس فقال عثمان من يقول في هذا فقالوا علي فبعث إلى علي فجاء قال عبد الله بن الحارث فكأني أنظر إلى علي حين جاء يحت الخبط عن كفيه فقال له عثمان صيد لم يصده ولم يأمر بصيده إصطاده قوم حل فأطعموناه فما بأس فغضب علي وقال أنشد الله رجلا شهد رسول الله حين أتى بقائمة حمار وحش فقال رسول الله إنا قوم حرم فأطعموه أهل قال فشهد اثنا عشر رجلا من أصحاب رسول الله ثم قال علي أنشد الله رجلا شهد رسول الله حين أتى ببيض النعام فقال رسول الله إنا قوم حرم أطعموه أهل الحل قال فشهد دونهم من العدة من الاثنى عشر قال فثنى عثمان وركه عن الطعام فدخل رحله وأكل ذلك الطعام أهل الماء

فهذا الصيد قد كان صنع لعثمان وأصحابه وكان عثمان يرى أن ما لم يعن على صيده بأمر أو فعل فلا بأس به فلما أخبره علي رضي الله عنه عن النبي أنه لم يقبل ما أهدى إليه رجع عن ذلك وكان لا يأكل مما صنع له فروى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عثمان عليه السلام بالعرج وهو محرم في يوم صائف وقد غطى رأسه بقطيفة أرجوان ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا قالوا ولا تأكل أنت قال أني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلى رواه مالك وغيره وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال خرج أبي مع عثمان إلى مكة فنزلوا ببعض الطريق وهم محرمون فقرب إلى عثمان ظبي قد صيد فقال لهم كلوا فإني غير آكله فقال له عمرو أتأمرنا بما لست بآكله فقال عثمان لولا أني أظن أنما صيد لي وأميت من أجلي لأكلت فأكلوا ولم يأكل عثمان منه شيئا رواه سعيد والدارقطني ولفظه إني لست في ذاك مثلكم إنما صيد لي وأميت باسمي

وما نقل عن عثمان من الرخصة مطلقا فقد رجع عنه بدليل ما روى سعيد عن بشر بن سعيد أن عثمان رضي الله عنه كان يصاد له الوحش على المنازل ثم يذبح فيأكله وهو محرم سنتين من خلافته أو ثلاث ثم إن الزبير كلمه فقال ما أدري ما هذا يصاد لنا أو من أجلنا أن لو تركناه فتركه وهذا متأخر عما روى عبد الله بن الحارث عن أبيه قال حججت مع عثمان رضي الله عنه وأتى بلحم صيد صاده حلال فأكل منه وعلي جالس فلم يأكل فقال عثمان والله ما صدنا ولا أشرنا ولا أمرنا فقال علي { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما }

ثم إتفق رأي عثمان والزبير على أن معنى سنة رسول الله أن ما صيد للمحرم لا يأكله وكان ذلك بعد أن حدثه علي والأشجعيون بالحديث فعلم أنهم فهموا ذاك من الحديث ويدل على ذلك أن ابن عباس هو الذي روى حديث الصعب وحديث زيد وروى عبد الله في مسند أبيه عن علي قال أتي النبي بلحم صيد وهو محرم فلم يأكله

وعن طاوس عن عباس قال لا يحل لحم الصيد وأنت محرم وتلا هذه الآية { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } رواه سعيد وغيره

ومع هذا فقد روى سعيد وأحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال ما صيد قبل أن تحرم فكل وما صيد بعدما تحرم فلا تأكل فيشبه والله أعلم أن يكون ما صيد بعد إحرامه يخاف أن يكون صيد لأجله بخلاف ما صيد قبل الاحرام فتتفق الاثار المروية في ذلك عن الصحابة على تفسير الحديث وقد روى أحمد عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان أتى بقطا مذبوح وهو محرم فأمر أصحابه أن يأكلوا ولم يأكل وقال إنما صيد لي وكان علي يكره ذلك على كل حال

وعن عبد الرحمن بن حاطب أن عثمان كره اكل يعاقيب أصيدت له وقال إنما أصيدت وأميتت لي

وأما أحاديث الرخصة فما روى عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي وهو ابن أخي طلحة قال كنا مع طلحة ونحن حرم فأهدى لنا طير وطلحة راقد فمنا من اكل ومنا من تورع فلم يأكل فلما أفاق طلحة وفق من أكله وقال أكلناه مع رسول الله رواه أحمد ومسلم والنسائي وعن عمير بن سلمة الضمري عن رجل من بهز أنه خرج مع رسول الله يريد مكة حتى إذا كانوا في بعض وادي الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبي فقال أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهزي وكان صاحبه فقال يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار فأمر رسول الله أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون قال ثم مررنا حتى إذا كنا بالإثاية إذا نحن بظبي حاقف في ظل فيه سهم فأمر رسول الله رجلا أن يقف عنده حتى يجيز الناس عنه رواه مالك وأحمد والنسائي

وعن أبي قتادة قال كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب النبي في منزل في طريق مكة ورسول الله أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنونني وأحبوا لو أني أبصرته والتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح فقالوا والله لا نعينك عليه فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد معي فأدركنا رسول الله فسألناه عن ذلك فقال هل معكم منه شيء فقلت نعم فناولته العضد فأكلها وهو محرم وفي رواية هو حلال فكلوه متفق عليه وللبخاري قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها ولمسلم هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء قالوا لا قال فكلوا

وقد روى عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال خرجت مع رسول الله زمن الحديبية وأحرم أصحابي ولم أحرم فرأيت حمارا فحملت عليه فإصطدته فذكرت شأنه لرسول الله وذكرت أني لم أكن أحرمت وأني إنما صدته لك فأمر النبي أصحابه فأكلوا ولم يأكل منه حين أخبرته أني إصطدته له رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وقال أبو بكر النيسابوري قوله إني أصطدته لك وقوله لم يأكل منه لا أعلم أحدا ذكره في هذا الحديث غير معمر وهو موافق لما روي عن عثمان أنه صيد له طائر وهو محرم فلم يأكل وهذا إسناد جيد الا أن الروايات المشهورة فيها أنه أكل منه فينظر وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه أقبل من البحرين حتى إذا كان بالربذة وجد ركبا من العراق محرمين فسألوه عن صيد وجدوه عند أهل الربذة فأمرهم بأكله قال ثم إني شككت فيما أمرتهم فلما قدمت المدينة ذكرت ذلك لعمر بن الخطاب فقال ماذا أمرتهم به قال بأكله فقال عمر لو أمرتهم بغير ذلك لفعلت بك يتواعده

وعن ابن عمر قال قدم أبو هريرة من البحرين حتى إذا كان بالربذة سئل عن قوم محرمين أهدى لهم لحم صيد أهداه حلال فأمرهم بأكله فلما قدم على عمر ذكر ذلك له فقال عمر ما أمرتهم قال أمرتهم بأكله قال لو أمرتهم بغير ذلك لأوجعتك ضربا فقال رجل لابن عمر أتأكله فقال أبو هريرة خير مني وعمر خير مني رواه سعيد

وروي عن الشعبي ومجاهد قال إذا رأيتم الناس يختلفون فأنظروا ما فعل عمر فاتبعوه

وأيضا فإن الله سبحانه قال { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } والمراد بالصيد نفس الحيوان المصيد لا كما قال بعضهم أنه مصدر صاد يصيد صيدا وأصطاد يصطاد إصطيادا وأن المعنى حرم عليكم الاصطياد في حال من الاحرام لوجوه أحدها أن الله حيث ذكر الصيد فإنما يعني به ما يصاد كقوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقوله { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم } وانما يستمعون بما يصاد لا بالاصطياد

وقوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } بعد قوله { أحلت لكم بهيمة الأنعام }

الثاني أن التحريم والتحليل في مثل هذا إنما يضاف إلى الأعيان وإذا كان المراد أفعال المكلفين كقوله { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } { أحل لكم الطيبات } { أحلت لكم بهيمة الأنعام } { غير محلي الصيد } { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } وهذا كثير في القرآن والحديث

ثم قال تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر } فعلم أن المراد نفس المصيد

الثالث أن قوله { صيد البحر } المراد به ما يصاد منه لأنه عطف عليه وطعامه مالحة وطافية فلا بد أن يكون المقرون بالطعام هو النوع الاخر وهو الرطب الصيد ولأنه قال { متاعا لكم } وإنما يستمتع بنفس ما يصاد لا بالفعل فإذا كان صيد البحر قد عني به الصيد فكذلك صيد البر لأنه مذكور في مقابلته

الرابع أن الصحابة فسروه بذلك كما تقدم عنهم ولم ينقل عن مثلهم خلاف في ذلك

الخامس أن الفعل لا يضاف إلى البر والبحر إلا على تكلف بأن يقال الصيد في البر والصيد في البحر ثم ليس مستقيما لأن الصائد لو كان في البحر وصيده في البر لحرم عليه الصيد ولو كان بالعكس لحل له فعلم أن العبرة بمكان الصيد الذي هو الحيوان لا بمكان الاصطياد الذي هو الفعل

السادس أنه إذا أطلق صيد البر وصيد البحر فهم منه الصيد البري والبحري فيجب حمل الكلام على ما يفهم منه وإذا كان المعنى حرم عليكم الصيد الذي في البر فالتحريم إذا أضيف إلى المعين كان المراد الفعل فيها وقد فسرت سنة رسول الله أن المراد فعل يكون سببا إلى هلاك الصيد وأكل صيد يكون للمحرم سبب في قتله بما ذكرنا عنه كما فسر قوله { ولا تقربوهن حتى يطهرن } على اجتناب الفروج خاصة ودل على ذلك أشياء أحدها أنه إنما حرم أكل الصيد لأن إباحته تفضي إلى قتله ولهذا بدأ الله سبحانه بالنهي عن قتله فقال { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ثم أتبعه بقوله { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } فالمقصود من التحريم إستحياء الصيد وإستبقاؤه من المحرمين وألا يتعرضوا له بأذى ولهذا إذا قتلوه حرم عليهم وعلى غيرهم قطعا لطمع الانتفاع به إذا قتله المحرم بوجه من الوجوه فإذا كان الحلال هو الذي قد صاده كما أباحه الله له وذكاة لم يقع شيء من الفعل المكروه فلا وجه للتحريم على المحرم وخرج على هذا ما إذا كان قصد الحلال إصطياده للحرام فإن المحرم صار له سبب في قتل الصيد وإن لم يقصده فإذا علم الحلال إنما صاده الحلال لا يحل كف الحلال عن الاصطياد لأجل الحرام فلم يبق للمحرم سبب في قتله بوجه من الوجوه وصار وجود المحرم في قتل الصيد كعدمه

الثاني أن الصيد اسم للحيوان الذي يصاد وهذا إنما يتناوله إذا كان حيا فأما بعد الموت فلم يبق يصد فإذا صاد المحرم الصيد وأكله فقد أكل لحم الصيد وهو محرم أما إذا كان قد صيد قبل إحرامه أو صاده حلال لنفسه ثم جاء به قديدا أو شواء أو قديرا فلم يعترض المحرم لصيد البر وإنما تعرض لطعامه وقد فرق الله بين صيد البحر وطعامه فعلم أن الصيد هو ما إصطيد منه والطعام ما لم يصطد منه إما لكونه قد طفا أو لكونه قد ملح ثم إن ما حرم على المحرم صيد البر خاصة دون طعام صيد فعلم أنه إنما حرم ما إصطيد في حال الاحرام

فإذا كان قد إصطاده هو أو صيد لاجله فقد صار للمحرم سبب في قتله حين هو صيد فلا يحل أما إذا صاده الحلال وذبحه لنفسه ثم أهداه أو باعة للمحرم فلم يصادفه المحرم إلا وهو طعام لا صيد فلا يحرم عليه وهذا بين حسن وقد روي عن عروة عن الزبير أنه كان يتزود صفيف الظباء في الاحرام رواه مالك

الثالث أن الله إنما حرم الصيد ما دمنا حرما ولو أحل الرجل وقد صاد صيدا أو قتله وهو محرم لحرم عليه بعد الاحرام فعلم أن المقصود تحريمه إذا كان صيدا وقت الاحرام فإذا صيد قبل الاحرام أو صاده غير محرم فلم يتناول الصيد وقت الاحرام ولا تناوله أحد بسبب محرم فلا يكون حراما في حال الاحرام كما أنه لو تناوله أحد في حال الاحرام كان حراما في حال الاحلال الرابع أن الصيد إسم مشتق من فعل لأن معناه المصيد

الخامس أن الله سبحانه وتعالى لو أراد تحريم أكله لقال ولحم الصيد كما قال { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } وذلك أن المحرم إذا كان لا حياة فيه كالدم والميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطحية أضيف التحريم إلى عينه للعلم بأن المراد الأكل ونحوه أما إذا كان حيا فلو قيل والخنزير لم يدر ما المحرم منه أهو قتله أو أكله أو غير ذلك فلما قيل ولحم الخنزير علم أن المراد تحريم الأكل ونحوه فلما قال في الصيد وحرم عليكم صيد البر علم أن المراد تحريم قتله وتحريم الأكل الذي يفضي إباحته إلى قتله لا مطلق تحريم أكل لحمه وهذا حسن لمن تأمله

فعلى هذا إذا صيد من أجل محرم بعينه جاز لغيره من المحرمين الأكل منه ذكره أصحابنا القاضي قال في رواية عبد الله المحرم إذا أصيد الصيد من أجله لا يأكله المحرم لأنه من أجله صيد ويأكله غيره ولا بأس أن يأكل المحرم من الصيد الذي لم يصد من أجله إذا صاده حلال

وقد أخذ بحديث عثمان وفيه أنه أمر أصحابه بأكله ولم يأكل هو وكذلك في الحديث المرفوع إن كان محفوظا ولأن قوله صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم دليل على أن المحرم إذا لم يصده ولا صيد له فهو حلال وإن صيد لمحرم اخر ولأنه إذا لم يقصد لهذا المحرم لم يكن له سبب في قتله

فأما إن كان الصيد لنوع المحرمين مثل أن يكون أهل المياه والاعراب وغيرهم يعدون لحم الصيد لمن يمر بهم من المحرمين يبيعونهم أو يهدون لهم وكذلك إذا صادوه للرئيس وأصحابه

وإن كانوا قد صادوه ليبيعوه على المحرمين وغيرهم إذا إتفق وإنما يتفق غالبا المحرم مثل مرارة الضبع التي تشتريه الناس من الاعراب

فإذا أكل الصيد من صيد لأجله من المحرمين وجب عليه الجزاء كما لو أعان على قتله بدلالة أو إشارة لأن هذا الأكل إتلاف ممنوع منه لحق الاحرام فضمنه بالجزاء كما لو قتله بخلاف أكل لحم الصيد الذي قتله فإن ذاك إنما يحرم لكونه ميتة

فإن أتلف الصيد الذي صيد لأجله بإحراق ونحوه بإذن ربه ففيه وجهان أحدهما يضمنه كالأكل والثاني وهو أظهر لا يضمنه لأنه لم ينتفع على الوجه الذي قصد لأجله وهو نفسه ليس بصيد محترم فأشبه ما لو حرق الطيب ولم يتطيب به وهذا لأنه إذا أكله فكأنه قد أعان على قتله بموافقة قصد الصائد فيصير ذلك ذريعة إلى قتل الصيد بسبب المحرمين

أما إذا أحرقه فليس ذلك مقصود الصائد وسائر وجوه الانتفاع من اللبس والتداوي ونحو ذلك مثل الأكل وما لا منفعة أصلا مثل الاحراق

فصل

وكما يحرم قتل الصيد تحرم الإعانة عليه بدلالة أو إشارة أو إعارة الة لصيده أو لذبحه

وإذا أعان على قتله بدلالة أو إشارة أو إعارة الة ونحو ذلك فهو كما لو شرك في قتله فإن كان المعان حلالا فالجزاء جميعه على المحرم وإن كان حراما إشتراكا فيه لما تقدم في حديث أبي قتادة أنه قال فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنونني وأحبوا لو أني أبصرته وألتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح فقالوا والله لا نعينك عليه فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت لفظ البخاري وفي رواية لهما فجعل بعضهم يضحك إلى بعض فنظرت فرأيته فحملت عليه الفرس فطعنته فأتيته فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني مسلم وفي رواية فرأيت أصحابي يتراءون شيئا فنظرت فإذا حمار وحش يعني فوقع سوطه فقالوا لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون فتناولته فأخذته هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم فإذا حمار وحش فأسرجت فرسي وأخذت رمحي ثم ركبت فسقط مني السوط فقلت لأصحابي وكانوا محرمين ناولوني السوط فقالوا والله لا نعينك عليه بشيء فنزلت فتناولته وفي رواية فسأل أصحابه أن يناوله سوطه فأبوا فسألهم رمحه فأبوا عليه فأخذه ثم شد على الحمار فقتله وفي الحديث فلما أتوا رسول الله قالوا يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا أنأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقى من لحمها فقال هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها وفي لفظ لمسلم هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء قالوا لا قال فكلوا وللبخاري منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقى من لحمها وللنسائي هل أشرتم أو أعنتم قالوا لا قال فكلوا فقد إمتنع القوم من دلالته بكلام أو إشارة ومن مناولته سوطه أو رمحه وسموا ذلك إعانة وقالوا لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون وما ذاك إلا أنه قد أستقر عندهم إن المحرم لا يعين على قتل الصيد بشيء

قال القاضي ولا خلاف أن الإعانة توجب الجزاء

والنبي قال منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها فجعل ذلك بمثابة الإعانة على القتل ولهذا قال هل أشرتم أو أعنتم ومعلوم أن الإعانة على القتل توجب الجزاء والضمان فكذلك الإشارة

وأيضا ما روي عن عكرمة عن علي وابن عباس في محرم أشار إلى بيض نعام فجعل عليه الجزاء

وعن مجاهد قال أتى رجل ابن عباس فقال أني أشرت بظبي وأنا محرم قال فضمنه

وعن أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال له يا أمير المؤمنين أني أشرت إلى ظبي وأنا محرم فقتله صاحبي فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف ما ترى قال أرى عليه شاة قال فأنا أرى ذلك رواهن النجاد

مسألة السابع عقد النكاح لا يصح منه ولا فدية فيه

وجملة ذلك أن المحرم إن كان رجلا لا يصح أن يتزوج بنفسه ولا وكيله ولا وليه بحيث لو وكل وهو حلال رجلا لم يجز أن يزوجه بعدما يحرم الموكل فأما إذا وكل وهو حرام من زوجه بعد الحل فقال القاضي وابن عقيل يجوز ذلك

فعلى هذا لو وكل وهو حلال ثم أحرم ثم حل جاز أن يزوج الوكيل بذلك التوكيل المتقدم وأولى لأن العبرة بحال العقد ولأن التصرف بالوكالة الفاسدة جائز لكن هل يجوز الإقدام على التوكيل

وإن كانت إمرأة لم يجز أن تزوج وهي محرمة بإذن متقدم على الاحرام أو في حال الإحرام لكن إذا أذنت حال الإحرام وذلك لقوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق }

وعن عثمان بن عفان أن رسول الله قال لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب رواه الجماعة الا البخاري والترمذي وفي رواية عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبأن وزعم أن عثمان حدث عن رسول الله قال المحرم لا ينكح ولا ينكح وفي رواية أراد ابن معمر أن ينكح ابنه بنت شيبة بن جبير فبعثني إلى أبان بن عثمان وهو أمير الموسم فأتيته فقلت إن أخاك أراد أن ينكح ابنه فأراد أن يشهدك ذاك فقال ألا أراه عراقيا جافيا إن المحرم لا ينكح ولا ينكح ثم حدث عن عثمان بمثله يرفعه رواهما أحمد بإسناد صحيح وفي رواية عن نافع عن نبيه مثله قال نافع وكان ابن عمر يقول هذا القول ولا يرفعه إلى النبي رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك

وعن أيوب بن عتبى ثنا عكرمة بن خالد قال سألت عبد الله بن عمر عن إمرأة أراد أن يتزوجها رجل وهو خارج من مكة فأراد أن يعتمر أو يحج فقال لا يتزوجها وهو محرم نهى رسول الله عنه رواه أحمد وأبو بكر النيسابوري

وروى سعيد ثنا عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى عن عكرمة بن خالد المخزومي أن ابن عمر نهاه أن ينكح وهو محرم

وروى النفيلي ثنا مسلم بن خالد الزنجي عن إسماعيل عن ابن عمر قال قال رسول الله المحرم لا ينكح ولا ينكح قال النفيلي هذا حديث منكر وهذا رجل ضعيف الزنجي رواه الخلال عن الميموني عنه في العلل

وعن أنس بن مالك أن النبي قال لا يتزوج المحرم ولا يزوج رواه الدارقطني

وأيضا فقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة فعن غطفان بن طريف المري أن أباه طريفا تزوج وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه

وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول لا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره رواهما مالك وغيره

وعن الحسن أن عليا قال من تزوج وهو محرم نزعنا منه إمرأته ولا نجيز نكاحه رواه ابن أبي عروبة وأبو بكر النيسابوري من حديث قتاده عنه

وعن شوذب مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق بينهما زيد ابن ثابت رواه عبد الله بن أحمد وقال قرأت على أبي يتزوج المحرم قال لا يتزوج قال يروى عن عمر وعلي يفرق بينهما وزيد بن ثابت قال يفرق بينهما وابن عمر قال لا ينكح ولا ينكح

وروي عن عثمان بن عفان عن النبي قال لا ينكح المحرم ولا ينكح

وهؤلاء أكابر الصحابة لم يقدموا على إبطال نكاح المحرم والتفريق بينهما إلا بأمر بين وعلم اطلعوه ربما يخفى على غيرهم بخلاف من نقل عنه إجازة نكاح المحرم فإنه يجوز أن يبني على استصحاب الحال

فإن قيل فقد روى ابن عباس أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم رواه الجماعة ال ر وفي رواية للبخاري وبني بها وهو حلال وماتت بسرف وللبخاري تعليقا تزوج النبي في عمرة القضاء ميمونة وهو حلال وماتت بسرف وفي رواية للنسائي جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه وفي رواية عن عكرمة عن أن عباس أن النبي تزوج ميمونة بنت الحارث وهما محرمان رواه أحمد من حديث حماد بن سلمة عن حميد عنه

وعن الشعبي وعطاء وعكرمة أن رسول الله تزوج ميمونة وهو محرم ولفظ الشعبي إحتجم وهو محرم وتلاوج الهلالية وهو محرم رواهن سعيد

وعن أبي هريرة وعائشة وعن عكرمة عن ابن عباس أنه كان لا يرى به يعني بنكاح المحرم بأسا ويحدث أن رسول الله تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم بسرف وبنى بها لما رجع بذلك الماء رواه سعيد بن أبي عروبة عن يعلي بن خليفة عنه

ويؤيد ذلك أن النبي اعتمر عمرة القضية من ذي الحليفة فإنه لم يجزها بغير إحرام قط وكانت ميمونة بمكة وقد روى أنه قال لأهل مكة دعوني أعرس بينكم لتأكلوا من وليمتها فقالوا لا حاجة لنا في وليمتك فأخرج من عندنا فخرج حتى أتى سرفا وأعرس بها

قيل عنه أجوبة أحدها أنه قد روى يزيد بن الأصم عن ميمونة أن رسول الله تزوجها وهي حلال قال وكانت خالتي وخالة ابن عباس رواه مسلم وابن ماجة وفي رواية لأحمد والترمذي والبرقاني عن يزيد عن ميمونة أن رسول الله تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف فدفناها في الطلحة التي بنى بها فيها وفي رواية لأبي داود تزوجني ونحن حلالان بسرف

وعن أبي رافع مولى أن رسول الله تزوج ميمونة حلالا وبني بها حلالا وكنت الرسول بينهما رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن ولا يعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان أن النبي مرسلا ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا وهذه الرواية مقدمة على رواية ابن عباس لوجوه أحدها أنها هي المنكوحة وهي أعلم بالحال التي تزوجها رسول الله فيها هل كانت في حال إحرامه أو في غيرها من ابن عباس

الثاني أن أبا رافع كان الرسول بينهما وهو المباشر للعقد فهو أعلم بالحال التي وقع فيها من غيره

الثالث أن ابن عباس كان إذ ذاك صبيا له نحو من عشر سنين وقد يخفي على من هذه سنة تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه أما أولا فلعدم كمال الادراك والتمييز وأما ثانيا فلأنه لا يداخل في هذه الأمور ولا يباشرها وإنما يسمعها من غيره إما في ذلك الوقت أو بعده الرابع أن السلف طعنوا في رواية ابن عباس هذه فروى أبو داود عن سعيد ابن المسيب قال وهم ابن عباس في قوله تزوج ميمونة وهو محرم

وقال أحمد في رواية أبي الحارث وقد سئل عن حديث ابن عباس هذا الحديث خطأ وقال في رواية المروذي أذهب إلى حديث نبيه ابن وهب فقال له المروذي إن أبا ثور قال لي

بأي شيء تدفع حديث ابن عباس فقال أبو عبد الله الله المستعان قال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وميمونة تقول تزوج وهو حلال وقال إن كان ابن عباس ابن أخت ميمونة فيزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة وقال أبو رافع كنت السفير بينهما

وعمر بن الخطاب يفرق بينهما هذا بالمدينة لا ينكرونه وقال ميمون بن مهران أرسل إلى عمر بن عبد العزيز أن سل يزيد بن الأصم كيف تزوج رسول الله ميمونة فسألته فقال تزوجها وهو حلال رواه سعيد وقال عمرو بن دينار أخبرت الزهري به يعني بحديثه عن عمرو بن دينار عن ابن عباس فقال أخبرني يزيد عن ابن الأصم وهي خالته أن رسول الله تزوجها وهو حلال رواه مسلم

فهذا سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري وهو قول أبي بكر ابن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعامة علماء المدينة وهم أعلم الناس بسنة ماضيه وأبحثهم عنها قد استبان لهم أن الصواب رواية من روى أنه تزوجها حلالا وكذلك سليمان بن يسار يقول ذلك وهو مولاها

الخامس أن الرواية بأنه تزوجها حلالا كثيرون فهي منهم وأبو رافع وعن ميمون بن مهران عن صفية بنت شيبة وكانت عجوزا أن النبي ملك ميمونة وهو حلال وبني بها وهو حلال وخطبها وهو حلال ذكره القاضي عن ميمون عن مهران قال أتيت صفية ابنة شيبة إمرأة كبيرة فقلت لها أتزوج رسول الله ميمونة وهو محرم قالت لا والله ولقد تزوجها وهما حلالان رواه ابن أبي خيثمة ورواه من التابعين خلق كثير

وأما الرواية الأخرى فلم ترد إلا عن ابن عباس وعن أصحابه الذين أخذوها عنه قال ابن عبد البر ما أعلم أحدا من الصحابة روي عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم الا ابن عباس

وإذا كان أحد الخبرين أكثر نقلة ورواة قدم على مخالفة فإن تطرق الوهم والخطأ إلى الواحد أولى من تطرقه إلى العدد لا سيما إذا كان العدد أقرب إلى الضبط وأجدر بمعرفة باطن الحال

السادس أن في رواية عكرمة عن ابن عباس أن النبي تزوجها وهما محرمان وأن عقد النكاح كان بسرف ولا ريب أن هذا غلط فإن عامة أهل السير ذكروا أن ميمونة كانت قد بانت من زوجها بمكة ولم تكن مع النبي في عمرته فإنه لم يقدم بها من المدينة وإذا كانت مقيمة بمكة فكيف تكون محرمه معه بسرف أم كيف وإنما بعث إليها جعفر بن أبي طالب خطبها وهو يوهن الحديث ويعلله

السابع أن النبي تزوجها في عمرة القضية في خروجه ورجع بها معه من مكة وإنما كان يحرم من ذي الحليفة فيشبه أن تكون الشبهة دخلت على من أعتقد أنه تزوجها محرما من هذه الجهة فإن ظاهر الحال أنه تزوجها في حال إحرامه

أما من روى أنه تزوجها حلالا فقد أطلع على حقيقة الأمر وأخبر به فإما أن يكون تزوجها قبل الاحرام أو بعد قضاء عمرته لا سيما ومن روى أنه تزوجها قبل الاحرام معه مزيد علم

وقد روى مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله بعث مولاه أبا رافع ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله بالمدينة قبل أن يخرج ورواه الحميدي عن عبد العزيز ابن محمد عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله بعث العباث بن عبد المطلب وأبا رافع فزوجاه بسرف وهو حلال بالمدينة

وهذا فيه نظر وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو يقوى من جهتين إحداهما أن سليمان بن يسار هو مولاها فمثله وقد يطلع على باطن حالها ومعه مزيد علم خفي على غيره

الثاني أنه هو الذي روى حديث أبي رافع عنه كما تقدم وأهل الحديث يعدونه حديثا واحدا أسنده سليمان تارة وأرسله أخرى فيعلم أنه تلقى هذا الحديث عن أبي رافع وهو كان الرسول في النكاح

وقد روى يونس بن بكير عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم قال تزوج رسول الله ميمونة وهو حلال بعث إليها الفضل بن العباس ورجل معه فزوجوه إياها وهذا يوافق الذي قبله في تقدم النكاح ويخالفه في تسمية أحد الرجلين

فإن قيل فقد تقدم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت تزوجني رسول الله ونحن حلالان بسرف وفي رواية بسرف ونحن حلال بعدما رجعنا من مكة رواه أحمد وهذا لا يمكن إلا بعد العمرة وهو قافل من مكة إلى المدينة

وقد روى الأوزاعي قال حدثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم قال سعيد بن المسيب وهم ابن عباس وإن كانت خالته وتزوج رسول الله بعدما حل رواه ابن عبد البر

وقال بن إسحق حدثني نفر عن ابن المسيب أنه قال هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم وكذب وإنما قدم رسول الله مكة فكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس

وهذا يدل على أن من روى أنه تزوجها حلالا أعتقد تأخر العقد عن الاحرام وابن عباس أخبر بوقوعه قبل ذلك فيكون هو الذي قد أطلع على ما خفي على غيره

يؤيد ذلك ما روى سنيد بن الحباب عن أبي معشر عن شرحبيل ابن سعد قال لقى العباس بن عبد المطلب رسول الله بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية فقال له العباس يا رسول الله تأميت ميمونة بنت الحارث بن حرب بن أبي رهم بن عبد العزى فهل لك في أن تزوجها فتزوجها رسول الله وهو محرم فلما أن قدم مكة أقام ثلاثا فجاءه سهيل ابن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة فقال يا محمد اخرج عنا اليوم آخر شرطك فقال دعوني أبتني بأمرأتي وأصنع لكم طعاما فقال لا حاجة لنا بك ولا بطعامك أخرج عنا فقال له سعد يا عاض بظر أمة أرضك وأرض أمك دونه لا يخرج رسول الله إلا أن يشاء فقال رسول الله دعهم فإنهم زارونا لا نؤذيهم فخرج فبنى بها بسرف

وروى ابن اسحق قال حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله تزوج ميمونة بنت الحارث في سفرته في هذه العمرة وكان الذي زوجه العباس بن عبد المطلب فأقام رسول الله ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس ابن عبدود في نفر من قريش وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله من مكة فقالوا قد انقضى أجلك فأخرج عنا فقال لهم لو تركتموني فعرست بين أظهركم وصنعنا طعاما فحظرتموه فقالوا لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا فخرج وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى عليها رسول الله هنالك

وقد ذكر البخاري بعض هذا الحديث تعليقا فقال وزاد بن إسحق حدثني ابن نجيح وأبان بن صالح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس تزوج النبي ميمونة في عمرة القضاء

فقد اضطربت هذه الروايات في وقت تزوجه فمن قائل أنه تزوجها قبل الإحرام ومن قائل عقب الحل بمكة ومن قائل بسرف وهما حلالان إما قبل الاحرام أو بعد رجوعه إلى المدينة ثم أجود ما فيها حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة وحديث سليمان بن يسار عن أبي رافع وقد رويا مرسلين من وجوه هي أقوى من رواية من أسند وهذه علة فيهما إن لم توجب الرد فإنها توجب ترجح حديث ابن عباس الذي هو أصح إسنادا

قال عمرو بن دينار حديث ابن شهاب عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم فقال ابن شهاب حدثني يزيد ابن الأصم أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال قال عمرو فقلت لابن شهاب أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على عقبيه

قيل أما رواية من روى أنه تزوجها وهما حلالان بسرف إن كانت محفوظة فإن معناها والله أعلم أنه بنى بها ودخل بها بسرف كما فسرت ذلك جميع الروايات فإنها كلها متفقة على أنه بنى بها بعد منصرفه من عمرته بسرف وأكثر الروايات على أن عقد النكاح تقدم على ذلك وقد تقدم أنه أراد أن يبني بها بمكة اللهم الا أن يكون تقدم الخطبة والركون ولم يعقد العقد الا بسرف حين البناء فإن هذا ممكن وعلى هذا حمل القاضي الروايتين وفسر قوله دعوني أعرس معناه أعقد وأعرس فلما منعوه خرج إلى سرف فعقد وأعرس وأما رواية من روى أنه تزوجها قبل الاحرام أو بعده فإما أن يكون الأول هو المطلع على حقيقة الأمر وخفى على الثاني فإن ذاك مثبت وهذا ناف لا سيما وسليمان بن يسار ويزيد بن الأصم أعلم بهذه القضية من غيرهما ثم لم يتحدث بالعقد ولم يظهر إلا بعد مقدمه مكة وانقضاء عمرته ومن هنا إعتقد من أعتقد أن العقد وقع في أثناء الاحرام وقد ذكر هذا القاضي وقال هذا تأويل جيد أو أن يكون بعث أبا رافع ومن معه فخطبا له ووقع الاتفاق والمواطأة على العقد ثم لم يعقد إلا بعد الاحرام

وأما كونهما قد رويا مرسلين وكون يزيد بن الأصم لا يعدل ابن عباس فليس بشيء فإنه قد روي مسندا من وجوه مرضية مخرجة في الصحاح والحسان والقصة إذا أسندها من يحدثها تارة وأرسلها أخرى كان أوكد في ثبوتها عنده وثقته بحديث من حدثه فإنه إنما يخاف في الإرسال من ضعف الواسطة فمتى سماه مرة أخرى زال الريب

وابن عباس رضي الله عنه لم يعارض به يزيد بن الأصم في شيء يكون ابن عباس أعلم به منه وإنما هو أمر نقلي العالم والجاهل فيه سواء ثم ابن عباس لم يسند روايته إلى أحد ويزيد قد أسند روايته إلى خالته المنكوحة أم المؤمنين ولا ريب أنها أعلم بحالها من ابن أختها ابن عباس

الجواب الثاني أن تزوج ميمونة وإن لم يحكم فيه بصحة رواية من روى أنه تزوجها حلالا فلا ريب أنه قد اضطربت فيه النقلة ومع ما تقدم فلا وجه يصح الاحتجاج به لعدم الجزم بأنه تزوجها وهو محرم فتتساقط الروايتان وحديث عثمان لا اضطراب فيه ولا معارض له الجواب الثالث أنه لو تيقنا أنه تزوجها محرما لكان حديث عثمان هو الذي يجب أن يعمل به لأوجه أحدها أن حديث عثمان ناقل عن الأصل الذي هو الإباحة وحديث ابن عباس مبق على الأصل فإن قدرنا حديث ابن عباس متأخرا لزم تغيير الحكم مرتين وإن قدرنا حديث عثمان متأخرا لكان تزوج ميمونة قبل التحريم فلا يلزم إلا تغيير الحكم مرة واحدة فيكون أولى

الثاني أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضية قبل فتح مكة وقبل فرض الحج كما تقدم ولم تكن أحكام الحج قد مهدت ولا محظورات الإحرام قد بينت وحديث عثمان إنما قاله بعد ذلك لأن النهي عن اللباس والطيب إنما بين في حجة الوداع فكيف النهى عن عقد النكاح إذ حاجة المحرمين إلى بيان أحكام اللباس أشد من حاجتهم إلى بيان حكم النكاح والغالب أن البيان إنما يقع وقت الحاجة فهذه القرائن وغيرها تدل من كان بصيرا بالسنن كيف كانت تسن وشرائع الإيمان كيف كانت تنزل أن النهي عن النكاح متأخر

الثالث أن تزوجه فعل منه والفعل يجوز أن يكون خاصا به وحديث عثمان نهى لأمته والمرجع إلى قوله أولى من فعله ومن رد نص قوله وعارضه بفلعه فقد أخطأ

الرابع أن حديث عثمان حاضر وحديث ابن عباس مبيح والأخذ بالحاضر أحوط من الأخذ بالمبيح

الخامس أن أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان وإذا اختلفت الاثار عن رسول الله نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون ولم يخالفهم أحد من الصحابة فيما بلغنا إلا ابن عباس وقد علم مستند فتواه وعلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفى على من لم يحرمه فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس وأصحاب رسول الله أعلم بالله وأخشى من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون بخلاف من أباحه فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند اخر مضطرب

السادس أن أهل المدينة متفقون على هذا علما ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد ونظرائه وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة كان أولى من غيره في أصح الوجهين وهو المنصوص عن أحمد في مواضع وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة أهل المدينة لا سيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار وهم أعلم بالسنة من سائر أهل الأمصار وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم وإنما كان الناس تبعا لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان وبعد ذلك فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم فلم يكونوا بدون من سواهم ونحن وإن لم نطلق القول بأن إجماعهم حجة فإنا نضعهم مواضعهم ونؤتي كل ذي حق حقه ونعرف مراتب المحدثين والمفتين والعاملين لترجح عند الحاجة من يستحق الترجيح وفي المسألة أقيسة شبيهة ومعان فقهية

وأيضا فإن الاحرام تحريم جميع دواعي النكاح تحريما يوجب الكفارة مثل القبلة والطيب ويمنع التكلم بالنكاح والزينة وهذه مبالغة في حسم مواد النكاح عنه

وعقد النكاح من أسبابه ودواعيه فوجب أن يمنع منه وعكسه الصيام والاعتكاف فإنه يحرم القبلة ولا يمنع الطيب والتكلم بالنكاح والاعتكاف وإن قيل بكراهة الطيب فيه فإنه لا يحرم ذلك ثم لا كفارة في شيء من مقدمات النكاح إذا فعله في الصيام والاعتكاف

وقد بالغ الشرع في قطع أسبابه حتى أنه يفرق بين الزوجين في قضاء الحجة الفاسدة

وأيضا فإن المقصود بالنكاح حل الاستمتاع فمن حقه ألا يصح إلا في حل يقبل الاستمتاع وأن لا يتأخر حل الاستمتاع عن العقد لأن السبب إذا لم يفد حكمه ومقصوده وقع باطلا كالبيع في محل لا يملكه والإجارة على منافع لا تستوفى ولهذا لم يصح في المعتدة من نكاح أو في شبهة أو زنا ولا في المستبرأة في ظاهر المذهب وإن قيل تعتد بعد العقد وسائر أحكام النكاح من الإرث ووجوب النفقة وجواز الخلوة والنظر توابع لحل الاستمتاع

وإنما صح نكاح الحائض والنفساء والصائمة لأن بعض أنواع الاستمتاع هناك ممكن أو وقت الاستمتاع قريب فإن الصائم يستمتع بالليل والحائض يستمتع منها بما دون الفرج وأما المعتكف فإن أصحابنا قالوا يصح نكاحه لأن منعه

والإحرام يمنع الاستمتاع بكل حال منعا مؤكدا تطول مدته على وجه يفضى الاستمتاع إلى مشاق شديدة من المضي في الفاسد ووجوب القضاء والهدى والتعرض لسخط الله وعقابه والاحرام لا ينال إلا بكلف ومشاق وليس في العبادات أشد لزوما وأبلغ نفوذا منه فإيقاع النكاح فيه إيقاع له

وأيضا فإن الاحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه وترك أنواع الاستمتاعات فلا يلبس اللباس المعتاد ولا يتطيب ولا يتزين ولا يتظلل ويلازم الخشوع والإخشيشان ويقصد بيت الله أشعث أغبر أدفر قملا ولا شك أن من يتزوج فقد فتح باب التنعم والاستمتاع وعقد أسباب اللذة والشهوة وتعرض للهو واللعب وحاله مخالفة لحال الخاشع المعرض عن جميع العادات والصائم يخالفه في عامة هذه الأشياء فإن تحفية الطيب والمجمر والمعتكف بينهما

وأيضا فإن المعتدة عن وفاة الزوج منعت الطيب والزينة حسما لمواد النكاح ومفارقة لحال المتزوجة وألزمت لزوم المنزل والمحرمة قد منعت الطيب والزينة فهي كالمعتدة من الوجه

وأيضا فإن المقصود من النكاح الاستمتاع فلما منع المحرم من النكاح منع من مقصوده كتملك الصيد لما كان مقصوده ابتذال الصيد وإتلافه منع منه لما كان ممنوعا من مقصوده يوضح ذلك أن نفس ملك الصيد لا محظور فيه كملك

ولهذا لا يمنع دوام ملك النكاح والصيد وإنما يمنع من إبتدائهما وعكسه شراء الجواري والطيب واللباس لما لم يكن مقصوده مجرد الاستمتاع لم يمنع منه

فصل

وإذا تزوج وهو محرم

فصل

ولا كفارة في النكاح لأنه يقع باطلا فلم يوجب الكفارة كشراء الصيد واتهابه لأنه لا أثر لوقوعه فإن مقصوده لم يحصل بخلاف الوطء واللباس ونحو ذلك وكلما وقع على مخالفة الشرع وأمكن إبطاله إكتفى بإبطاله عن كفارة أو فدية بخلاف الأمور التي لا يمكن إبطالها ولأنه من باب الأقوال والأحكام وهذا الباب لا يوجب كفارة في الاحرام تختص به كما لو تكلم بكلام محرم

فصل

وأما تزويجه للحلال من رجل أو إمرأة بطريق الولاية أو الوكالة أو بطريق الفضول وقلنا ينعقد تصرف الفضولي فلا يصح في أشهر الروايتين وفي الأخرى يصح لأن الزوجين لا مانع فيهما والمنع القائم بالوكيل أو الولي لا يتعدا إليهما

فعلى هذه الرواية يحمل النهي على الكراهة والأول أصح لأن النبي نهى المحرم أن ينكح أو ينكح نهيا واحدا فالتفريق بينهما لا يجوز ولأن أصل النهي التحريم وكل من لا يصح منه العقد لنفسه بحال لا يصح لغيره كالسفيه والمجنون والمرتد

ولأن المحرم ممنوع أن يتكلم بالنكاح وذلك منه رفثا وعقده له تكلم به ولأن تزويجه لغيره يفضي إلى تذكره واشتهائه والمحرم ممنوع من جميع مقدماته ولأنه اعانة على استحلال ما هو محرم عليه فلم يجز كاعانة الحلال على الوطء أو اللباس أو التطيب فإنه اعانة على الاستمتاع بما هو مباح له لا على استحلال ما هو محرم عليه وهذا لأن فرج الزوجة لا يباح إلا بالعقد كما أن الصيد المباح لا يباح إلا بتملك ولحمه لا يباح إلا بالتذكية بخلاف اللباس والطيب والوطء للحلال فإنه حلال في نفسه وهذا شبه وتمثيل حسن وهذا في التزويج بالولاية الخاصة وهي السبب فأما الولاية العامة وهي ولاية السلطان من الإمام والحاكم ففيه وجهان

أحدهما ليس له أن يزوج بذلك أيضا لعموم الحديث والقياس وهذا ظاهر كلام أحمد فإنه منع المحرم أن يزوج مطلقا ولم يفرق فعلى هذا يجوز خلفاء السلطان المحلون

والثاني يجوز ذلك لأن الحاجة العامة تدعو إلى ذلك وقد يستباع بالولاية العامة ما لا يستباح بالخاصة كتزويج الكافرة

وهذا ضعيف فإن الأدلة الشرعية قد عمت والفرق بينه وبين غيره إنما هو في أصل ثبوت الولاية ولا ريب أن ولايته لا تزول بالاحرام كما لا تزول ولاية غيره من الأولياء أما نفس العقد بالولاية فلا فرق بينه وبين غيره ولأن المانع هو شيء قائم به يقدح في احرامه ولا فرق بينه وبين غيره في ذلك ولا حاجة إلى مباشرة لوجود خلفائه هذه طريقة القاضي وغيره من أصحابنا

وقال ابن عقيل ليس له أن يباشر العقد لكن هل يصح أن يباشر خلفاؤه وهو محرم على وجهين وهذا بعيد جدا

فأما التزويج بملك اليمين

وأما غيره من الأولياء إذا أحرم واحتاجت المرأة إلى من يزوجها فقيل قياس المذهب أن الولاية تنتقل إلى من هو أبعد منه من العصبة كما لو غاب ويتوجه أن لا تتزوج حتى يحل

ومن وكل في النكاح وهو محرم وزوج بعد تحليله جاز على مقتضى ما ذكره القاضي وابن عقيل سواء قبل الوكالة وهو محرم أو بعد الاحرام ولو كان التوكيل قبل الاحرام لم يبطل بالإحرام بطريق الأولى

فصل

وأما ارتجاع زوجته المطلقة قبل الإحرام أو في حال الإحرام ففيه روايتان

إحداهما له ذلك قالها عبد الله وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب وغيرهم لأن الرجعية زوجة بدليل ثبوت الارث بينهما وثبوت الطلاق والخلع بينهما وأن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا مهر ولا رضاء فارتجاعها ليس ابتداء ملك وإنما هو إمساك كما قال تعالى { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } ولأن الرجعة كانت مباحة فارتجاعها ليس استحلالا لفرج وإن كان محظورة فمجرد إزالة الحظر ليس ممنوعا منه كتكفير المظاهر ولأن الأصل عدم الحظر والمنع وإنما حظرت السنة النكاح والرجعة ليست نكاحا ولا في معناه فتبقى على الأصل

والثانية لا تجوز الرجعة وإن أفضى إلى البينونة في حال الاحرام نقلها أحمد بن أبي عبده والفضل بن زياد وحرب وهي اختيار القاضي وأكثر أصحابه مثل الشريف أبي جعفر وابن عقيل وأبي المواهب العكبري وأبي الخطاب في خلافه لأن المحرم ممنوع من التكلم بالنكاح وهو الرفث والارتجاع تكلم به ولأن النبي نهاه أن ينكح أو ينكح أو يخطب وارتجاعه أقرب إليه من أن ينكح غيره أو أن يخطب فإذا منع من أن يزوج أو يخطب فمنعه من الرجعة أولى وهذا لأن المقصود حسم أبواب النكاح ومنع التعلق به بوجه من الوجوه والمرتجع متعلق به تعلقا ظاهرا ولأن الارتجاع وسيلة إلى الوطء ومقدمة له فإن الراغب في الرجعة لا يؤمن عليه أن يرغب في الوطء فمنع منها كالطيب وعامة المعاني والأشياء المعتبرة في النكاح قد يمكن اعتبارها في الرجعة بل ربما كان الارتجاع أشد داعية من ابتداء النكاح فإن تشوق النفس إلى أمرأة يعرفها أكثر من تشوقها إلى أمرأة لا يعرفها ولهذا منع في قضاء الحج من الاجتماع بالمرأة ولأن المنع من النكاح لم يكن لنقص في ملك التصرف ونقص في المحل وإنما كان المعنى يعود إلى

ولأن الرجعة استحلال مقصود للبضع وإثبات لملك النكاح فمنع منه كالعقد المبتدأ وذلك لأن الطلاق يوجب التحريم وزوال ملك النكاح أما في الحال أو في المال بعد انقضاء العدة والرجعة ترفع هذا التحريم وتعيد الملك تماما ولا نسلم أنه ليس بنكاح بل هو نكاح ولهذا تصح بلفظه على أحد الوجهين وفي الآخر إنما لم يصح بلفظه لكونه لا يدل على خصوص معنى الرجعة كالوجهين في صحة الإجارة بلفظ البيع من أن الإجارة معاوضة محضة ولأن كل من لا يصح منه النكاح بحال لا يصح الرجعة كالصبي والمجنون والكافر ولأن من حظر عليه الإحرام شيئا حظر عليه استصلاحه واستيقاؤه

فأما المرأة المطلقة إن كانت هي المحرمة فهل للزوج الحلال أن يرتجعها

فإن لم يكن له ذلك فهل للرجعية أن تحرم

ويجوز أن يفيء المولى باللسان وهو محرم ذكره ابن عقيل لأن الإيلاء لا يوجب التحرم ويجوز أن يصالح الناشز ويجوز أن يكفر المظاهر وهو محرم لأن الظهار لا يوجب خللا في العقد حتى تكون الكفارة مصلحة للعقد وليست كلاما من جنس الرفث فليست مثل النكاح لفظا ولا معنى وإنما هي عتق أو إطعام أو صيام يحلل يمينا عليه ولأن مقصودها لرفع حكم اليمين تحليلا أو تكفيرا كما أن مقصود شراء الجارية ملك الرقبة ولهذا قد تؤثر في حل الفرج وقد لا تؤثر كما لو وطيء ثم زال النكاح بموت المرأة أو طلاقها فإنه يجب عليه التكفير كما أن ملك الرقبة قد يؤثر في حل الفرج وقد لا يؤثر

فصل

فأما إذا خطب المحرم إمرأة لنفسه وتزوجها بعد الحل أو خطبها لرجل حلال أو خطبت المحرمة لمن يتزوجها بعد الحل فقال القاضي وابن عقيل في بعض المواضع وأبو الخطاب وكثير من أصحابنا تكره الخطبة ولا تحرم ويصح العقد في هذه الصور

وقال ابن عقيل في موضع لا يحل له أن يخطب ولا يشهد وهذا قياس المذهب لأن النبي نهى عن الجميع نهيا واحدا ولم يفصل وموجب النهي التحريم وليس لنا ما يعارض ذلك من أثر ولا نظر بل روي ما يؤكد ذلك فعن نافع أن عبد الله بن عمر قال لا يصلح للمحرم أن يخطب ولا ينكح ولا يخطب على غيره ولا ينكح غيره رواه حرب

ولأن الخطبة مقدمة النكاح وسبب إليه كما أن العقد سبب للوطىء والشرع قد منع من ذلك كله حسما للمادة ولأن الخطبة كلام في النكاح وذكر له وربما طال فيه الكلام وحصل بها أنواع من ذكر النساء والمحرم ممنوع من ذلك كله ولأن الخطبة توجب تعلق القلب بالمخطوبة واستثقال الاحرام والتعجل إلى انقضائه لتحصيل مقصود الخطبة كما يقتضي العقد تعلق القلب بالمنكوحة ولهذا منعت المعتدة أن تخطب كما منعت أن تنكح ونهي الرجل أن يخطب على خطبة أخيه كما نهيت المرأة أن تسأل طلاق أختها

فأما الشهادة فقد سوى كثير من أصحابنا بينها وبين الخطبة كراهة وحظرا

وقال القاضي في المجرد لا يمنع من الشهادة على عقد النكاح لأنه لا فعل له فهو كالخاطب أن الشهادة لا تكره مطلقا إذ لا نص فيها ولا هي في معنى المنصوص

فأما توكيل غيره أو التوكل له

مسألة الثامن المباشرة لشهوة فيما دون الفرج فإن أنزل بها ففيها بدنة وإلا ففيها شاة في هذا الكلام مسألتان إحداهما أن المحرم لا يجوز له أن يباشر لشهوة سواء في ذلك القبلة والغمز والوطء دون الفرج وغير ذلك وسواء باشر أمرأة أو صبيا أو بهيمة ولا يحل له الاستمتاع ولا النظر لشهوة

عن ميمون بن مهران أن عائشة سئلت ما يحل للصائم من أمرأته قالت كل شيء ما خلا الفرج قيل لها ما يحل للرجل من أمرأته إذا كانت حائضا قالت ما فوق الإزار قيل لها ما يحرم إذا كانا محرمين قالت كل شيء إلا كلامها رواه أحمد

ومن باشر لشهوة ولم ينزل لم يفسد حجة وقد ذكر غير واحد أن ذلك إجماع لكن عليه الكفارة وأما قدرها فذكر أصحابنا فيه روايتين

إحداهما عليه شاة سواء كان في الحج أو العمرة وسواء باشر بوطء دون الفرج أو بغير ذلك نص في رواية ابن الحكم في الذي يقبض على فرج أمرأته قال يهريق دم شاة تجزيه

وقال في رواية صالح في الذي يقبل لشهوة أكثر الناس يقولون فيه دم وذكر في رواية عبد الله عن سعيد بن جبير وقتادة وأبي معشر والحسن والزهري وعطاء وابن شبرمة وعبد الله بن حسن بن حسن أنه عليه دما

قال وروي عن عطاء قال يستغفر الله ولا يعد ولم يحكي عن أحد أن عليه بدنة وهذا اختيار الخرقي

وقال في رواية المروذي في المحرم يقبل أمرأته عليه دم فإن أنزل فقد فسد حجه لأنه استمتاع مجرد لا إنزال معه

والثانية عليه بدنة في جميع المباشرات إذا كانت في الحج قال في رواية ابن إبراهيم في محرم وطيء دون الفرد فأنزل فسد حجة فإن لم ينزل فعليه بدنة وهذا اختيار القاضي وأصحابه مثل الشريف وأبي الخطاب لأنه مباشرة لشهوة أوجب كفارة فكان بدنة كالوطء وهذا لأن جنس المباشرة أغلظ المحظورات فتعلق بجنسها أرفع الكفارات وهو البدنة جزاء لكل محظور بقدره ولا يصح الفرق بالإفساد لأن الإفساد يوجب القضاء ويوجب الكفارة

والأجود إقرار نصوص الإمام فإن كانت المباشرة وطأ دون الفرج ففيها بدنة وإن كانت قبلة أو غمزا ففيها شاة كما فرقنا بينهما في التعزيز وقد قال في رواية أبي طالب في محرم أتى أهله دون الفرج فسد حجه لأنه قد قضى حاجته

ولم يذكر إنزالا لكن قد يحمل على الغالب

المسألة الثانية إذا أنزل المني بالمباشرة بقبلة أو غمز أو بالوطء دون الفرج ونحو ذلك فهل يفسد نسكه على ثلاث روايات

أحدها يفسد حجة كالوط في الفرج نقلها المروذي في القبلة ونقلها أبو طالب وابن إبراهيم في الوطء دون الفرج وهذا اختيار القاضي وأصحابه لأن كل عبادة أفسدها الوطء أفسدها الإنزال عن مباشرة كالصيام والاعتكاف لا سيما ومنع الاحرام من المباشرة أشد من منع الصيام فإذا أفسد ما لا يعظم وقعه فيه فإفساد ما يعظم وقعه أولى

وأيضا فإن المباشرة مع الإنزال قد يحصل بها من المقصود واللذة أكثر من الوطء المجرد عن إنزال ولهذا ما زال الإنزال موجبا للغسل والوطء المجرد قد عرى عن الغسل في الإسلام

والرواية الثانية لا يفسد نقلها الميموني في المباشرة إذا أمنى مطلقا ونقلها ابن منصور في الجماع دون الفرج إذا أنزل وهذا اختيار لأن الأمر إنما جاء في الجماع

والمباشرة دون الفرج دونه في أكثر الأحكام فلم يجز أن يلحق به بمجرد القياس لجواز أن يكون الإفساد معلقا بما في الجماع من الخصائص

والرواية الثالثة الفرق بين الجماع دون الفرج وبين القبلة والغمز فإن وطيء دون الفرج فأنزل فسد حجة وإن قبل فأنزل لم يفسد وهذه اختيار الخرقي وقد ذكر الرواية الأولى ولم يذكر الثانية وذكر ابن أبي موسى الروايتين في الوطء دون الفرج ولم يذكر في المباشرة خلافا

فإن قلنا قد فسد حجة فعليه بدنة بلا ريب في الحج وإن قلنا لم يفسد فعليه بدنة أيضا نص عليه في رواية الميموني في المباشرة إذا أمنى مطلقا وهذا قول كثير من أصحابنا في القبلة وغيرها من المباشرات ونقل عنه ابن منصور إن جامع دون الفرج وأنزل فعليه بدنة وقد تم حجة وإن قبل فأمنى أو أمذى أو لم يمن ولم يمذ أرجو أن يجزيه شاة

وكذلك قال ابن أبي موسى ولو باشرها كان عليه دم شاة ولو قبلها لزمه دم شاة فإن وطئها دون الفرج فأنزل فعليه بدنة قولا واحدا وفي فساد حجه روايتان

وإن أمذى بالمباشرة فنقل عنه ابن منصور أن في ذلك ما في المباشرة المجرده كما تقدم

فأما المباشرة من فوق حائل فقال أصحابنا القاضي وابن عقيل وغيرهما لا أثر لها كما لا أثر لها في نقض الوضوء ويحرم عليه أن ينظر لشهوة فإن نظر لشهوة فلم ينزل قال الخرقي وإن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم وإن أمذى فعليه شاة وإن أمنى لم يفسد حجة وعليه دم وهل هو بدنة أو شاة على روايتين وحكى ابن عقيل إحدى الروايتين عليه بدنة في مطلق الإنزال والأخرى عليه بدنة إن أمني وشاة إن أمذى وذكر أنها اختيار شيخه وهذا غلط وذلك لما روى مجاهد قال جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال يا ابن عباس أحرمت فأتتني فلانة في زينتها فما ملكت نفسي أن سبقتني شهوتي فضحك ابن عباس رحمه الله حتى استلقى ثم قال إنك لشبق لا بأس عليك أهرق دما وقد تم حجك رواه سعيد وفي رواية النجاد عن ابن عباس في محرم نظر إلى أمرأته حتى أمنى قال عليه شاة وفي رواية له قال جاء رجل إلى ابن عباس قال فعل الله بهذه وفعل إنها تطيبت وأتتني كلمتني وحجثتني حتى سبقتني الشهوة فقال ابن عباس انحر بدنة وتم حجك

ولا يعرف له مخالفا في الصحابة ولا في التابعين بل المنقول عن سعيد بن جبير أن عليه دما وحجه تام وقال عطاء عليه ناقة ينحرها وقال الحسن عليه بدنة والحج من قابل

وهذا لأن تكرار النظر لشهوة حرام يمكن الاحتراز منه فإذا اقترن به الإنزال تغلظ فأوجب الفدية كالمباشرة وإنما يفسد الحج لما تقدم عن ابن عباس ولأن ويتخرج فساد الحج كالصوم

ثم إن قلنا يجب بدنة وهو اختيار الخرقي والقاضي وابن عقيل وهذا فيما إذا كرر النظر فأما النظرة الواحدة إذا تعمدها ولم يدمها فأمنى فعليه شاة هكذا قال أصحابنا وعنه ما يدل على أنه لا شيء عليه قال في رواية ابن إبراهيم إذا كرر النظر فأنزل فعليه دم

وعنه ما يدل على أن عليه بدنة قال في رواية حنبل إذا أمنى من نظر وكان لشهوة فعليه بدنة وإن أمذى فعليه شاة

وإن أمنى أو أمذى بفكر غالب فلا شيء عليه وإن استدعى الفكر ففيه وجهان أحدهما لا شيء عليه قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما

والثاني أن الفكر كالنظر قاله ابن عقيل

فعلى هذا إذا لم يستدمه ففيه دم وإن استدامه فهل فيه بدنة أو شاة على وجهين ولا يفسد الحج بحال ويتخرج في النظر والتفكير إذا استدامهما أن يفسد الحج والمنقول عن أحمد في التفكير يتحمل الوجهين زعم القاضي أن ظاهره يقتضي أن لا يتعلق بالتفكير حكم وزعم ابن عقيل أنه يدل على أنه يتعلق بالمستدعى منه حكم

قال في رواية أبي طالب وأحمد بن جميل في محرم نظر فأمنى فعليه دم قيل له فإن ذكر شيئا فأمنى قال لا ينبغي أن يذكر قيل له وقع في قلبه شيء قال أرجو أن لا يكون عليه شيء

فمن حيث جعل في الإنزال بالنظر دما ولم يجعل في الإنزال بالذكر شيئا بل نهاه عنه كان قول القاضي متوجها ومن حيث فرق بين ما يقع في قلبه في أنه لا شيء عليه وبين ما يذكره عمدا يتوجه قول ابن عقيل إلا أن للقاضي أن يقول استدعاء الفكر مكروه فينهى عنه ولهذا قال لا ينبغي له أن يذكر حيث الغالب منه فإنه لا يوصف بالكراهة فالفرق عاد إلى هذا لا إلى وجوب الدم والدم الواجب بالمباشرة ونحوها من الاستمتاع يتعين ولا يجزيء عنه الصيام والصدقة مع وجوده بخلاف ما يجب بالطيب واللباس قاله القاضي في خلافه والمنصوص عنه أنه يجبر قال في رواية الميموني والمتمتع إذا طاف فجامع قبل أن يقصر أو يحلق فإن ابن عباس قد أفتى بهذا بعينه عليه دم أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك وإنما يحل بالحلق أو التقصير وهكذا ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا إذا كان الدم شاة فإن كان بدنة قضى ولم يفسد حجة فهل هو على الترتيب أو التخيير على وجهين أحدهما أنه على الترتيب قاله ابن عقيل

مسألة التاسع الوطء في الفرج فإن كان قبل التحلل الأول أفسد الحج ووجب المضي في فاسده والحج من قابل وعليه بدنة وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من التنعيم ليطوف محرما

هذا الكلام فيه فصول : أحدهما أن الجماع حرام في الاحرام وهو من الكبائر لقوله سبحانه { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث } قال ابن عبد البر أجمع علماء المسلمين على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم حتى يطوف طواف الإفاضة

الفصل الثاني أن المحرم إذا وطيء في الإحرام فسد حجه والإحرام باق عليه وعليه أن يمضي فيه فيتمه ويكون حكم هذا الاحرام الفاسد حكم الإحرام الصحيح في تحريم المحظورات ووجوب الجزاء بقتل الصيد وغيره من المحظورات ثم عليه قضاء الحج من قابل وعليه أن يهدي بدنة

قال ابن عبد البر أجمعوا على أن من وطيء قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وعليه قضاء الحج والهدي قابلا

قال بعض أصحابنا لا نعلم في وجوب القضاء خلافا في المذهب ولا في غيره ونصوص أحمد وأصحابه توجب قضاء الحجة الفاسدة أكثر من أن تحصر وقد ذكر أبو الخطاب الحكم هذا كما ذكر غيره في المناسك وقال في الصيام من دخل في حجة تطوع أو صوم تطوع لزمه اتمامها فإن أفسدهما أو فات وقت الحج فهل يلزمه القضاء على روايتين وأصحابنا يعدون هذا غلطا وإنما الروايتان في الفوات خاصة وفي الإحصار أيضا لما روى يحيى بن أبي كثير قال أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم شك الراوي أن رجلا من جذام جامع إمرأته وهما محرمان فسأل الرجل رسول الله فقال لهما أقضيا نسككما وأهديا هديا ثم إرجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وأتما نسككما واهديا رواه أبو داود في المراسيل

وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب أن رجلا من جذام جامع أمرأته وهما محرمان فسأل الرجل النبي فقال لهما أتما حجكما ثم أرجعا وعليكما حجة أخرى من قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فأحرما وتفرقا ولا يؤاكل واحد منكما صاحبه ثم أتما مناسككما واهديا رواه النجاد وهذا المرسل قد شهد له ظاهر القرآن وعمل أصحاب رسول الله وعوام علماء الإسلام

وأيضا فإنه إجماع الصحابة والتابعين عن يزيد بن جابر قال سألنا مجاهدا عن الرجل يأتي إمراته وهو محرم قال كان على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما ثم يرجعان حلالا كل منهما لصاحبه حلالا حتى إذا كان من قابل حجا وأهديا وتفرقا من حيث أصابا فلم يجتمعا حتى يقضيا حجهما وعن عمر بن أسيد عن سيلاه قال كنت عند عبد الله بن عمرو فأتاه رجل فقال أهلكت نفسي فأفتني إني رأيت إمرأتي فأعجبتني فوقعت عليها ونحن محرمان فقال له هل تعرف ابن عمر قال لا فقال لي اذهب به إلى ابن عمر فانطلقت معه إلى ابن عمر فسأله وأنا معه عن ذلك فقال له ابن عمر أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فأقضوا ما يقضون وحل إذا حلوا فإذا كان العام المقبل فحج أنت وامرأتك وأهديا هديا قال فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما فرجع إلى عبد الله بن عمرو فقال هل تعرف ابن عباس قال لا قال فاذهب به إلى ابن عباس فسله قال فذهب إلى ابن عباس فسأله وأنا معه فقال له مثل قول ابن عمر فرجع إلى عبد الله بن عمرو فقال أفتني أنت فقال هل عسى أن أقول إلا كما قال صاحباي

وعن أبي بشر عن رجل من قريش من بني عبد الدار قال بينما نحن جلوس في المسجد الحرام إذا دخل رجل وهو يقول يا لهفة يا ويلة فقيل له ما شأنك فقال وقعت على أمرأتي وأنا محرم فقيل له ائت جبير بن مطعم فإنه يصلي عند المقام فأتاه فقال له أحرمت حتى إذا بلغت الصفاح زين لي الشيطان فوقعت على أمرأتي فقال أف لك لا أقول لك فيها شيئا وطرح بيده فقيل له أئت ابن عباس ابن عم رسول الله وهو في زمزم فسله فيفرج عنك قال فدفعه الناس حتى أدخلوه على ابن عباس فقال يابن عباس وقعت على إمرأتي وأنا محرم فقال اقضيا ما عليكما من نسككما هذا وعليكما الحج من قابل فإذا أتيتما على المكان الذي فعلتما فيه ما فعلتما فتفرقا ولا تجتمعان حتى تقضيان نسككما وعليكما الهدى جميعا قال أبو بشر فحدثت به سعيد بن جبير فقال صدقت هكذا كان يقول ابن عباس

وعن عبد العزيز بن رفيع قال رجل ابن عباس عن محرم جامع قال يمضيان لحجهما وينحر بدنة ثم إذا كان من قابل فعليه الحج ولا يمران على المكان الذي أصابا فيه ما أصابا إلا وهما محرمان ويتفرقا إذا أحرما رواهن سعيد

وعن مالك أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقالوا ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدى قال علي فإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما وذلك لأن الله أمر بإتمام الحج والعمرة فيجب عليهما المضي فيه إمتثالا لما أوجبته هذه الآية وعليهما القضاء لأنهما التزما حجة صحيحة ولم يوفيا ما التزماه فوجب عليهما الإتيان بما التزماه أولا ووجب الهدي لأن كل من فعل شيئا من المحظورات فعليه دم ووجب القضاء من قابل لأن القضاء على الفور هذا هو المذهب المنصوص وسواء قلنا الحج المبتدأ على الفور أو على التراخي لما تقدم من إجماع الصحابة على ذلك ولأن الأداء كان قد وجب فعله بالشروع فيه فصار واجبا على الفور والقضاء يقوم مقام الأداء ولأن

الفصل الثالث أنه لا فرق بين الوطء قبل الوقوف بعرفة أو بعده إذا وقع قبل التحلل الأول في أنه يفسد الحج وعليه القضاء وهدي بدنة لما روى النجاد عن مجاهد عن عمر بن الخطاب قال يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما وعليهما الحج من قابل ويفترقان من حيث وقع عليهما وينحر بدنة عنه وعنها

وعن الحكم بن عتيبة عن علي قال يفترقان ولا يجتمعان الا وهما حلالان وينحر كل واحد منهما جزورا وعليهما الحج من قابل يحرمان بمثل ما كانا أحرما به في أول مرة فإذا مرا بالمكان الذي أصابها فيه تفرقا فلم يجتمعا إلا وهما حلالان وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن رجل أصاب أمرأته وهو محرم قال يمضيان لوجههما ثم يحجان من قابل ويحرمان من حيث أحرما ويتفرقان ويهديان جزورا رواهن النجاد وقد تقدم عن ابن عباس مثل ذلك أيضا

فهؤلاء أصحاب رسول الله أوجبوا عليه القضاء والبدنة جميعا والهدي الذي فسروه هنا يبين الهدي المطلق الذي جاء في كلامهم وفي المرفوع المرسل أن المراد به البدنة

وهذا لأن الجماع فيه معنيان أنه محظور في الاحرام وهو أكبر المحظورات وأنه يفسد للإحرام فمن حيث هو محظور يوجب الفدية وهو أكبر مما يوجب شاة فأوجب بدنة ومن حيث فسد الاحرام وجب قضاؤه فحجة القضاء هي الحجة التي التزمها أولا وهذا كالوطء في رمضان يوجب الكفارة العظمى ويوجب القضاء

وإنما لم يفرق بين ما قبل الوقوف وما بعده لأن أصحاب رسول الله سئلوا عن المحرم إذا جامع أمرأته فأفتوا بما ذكرناه من غير استفصال ولا تفصيل وذلك يوجب عموم الحكم وفي أكثر مسائلهم لم يبين السائل أن الجماع كان قبل الوقوف ولأن ما بعد الوقوف وقبل الرمي احرام تام ففسد الحج بالوطء فيه كما قبل الوقوف وهذا لأن الوقوف يوجب ادراك الحج ويؤمن من فواته وادراك العبادة في وقتها لا يمنع ورود الفساد عليها كما لو أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها أو أدرك ركعة من الجمعة أو الجماعة مع الإمام فإنه قد أدرك ومع هذا فلو ورد عليها الفساد لفسدت قال ولأن كل ما أفسد العبادة إذا ورد قبل الخروج منها أفسدها وإن كان قد مضى معظمها كما لو أكل قبيل غروب الشمس أو أحدث قبل السلام أو قبل القعدة الأخيرة

فإن قيل بعد الوقوف لم يبق عليه ركن إلا الطواف والوطء قبل الإفاضة وبعد التحلل لا يفسد فإذا لا يبطل قبل الإفاضة لم يبق إلا واجبات من الوقوف بمزدلفة ورمي الجمرة وهذه لو تركها بالكلية لم يبطل حجه فأن لا يبطل إذا أفسدها أولى وأحرى

قيل العبادة بالكلية أخف من إبطالها ولهذا لو ترك صوم رمضان لم تجب عليه كفارة ولو جامع فيه مع النية وجبت الكفارة ولو ترك حج النافلة لم يكن عليه شيء ولو أبطله لأثم ولزمه القضاء والهدي وكذلك سائر الأعمال قد يكره إبطالها وإن لم يكره تركها والصلاة في أول الوقت له تأخيرها وليس له إبطالها فإذا وطيء فقد راغم العبادة وتعدي الحد بخلاف التارك

وأيضا فإنه لو ترك رمي الجمرة حتى فات وقتها أو ترك الحلق فإن احرامه باق عليه حتى الفصل الرابع

إذا وطيء بعد التحلل الأول لم يبطل حجه لأنه قد حل من جميع المحظورات إلا النساء أو جاز له التحلل منها وقد قضى تفثه كما أمره الله وما خرج منه وقضاه لا يمكن إبطاله نعم يبطل ما بقي منه كما سنذكره

ولأنه بعد التحلل الأول ليس بمحرم إذ لو كان محرما لما جاز له قتل الصيد ولا لبس الثياب ولا الطيب ولا حلق الشعر لكن عليه بقية من الاحرام هو تحريم الوطء ومجرد تحريم الوطء لا يبطل ما مضى قبله من العبادة

ومعنى قولنا إذا وطىء بعد التحلل الأول أي بعد رمي جمرة العقبة سواء ذبح وحلق أو لم يحلق ولم يذبح وسواء قلنا التحلل يحصل بمجرد الرمي أو لا يحصل إلا به وبالحلق هذا هو المنصوص عن أحمد وهو الذي عليه قدماء الأصحاب ومن حقق هذا منهم مثل الخرقي وأبي بكر وابن أبي موسى وغيرهم فانهم كلهم جعلوا الفرق بين ما قبل رمي جمرة العقبة وما بعدها من غير تعرض إلى الحلق

قال في رواية أبي الحارث في الذي يطأ ولم يرم الجمرة أفسد حجه وإن وطيء بعد رمي الجمرة فعليه أن يأتي مسجد عائشة فيحرم بعمرة فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال وعليه دم

وهذا لأننا إن قلنا التحلل الأول يحصل بالرمي وحده فلا كلام سواء قلنا الرمي واجب أو مستحب

وإن قلنا يحصل بالرمى والحلق والوطء قبل الحلق كالرمي قبل الحلق في العمرة وذلك غير مفسد أيضا لأنه جاز له الخروج من هذا الاحرام بالحلق

وإذا جاز الخروج بفعل ما ينافيه لم يكن الإحرام باقيا على حاله وإلى هذا أشار أحمد في رواية أبي الحارث فقال الإحرام قائم عليه فإذا رمى الجمرة انتقض احرامه

وأما القاضي في المجرد وأصحابه فعندهم إذا وطيء قبل الحلق وقلنا هو نسك واجب فسد حجه لأنه وطيء قبل التحلل الأول وهذا يضاهى قولهم تفسد عمرته إذا وطيء فيها قبل الحلق

وإن قدم الحلق قبل الرمي ووطيء بعده

وإن طاف قبل الرمي والحلق والذبح ثم وطيء لم يفسد نسكه لأنه لم يبق عليه ركن وقد تحلل وقد طاف في احرام صحيح وعليه دم فقط ويحتمل أنه لا دم عليه ويتوجه أن يلزمه الاحرام من التنعيم ليرمي في احرام صحيح

ولو أخر الرمي وسائر أفعال التحلل عن أيام منى لم يتحلل فلو وطيء فسد حجه أيضا نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي فيمن لم يرم جمرة العقبة إلى الغد ووطيء النساء قبل الغد فسد حجه فقيل له إنهم يقولون إذا كان الوطء بعد خروج وقت الرمي فليس هو بمنزلة من وطيء قبل الرمي فقال أليس قد وطيء قبل الرمي وانما يحل الوطء بالرمي

قال القاضي وابن عقيل فقد نص على أن التحلل لا يقع بخروج وقته وإنما يحصل بفعل التحلل لأنها عبادة ذات أفعال فلم يقع التحلل منها إلا بفعل التحلل كالصلاة لا يقع التحلل منها إلا بفعل التحلل وهو السلام بخلاف الصوم فإنه فعل واحد فيقع التحلل منه بخروج وقته وإذا ثبت أن التحلل لا يقع بخروج وقت التحلل فإذا وطيء قبل أفعال التحلل وهو الرمي والطواف والحلاق فيجب أن يفسد حجة كما لو كان الوقت باقيا

وهذا لأن فوات وقت الرمي لا يوجب حصول التحلل بمجرد مضي الوقت كما أن فوات وقت الوقوف لا يوجب حصول التحلل من الحج بمضيه بل يتحلل بغير الرمي من الحلق والطواف كما يتحلل من فاته الحج بالطواف والسعي

فصل

وهل عليه بدنة أو شاة على روايتين إحداهما عليه بدنه نقلها الميموني فيمن بقى عليه شوط هل عليه دم قال الدم قليل ولكن عليه بدنة وأرجو أن تجزءه لما روى مجاهد عن ابن عباس قال إذا وقع الرجل على أمرأته بعد كل شيء غير الزيارة فعليه ناقة ينحرها

وعن عطاء عن ابن عباس أنه قال عليه بدنة وقد تم حجة رواهما سعيد بن منصور وابن أبي عروبة ولفظه كان يأمر من غشى أهله بعد رمي الجمرة ببدنة

وروي عن إبراهيم وعطاء والشعبي مثل ذلك وروي أيضا عن ابن عباس وعطاء وإبراهيم والشعبي على كل واحد منهما جزرو ولا يعرف له مخالف في ايجاب البدنة

وعن عطاء عن ابن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة رواه مالك

والثانية عليه دم شاة أو غيرها نقلها بكر بن محمد كما ذكره الشيخ وهو اختيار الخرقي وأبي بكر وابن أبي موسى

فصل

وأما الواجب عليه إذا وطيء بعد التحلل الأول فقد قال في رواية أبي الحارث يأتي مسجد عائشة فيحرم بعمرة فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال وعليه دم وقال في رواية الميموني وابن منصور وابن الحكم إذا أصاب الرجل أهله بعد رمي الجمرة ينتقض احرامه يتعمر من التنعيم ويهريق دم شاة ويجزؤه فإذا خرج إلى التنعيم فأحرم فيكون احرام مكان احرام ويهريق دما يذهب إلى قول ابن عباس يأتي بدم ويتعمر من التنعيم

وقال في رواية المروذي فيمن وطيء قبل رمي جمرة العقبة فسد حجه وعليه الحج من قابل فإن رمي وحلق وذبح ووطيء قبل أن يزور البيت عليه دم ويتعمر من التنعيم لأن عليه أربعة أميال مكان أربعة وكذلك نقل أبو طالب يعتمر من التنعيم لأنه من منى إلى مكة أربعة أميال ومن التنعيم أربعة أميال

وقال في رواية الفضل بن زياد فيمن واقع قبل الزيارة يعتمر من التنعيم بعد انقضاء أيام التشريق

وذلك لما روى قتادة عن علي بن عبد الله البارقي أن رجلا ومرأة أتيا ابن عمر قضيا المناسك كلها ما خلا الطواف فغشيها فقال ابن عمر عليهما الحج عاما قابلا فقال أنا إنسانا من أهل عمان وإن دارنا نائية فقال وإن كنتما من أهل عمان وكانت داركما نائية حجا عاما قابلا فأتيا ابن عباس فأمرهما أن يأتيا التنعيم فيهلا منه بعمرة فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال وإحرام مكان إحرام وطواف مكان طواف رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك عنه وروى مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة قال لا أظنه إلا عن ابن عباس قال الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يتعمر ويهدي ورواه النجاد عن عكرمة عن ابن عباس من غير شك فإذا اختلف الصحابة على قولين أحدهما إيجاب حج كامل والثاني إيجاب عمرة لم يجز الخروج عنهما والإجتزاء بدون ذلك ولا يعرف في الصحابة من قال بخلاف هذين وقد تقدم أنه لا يفسد جميع الحجة فبقى قول ابن عباس

وأيضا فإنه كان قد بقى عليه من الحج أن يفيض من منى إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة ويسعى معه وإن كان لم يسع أولا فيما بقي عليه من إحرامه وهو الاحرام من النساء خاصة فإذا وطيء فقد فسد هذا الاحرام فإن ما يفسد الاحرام الكامل يفسد الإحرام الناقص بطريق الأولى ولو لم يجب عليه استبقاء الاحرام من النساء إلى تمام الإفاضة لجاز الوطء قبلها وهو غير جائز بالسنة والإجماع فإذا فسد ما بقي من الاحرام فلو جاز أن يكتفي به لجاز الاكتفاء بالاحرام الفاسد عن الصحيح ولو وقعت الإفاضة وطوافها في غير احرام صحيح وهذا غير مجزيء وإذا وجب أن يأتي بإحرام صحيح فلا بد أن يخرج إلى الحل ليجمع في احرامه بين الحل والحرم ثم اختلف أصحابنا في صفة ما يفعل فمنهم من أطلق القول بأن عليه عمرة يخرج إلى التنعيم فيهل بها على لفظ المنقول عن ابن عباس وأحمد

وقال الخرقي يمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف وهو محرم وكذلك قال ابن أبي موسى ويخرجان إلى التنعيم فيحرمان بعمرة ليطوفا طواف الإفاضة وهما محرمان إنما الواجب عليه الإحرام فقط ليطوف في احرام صحيح وليس عليه سعي ولا حلق لكن هل يلبي وكيف يحرم

وقال القاضي في اخر أمره يمضي في بقية الحج في الاحرام الذي أفسده فيطوف طواف الافاضة ويسعى إن كان لم يسع في ذلك الاحرام الفاسد ثم يقضي هذا باحرام صحيح من الحل يطوف فيه ويسعى سواء كان قد سعى عقب طواف القدوم أو لم يسع قال لأن أحمد أطلق القول في رواية الجماعة أنه يحرم بعمرة ولم يقل يمضي في بقية احرامه ومعناه أنه يحرم ليفعل أفعال العمرة وقد نقل عنه ما يدل على أنه يمضي فيما بقى

وقال في رواية الفضل إنه يعتمر من التنعيم بعد إنقضاء أيام التشريق فقد أمره بتأخير الإحرام بعد أيام التشريق وليس هذا إلا لاشتغاله ببقية أفعال الحج لأن القضاء إنما يكون تمام ما بقي عليه قال وقد نص فيمن نسى طواف الزيارة حتى رجع بلده يدخل متعمرا فيطوف بعمرة ثم يطوف طواف الزيارة

ووجه هذا أنه قد أفسد ما بقى عليه والافساد يوجب المضي فيما بقى من النسك وقضاؤه فوجب عليه أن يمضي فيه ووجب القضاء لكن الإحرام المبتدأ لا يكون إلا بحج أو عمرة فوجب عليه أن يأتي بعمرة تامة تكون قضاء لما أفسده من بقية النسك وعلى هذا فيلبي في احرامه ويحلق أو يقصر إذا قضاه لأنها عمرة تامة

وقال القاضي في المجرد والشريف أبو جعفر وابن عقيل وغيرهم إنما عليه عمرة فقط وهذا هو المنقول عن ابن عباس وأحمد وهو الصواب

ثم اختلفت عباراتهم فقال القاضي في موضع والشريف معناه أنه يحرم للطواف والسعي وهو أفعال العمرة فالمعنى أنه يأتي في احرامه بأفعال العمرة وقال ابن عقيل كلام أحمد يدل على أنه يحرم بنفس العمرة حتى لا يكون احرامه لمجرد الطواف والسعي الذي هو فعل من أفعال الحج بل يحرم بنسك كامل ويجعل ما بقى من الحج داخلا في أثنائه ولا يكفيه أن يأتي بما بقي من غير احرام وهذا أجود فعليه أن يأتي بعمرة تامة يتجرد لها ويهل من الحل ويطوف ويسعى ويقصر أو يحلق ويعتقد أن هذه العمرة قائمة مقام ما بقى عليه وأن طوافها هو طواف الحج الذي كان عليه فإن ابن عباس وأحمد صرحا بأنه يتعمر ويهدي وفسرا ذلك بأربعة أميال مكان أربعة أميال

نعم وجب عليه انشاء الإحرام ليأتي بما بقى عليه في احرام صحيح ومن لوازم الإحرام المبتدأ أن يتجنب فيه جميع المحظورات وأن يهل فيه وأن لا يتحلل منه إلا بعد السعي والحلق وهذه الزيادات وإن لم تكن كانت واجبة فإنها وجبت لجبر ما قد فسد من احرامه إذ لا يمكن الجبر إلا بإحرام صحيح ولا يكون الإحرام الصحيح إلا هكذا

وقول أحمد يعتمر أيام التشريق ليس فيه دليل على أنه يفيض في ذلك الإحرام الفاسد وإنما أمره بذلك لأن العمرة يشرع أن تكون بعد أيام التشريق وهو يرمي الجمار أيام التشريق لأن الجمار إنما يكون بعد الحل كله فوقوعه بعد فساد الإحرام لا يضره ووقوع طواف الإفاضة بعد أيام منى جائز نعم قد يكره وإنما لم يجب عليه المضي فيما بقى باحرامه الفاسد وقضاؤه لأن القضاء المشروع يحكى الأداء وهنا ليس القضاء مثل الأداء وإنما وجب عليه عمرة فيها احرام تام وخروج إلى الحل وطواف وسعي وغير ذلك وإنما كان عليه طواف فقط وهو متطيب لابس يفيض إلى مكة من منى فأغنى ايجاب هذه الزيادات عن طوافه في ذلك الإحرام الفاسد

وأما من أوجب عليه احراما صحيحا ليطوف فيه فقط فهذا خلاف الأصول لأن كل احرام صحيح من الحل يتضمن الإهلال لا بد له من إحلال والمحرم لا يحل إلا بالحلق أو التقصير بعد طواف وسعي فكيف يحل بمجرد السعي اللهم إلا على قولنا بأن السعي والحلاق شيئان غير واجبين فهنا يحل بمجرد الطواف ويكون هذا عمرة

ولا يتعين الإحرام من التنعيم بل له أن يحرم من أي الجوانب شاء

وإن إعتمر في أيام التشريق

وإن وطىء بعد افاضته وقبل طوافه أو قبل تكميل الطواف فنقل الميموني

مسألة وإن وطيء في العمرة أفسدها وعليه شاة

وجملة ذلك أن ما يفسد العمرة يفسد الحج وهو الوطء وإلا نزال عن مباشرة في إحدى الروايتين ويجب المضي في فسادها كالمضي في فاسد الحج وحكم الاحرام باق عليه كما تقدم في الحج وعليه قضاؤها على الفور بحسب الإمكان من المكان الذي أحرم به أولا إلا أن يكون أحرم دون الميقات فعليه أن يحرم من الميقات

قال أحمد في رواية أبي طالب وإذا واقع المحرم أمرأته وهما معتمران فقد أفسدا عمرتها وعليهما قضاء يرجعان إن كان عليهما فيهلان من حيث أحرما من الميقات ولا يجزئهما إلا من الميقات الذي أهلا بالعمرة وقضيا مثل ما أفسدا وإن خشيا الفوات ولم يقدرا أن يرجعا أحرما من مكة وحجا حجهما صحيح فإذا كان يوم النحر ذبحا لتركهما الميقات لما دخلا بغير احرام من الميقات فإذا فرغا من حجهما خرجا إلى ذي الحليفة فأحرما بعمرة مكان العمرة التي أفسدا فإذا قدما مكة ذبح كل واحد منهما هديا لما أفسدا من عمرتها من الوقوع فإذا كانت بدنة كانت أجود وإلا فشاة تجزؤه وعلى كل واحد منهما هدي إن كان استكرهها وابن عباس يقول على كل واحد منهما هدي أكرهها أو لم يكرها

فقد بين أنه يجب قضاؤها على الفور إلا إذا خشى فوت الحج فإنه يحرم بالحج وعليه دم غير دم الفساد لدخوله مكة بغير احرام صحيح كما لو دخلها حلالا وأحرم بالحج منها والدم الواجب شاة والأفضل بدنة هذا منصوصه وقول أصحابه

ويتخرج إذا أوجبنا في الوطء بعد التحلل الأول بدنة أنه يجب في العمرة التامة بدنة وأولى

والوطء المفسد للعمرة بلا ريب إذا وقع قبل كمال طوافها فإن وطئها بعد الطواف وقبل السعي وقلنا السعي ركن أفسدها أيضا وإن قلنا هو واجب

وإن وطئها بعد السعي وقبل الحلق أو بعد الطواف قبل الحلق وقلنا السعي سنة لم تبطل عمرته بحال سواء قلنا الحلاق واجب أو سنة هذا هو المنصوص عنه في غير موضع وعليه عامة أصحابه قال ابن أبي موسى من وطيء في العمرة بعد الطواف قبل السعي بين الصفا والمروة أفسد العمرة وعليه دم شاة للفساد وعمرة مكانه وإن وطيء فيها بعد السعي قبل الحلاق أساء والعمرة صحيحه وعليه دم قال في رواية أبي طالب في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى فسدت عمرته وعليه مكانها ولو طاف وسعى ثم وطيء قبل أن يحلق ويقصر فعليه دم

وقال في رواية أبي داود إذا جامع قبل أن يقصر فقال ابن عباس عليه دم وإنما يحل بالحلق أو التقصير فقد نص على بقاء الاحرام ووجوب الدم مع صحة العمرة وعنه رواية أخرى لا دم عليه وهذا بناء على أن الحلاق مستحب وأنه يتحلل بدونه قال في رواية ابن إبراهيم وابن منصور فإذا أصاب أهله في العمرة قبل أن يقصر فإن الدم لهذا عندي كثير

وقال القاضي في المجرد إذا وطيء قبل الحلق فسدت عمرته وعليه دم لأنه وطيء قبل التحلل من احرامه فأفسده كما لو وطيء في الحج قبل التحلل الأول ولأنه احرام تام صادفه الوطء فأفسده كاحرام الحج ولأن الحلق يحل به من العبادة فإذا ورد قبله أفسدها كما لو أحدث المصلي قبل السلام وعلى هذا يكون الحلق ركنا في العمرة لأن الواجب هو ما يجبره الدم إذا ترك والحلق لا يتصور تركه على هذا القول لأنه ما لم يطأ ولم يحلق فاحرامه باق وهو لم يتحلل وكلما فعل محظورا فعليه جزاؤه وإذا وطيء لم يخرج الفساد من الإحرام بل يحلق ويقضي وأما على المذهب فيفوت الحلق بالوطء لما روى سعيد ثنا هشيم ثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال جاءت أمرأة إلى ابن عباس رضي الله عنه فذكرت أن زوجها أصابها وكانت اعتمرت فوقع بها قبل أن تقصر فقال ابن عباس شبق شديد شبق شديد مرتين فاستحيت المرأة فانصرفت وكره ابن عباس ما فرط منه وندم على ما قال واستحيا من ذلك ثم قال علي بالمرأة فأتي بها فقال عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك قالت فأي ذلك أفضل قال النسك قالت فأي النسك أفضل قال إن شئت فناقة وإن شئت فبقره قالت أي ذلك أفضل قال انحري بدنة

وقال ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أن أمرأة أتت ابن عباس فقالت إني خرجت مع زوجي فأحرمنا بالعمرة فطفت بالبيت وبين الصفا والمروة فوقع بها قبل أن تقصر ثم ذكر نحوه وروى سعيد بن أبي عروبة في المناسك عن قتادة عن علي بن عبد الله البارقي أن رجلا وامرأته أتيا ابن عباس قد قضيا احرامهما من عمرتهما ما خلا التقصير فغشيها قال أيكما كان أعجل وقال بعدما ذهب بصره فاستحيت المرأة فأدبرت فدعاها فقال عليكما فدية صيام أو صدقة أو نسك فقالت المرأة أي ذلك أفضل قال النسك قالت فأي النسك أفضل قال ناقة تنحرينها ولا يعرف له في الصحابة مخالف

وأيضا فإنه وإن كان على احرامه فقد نقض احرامه بجواز التحلل منه بالحلق فلم يبق احراما تاما

وأيضا فالحلق وإن كان نسكا واجبا فلا ريب أنه تحلل من الاحرام ليس هو ممال يفعل في الاحرام بل هو برزخ بين كمال الحرم وكمال الحل فإذا وطيء فإنما أساء لكونه قد تحلل بغير الحلق ومثل هذا لا يفسد الاحرام فعلى هذا لا يحلق بعد الوطء ولا يقصر

وأما كونه إحراما تاما فغير مسلم

مسألة ولا يفسد النسك بغيره

قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء حال الاحرام إلا الجماع

وذلك لأن الله سبحانه ذكر حلق الرأس قبل الاحلال للمعذور وأوجب به الفدية ولم يوجب القضاء كما أوجبه في من أفطر في رمضان لمرض أو سفر وحرم قتل الصيد حال الاحرام وذكر فيه العقوبة والجزاء ولم يفسد به الاحرام ولم يوجب قضاء ذلك الاحرام وقد أمر النبي من أحرم في جبته أن ينزعها ولم يأمره بكفارة ولا قضاء

والفرق بين المباشرة وبين غيرها من المحظورات من وجوه أحدها أن سائر محظورات الاحرام تباح لعذر فإنه إذا احتاج إلى اللباس والطيب والحلق وقتل الصيد فعله وافتدى والمباشرة لا تباح فإن قيل فلو كان به شبق شديد يخاف من تشقق أنثييه وقد قلتم إنه يفطر في رمضان ويقضي

فصل

وكل وطء في الفرج فإنه يفسد سواء كان قبلا أو دبرا من ادمى أو بهيمة وقد خرج أبو الخطاب وغيره في وطء البهيمة وجها أنه لا يبطل وسوى حكمه على الروايتين في وجوب الحد به وفرق غيرهم من أصحابنا كما تقدم في الصيام فأما إن وطيء ذكرا أو بهيمة دون الفرج

وإن حك ذكره بسرجه أو رحل دابته أو غير ذلك حتى أنزل فهو كالاستمناء

فصل

ويفسد به الاحرام سواء فعله عامدا أو ساهيا وسواء كان عالما بأنه محرم أو بأن الوطء حرام عليه أو بأنه مفسد أو جاهل ببعض ذلك هذا نصه ومذهبه قال في رواية أبي طالب قال سفيان ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء إذا أتى أهله وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه

قال أحمد إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والنسيان والخطأ وكل شيء من النسيان بعد هذه الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى رأسه ثم ذكر ألقاها عن رأسه وليس عليه شيء أو لبس ثوبا أو خفا نزعه وليس عليه شيء وقال في رواية صالح وحنبل من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوعا عنه يلزمه لو وطيء أهله وهو محرم أن لا يكون عليه شيء وإذا قتل صيدا ناسيا لا يكون عليه شيء

ويتخرج أنه لا يفسد الاحرام بوطء الجاهل والناسي ولا شيء عليه كرواية عنه في قتل الصيد لا سيما وقد سوى هو بين الجماع وقتل الصيد

وقد خرج أصحابنا تخريجا أن الحلق والتقليم مثل قتل الصيد فيلحق الجماع بذلك وقد يقال الجماع أولى بذلك من قتل الصيد لأنه أقرب إلى الإستمتاع الذي هو اللباس والطيب من قتل الصيد فإنه إتلاف محض وعلى رواية ذكرها بعض أصحابنا أن جماع الناسي لا يبطل الصوم

ويتخرج أنه يوجب الكفارة ولا يبطل الاحرام كإحدى الروايتين فيمن جامع ناسيا أو جاهلا حيث قلنا يبطل الصوم ولا كفارة فيه فإن إبطال الصوم نظير إيجاب الكفارة في الاحرام ووجوب الكفارة هناك نظير فساد الاحرام لأن كفارة الصوم لا يجب الإجماع به كما لا يبطل الاحرام إلا بالجماع بخلاف ما يفسد الصيام ويوجب الكفارة في الاحرام فإنه متعدد

لكن محظورات الإحرام عند أصحابنا أغلظ من محظورات الصيام لوجهين أحدهما أن الاحرام في نفسه أوكد من الصيام من وجوه متعددة مثل كونه لا يقع إلا لازما ولا يخرج منه بالفساد وكونه يحرم فيه جميع المباشرات وكونه لا يخرج منه بالأعذار

الثاني أن الإحرام عليه علامة تدل عليه من التجرد والتلبية وأعمال النسك ورؤية المشاعر ومخالطة الحجيج فلا يعذر فيه بالنسيان بخلاف الصيام فإنه ترك محض ووجه هذا عموم قوله سبحانه { لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله سبحانه قد فعلت

وإيجاب القضاء والهدي مؤاخذة وقول النبي عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وأيضا فإن الجماع منهى عنه والمقصود تركه وما نهى عنه إذا فعل سهوا أو نسيانا لم يكن فاعله عاصيا ولا مخالفا بل يكون وجود فعله كعدمه ومن سلك هذه الطريقة طردها في جميع المنهيات

وأيضا فإن الجماع استمتاع ففرق بين عمده وسهوه كاللباس والطيب وعكسه الحلق وقتل الصيد ووجه المذهب ما تقدم في جماع الناسي في رمضان فهنا أولى

وأيضا فإن ما تقدم من الحديث المرفوع وفتاوى الصحابة في أوقات متفرقة لسؤل شتى ليس فيها استفصال للسائل هل فعلت هذا عالما أو جاهلا ولو في بعض تلك الوقائع فإن المسلم الذي قد أم بيت الله وهو معظم لحرماته إذا وقع منه الجماع فوقوعه منه لعدم علمه بتحريمه أو اعتقاده زوال الاحرام أو نسيانه أنه محرم أظهر من وقوعه منه عالما بأنه محرم ذاكرا لاحرامه لا سيما والعهد قريب والدين غض والسابقون الأولون بين ظهرانيهم وقد يظهر هذا الاحتمال في مثل الذي واقع إمرأته بعد السعي قبل التقصير فإنه موضع شبهة قد أعتقد جماعة من العلماء جواز ذلك ويؤيد ظهوره في تلك الوقائع أنه لم ينقل فيها توبيخ للمجامع وتقريع له وإكبار لما فعله وإعظام له مع أن جماع المحرم من الذنوب الشديدة وهو انتهاك للحرمة وتعد للحدود ولولا استشعار المفتين نوع عذر للسؤال لأغلظوا لهم في الكلام

وأيضا ما احتج به أحمد وهو أن الجماع أمر قد وقع واستقر فلا يمكن رده وتلافيه بقطعه وإزالة فصار مثل الإتلافات مثل قتل الصيد وحلق الشعر حيث لا يمكن رد التلف ولا إعادته وعكسه الطيب واللباس فإنه يمكن نزع اللباس وإزالة الطيب إذا ذكر وعلم التحريم وذلك مثل الكفارة الماحية لما صدر منه ولهذا أمر أن يفزع إلى التلبية وها هنا المجامع إذا ذكر بعد قضاء الجماع وعلم التحريم لم يمكن منه فعل فيه قطع لما مضى ولا ترك له

يبين هذا أن المحرم قد نهى عن أشياء فإذا فعلها ناسيا فالنسيان يزيل العقوبة ولا يزيل عنه الكفارة الجابرة لما فعل والماحية للذنب الذي انعقد سببه والزاجرة عن قلة التيقظ والإستذكار ولهذا وجبت الكفارة بقتل المسلم خطأ مع أن الدية بدل عنه ووجبت الكفارة بعود المظاهر وإن كان ناسيا أو جاهلا فالمحظور المستدام يمكن الإقلاع عنه ومفارقته فجعل هذا كفارة له عند من يقول به ومحظور قد فات على وجه لا يمكن رده ولا تركه فلا بد من كفارة

ولا يصح أن يقال فما مضى من اللباس والطيب لا يمكن رده لأن اللباس والطيب المستدام فعل واحد ولهذا لو كفر عنه وإستدامه إلى اخر الإحرام لم يجب عليه كفارة أخرى فإزالته إزالة لنفس ما أوجب الكفارة

والجماع المتكرر أفعال متفرقة كقتل صيود ولهذا لو كفر عن جماع ثم جامع كان عليه كفارة أخرى فذلك الجماع الذي وقع منه لا سبيل إلى إستدراكه ورد البتة يبين هذا أن اللابس والمتطيب يتأتى منه إمتثال النهي عند العلم والذكر لمفارقة المنهي عنه بخلاف المجامع والقاتل فإنه لا يتأتى منه الإمتثال بالفعل لكن بالعزم

فإن قيل فلو لبس وتطيب وأزالهما ثم ذكر

قيل ذانك الفعلان مبناهما على الإستدامه فإذا لم يستدمهما كان أولى أن لا تجب عليه كفارة وطرده المجامع لو ذكر فنزع فإن نزعه لا يعد مفارقة للمحظور لأنه لا بد من نزع قريب فلم يكن بذلك النزع متلافيا لما فرط فيه

وأيضا فإن الجماع سبب يوجب القضاء فاستوى عمده وسهوه كالفوات ولا يصح الفرق بكون الفوات بترك ركن وهذا بفعل محظور لأن القتل والعلم فعل محظور وقد أوجب مقتضاه

وأيضا فإن الجماع أغلظ المحظورات وأكبر المنهيات وجنسه لا يخلوا عن موجب ومقتض فإنه لا يقع باطلا قط فإنه إن وقع في ملك قرر الملك بحيث يستقر المهر إن كانت زوجة ويستقر الثمن والملك إن كانت جارية معيبة أو فيها خيار عمدا وقع أو سهوا وإن وقع في غير الملك فلا يخلوا عن عقر أو عقر وعقوبة أو عقوبة فقط عند من يقول به وهو ينشر حرمة المصاهرة في ملك اليمين والنكاح الفاسد والوطء بالشبهة بالإجماع

فإذا وقع في الإحرام الذي هو أغلظ العبادات ولم يكن له أثر كان إخراجا له عن حقيقته ومقتضاه لا سيما والمحرم معه من العلامات على إحرامه ما يذكره بحاله ويزجره عن مواقعة هذا المحظور

وأيضا فإن إفساده للإحرام من باب خطاب الوضع والأخبار الذي هو ترتيب الأحكام على الأسباب وقد دلت السنة والإجماع على أن الجماع محرم وأنه يفسد الاحرام ويوجب القضاء والهدي فإذا فعله ناسيا أو جاهلا كان ذلك عذرا في الذم والعقاب اللذين هما من توابع المعصية الأمر والنهي أما جعل ذلك مانعا من إفساد الحج وإيجاب القضاء والهدي فلا بد له من دليل فإن ما كان من باب ترتيب الأحكام على الأسباب لا يؤثر فيه هذا إلا بدليل وأكثر الأصول التي يقع فيها الفساد ويجب القضاء إذا وجد المفسد مع العذر فمن ذلك الطهارة فإنها تفسد بوجود مفسداتها عمدا وسهوا والصلاة تبطل بوجود العمل الكثير عمدا وسهوا أو بمرور القاطع بين يديه عمدا أو سهوا وفي الكلام والأكل خلاف معروف وكذلك ملك النكاح ما يطرأ عليه فيفسده من صهر ورضاع وغيرهما لا فرق بين وملك الأموال

وموجبات الكفارات في غالب الأمر يوجبها مع العمد والسهو ككفارة القتل والظهار وترك واجبات الحج والحج قد يغلظ على غيره فإلحاقة بأكثر الأصول أولى من إلحاقه بأقلها ثم لم يجء أصل في ذلك إلا في الأكل في الصيام

فأما ما دون الجماع من المحظورات فما قيل فيه أنه يفسد الاحرام فهو كالجماع وأما ما لا يفسده

فصل

ويجب أن يقضي مثل الذي أفسده إن كان حجا قضى حجا وإن كان عمرة قضى عمرة وإن كان عمرة وحجة قضاهما وعليه أن يحرم من أبعد الموضعين وهما المكان الذي أحرم منه أولا وميقات بلده فلو كان أحرم بالعمرة أو الحجة الفاسدة من دون الميقات فعليه أن يحرم في القضاء من الميقات لأنه لا يجوز لأحد يريد الحج والعمرة أن يجاوز الميقات إلا محرما ولأن تركه لواجب أو فعله لمحظور في الأداء لا يسوغ له تعدي حدود الله في القضاء وإن كان قد أحرم بهما من فوق الميقات مثل أن يكون قد أحرم في مصر فعليه أن يحرم بالقضاء من ذلك الموضع هذا نصه ومذهبه قال في رواية أبي طالب في الرجل إذا واقع أمرأته في العمره عليهما قضاؤها من حيث أهلا بالعمرة لا يجزئهما إلا من حيث أهلا { والحرمات قصاص }

وقال في رواية ابن مشيش إذا أفسد الرجل الحج فعليه الحج من قابل من حيث أوجب الاحرام قيل له فإن كان من أهل بغداد وقد أوجب الاحرام على نفسه ولم يكن له من قابل زاد ولا راحلة فعليه متى وجد

وقد نص في المحصر على خلاف ذلك لما تقدم عن ابن عباس أنه قال ويحرمان من حيث أحرما ولم ينقل عن صحابي خلافه لقوله تعالى { والحرمات } فأوجب على من انتهك حرمة

فإن قيل قد تقدم في الحديثين المرسلين حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وتفرقا وهو قول النخعي وحظه من القياس وافر لأن تلك المسافة قطعها بالاحرام الصحيح وإنما يقضي ما أفسده في المستقبل ويؤيد هذا أن الواطىء بعد جمرة العقبة يقضي ما بقى عليه

فصل

وليس عليه إلا قضاء واحد فإن كانت الحجة المقضية حجة الإسلام سقط الفرض عنه إذا قضاها وكذلك إذا كانت نذرا وكذلك لو كانت قضاء فأفسدها لم يجب عليه إلا قضاء واحد حتى لو أفسد القضاء ألف مرة لم يجب عليه إلا قضاء الواجب الأول كسائر العبادات إذا قضاها لأن كل قضاء يفسده إذا قضاه فإن قضاءه يقوم مقامه فإذا أفسد هذا القضاء فإن قضاءه يقوم مقامه وهلم جرا فمتى قضى قضاء لم يفسده فقد أدى الواجب وقد قيل لأحمد أيتهما حجه التي أفسدها أو التي قضاها قال لا أدري

فصل

وينحر هدي الفساد في عام القضاء نص عليه قال في رواية أبي طالب إذا إذا وطيء وهو محرم أو قارن فسد حجه في سنته التي وطيء فيها فإن كان معه هدي نحره وإلا فليس عليه هدي وقد فسد حجه إلى قابل إذا حج أهدى وكان عطاء يقول يعجل الهدي في هذه السنة فيقول ما يدري ما يحدث عليه والذي أقول به إن كان معه هدي نحره وإذا حج من قابل أهدى وإن لم يكن معه هدي فليس عليه حتى يحج من قابل وكذلك نقل الأثرم وقال القاضي يجب إخراج الكفارة في السنة التي أفسدها ولا يلزمه كفارة ثانية في السنة التي يقضي فيها قال ومعنى قول أحمد في رواية الأثرم إن كان معه هدي نحره ويهدي في السنة الثانية يعني به هديا أوجبه على نفسه وقوله يهدي في السنة يعني يكون في ذمته

قال ابن أبي موسى فسد حجهما وعلى كل واحد منهما بدنة والحج من قابل إن كانت طاوعته وإن استكرها كفر عنها وأحجها من قابل من ماله وفرق بينهما في المكان الذي أصابها فيه في العام الماضي

وقيل عنه يجزئهما بدنة واحدة طاوعته أم أكرهها لأن الهدي قد وجب عليه بنفس الإفساد ومواقعة المحظور فوجب إخراجه حينئذ كسائر الدماء الواجبة بفعل المحظورات

ووجه المنصوص أن الحديثين المرسلين واثار الصحابة عامتها إنما فيها الأمر بالهدي مع القضاء وهي العمدة في هذا الباب لكن بعض ألفاظها محتملة وأكثر مفسر كما تقدم

وأيضا فإنه إذا وجب القضاء والهدي فإنما يخرج الهدي مع القضاء كهدي الفوات وعكسه الأحصار

وأيضا فإن الهدي إنما جبران للإحرام وهذا الاحرام الفاسد إنما ينجبر بالقضاء والهدي بخلاف الاحرام الصحيح فإنه ينجبر بمجرد الهدى فأما إن أتى في الاحرام الفاسد محظورا مثل اللباس والطيب وقتل الصيد فإنه يخرجه فإن أخرج هدي الفساد قبل القضاء وليس عليه بالإفساد إلا هدي واحد كما تقدم في أحد الحديثين المرسلين وسائر فتاوى الصحابة وقد جاء في الحديث الآخر ذكر هديين وهي قضية عين فلعلهما كانا قد ساقا هديا وهذا لأن فإن كان هذا الواطىء قد ساق هديا نحره في السنة الأولى كما يقضي سائر المناسك ولم يجزه عن هدي الإفساد كما لا يجزئه عن سائر الدماء الواجبة عليه

فإن كان قد وجب عليه في الحجة الفاسدة دم بفعل محظور من لباس أو طيب أو غير ذلك لم يسقط عنه القضاء قولا واحدا

وإن كان قد وجب عليه بترك واجب مثل أن أحرم دون الميقات ثم أفسد الاحرام أو أفاض من عرفات قبل الليل أو ترك رمى الجمار ونحو ذلك فهل يسقط عنه بفعل القضاء ففيه روايتان منصوصتان إحداهما يسقط نص عليه في رواية منها في رجل جاوز الميقات إلى مكة ثم أحرم بعمرة فأفسدها عليه قضاؤها يرجع إلى الوقت يحرم منه فقيل له أفلا يكون عليه شيء لتركه الوقت أول مرة قال لا

وذلك لأن الدم قائم مقام النسك المتروك فإذا قضى ما تركه فقد قام القضاء مقام ما ترك فأغنى عن الدم بخلاف ما وجب لفعل محظور فإن ذلك المحظور لم يخرج عنه كفارة وبخلاف ما لو عاد إلى الميقات محرما فإن احرامه قد نقص نقصا لم يجبر بالعود إليه وهنا قد أحرم إحراما مبتدأ من الميقات

والثانية لا يسقط نص عليه في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان في رجل جاوز الميقات فأهل ثم جامع عليه أن يحج من قابل وعليه بدنة وليس عليه دم لتركه الميقات قال أحمد عليه دم لتركه الميقات ويمضي في حجته ويصنع ما يصنع الحاج ويلزمه ما يلزم المحرم في كل ما أتى لأن الاحرام قائم وعليه الحج من قابل والهدي

وهذه إختيار أصحابنا لأن من أصلنا أن الدم الواجب بترك الاحرام من الميقات لا يسقط بالقضاء كما لو أحرم دون الميقات ثم عاد إلى الوقت محرما

وأيضا فإن الحجة الفاسدة حكمها حكم الصحيح في كل شيء وعليه أن يجبرها إذا ترك واجبا أو فعل محظورا فلو قلنا إن ما يفعله في قضائها يقوم مقام ما يفعله فيها لكنا لم نوجب عليه إتمام الحجة الفاسدة ولأنه لو كان القضاء يقوم مقام ما يتركه في الحجة الفاسدة لم يجب عليه المضي فيها بل قد أوجب الشرع عليه إتمام الأولى وقضاءها

وإن كان متمتعا أو قارنا قد وجب عليه دم بسبب ذلك ثم وطيء فهل يسقط عنه دم المتعة والقران على روايتين منصوصتين أيضا إحداهما ليس عليه دم متعة ولا قران وقد تقدم نصه على ذلك في رواية أبي طالب فيها إذا وطيء وهو محرم بعمرة أو قارن إن كان معه هدي نحره وإلا فليس عليه هدي إلى قابل فإذا حجا أهديا وقال أيضا في رواية المروذي وقد سئل عن متمتع دخل مكة فوطيء قبل أن يطوف بالبيت فقال لا تقل متمتع ولكن قل معتمر يرجع إلى الميقات الذي أهل منه فيحرم بعمرة وعليه دم وإن كان الوقت ضيقا أهل بالحج فإذا فرغ منه أهل بالعمرة

فلم يوجب عليه دم التمتع وذلك لأنه لم يترفه بسقوط أحد السفرين لأنه قد وجب عليه سفرا اخر في القضاء والرواية الثانية لا يسقط عنه دم المتعة والقران نص عليه في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان في رجل أهل بعمرة في أشهر الحج ثم جامع أهله قبل أن يطوف بالبيت ثم أقام إلى الحج حج وعليه دم لعمرته وليس عليه دم للمتعة لأنه أفسدها فقال أحمد عليه دم للمتعة ودم لما أفسد من العمرة

لأن كل ما وجب الإتيان به في النسك الصحيح وجب الإتيان به في الفاسد كالطواف وذلك لأنه مأمور بإتمام الفاسد حتى يكون مثل الصحيح إلا في أن أحدهما حصل فيه الوطء فأفسده والآخر عرى عن ذلك فعلى هذا إذا أحرم بقران القضاء فهل عليه دم الفساد ودم القران الفاسد كلام أحمد والأصحاب يقتضى أنه ليس عليه دم اخر

وأما المتمتع فإن كان قد وطيء في العمرة فقد وجب عليه قضاؤها فإذا قضاها

فإن لم يقضها قبل الحج فعليه دم لترك الميقات نص عليه

فصل

والدم الواجب بالوطء ونحوه أربعة أقسام أحدها بدنة مع الإفساد والثاني شاة مع الإفساد والثالث بدنة بلا إفساد والرابع شاة بلا إفساد

فصل

وعليهما أن يتفرقا في القضاء قال في رواية ابن منصور في الذي يصيب أهله مهلا بالحج يهلان من قابل ويتفرقان وأرجوا أن يجزئهما هدي واحد وقال في رواية الأثرم في الرجل يصيب أهله وهما محرمان يتفرقان إذا عادا إلى الحج في النزول والمحمل والفسطاط وما أشبه ذلك

لأن في أحد الحديثين المرسلين فقال لهما رسول الله اقضيا نسككما وأهديا هديا ثم إرجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وفي الآخر فقال لهما أتما حجكما ثم ارجعا وعليكما حجة أخرى قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فأحرما وتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه ثم أتما مناسككما وأهديا

وفي حديث عمر يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما ثم يرجعان حلالا كل واحد منهما لصاحبه حلالا حتى إذا كانا من قابل حجا وأهديا وتفرقا من حيث أصابا فلم يجتمعا حتى يقضيا حجهما

وفي الرواية المشهورة عن ابن عباس أقضيا ما عليكما من نسككما هذا وعليكما الحج من قابل فإذا اتيتما المكان الذي فعلتما الذي فعلتما فيه ما فعلتما فتفرقا ولا تجتمعان حتى تقضيان نسككما وفي رواية أخرى عنه ولا يمران على المكان الذي أصابا إلا وهما محرمان ويتفرقان إذا أحرما وفي رواية أخرى عنه ويحرمان من حيث كانا أحرما ويتفرقان

وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتيبة أنه سأل ابن عباس عن رجل أصاب إمرأته وهو محرم قال عليهما الحج من قابل ثم يتفرقان من حيث يحرمان ولا يجتمعان حتى يقضيا مناسكهما وعليهما الهدي رواه النجاد وفي رواية الحكم عن علي قال يتفرقان ولا يجتمعان إلا وهما حلالان وينحر كل واحد منهما جزورا وعليهما الحج من قابل يحرمان بمثل ما كانا أحرما به في أول مرة فإذا مرا بالمكان الذي أصابها فيه تفرقا فلم يجتمعان إلا وهما حلالان

وذكر مالك عن علي فإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما فهذه أقوال الصحابة مع المرسل المرفوع لا يعرف أثر صريح يخالف ذلك وذلك لأنه إذا جامعها في المكان الذي واقعها فيه لم يؤمن أن تتكرر تلك الحال فتدعوه نفسه إلى مواقعتها فيفسد الحجة الثانية كما أفسد الأولى فإن رؤية الأمكنة تذكر بالأحوال التي كانت فيها وشهوة الجماع إذا هاجت فهي لا تنضبط وهذا معروف في الطباع وذكر الشعراء ذلك في أشعارهم حتى قيل إن سبب حب الوطن ما قضته النفس من الأوطار فيه وربما قد جرب

وأيضا فإن مفارقة الحال والمكان الذي عصى الله فيه من تمام التوبة

وأيضا فإنهما لما اجتمعا على معصية الله كان من توبتهما أن يتفرقا في طاعة الله لقوله { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } وقد قال طاوس ما اجتمع رجلان على غير طاعة الله إلا تفرقا عن ثقال فإن تعجلا ذلك الثقال في الدنيا كان خيرا لهما من تأخيره إلى الآخرة

فعلى هذا ليس عليه أن يفارقها في الاحرام الفاسد وبعد رجوعها قبل الاحرام بحجة القضاء فأما أحد الحديثين المرسلين وحديث علي فإذا أحرما بالقضاء فهل يفارقها من حين الاحرام أو إذا بلغا مكان الإصابة فيه روايتان ذكرهما إحداهما من حين الاحرام وهو ظاهر ما ذكرناه عن أحمد لأنه كذلك في حديث علي وحديث ابن العباس ولأنه يخاف عليهما فساد الاحرام في أوله كما يخاف عليهما في اخره والثانية من الموضع الذي أصابها فيه وهو الذي ذكره ابن أبي موسى والقاضي وأصحابه وعامة لأن الذي في المرفوع حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا وكذلك روي عن عمر ولم يختلف عنه وكذلك هو أجود الروايتين عن علي وابن عباس ولعله يجمع بين الروايات بأن يكون التفرق من حين الاحرام مستحب ومن موضع الإصابة واجب ولعله يستحب التفرق في الحجة الفاسدة ولا يزالان متفرقين إلى حين الإحلال الثاني لأن ما قبل ذلك فالجماع محرم عليه ويتوجه

وصفة التفرق على ما ذكره أحمد أن لا يجتمعا في محمل ولا فسطاط في الركوب ولا في النزول وفي المرسل أن لا يرى أحدهما صاحبه

فأما كونهما في رفقة أو في قطار فلا يضرهما وهل هذا التفرق واجب أو مستحب خرجها ابن حامد على وجهين أحدهما أنه واجب وهو ظاهر كلام أحمد والآثار المروية في ذلك

مسألة والمرأة كالرجل إلا أن احرامها في وجهها ولها لبس المخيط

في هذا الكلام فصول

أحدها الفصل الأول أن المرأة في تحريم الطيب وقتل الصيد وتقليم الأظافر والحلق والمباشرة كالرجل لما تقدم من الأدلة الدالة على تحريم ذلك عليهما ولأن المعاني التي من أجلها حرم ذلك على الرجل موجودة في المرأة وربما كانت أشد

الثاني أنها لا يحرم عليها لبس المخيط ولا تخمير الرأس فلها أن تلبس الخفين والقميص لما تقدم وذلك لأنها محتاجة إلى ستر ذلك لأنها عورة ولا يحصل ستره في العاده إلا ما صنع على قدره ولو كلفت الستر بغير المخيط لشق عليها مشقة شديدة ولما كان الستر واجبا وهو مصلحة عامة لم يكن محظورا في الاحرام وسقط عنهن التجرد كما سقط إستحباب رفع الصوت بالإهلال والصعود على مزدلفة والصفا والمروة لما فيه من بروزها وظهورها الفصل الثالث أن احرامها في وجهها فلا يجوز لها أن تلبس النقاب والبرقع وهذا إجماع

قال أصحابنا وستر رأسها واجب فقد إجتمع في حقها ستر الرأس ووجوب كشف الوجه ولا يمكن تكميل أحدهما إلا بتفويت تكميل الاخر فيجب أن تكمل الرأس لأنه أهم كما وجب أن تستر سائر البدن ولا تتجرد ولأن المحظور أن تستر الوجه على الوجه المعتاد كما سيأتي وستر شيء يسير منه تبعا للرأس لا يعد سترا للوجه فأما في غير الاحرام فلا بأس أن تطوف منتقبة نص عليه

فإن احتاجت إلى ستر الوجه مثل أن يمر بها الرجال وتخاف أن يروا وجهها فإنها ترسل من فوق رأسها على وجهها ثوبا نص عليه قال أبو عبد الله في رواية أبي طالب وإحرام الرجل في رأسه ومن نام فوجد رأسه مغطى فلا بأس والأذنان من الرأس يخمر أسفل من الأذنين وأسفل من الأنف

والنبي قال لا تخمروا رأسه فاذهب إلى قول النبي قال واحرام المرأة في وجهها لا تنتقب وتتبرقع وتسدل الثوب على رأسها من فوق وتلبس من خزها ومعصفرها وحليها في احرامها مثل قول عائشة رضي الله عنها وذلك لما روت عائشة قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله محرمان فإذا جادوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه رواه أحمد رضي الله عنه وأبو داود وابن ماجة

ولو فعلت ذلك لغير حجة جاز على ما ذكره أحمد رضي الله عنه قال ابن أبي موسى إن احتاجت سدلت لكن عليها أن تجافي ما تسدله عن البشرة فإن أصاب البشرة باختيارها افتدت وإن وقع الثوب على البشرة بغير اخيارها رفعته بسرعة ولا فدية عليها كما لو غطى

فإن لم ترفعه عن وجهها مع القدرة عليه افتدت هذا قول القاضي وأصحابه وأكثر متأخري أصحابنا وحملوا مطلق كلام أحمد عليه لأنه قال إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها قالوا لأن وجه المرأة كرأس الرجل بدليل ما روى

ورأس الرجل لا يجوز تخميره بمخيط ولا غير مخيط فكذلك وجه المرأة لكن موجب هذا القياس أن لا تخمر وجهها بشيء منفصل عنه كرأس الرجل

وهذا غير صحيح والذي يدل عليه كلام أحمد وقدماء أصحابه جواز الإسبال سواء وقع البشرة أو لم يقع لأن أحمد قال تسدل الثوب وقال ابن أبي موسى إحرامها في وجهها فلا تغطيه ولا تتبرقع فإن إحتاجت سدلت على وجهها لأن عائشة ذكرت أنهن كن يدلين جلابيبهن على وجوههن من رؤوسهن ولم تذكر مجافاتها فالأصل عدمه لا سيما وهو لم يذكر مع أن الحاجة والظاهر أنه لم يفعل لأن الجلباب متى أرسل من ببشرة الوجه ولأن في مجافاته مشقة شديدة والحاجة إلى ستر الوجه عامة وكل ما احتيج إليه لحاجة عامة أبيح مطلقا كلبس السراويل والخف فعلى هذا التعليل إن باشر لغير حاجة الستر

ولأن وجه المرأة كبدن الرجل وكيد المرأة لأن النبي قال لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ولم ينهها عن تخمير الوجه مطلقا فمن إدعى تحريم تخميره مطلقا فعليه الدليل بل تخصيص النهي بالنقاب وقرانه بالقفاز دليل على أنه إنما نهاها عما صنع لستر الوجه كالقفاز المصنوع لستر اليد والقميص المصنوع لستر البدن فعلى هذا يجوز أن تخمره بالثوب من أسفل ومن فوق ما لم يكن مصنوعا على وجه يثبت على الوجه وأن تخمره بالملحفة وقت النوم ورأس الرجل بخلاف هذا كله وقال ابن أبي موسى ومتى غطت وجهها أو تبرقعت افتدت

فصل

ولا يجوز للمحرمة لبس القفازين ونحوهما وهو كل ما يصنع لستر اليدين إلى الكوعين هذا نصه ومذهبه لا خلاف فيه وكلام الشيخ هنا يقتضي جواز لبسهما لأنه لم يذكره وأباح لبس المخيط مطلقا وهذا تسأهل في اللفظ لا يؤخذ منه مذهب لأنه قد صرح بخلاف ذلك وذلك لما روى الليث عن نافع عن ابن عمر قال قام رجل فقال يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الاحرام فقال النبي لا تلبس القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرنس ولا الخفاف إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران والورس ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي

وعن محمد بن اسحق عن نافع عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ينهى النساء في الاحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب رواه أحمد وأبو داود

وأيضا فإن حق المحرم أن لا يلبس شيئا من اللباس المصنوع للبدن لكنه رخص للمرأة أن تلبس ما تدعوا إليه الحاجة لأنها عورة

ولا حاجة بها إلى أن تستر يدها بذلك لأن سترها يحصل بالكم وبادخالها في العب ونحو ذلك فلا حاجة إلى صنع القفاز ونحوه كبدن الرجل لما أمكن ستره بالرداء ونحوه لم يجز ستره بالقميص وهذا بخلاف قدميها فإنها لو أمرت بلبس النعلين أيضا فإن يديها تظهر غالبا فسترهما بالقفاز ونحوه صون لهما في حال الإحرام فلم يجز

وقد سلك بعض أصحابنا في ذلك طريقة وهو أن اليدين ليستا من العورة فوجب كشفهما كالوجه وعكسه القدمان وسائر البدن وذلك لأن العورة يجب سترها بخلاف ما ليس بعورة ومن سلك هذه الطريقة جوز لها أن تصلى مكشوفة اليدين

وهذه الطريقة فيها نظر لوجوه أحدها أن اليدين لا يجب كشفهما ولا يحرم تعمد تخميرهما بما لم يصنع على قدرهما بالإجماع فإن لها أن تقصد إدخال اليد في الكم وفي الجيب من غير حاجة ولو كان مطلق الستر حراما إلا لحاجة لما جاز ذلك

الثاني أن كون الوجه واليدين ليسا بعورة لا يبيح ابداءهما للرجال بكل حال وكون العضد والساق عورة لا يوجب سترهما في الخلوة وإنما يظهر أثر ذلك في الصلاة ونحوهما

باب الفدية[عدل]

مسألة وهي على ضربين أحدهما على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين ثلاثة أيام أو اطعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة

الأصل في هذه الفدية قوله سبحانه { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فأباح الله سبحانه الحلق للمريض ولمن في رأسه قمل يؤذيه وأوجب عليه الفدية المذكورة وفسر مقدارها رسول الله كما تقدم في حديث كعب بن عجرة وهو الأصل في هذا الباب فقال له فاحلق واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين

وقد أجمع المسلمون على مثل هذا وتقديره لما ذكر في كتاب الله من صيام أو صدقة أو نسك مثل تقديره لأعداد الصلاة وللركعات والأوقات وفرائض الصدقات ونصبها وأعداد الطواف والسعي والرمي وغير ذلك إذ كان هو المبين عن الله معاني كتابه

وأما من حلق شعر بدنه أو قلم أظفاره أو لبس أو تطيب فملحق بهذا المحظور في مقدار الفدية لأن الله حرم ذلك كله في الاحرام

فصل

إن فعل المحظور لعذر ففديته على التخيير كما ذكرناه وإن فعله لغير عذر ففيه روايتان إحداهما أن فديته على التخيير أيضا كما ذكره الشيخ لأن كل كفارة وجبت على التخيير وسببها مباح وجبت على التخيير وإن كان محظورا كجزاء الصيد وأيضا فإن الكفارة جبر لما نقص من الاحرام بفعل المحرم والنقص لا يختلف بين أن يكون بسبب مباح أو محظور إلا أن في أحدهما جائزا والاخر حراما فلو لم يكن كل واحد من الكفارات الثلاث جابرا لنقص الاحرام لما إكتفى به مع وجود غيره ولهذا كفارة اليمين تجب على التخيير سواء كان الحنث جائزا أو حراما

وأيضا فإن كون سبب الكفارة جائزا لا يوجب التخيير بدليل دم المتعة والقران هو على الترتيب وإن كان سببه جائزا فلما كانت هذه الكفارة على التخيير علم أن ذلك ليس لجواز السبب بل لأنها جابرة لنقص الاحرام

وأما الآية فإنما لم يذكر فيها إلا المعذور لأن الله بين جواز الحلق ووجوب الفدية لأنه قد نهى قبل ذلك عن الحلق وهذا الحكمان يختصان المعذور خاصة

والرواية الثانية أنه يلزمه الدم ولا يتخير لدلالة السياق عليه بين الخصال الثلاثة فإن عدم الدم فعليه الصدقة وإن لم يجد انتقل إلى الصيام نص عليه في رواية ابن القاسم وسندي في المحرم يحلق رأسه من غير أذى ليس هو بمنزلة من يحلق من أذى إذا حلق رأسه من أذى فهو مخير في الفدية ومثل هذا لا ينبغي أن يكون مخيرا وهذا إختيار القاضي وأصحابه مثل الشريف أبي جعفر وأبي الخطاب ولم يذكروا في تعليقهم خلافا

قال ابن أبي موسى وإن حلق رأسه لغير عذر فعليه الفدية وليس بمخير فيها فيلزمه دم وإن تنور فعليه فدية على التخيير

ففرق بين حلق الرأس والتنور ولعل ذلك لأن حلق الرأس نسك عند التحلل فإذا فعله قبل وقته فقد فعل محظورا وفوت نسكا في وقته ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم بخلاف شعر البدن فإنه ليس في حلقه ترك نسك لأن الله سبحانه إنما ذكر التخيير في المريض ومن به أذى وذلك يقتضي أن غير المعذور بخلاف ذلك لوجوه أحدها أن من حرف شرط والحكم المعلق بشرط عدم عند عدمه حتى عند أكثر نفاة المفهوم

والحكم المذكور هنا وجوب فدية على التخيير إذا حلق فلو كانت هذه الفدية مشروعة في حال العذر وعدمه لزم إبطال فائدة الشرط والتخصيص

وقولهم التخصيص لجواز الحلق وإباحته يجاب عنه بأن الجواز ليس مذكورا في الآية وإنما المذكور وجوب الفدية وإنما الجواز يستفاد من سياق الكلام ولو كان الجواز مذكورا أيضا فالشرط شرط في جواز الحلق وفي الفدية المذكورة

الثاني المريض ومن به أذى معذور في استباحة المحظور والمعذور يناسب حاله التخفيف عنه والترخيص له فجاز أن تكون التوسعة له في التخيير لأجل العذر لأن الحكم إذا علق بوصف مناسب كان ذلك الوصف علة له وإذا كان علة التوسعة هو العذر لم يجز ثبوت الحكم بدون علته يوضح هذا أن الله بدأ بالأخف فالأخف من خصال الفدية قال { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } تنصيصا على أن أو التخيير إذ وقع الإبتداء بأدنى الخصال وغير المعذور بعيد من هذا ولهذا بدأ في آية الجزاء بأشد الخصال وهو المثل لما ذكر المعتمد

الثالث أن الله سماها فدية والفدية إنما تكون في الجائزات كفدية الصيام وهذا لأن الصائم والمحرم ممنوعان مما حرم عليهما محبوسان عنه كالرقيق والأسير الممنوع من التصرف فجوز الله لهما أن يفتديا أنفسهما عند الحاجة كما يفتدي الأسير والرقيق أنفسهما وكما تفتدى المرأة نفسها من زوجها

ومعلوم أنه إذا لم يحتج إلى الحلق لم يأذن الله له أن يفتدى نفسه ولا يفك رقبته من الاحرام فلا يكون الواجب عليه فدية

والله سبحانه إنما ذكر التخيير تقسيما للفدية وتوسيعا في الإفتداء فلا يثبت هذا الحكم في غير الفدية وبهذا يظهر الفرق بين هذه الفدية وبين جزاء الصيد وكفارة اليمين لأن الله ذكر التخيير في جزاء الصيد مع النص على أنه قتله متعمدا فكان التخيير في حق المخطىء أولى وذكر الترتيب والتخيير في كفارة اليمين مطلقا

وأيضا فإنها كفارة وجبت لفعل محظور فتعين فيها الدم ككفارة الوطء وتوابعه ومعلوم أن إلحاق المحظور بالمحظور أولى من إلحاقه بجزاء الصيد ولأن الله أوجب الدم على المتمتع عينا حيث لم يكن به حاجة إلى التمتع بحله مع جواز التمتع به فلأن يجب على من تمتع في الاحرام من غير حاجة مع تحريم الله أولى وعكسه المعذور ولأنها كفارة وجبت لجناية على الاحرام لا على وجه المعاوضة فوجب الدم عينا كترك الواجبات وعكسه جزاء الصيد فإنه بدل لمتلف فهو مقدر بقدر مبدله وأبدال المتلفات لا يفرق فيها بين متلف ومتلف بخلاف الكفارات التي لخلل في العبادة كالوطء في رمضان والاحرام وترك واجبات الحج فإن فعل المحظور ناسيا أو جاهلا بتحريمه أو مخطأ وأوجبنا عليه الكفارة فهو كمن فعل لغير عذر لأنه لم يأذن له الشرع في أتيانه وخطأه يصلح أن يكون مانعا من الإثم أما مخففا للكفارة فلا وهذا بخلاف المعذور فإن الحلق صار في حقه مباحا جائزا ولم يصر في الحقيقة من محظورات الاحرام إلا بمعنى أن جنسه محظور كالأكل في رمضان للمسافر والمريض ولهذا نوجب على من جامع ناسيا الكفارة ولا نوجبها على من أبيح له الفطر

فصل

إذا أراد الحلق أو اللبس أو الطيب لعذر جاز له اخراج الفدية بعد وجود السبب المبيح وقبل فعل المحظور كما يجوز تحليل اليمين بعد عقدها وقبل الحنث سواء كانت صياما أو صدقة أو نسكا

فصل

يجوز إخراج الفدية حيث وجبت من حل أو حرم وكذا حيث جازت لأن الله سبحانه سمى الدم الواجب هنا نسكا والنسك لا يختص بموضع فإن الضحايا لما سميت نسائك جاز أن تذبح في كل موضع سواء كانت واجبة أو مستحبة كما قال { إن صلاتي ونسكي } وقال النبي لأبي بردة هي خير نسيكتيك بخلاف دم المتعة وجزاء الصيد فإنه سماه هديا والهدي ما أهدي إلى الكعبة

وأما هدي المحصر

مسألة وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب

هذا قول الشيخ رحمه الله ووجهه أن ترك الواجب بمنزلة فعل المحظور في أن كلا منهما ينقص النسك وأنه يفتقر إلى جبران يكون خلفا عنه

فعلى هذا هل يكون على التخيير أو الترتيب على روايتين لأن ترك الواجب إذا أذن فيه الشرع لم يجب فيه شيء كترك الحائض طواف الوداع وترك أهل السقاية والرعاة المبيت بمنى ونحو ذلك نعم قد يتركه جهلا أو عجزا والذي عليه أكثر أصحابنا

مسألة وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم إلا الطائر فإن فيه قيمته إلا الحمامة فيها شاة والنعامة فيها بدنة

في هذا الكلام فصول أحدها أن ما وجب ضمانه من الصيد إما بالحرم أو بالإحرام فإنه يضمن بمثله من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم وهو ما شابهه في الخلقة والصفة تقريبا لأن الله سبحانه قال { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وقد قرىء بالتنوين فيكون المثل هو الجزاء بعينه وهو بدل منه في الإعراب وقريء { فجزاء مثل ما قتل } بالإضافة والمعنى فعطاء مثل المقتول فالجزاء على هذا مصدر أو اسم مصدر أضيف إلى مفعوله وضمن معنى الإعطاء والإخراج والإيتاء ومثل هذا القراءتان في قوله تعالى { فدية طعام مسكين } وإن كان بعض القراء فرق بينهما حيث جعل الفدية نفس الطعام وجعل الجزاء إعطاء المثل

والمراد بالمثل ما مثال الصيد من جهة الخلقة والصورة سواء كانت قيمته أزيد من قيمة المقتول أو أنقص بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة

أما الأول فمن وجوه أحدها أن الله أوجب مثل المقتول والمثل إنما يكون من جنس مثله فعلم أن المثل حيوان ولهذا يقول الفقهاء في الأموال ذوات الأمثال وذوات القيم وهذا الشيء يضمنه بمثله وهذا يضمن بقيمته والأصل بقاء العبارات على ما كانت عليه في لغة العرب الذين نزل القرآن بلسانهم وقيمة المتلف لا يسمى مثلا

الثاني أن الله أوجب المثل من النعم احتزاز من اخراج المثل من نوع المقتول فإنه لو أطلق المثل لفهم منه أن يخرج عن الضبع ضبع وعن الظبي ظبي ولو كان المثل هو قيمة المقتول لكان الواجب في ذمة القاتل قيمة الصيد ثم إنه يصرفها في شراء هدى أو شراء صدقة حينئذ فلا فرق بين الهدى وبين الصدقة حتى يجعل المثل من أحدهما دون الآخر

الثالث أن قوله من النعم بيان لجنس المثل كقولهم باب من حديد وثوب خز وذلك يوجب أن يكون المثل من النعم ولو كان المثل هو القيمة والنعم مصرف لها لقيل جزاء مثل ما قتل في النعم

الرابع أنه لو كان المراد بالمثل القيمة لم يكن فرق بين صرفها في الهدى والصدقة وكذلك لو أريد بالمثل الهدى باعتبار مساواته للمقتول في القيمة فإن الهدى والقيمة مثل بهذا الاعتبار وكان يجب على هذا أن يقال { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين } بالخفض والتقدير فجزاء مثل المقتول من النعم ومن الكفارة فإنهما على هذا التقدير سواء فلما كانت القراءة ترفع كفارة علم أنها معطوفة على جزاء وأنها ليست من المثل المذكور في الآية وذلك يوجب أن لا يكون المثل القيمة ولا ما اشترى بالقيمة

الخامس أنه سبحانه قال في جزاء المثل { يحكم به ذوا عدل منكم } ولا يجوز أن يكون المراد به تقويم التلف لأن التقويم بالنسبة إلى الهدلا والصدقة واحد فلما خص ذوى العدل بالجزاء دون الكفارة علم أنه المثل من جهة الخلقة والصورة

فإ قيل فالآية تقتضي الايجاب الجزاء في قتل صيد وذلك يعم ما له نظير وما نظير له وهذا إنما يكون في القيمة

قلنا يقتضي ايجاب جزاء المثل من النعم إن أمكنه لأنه أوجب واحدا من ثلاثة وذلك مشروط بالامكان بدليل من يوجب القيمة إنما يصرفها في النعم إذا أمكن أن يشتري بها فتكون القيمة لا تصلح لشراء هدى هو بمثابة عدم النظير في الخلقة

وأما السنة وعليه اعتمد أحمد فما روى جابر بن عبد الله قال جعل رسول الله في الضبع يصيبه المحرم كبشا وجعله من الصيد رواه أبو داود وابن ماجة

وأما إجماع الصحابة فإنه روي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وابن الزبير أنهم قضوا في النعامة ببدنة وفي حمار الوحش وبقرة الأيل والتبتل والوعل ببقرة وفي الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي اليربوع بجفرة وإنما حكموا بذلك للماثلته في الخلقة لا على جهة القيمة لوجوه أحدها أن ذلك مبين في قصصهم كما سيأتي بعضه إن شاء الله

الثاني أن كل واحد من هذه القضايا تعددت في أمكنة وأزمنة مختلفة فلو كان المحكوم به قيمته لاختلفت باختلاف الأوقات والبقاع فلما قضوا به على وجه واحد علم أنهم لم يعتبروا القيمة

الثالث أنه معلوم أن البدنة أكثر قيمة من النعامة والبقرة أكثر قيمة من حمار الوحش والكبش أكثر قيمة كما شهد به عرف الناس

الرابع أنهم قضوا في اليربوع جفرة الفصل الثاني

أن ما تقدم في حكم حاكمان من أصحاب رسول الله فهو على ما حكما لا يحتاج إلى استئناف حكم ثان قال في رواية أبي النضر ما حكم فيه أصحاب رسول الله من الجزاء فعلى ما حكموا لأنهم أعدل من يحكم فيه ولو حكموا بخلاف حكمهم فلا يترك حكمهم لقول من بعدهم ولو أن رجلا أصاب صيدا لم يكن فيه عن أصحاب رسول الله حكم جاز أن يقول القاتل الصيد لرجل اخر معه أن يحكمان في ذلك فيكون هو الحاكم وآخر معه

قال في رواية الشالنجي إذا أصاب صيدا فهو على ما حكم أصحاب رسول الله فكلما سمى فيه شيء فهو على ذلك وفي الضبع شاة وقال في رواية أبي داود في الذي يصيب الصيد يتبع ما جاء قد حكم فيه وفرغ

وقال في رواية أبي النضر ما حكم فيه أصحاب رسول الله فلا يحتاج أن يحكم عليه مرة أخرى وذلك لأن النبي قضى في الضبع يصيبه المحرم بكبش ومعلوم أنه لم يقض به على محرم بعينه فكان عاما

وأيضا فلو لم يقض إلا في قضية خاصة فإذا حدثت قضية أخرى فلو قضى فيها بغير ما قضى رسول الله لكان خطأ لأن المثل هنا هو من جهة الخلقة والصورة وذلك حكم بالمماثلة بين نوع ونوع وأنواع الحيوان لا تختلف نسبة بعضها إلى بعض باختلاف الأعصار والأمصار

وأيضا فإن الصحابة لما قضوا في أنواع من الصيد بأمثال معروفة كان ذلك قضاء في مثل تلك القضايا لأن ذلك القضاء لا يختلف باختلاف قائل وقائل ولا باختلاف الأوقات والأزمنة وإذا كان قضاء في نوع تلك القضايا لم يجز نقضه ولا مخالفته

فأما ما حكم فيه التابعون ومن بعدهم

وما لم يحكم فيه الصحابة أو لم يبلغنا حكمهم فلا بد من استئناف حكم حاكمين ويجب أن يكون عدلين كما قال تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم } والمعتبر العدالة الظاهرة وهو أن لا يعرف ولا بد أن يكونا من أهل الخبرة والاجتهاد في معرفة وهل يكونا فقيهين قال أبو بكر لا بد أن يكونا جميعا من أهل العلم والمعرفة بالمماثلة

ويجوز أن يكون أحدهما هو القاتل للصيد نص عليه وكذلك إن كانا جميعا قتلاه ذكره القاضي وأصحابه وغيرهم مثل الشريف أبي جعفر وأبي الخطاب في خلافه فإن كل واحد من الحكمين ركن في الحكم فما جاز في أحدهما جاز في الآخر وذلك لما روى سفيان بن عيينة ثنا مخارق عن طارق بن شهاب قال خرجنا حجاجا فأوطأ رجل منا يقال له أربد بن عبد الله ضبا ففزر ظهره فلقى عمر فأخبره فقال له احكم فيه يا أربد قال أنت خير منى وأعلم فقال إنما آمرك أن تحكم ولم آمرك أن تزكيني قال فيه جدى قد جمع الماء والشجر فقال ذلك فيه رواه سعيد

وثنا أبو الأحوص ثنا مخارق عن طارق قال خرجنا حجاجا حتى إذا كنا ببعض الطريق أوطأ رجل منا ضبا وهو محرم فقلته فأتى الرجل عمر يحكم عليه فقال له عمر رحمه الله أحكم معى فحكما فيه جدي قد جمع الماء والشجر ثم قال عمر بأصبعه { يحكم به ذوا عدل منكم } ولا يعرف له مخالف في الصحابة وأيضا قوله { يحكم به ذوا عدل منكم } يعم القاتل وغيره بخلاف قوله { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فإن المشهد غير المشهد لأن الفاعل غير المفعول وهنا لم يقل حكموا فيه ذوي عدل وإنما قال يحكم به والرجل قد يكون حاكما على نفسه إذا كان الحق لله لأنه مؤتمن على حقوق الله كما يرجع إليه في تقويم قيمة المثل إذا أراد أن يخرج الطعام وفي تقويم عروض التجارة والدليل على ذلك ما احتج به أبو بكر من قوله { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } فأمر الله الرجل أن يقوم بالقسط ويشهد لله على نفسه

قال القاضي وابن عقيل وهذا إنما يكون إذا قتله خطأ أو عمدا لمخمصة فأما إن قتله عمدا فلا يصح لأنه فاسق بخلاف تقويم عروض التجارة فإن صاحبها يقومها وإن كان فاسقا لأنه لم ينص على عدالته

ووجه هذا أن قتل الصيد من الكبائر لأن الله توعد عليه بقوله { ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } ولأن الله سمى محظورات الاحرام فسوقا في قوله { فلا رفث ولا فسوق } ولكن هذا يقتضي أنه إذا قتله عمدا وتاب جاز حكمه ولم يذكر القاضي وأصحابه في خلافهم هذا الشرط

وإذا اختلف الحكمان

وإن حكم في قضية واحدة حكمان مختلفان لرجلين فهل يكونان مصيبين الفصل الثالث

فيما مضى فيه الحكم واستقر أمره قال في رواية حنبل حكم رسول الله في الضبع بكبش وهي جارحة من جملة السباع

وقال في رواية أبي الحارث وإذا أصاد المحرم بقرة فقد قال الله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } عليه بقرة وفي النعامة بدنة وفي حمار الوحش بدنة كذلك قال عطاء في حمار الوحش بدنة وفي الثبتل بقرة وفي الوعل بقرة وفي الأيل بقرة وفي الظبى شاة وفي الأرنب جفرة وفي اليربوع جفرة والجفرة الصغيرة من الغنم

وقال في رواية أبي طالب أذهب إلى حديث عمر في الضبع كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب جفرة وفي اليربوع جدي

أما النعامة ففيها بدنة وأما حمار الوحش ففيه روايتان إحداهما فيه بدنة نص عليه في رواية أبي الحارث وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى

والثانية بقرة وهو قول القاضي وأصحابه والأيل بضم الهمزة وكسرها فيما ذكره الجوهري مع فتح الياء المشددة ذكر الأوعال قال والثبتل الوعل المسن والوعل الأروى

وأما الضبع ففيها كبش الجدع من الضأن أو الثنى من المعز هذا لفظه ولفظ أكثر أصحابه وكذلك جاء الحديث المرفوع وكذلك لفظ عمر

وعن مجاهد قال علي الضبع صيد وفيه كبش إذا أصابه المحرم رواه سعيد ولفظ بعض أصحابنا شاة وسوى بينهما وبين الظبي والثعلب وفي الظبي شاة هذا لفظ أحمد

وقال أبو الخطاب في الظبي كبش وفي الغزال عنز وكذلك قال ابن أبى موسى في الظبي شاة وفي الغزال عنز وذلك لما روى مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة

ورواه ابن عينية عن أبي الزبير عن جابر قال حكم عمر رحمه الله في الضبع شاة وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ومعلوم أنه إنما حكم بذلك إلا مع حكم آخر

وعن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى فقال عمر لرجل إلى جنبه تعال حتى نحكم أنا وأنت قال فحكما عليه بعنز فولى الرجل وهو يقول هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا حكم معه فسمع عمر قول الرجل فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة فقال لا قال فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي فقال لا فقال لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا ثم قال إن الله يقول في كتابه { يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة } وهذا عبد الرحمن بن عوف رواه مالك وعن قبيصة بن جابر قال خرجنا حجاجا فكثر مراء القوم أيهما أسرع شدا الظبي أم الفرس فسنح لنا ظبى فرماه رجل منا فما أخطأ حنتاه فركب ردغه فأسقط في يدي الرجل فانطلقت أنا وهو إلى عمر بن الخطاب فجلسنا بين يديه فقص عليه صاحبي القصة فقال أخطأ أصبته أم عمدا قال تعمدت رمية وما أردت قتله فقال لقد شركت الخطأ والعمد قال ثم اجتنح إلى رجل يليه كأن على وجهه قلبا فساره ثم أقبل على صاحبي فقال عليك شاة تصدق بلحمها وتبقى إهابها سقى فلما قمنا قلت لصاحبي إن فتيا ابن الخطاب لا تغني عنك من الله شيئا انحر ناقتك وعظم شعائر الله فذهب ذو العينين فنما ذلك إلى عمر بن الخطاب فأقبل على صاحبي صفوقا بالدرة وقال قاتلك تقتل الحرام وتعدي الفتيا ثم أقبل علي فأخذ بمجامع ثوبي فقلت له إنه لا يحل لك منى شيء حرم الله عليك فقال ويحك إني أراك شابا فصيح اللسان فسيح الصدر أو ما تقرأ في كتاب الله { يحكم به ذوا عدل منكم } ثم قال قد يكون في الرجل عشرة أخلاق تسعة منهن حسنة وواحدة سيئة فتفسد الواحدة التسع فاتق طيرت الشباب

وأما الثعلب ففيه شاة هذا لفظه ولفظ أكثر أصحابه ولفظ أبي الخطاب عنز والنصوص عنه في عامه كلامه أنه يؤدي وصرح في بعض الروايات أنه يؤدي مع المنع من أكله وهذه طريقة الخلال وغيره

وأما أبو بكر والقاضي وغيرهما فجعلوا جزاءه مبينا على الروايتين في أكله وقد دل كلام أحمد أيضا على هذه الطريقة على ما تقدم

واختار القاضي أنه لا يؤدي بناء على أنه لا يؤكل وصرح ابن أبي موسى فيه بنقل الروايتين قال فيه روايتان إحداهما أنه صيد وفيه شاة والأخرى ليس بصيد ولا شيء فيه

وبالجملة فمن وداه لا بد أن يلتزم أحد شيئين إما أنه مباح وإما أن بعض ما لا يحكم بإباحته يؤدي

وفي الأرنب شاة هذا لفظ أحمد في رواية أبي الحارث ولفظه في رواية أبي طالب فيها جفرة والجفرة عناق لها أربعة أشهر وقال ابن أبي موسى في الأرنب عناق وقيل جفرة وقال فيها عناق وهي قبل أن تصير جذعة لما تقدم عن عمر أنه حكم في الأرنب بعناق

وقال الجوهري العناق الأثنى من ولد المعز

وعن سعيد بن جبير قال كان ابن عباس يقول في طير حمام مكة شاة وفي الأرنب حمل وفي اليربوع حمل وفي الجرادة قبضة من طعام أو تمرة جلدة رواه سعيد وأما اليربوع وهو دابة بيضاء أكبر من الفأرة يمشي برجلين فقد قال في رواية أبي الحارث فيه جفرة وهي الصغيرة من الغنم وذلك لما تقدم عن عمر أن فيه جفرة

وعن أبي عبيدة أن رجلا ألقى جوالق على يربوع فقتله فحكم فيه عبد الله جفرة رواه سعيد

وقال أحمد في رواية أبي طالب في اليربوع جدي

وقد حكاها ابن أبي موسى على روايتين وليس هذا بإختلاف معنى فإن الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وجفر جنباه وفصل عن أمه هذا قول الجوهري وبعض أصحابنا كأنه سمي بذلك لاشباع جوفه بما يغذيه من غير اللبن ومنه الجفر وهو البئر الواسعة التي لم تطو ويقال للجوف جفرة

وقال القاضي الجفرة التي فطمت عن اللبن وكذلك قال أبو الخطاب الجفرة الجدي حين يفطم

وفي حل اليربوع روايتان فيكون في جزائه بالاحرام مثل ما في الثعلب على ما تقدم

وأما الضب فيؤدي قولا واحدا وهل فيه شاة أو جدي وهو ما دون الجذع على وجهين أحدهما شاة والثاني جدي وهو المشهور ذكره ابن أبي موسى لما تقدم عن عمر أنه حكم فيه هو وأربد بجدي قد جمع الماء والشجر يعني استغنى عن أمه بالرعي والشرب

وفي الوبر جدي قاله أصحابنا قالوا وهو دويبة سوداء أكبر من اليربوع وحكمه حكم الثعلب لأن في حله روايتان وقال عطاء ومجاهد في الوبر شاة وذكر ابن أبي موسى في الوبر شاة وفي اليربوع جدي وقيل عنه جفرة

وفي النسور حكومة

وفي الثعلب روايتان وأما السنور فقد قال في رواية الكوسج في السنور الأهلي وغير الأهلي حكومة أما السنور الأهلي ففي ضمانه روايتان كما تقدم لأنه لا يحل وأما الوحشي ففي حله روايتان فهو كالثعلب في الضمان فإذا قلنا يضمن ففيه حكومة لأنه لم يمض من السلف فيه حكم

والحكومة أن يحكم بمثله من النعم

فصل وأما الطير فثلاثة أنواع أحدها الحمام وفيه شاة قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي كل طير يعب الماء مثل الحمام يشرب كما يشرب الحمام فيه شاة وما كان مثل العصفور ونحوه ففيه القيمة ويلزم المحرم كما يلزم الحلال في حمام الحرم

والطير صيد والدجاج ليس بطير وإنما أهلي وقال في رواية ابن منصور حمام الحل والحرم سواء وذلك لما روى

وعن سعيد بن جبير قال كان ابن عباس يقول في طير حمام مكة شاة

وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول في الحمام والقمري والدبسي والقطا والحجلة شاة شاة

وعن عطاء أن غلاما من قريش قتل حمامة الحرم فسأل أبوه ابن عباس فأمره أن يذبح شاة

وعن يوسف بن ماهك وعطاء قالا أغلق رجل بابه على حمامة وفرخيها وانطلق إلى عرفات فرجع وقد متن فأتى ابن عمر فسأله فجعل عليه ثلاثا من الغنم وحكم معه رجل

والمراد بالحمام وما أشبهه كلما عب الماء ولم يتعرض للهدير لأن الحمام يشبه الغنم من حيث يعب الماء كما الغنم تعب الماء

وقال أبو الخطاب وغيره هو كل ما عب وهدر والعب هو شرب الماء متواصلا وهو خلاف المص فإن الدجاج والعصافير تشرب الماء متفرقا ومنه الكباد من العباب وقال الكسائي كل مطوق حمام ومنه الشفانين والوراشين والقماري والدباسي والفواخت والقطاء والقبح هذا قول أبي الخطاب

وذكر القاضي في خلافه القطاء والسمان مع العصافير وما كان أصغر من الحمام فلا مثل له لكن فيه القيمة نص عليه لما روى عكرمة عن ابن عباس قال كل يصيبه المحرم دون الحمامة قيمته رواه سعيد والنجاد ولفظه ما أصيب من الطير دون الحمام ففيه الفدية

وعن عكرمة قال سأل مروان ابن عباس ونحن بوادي الأزرق قال الصيد يصيبه المحرم ليس له بدل من النعم فقال ابن عباس ثمنه يهدى إلى مكة رواه سعيد ولا يعرف له مخالف ولأن الله أوجب المثل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو الصيام فإذا تعذر أحد الخصال وجب الإخراج من الباقي كما لو عجز عن الصيام وكخصال كفارة اليمين وفدية الأذى

ولأن الله حرم قتل الصيد وذلك يعم جميع أنواعه وأوجب فيما حرم الجزاء أو الكفارة أو الصيام فعلم دخول ذلك تحت العموم

وأما ما كان أكبر من الحمام مثل الحباري والكروان والكركي والحجل واليعقوب وهو ذكر القبج فقد خرجه وأبو الخطاب على وجهين أحدهما أن فيه القيمة وهو مقتضى كلام الشيخ هنا لأنه أوجب القيمة في الطير كله إلا الحمام والنعامة لأن القياس يقتضي ايجابها في جميع أنواع الطير لكن ترك هذا القياس في الجماع استحسانا لإجماع الصحابة ولأنه يشبه الغنم في عب الماء فيبقى ما سواه على موجب القياس والثاني يجب فيه شاة وهو الذي ذكره ابن أبي موسى وهو ظاهر كلام أحمد بل نصه فإنه قال وما كان مثل العصفور ونحوه ففيه شاة وهذا أصح لأن ابن عباس قال في الحمام والدبسي والقمري والقطاء والحجل شاة شاة

وقال أيضا ما أصيب من الطير دون الحمام ففيه القيمة فعلم أنه أوجب شاة في الحمام وما كان مثله وأكبر منه وأوجب القيمة فيما دونه

وأيضا فإن هذا أكبر من الحمام فكان أولى بإيجاب الشاة

وأيضا فإن المماثلة كما تعتبر في الخلقة والصورة فتعتبر في الصفات والأخلاق وجنس الطير بما أوتى من المنعة وطيب اللحم أفضل من الدواب فجاز أن يعادل هذا ما في الإنعام من كبر الخلقة

فعلى هذا ما كان أكبر من الشاة إن كان

فصل

ويضمن الصيد بمثله سواء كان المثل مما يجزيء في الهدايا والضحايا المطلقة أو لا لما تقدم عن عمر وابن مسعود وابن عباس أنهم أوجبوا في جزاء الصيد العناق والجفرة والحمل والجدي وهي لا تجوز في الأضاحي ولا مخالف لهم في الصحابة والأصل في ذلك أن الله أوجب مثل المقتول من النعم ومثل الصغير صغير كما أن مثل الكبير كبير

وقوله بعد ذلك هديا بالغ الكعبة لا يمنع من إخراج الصغير لأن كل ما يهدي إلى الكعبة فهو هدى ولهذا لو قال لله علي أن أهدي الجفرة جاز

نعم الهدي المطلق لا يجوز فيه إلا الجذع من الضأن والثني من المعز والهدي المذكور في الآية ليس بمطلق فإنه منصوب على الحال من قوله { مثل ما قتل } والتقدير فليخرج مثل المقتول على وجه الإهداء إلى الكعبة وهذا هدي مقيد لا مطلق فعلى هذا منه ما يجب في جنسه الصغير كما تقدم ومنه ما يجب في جنسه الصغير والكبير فينظر إلى المقتول فيتغير صفاته فيجب في الصغير صغير وفي الكبير كبير وفي الذكر ذكر وفي الأنثى أنثى وفي الصحيح صحيح وفي المعيب معيب تحقيقا لمماثلة المذكورة في الآية

فإن كان الصيد سمينا أو مسنا أو كريم النوع أعتبر في مثله ذلك ويفتقر هنا في المماثلة إلى الحكمين هذا قول ابن أبي موسى والقاضي وعامة من بعده من أصحابنا وإن فدى الصغير بالكبير فهو أحسن

وخرج ابن عقيل وجها على قول أبي بكر في الزكاة ألا يجزيء عن المريض إلا الصحيح

قال القاضي وأصحابه مثل ابن عقيل وأبي الخطاب فإن فدى الذكر لأنثى جاز فهو أفضل لأنها خير منه وإن فدى الأنثى بالذكر ففيه وجهان أحدهما يجوز لأنهما جنس واحد

والثاني لا يجوز لأن الأنثى أفضل

وقال ابن أبي موسى في صغار أولاد الصيد صغار أولاد المفدى به وبالكبير أحسن وإذا أصاب صيدا أعور أو مكسورا فداه بمثله وبالصحيح أحسن ويفدى الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وهو قول علي بن أبي طالب

وعلى هذا فلا يفدى الذكر بالأنثى ولا الأنثى بالذكر لأن في كل منهما صفة مقصودة ليست في الآخر فلم يجوز الإخلال بها كما لو فدى الأعور الصحيح الرجلين بالأعرج الصحيح العين

وقياس المذهب عكس ذلك وهو أنه إنه إن فدى الأنثى بالذكر جاز وفي العكس تردد وقد نص أحمد على أن في الضبع كبشا لأن الهدايا والضحايا المقصود منها اللحم ولحم الذكر أفضل بخلاف الزكاة والديات فإن المقصود منها الإستبقاء للدر والنسل لأن النبي قضى في الضبع بكبش والضبع إما أن يكون مخصوصا بالأنثى أو يشمل الذكر والأنثى فإن الذكر يسمى الضبعان

وإن فدى الأعور بالأعرج ونحو ذلك مما يختلف فيه جنس العيب لم يجز

وإن فدى أعور العين اليمنى بأعور العين اليسرى أو بالعكس جاز لأن جنس العيب واحد وإنما اختلف محله وكذلك إن فدى أعرج اليد بأعرج الرجل وأما الماخض فقال أبو الخطاب وطائفة غيره يضمنه بما خض مثله فإن لم يكن له مثل ضمه بقيمة مثله ماخضا وعلى هذا فيعتبر أن يكون قد مر له من مدة الحمل مثل حمل الصيد أو أكثر

وقال القاضي يضمن الماخض بقيمته مطلقا

وإذا لم يجد جريحا من النعم يكون مثل المجروح من الصيد ولم يجد معيبا أخرج قيمة مثلة مجروحا

فصل

وإذا أتلف بعض الصيد مثل إن جرحه أو كسر عظمه ولم يخرجه عن امتناعه ضمن ما نقص منه إن لم يكن له مثل وإن كان له مثل نظركم ينقص الجرح من مثله ثم فيه وجهان أحدهما عليه أن يخرج بقسطه من المثل فإن نقصه الجرح السدس أخرج سدس مثله

والثاني يخرج قيمة ذلك الجزء من مثله فيخرج قيمة السدس وهو قول القاضي وهو أقيس بالمذهب

ولو أفزعه وأذعره فقال أحمد في رواية الميموني في محرم أخذ صيدا ثم أرسله فإن كان حين أخذه اعنته تصدق بشيء لمكان أذاه وإذ عاره إياه لأنه قد حرم عليه ترويعه بقول النبي لا ينفر صيدها وإذا أرسله وقد ذعر وفزع لم يعده إلى مثل حالته الأولى

والذعر

فصل

ويضمن بيض الصيد مثل بيض النعام والحمام وغير ذلك بقيمته قال في رواية حنبل في المحرم يصيب بيض النعام فيه قيمته فإذا لم يجد صام لما روى سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن معاوية بن قرة عن رجل من الأنصار أن رجلا أوطأ بعيرة أدحى نعام فكسر بيضها فأنطلق إلى علي رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقال له علي عليك بكل بيضة جنين ناقة أو ضراب ناقة فانطلق إلى رسول الله فذكر ذلك له فقال رسول الله قد قال علي ما سمعت ولكن هلم إلى الرخصة عليك بكل بيضه صوم يوم أو إطعام مسكين رواه أحمد في المسند وأبو داود في مراسيله وإنما أمره النبي والله أعلم بطعام مسكين لكل بيضة لأن قيمة البيضة كانت إذ ذاك بقدر طعام مسكين يدل عليه ما روى أبو هريرة قال سئل رسول الله عن بيض النعام قال قيمته وعن ابن عباس قال قضى رسول الله في بيض النعام يصيبه المحرم بثمنه رواهما النجاد

وعن أبي الزناد قال بلغني عن عائشة أن رسول الله حكم في بيض النعام في كل بيضة صيام يوم رواه أبو دواد في مراسيله وقال أسند هذا الحديث وهذا هو الصحيح وأيضا عن إبراهيم قال قال عمر في النعام يصيبه المحرم قال ثمنه

وعن أبي عبيدة عبد الله بن مسعود في بيض النعام يصيبه المحرم قال فيه ثمنه أو قدر ثمنه وكان علي يقول يضرب له من الإبل بقدر ما أصاب من البيض فما نتج فهو هدي وما لم ينتج فهو بما يفسد من البيض

وعن ابن عباس في بيض النعام قال قيمته أو ثمنه وعن ابراهيم قال كانوا يقولون في بيض النعام وشبهه يصيبه المحرم فيه ثمنه وعن سعيد بن منصور وعن عبد الله بن حصين أن أبا موسى قال في كل بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين

وعن أبي عبيدة قال كان عبد الله بن مسعود يقول في كل بيضة من بيض النعام صوم يوم أو إطعام مسكين رواهما ابن أبي عروبة

فقد اتفقت أقوال الصحابة أن فيه قيمته إلا ما يروي عن علي رضي الله عنه وقد تقدم أن فتياه عرضت على النبي فأتى بخلافها والحديث مسند ذكره الإمام أحمد في المسند وإن كان مرسلا فقد عضده عمل جماهير الصحابة والتابعين به وأنه أسند من وجه اخر وذلك يجعله حجة عند من لا يقول بمجرد المرسل

وأيضا فإن البيض جزء من الصيد يتطلب كما يتطلب الصيد قال مجاهد في قوله { ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم } قال البيض والفراخ رواه ابن عيينة ويكون منه الصيد وفي أخذه تفويت لفراخ الصيد وقطع لنسله فوجب أن يمضن كالصيد وذلك أن الحيوان منه ما يبيض ومنه ما يلد والبيض للبائض كأحمد للوالد ويقال كل أسك يبيض وكل مشرف الأذنين يلد وهو مما لا مثل له فوجب أن يضمن بالقيمة لعصافير ونحوها

وأصل هذا عند أصحابنا أن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال لأنه يختلف باختلاف المضمون فيجب في الصغير والكبير والصحيح والمعيب والكامل والناقص بحسبه كالأموال بخلاف النفوس فإن ديتها لا تختلف بإختلاف هذه الصفات وإنما هو شيء مقدر في الشرع وإذا كان كذلك فهو لو أتلف بيض طير لانسان اعتبر البيض بنفسه ولم يعتبر بأصله بخلاف ما لو أتلف جنين ادمى

وفي جنين الصيد القيمة أيضا وهو أرش ما نقصته الجناية كجنين البهيمة المملوكة فإذا ضرب بطن ظبية حامل فألقت جنينا ميتا وسلمت فعليه ما بين قيمتها حاملا وحائلا وإن ماتت بعد ذلك ضمن قيمة ظبية حامل

ومن أصحابنا من خرج وجها أن جنين الصيد يضمن بعشر ما تضمن به الأم كما قال أبو بكر في جنين البهيمة المملوكة وأولى وعلى هذا فالبيض

فإن ضمنه بجنين مثله كما قال علي فظاهر الحديث أنه يجزئه

وهل يباح البيض بعد كسره فيه وجهان أحدهما لا يحل للكاسر ولا غيره من حلال ولا حرام كالصيد الذي قتله المحرم قاله القاضي وغيره وعلى هذا إذا أخذه وهو محرم وتركه حتى حل لم يبح أيضا كالصيد

والثاني يباح لأنه لا يفتقر إلى تذكية إذ لا روح فيه وعلى هذا فلا يحل للكاسر المحرم ولا وإنما يباح للحلال وكذلك ما لا يفتقر إلى ذكاة من الحيوان كالجراد

فإن كسر البيض فخرج مذرا فلا شيء عليه لأنه لا قيمة له فهو كما لو أهلك صيدا ميتا إلا بيض النعامة ففيه وجهان أحدهما يضمنه قاله القاضي في المجرد وابن عقيل لأن لقشره قيمة

والثاني لا يضمنه قاله القاضي في خلافه وأبو محمد

فإن خرج في البيض فرخ أو استهل الجنين حي وعاش فلا شيء عليه وإن مات أو إستهل جنين الصيد ثم مات ضمنه ضمان الصيد الحي

وإن أخذ البيضة فكسر البيضة ثم ترك الفرخ حيا فهل يضمن الفرخ لكونه بمنزلة من رد الوديعة ردا غير تام على وجهين

وإن خرج منها فرخ ميت فقال أصحابنا لا شيء فيه لأنه لا قيمة له بخلاف الجنين إذا وقع ميتا إنما مات بالضربة إذ لو مات قبل ذلك لأجهضه وهذا فيما إذا مات قبل الكسر فإن مات بالكسر

وإن كان الفرخ لم ينفخ فيه الروح ففيه قيمة بيض فرخ غير فاسد كالجنين

ويضمن بكل سبب هو فيه متعمد فلو نقل بيض طائر فجعله تحت طائر اخر فحضنه فإن صح وسلم فقد أساء ولا شيء عليه قاله أصحابنا وقد قال أحمد فيما إذا أعره يتصدق بشيء وإن فسد فعليه الضمان وكذلك إن أقره مكانه وضم إليه بيضا اخر ليحضنه الطائر سواء أذعر الطائر فلم يحضنه أو حضنهما معا وإن باض الحمام أو فرخ على فراشه فهل يضمن على وجهين كالجراد إذا افترش في طريقه

وإنما يضمن بيض طائر مضمون فأما بيض الغراب والحدأة فلا يضمنه ويضمن بيض الجراد كالجراد نفسه

ومن أتلف بيضا لا يحصيه احتاط فأخرج ما يعلم أنه قد أتى على قيمته ذكره القاضي وابن عقيل كمن نسى صلاة من يوم لا يعلم عينها وقياس المذهب

وأما بيض النمل فقال ابن عقيل هو على ما قلنا في النمل ففي النملة لقمة أو تمرة أو حفنة طعام إذا لم يؤذه ففي بيضها صدقة وهذا إنما يخرج على إحدى الروايتين وهو ضمان غير المأكول إذا لم يكن مؤديا فإما على الرواية الأخرى وهو أنه لا يضمن إلا ما يؤكل فليس في النمل ولا في بيضه ضمان

وأما بيض القمل وهو الصيبان فقال القاضي وابن عقيل فيه روايتان كالقمل

فصل

ولا يجوز أخذ لبن الصيد فإن أخذه ضمنه بقيمته ذكره ابن عقيل ويحتمل أنه يضمن بمثله لبنا من نظير الصيد فيضمن لبن الظبية بلبن شاة والأول أصح

فصل

وإذا اشترك

مسألة ويتخير بين إخراج المثل أو تقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما

هذا هو إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله وعليه أصحابه رواه الميموني والبغوي أبو القاسم قال في رواية الميموني في قوله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } إلى قوله { أو عدل ذلك صياما } فهو في هذا مخير

وقال في رواية أبي القاسم بن بنت منيع في محرم قتل صيدا يكفر بما في القرآن فإنما هو تخيير وعنه رواية أخرى نقلها حنبل وابن الحكم أن بدل الصيد على التخيير إذا كان مؤسرا ووجد الهدي لم يجزه غيره وإن كان مؤسرا ولم يجده إشترى طعاما فإن كان معسرا صام

قال في رواية ابن الحكم في الفدية هو بالخيار وفي جزاء الصيد لا يكون بالخيار عليه جزاء الصيد لا يجزئه إلا العدل ليس هو مخير في الهدي والصوم والصدقة

وقال في رواية حنبل إذا أصاب المحرم صيدا ولم يصب له عدل مثل حكم عليه قوم طعاما إن قدر على طعام وإلا صام لكل نصف صاع يوما هكذا يروي عن ابن عباس

وقال في رواية الأثرم وقد سئل هل يطعم في جزاء الصيد فقال لا إنما جعل الطعام في جزاء الصيد ليعلم الصيام لأن من قدر على الطعام قدر على الذبح هكذا قال ابن عباس يقوم الصيد دراهم ثم يقوم الدراهم طعاما ثم يصام لكل نصف صاع يوما وهو بناء على غالب الأمر وأن الهدي لا يعدم ومن أصحابنا من جعل هذا رواية ثالثة في المسألة فإن الاطعام لا يجزيء في جزاء الصيد بحال هكذا ذكره أبو بكر قال وبراوية حنبل أقول وذلك لأن النبي قضى في الضبع بكبش وكذلك أصحابه من بعده أوجبوا في النعامة بدنة وفي الظبي شاة وفي الحمام شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ولم يخيروا السائل بين الهدي وبين الإطعام والصيام ولا يجوز تعيين خصلة من خصال خير الله بينها كما لو إستفتى الحانث في يمين فإنه لا يجوز أن يفتى بالعتق عينا بل يذكر له الخصال الثلاث التي خيره الله بينها

وعن مقسم عن ابن عباس رحمة الله عليهما في قوله عز وجل { فجزاء مثل ما قتل من النعم } قل إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه فإن كان عنده جزاء ذبحه وتصدق بلحمه وإن لم يكن عنده قوم جزاؤه دراهم ثم قومت الدراهم طعاما فصام عن كل نصف صاع يوما وإنما جعل الطعام للصيام لأنه إذا وجد الطعام وجد جزاء رواه سعيد ورواه دحيم وقال إنما أريد بالطعام الصيام أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه

وفي رواية له عن ابن الحكم عن ابن عباس في الذي يصيب الصيد يحكم عليه جزاؤه فإن لم يجد حكم عليه ثمنه يقوم طعام يتصدق به فإن لم يجد حكم عليه صيام

وعن ابن عمر نحوه ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة

وأيضا فإن هذه كفارة قتل محرم وكانت على الترتيب ككفارة الادمى

وأيضا فإن جزاء الصيد بدل متلف والأصل في بدل المتلف أن يكون من جنس المتلف كبدل النفوس والأموال وإنما ينتقل إلى غير الجنس عند تعذر الجنس كما ينتقل إلى الدية عند تعذر القود وكما ينتقل إلى قيمة مثل المال المتلف عند أعواز المثل والهدي من جنس الصيد لأنه حيوان بخلاف الطعام والصيام

وأما ذكره بلفظ أو فذلك لا يوجب التخيير على العموم بدليل قوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } وإنما يوجب التخيير إذا أبتدىء بأسهل الخصال كقوله { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقوله { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } فلما بدأ بالأسهل علم أنه يجوز إخراجه وفي هذه الآية وقع الإبتداء بأشد الخصال كما ابتديء في اية المحاربين فوجب أن يكون على الترتيب ووجه الأولى وهي اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه ويشبه أن تكون هي المتأخرة لأن البغوي إنما سمع منه اخر بخلاف ابن الحكم فإن رواياته قديمة لأنه مات قبل أحمد قوله { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما }

وحرف أو إذا جاءت في سياق الأمر والطلب فإنها تفيد التخيير بين المعطوف المعطوف عليه أو إباحة كل منهما على الإجتماع والإنفراد كما يقال جالس الحسن أو ابن سيرين وتعلم الفقه أو النحو هذا هو الذي ذكره أهل المعرفة بلغة العرب في كتبهم قالوا وإذا كانت في الخبر فقد تكون للإبهام وقد تكون للتقسيم وقد تكون للشك وعلى ما ذكره نخرج معانيها في كلام الله فإن قوله { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وقوله { فكفارته إطعام عشرة مساكين } وقوله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وإن كان مخرجه مخرج الخبر فإن معناه معنى الأمر فيكون الله قد أمر بواحدة من هذه الخصال فيفيد التخيير

وقوله { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } وقوله { تقاتلونهم أو يسلمون } وقوله { ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم } وقوله { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } وأما اية المحاربين فلم يذكروا في سياق الأمر والطلب بل هي في سياق الخبر عن الجزاء الذي يستحقونه ثم قد علم من موضع اخر أن إقامة الحدود واجبة على ذي السلطان ولهذا لا يفهم من مجرد هذا الكلام إيجاب أحد هذه الخصال كما يفهم ذلك من ايات الكفارات ثم لو كانت في معرض الإقتصاء إنما ذكرت في سياق النفي والنهي لأن النبي لما مثل بالعرنيين نهاه الله سبحانه عن المثلة وبين أنه ليس جزاؤهم إلا واحدة من هذه الخصال فلا ينقصوا عنها لأجل جرمهم ولا يزادوا عليها لأنه ظلم وفي مثل هذا لا تكون أو للتخيير ولو قيل إن ظاهر لفظها كان للتخيير لكن في سياقها ما يدل على أنه لم يرد للتخيير فإن العقوبات التي تفعل بأهل الجرائم لا يكون الوالي مخيرا تخيير شهوة وارادة بين تخفيفها وتثقيلها لأن هذا يقتضي إباحة تعذيب الخلق لأن ذلك القدر الزائد من العذاب له أن يفعله وله أن لا يفعله من غير مصلحة ومثل هذا يعلم أنه لا يشرع فعلم أن مقتضاها العقوبة بواحد منها عندما يقتضيه

وأما قولهم تلك الايات بدأ فيها بالأخف بخلاف اية الجزاء فنقول إنما بدأ في اية الصيد بالجزاء لأن قدر الإطعام وقدر الصيام مرتب على قدر الجزاء فما لم يعرف الجزاء لا يعرف ذلك ولو بدىء فيها بالصيام لم يحصل البيان ألا تراه يقول { أو عدل ذلك صياما } وخصال كفارة اليمين وفدية الأذى كل واحدة قائمة بنفسها غير متعلقة بالأخرى

وأما ذكر النبي وأصحابه للجزاء من النعم دون الإطعام والصدقة فذاك والله أعلم لأنهم قصدوا بيان الجزاء من النعم لأنه هو الذي يحتاج فيه إلى الحكم والطعام والصدقة يعرفان بمعرفته ولا يفتقران إلى حكم ولأن التكفير بالجزاء أفضل وأحسن وهو أهم خصال الجزاء وقد كانوا يعلمون من حال السؤال أن قصدهم بيان الجزاء لا ذكر الصدقة والصيام

وأيضا ففي الحديث الذي ذكرناه في بيض النعام عن النبي وعن أصحابه أن بكل بيضة صوم يوم أو اطعام مسكين فقد خيره بين الصدقة والصيام والخيرة إلى القاتل في الخصال الثلاثة دون الحكمين لأن الله إنما جعل حكم الحكمين في الجزاء خاصة دون الصدقة والصيام

فصل

وعلى الروايتين إذا كفر بالطعام فلا يخلوا إما أن تكون الصدقة مما له مثل أو مما لا مثل له فإن كان له مثل فلا بد من معرفة المثل ثم يقوم المثل فيشتري بقيمته طعام هذا أشهر الروايتين عن أبي عبد الله قال في رواية ابن القاسم إذا قتل المحرم الصيد ولم يكن عنده جزاء فإنما يقوم المثل ولا يقوم الصيد قد عدل بمثله من النعم فلا يقوم ثعلب ولا حمار ولا طير وإنما يقوم المثل في الموضع الذي أصابه فيه وفيما يقرب فيه الفدى والرواية الأخرى يقوم الصيد على ظاهر ما نقله الأثرم وذكرها ابن أبي موسى لأنه أحد نوعي الصيد فكان التقويم له كالذي لا مثل له

وأيضا فإن الطعام بدل عن الصيد كالجزاء فوجب إعتباره بالأصل لا بالبدل ولأنه متلف وجب تقويمه فكان التقويم له لا لبدله كسائر المتلفات

ووجه الأولى وهي قول أصحابنا قول ابن عباس إن لم يكن عنده جزاه دراهم ثم قومت الدراهم طعاما ولا يعرف له في الصحابة مخالف

ولأن قوله { أو عدل ذلك } إشارة لما تقدم وهو الجزاء وكفارة طعام مسكين ولأن الكفارة التي هي طعام مساكين لم تقدر فلو

فعلى هذا يقوم المثل في الموضع الذي أصاب فيه الصيد في الوقت الذي وجب عليه الجزاء هذا منصوصه كما تقدم

وقال القاضي يقوم المثل بمكة حين يخرجه بخلاف ما وجبت قيمته

فصل

وأما الصيام فإنه يصوم عن طعام كل مسكين يوما لأن الله قال { أو عدل ذلك صياما } وعدل الصدقة من الصيام في كتاب الله أن يصام عن طعام كل مسكين يوم كما أن عدل الصيام من الصدقة أن يطعم عن كل يوم مسكين قال الله تعالى { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } ثم قال { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } وقال { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وذلك لأن طعام يوم كصوم يوم

ولأن النبي جعل في بيض النعامة صوم يوم أو اطعام مسكين وكذلك أصحابه

وفي مقدار طعام المسكين الذي يصام عنه يوم روايتان ذكرهما ابن أبي موسى وإحداهما نصف صاع على ما ذكره في رواية حنبل والأثرم لأنه مأثور عن ابن عباس

والثانية مد قال في رواية ابن منصور إذا كان جزاء الصيد مد ونصف فلا بد من تمام يومين ابتداء فإنه تجب قيمته في موضعه وقت قتله وحمل إطلاق أحمد على ذلك لأن ماله مثل يجب اخراج مثله في الحرم فإذا أراد اخراج بدله فعليه أن يقومه في الموضع الذي يجب إخراجه فيه

والصواب المنصوص لأنه بقتل الصيد وجب الجزاء في ذمته ولأن قيمة المثلف إنما تعتبر حال الوجوب في ظاهر المذهب فلا يجوز تأخير التقويم إلى حين الأدى ثم المثل المقوم لا وجود له وإنما يقدر

وإن لم يكن له مثل قوم نفس الصيد يوم القتل في موضعه أو في أقرب المواضع اليه ويكون التقويم النقد الغالب فإن قومه بطعام

فصل

وإذا قوم الصيد أو بدله فإنه يشتري بالقيمة طعاما وإن أحب أخرج من طعام يملكه بقدر القيمة ويكون الطعام مما يجزيء اخراجه في الكفارات وهو الحنطة والشعير والتمر والزبيب فأما الخبز والتغذية والتعشية وأما طريقة القاضي وأبي الخطاب وغيرهما فإنهم حملوا الروايتين على إختلاف حالين فإن قوم بالحنطة صام مكان كل مد يوما وإن قوم بالشعير والتمر صام مكان كل نصف صاع يوما وهذا قياس المذهب الذي لا يحتمل سواه وقد قال في رواية الأثرم في إطعام المساكين في الفدية والجزاء وكفارة اليمين إن أطعم برا فمد لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع لكل مسكين وهم ستة مساكين في الفدية

فنص على الفرق في الجزاء بين البر وغيره كما فرق بينهما في الفدية والكفارة ويعتبر قيمة الطعام إذا أراد أن يصوم عنه في موضع وجوبه وهو موضع قتل الصيد وفي موضع إخراجه وهو مكة كما ذكرنا في قيمة المثل إذا أراد أن يطعم

فإن كان البر رخيصا بحيث تكون القيمة منه مائة مد والتمر غاليا بحيث تكون القيمة منه عشرين صاعا

وإذا لم يبق من الكفارة إلا بعض طعام مسكين فإن عليه أن يصوم يوما تاما نص عليه لأن الصوم لا يتبعض وليس له أن يخرج بعض الفدية طعاما وبعضها صياما قال أبو عبد الله إذا أصاب صيدا وعنده طعام لا يتم جزاء الصيد صام لأنه لا يكون بعضه صوما وبعضه طعاما

فصل

وما لا مثل له إذا أراد أن يشتري يخرج قيمته لم يجزه وقال ابن أبي موسى هو مخير بين أن يفدى الصيد بالنظير أو يقوم النظير دراهم فيتصدق بها أو يقوم بالدراهم طعاما ويصوم عن كل مد يوما فجعل الصدقة بنفس القيمة وجعل الطعام لمعرفة مقدار الصوم وإن أراد أن يشتري بها هديا هدايا ويهديه إلى مكة فقال القاضي لا يجوز أيضا

فصل

وله أن يخرج الجزاء بعد انعقاد سببه قبل الوجوب قال ابن أبي موسى لو أخرج من الحرم عنزا حاملا فولدت ثم ماتت وأولادها كان عليه جزاؤها وجزاء أولادها فإن أخرج الجزاء عنها وعن أولادها قبل هلاكهم ثم ماتت وأولادها لم يلزمه جزاء ثان وأجزاه الأول وكان بمنزلة من كفر قبل الحنث

مسألة الضرب الثاني على الترتيب وهو هدي التمتع يلزمه شاة فإن لم يجد فيصام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع

هذا الهدي واجب بنص القرآن والسنة والإجماع قال الله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } وبالسنة كما تقدم عن ابن عمر وبالإجماع

وفيه فصول الأول في الهدي ويجزيء فيه ما يجزيء في الأضحية وهو بدنة أو بقرة أو شاة أو شرك في دم لأن الله قال { فما استيسر من الهدي } والغنم الهدي بدليل قوله في جزاء الصيد { هديا بالغ الكعبة } ولا يقال فقد يدخل في الجزاء ما لا يدخل في مطلق الهدي من الصغير والمعيب ويسمى هديا لأن ذلك إنما وجب بإعتبار المماثلة المذكورة في قوله { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وفي اية التمتع أطلق الهدي ولم يعتبر فيه مماثلة شيء ولأن ذلك يدل على أن المعيب والصغير من الأزواج الثمانية يكون هديا وهذا صحيح كما أن الرقبة المعيبة تكون رقبة في العتق لكن الواجب في مطلق الهدي والرقبة إنما يكون صحيحا على الوجه المشروع

وعلم ذلك بالسنة ولأن النبي أهدى مرة غنما متفق عليه

ولأن عائشة وعن عكرمة أن رسول الله قسم بين أصحابه في متعتهم غنما فأصاب سعدا يومئذ تيس رواه سعيد

ولا يجب عليه الهدي حتى يكون واجدا له اما بأن يكون مالكه أو يجد ثمنه فإن كان عادما بمكة واجدا ببلده بحيث يمكنه أن يقترض لم يجب ذلك عليه نص عليه في رواية الأثرم إذا وجب عليه هدي متعة وليس معه نفقة وهو ممن لو استقرض أقرض فلا يستقرض ويهدي قال الله { فمن لم يجد فصيام } وهذا ليس بواجد وذلك لأنه قد وجب عليه الهدي أو بدله في مكة فلم يجب عليه الإقتراض كما لو عدم الماء وهذا بخلاف عادم الرقبة في الظهار على أحد

ولأنها عبادة مؤقتة ذات بدل فإذا عدم المبدل حين الوجوب جاز له الإنتقال إلى بدلة كالطهارة

ويجب الهدي والصوم عنه بعد الوقوف في إحدى الروايتين وفي الأخرى يجب إذا أحرم قال في رواية ابن القاسم وسندي وقد سئل متى يجب صيام المتعة فقال إذا عقد الاحرام

وقد تأول القاضي ذلك على أن الاحرام سبب للوجوب كما أن النصاب سبب لوجوب الزكاة لا أن الوجوب يتعلق به وإنما يتعلق بيوم النحر كما يتعلق وجوب الزكاة بالنصاب والحول

وأقرها أبو الخطاب وغيره على ظاهرها وقال معناه إذا أحرم بالحج ويؤيد ذلك قال والصيام للمتعة يجب على المتمتع إذا عقد الاحرام وكان في أشهر الحج وهذا يدخل على من قال لا تجزيء الكفارة قبل الحنث ولعل هذا لا يحج ينصرف وهم يقولون يجزئه الصيام وفي قلبي من الصيام أيام التشريق شيء

قال القاضي وقوله إذا عقد الاحرام أراد به إحرام العمرة لأنه شبهه بالكفارة قبل الحنث وإنما يصح الشبيه إذا كان صومه قبل الاحرام بالحج لأنه قد وجد أحد السببين ولأنه قال إذا عقد الاحرام في أشهر الحج وهذا إنما يكون في إحرام العمرة لأن من شرط التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج لأن الله قال { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وباحرامه بالحج صار متمتعا لأنه ترفه بحله وسقوط أحد السفرين عنه ولأن الله تعالى قال { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } فجعله بعد إيجاب الهدي عليه مأمورا بصيام ثلاثة أيام في الحج وهو يؤمر قبل يوم عرفة فعلم أنه قد وجب عليه الهدي قبل الصيام

والرواية الأولى اختيار القاضي ثم إختلفوا في معناها فقال القاضي في خلافه وأبو الخطاب وابن عقيل في بعض المواضع وغيرهم معناها أنه يجب عند انقضاء وقت الوقوف وهو طلوع الفجر يوم النحر لأنه وقت التحلل ووقت جواز الذبح ويتوجه على هذه الطريقة أن لا يجب حتى يرمي الجمرة أو يجب إذا إنتصفت ليلة النحر

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل وغيرهما معنى كلامه إنه إذا وقف بعرفة فقد وجب عليه وهذا معنى كلامه بلا ريب قال في رواية المروذي وإبراهيم ويجب على المتمتع الدم إذا وقف بعرفة والقارن مثله يروي فيه عن عطاء وفي لفظ اخر في متمتع مات قبل أن يذبح قال إذا وقف بعرفات وجب عليه الهدي قال القاضي وابن عقيل يجب بالوقف ويتأخر إخراجه إلى يوم النحر وذلك لأن الله إنما أوجب الهدي على من تمتع بالعمرة إلى الحج وإنما يكون متمتعا إذا أتى بالحج

وأما وقت ذبح الهدي فإنه يوم النحر فلا يجوز الذبح قبله لكن يجوز يذبح فيه بعد طلوع الفجر قاله القاضي وغيره

وقال وهذا هو المذهب المعروف المنصوص قال في رواية ابن منصور وأما هدي المتعة فإنه يذبح يوم النحر

وقال أبو الخطاب لا يجوز نحر هديه قبل وقت وجوبه فظاهر كلامه أنا إذا قلنا يجب بالاحرام بالحج ينحر حينئذ وليس كذلك

وذكر بعض أصحابنا رواية أنه إذا قدم قبل العشر جاز أن يذبحه قبله وإن قدم فيه لم يذبحه إلى يوم النحر

وهذه الحكاية غلط فإنه من لم يسق الهدي لم يختلف أنه لا يذبح إلى يوم النحر ومن ساقه فقد اختلف عنه فيه لكن الخلاف هو في جواز نحر الهدي المسوق وفي تحلل المحرم أما الهدي الواجب بالمتعة فلا بل عليه أن ينحره يوم النحر قال في رواية يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعا وساق الهدي فإن قدم في شوال نحر الهدي وحل وعليه هدي اخر وإذا قدم في العشر أقام على إحرامه ولم يحل قال القاضي فقد نص على أنه إذا نحر قبل العشر كان عليه هدى اخر يعني في يوم النحر ولم يعتد بما ذبح قبله

لأن الله يقول { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وما بعد الغاية يخالف ما قبلها فاقتضى ذلك أن بعد بلوغ الهدي محله يجوز الحلق والحلق إنما يجوز يوم النحر فعلم أن الهدي إنما يبلغ محله يوم النحر والآية عامة في هدي المحصر وغيره لعموم لفظها وحكمها فإن النبي قال لأصحابه في حجة الوداع من لم يسق الهدي فليحل ومن ساق الهدي فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله

وعن عائشة رضي الله عنها في حديث لها قالت قال رسول الله من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل ومن أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى يحل بحج نحر هديه متفق عليه

وفي حديث ابن عباس عن النبي من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله رواه البخاري وعن جابر أن النبي قال لولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله

وعنها وعن ابن عمر في حديث لهما ذكرا فيه أن الناس تمتعوا مع رسول الله فلما قدم رسول الله قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه متفق عليهما

فقد بين أنه لا يحل حتى يحل نحر الهدى وبين أنه لا يحل حتى يقضي حجه فعلم أنه لا يحل نحر الهدي الذي ساقه ويبلغ محله حتى يقضي حجه فهديه الذي لم يسقه بطريق الأولى ولأن النبي نهى جميع من معه هدي من متمتع ومفرد وقارن أن يحلوا إلى يوم النحر وبين أنه إنما منعهم من الاحلال الهدي الذي وكذلك أخبر عن نفسه أنه لا يحل حتى ينحر وحتى يبلغ الهدي محله ولو كان الذبح جائزا قبل يوم النحر لنحروا وحلوا ولم يكن الهدي مانعا من الإحلال قبل يوم النحر إذا كان ذبحه جائزا وهذا بين في سنة النبي المستفيضة عنه ولأن عامة أصحاب رسول الله في حجة الوداع كانوا متمتعين حلوا من احرامهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ولم ينحروا إلا يوم النحر وذبح النبي عن أزواجه يوم النحر وكن متمتعات وقد قال لتأخذوا عني مناسككم فلو كان الذبح قبل النحر جائزا لفعله بعض المسلمين أو أمر به رسول الله لا سيما والمبادرة إلى إبراء الذمة أولى من التأخير

وعن صدقة بن سيار قال كنت عند ابن عمر فجاءه رجل كأنه بدوي في العشر فقال إني تمتعت فكيف أصنع قال طف بالبيت وبين الصفا والمروة وخذ ما تطاير من شعرك فإذا كان يوم النحر فعليك نسيكة قال وما هي قال شاة رواه سعيد

ولأن الله قال { ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ووفاء النذور هو فعل ما وجب عليهم من هدى وقد جعل الله ذلك مع قضاء التفث

ولأن الله قال { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق } وهذا يقتضي أن الانتفاع بها له وقت محدود

وأيضا فإن هدي المتعة نسك فلم يجز ذبحه إلى يوم النحر كالهدي المنذور والأضحية الواجبة

ولأنه أحد أسباب التحلل فلم يجز تقديمه على يوم النحر كالحلق والرمي والطواف الفصل الثالث

ودليل الوصف

أنه إذا لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع بالكتاب والسنة والإجماع كما تقدم قال في رواية المروذي فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة كملت الحج وأمر الهدي

أما الثلاثة فيجب أن يصومها قبل يوم النحر لأن الله سبحانه أمر بصومها في الحج ويوم النحر لا يجوز صومه فتعين أن يصام قبله لأن ما بعده ليس بحج إلا أيام التشريق على إحدى الروايتين والأفضل تأخير صومها حتى يكون اخرها يوم عرفة هذا هو المذهب المنصوص في رواية الأثرم وأبي طالب وعليه عامة الأصحاب

وحكى القاضي في المجرد أن الأفضل أن يجعل اخرها يوم التروية لأن صوم يوم عرفة بعرفات لا يستحب فإذا جعل اخرها يوم التروية أفطر يوم وفطره أفضل والأول أصح لما روي ولأنه يستحب تأخيره لعله يقدر على الهدي قبل الشروع في الصيام فإنه أفضل وليتحقق عجزه عن الهدي وهذا يقتضي التأخير إلى اخر وقت الإمكان وصوم يوم عرفة ممكن لأنه لم ينه عن الصوم فيه ولأن هذه الأيام الثلاثة وهي يوم التروية ويوم عرفة واليوم الذي قبلهما أخص بالحج لأن فيهن يقع المسير إلى عرفات وبعض خطب الحج

والصيام يوم عرفة صائم في حال فعل الحج فكان أشد إمتثالا للأمر من غيره فكان أفضل وإنما لم يستحب فيها صوم التطوع فأما الواجب فإنه يفعل فيها وفي غيرها ويجوز الصوم من حين يحرم بالحج بلا تردد قال في رواية ابن القاسم وسندي والصيام للمتعة يجب على المتمتع إذا عقد الاحرام وكان في أشهر الحج

وهذا يدخل على من قال لا تجزيء الكفارة قبل الحنث ولعل هذا لا يحج ينصرف وهم يقولون يجزئه الصيام وفي قلبي من الصيام أيام التشريق شيء وإنما أراد حرام ذكره القاضي وغيره لأنه قال إذا عقد الاحرام وكان في أشهر الحج وإنما يشترط هذا في الاحرام بالعمرة لأن الاحرام في أشهره لا يؤثر في إيجاب الدم ولأنه قاس به الكفارة قبل الحنث لأن أحد السببين قد وجد دون الاخر ولأنه قال لعله لا يحج ينصرف وإنما ينصرف ويترك الحج قبل أن يحرم به ولأنه قال وهم يقولون يجزئه الصيام يعني أهل الرأي فحكى عنهم قولهم في مسألة الخلاف وهي الصوم بعد الاحرام بالعمرة وإن وافقهم فيها فأما الصوم بعد إحرام الحج فمجمع عليه لا يضاف إلى واحد بعينه

وقال في رواية الأثرم قال الله { فصيام ثلاثة أيام في الحج } قال يصومها إذا أحرم والاحرام يوم التروية ويريد أن يصوم يوما قبل التروية ويكره أن يصومها قبل أن يقدم مكة ولا يبالي أن يقدم أولها بعد أن يصومها في أشهر الحج فإن صامها قبل أن يحرم فجائز

وذكر القاضي وابن عقيل رواية أخرى أنه يجوز صومها قبل الاحرام بالعمرة من أول أشهر الحج ولعل ذلك لقوله ولا يبالي أن يقدم أولها بعد أن يصومها في أشهر الحج فأعتبر مجرد وقوعها في أشهر الحج ولم يعتبر وقوعها بعد الاحرام ثم قال فإن صامها قبل أن يحرم فجائز وعنى به إحرام العمرة لأنه قد يقدم صومها قبل إحرام الحج قبل ذلك

وقال القاضي في خلافه قوله أن يحرم بالحج أراد به الاحرام بالحج وقد حكى بعض أصحابنا رواية أنه إنما يجوز أن يصومها قبل إحرام الحج بعد التحلل من العمرة ولعله أخذ ذلك من هذه الرواية لأنه قد نص على جواز صومها قبل الاحرام بالحج إذا كان في أشهر الحج ولم يجز صومها من حين الاحرام بالعمرة بل قد كره أن يصوم قبل أن يقدم مكة لأنه يكون حينئذ معتمرا لا حاجا ويحتمل أنه إنما كره ذلك كراهة تنزيه لأنه مسافر والصوم للمسافر مكروه عنده في إحدى الروايتين

وقال في رواية صالح كان ابن عمر وعائشة يقولان يصوم المتمتع حين يهل فإن فاته صام أيام التشريق

وذلك لما روى عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله لما قدم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله متفق عليه

وقد تقدمت الأحاديث أن عامة أصحاب رسول الله كانوا متمتعين في حجة الوداع وأنهم إنما أحرموا بالحج يوم التروية حين ذهبوا إلى منى ولم يستثن واحد منهم أنه أحرم قبل ذلك وأمر النبي أصحابه كلهم إذا خرجوا إلى منى أن يحرموا بالحج ولم يأمر أحدا منهم بتقديم إحرامه بالحج مع علمه بأنهم متمتعون وأن كثيرا منهم لا يجد الهدي ولهذا بين لهم حكم من يجد الهدي ومن لا يجده

ومن أحرم يوم التروية فإنه يحتاج أن يصوم يوما من الثلاثة قبل الاحرام بالحج بل يومين لأن يوم التروية إنما أحرموا نهارا وقد أنشأوا الصوم قبل الاحرام ولو لم يجز الصوم قبل الاحرام بالحج لوجب تقديم الاحرام بالحج قبل أن يطلع فجر اليوم السابع والصحابة لم يفعلوه والنبي لم يأمرهم به بل أمرهم بخلافه ولهذا لم يختلف نص أحمد في هذه الصورة ثم إن قيل وإن قيل يجوز قبل الاحرام بالعمرة فيحمل بالعمرة فيحمل قوله في الحج على أن المراد أشهر الحج وأما وجه المشهور فإنه إذا أحرم بالعمرة فقد انعقد سبب الوجوب في حقه ودخل في التمتع بدليل أنه ساق الهدي معه لمنعه الهدي من الاحلال فإن قيل فقد قال الله تعالى { فصيام ثلاثة أيام في الحج } وهذا يقتضي وقوع الصيام بعد الاحرام بالحج لأنه إنما يكون متمتعا بالعمرة إلى الحج إذا أحرم به ولأنه قال في الحج فإذا صام قبله لم يجز

قلنا هو ينوي التمتع ويعتمده من حين يحرم بالعمرة ويسمى متمتعا من حينئذ ويقال قد تمتع بالعمرة إلى الحج كما يقال أفراد الحج وقرن بين العمرة والحج وهذا كثير في الكلام المقبول ولو لم يكن متمتعا إلى أن يحرم بالحج فليس في الآية أن الصوم بعد كونه متمتعا وإنما في الآية أن يصوم في الحج على أن قوله { فمن تمتع بالعمرة } يجوز أن يكون معناه فمن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج كما قال { فإذا قرأت القرآن } و{ إذا قمتم إلى الصلاة } { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } أي يريدون العود

وأما قوله { فصيام ثلاثة أيام في الحج } فقد قال قوم أي في حال الحج ويكون نفس احرام الحج ظرفا ووعاء للصوم كما يقال دعا في صلاته وتكلم في صلاته ولبى في حجه وتمضمض في وضوئه وهذا لأن الأزمنة لما كانت تحوى الأفعال وتشملها فالفعل قد يحوى فعلا اخر

وقال أصحابنا فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج لأن الفعل لا يكون ظرفا للفعل الا على سبيل التجوز مع تقدير الزمان ولهذا قال أهل الاعراب ان العرب تجعل المصادر أحيانا على سبيل التوسع أما على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فيكون المحذوف مقدرا واما على تضمين الفعل الزمان لاستلزامه اياه فيكون الزمان مضمنا قالوا وإذا كان المعنى فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج فالحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وكلام أحمد يشير إلى هذا الوجه ويؤيد ذلك أنه قال { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ثم قال بعيد ذلك { الحج أشهر معلومات } فكأنه قال فصيام ثلاثة أيام في أشهر معلومات والمعنى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فليصم ثلاثة أيام في أشهر الحج لا يؤخرهن عن وقت الحج

وعلى القول الأول فإذا إحرام بالعمرة إلى الحج فهو حاج فإذا صامها حينئذ فقد صامها في حجه لأن العمرة هي الحج الأصغر وعمرة التمتع جزء من الحج بعض له لأن النبي قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة وشبك بين أصابعه والمتمتع حاج من حين يحرم بالعمرة إلا أن إحرامه يتخلله حل بخلاف من أفرد العمرة

فصل

وأما صيام السبعة فيجوز تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله فإذا رجع إليهم فإن صامها في طريقه أو في مكة بعد أيام منى وبعد التحلل الثاني جاز وإن صامها قبل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول لم يجز سواء رجع إلى وطنه أو لم يرجع ذكره القاضي

قال في رواية أبي طالب إن قدر على الهدي وإلا يصوم بعد الأيام قيل له بمكة أم في الطريق قال كيف شاء

وقال في رواية الأثرم وقد سأله عن صيام السبعة يصومهن في الطريق أم في أهله فقال كل قد تأوله الناس ووسع في ذلك كله

والأصل في ذلك قوله تعالى { وسبعة إذا رجعتم } فذهب القاضي وأصحابه وغيرهم إلى أن معنى ذلك إذا رجعتم من الحج لأنه قد قال تعالى { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ثم قال { وسبعة إذا رجعتم } فتقدير الرجوع من الحج الذي تقدم ذكره أولى من تقدير الرجوع من السفر لأنه لم يذكر ولأنه لو رجع إلى أهله قبل الاحلال الثاني لم يجز الصوم فعلم أن الحكم مقيد بالرجوع من الحج فقط ويصح تسميته راجعا من الحج بمعنين أحدهما أنه قد عاد إلى حاله قبل الاحرام من الاحلال والثاني أنه يفعل في أماكن مخصوصة فإذا قضاه ورجع عن تلك الأماكن وانتقل عنها سمى راجعا بهذا الإعتبار

وفيها طريقة أخرى أحسن من هذه وهي طريقة أكثر السلف أن معنى الآية إذا رجعتم إلى أهلكم وهي طريقة أحمد لأنه قال إذا فرط في الصوم وهو متمتع صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم

وقال في رواية جماعة عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وإن شاء صام في الطريق وذلك لما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة أن رسول الله لما قدم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وذكر الحديث وهذا تفسير من النبي

وروى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال أهل المهاجرون والأنصار وأزواج رسول الله في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله اجعلوا أهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي طفنا بالبيت وبين الصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى { فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أمصاركم الشاة تجزيء فجمعوا بين نسكين في عام الحج والعمرة فإن الله تعالى أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة قال الله { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }

وقوله إلى أمصاركم يحتمل أن يكون مرفوعا وموقوفا وعن جابر

وأيضا فإن الرجوع المطلق إنما يفهم منه الرجوع إلى الوطن لكن تأخير الصوم إلى مصره رخصة كما روى سعيد عن عطاء وسبعة إذا رجعتم قال هي رخصة إن شاء صام في الطريق وإن شاء إذا قدم إلى منزلة

وعن الحسن مثله هي رخصة وروى الأشج عن مجاهد في قوله { وسبعة إذا رجعتم } قال إن شاء صامها في الطريق فعل فإنما هي رخصة وذلك لأن هذا بمنزلة قوله

{ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } لما انعقد سبب الوجوب وتم كان التأخير إلى حال الإقامة رخصة وكذلك صوم السبعة إنما سببه المتعة وهي قد تمت بمكة لكن لما كان الحاج مسافرا والصوم يشق جوز له الشرع التأخير إلى أن يقدم

وأيضا فإن الحجيج إذا صدورا من منى فقد شرعوا في الرجوع إلى أهلهم فإن عرفات ومنى هي منتهى سفرهم فالمصدر عنها قفول من سفرهم ورجوع إلى أوطانهم ومقامهم بعد ذلك بمكة أو المدينة أو غيرهما كما يعرض لسائر المسافرين من المقام والأفعال الممتدة مثل الحج والرجوع ونحوه يقع الاسم على المتلبس به إذا شرع فيه وإن كان لا يتناول الاسم على التمام إلا إذا قضاه

يبين هذا أن الصوم لا يختص بمكان ولا بحال دون حال فلو قيل لا يجوز له الصوم بالطريق أو بمكة لكان منعا للصوم في بعض الأمكنة وذلك غير معهود من الشرع ولا معنى تحته

وأيضا فعند أصحابه أن صوم السبعة قد وجب في ذمته بمكة وقد نص أحمد على ذلك فقال في رواية المروذي إذا مات ولم يصم السبعة أيام يطعم عنه بمكة موضع وجب عليه وكل صوم وجب في ذمته فله البدار إلى فعله كقضاء رمضان والنذر ودليل وجوبه أنه وجب بدلا عن الهدي والبدل لا يتأخر وجوبه عن وجوب المبدل منه لأنه قائم مقامه

والأفضل أن يؤخر صومها إلى أن يقدم لأنه أخذ بالرخصة وخروج من الخلاف كما قلنا في صوم رمضان وأولى إلا أن بينهما فرق فإن صوم رمضان يصومه مقيما في غير وطنه

فصل

ويجوز أن يصوم كل واحد من الثلاثة والسبعة متفرقا كما يجوز أن يصومه متتابعا نص عليه لأن الله سبحانه أطلقه ولم يقيده بالتتابع فيبقى على ما أطلقه الله سبحانه

فصل

قد قلنا أنه يجوز أن يصوم من حين الاحرام بالعمرة وإنما يكون هذا إذا لم يجد هديا حينئذ ويغلب على ظنه أنه لا يجده إلى يوم النحر فأما إن غلب عليه إنه يجده يوم النحر فإذا شرع في صوم الثلاثة لم يلزمه الإنتقال إلى الهدي بل يمضي في صومه وإن انتقل إليه فهو أفضل

قال في رواية حنبل في المتمتع إذا صام أياما ثم أيسر أرجو أن يجزئه الصيام ويمضي فيه

وقال في رواية ابن منصور في متمتع لم يجد ما يذبح فصام ثم وجد يوم النحر ما يذبح فمتى دخل في الصوم فليس عليه ونقول في الكفارات كلها إذا دخل في الصوم يمضي فيه وكذلك إذا تيمم ثم دخل في الصلاة فليمض

وهذا أصل مطرد لنا في الكفارات كلها إذا قدر على التكفير بالمال بعد الشروع في الصيام لم يلزمه الإنتقال لأن الصوم لا يبطل بوجود الرقبة والهدي

ويتخرج أنه يلزمه الإنتقال لأن الهدي على وجه مثل ذلك الكفارات أنه إذا أيسر في الصيام انتقل إلى المال والإنتقال هنا أوجه لأن الهدي إنما يستقر وجوبه وإنما يجزيء ذبحه يوم النحر بخلاف العتق في الكفارات فإن إستقراره قبل الشروع في الصوم نعم هو يشبه كفارة الظهار إذا قلنا لا تستقر إلا بالوطء وكفر قبله

وقد خرج ابن عقيل أنه يلزمه الإنتقال التي بعد الشروع على الرواية التي تقول الإعتبار في الكفارات بأغلظ الحالين

وهذا تخريج غير سديد لأن ذلك إنما يجيء فيما إذا وجد الهدي قبل الشروع في الصوم كما سنذكره فإن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه حتى وجد الهدي فهل يلزمه الإنتقال إليه ذكر أصحابنا فيه روايتين أصحهما لا يلزمه الإنتقال أيضا وبنوا ذلك على الروايتين في الكفارة هل العبرة بحال الوجوب أو بأغلظ الحالين من حال الوجوب والأداء وهذا بنبني على حال وجوب الصوم فإن قلنا يجب إذا أحرم بالحج وكان قد أحرم قبل النحر بأيام فهذه صورة مستقيمة

وأما إن قلنا إنه لا يجب الصوم ولا الهدى إلى يوم النحر أو قلنا إذا أحرم بالحج فلم يحرم به إلى اليوم السابع أو الثامن أو التاسع فإنما معناه لا يجب وجوب استقرار في الذمة وإلا فإنه يجب عليه فعل الصوم قبل يوم النحر بلا تردد كما قلنا في المظاهر يجب عليه إخراج الكفارة قبل الوطء وإن قلنا لا يستقر في ذمته إلا بالوطء فنقول على هذا إنما يجب عليه أداء الصوم قبل النحر بثلاث ليال فإذا وجد الهدي بعد انقضاء بعضها من غير صوم ثم وجد الهدي فهذه الصورة يجب أن يجب فيها الهدى ولا يجزئه الصوم كما لو عزم المظاهر على العود ولم يصم حتى وجد الرقبة وذلك لأنه وجد الهدي قبل أن يجب الصوم فإن الصوم لا يجب في الذمة إلا إذا أحرم بالحج أو وقف بعرفة

ووجوب أدائه قبل ذلك

وأما إن كان فرضه الصوم ودخل يوم النحر ولم يصم ثم وجد الهدي فهنا يشبه مسألة الكفارات إلا أن الصوم هنا فات وقته بخلاف الصوم في الكفارات فقد فرط بتفويته وقد اختلفت الرواية عنه فعنه أنه يهدي هديان ولا يجزئه الصوم وعنه يقضي الصوم ويهدي وعنه يقضيه من غير هدي كما سيأتي إن شاء الله فإن هذه المسألة لها مأخذان أحدهما أنه قد استقر البدل في الذمة

والثاني أنه قد فوته

وأما التفريق بين أن يقدر على الهدي أو لا يقدر

فصل

وإذا وجب عليه الهدي فلم يهد حتى خرجت أيام الذبح ففيه ثلاث روايات منصوصات إحداهن عليه هدي متعته وهدي اخر لتفريطه وهذا اختيار الشريف أبي جعفر قال أصحابنا لتأخير عن وقت الذبح

قال في رواية المروذي إذا تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين هكذا قال ابن عباس وإذا صام يوم عرفة فإن عليه دمين كذلك نقل يعقوب ابن بختان

وقال في رواية أبي طالب في متمتع لم يكن معه هدي ولم يصم حتى جاز أيام النحر صام عشرة إذا رجع وعليه دم قد فرط وابن عباس يقول من كان عليه دم فلم يذبحه حتى جاز يوم النحر فعليه دمان دم الذي وجب عليه ودم لما فرط قيل له تقول به قال نعم عليه دمان دم لما عليه ودم لما أخره ولا فرق على هذه الرواية بين المعذور وغيره لأن أحمد إعتمد على حديث ابن عباس وهو في المعذور

قال القاضي والمذهب الصحيح أن المعذور وغيره سواء لأن في رواية المروذي إذا لم يجد ثمنا يشتري به حتى رجع إلى ها هنا عليه هديان وهذه حالة عذر وذلك لما احتج به أحمد من رواية علي بن بذيمة عن مولى لابن عباس عن ابن عباس فيمن تمتع فلم يصم ولم يهد قال عليه دمان رواه سعيد ورواه النجاد ولفظه عن بن بذيمة مولى لابن عباس قال تمتعت فنسيت أن أنحر وأخرت هديي فمضيت إلى ابن عباس فقال أحد هديين هديا وهديا لما أخرت

ولا يعرف له مخالف في الصحابة ولأن الذبح في وقته نسك واجب فمتى فوت الوقت فقد ترك من نسكه ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم وعكسه تأخير الوقوف والطواف إلى وقت يجوز فإنه ليس فيه ترك واجب ولأنه لو فوت نفس الحج لزمه القضاء والكفارة فكذلك إذا فوت بعض واجباته التي يمكن قضاؤها يجب أن تجب فيه الكفارة إلحاقا لاجزاء العبادة بأصلها فإنه من أجلى الأقيسة ولأن ما وقته بنذره إذا فوت وقته فعليه كفارة فما وقته الشرع أحرى أن تجب الكفارة بتفويت وقته ولا ينتقض هذا بتفويت الصوم والصلاة لأن ذاك أعظم من أن تجب فيه كفارة

والرواية الثانية ليس عليه إلا هدي التمتع فقط قال في رواية ابن منصور في متمتع لم يذبح حتى رجع إلى أهله يبعث بالدم إذا كان ساهيا والعامد عليه دم واحد إلا أنه قد أساء وهذا اختيار ابن أبي موسى وهذا الذي نصره القاضي في خلافه لأنه نسك أخره إلى وقت جواز فعله فلم يجب به دم كما لو أخر الوقوف إلى الليل والطواف عن أيام منى والمعنى بجواز فعله أجزاه فأما حل التأخير فلا قال القاضي ولأنه دم أخره عن وقت وجوبه فلا يجب بتأخيره دم كسائر الدماء الواجبات من الحلاق وتقليم الأظفار وقتل الصيد ولأن تأخير العبادة المؤقتة عن وقتها إذا شرع قضاؤها لا يوجب إلا القضاء بدليل تأخير الصوم والصلاة

والرواية الثالثة إن أخره لعذر لم يلزمه إلا هدي واحد وإن أخره عمدا فعليه هديان قال حرب قيل لأحمد رجل حج وعليه دم فدفع نفقته إلى رجل وغاب الرجل فلم يكن معه ما يذبح حتى رجع إلى بلاده قال يبعث بدم إذا كان له عذر رجوت أن يجزيء عنه دم واحد ويروي عن بعضهم أنه قال عليه دمان وهذا إذا لم يكن له عذر قيل له فإن لم يقدر أن يبعث بدم قال لا أدري وكأنه أوجبه عليه إذا وجد

وقال في رواية حرب في متمتع رجع إلى بلاده ولم يهد يجزيء عنه دم واحد إذا كان له عذر وبعضهم يقول عليه دمان وهذا إذا لم يكن له عذر

قال القاضي العذر مثل أن تضيق النفقة ولا يجد ما يشتري وقال أبو الخطاب العذر مثل أن تضيع النفقة وذكر ابن عقيل العذر مثل النسيان ونحوه

قال ابن أبي موسى لو سهى عن الهدى إلى أن وصل إلى بلده لزمه إنفاذ هدي ينحر بالحرم لا يجزئه غير ذلك

وهذا لأن العبادات المؤقتة إذا أخرت عن وقتها تعذر وشرع قضاؤها لم يحتج إلى شيء اخر مثل الصوم إذا أفطر لمرض أو سفر والصلاة إذا أخرها لنوم أو نسيان بخلاف من أخرها تأخيرا محرما فإنه يأثم بذلك فيحتاج إلى كفارة ماحية والعذر هنا مثل النسيان ونحوه مما لا يسقط فأما ضيق النفقة وضياعها أو عدم النعم كما ذكره القاضي وأبو الخطاب فهذا يمنع وجوب الهدي ويجعل فرضه الصوم فإذا لم يصم فهى المسألة الاتية وإن صام فليس عليه شيء اخر إلا أن يكون واجدا حين أحرم بالحج فترك الصوم لذلك فلما كان وقت الذبح ضاعت النفقة أو عدمت النعم أو كان قد إبتاع هديا فظل فهنا هو معذور بترك الصوم والذبح

وبكل حال إذا وجب عليه الهدي ولم يهد سواء كان مؤسرا أو معسرا بعد ذلك لأن الهدي قد استقر في ذمته

وأما الصوم صوم الثلاثة إذا فوته بعد وجوبه وفاتها أن لا يصومها قبل النحر في رواية وفي رواية أن لا يصومها إلى أن تنقضي أيام التشريق فعن أحمد أنه يتعين عليه الهدي ولا يجزئه الصوم بحال كما تقدم عنه في رواية المروذي إذا صام فأفطر يوم عرفة فإن عليه دمين وكذك نقل يعقوب بن بختان في المتمتع إذا لم يصم قبل يوم النحر قال عليه هديان يبعث بهما إلى مكة فعلى هذا إن كان قد فات وقت الذبح أيضا فعليه هديان ويجيء فيهما الروايتان الأخرتان وإن كان وقت الذبح باقيا فعليه الذبح إن قلنا المتمتع لا يصوم أيام التشريق وإن قلنا يصومها لم يفت إلا بفوات الذبح اللهم إلا أن يكون قد بقى يوما من أيام التشريق فإنه يمكن الذبح ولا يمكن صوم الثلاثة بحال وظاهر كلامه أن عليه هديين بكل حال وذلك لما روي عن سعيد بن المسيب قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين إني تمتعت فلم أصم الثلاثة الأيام في الحج قال وجب عليك الهدي قال لا أجده قال فسل في قومك قال ما أرى ها هنا أحدا من قومي فقال عمر يا معيقب أعطه ثمن شاة رواه سعيد عن هشيم عن حجاج عن عمرو بن شعيب عنه

وعن عكرمة عن ابن عباس قال الصوم قبل يوم النحر يقول فإن لم يصم فعليه الهدي رواه سعيد بإسناد صحيح

وروي عن أصحابه وهم عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة نحو ذلك وقد حكاه أحمد أيضا عن ابن عباس ولا يعرف عن الصحابة والتابعين خلاف ذلك إلا قول ابن عمر وعائشة

ومن وافقهما أن يصوم أيام منى وذلك إتفاق منهم على أنه لا يصومها بعد أيام منى بحال ولأن الله إنما جوز له الإنتقال عن الهدي بأن يصوم ثلاثة أيام في الحج فإذا لم يصمها في وقتها لم يجزه فعلها في غير وقتها كسائر مناسك الحج فتعين عليه الهدي لأن وقته قد يكون باقيا ولأنه عبادة مالية من وجه فتأخيرها عن وقتها أقرب ولأنه هو الأصل ولأن الصوم رخصة فلا يستباح مع المعصية ولأنه لو خير بين صوم ثلاثة أيام في الحج وبين الهدي وفات وقت الصوم لتعين الهدي فالإن يتعين الهدي إذا كان هو الواجب الأصلي أولى وأحرى ولأن العبادة المؤقته إذا فاتت فإن قلنا لا يجوز القضاء إلا بأمر جديد فليس في قضاء صوم المتعة أمر وإن قلنا يقضي فالإن القضاء بدل عن الأداء يسد مسده وهنا قد أمكن ابدال الهدي الذي هو أصل الصوم فهو أولى من الإستبدال بصوم ولأن البدل إذا كان مؤقتا ففات وقته رجع إلى الأصل كالمسح على الخفين ولأن القضاء بدل عن الأداء فلو شرع في الإبدال لكان للبدل بدل وهذا يحتاج إلى دليل فإنه لا يثبت بمجرد الرأي ولأن الله أمر بثلاثة أيام في الحج وسبعة بعده ووصفها بأنها كاملة وهذه الصفة لا تثبت لأيام في غير الحج لأنها لو ثبتت لها لجاز التأخير وإذا لم تكن العشرة كاملة لم يجز عنه لأن الله إنما أمره بعشرة كاملة ولأن صوم الثلاثة في الحج من المناسك وإن كانت صوما كما أن ركعتي الطواف من المناسك وإن كانت صلاة ولهذا يصومها المتمتع عن غيره فإن كل عبادة تختص بالحج فإنها من المناسك والمناسك المؤقتة تفوت بفوات وقتها كالوقوف والرمي ونحو ذلك ولا يقضي بحال وإذا لم تقض فمنها ما يجب له بدل وهو الدم

وعن أحمد أنه يقضيها وهو المعروف عند أصحابنا لأنه صوم واجب فوجب أن يقضي إذا فات كصوم رمضان والمنذور المؤقت ولأن الصوم والهدي في التوقيت سواء فإذا قضى أحدهما قضي الاخر ويقضيها مع صوم السبعة إن شاء متتابعا وإن شاء متفرقا

وهل عليه دم مع القضاء على ثلاث روايات إحداهن عليه دم وهي اختيار الشريف أبي جعفر وغيره كما تقدم نصه في رواية أبي طالب إذا لم يكن معه هدي ولم يصم حتى جاز أيام النحر صام عشرة إذا رجع وعليه دم قد فرط

وقال في رواية ابن الحكم إذا وجب عليه الهدي من تمتع أو جزاء صيد أو كفارة ظهار أو زكاة ففرط فيها حتى ذهب ماله فإن عليه هديين وإذا فرط في الصوم وهو متمتع صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم ويروى عن ابن عباس عليه هديان

ووجه ذلك ما تقدم في الهدي وحكى أبو الخطاب أن هذه الرواية خرجها شيخه القاضي أبو يعلى من الرواية التي في تأخيرالهدي واختار هو أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال مع ذكر الروايتين في الهدي لأن الصوم الواجب بأصل الشرع لا يجب بتأخيره عن وقته دم بخلاف الهدي فإنه من المناسك وتأخير المناسك في الجملة قد يوجب دما

والصواب طريقة شيخه فقد ذكرنا نص أحمد على هذه الرواية وقد ذكرها القاضي منصوصة في خلافه وكذلك أبو الخطاب في خلافه ولعله خرجها في كتبه القديمة ثم وجدها منصوصة فليس ذلك ببدع من فقهه

والرواية الثانية الفرق بين المعذور وغيره كما تقدم عنه في الهدي

والرواية الثالثة لا دم بحال قال في رواية ابن القاسم إن لم يصم في الحج فليصم إذا انصرف ولا يرجع إلى الدم لأن عليه الصيام وذلك لأن الصوم قد وجب في ذمته فلم يجب عليه غير قضائه كصوم رمضان وصوم الكفارات كلها

فعلى هذا إذا أيسر في أيام الذبح فهل عليه الإنتقال على ما تقدم من الروايتين ولو أراد على هذه الرواية أن يهدي ولا يصوم فظاهر كلامه أنه لا يجزيء لأنه قال عليه الصيام لأن الذبح قد فات وقته ويتخرج جوازه كما قلنا في الكفارات كلها على ظاهر المذهب وأما صوم السبعة فقياس المذهب أنه لا يجوز تأخيره بعد الرجوع إلى الأهل كما لا يجوز تأخير الكفارات والنذور وأولى لأن الأمر المطلق يقتضي البدار إلى الفعل ولأنه قد قال تعالى { إذا رجعتم } وهذا توقيت له فلا يجوز تأخيره عن وقته لأن إذا ظرف من ظروف الزمان

وأيضا فإن قوله { إذا رجعتم } أما أن يكون تقييد لأول وقت الفعل أو لآخره ولا يجوز أن يكون وقتا لأوله لما تقدم فعلم أنه وقت لاخره لأنه لو قال سبعة بعد ذلك لظن ظان وجوب تقديمها إلحاقا لها بالثلاثة فقال { إذا رجعتم } بيان لجواز تأخيرها ولو أريد بجواز التأخير مطلقا لقيل وسبعة من أيام أخر أو متى شئتم ونحو ذلك

فإن مات ولم يصم فقال أحمد في رواية المروذي إذا مات ولم يصم السبعة أيام يطعم عنه بمكة موضع وجب عليه

وهذا يقتضي وجوب الإطعام عنه بكل حال سواء قدر على الصيام أو لم يقدر لأنه أطلق وبين أنها وجبت عليه بمكة وهو لا يتمكن من صومها بمكة في الغالب

وهذا هو الصواب وهو قياس مذهبه لأنه قد تقدم أن الهدي والصوم عنه يجب إما بالاحرام أو بالوقوف ولا معنى لوجوبه إلا وجوب الإخراج عنه إذا مات كما قد نص عليه في الهدي فإنه نص على أنه يخرج عنه إذا مات بعد أن وقف بعرفة فلو قلنا لا يجب الصوم إلا بعد التمكن لم يصح الوجوب وقال كثير من أصحابنا القاضي وابن عقيل وطوائف من أصحابنا لا يجب أن يطعم عنه إلا إذا تمكن من القضاء كما قلنا في صوم رمضان إذا مات قبل التمكن من قضائه لم يطعم عنه

والتمكن المعتبر إما الإستيطان لأن المسافر لا يجب عليه أو الصحة فقط

فإن قدر على صوم بعض العشرة أطعم عنه بقدر ما قدر عليه

قال ابن عقيل ولا يصام عنه قولا واحدا

وظاهر النص أجود لأن هذا الصوم ليس واجبا بأصل الشرع وإنما هو بسبب من المكلف فهو كصوم النذر وصوم الكفارة وكالصوم عن جزاء الصيد أو الصوم في فدية الأذى وهذا لا تعتبر فيه القدرة الفصل الثالث

في الشروط التي بها يكون متمتعا يجب عليه الهدي وهي عشرة

أحدها أن يعتمر في أشهر الحج فإن إعتمر في رمضان أو ما قبله من الشهور لم يكن متمتعا ولا هدي عليه وهو أفضل من الإعتمار في أشهر الحج وكذلك إن إعتمر بعد الحج لم يجب عليه هدي نص عليه فقال لا يجب عى من إعتمر بعد الحج هدى

فلو تحلل من الحج يوم النحر وأحرم فيه بعمرة فقال القاضي لا يكون متمتعا على ظاهر كلام أحمد لأنه وإن كان من أشهر الحج فقد جعل في حكم ما ليس من أشهره بدليل أن الحج يفوت فيه ولا يدرك بإدراكه

وهذا مبنى على جواز الاحرام بالعمرة

ومعنى العمرة في أشهر الحج أن يحرم في أشهر الحج فلو أحرم قبل هلال شوال بساعة لم يكن متمتعا وكانت عمرته للشهر الذي أهل فيه لا للشهر الذي أحل فيه أو طاف فيه نص عليه في مواضع حتى قال عمرة في شهر رمضان تعدل حجة فإن أدرك يوما من رمضان فقد ادرك عمرة في شهر رمضان

وقال فيمن دخل بعمرة في شهر رمضان ودخل الحرم في شوال عمرته في الشهر الذي أهل واحتج على ذلك بما رواه بإسناده عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المرأة تجعل على نفسها عمرة في شهر مسمى ثم يخلوا إلا ليلة واحدة ثم تحيض قال لتخرج ثم لتهل بعمرة ثم لتنتظر حتى تطهر ثم لتطف بالكعبة وتصلى ولا يعرف له مخالف في الصحابة

ولأن المتمتع إنما وجب عليه الدم لترفهه بسقوط أحد السفرين وذلك أنه قد كان يمكنه أن يحرم بالحج فقط فلما عدل عنه إلى الاحرام بعمرة وأتى بالحج أيضا شرع له الهدي فإذا أهل قبل شوال لم يمكنه الإهلال بالحج لأنه خلاف السنة فأحرم بالعمرة في وقت تنفرد به فهو كما لو أحرم لها وطاف قبل شوال

الشرط الثاني أن يحج من عامه ذلك فلو إعتمر في أشهر الحج ورجع إلى مصره أو أقام بالحرم ولم يحج فليس بمتمتع بالعمرة إلى الحج

الشرط الثالث أن لا يسافر بعد العمرة فإن سافر ثم رجع إلى مكة فليس بمتمتع لأنه سافر للحج سفرا كما سافر للعمرة سفرا ولم يترفه بسقوط أحد السفرين

وأما حد السفر الذي يخرجه عن التمتع فقد قال أحمد في رواية أبي طالب إذا أعتمر في أشهر الحج ثم سافر سفرا يقصر فيه الصلاة فليس بمتمتع ويعجبني هذا القول وإنما يكون المتمتع من جاء إلى مكة في شوال أو ذي القعدة ومن جاء في غير هذه الشهور فإنما هي عمرة وليس هو متمتعا وإذا دخل بعمرة في هذه الشهور ثم انتظر حتى يهل بالحج من مكة فهو متمتع فإن خرج إلى الميقات وأهل بالحج فليس بمتمتع

وقال في رواية حرب والأثرم من أحرم بعمرة في أشهر الحج فهو متمتع إذا أقام حتى يحج فإن خرج من الحرم سفرا يقصر في مثله الصلاة ثم رجع فحج فليس بمتمتع ولا هدي عليه

وقال في رواية يوسف بن موسى وأحمد بن الحسين إذا أقام فأنشأ الحج في مكة فهو متمتع فإن خرج إلى الميقات فأحرم بالحج فليس بمتمتع

وقال في رواية عبد الله إذا سافر سفرا يقصر فيه الصلاة فليس بمتمتع

واختلفت عبارة أصحابنا في ذلك فقال القاضي في المجرد وابن عقيل في بعض المواضع وأبو الخطاب وجماعة وغيرهم إذا خرج إلى الميقات فأحرم منه بالحج أو خرج إلى موضع بينه وبين مكة ما يقصر فيه الصلاة فأحرم منه فليس بمتمتع وجعلوا كل واحد من خروجه إلى الميقات وإلى مسافة القصر رافعا للمتعة لأنه قد نص على كل منهما في رواية واحدة وفي روايات متعددة ومن هؤلاء من ذكر رواية أخرى أن الذي يزيل المتعة السفر إلى مسافة القصر من غير اعتبار الميقات لأنه قد نص على ذلك في روايات متعددة ولم يذكر الميقات ومن سلك هذا السبيل لزمه أن يحكي رواية ثالثة بأن الإعتبار بخروجه إلى الميقات من غير إعتبار مسافة القصر لأنه قد نص على ذلك في روايات أخرى وقال الخرقي وابن أبي موسى والقاضي وأبو الخطاب في خلافهما والشريف أبو جعفر وابن عقيل في مواضع الإعتبار بمسافة القصر خاصة فمن سافر سفرا يقصر فيه الصلاة فليس هو بمتمتع

قال القاضي إذا رجع المتمتع إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة لم يسقط عنه دم المتعة وإن رجع إلى موضع تقصر فيه الصلاة سقط عنه دم المتعة قال وقول أحمد فإن خرج إلى الميقات فأحرم بالحج فليس بمتمتع محمول على أن بين الميقات وبين مكة مسافة القصر

وعند هؤلاء أن معنى كلام أحمد يرجع إلى هذا

وأعلم أن هذا الإختلاف لا يرجع إلى إختلاف في الحكم وذلك لأن المواقيت كلها بينها وبين مكة مسافة القصر فإن ذا الحليفة بينها وبين مكة عشر مراحل من ناحية الساحل والحجفة بينها وبين مكة ثلاثة أيام وسائر المواقيت بينها وبين مكة يومان قاصدان فكل من خرج إلى ميقات فقد خرج إلى مسافة القصر وقد يخرج إلى مسافة القصر من ناحية المدينة والشام ولا يصل إلى الميقات فإذن كلا الطريقين جيدة وإن كان الضابط في الخفين السفر إلى مسافة القصر لكن من أعتقد في المسألة روايتين توهم أنه يخرج إلى الميقات من لا يبلغ مسافة القصر ليجعل المسألة على روايتين أو تناول كلام أحمد في بعض المواضع أو يقول إنه لا يسقط عنه المتعة بالخروج إلى ميقاته أو يعتقد أن كلا منهما شرطا على انفراده فقد غلط غلطا مستنده عدم العلم بالمسافة وهذا واقع في كلام طائفة من أصحابنا وهو مخالفة واضحة لكلام أحمد فإنه قد نص على أن الخروج إلى الميقات مسقط من غير تقييد بمسافات المواقيت

وإنما أعتبره أحمد لأنه إذا سافر بعد العمرة إلى مسافة القصر فأحرم منها بالحج من ناحية ميقاته أو غيرها لم يترفه بسقوط أحد السفرين بل سافر للحج سفرا صحيحا فزال معنى التمتع في حقه وإن لم يرجع إلى مصره أو لم يبلغ الميقات فإن الموجب للدم سقوط أحد السفرين بدليل وجوبه على القارن لما جمع بين النسكين في سفرة واحدة في أشهر الحج ولو كانت العلة أنه لم يحرم من الميقات لم يجب على القارن دم

وقد تقدم أن المتمتع في لسان الصحابة والتابعين هو أن يجمع بين العمرة والحج في أشهره بسفرة واحدة فإن سافر بينهما إلى مسافة القصر ثم رجع فأحرم بالحج من مكة أو أحرم به من دون مسافة القصر فعليه دم لاحرامه دون ميقاته لأن ميقات من أن شاء الحج من دون المواقيت من موضعه وليس عليه دم متعة كما لو رجع إلى مصره ثم دخل مكة بغير إحرام ولهذا أطلق أحمد القول بسفر تقصر فيه الصلاة ولم يشترط إحرامه منه في كونه غير متمتع

واشترط أبو الخطاب وغيره من أصحابنا أن يحرم بالحج من مسافة القصر

وقال بعضهم إذا سافر وأحرم من مكة فليس بمتمتع

وإن رجع إلى مكة غير قاصد للحج محلا ثم بدا له الحج فأحرم منها فعليه أيضا دم كما تقدم

وإن سافر قبل التحلل من العمرة إلى ما يقصر فيه الصلاة ورجع حراما إما بأن يكون سائقا هديا أو لم يكن فقد قيل ليس بتمتع أيضا على ظاهر قول أصحابنا والأشبه أنه متمتع كما لو سافر القارن أو أحرم بالحج من مكة ثم سافر محرما إلى ما يقصر فيه الصلاة

الشرط الرابع أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام لقوله سبحانه { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وحاضرو المسجد الحرام أهله ومن بينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة

وهل العبرة ببعده عن الحرم أو عن نفس مكة على روايتين

وعنه أنهم هؤلاء ومن دون المواقيت مطلقا والأول هو المذهب قال في رواية أبي طالب فيمن كان حول مكة فيما لا تقصر فيه الصلاة فهو مثل أهل مكة ليس عليهم عمرة ولا متعة إذا قدموا في أشهر الحج ومن كان منزله فيما يقصر فيه الصلاة فعليه المتعة إذا قدم في أشهر الحج وأقام إلى الحج

وقال في رواية المروذي إذا كان منزله دون الميقات مما لا يقصر فيه الصلاة فهو من أهل مكة . . . .

فعلى هذا أهل المواقيت ليسوا من حاضري المسجد الحرام لأن أدناهم بينه وبين مكة ليلتان

وذكر القاضي أن منها ما بينه وبين مكة دون ذلك وهم أهل قرن وذات . . . .

فصل

وهل لحاضري المسجد الحرام أن يتمتعوا . . . . . .

قال ابن أبي موسى لا يجوز التمتع لأهل حاضري المسجد الحرام ولا لكل من منزلة دون النصب إلى مكة للاية . . . . .

مسألة وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام التمتع وكذلك الحكم في البدنة الواجبة بالمباشرة ودم الفوات . . . . .

مسألة والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام

وجملة ذلك أن المحرم بالحج إذا صده عدو عن البيت ولم يكن له طريق اخر يذهب فيه أو صد عن دخول الحرم فإنه يجوز له التحلل ويرجع لقوله تعالى { وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وللتحلل لا يكون إلا بنية الإحلال والخروج من الإحرام فلو حلق أو ذبح أو فعل شيئا من المحظورات غير نا وللتحلل لم يصر حلالا بخلاف ما لو فعل ذلك بعد إتمام النسك لأنه إذا تم نسكه صار حلالا بالشرع حتى لو نوى دوام الاحرام لم يصح كالصيام إذا غربت الشمس والمصلى إذا سلم

وإذا لم يتم فهو مخير بين الاتمام والاحلال كالمريض الصائم والمصلى الذي يجوز له قطع الصلاة لا يخرج من العبادة إلا بما ينافيها من النية ونحوها لكن المحرم لا يفسد احرامه إلا بالوطء ولا بد من

وليس له أن يتحلل حتى ينحر هديا إن أمكنه لأن الله يقول { وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فأمر بإتمام الحج والعمرة وجعل ما استيسر من الهدي في حق المحصر قائما مقام الإتمام

وهذا يدل على وجوب الهدي من وجوه أحدها أن التقدير فإن أحصرتم فعليكم ما استيسر من الهدي أو ففرضكم ما استيسر فهو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ترك ذكر المحذوف لدلالة سياق الكلام عليه كما قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وكما قال { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر }

الثاني أنه أمر بالإتمام وجعل الهدي في حق المحصر قائما مقام الإتمام والإتمام واجب فما قام مقامه يكون واجبا ولهذا لا يجوز له التحلل حتى ينحر الهدي لأنه بدل عن تمام النسك ولا يجوز له التحلل حتى يتم النسك

الثالث أن قوله { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } كقوله { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } وذلك أن الاحصار المطلق هو الذي يتعذر معه الوصول إلى البيت وهذا يوجب الهدي لا محالة

الرابع أنه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وهذا عام فإن أراد التحلل قبل النحر لم يكن له ذلك حتى لو رفض إحرامه وفعل شيئا من المحظورات فهو باق على إحرامه

قال أصحابنا فإن تحلل قبل الهدي فعليه دم لأجل إحلاله

وقال أبو الخطاب وإن نوى التحلل قبل الهدي والصيام ورفض الاحرام لزمه دم وهو على إحرامه ومعناه إذا كان الرفض بالحلق ونحوه فأما إن تعددت المحظورات

وإذا نحر الهدي صار حلالا بمجرد ذلك مع نية الإحلال في إحدى الروايتين إختارها القاضي وهذا ينبني على أن الحلاق ليس بواجب على المحرم المتم فعلى المحصر أولى وينبني أيضا على أن الحلق قال القاضي فعلى هذا يحل من احرامه بأدنى ما يحظره الاحرام من طيب أو غيره والأشبه أنه لا يحتاج إلى ذلك بل بنفس الذبح

والرواية الثانية عليه أن يحلق رأسه لأن الحلاق واجب ولأن النبي وأصحابه حلقوا رؤسهم في عمرة الحديبية

فصل

وينحر الهدى في موضع حصره حيث كان من حل أو حرم هذا هو المنصوص عن في مواضع وعليه أكثر أصحابه

وقال أبو بكر إن أمكنه أن يبعث بالهدى حتى ينحر بمكة في الموضع بعث به وإلا حل يوم النحر

قال ابن أبي موسى قال بعض أصحابنا لا ينحر هدى الاحصار إلا بالحرم لقوله { هديا بالغ الكعبة } وقوله { ثم محلها إلى البيت العتيق } لأن الله قال { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ثم قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } والهدى المطلق إنما هو ما أهدى إلى الحرم بخلاف النسك ثم انه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وهدى المحصر داخل في هذا لا سيما وقد تقدم ذكره

ومحل الهدى الحرم لقوله سبحانه { ثم محلها إلى البيت العتيق }

ولأنه لو كان محله موضع الحصر لكان قد بلغ محله ومن قال هذا زعم أن النبي إنما نحر بالحرم وأن طرف الحديبية من الحرم

ووجه الأول أن النبي وأصحابه لما صدهم المشركون عن العمرة زمن الحديبية نحروا وحلقوا بالحديبية عند الشجرة وهي من الحل ولأن الحل موضع للتحلل في حق المحصر فيكون موضعا للنحر كالحرم وهذا لأن محل شعائر الله إلى البيت العتيق من الأعمال والهدى فمتى طاف المحرم بالبيت فقد شرع في التحلل ومتى وصلت الهديا إلى الحرم فقد بلغت محلها وهذا عند القدرة والاختيار

فأما في موضع العجز فقد جوز الله للمحصر أن يحل من احرامه بالحل وصار محلا له فكذلك يصير محلا لهديه ولا يقال الهدى قد يمكن ارسالها

وأما قوله { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } فإن محله المكان الذي

يحل فيه وهذا في حال الاختيار هو الحرم كما قال { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } فأما حال الاضطرار فإنه قد حل ذبحه للمحصر حيث لا يحل لغيره

وأما وقت الذبح والاحلال ففيه روايتان إحداهما أنه يذبحه وقت الاحصار ويحل عقيبة نقلها الميموني وأبو طالب وابن منصور وهذه اختيار أصحابنا

والثانية لا يذبح ويحل إلى يوم النحر وهي اختيار أبي بكر قال في رواية أبي الحارث فيمن أحصر بعدو أقام حتى يعلم أن الحج قد فاته فإذا فاته الحج نحر الهدى وإن كان معه في موضعه ورجع إلى أهله وعليه الحج من قابل وإن كان إحصاره مرض لم يحل من احرامه حتى يطوف بالبيت

وقال في رواية ابن منصور في محرم أحصر بحج ومعه هدى قد ساقه لا ينحر إلى يوم النحر فقيل له قد يئس من الوصول إلى البيت فقال وإن يئس كيف ينحر قبل يوم النحر ولا يحل إلى يوم النحر فإن لم يكن معه هدي صام عشرة أيام

وذلك لقوله { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } والمحل اسم للمكان وللوقت الذي يحل فيه ذبحه ولهذا القول مأخذان ذكرهما أحمد أحدهما أن المحرم بالحج لا يحل إلى يوم النحر فإذا كان قد صد عن الوقوف والطواف فهو لم يصد عن الاحرام فيجب أن يأتي بما أمكنه وهو بقاؤه محرما إلى يوم النحر فحينئذ يتيقن فوت الحج فيتحلل بالهدى كما يتحلل المفوت المخل بعمرة وإلى هذا أشار في رواية أبي الحارث

الثاني أن الهدى المسوق لا يجوز نحره إلا في الحرم يوم النحر فإذا لم يمكن ايصاله إلى الحرم وجب أن يبقى إلى يوم النحر فإنه وقت ذبحه كدم التمتع والقران وكذلك غير المسوق فإن دم الاحصار يستفيد به التحلل كدم التمتع والقران فيجب أن يؤخر ذبحه إلى يوم النحر

ووجه الأول أن الله قال { فما استيسر من الهدي } وهذا مطلق ومحله هو ما يحل ذبحه فيه من مكان وزمان والشأن فيه أن هذا ان سلم أن الوقت محل فقد قيل إن المحل هو المكان خاصة لأن الله جعل المحل في الحج والعمرة وهدى العمرة لا وقت له يختص به

وأيضا لو لم يجز التحلل إلى يوم النحر لكان بمنزلة من فاته الحج والمفوت لا يتحلل إلا بالعمرة كالمحصر بمرض يبين ذلك أنه إذا فات الحج يبقى كالمحرم بعمرة والعمرة ليس لها وقت تفوت فيه فينبغي أن يبقى محرما إلى أن يصل كالمحصر بمرض ولكان ينبغي أن لا يجوز التحلل للمحرم إلا بعمرة إذ ليس لاحرامه غاية في الزمان

وأيضا فإن هدى المحصر ليس بنسك محض وإنما هو دم جبران لما يستبيحه من المحظورات ويتركه من الواجبات ولهذا لا يأكل منه شيئا فلم ينفذ بوقت كفدية الأذى وترك الواجب وعكسه دم المتعة

فصل

وأما قوله فإن لم يجد فصيام عشرة أيام فقد نص أحمد على ذلك في غير موضع قال في رواية الأثرم وابن منصور إذا أحرم بالحج ثم أحصر وقد ساق معه هديا فلا يحل إلى يوم النحر ولا ينحر إلى يوم النحر وإن لم يكن معه هدى صام عشرة أيام قبل أن يحل وليس هذا بمنزلة القارن والمتمتع القارن والمتمتع يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع وهذا يصومهن كلهن قبل أن يحل

وقال في رواية أبي الحارث إذا لم يكن مع المحصر هدي يصوم عشرة أيام قبل يوم النحر وإذا كان يوم النحر حل فإن كان احرامه بعمرة يصوم عشرة أيام ثم يحل

ولا يختلف المذهب أن المحصر يصوم عشرة أيام إذا لم يجد الهدى واختلف أصحابنا في وقت صومهن وأكثرهم أنه يصومها قبل التحلل كالهدى ولا يتحلل حتى يصومها كالمنصوص

وقال أبو بكر في التنبيه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ولا يصوم العشرة أيام في وقت واحد لأن هدى المحصر كهدي المتمتع لأن سببها التمتع فالصوم بالاحلال عنه كالصوم عن التمتع ويؤيد ذلك أن أصحاب رسول الله لما صدو

ووجه الأول أن هذا الصائم قائم مقام تمام الحج والعمرة فلا بد من فعله قبل الحل كالهدي بخلاف صوم التمتع وهدية فإنه إنما يهدي بعد انقضاء عمرته وحجه فكان قياس الصوم يفعله بعد ذلك وإنما قدمت الثلاثة لأنها مأمور بها في الحج

فعلى هذا إن قلنا يتحلل بذبح الهدى قبل النحر فتحلله بالصوم قبله أولى

وإن قلنا لا يتحلل بالهدى إلى يوم النحر ففي الصوم روايتان منصوصتان إحداهما لا يتحلل به إلى يوم النحر فيصوم العشرة الأيام قبل يوم النحر متى شاء من حين الحصر ولا يحل إلى يوم النحر نقلها أبو الحارث بناء على أن المحصر لا يحل إلى يوم النحر كالمطلق ليستديم الاحرام وليدخل وقت الفوات

والثانية يصوم ويتحلل قبل النحر نقلها الأثرم وابن منصور عنه مفرقا بين الهدي والصيام لأن الهدى لنحره وقت يختص به فتأخر حله لأجله بخلاف الصوم فإنه لا وقت له وهاتان الروايتان مفرعتان على المأخذين المتقدم ذكرهما

فصل

وإذا أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فهو محصر عند أصحابنا قال أحمد في المحصر عن مكة فيه اختلاف فإن حصر بعدو ينحر الهدى ويحل كما فعل النبي

فصل

والمحصر في العمرة كالمحصر في الحج سواء نص عليه وعليه جمهور

أصحابه إلا أنه لا يتأخر التحلل هنا قولا واحدا والأصل فيه الآية وقصة رسول الله وأصحابه عام الحديبية مع المشركين فإنها سبب نزول الآية بإجماع أهل التفسير وهي السنة الماضية في المحصر

وقال ابن أبي موسى إن كان المحصر معتمرا أقام على احرامه حتى يصل إلى البيت إذ لا وقت لها يفوت

فصل قال القاضي وابن عقيل وأبو محمد وغيرهما من أصحابنا إذا كان للمحصر طريق لزمه قصدها سواء قربت أو بعدت وسواء كانت برا أو بحرا وسواء رجى الادراك أو خشى الفوات وإن خلى عن طريقه قبل التحلل لزمه السعي وإن خشى الفوات ولو لم يخل عنه حتى فات الحج ولم يتحلل فحكمه حكم الفوات فإن خلى عن طريقة بعد ذلك لزمه السعي والتحلل بعمرة الفوات وقضاها إذا قلنا يقضى من فاته الحج وإن استمر الإحصار بعد الفوات فله التحلل من هذه الفائتة وعليه دمان دم الاحصار ودم الفوات والقضاء على المشهور من الروايتين

والمنصوص عن أحمد أنه إذا بقى محرما محصرا حتى فاته الحج فله التحلل وليس عليه إلا دم واحد دم الاحصار وعنده في إحدى الروايتين يجب على المحصر تأخير الاحلال حتى يفوته الحج

وفي الرواية الأخرى لم يمنعه من ذلك وكذلك ذكر القاضي في خلافه وقال حرمه الاحرام قبل الفوات أعظم منه بعد الفوات فإذا كان له التحلل قبل الفوات بالدم فأولى أن يكون له بعد

فصل قال أصحابنا القاضي وابن عقيل وغيرهما إن كان العدو الصاد مسلما

فصل

ولا يجب قضاء النسك الذي أحصر عنه في إحدى الروايتين فإن كان واجبا قبل الاحرام كحجة الاسلام والنذر والقضاء فعله بالوجوب السابق وسواء كان عليه نذر حج مطلق أو نذر الحج ذلك العام

قال في رواية ابن القاسم ولا يعيد من أحصر بعدو حجا ولا عمرة إلا أن يكون رجلا لم يحج قط وكذلك نقل أبو طالب والميموني

والثانية عليه القضاء كما تقدم عن أبي الحارث ونقل أبو طالب في موضع اخر إن كان معه هدى نحره وإلا فلا ينحر وعليه الحج من قابل كما فعل النبي حين منع بالحديبية

وقوله وإلا فلا ينحر يحتمل أنه إذا أوجب عليه القضاء لم يوجب عليه الهدي في عام الاحصار ويحتمل أن عليه الصيام ويحتمل أن لا شيء على العادم بحال وإذا قضى حجة الاسلام أو غيرها لم يلزمه عمرة معها على ما ذكره أحمد في قوله بقضاء التطوع وهو قول القاضي في خلافه وكثير من أصحابنا

وذكر القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول أنا إذا قلنا يجب قضاء التطوع فعليه عمرة لأن المحصر قد فوت الحج ومن فوت الحج فعليه أن يحل بعمرة فيلزمه قضاء هذه العمرة كما لزمه قضاء الحج وظاهر المذهب أنه لا يلزمه عمرة وإن أوجبنا قضاء التطوع لأن هدى المحصر قام مقام بقية الأفعال كما قامت عمرة المفوت وعلى أنه ليس بمفوت ان خرج من احرامه قبل الفوات وإن خرج بعد الفوات فقد تقدم فإن قلنا يجب القضاء فلقول الله تعالى { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } فبين الله أن الشهر الحرام الذي قضوا فيه العمرة بالشهر الحرام الذي احصروا فيه

وأيضا فإن النبي قضى العمرة من العام القابل وسميت عمرة القضاء وإن قلنا لا يجب وهو المنصور عند أصحابنا فلأن الذين أحصروا في عمرة الحديبية كانوا أكثر من أربع عشرة مائة فلم يأمر النبي واحدا منهم بالقضاء في العام المقبل ولم يعتمر إلا نفر قليل وقد مات منهم قبل ذلك ناس

مسألة ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة إلا أن يكون قد كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحد كفارة

في هذا الكلام فصول

أحدها أنه إذا كرر محظورا من جنس واحد غير قتل الصيد مثل أن يلبس أو يخلع ثم يلبس أو يتطيب ثم يتطيب في وقت اخر أو يجامع ثم يجامع أو يحلق ثم يحلق ثم يحلق أو يقلم ثم يقلم فعليه كفارة واحدة ما لم يكن كفر عن الأول في أشهر الروايتين

قال في رواية ابن القاسم وقد حكى له قول بعضهم إذا وجبت عليه كفارة في لباس أو طيب ونحو ذلك ثم كفر ثم عاد بمثله فعليه الكفارة وإن لم يكفر حتى عاد فليس عليه إلا كفارة واحدة فقال هو هكذا إذا لم يكفر فليس عليه إلا كفارة وقال في رواية ابن منصور فيمن وقع بأربع نسوة وهو محرم في يوم واحد أو أيام متفرقة فسد حجه وعليه كفارة واحدة ما لم يكفر

والرواية الثانية إن كان السبب مختلفا مثل مرض ثم مرض ثم حر ثم برد فعليه كفارات قال في رواية الأثرم في محرم أعتل فلبس جبة ثم برا ثم اعتل فلبس جبة يكفر كفارتين فإن اعتل علة واحدة فلبس عمامة واحتاج في علته في الغد إلى جبة وبعد غد قميص فإذا كانت علة واحدة وكان شيئا متقاربا فكفارة وإن تداوى بأدوية دواء بعد دواء فحكمه حكم اللباس

ومعنى قوله وإن كان متقاربا أي فعل أشياء من المحظورات متقاربة المقصود حتى يكون جنسا واحدا مثل العمامة والجبة والقميص لأن كل واحد من هذه الأفعال موجب للكفارة بنفسه فلم تدخل كفارته في غيره كما لو كفر عن الأول لكن إذا كان السبب واحدا فالفدية تبيح له ما اقتضاه ذلك السبب ولهذا يجوز تقديمها على فعل المحظور فلا يصير شيء من تلك الأمور محظورا في حقه فلا يحتاج إلى فدية ثانية بخلاف ما إذا تعدد السبب أو فعل المحظورات عامدا

فعلى هذه الرواية إذا لبس للبرد في طرفي النهار وبالليل فإنه يخلع وقت الحر وكذلك إن لبس للحر وسط النهار فإنه يخلع وقت البرد ويكون سببا واحدا لأنه شيء واحد له أوقات معلومة فأشبه المريض مرضا واحدا إذا لم يبرأ ولكن يحتاج إلى اللباس في أوقات الحمى ونحو ذلك

وعلى هذه الرواية أيضا إذا فعل ذلك دفعة واحدة مثل أن يلبس ويتعمم ويحتذى أو حلق رأسه كله لم يلزمه إلا كفارة واحدة أيضا

والثالثة لكل واحد كفارة مطلقا قال في رواية ابن منصور وقد سئل عن محرم مس طيبا ولبس ثوبا وحلق رأسه ولبس الخفين وما أشبه ذلك مما لا ينبغي له أن يفعل قال عليه كفارة واحدة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد فعليه دم لكل واحد فقد سوى بين الجنس والجنسين لأن الثوب والخف من جنس واحد

والأول أصح لأنها أفعال من جنس واحد لا تتفاوت كفاراتها بكثرتها فتداخلت كما لو فعلها متصلة وذلك لأن الاتصال والانفصال لا يغير موجب الشيء ومقتضاه بدليل قتل الصيد وقتل النفوس ونحو ذلك لما كانت متباينة استوى فيها الاتصال والإنفصال فلما كانت هذه الأفعال متداخلة عند الاتصال وجب أن تكون متداخلة عند الانفصال

وأيضا فإن الكفارات كالحدود تشرع زاجرة وماحية فإن الحدود كفارات لأهلها والكفارات حدود عن المحظورات فوجب أن تتداخل كالحدود

وإن كان قد كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة ثانية هكذا أطلق أصحابنا وهذا ينبغي إذا لم يدل الثاني في كفارة الأول فإن من أصلنا أنه يجوز تقديم الكفارة على الفعل إذا أبيح فلو مرض فاحتاج إلى اللبس أو الطيب فافتدى لذلك ثم لبس بعد ذلك مرات أو تطيب مرات لم يلزمه كفارة ثانية بلا تردد لأن الفدية أباحت اللبس الثاني كما أباحت اللبس الأول ولا فرق بينهما ولهذا أطلق أحمد القول بوجوب كفارة واحدة إذا لبس مرات لعلة واحدة ولم يفرق بين أن يكفر أو لا يكفر اللهم إلا ينوي أنه يستبيح اللبس مرة واحدة

ولو كفر ثم استدام المحظور فعليه كفارة ثانية كما لو ابتدأه على ما ذكره في رواية ابن منصور فيمن لبس قميصا عشرة أيام ناسيا عليه كفارة واحدة ما لم يكفر

وهذا إذا لم يكن لعذر الفصل الثاني

أن الصيد تتعدد كفارته بتعدد قتله فكلما قتل فعليه جزاؤه سواء جزى الأول أو لم يجز هذا أشهر الروايتين عن أبي عبد الله رواها ابن القاسم وسندي وحنبل في موضع

قال في رواية ابن القاسم وإذا قتل المحرم الصيد فحكم عليه ثم عاد فقتل فإنه يحكم عليه كما عاد والذين قالوا إن عاد لم يحكم عليه إنما ذهبوا إلى التأويل فيه والأمر على الحكم الأول عليه كفارة

وقد روي عن عمر بن الخطاب وغيره أنهم حكموا في الخطأ وفيمن قتل ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أم لا وإنما وجب عليه لتعظيم الاحرام مكانه والكفارة تجب على المحرم إذا قتل الصيد عمدا أو خطأ في الوجهين جميعا وقد روى عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ

وروى حنبل عنه أنه إذا لم يكفر عن الأول فكفارة واحدة كسائر المحظورات وهذا ينبغي أن يكون فيما جزاؤه واحد فأما إذا اختلف الجزاء هكذا ذكرها القاضي وغيره في موضع ولفظهما في موضع آخر لا جزاء عليه ينتقم الله منه وهذا يقتضي أنه لا يكفر عن الصيد إلا مرة واحدة فإن قتله ثانيا لم يحكم عليه سواء كفر عن الأول أو لم يكفر وهو الصواب في هذه الرواية

ومن أصحابنا من يجعلها على ثلاث روايات وهذا إنما يكون في العمد فأما الخطأ

وهل يفرق بين احرام أو احرامين لأن الله قال { فجزاء مثل ما قتل من النعم } إلى قوله { ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } فتوعد العائد إلى قتله بالانتقام ولم يذكر شيئا اخر كما ذكره في البادىء بل فرق بينهما فجعل على البادىء الجزاء وعلى العائد الانتقام

ولأنه جعل الجزاء ليذوق القاتل وبال أمره بقتل الصيد وذلك باخراج الجزاء ثم جعل العائد ينتقم الله منه وإنما ذاك بعذاب ينزله الله به لا يكون له فيه فعل والجزاء هو يخرجه

وأيضا فإنه جعل الطعام كفارة للقتل ومن ينتقم منه لم يكفر ذنبه ويؤيد ذلك ما روى عكرمة عن ابن عباس قال إذا أصاب المحرم الصيد ثم عاد قيل له اذهب فينتقم الله منك رواه النجار وقال ابن أبي عروبة في المناسك عن قتادة إن أصاب الصيد مرارا خطأ حكم عليه وإن أصابه متعمدا حكم عليه مرة واحدة ومن عاد فينتقم الله منه قال ذكر لنا أن رجلا عاد في عمد فبعث الله عليه نارا فأكلته

وأيضا فإنه إذا تكرر منه القتل فقد تغلظ الذنب ولحق بالكبائر الغليظة وتلك لا كفارة فيها كقتل العمد والزنا واليمين والغموس ونحو ذلك بخلاف أول مرة فإنه قد يعذر

ووجه الأول أن الله قال { لا تقتلوا الصيد } وهذا نهى عن قتله في كل مرة ثم قال { ومن قتله منكم متعمدا } وهذا يعم جميع الصيد وجميع القتلات على سبيل الجمع والبدل كما يعم جميع القاتلين كما عم قوله { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ويوجب أيضا تكرر الجزاء بتكرر شرطه كما في قوله { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } وكما في قوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } هذا هو المعهود في خطاب الشرع وإن لم يحمل خطاب الناس على ذلك على أن الشرط في خطاب الناس إذا تعلق بمحل واحد لم يتكرر بتكرره في ذلك المحل كقوله من دخل داري فله درهم وإن تعلق بمحال تكرر بتكرر في تلك المحال كما لو قال من دخل دروى فله بكل دخول درهم وهنا محل القتل هو الصيد وهو متعدد

وأيضا فإنه أوجب في المقتول مثله من النعم وذلك يقتضي أنه إذا قتل كثيرا وجب كثير من النعم

وأيضا فإن جزاء الصيد بدل متلف متعدد بتعدد مبدله كدية الادمى وكفارته

وأيضا فإن الجزاء شرع جابرا لما فوت وما حيا لما ارتكب وزاجرا عن الذنب وهذا يوجب تكرره بتكرر سببه كسائر المكفرات من الظهار والقتل والايمان ومحظورات الاحرام وغير ذلك

وأما الآية فقد قال { فينتقم الله منه } وهذا كقوله { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } { عفا الله عما سلف } في الجاهلية { ومن عاد } في الإسلام { فينتقم الله منه } وقوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } ويوضح ذلك أن قوله { عفا الله عما سلف } إخبار عن عفوه عما مضى حين نزول الآية قبل أن يقتل أحد صيدا يحكم عليه فيه وما ذاك الا ما قتلوه قبل الآية

وأيضا فإن العفو يقتضي عدم المؤاخذة واللوم ولو كان العفو عما يقتله في الإسلام لما أوجب عليه الجزاء

وأيضا فإن قتل الصيد خطيئة عظيمة ومثل هذه لا يقع العفو عنها عموما فإن العفو عنها عموما يقتضي أن لا تكون ذنبا ألا ترى أن السيئات لما كفرهن الله كان ذلك مشروطا باجتناب الكبائر فإن العفو عن الشيء والنهي عنه لا يجتمعان ووجوب الجزاء بقتل الصيد متعمدا لا يقتضي رفع الماثم بل هو فاسق بذلك إلا أن يتوب

وقوله { ومن عاد فينتقم الله منه } يوجب توعد قاتل الصيد بالانتقام منه وذلك لا يمنع وجوب الجزاء عليه كما قال { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } ولم يمنع ذلك وجوب الدية والقود وقوله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وقوله في المحاربين { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ولم يمنع ذلك وجوب رد المسروق إن كان باقيا وقيمته إن كان تالفا وقوله { الزانية والزاني فاجلدوا } لم يمنع ذلك وجوب رجم ونفى

وهذا كثير قد يذكر الله وعيد الذنوب في موضع ويذكر جزاءها في الدنيا في موضع اخر ثم يقال من جملة الانتقام وجوب الجزاء عليه كما قال { ليذوق وبال أمره } فيكون قد عفا عما سلف قبل نزول الآية فلا عقاب فيه ولا جزاء ومن عاد بعدها فينتقم الله منه بالعقوبة والجزاء الفصل الثالث

إذا فعل محظورات من أجناس مثل أن يلبس ويتطيب ويحلق فعنه عليه بكل جنس كفارة سواء فعلها في مرات لسبب أو أسباب

قال ابن منصور قلت قال سفيان في الطيب كفارة وفي الثياب كفارة وفي الشعر كفارة قال أحمد جيد في كل واحد كفارة

وقال في رواية ابراهيم في محرم مرض في الطريق فحلق رأسه ولبس ثيابه وأطلى عليه هديان وهذا اختيار

ونقل عنه ابن منصور في محرم مس طيبا ولبس الخفين وما أشبه ذلك مما لا ينبغي له أن يفعل قال عليه كفارة واحدة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد فعليه دم لكل واحد

فقد نص على أنه إذا فعل ذلك في مكان واحد وقت واحد دفعة واحدة لم يلزمه إلا كفارة واحدة وهكذا حرر هذه الرواية ابن أبي موسى والقاضي في المجرد وابن عقيل وغيرهم واختارها ابن أبي موسى قال ولو لبس المحرم ثيابه ومس طيبا ولبس الخفين وحلق شعره وأتى بذلك كله في مكان واحد لزمه كفارة واحدة

وقيل عنه كفارتان إلا أن يفرق ذلك فيلزمه لكل فعل كفارة واحدة قولا واحد وأطلق القاضي في خلافه وأبو الخطاب وغيره القول بأن عنه رواية بالتداخل في الأجناس المختلفة مطلقا وحكى القاضي ذلك عن أبي بكر ولفظ المنصوص يخالف ذلك وذكر في المجرد رواية ثالثة

فصل

وأما صفة الأجناس فإن الطيب كله جنس واحد واللباس كله جنس واحد ويدخل فيه تظليل المحمل وتقليم الأظفار جنس واحد وحلق الشعر جنس واحد والمباشرة كلها جنس واحد يعني إذا اتحد يوجهها هكذا ذكره أصحابنا القاضي وأصحابه ومن بعدهم

ويحتمل كلامه أن يكون الحلق والتقليم جنسا واحدا

وهل شعر الرأس وشعر البدن جنس أو جنسان على روايتين منصوصتين إحداهما هو جنسان وهي اختيار أبي بكر والقاضي وأكثر أصحابنا قال في رواية عبد الله والمروذي وابن ابراهيم وجعفر بن محمد في الرأس كفارة وفي البدن كفارة

والرواية الثانية جنس واحد اختارها أبو الخطاب وغيره قال في رواية ابن منصور في الطيب كفارة وفي الشعر كفارة ولم يفصل وقال أيضا في رواية سندى شعر الرأس واللحية والإبط سواء لا أعلم أحد فرق بينها إلا أن هذا في وجوب الفدية وليس صريحا بالتداخل

وقال في رواية ابن ابراهيم في محرم مرض في الطريق فحلق رأسه ولبس ثيابه وأطلى عليه هديان

ولو كانا جنسين لأوجب ثلاثة دماء لأن اللباس وحده فيه هدى وذلك لأن حلق الشعر كله يشترك في الاسم الخاص فوجب أن يكون جنسا واحدا كالطيب وتقليم الأظفار

ووجه الأول أن شعر الرأس يخالف شعر البدن فإن النسك يتعلق بأحدهما دون الاخر لاختلاف المقصود ولذلك قد اختلفا في تغطية أحدهما دون الاخر وفي دهن أحدهما دون الآخر وفي غسل أحدهما بالسدر والخطمى دون الآخر

وعلى هذه الرواية فتغطية الرأس ولبس المخيط جنس واحد وكذلك التطيب فيهما في رواية فيمن لبس عمامة وجبة فهو كفارة إذا لم يفرق وقد تقدم نصه في رواية الأثرم على أنه إذا لبس اليوم عمامة وغدا جبة وبعد غد قميصا لمرض واحد فكفارة واحدة

لكن قد يقال إنما اتحدث الكفارة بناء على أن الجنسين إذا فعلهما مرة واحدة أو لسبب واحد اتحدث كفارتهما لكن المنصوص عنه خلافه

وعنه أن كفارة الرأس لا تدخل في كفارة البدن مطلقا قال في رواية عبد الله والمروذي وابن ابراهيم في الرأس كفارة وفي الجسد كفارة وإذا حلق ولبس العمامة وإذا تنور ولبس القميص ففي الرأس فدية وفي الجسد فدية كفارتان وكذلك في رواية الأثرم

قل ابن أبي موسى اختلف قوله فيمن لبس الثياب وغطى رأسه مكانه على روايتين قال في إحداهما عليه فدية واحدة وقال في الأخرى في لبس الرأس فدية وفي البدن فدية

ولم يختلف قوله إنه إذا فرق لبسه أن عليه لكل لبسة كفارة ويخلع ما لبسه فإن لبس وكفر ثم عاد فلبس فكفارة ثانية وكذلك من وجبت عليه كفارة من طيب أو غيره فكفر ثم عاد إلى مثل ذلك فعليه كفارة أخرى فإن لم يكفر حتى عاود إلى مثل ذلك الفعل فليس عليه إلا كفارة واحدة

وهذا صريح من ابن أبي موسى أن تغطية الرأس ولبس المخيط جنسان رواية واحدة وإنما اختلفت الروايتان إذا فعلهما في مجلس واحد ثم قال ولو وجدت به علة احتاج معها إلى لبس المخيط لبس وكفر كفارة واحدة وسواء كانت العلة في رأسه وبدنه أو في إحداهما

فإن حدث به علتان مختلفان إحداهما في رأسه والأخرى في بدنه فلبس ثوبا لأجل العلة وغطى رأسه لأجل الأخرى فكفارتان

قال أبو بكر الذي أقول به في الرأس كفارة وفي البدن كفارة فأين ما صنع في جسده من فعل تكرر أو اختلف فكفارة واحدة ما لم يكفر ثم يعود فإذا كان في الرأس والجسد ولم يتكرر فكفارة في الرأس وكفارة في الجسد

وعلى هذا القول فالتعدد لتعدد المحل والاتحاد لاتحاده فكل ما يصنع في الرأس من تغطية وحلق وغيره ففيه كفارة واحدة وما يصنع في البدن ففيه كفارة لأن أحكام الرأس في الحلق واللباس والطيب خالفت أحكام البدن فوجب أن لا يدخل أحدهما في الاخر فصار كالشخصين

وأما دخول بعض أفعال الرأس في بعض فهو مبنى على تداخل الأجناس وإنما اختار أبو بكر التداخل لأن من أصله أن الأجناس تتداخل كفارتها وأما الدهن إذا أوجبنا به الكفارة أو ازالة الوسخ مثل السدر والخطمى والرأس والبدن أو التنزين

مسألة والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوى عمده وسهوه وسائر المحظورات لا شيء في سهوه

في هذه المسألة فصول أحدها الفصل الأول أن المحظور الذي يمكن تداركه وازالته عند الذكر مثل اللباس والطيب إذا فعله ناسيا لإحرامه أو جاهلا بأنه حرام فإذا ذكر أو علم فعليه أن يزيله في الحال ولا كفارة عليه في إحدى الروايتين

قال في رواية أبي طالب إذا وطىء يعنى ناسيا بطل حجه وإذا قتل صيدا وحلق شعره لم يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والنسيان سواء وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى رأسه ثم ذكر ألقاها عن رأسه وليس عليه شيء أو لبس ثوبا أو خفا وليس عليه شيء

وقال في رواية ابن القاسم إن تعمد التغطية وجب عليه والناسي يفزع إلى التلبية ونحوه نقل حرب وهذا اختيار الخرقى وأبى بكر وأكثر متقدمي أصحابنا وهو اختيار الشيخ والرواية الثانية عليه الكفارة قال في رواية ابن منصور فيمن لبس قميصا ناسيا عشرة أيام عليه كفارة واحدة ما لم يكفر وهذه الرواية اختارها القاضي وأكثر أصحابه مثل الشريف وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم لأن ذلك محظور من محظورات الاحرام فاستوى فيه العامد والساهي في وجوب الفدية كالحلق وقتل الصيد والوطء لأنه سبب يوجب الفدية فاستوى فيه العالم والجاهل كترك واجبات الحج

ولأن ما يحظره الاحرام لا فرق فيه بين العامد والمخطىء كتفويت الحج ولأن النسيان والجهل إنما هو عذر في فعل المحظور ومحظورات الاحرام إذا فعلها لعذر أو غير عذر فعليه الجزاء

ووجه الأولى ما روى يعلى بن أمية أن النبي جاءه رجل متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب فنظر إليه النبي فجاءه الوحى ثم سرى عنه فقال أين الذي سألني عن العمرة انفا فالتمس الرجل فجيء به فقال أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في العمرة كما تصنع في حجك متفق عليه فقد أمره النبي بنزع المخيط ولم يأمر بفدية لما مضى لأنه كان جاهلا وكذلك لم يأمره بفدية لأجل الطيب إن كان النهي عنه لأجل الإحرام

فإن قيل التحريم إنما ثبت في ذلك الوقت لأن النبي انتظر الوحى حين سئل وأيضا فإن النبي قال للذي أكل ناسيا الله أطعمك وسقاك فعلم أن فعل الناسى مضاف إلى الله فلا يؤثر في العبادة ومثله يقال للكاسى الله كساك بل منافاة الأكل للصوم أشد من منافاة اللبس للاحرام

وأيضا فإن الأصل فيما كان من باب المنهى عنه أن لا يؤثر فعله مع النسيان في حقوق الله لأن المسلمين لما قالوا ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال الله قد فعلت وقال النبي عفى لأمتى عن الخطأ والنسيان بخلاف حقوق الأدميين فإنهم لم يعفوا عن حقوقهم

وأما الفرق بين اللباس والحلق فسيأتي الفصل الثاني

أنه إذا قتل الصيد ناسيا أو جاهلا فعليه الكفارة كما على العامد هذا أشهر الروايتين عنه نقلها صالح وعبد الله وحنبل والأثرم وأبو طالب وابن القاسم

وروى عنه صالح أيضا لا كفارة في الخطأ والناسى والجاهل بالتحريم وذلك لأن الله سبحانه قال { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } الآية إلى اخرها وهذا يدل على أنه لا جزاء في الخطأ من وجوه أحدها أن الله نهى المحرم عن قتل الصيد والناسي والمخطىء غير مكلف فلا يكون منهيا وإذا لم يكن منهيا لم يكن عليه جزاء لأن القتل المضمون هو القتل المنهى عنه كما دل عليه سياق الآية

الثاني أنه قال { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } فقد نص على وجوب الجزاء على المتعمد فيبقى المخطىء بريء الذمة فلا يجوز أن يوجب عليه الشيء لبراءة ذمته

الثالث أنه خص المتعمد بايجاب الجزاء بعد أن تقدم ذكر القتل الذي يعم المتعمد وغيره ومتى ذكرت الصفة الخاصة بعد الاسم العام كان تخصيصها بالذكر دليلا قويا على اختصاصها بالحكم أبلغ من لو ذكرت الصفة مبتدأة إذ لو لم يختص بالحكم كان ذكر المتعمد زيادة في اللفظ ونقصا في المعنى ومثل هذا يعد عيا في الخطاب وهذا المفهوم لا يكاد ينكره من له أدنى ذوق بمعرفة الخطاب

الرابع أن المتعمد اسم مشتق من العمد مناسب كان ما منه الاشتقاق علة الحكم فيكون وجوب الجزاء لأجل التعمد فإذا زال التعمد زال وجوب الجزاء لزوال علته

الخامس أنه أوجب الجزاء ليذوق وبال أمره والمخطىء ليس عليه وبال فلا يحتاج إلى ايجاب الجزاء

وأيضا فضمان الصيد ليس حقا لادمى وإنما هو حق لله وما حرمه الله إذا فعله ناسيا أو مخطئا لا مؤاخذة عليه ولا جزاء

فعلى هذه الرواية لو تعمد رميه بآلة تقتل غاليا ولم يقصد قتله فهو متعمد أيضا لأنه فعل مالا يحل له وهو مؤاخذ بذلك ويحتمل كلامه أنه ليس بعمد

ولو قتل صبى أو مجنون صيدا في الحرم أو قتله الصبي وهو محرم

ووجه الأول عن ابن جريج قلت لعطاء لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا قلت له فمن قتله خطأ أيغرم وإنما جعل الغرم على من قتله متعمدا قال نعم يعظم بذلك حرمات الله ومضت به السنن ولئلا يدخل الناس في ذلك فإنه لو لم يجعل على قاتل الصيد حراما خطأ غرم أو شك الذي يقتله عمدا يقول إنما قتلته خطأ قال ولذلك قال { ومن قتله منكم متعمدا } قال وقال عمرو بن دينار رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ

وعن عقيل عن ابن شهاب أنه سئل عن قتل المحرم الصيد خطأ فقال زعموا أن كفارة ذلك خطأ سنة وكفارة العمد في القرآن رواهن ابن دحيم وغيره

فقد ذكر هؤلاء التابعون مضى السنة والإجماع بالكفارة في الخطأ والسنة إذا أطلقت فإما سنة رسول الله أو سنة خلفائه الراشدين وبكل حال فذلك حجة يجب اتباعه

والمرسل إذا ارسل من وجوه مختلفة صار حجة وفاقا

وقد روى جابر عن الحكم أن عمر كتب إلى أهل الأمصار أن قتل الصيد العمد والخطأ سواء رواه دحيم والنجاد ولفظه أن عمر كتب أحكم عليه في الخطأ والعمد قال أحمد قد روى عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ

وعن ابن مسعود في رجل القى جوالق على ظبي فأمر بالجزاء رواه أحمد قال هذا لا يكون عمدا إلا أن هذا شبه عمد إلا أنه لا يتعمده

وعن أبي طلحة عن ابن عباس قوله { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } قال إن قتله متعمدا أو ناسيا حكم عليه فإن عاد متعمدا عجلت له العقوبة إلا أن يغفر الله تبارك وتعالى رواه جماعة

وأيضا فإن الله سبحانه أوجب في قتل المعصوم خطأ دية وكفارة والدية حق لورثته والكفارة حق لله ولم يسقط ذلك بكونه مخطئا فقتل الصيد خطأ في معنى ذلك سواء لأنه قتل حيوان معصوم مضمون بكفارة وكونه معفوا عنه ولا يؤاخذ بالخطأ لا يمنع وجوب الكفارة كالكفارة في قتل الادمى وذلك لأن المتعمد يستحق الانتقام من الله ويجب عليه الكفارة فالمخطىء قد عفى له عن الانتقام أما الكفارة فلا

وأما تخصيص المتعمد في الآية فلأن الله ذكر وجوب الجزاء ليذوق وبال أمره وأنه عفا عما سلف وأن من عاد انتقم الله منه وهذه الأحكام مجموعها لا تثبت إلا لمتعمد وليس في ذلك ما يمنع ثبوت بعضها في حق المخطىء بل يجب ترتيب هذه الأحكام على ما يقتضيها من تلك الأفعال فالجزاء بدل المقتول والإنتقام عقوبة القاتل وهذا كما قال { ومن يرتدد منكم عن دينه } وقوله { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الايتين وقوله { ومن يشاقق الرسول } الآية وقوله { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها } الآية وهذا كثير في القران والحديث يرتب الجزاء على أمور ويكون بعضه مرتبا على بعضها منفردا

الفصل الثالث إذا حلق شعرا وقلم ظفرا ناسيا أو مخطئا أو جاهلا فالمنصوص عنه أن فيه الكفارة قال في رواية عبد الله وصالح وحنبل من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع عنه يلزمه لو قتل صيدا ناسيا أو تنور ناسيا وهو محرم لم يكن عليه شيء وقد أوجب الله في قتل الخطأ تحرير رقبة

وقد تقدم نصه في رواية أبي طالب على مثل ذلك وأن قتل الصيد وحلق الشعر والوطء يستوى عمده وخطأؤه وخرج أبو الخطاب وغيره أنه لا شيء عليه كالرواية التي في قتل الصيد وأولى لأن قتل الصيد اتلاف محض بخلاف الحلق والتقليم فإنه يشبه الترفه والاستمتاع

ولأن قتل الصيد ضمان كضمان الأموال فتقدير كفارته بقدره بخلاف الشعر والظفر فإن كفارته ككفارة الطيب واللباس وهذا قول قوى وأما على المشهور فقد فرق من لم يوجب الكفارة في اللباس والطيب إذا كان خطأ وبين هذا من أصحابنا لوجهين أحدهما أن الحلق والقلم إتلاف والمحظور منه جهة الإتلاف ولهذا لو نتف الشعر أو أحرقه لزمته الفدية وإن لم يكن استمتاع وباب الإتلاف يستوى فيه العامد والمخطىء كإتلاف النفوس والأموال واللباس والطيب إستمتاع والمحظور منه الإستمتاع ولهذا لو أحرق الطيب أو أتلفه لم يلزمه شيء والإستمتاع فعل يفعله المحرم فأعتبر فيه القصد إليه والعلم بتحريمه جريا على قاعدة المحظورات في أن ما كان مقصوده الترك لا يأثم بفعله ناسيا وقياسا على أكل الصائم

وهذا الفرق لا يجي على أصلنا لأن الجماع إستمتاع محض وقد استوى فيه العامد والساهي

والفرق الثاني وهو فرق أحمد أن الحلق والتقليم والقتل والوطء قد فات على وجه لا يمكن تداركه وتلافيه ولا يقدر على رده ولا على إزالة أثره الباقي بعد زواله

وأما اللباس والطيب فإذا ذكر أمكنه نزع الثياب وغسل الطيب فكان ذلك كفا ما فعله الناسي في حال النسيان فعلى مقدمات الوطء والدهن وغسل الرأس بالخطمى والسدر وكذلك غسل البدن بذلك وإزالة الوسخ يلحق بالوطء وعلى الوجه الأول يلحق بالطيب

فصل

وإن حلق حلال رأس محرم وهو نائم أو أكرهه على ذلك بأن حلقه الحلال ولم يقدر المحرم على الامتناع لضبطه أو تقييده أو توعده إن لم يمكنه فقال ابن أبي موسى هي على وجهين أحدهما الفدية على الحلال دون المحرم

والوجه الاخر الفدية على المحرم ويرجع بها على الحلال

مسألة وكل هدى أو إطعام فهو لمساكين الحرم إلا فدية الأذى يفرقها في الموضع الذي حلق وهدى المحصر ينحره في موضعه وأما الصيام فيجزئه بكل مكان

فيه فصول

أحدها أن الهدي عشرة أنواع أحدها هدي المحصر

والثاني هدى المتمتع

والثالث جزاء الصيد

والرابع فدية الأذى

والخامس ما وجب لترك واجب والسادس هدى الافساد وما في معناه

والسابع هدي الفوات وما في معناه

والثامن الهدي المنذور في الذمة

والتاسع الهدي المعين واجبا

والعاشر الهدي المعين تطوعا

وهذه كلها لا تذبح إلا بالحرم وكل ما ذبح بالحرم فإنه لا يفرق إلا في الحرم للمساكين الذين به من المسوطنين والمقيمين والواردين وغيرهم حتى لو جاء رجل من أهل الحل أحد في الحرم جاز إلا ما استثنيناه أما هدى التمتع فإنه هدى نسك وإنما يذبح يوم النحر والحاج يوم النحر لا يكون إلا بالحرم ولأن

وأما جزاء الصيد فلقوله { هديا بالغ الكعبة } وأما هدى الافساد والفوات

وأما هدي المحصر فيذبح في موضع حصره على الصحيح كما تقدم

وأما فدية الأذى فقد تقدم أمرها لأن النبي أمر كعب بن عجرة أن يحلق رأسه ويهدي في الحل قبل أن يصدوا عن البيت وقد سماه الله نسكا وحديث علي الفصل الثاني

أن الاطعام الواجب حيث يجب الهدي حكمه حكم ذلك الهدي كالاطعام في جزاء الصيد والاطعام عن صوم التمتع والاطعام لترك واجب أو فعل محظور الفصل الثالث

أن الصوم يجزىء بكل مكان حتى صوم الأيام السبعة في التمتع لأنه ليس لأهل الحرم حظ في الصوم عندهم ولأن جنس الصوم في الشرع لم يختص بمكان دون مكان بخلاف الصلاة والذبح والصدقة لكن إذا وجب عليه الصوم فهل يجوز تأخيره

باب دخول مكة[عدل]

مسألة يستحب أن يدخل مكة من أعلاها

هذا على ظاهر قول أصحابنا مستحب لكل من أراد الدخول إلى مكة سواء أتاها من ناحية التنعيم أو من غيرها

وجملة ذلك أنه يستحب دخول مكة من أعلاها والخروج من أسفلها وذلك لما روى ابن عمر قال كان رسول الله يدخل من الثنية العليا التي بالبطحاء ويخرج من الثنية السفلى رواه الجماعة إلا الترمذي وفي رواية للبخاري أن رسول الله دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي عند البطحاء وخرج من الثنية السفلى

وهذا اشار إلى تكرار دخوله من ذلك الموضع

وعن عائشة أن النبي لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها وفي لفظ دخل عام الفتح من كداء التي بأعلا مكة متفق عليه ولأبي داود دخل رسول الله عام الفتح من كداء من أعلى مكة ودخل في العمرة من كدى

وفي رواية للبخاري أن رسول الله دخل عام الفتح من كداء وخرج من كدى من أعلى مكة وكذلك روى البخاري عن عروة بن الزبير قال وأمر رسول الله يومئذ يعني يوم الفتح خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء ودخل النبي من كدى

ويشبه أن يكون ذلك والله أعلم لأن الثنية العليا التي تشرف على الأبطح والمقابر إذا دخل منها الانسان فإنه يأتي من وجه البلد والكعبة ويستقبلها استقبالا من غير انحراف بخلاف الذي يدخل من الناحية السفلى فإنه يدخل من دبر البلد والكعبة وإنما يخرج من الثنية السفلى لأنه يستدبر الكعبة والبلد فأستحب أن يكون ما يليه منها مؤخرها لئلا يستدبر وجهها وليكون قد دخل من طريق وخرج من أخرى كالذاهب إلى العيد وفي خروجه عام الفتح من دبرها مع أنه كان يريد حنينا والطائف دليل على أن الانسان يتعمد ذلك وإن لم يكن وجه قصده

فصل

قال أحمد في رواية المروذي فإذا دخلت الحرم فقل اللهم هذا حرمك وأمنك الذي من دخله كان آمنا فأسألك أن تحرم لحمى ودمى على النار اللهم أجرني من عذابك يوم تبعث عبادك

فإذا دخلت مكة فقل اللهم أنت ربي وأنا عبدك والبلد بلدك جئت فارا منك إليك لأؤدي فرائضك متبعا لأمرك راضيا بقضائك أسألك مسألة المضطر إلى رحمتك المشفق من عذابك الخائف من عقوبتك أسألك أن تستقبلني اليوم بعفوك واحفظني برحمتك وتجاوز عني بمغفرتك وأعنى على أداء فرائضك

ويستحب أن يغتسل لدخول مكة

ولا بأس بدخول مكة ليلا نص عليه قال أصحابنا يستحب دخولها ليلا ويجوز نهارا لأن النبي دخلها في حجة الوداع نهارا وكذلك في عمرة القضية وعام الفتح ودخلها في عمرة الحديبية ليلا

وقد روي عن ابن عباس موقوفا قال كانت الأنبياء تدخل الحرم مشاة حفاة ويطوفون بالبيت ويقضون المناسك حفاة مشاة رواه ابن ماجة

مسألة ويدخل المسجد من باب بني شيبة اقتداء برسول الله

وذلك لما روي عن عبد الله بن عمر قال دخل رسول الله ودخلنا معه من باب بني عبد مناف وهو الذي يسميه الناس باب بني شيبة وخرجنا إلى المدينة من باب الحزورة وهو باب الحناطين رواه الطبراني من طريق عبد الله بن نافع وذلك لما تقدم في دخول مكة من أعلاها لأن باب بنى شيبة أقرب باب إذا دخله الداخل استقبل وجه الكعبة وهو أبعد باب من هذه الناحية عن الحجر الأسود فيكون ممره في المسجد أولى من ممره خارج المسجد إما إلى ناحية الصفا أو ناحية دار الندوة

ويستحب أن يقول عند دخول المسجد ما يستحب عند سائر المساجد

مسألة فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا

قال أحمد في رواية المروذي إذا رأيت البيت فارفع يديك بباطن كفيك وقل الله أكبر الله أكبر اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالإسلام اللهم زد بيتك هذا تعظيما وتكريما وايمانا ومهابة

وروي عن سعيد بن المسيب قال سمعت من عمر كلمة لم يبق أحد سمعها غيري حين رأى البيت قال اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام وفي لفظ أن عمر بن الخطاب كان إذا نظر إلى البيت قال اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام رواه سعيد والشافعي وأحمد وغيرهم

وعن حذيفة بن أسيد أن النبي كان إذا نظر إلى البيت قال اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة رواه الطبراني في مناسكه وأما المكان الذي يرى منه البيت فقد كان قديما يرى من موضع يقال له رأس الردم بعد أن يدخل مكة بقليل ويقال كان يرى قبل دخول البلد عند الحجون فهذا كان لأنه لم يكن بمكة بناء أعلى من الكعبة وكانت هذه الأمكنة منخفضة

فأما اليوم فإن البيت لا يرى إلى أن يدخل الرجل المسجد وكذلك في كلام أحمد وأصحابه

مسألة ثم يبتديء بطواف العمرة إن كان متعمرا وبطواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا

وجملة ذلك أن المحرم إذا دخل المسجد فإنه لا يبتديء بشيء قبل الطواف بالبيت هذا هو الذي عليه عامة أصحابنا

وقال ابن عقيل يستحب أن يقدم على الطواف تحية المسجد الحرام إلا أن يكون عليه فائتة فيقدم الفائتة على التحية قال وإنما جعلنا التحية قبل الطواف لأن الدخول إلى المسجد قبل المضي فيبدأ بالأسبق فالأسبق

وهذا الذي قاله ليس بشيء فإن المسجد الحرام تحيته الطواف بالبيت وهي تحية البيت والمسجد

وهذه هي السنة الماضية فإن رسول الله لما دخل المسجد الحرام هو وأصحابه لم يبدؤا بشيء قبل الطواف بالبيت فروى أبو الأسود أن رجلا من أهل العراق قال له سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا فإن قال لك لا يحل فقل له إن رجلا يقول ذلك قال فسألته فقال لا يحل من أهل بالحج الا بالحج فقلت فإن رجلا كان يقول ذلك فقال بئس ما قال فتصداني الرجل فسألني فحدثته فقال إن رجلا كان يخبر أن رسول الله قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك فذكرت له ذلك فقال من هذا قلت لا أدري قال لما باله لا يأتيني بنفسه يسألني أظنه عراقيا قلت لا أدري قال فإنه قد كذب قد حج رسول الله فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر مثل ذلك ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة ثم معاوية وعبد الله بن عمر ثم حججت مع أبي الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن عمرة ثم اخر من رأيت ابن عمر فعل ذلك ثم لم ينقضها بعمرة وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا يبدئان بشيء أول من الطواف بالبيت يطوفان به ثم لا يحلان وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط فلما مسحوا الركن حلوا قد كذب فيما ذكر أخرجاه

فصل

وإن كان عليه فائتة ذكرها حين الدخول أو قبل ذلك بدأ بها قبل الطواف لأن قضاءها واجب على الفور حين يذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وكذلك إن أدرك مكتوبة في جماعة لأنه يخشى فوت الجماعة ولا يخشى فوات الطواف إلا أن يكون هناك جماعات متعددة

ولم يستثن ابن عقيل إلا الفرض واستثنى القاضي وغيره الفريضة وركعتا الفجر والوتر إذا خاف فوت ذلك قدمه على الطواف وهذا أصح لأن الوتر مؤكد لكن استثناء ركعتي الفجر ليس بمستقيم على أصلنا لأنه إن لم يكن صلى الفجر فإذا خاف فوت سنتها فهو لخوف المكتوبة أشد فيبدأ بالسنة والمكتوبة فلا معنى لتخصيص ركعتي الفجر وإن كان صلى المكتوبة فإن يؤخر قضاء السنة إلى طلوع الشمس وهو أولى من صلاتها قبل طلوعها فلا معنى لخوف فواتها

وأما إذا خاف فوت سنة الظهر أو المغرب بعدها فعلى ما ذكره القاضي يقدم الطواف وقال غيره متى خشى فوت سنة راتبة قدمها على الطواف

فصل

والسنة لكل من دخل المسجد الحرام

مسألة ويضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على الأيسر

الإضطباع افتعال من الضبع وهو العضد ويسمى اليابطة لأنه يجعل وسط الرداء تحت الإبط ويبدىء ضبعه الأيمن

وقيل يبدىء ضبعاه وأصله اضتباع وإنما قلبت التاء طاء لمجاورة حرف الاستعلاء كما يقال اضطباع واصطياد واضطرار واضطهاد والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس أن النبي اضطبع فكبر فاستلم وكبر ثم رمل ثلاثة أطواف كانوا إذا بلغوا الركن اليماني وتغيبوا من قريش مشوا ثم يطلعون عليهم يرملون تقول قريش كأنهم الغزلان

قال ابن عباس فكانت سنة رواه أبو داود

وعن ابن عباس أن رسول الله اعتمر من جعرانة فاضطبعوا وجعلوا أرديتهم تحت اباطهم ووضعوها على عواتقهم ثم رملوا رواه أحمد وفي لفظ له ولأبى داود أن رسول الله وأصحابه اعتمروا من جعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت اباطهم ثم فذفوها على عواتهم اليسرى

وعن يعلى بن أمية أن النبي لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له حضرمي رواه الخمسة إلا النسائي وقال الترمذي حديث حسن صحيح وهذا لفظ أحمد ولفظ أبي داود طاف النبي مضطبعا ببرد أخضر ولفظ الترمذي وابن ماجة طاف بالبيت مضطبعا وعليه برد لم يقل ابن ماجة بالبيت

فقد ذكر ابن عباس أن النبي أول ما أضطبع في عمرة القضاء ليستعينوا بذلك على الرمل ليرى المشركون قوتهم ثم اضطبع في عمرة الجعرانة وقد ذهب المشركون ثم اضطبع في

وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أطأ الله الإسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

فبين أن العبادة قد تشرع أولا لسبب ثم يزول ذلك ويجعلها الله سبحانه عبادة وقربة كما قد روى في الرمل والاضطباع والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار

وأول ما يضطبع إذا أراد أن يستلم الحجر قبل أن يستلم فيما ذكره كثير من أصحابنا وهو معنى كلام المصنف وهو ظاهر حديث ابن عباس المتقدم

وقال أحمد في رواية المروذي يضطبع بعد أن يستلم الحجر لأن الاضطباع إنما يكون

ويضطبع في جميع الأشواط السبعة فإذا قضى طوافه سوى ثيابه ولم يضطبع في ركعتي الطواف لأن الاضطباع في الصلاة مكروه هكذا قال القاضي وابن عقيل وغيرهما

وقال أبو بكر الأثرم إنما يضطبع في الأشواط الثلاثة التي يرمل فيها لأن الاضطباع إنما هو معونة على الرمل وإنما فعل تبعا له فإذا لم يرمل لم يضطبع

فأما الاضطباع في السعي فقال أحمد ما سمعت فيه شيئا قال أصحابنا

مسألة ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ويقبله ويقول بسم الله والله أكبر اللهم ايمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد

وجملة ذلك أن السنة للطائف أن يبتديء بالحجر الأسود فيستلمه بيده والإستلام هو مسحه بيده وفي وجهان

والتقبيل بالفم وذلك لما روى جابر في حديثه في صفة حجة النبي قال حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا وفي رواية لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا رواه مسلم

وعن عمر قال فطاف رسول الله حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف متفق عليه

وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال رأيت رسول الله قبل الحجر وقال لولا أنى رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك

وعن عابس بن ربيعة عن عمر أنه جاء إلى الحجر فقبله فقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك متفق عليهما وعن سويد بن غفلة قال رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال رأيت رسول الله بك حفيا رواه مسلم

وعن الزبير بن عربي قال سأل رجل عمر عن استلام الحجر فقال رأيت رسول الله يستلمه ويقبله وقال أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت قال اجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله يستلمه ويقبله رواه البخاري

فإن لم يمكنه تقبيله استلمه وقبل يده ذكره أصحابنا لما روى نافع قال رأيت ابن عمر استلم الحجر بيدد ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله يفعله متفق عليه ولأن النبي كان يستلمه بالمحجن ويقبل المحجن فتقبيل اليد إذا استلمه بها أولى

وقال ابن جريج قلت لعطاء هل رأيت أحدا من أصحاب رسول الله إذا استلموا قبلوا أيديهم قال نعم رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر وأبا سعيد وأبا هريرة إذا استلموا قبلوا أيديهم رواه الشافعي

فإن كان راكبا استلمه بعصا ونحوها وهل يستحب له ذلك راجلا

لما روي عن ابن عباس قال طاف رسول الله في حجه على بعير يستلم الركن بمحجن رواه الجماعة إلا الترمذي والنسائي وفي رواية لأحمد والبخاري طاف رسول الله على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر

ومعنى هذه الرواية أنه يشير إليه إشارة يمس بها الحجر كما جاء مفسرا أنه استلم الركن بمحجن ولو لم يمس المحجن الحجر لكانت الإشارة باليد أولى

وعن أبي الطفيل قال رأيت رسول الله يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد ولم يذكر تقبيل المحجن

وعن مجاهد أن رسول الله طاف ليلة الافاضة على راحلته واستلم الركن يعني يستلم الركن بمحجن ويقبل المحجن رواه أبو داود في المراسيل

ويستحب له أن يقبل ما يستمله به لما تقدم من النص فإن لم يمكنه التقبيل ولا الاستلام بيده ولا شيء فقال كثير من أصحابنا يشير إليه بيده منهم القاضي وأصحابه

والمنصوص عنه في رواية المروذي ثم ائت الحجر الأسود فاستمله إن استطعت وقبله وإن لم تستطع فقم بحياله وارفع يديك وقل الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم تصديقا بكتابك واتباعا لسنتك وسنة نبيك محمد لا اله الا الله والله أكبر اللهم إليك بسطت يدي وفيما لديك عظمت رغبتي فأقبل دعوتي واقلني عثرتي وارحم تضرعي وجد لى بمغرفتك يالهى امنت بك وكفرت بالطاغوت

وكذلك نقل عنه عبد الله أنه يستقبله ويرفع يديه ويكبر وكذلك قال القاضي إن لم يمكن استلامه لأجل الزحمة قام حياله ورفع يده وكبر هكذا قال في رواية الأثرم

ولم يقل إنه يقبل وهذا أصح لما روي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله قال له يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت فرجة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر رواه أحمد وروى الأزرقي في أخبار مكة عن جده عن ابن عيينة عن أبي يعفور العبدي قال سمعت رجلا من خزاعة كان أميرا على مكة منصرف الحاج عن مكة يقول إن رسول الله قال لعمر بن الخطاب يا عمر إنك رجل قوي وإنك تؤذي الضعيف فإذا وجدت خلا فاستلمه والا فامض وكبر هذا معنى المنصوص عن أحمد وعن هشام بن عروة أن عمر رضي الله عنه كان يستلمه إذا وجد فجوة فإذا اشتد الزحام كبر كلما حاذاه رواه الأزرقي

ولأن الإشارة إليه بالإستلام من غير مماسة ليس فيه ولا معنى فيه فأشبه الإشارة إليه بالقبلة

وبكل حال فلا يقبل يده إذا أشار إليه بالاستلام من غير استلام لأن التقبيل إنما هو للحجر أو لما مس الحجر

وأما رفع اليد فهو مسنون عنده

وأما السجود عليه فقد ذكر لأحمد حديث ابن عباس في السجود على الحجر فحسنه وقد رواه الأزرقي عن جده عن ابن عيينة عن ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر قال رأيت ابن عباس رضي الله عنهما جاء يوم التروية وعليه حلة مرجلا رأسه فقبل الحجر وسجد عليه ثلاثا ورواه أبو يعلى الموصلى في مسنده من حديث أبي داود الطيالسي عن جعفر بن عثمان المخزومي قال رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه وقال رأيت خالي ابن عباس يقبل الحجر ويسجد عليه وقال رأيت عمر يقبل الحجر ويسجد عليه وقال رأيت رسول الله يفعله

وحديث عمر الذي تقدم في صحيح مسلم أنه قبل الحجر والتزمه وقال رأيت رسول الله بك حفيا يؤيد هذا

وروى الأزرقي أن طاوسا أتى الركن فقبله ثلاثا ثم سجد عليه وقال قال عمر بن الخطاب إنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك وهل يستلم الركن غير الحجر

وأما الذكر الذي يقال عنده فقد تقدم حديث ابن عباس الصحيح أن النبي كان كلما أتى الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر وقال لعمر استقبله وهلل وكبر وفي لفظ كبر وامض فقد أمر النبي بالتكبير والتهليل وهذا هو المنصوص عن أحمد قال ابن جريج قلت هل بلغك من قول يستحب عند استلام الركنين قال لا وكأنه يأمر بالتكبير ذكره الأزرقي وأما الزيادة التي ذكرها أصحابنا فقد روي عن ابن عمر أنه كان إذا استلم الركن قال بسم الله والله أكبر رواه الأزرقي والطبراني بإسناد جيد

وروي أيضا عن الحارث عن علي أنه كان إذا استلم الحجر قال اللهم ايمانا بك وتصديقا بكتابك وسنة نبيك محمد وروي الأزرقي عن سعيد بن سالم أخبرني موسى بن عبيدة عن سعد بن ابراهيم بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول إذا كبر لاستلام الحجر بسم الله والله أكبر على ما هدانا لا اله إلا هو وحده لا شريك له امنت بالله وكفرت بالطاغوت وباللات والعزى وما يدعى من دون الله { إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين }

قال عثمان بلغني أنه يستحب أن يقال عند استلام الركن بسم الله والله أكبر اللهم ايمانا بك وتصديقا بما جاء به محمد

فصل

وأما الحجر الأسود واستلامه وتقبيله ومعنى ذلك فقد روى ابن عباس قال قال رسول الله يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق رواه الخمسة إلا أبا داود وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن

وعن ابن عباس قال قال رسول الله نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني ادم رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح وللنسائي منه الحجر الأسود من الجنة

وعن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله يقول إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس نورهما لاضأتا ما بين المشرق والمغرب رواه أحمد في المناسك والترمذي وقال حديث غريب قال ويروى موقوفا عن عبد الله بن عمرو قوله

وقد رواه الأزرقي وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو وروي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال ليس في الأرض من الجنة إلا الركن الأسود والمقام فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة ولولا ما مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله عز وجل

وعن أبي هريرة قال قال رسول الله من فاوضه يعني الركن الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن رواة ابن ماجة من طريق إسماعيل ابن عياش

وعن ابن عباس قال إن هذا الركن الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها عباده مصافحة الرجل أخاه رواه محمد بن أبي عمر السعدني والأزرقي بإسناد صحيح

وعن ابن عباس أيضا قال الركن يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه والذي نفس ابن عباس بيده ما من أمرى مسلم يسأل الله عنده شيئا إلا أعطاه اياه رواه الأزرقي والطبراني بطريقين مختلفين وروى الأزرقي عن عكرمة قال إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن لم يدرك بيعه رسول الله فسمح الركن فقد بايع الله ورسوله

وروى الأزرقي عن محمد بن أبي عمر العدني ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمى عن أبي هرون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال خرجنا مع عمر رضي الله عنه إلى مكة فلما دخلنا الطواف قام عند الحجر وقال والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك ثم قبله يعني في الطواف فقال له علي بلى يا أمير المؤمنين هو يضر وينفع قال وأين ذلك قال في كتاب الله قال وأين ذلك من كتاب الله عز وجل قال قال الله عز وجل { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } قال فلما خلق عز وجل ادم عليه السلام مسح ظهره فأخرج ذريته من صلبه فقررهم أنه الرب وهم العبيد ثم كتب ميثاقهم في رق وكان هذا الحجر له عينان ولسان فقال له افتح فاك فألقمه ذلك الرق وجعله في هذا الموضع وقال تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة قال فقال عمر أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم ياباحسن

فصل

والسنة أن يبتديء بالحجر في أول الطواف وأن يستقبل الركن في أول الطواف سواء استلمه وقبله أو لم يفعل وهل ذلك واجب لأن النبي لله قال لعمر إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر

قال القاضي من شرط الطواف الاستقبال فلا يجوز أن يبتديء الطواف غير مستقبل للركن

قال القاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا وكمال الطواف أن يبتديء بالحجر فيحاذى بجميع بدنه جميع الحجر وهو أن يأتي عن يمين الحجر من ناحية الركن اليماني ثم يجتاز بجميعه على يمين نفسه لأن كل ما قابلك كان يمينك حذاء يساره ويسارك حذاء يمينه لأن السنة أن يبتديء بالطواف بالحجر الأسود ولا يطوف جميعه بالحجر الأسود إلا بذلك فإن حاذى بعض الحجر بكل بدنه وأمكن هذا لكونه دقيقا أجزأه لأنه قد ابتدأ بطواف جميعه بالحجر لأن استيعاب

وإن حاذى ببعض بدنه كل الحجر أو بعضه فهل يجزئه على وجهين فإن لم يجزئه لغت الطوفة الأولى فإذا حاذى الحجر في الشوط الثاني فهو أول طوافه

والكمال أن يحاذى في الأخير بكل بدنه جميع الاخر فعلى ما قالوه إما أن يذهب إلى يمين الحجر بعد استقبال الركن واستلامه وهل يستقبله بعد ذلك وإما أن يبديء من يمين الحجر فيستقبله وهذا أشبه بالسنة فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا رواه مسلم

وفي حديث ابن عمر قال وطاف رسول الله حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف ومشى أربعة متفق عليه

ولم يذكر جابر أنه ذهب إلى ناحية يساره قليلا بعد الاستلام ولأنه محاذيا للحجر مستقبلا له ولو فعل ذلك لم يكن قد خب عقب الاستلام فإنه من يمشى هكذا لا يخب ولو فعل ذلك لنقلوه

مسألة ثم يأخذ على يمينه ويجعل البيت على يساره فيطوف سبعا

وجملة ذلك أن الطائف يبتديء في مروره بوجه الكعبة فإذا استلم الحجر الأسود أخذ إلى جهة يمينه فيصير البيت عن يساره ويكمل سبعة أطواف وهذا من العلم العام والسنة المتواترة الذي تلقته الأمة عن نبيها وتوارثته فيما بينها خلفا عن سلف وهو من تفسير رسول الله معنى قوله { أن طهرا بيتي للطائفين } وقوله { وليطوفوا بالبيت العتيق } كما فسر أعداد الصلاة وأوقاتها وقد تقدم في حديث جابر أن النبي لما قدم مكة أتى الحجر فاستمله ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا رواه مسلم

مسألة يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ويمشي في الأربعة

الأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن النبي إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا وكان يسعى ببطن الوادي إذا طاف بين الصفا والمروة وفي رواية رمل رسول الله من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا وفي رواية رأيت رسول الله إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت ويمشي أربعة متفق عليهن وقد تقدم مثل ذلك في حديث جابر في صفة حجة الوداع وهي اخر نسك فعله النبي وفي رواية رأيت رسول الله رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف رواه مسلم

وأصل ذلك ما روى ابن عباس قال قدم رسول الله وأصحابه فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب وأمرهم النبي أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم متفق عليه وهذا لفظ البخاري

ولفظ مسلم لما قدم رسول الله وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب قال المشركون إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا مما يلى الحجر وأمرهم النبي أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا قال ابن عباس ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم وفي رواية عنه إنما رمل رسول الله ليرى المشركين قوته متفق عليه

فكان أول الرمل هذا ولذلك لم يرملوا بين الركنين اليمانين لأن المشركين كانوا من ناحية الحجر عند قعيقعان لم يكونوا يرون من بين الركنين

وكان هذا في عمرة القضية ثم اعتمر رسول الله بعد ذلك عمرة الجعرانة ومكة دار اسلام ثم حج حجة الوداع وقد نفى الله الشرك وأهله ورمل من الحجر إلى الحجر فكان هذا اخر الأمرين منه فعلم أن الرمل صار سنة

عن ابن عباس قال رمل رسول الله في حجته وفي عمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء رواه أحمد وقد رواه أبو داود في مراسيله عن عطاء أن رسول الله سعى في عمره كلها بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم والخلفاء هلم جرا يسعون كذلك قال وقد أسند هذا الحديث وهذا الصحيح

وعن عمر أنه قال ما لنا وللرمل وإنما راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله ثم قال هي صنيعة رسول الله فلا نحب أن نتركه رواه البخاري وابن ماجة وقد تقدم عنه وعن ابن عباس في الاضطباع نحو ذلك

فصل

قال أصحابنا يستحب للطائف الدنو من البيت في الطواف إلا أن يؤذي غيره أو يتأذى بنفسه فيخرج إلى حيث أمكنه وكلما كان أقرب فهو أفضل وإن كان الأبعد أوسع مطافا وأكثر خطى

فإن لم يمكنه الرمل مع القرب لقوة الإزدحام فإن رجا أن تخف الزحمة ولم يتأذ أحد بوقوفه انتظر ذلك ليجمع بين قربة من البيت وبين الرمل فإن ذلك مقدم على مبادرته إلى تمام الطواف وإن كان الوقوف لا يشرع في الطواف قال أحمد فإن لم تقدر أن ترمل فقم حتى تجد مسلكا ثم ترمل

فإن لم يمكنه الجمع بين القرب والرمل فقال القاضي وغيره يخرج إلى حاشية المطاف لأن الرمل أفضل من القرب لأنه هيئته في نفس العبادة بخلاف القرب فإنه هيئة في مكانها

وقال ابن عقيل يطوف قريبا على حسب حاله لأن الرمل هيئة فهو كالتجافى في الركوع والسجود ولا يترك الصف الأول لأجل تعذرها فكذلك هنا لا يترك المكان القريب من البيت لأجل تعذر الهيئة

والأول لأن الرمل سنة مؤكدة بحيث يكره تركها والطواف من حاشية المطاف لا يكره بخلاف التأخر إلى الصف الثاني في الصلاة فإنه مكروه كراهة شديدة

والفرق بين الصف الأول وبين داخل المطاف أن المصلين في صلاة واحدة ومن سنة الصلاة إتمام الصف الأول بخلاف الطائفين فإن كل واحد يطوف منفردا في الحكم فنظير ذلك أن يصلى منفردا في قبلي المسجد مع عدم إتمام هيئات الصلاة فإن صلاته في مؤخره مع إتمامها أولى

وأيضا فإن تراص الصف وانضمامه سنة في نفسه فاغتفر في جانبها زوال التجافى بخلاف ازدحام الطائفين فإنه ليس مستحبا وإنما هو بحسب الواقع

وأيضا فإن فضيلة الصف الأول ثبتت بنصوص كثيرة بخلاف داخل المطاف على أن المسألة التي ذكرها فيها نظر

فأما إن خاف إن خرج أن يختلط بالنساء طاف على حسب حاله ولم يخرج

مسألة وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل ويقول بين الركنين { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ويدعو في سائره بما أحب

في هذا الكلام فصول

أحدها الفصل الأول أنه يستلم الركنين اليمانين خاصة ويكره استلام قال أحمد في رواية المروذي ولا تستلم من الأركان شيئا إلا ما كان من الركن اليماني والحجر الأسود فإن زحمك الناس ولم يمكنك الإستلام فامض وكبر وذلك لما روي عن ابن عمر قال لم أر النبي يمس من الأركان إلا اليمانيين رواه الجماعة إلا الترمذي وفي لفظ في الصحيح لم أر رسول الله استلم من البيت وفي لفظ أن رسول الله كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني

وعن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة وكان عبد الله بن عمر يفعله رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي لفظ لأحمد كان رسول الله يستلم هذين الركنين اليمانيين كلما مر عليهما ولا يستلم الاخرين

وعنه أيضا قال ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله يستلمهما في شدة ولا رخاء متفق عليه

وعن ابن عباس قال لم أر رسول الله يستلم غير الركنين اليمانيين رواه أحمد ومسلم

وعن عبيد بن عمير أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين فقلت يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب النبي يزاحم عليه قال إن أفعل فاني سمعت رسول الله يقول إن مسحهما كفارة للخطايا وسمعته يقول من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة وسمعته يقول لا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة رواه الترمذي وقال حديث حسن

وعن ابن عمر أنه قيل له ما أراك تستلم إلا هذين الركنين قال اني سمعت رسول الله إن مسحهما يحط الخطيئة رواه أحمد والنسائي لفظه وذلك لأن البيت لم يتمم على قواعد ابراهيم فالركنان اللذان يليان الحجر ليسا بركنين في الحقيقة وإنما هما بمنزلة سائر الجدار والاستلام إنما يكون للأركان وإلا لاستلم جميع جدار البيت في الطواف

وأما تقبيل الركن اليماني ففيه ثلاثة أوجه أحدها وهو المنصوص عن أحمد أنه لا يقبله قال عبد الله قلت لأبي ما يقبل قال يقبل الحجر الأسود قلت لأبي فالركن اليماني قال لا إنما يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود وحده

وكذلك قال في رواية الأثرم لا يقبل اليماني وقال في رواية المروذي وهذا قول أكثر أصحابنا مثل القاضي وأصحابه مثل الشريف أبي جعفر وأبي المواهب العكبري وابن عقيل وأبي الخطاب في خلافه وغيرهم

وقال الخرقى وابن أبي موسى يستلمه ويقبله كالحجر قال ابن أبي موسى يستمله بفيه إن أمكنه وإن لم يمكنه فبيده ويقبلها قال ولا يقبل إلا الركنين اليمانيين لما روي عن ابن عباس قال كان النبي يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه رواه الدارقطني ورواه الأزرقي عن مجاهد مرسلا ومداره على عبد الله بن هرمز عن مجاهد

وقال أبو الخطاب يستلمه ويقبل يده لما روي عن عمر بن قيس عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله استلم الحجر فقبله واستلم الركن اليماني فقبل يده رواه أبو بكر الشافعي في الغيلانيات

والأول أصح لأن الذين وصفوا حج رسول الله وعمره ذكروا أنه كان يستلم الحجر ويقبله وأنه كان يستلم الركن اليماني ولم يذكروا تقبيلا ولو قبله لنقلوه كما نقلوه في الركن الأسود لاسيما مع قوة اعتنائهم بضبط ذلك وهذا ابن عمر اتبع الناس لما فعله رسول الله في حجته لم يذكر إلا الاستلام الفصل الثاني

ما يقوله إذا استلم الركنين وتقدم عنه أنه يكبر وقال في رواية عبد الله إن قدر على الحجر استلمه وإلا إذا حاذاه كبر ورفع يده ومضى وقال

مسألة ثم يصلي ركعتين خلف المقام

هذه السنة لكل طائف أسبوعا أن يصلي بعده ركعتين لقوله سبحانه { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود }

وعن ابن عمر قال قدم رسول الله فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ثم خرج إلى الصفا وقد قال الله عز وجل { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } متفق عليه وعن عبد الله بن أبي أوفى قال اعتمر رسول الله فطاف بالبيت وصلى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس فقال له رجل أدخل رسول الله الكعبة قال لا رواه البخاري وهذا في عمرة القضية

مسألة ويعود إلى الركن فيستلمه ويخرج إلى الصفا من باباه

وجملة ذلك أن يختم الطواف باستلام الحجر ثم يستلمه بعد ركعتي الطواف سواء في طواف القدوم والزيارة والوداع لأن في حديث جعفر ابن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام ابراهيم فقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } فجعل المقام بينه وبين البيت فكان أي يقول ولا أعلم ذكره الا عن النبي كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا اله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان اخر طوافه على المروة قال لو أني استقبلت من أمري ما استبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة بن جعشم فقال يا رسول الله العامنا هذا أم لا بد فشبك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى وقال دخلت العمرة في الحج مرتين لا بل لابد الأبد وذكر الحديث رواه مسلم وغيره

مسألة ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيأتيه فيرقى عليه ويكبر الله ويهلله ويدعوه ثم ينزل فيمشي إلى العلم ثم يسعى إلى العلم الاخر ثم يمشي إلى المروة فيفعل كفعله على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط يحسب بالذهاب سعيه وبالرجوع سعيه يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة

أما خروجه من باب الصفا وهو الباب الأعظم الذي يواجه الصفا وأما رقية على الصفا فلأن في حديث جابر أن النبي رقى عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة ولهذا قال أصحابنا إنه يرقى على الصفا حتى يرى البيت ويستقبل القبلة إلا أن هذا كان لما كانت الأبنية منخفضة عن الكعبة فأما الآن فإنهم قد رفعوا جدار المسجد وزادوا فيه ما بينه وبين الصفا حتى صار المسعى يلى جدار المسجد وكان قبل ذلك بين المسجد والمسعى بناء للناس فاليوم لا يرى أحد البيت من فوق الصفا ولا من فوق المروة نعم قد يراه من باب المسجد إذا خفض

فالسنة أن يكون على الصفا بحيث يتمكن من رؤية البيت لو كان البناء على ما كان وعن أبي هريرة أن النبي لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى تطر إلى البيت ورفع يد فجعل يحمد الله ويدعوا ما شاء أن يدعو رواه مسلم وأبو داود

ويستحب أن يرفع يديه ويسن أن يستقبل البيت في حال وقوفه على الصفا وعلى المروة وكذلك في حال وقوفه بعرفة وبمزدلفة وبمنى وبين الجرمتين لأن في حديث جابر عن النبي فاستقبل القبلة

وعن عروة قال من السنة أن يصعد الصفا والمروة حتى يبدوا له البيت فيستقبله

وعن عطاء أنه كان يقول استقبل البيت من الصفا والمروة ولا بد من استقباله رواهما أحمد

ولأنه حال مكث للذكر والدعاء فاستحب فيها استقبال القبلة كسائر الأحوال وأوكد

ولأن الوقوف بالمشاعر نوع من الصلاة وكذلك قال مجاهد في قوله { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } إنها عرفة ومزدلفة ومنى ونحوهن فيشرع فيها استقبال القبلة كالصلاة التامة

ولأن المناسك هي حج البيت فكان استقبال البيت وقت فعلها تحقيقا لمعنى حج البيت وقصده

ولأن جميع العبادات البدنية من القراءة والذكر والدعاء والصلاة والاعتكاف وذبح الهدى والأضحية يسن استقبال الكعبة فيها فما تعلق منها بالبيت أولى

وأما التكبير والتهليل والدعاء فقد ذكره جابر وغيره وهو المقصود لما روت عائشة

وأما صفة ذلك ففي رواية عن جابر أن النبي كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعوا ويصنع على المروة مثل ذلك رواه أحمد والنسائي وقد تقدم في رواية مسلم أنه كان يقول مع هذا التوحيد لا اله الا الله وحده أنجز وعده ونصر عده وهزم الأحزاب وحده وأنه يدعو بعد ذلك وقال أحمد في رواية عبد الله إذا قدمت مكة إن شاء الله فإن يحيى بن سعيد ثنا جعفر بن محمد ثنا أبي قال أتينا جابر عبد الله فقال استلم نبي الله الحجر الأسود ثم رمل ثلاثة ومشى أربعة حتى إذا فرغ عدا إلى مقام ابراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ثم استلم الحجر وخرج إلى الصفا ثم قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ثم قال نبدأ بما بدأ الله به فرقى على الصفا حتى إذا نظر إلى البيت كبر ثم قال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا اله إلا الله أنجز وعده وصدق عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثم رجع إلى هذا الكلام ثم دعا ثم رجع إلى هذا الكلام ثم نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة فرقى عليها حتى نظر إلى البيت فقال عليها مثل ما قال على الصفا فلما كان السابع عند المروة قال يا أيها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة فمن لم يكن معه هدى فليحل ويجعلها عمرة فحل الناس كلهم

فعلى حديث جابر الذي اعتمده أحمد يكبر ويهل على لفظ الحديث ثم يدعو ثم يكبر ويهل ثم يدعو ثم يكبر ويهل فيفتتح بالتكبير والتهليل ويختم به ويكرره ثلاث مرات والدعائين مرتين ولفظ التكبير في كل مرة ثلاثا كما جاء في بعض الروايات ولفظ التهليل مرتين معما فيه من زيادة الحمد والثناء

وعلى هذا يكون التكبير تسعا والتهليل ستا والدعاء مرتين

ولفظ الصحيح له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

وفي رواية للنسائي عن جابر عن النبي أنه قال نبدأ بما بدأ الله به فبدأ الصفا فرقى عليها حتى بدا له البيت فقال ثلاث مرات لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير وكبر الله وحمده ثم دعا بما قدر له ثم نزل ماشيا حتى تصوبت قدماه في بطن المسيل فسعى حتى صعدت قدماه ثم مشى حتى أتى المروة فصعد فيها ثم بدا له البيت فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير قال ذلك ثلاث مرات ثم ذكر الله وسبحه وحمده ثم دعا عليها بما شاء الله فعل هذا حتى فرغ من الطواف

وفي حديث أبي هريرة المتقدم أنه رفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء الله أن يدعو

فهذا الحمد يمكن أن يكون هو الحمد الذي في ضمن التهليل كما دل عليه الرواية المفسرة وعليه كلام أحمد ويمكن أن يكون غيره

وذكر القاضي وأبو الخطاب وجماعة من أصحابنا أنه يكبر ثلاثا قال القاضي سيقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر على ما هدانا الحمد لله على ما هدانا

وقال أبو الخطاب وغيره يكبر ثلاثا ويقول الحمد لله على ما هدانا ثم يبدأ لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير زاد أبو الخطاب وهو حي لا يموت ومنهم من لم يذكر الا له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كما جاء في أكثر الأحاديث

لا اله الا الله وحده زاد أبو الخطاب لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا اله الا الله لا نعبد الا اياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يلبى ويدعو بما أحب من دين ودنيا ثم يعيد الدعاء ثم يلبى ويدعو بما أحب من دين ودنيا يأتى بذلك ثلاثا

فعلى هذا يكون التكبير والتهليل تسعا تسعا والدعاء ثلاثا ومنهم من لم يذكر الا التكبير والتهليل ثلاثا والدعاء مرة ولم يذكر أنه يكرر ذلك ثلاثا

وقد استحب أحمد في رواية المروذي وغيره لما روي عن ابن عمر فقال أحمد ثم اصعد على الصفا وقف حيث تنظر إلى البنيان إن أمكنك ذلك وقل الله أكبر سبع مرات ترفع بهن صوتك وتقول لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا اله الا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا اله الا الله ربنا رب ابائنا الأولين اللهم اعصمني بدينك وذكر دعاء ابن عمر نحوا مما يأتي وفي اخره اللهم إنا قد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا واقض لنا حوائج الدنيا والاخرة

وقد روى بإسناد في رواية عبد الله ثنا إسماعيل بن ابراهيم ثنا أيوب عن نافع قال كان ابن عمر إذا انتهى إلى ذى طوى بات به حتى يصبح ثم يصلى الغداة ويغتسل ويحدث أن النبي كان يفعل ذلك ثم يدخل مكة ضحى ويأتي البيت فيستلم الحجر ويقول بسم الله الله أكبر فإذا استلم الحجر رمل ثلاثة أطواف يمشى ما بين الركنين وإذا أتى على الحجر استلمه وكبر أربعة أطواف مشيا ثم يأتي المقام فيصلى خلفه ثم يخرج إلى الصفا من الباب الأعظم فيقوم عليه فيكبر سبع مرات ثلاثا ثلاثا يكبر ثم يقول لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا اله الا الله ولا نعبد الا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يدعو يقول اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك اللهم جنبني حدودك اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك ويحب رسلك ويحب عبادك الصالحين اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى عبادك الصالحين اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الاخرة والأولى واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين اللهم إنك قلت { ادعوني أستجب لكم } وإنك لا تخلف الميعاد اللهم إذ هديتني للاسلام فلا تنزعه مني ولا تنزعني منه حتى توفاني وأنا على الاسلام اللهم لا تقدمني لعذاب ولا تؤخرني لسىء الفتن ويدعو بدعاء كثير حتى إنه ليملنا وإنا لشباب وكان إذا أتى على المسعى سعى وكبر رواه الطبراني بإسناد صحيح وفي لفظ وكان يدعو بهذا مع دعاء له طويل على الصفا والمروة وبعرفات وبين الجمرتين وفي الطواف

قال أحمد في رواية يدعو على الصفا بدعاء ابن عمر وكل ما دعا به أجزأه وقال في المروة ويكثر من الدعاء

وحديث ابن عمر هذا يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أنه يكبر ثلاثا ثم يهلل ثم يدعو يكرر ذلك سبع مرات

والثاني أن يكبر سبع مرات ثم يهلل ثم يدعو فقط وهو ظاهر رواية المروذي

والثالث أن يكبر ثلاثا ثلاثا سبع مرات ثم يهلل ثم يدعو وهو ظاهر ما رواه أحمد واستحبه

وعلى هذين هل يكرر ذلك ثلاثا وإنما استحب هذا لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان شديد الاقتفاء لأثر رسول الله خصوصا في النسك فإنه كان من أعلم الصحابة فالاقتصار على عدد دون عدد يشبه أن يكون إنما فعله توقيفيا ولأن عدد الأفعال سبع فاستحب الحاق الأقوال بها

ومن رجح هذا قال أكثر الروايات في حديث جابر ليس فيها توقيت تكبير ولعل حديث ابن عمر كان في بعض عمر النبي أو لعل قول جابر كبر ثلاثا أي ثلاث نوبات ويكون كل نوبة سبعا وأما الدعاء فقد استحب أبو عبد الله دعاء ابن عمر إذ ليس في الباب مأثور غيره

والسنة رفع الصوت بالتكبير نص عليه لأن جابرا سمع ذلك من النبي ولولا جهره به لم يسمعوه ولأنه شرف من الأشراف والسنة الجهر بالتكبير على الأشراف وأما الدعاء فلا يرفع به صوته لأن سنة الدعاء السر كما قال تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وكما قال تعالى { إذ نادى ربه نداء خفيا } ولذلك لم يذكر جابر ولا غيره عن النبي لفظ دعائه حيث لم يسمعوه

وأما جهره بذلك حيث يسمع القريب منه فجائز كما فعل ابن عمر فإن كان فيه مقصود صالح وإلا إسراره أفضل

وأما التلبية على الصفا والمروة في أثناء الذكر والدعاء فقد استحبها القاضي وأبو الخطاب وغيرهما لأن وقت التلبية باق وهو موطن ذكر فاستحب فيه التلبية كما لو علا على شرف غير الصفا والمروة وأولى لامتياز هذين الشرفين بتوكيد الذكر

ولم يذكر أحمد وأكثر أصحابه مثل الأثرم هنا استحباب تلبية وهذا أجود لأن الذين أخبروا عن دعاء النبي على الصفا والمروة ذكروا أنه كبر وهلل ودعا وحمد الله

وقال بعضهم سبح ولو كان قد لبى لذكروه فعلم أنه لم يلب ولو كانت التلبية من سنة هذا الموقف لفعله رسول الله كما فعل التكبير والتهليل وأيضا فإن التلبية مشروعة في عموم الاحرام ولهذا المكان ذكر يخصه فلم يزاحم بغيره

وأيضا فإن التلبية شعار المجيب للداعى فشرع له ما دام يسير ويسعى إلى المقصد فإذا بلغ مكانا من الأمكنة التي دعى إليها فقد وصل إلى المقصد فلا معنى للتلبية ما دام فيه فإذا خرج منه وقصد مكانا اخر لبى ولهذا لم ينقل عن النبي أنه لبى بالمواقف وإنما لبى حتى بلغ عرفة فلما أفاض منها لبى إلى جمع ثم لم ينقل أنه لبى بها إلى أن رمى جمرة العقبة فعلى هذا هل تكره التلبية وهذا الكلام فيما إذا كان في حج أو قران فأما إن كان معتمرا عمرة مفردة أو عمرة تمتع فإنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر فلا يلبى بعد ذلك في طواف بالبيت ولا بين الصفا والمروة وهذا المذهب المنصوص المشهور

وذكر القاضي في المجرد وأبو الخطاب وغيرهما التلبية على الصفا والمروة مطلقا ثم قالوا بعد ذلك فإن كان معتمرا أو متمتعا وإن كان مفردا أو قارنا وقد روى الأزرقي بإسناد صحيح عن مسروق قال قدمت معتمرا مع عائشة رضي الله عنها وابن مسعود فقلت أيهما ألزم ثم قلت ألزم عبد الله بن مسعود ثم أتى أم المؤمنين فأسلم عليها فاستلم عبد الله بن مسعود الحجر ثم أخذ على يمينه ورمل ثلاثة أطواف ومشى أربعة ثم أتى المقام فصلى ركعتين ثم عاد إلى الحجر فاستلمه وخرج إلى الصفا فقام على صدع فيه فلبى فقلت له يا أبا عبد الرحمن إن ناسا من أصحابك ينهون على الإهلال ها هنا قال ولكني أمرك به هل تدري ما الإهلال إنما هي استجابة موسى عليه السلام لربه عز وجل قال فلما أتى الوادي رمل قال رب اغفر وأرحم أنك أنت الأعز الأكبر

والصواب الأول لما تقدم عن النبي أنه كان يلبي في عمرته حتى يستلم الحجر وأثر ابن مسعود قد خالفه فيه عدة من أصحاب رسول الله كما ذكره مسروق وإذا تنازع أصحاب رسول الله كانت السنة قاضية بينهم وليس هو صريحا بأن ابن مسعود كان معتمرا وإنما الصريح فيه أن مسروقا كان هو المعتمر لكن الظاهر أنه كان معتمرا أيضا لأنهم إذ ذاك إنما كانوا يحرمون بعمرة في أشهر كما كان عمر قد أمرهم به وظاهره أن أكثر أصحاب النبي كانوا ينهون عن الإهلال على الصفا مطلقا في الحج والعمرة كما تقدم

فصل

وأما كون الطواف بالصفا والمروة سبعا وأن يحسب بالذهاب مرة وبالعود مرة فيفتتح بالصفا ويختم به فيكون وقوفه على الصفا أربع مرات وعلى المروة أربعا فهي سنة رسول الله المنقولة نقلا عاما مستفيضا كما تقدم أنه طاف سبعا ختم بالمروة وعليه كان التقصير والاحلال وعندها أمر أصحابه بالاحلال من احرامهم

وأما صفة السعي بين الصفا والمروة ففي حديث جابر عن النبي ثم نزل يعني من الصفا حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان اخر طواف على المروة رواه مسلم وغيره

وفي رواية للنسائي ثم نزل ماشيا حتى تصوبت قدماه في المسيل فسعى حتى صعدت قدماه ثم مشى حتى أتى المروة فصعد فيها ثم بدا له البيت

وتقدم حديث ابن عمر أن النبي كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة متفق عليه ولفظ البخاري بطن المسيل

وعن علي أنه رأى النبي يسعى بين الصفا والمروة في المسعى كاشفا عن ثوبه قد بلغ إلى ركبتيه رواه أحمد وعن صفية بنت شيبة وذكر أصحابنا القاضي ومن بعده أنه يسعى ببطن المسيل سعيا شديدا ولفظ أحمد وامش حتى تأتي العلم الذي في بطن الوادي فارمل من العلم إلى العلم وكذلك قال الأثرم يسعى بين الميلين الأخضرين أشد من الرمل قليلا ويقول في رمله رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم

وقد حدد الناس بطن الوادي الذي كان النبي يسعى فيه بأن نصبوا في أوله واخره أعلاما وتسمى أميالا ويسمى واحدها الميل الأخضر لأنهم ربما لطخوه بلون خضرة ليتميز لونه للساعي وربما لطخوه بحمرة

فأول المسعى حد الميل المعلق بركن المسجد هكذا ذكر كثير من المصنفين واخره الميلان المتقابلان أحدهما بفناء المسجد بحيال دار العباس هكذا في كثير من الكتب المصنفة لأنه كذلك في ذلك الوقت واليوم هي أربعة أميال ميلان متقابلان أحمران أو أخضران عليهما كتابة ثم ميلان أخضران والدار المذكورة هي اليوم خربة لكن الأعلام ظاهره معلقة لا يدرس علمها

وقد ذكر القاضي وأبو الخطاب وجماعة من أصحابنا أن أول المسعى من ناحية الصفا قبل أن يصل إلى الميل بنحو من ستة أذرع واخره محاذاة الميلين الاخرين ولفظ أحمد ارمل من العلم إلى العلم كما ذكره الشيخ وهكذا ذكر

فصل

ويستحب أن يذكر الله في السعى بين الصفا والمروة قال أحمد في رواية المروذي ثم انحدر من الصفا وقل اللهم استعملني بسنة نبيك وتوفني على ملته وأعذني من مضلات الفتن وامش حتى تأتي العلم الذي ببطن الوادي فأرمل من العلم إلى العلم وقل في رملك رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم واهدني للتي هي أقوم انك أنت الأعز الأكرم اللهم نجنا من النار سراعا سالمين وادخلنا الجنة بسلام امنين وامش حتى تأتي المروة فتصعد عليها وتقف منها حيث تنظر إلى البيت ثم تكبر أيضا وتدعو بما دعوت به على الصفا ثم تقول اللهم إني أعوذ بك من الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما دعوت به أجزأك تفعل ذلك ثلاث مرات

وقال أحمد كان عبد الله بن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال رب اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم وقد تقدم ذلك عن ابن مسعود وتقدم عن ابن عمر أنه كان إذا أتى على المسعى سعى وكبر

فصل

وليس على النساء سعى بين العلمين ولا صعود على الصفا والمروة كما أنه ليس عليهن في الطواف رمل ولا اضطباع لأن المرأة مأمورة بالستر ما أمكن وفي رملها ورقيها تعرض لظهورها فإن فعلت ذلك

ومن أهل بالحج من أهل مكة لم يكن عليه سعى بين العلمين كما لارمل عليه في الطواف قاله ابن أبي موسى

مسألة ثم يقصر من شعره إن كان متعمرا وقد حل إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن والمفرد فإنه لا يحل

وجملة ذلك أنه إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد جاز أن يحل من احرامه ما لم يكن معه هدى سواء كان قد أحرم بعمرة أو بحج أو بعمرة وحج كما تقدم وكما سنه رسول الله لأمته في حجة الوداع لكن إن أحب المفرد والقارن أن يبقيا على احرامها فلهما ذلك كما تقدم ومعنى قول الشيخ إلا المتمتع السائق والمفرد والقارن يعنى لا يقصرون ولا يحلون لكن من ساق الهدى فلا يحل له الاحلال والمفرد والقران لا يجب عليهما الاحلال ويجوز أن يكون معنى كلامه أنه ما دام ناويا للافراد والقران لم يجز له الاحلال وإنما يجوز له الاحلال إذا نوى الاحلال بعمرة وفسخ نية الحج وحينئذ لا يصير مفردا ولا قارنا

وأما المحرم بعمرة فإن لم يكن متمتعا بأن يكون قد أحرم بها قبل أشهر الحج أو في أشهر الحج وهو لا يريد الحج من عامه فهذا يحل احلالا تاما فيحلق شعره وينحر هديه عند المروة وغيرها من بقاع مكة وإن قصر جاز كما فعل النبي في عمرة القضية وعمرة الجعرانة

وقول الشيخ ثم يقصر من شعره على هذا إما أن يكون أراد به بيان أدنى ما يتحلل به أو ذكر التقصير لما اشتمل كلامه على المعتمر متمتعا كان أو مفردا لعمرته

وأما المعتمر عمرة التمتع إذا لم يكن قد ساق الهدي فإنه يحل إحلالا تاما سواء كان قد نوى التمتع في أول إحرامه أو في أثنائه أو طاف للقدوم وسعى ثم بدا له التمتع لكن يستحب أن يقصر من شعره ويؤخر الحلاق إلى إحلاله من الحج فيكون قد قصر في عمرته وحلق في حجته ولو حلق أولا لم يمكنه في الحج حلق ولا تقصير وبذلك أمر النبي أصحابه فعن جابر بن عبد الله أنه حج مع النبي يوم ساق البدن معه وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة فقالوا كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج فقال افعلوا ما أمرتكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا

وعن ابن عمر وعائشة أن رسول الله قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضى حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر ويلحلل ثم ليهل بالحج وليهد الحديث متفق عليهما

وقد تقدمت الأحاديث أنه أمرهم أن يحلوا الحل كله وأنهم لبسوا الثياب وأتوا النساء

ولو حلق جاز وقد روى يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال أهل النبي بالحج فلما قدم طاف بالبيت وبين الصفا والمروة ولم يقصر ولم يحل من أجل الهدى وأمر من لم يكن ساق الهدى أن يطوف وأن يسعى ويقصر أو يحلق رواه أبو داود

فصل

وأما من ساق الهدي ففيه ثلاث روايات إحداهن لا ينحر هديه ولا يحل من احرامه بتقصير ولا غيره إلى يوم النحر سواء قدم من مكة في العشر أو قبله قال في رواية حنبل إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي لا يحل حتى ينحره والعشر أوكد إذا قدم في العشر لم يحل لأن رسول الله قدم في العشر ولم يحل

وهذه الرواية هي المشهورة عند أصحابنا فيمنع من الاحلال والنحر سواء كان مفردا للحج أو متمتعا أو قارنا وهذا مما استفاض عن رسول الله وقد تقدم ذكر ذلك في حديث ابن عمر وعائشة تمتع رسول الله في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدى من ذي الحليفة وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد فلما قدم رسول الله مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وذكر الحديث إلى أن قال ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر متفق عليه

وعن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج فقدمنا مكة فقال رسول الله من أحرم بعمرة ولم يهد فليحل ومن أحرم بعمرة فأهدى فلا يحل حتى يحل نحر هدية ومن أهل بالحج فليتم حجه متفق عليه

وقد تقدمت الأحاديث عن ابن عباس وجابر والبراء وغيرهم أن النبي أمر جميع أصحابه أن يحلوا إلا من ساق الهدى

وفي رواية لابن عباس أهل النبي بعمرة وأهل أصحابه بحج فلم يحل النبي ولا من ساق الهدى من أصحابه وحل بقيتهم وكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدى فلم يحل رواه مسلم

وعن أسماء قالت قال رسول الله من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحل ولم يكن معي هدي فحللت وكان مع الزبير هدي فلم يحل رواه مسلم وعن أبي موسى أنه أهل بإهلال النبي قال فقدمت عليه فقال هل سقت من هدي قلت لا قال فطف بالبيت وبالصفا والمروة

وكان علي قد أهل بأهلال النبي وساق الهدي فلم يحل وقد تقدم ذلك

فهذه الأحاديث نصوص في أن من ساق الهدي لا يحل إلى يوم النحر سواء كان متمتعا أو مفردا أو قارنا لأن النبي منع كل من ساق الهدي من الاحلال وقد كان فيهم المتمتع والمفرد والقارن ولم يستثن المتمتع ولو جاز الحل للمتمتع لوجب استثناؤه وبيان ذلك لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولأنه جعل سوق الهدي هو المانع من الاحلال ولم يعلق المنع بغيره فعلم أنه مانع في حق المتمتع كما أنه مانع من الفسخ في حق المفرد والقارن إذ لو كان هناك مانع اخر لبينه ولأن كل من جاز له الفسخ سواء كان خاصا في حق الصحابة أو عاما للمسلمين إلى يوم القيامة بمنزلة المتمتع في جواز الاحلال فلما منع أصحاب الهدي من الاحلال علم أن سوق الهدي مانع من الاحلال حيث يجوز الحل لغير السائق

ولأن حديث عائشة نص خاص في المتمتع إذا ساق الهدي لا يحل حتى ينحر هديه ويقضي حجته

وأيضا فإن الله سبحانه قال { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } والحلق هو أول التحلل بمنزلة السلام من الصلاة ولذلك قال النبي إني لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر وقال لأصحابه من ساق الهدي فلا يحل إلى يوم النحر فعلم أن الاحلال والنحر لا يكون إلى يوم النحر فعلم أنه لا يجوز الاحلال حتى يحل نحر الهدي ولا يحل نحر الهدي إلى يوم النحر كما بينه النبي وذلك لأن نحر الهدي من أسباب التحلل وتقليده له وسوقه بمنزلة الاحرام للرجل ونحره بمنزلة الاحلال للرجل ولهذا قال تعالى { ثم محلها إلى البيت العتيق } { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } { حتى يبلغ الهدي محله } والمحل مشتق من الحل وذاك بازاء الحرم فعلم أنه ذو حرم وإنما ينقضي الاحرام يوم النحر لأن المتمتع إنما يتم نسكه بالحج

والرواية الثانية أن سائق الهدي يحل ليقصر من شعر رأسه إن شاء فأما غير ذلك من محظورات الاحرام فلا قال في رواية أبي طالب في الذي يعتمر قارنا أو متمتعا ومعه الهدي قصر من شعرك ولا تمس شاربك ولا أظفارك ولا لحيتك كما فعل النبي فإن شاء لم يفعل وإن شاء أخذ من شعر رأسه وهو حرام

فقد بين أنه يحل من التقصير فقط ولا يحل من جميع المحظورات كما يحل الحاج إذا رمى من بعض المحظورات وذلك لما روى ابن عباس عن معاوية بن أبي سفيان قال قصرت عن رسول الله بمشقص رواه البخاري ورواه مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال قال لي معاوية أني قصرت من رسول الله عند المروة بمشقص فقلت له لا أعلم هذه إلا حجة عليك وعن ابن عباس أيضا قل تمتع رسول الله حتى مات وأبو بكر حتى مات وعمر حتى مات وعثمان حتى مات وكان أول من نهى عنها معاوية قال ابن عباس فعجبت منه وقد حدثني أنه قصر عن رسول الله بمشقص رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن وفيه ليث بن سليم

وعن قيس بن سعد عن عطاء عن معاوية قال أخذت من أطراف شعر رسول الله بمشقص كان معي بعدما طاف بالبيت وبالصفا والمروة في أيام العشر قال قيس والناس ينكرون هذا على معاوية رواه النسائي وروى أحمد نحوه

وأيضا فإن قضاء العمرة يقتضي الاحلال وسوق الهدي يقتضي بقاء الاحرام فحل بالتقصير خاصة توفيه لحق العمرة ولتتميز عن الحج وبقى على إحرامه من سائر المحظورات لأجل سوق الهدي لا سيما والتقصير متردد بين النسك المحض وبين استباحة المحظورات

والرواية الثالثة إن قدم في العشر لم ينحر ولم يحل وإن قدم قبل العشر نحر وحل إن شاء ثم هل يحل في العشر بالتقصير مبني على ما سبق لكن المنصوص عنه أنه يحل به قال في رواية يوسف بن موسى وحرب فيمن قدم متمتعا وساق الهدي فإن قدم في شوال نحر الهدي وحل وعليه هدي اخر وإذا قدم في العشر أقام على احرامه ولم يحل فقيل له معاوية يقول قصرت عن رسول الله بمشقص فقال إنما حل بمقدار التقصير ويرجع حراما مكانه

وقال في رواية أبي طالب إذا كان قبل العشر نحر ولا يضيع لا يموت لا يسرق وهذا هو الذي ذكره القاضي في المجرد من غير خلاف قال لأن له قبل العشر أن ينحر الهدي ويبقى بلا هدي وفي العشر ليس له أن ينحر الهدي فلا يتحلل وعامة أصحابنا على أنه ممنوع من الاحلال إذا قدم في العشر رواية واحدة وقال القاضي في خلافه هذه الرواية تقتضي أن سوق الهدي لا يمنع التحلل عنده وإنما استحب له المقام على إحرامه إذا دخل في العشر لأنه لا يطول تلبسه بالاحرام وإذا دخل قبل العشر طال تلبسه فلا يأمن مواقعه المحظور

والطريقة المشهورة هي الصواب

ووجه ذلك أن النبي وأصحابه إنما قدموا في العشر ومنعهم من الاحلال لأجل سوق الهدي فثبت الحكم في مثل ذلك ومن قدم قبل العشر لا يشبه ذلك لأن المدة تطول فيخاف أن يموت الهدي أو يضل أو يسرق ولأن النبي نهى المضحى إذا دخل العشر أن يأخذ من شعره أو بشره فالمتمتع الذي معه الهدي أولى أن لا يأخذ من شعره وبشره وما قبل العشر ليس بوقت لمنع المضحى فجاز أن لا يكون وقتا لمنع المهدى

ولأن العشر من أول أوقات النسك وفيها تضاعف الأعمال الصالحة وشرع التكبير الذي هو شعار العيد وهي الأيام المعلومات التي يذكر الله فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام ولها خصائص كثيرة فجاز أن يؤخر النحر والحل فيها إلى يوم النحر بخلاف ما قبلها

وعلى هذه الرواية ينحر الهدي قبل العشر وعليه هدى اخر نص عليه لأن دم المتعة لا ينحر إلا يوم النحر وإنما فائدة النحر جواز إحلاله من العمرة

ومن أصحابنا من يحكى رواية أنه يجزؤه ذلك عن هدى المتعة وعلى هذه الرواية لو كان مفردا أو قارنا فهل ينحر الهدي قبل العشر وهل له أن يتحلل

والرواية الأولى اختيار أصحابنا لما ذكرنا من الأحاديث الصريحة بذلك

وهم وإن قدموا في العشر لكن النبي علل بعلة عامة فقال ولأنه قال لأصحابه من كان أهدى فلا يحل من شيء حرم منه حتى يقضى حجه وهذا نهى عن التحلل بالتقصير وغيره فإنه نكرة في سياق النفي فكيف يجوز

وأمر الذين لم يسوقوا الهدي أن يتحللوا بالتقصير فكيف يجوز أن يسوى بينهم في التقصير بعد إذنه فيه لمن لم يسق الهدي دون من ساق وقال عن نفسه لا يحل منى حرام حتى يبلغ الهدي محله وهذا نص في اجتنابه كل المحرمات من التقصير وغيره

ثم هم إنما أنكروا أنه أمرهم بالتقصير ولم يقصر فلو كان قد قصر زال هذا ثم هو قد خطبهم بهذا وأمرهم به وهو على المروة والناس حوله فلو كان قد قصر من شعر رأسه لم يخف ذلك على أصحابه في مثل ذلك المشهد العظيم وكيف يقصر ولم يأمر غيره ممن ساق الهدي بالتقصير

ومن تأمل أحاديث حجة الوداع وأحوالها كان كالجازم بأن النبي لم يحل بشيء من الأشياء

فأما حديث معاوية فحديث شاذ وقد طعن الناس فيه قديما وحديثا كما أخبر قيس فإنهم أنكروا أن يكون النبي قصر

ويشبه والله أعلم أن يكون أصله أن معاوية قصر من رأس النبي في عمرة الجعرانة فإنه في عمرة القضية لم يكن أسلم بعد

والرواية الصحيحة المتصلة إنما فيها أنه قصر من رأس النبي على المروة بمشقص وكانت عمرة الجعرانة ليلا فانفرد معاوية بعلم هذا أما حجة الوداع فكان وقوفه على المروة ضحى والناس كلهم حوله ومثل هذا لا يجوز أن ينفرد بروايته الواحد وكانت الجعرانة في ذي القعدة

وأما الرواية التي فيها أنه قصر من رأسه في العشر فرواية منقطعة لأن عطاء لم يسمع من معاوية ومراسيله ضعاف ويشبه أن يكون الراوي لما سمع عن معاوية أنه قصر من رأس النبي بمشقص اعتقد أنه في حجته وقد علم أن دخوله مكة كان في العشر فحمل هذا على هذا

يوضح هذا ان ابن عباس احتج على معاوية بروايته هذه في جواز العمرة في أشهر الحج وهم قد كانوا يسمون كل معتمر في أشهر الحج متمتعا وإن لم يحج من عامه ولهذا سئل سعد عن المتعة قال فعلناها وهذا كان كافرا بالعرش يعني معاوية ومعاوية قد كان مسلما قبل حجة الوداع وإنما أراد فعلنا العمرة في أشهر الحج قبل أن يسلم معاوية يعني عمرة القضية فكيف ينهى عن العمرة في أشهر الحج

فصل

فإن أراد المعتمر في أشهر الحج أن يرجع إلى مسافة القصر فقياس المذهب أن يجوز له النحر والتحلل لأنه قد أراد أن يخرج من حكم التمتع فأشبه ما لو أراد أن يرجع من غير نية العود أو أراد أن يقيم ولا يحج

ومن كان من حاضري المسجد الحرام فتمتع وتطوع بهدي فقال القاضي وابن عقيل ينحره عقيب عمرته لأنه لا هدى عليه فهو بمنزلة من اعتمر ولم يحج من عامه

والصواب

فصل

وكما أنه ممنوع من التحلل فهو ممنوع من نحر الهدي الذي ساقه سواء كان واجبا أو تطوعا إذا قدم في العشر وإن قدم قبله فعلى الروايتين وسواء كان محرما بعمرة أو حج أو بهما لأن أصحاب رسول الله الذين ساقوا الهدي كان فيهم المفرد والقارن والمتمتع وقد منع الجميع من النحر والاحلال

مسألة والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي

وجملة ذلك أن المرأة كالرجل في دخول مكة والطواف والسعي والاحلال والبقاء على الاحرام إلا أنها تفارقه في أحكام أشدها أنها لا ترمل في الأشواط الثلاثة في الطواف ولا تشتد بين العلمين في السعي لأن ومن ذلك أنها لا تضطبع ولا ترفع صوتها بالتكبير على الشرفين وترك الشيخ استثناء ذلك لأنه قد تقدم ما ينبه على ذلك ومن ذلك أنها لا ترقى على الصفا والمروة

باب صفة الحج[عدل]

مسألة وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات

في هذا الكلام فصول أحدها أن السنة أن يخرج الناس إلى عرفات يوم التروية وهو الثامن من أول النهار حتى يدركوا صلاة الظهر بمى فيصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ويقيموا بها حتى تطلع الشمس

قال جابر فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس رواه مسلم وغيره

وعن عبد العزيز بن رفيع قال سألت أنس بن مالك قلت أخبرني بشيء عقلته عن النبي أين صلى الظهر يوم التروية قال بمنى قلت فأين صلى العصر يوم النفر قال بالأبطح ثم قال افعل كما يفعل أمراؤك متفق عليه

وعن ابن عباس قال صلى رسول الله الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة فإن تأخر الامراء في الخروج إلى منى وتعجلوا منها إلى عرفات

فإن تعجل إلى منى قبل يوم التروية فقال عبد الله قلت لأبي يتعجل الرجل إلى منى قبل يوم التروية قال نعم يتعجل

ويستحب أن يصلى بمنى مع الإمام إن أمكن قال أبو عبد الله فإذا كان يوم التروية فصل من الإمام الظهر والعصر بمنى إن استطعت وقل في طريقك إلى منى اللهم إليك توجهت وعليك اعتمدت ووجهك أردت فأسألك أن تبارك لي في سفري وأن تقضي حاجتي وتغفر لي ثم تقول إذا دخلت منى اللهم هذه منى وهي مما دللتنا عليه من المناسك فأسألك أن تمن علينا بجوامع الخير كله كما مننت على أوليائك وأهل طاعتك فإنما أنا عبدك وابن عبدك في قبضتك ناصيتي بيدك تفعل بي ما أردت وتبيت بها الفصل الثالني

أنه من كان مقيما على إحرامه لكونه مفردا أو قارنا خرج إلى منى ومن كان حلالا فهم قسمان أهل مكة والمتمتعون

فأما المتمتعون فالسنة أن يحرموا يوم التروية وسواء كانوا قد حلوا من احرامهم أو لم يحلوا لأجل الهدي كما أمر النبي أصحابه أن يحرموا

قال ابن عباس فلما قدمنا قال رسول الله اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي رواه البخاري

وعن جابر عن النبي قال فقال لهم أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة متفق عليه

وفي رواية لمسلم عن جابر قال فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج

وفي رواية قال أمرنا رسول الله لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى قال فأهللنا من الأبطح رواه مسلم

وقال البخاري قال أبو الزبير عن جابر أهللنا من الأبطح

وفي رواية حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج رواه مسلم والبخاري تعليقا ولم يفرق أحمد في استحباب الاحرام يوم التروية بين واجد الهدي وعادمه بل أمر بالاحرام يوم التروية المتمتع مطلقا وهذا هو المشهور في المذهب وهو الذي قاله القاضي اخرا وهو وعامة أصحابه

وقال القاضي في المجرد من لم يجد الهدي فإنه يحرم ليلة السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع وهي الأيام الثلاثة بعد احرامه بالحج لأن صومها قبل الاحرام بالحج فيه خلاف بين العلماء فيتحرز عنه وزاد ابن عقيل على هذا فقال يحرم ليلة السادس أو يوم الخامس ليصوم السادس والسابع والثامن

وهذا كله تصرف بالسنة المسنونة بالرأي وليس في شيء مضى من النبي فيه سنة إلا اتباعها وقد أمر أصحابه كلهم أن يحرموا يوم التروية وكانوا كلهم متمتعين إلا نفرا قليلا ساقوا الهدي وأمر من لم يجد الهدي منهم أن يصوموا ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ولم يأمره بالاحرام قبل يوم التروية ومعلوم علم اليقين أن قوما فيهم عشرات الألوف في ذلك الوقت الضيق يكون كثير منهم أو أكثرهم غير واجدين للهدي فكيف يجوز أن يقال كان ينبغي لهؤلاء الاحرام يوم السادس والخامس ورسول الله يأمرهم بالاحرام يوم الثامن وما ذكروه من الاحتراز من الخلاف فإنما يشرع إذا أورث شبهة فإن الاحتراز من الشبهة مشروع

فإذا وضح الحق وعرفت السنة وكان في الاحتراز عما أمر الله به ورسوله فلا معنى له

وأيضا فإن المتمتع إذا أمر بتقديم الاحرام قل ترفهه وربما لم يمكنه التمتع إذا قدم مكة يوم السادس أو السابع وفي ذلك اخراج للمتمتع عن وجهه

وأيضا فإن الاحرام إنما يشرع عند الشروع في السفر ولهذا لم يحرم النبي من الميقات إلا عند إرادة المسير وقد بات فيه ليلة والحاج إنما يتوجهون يوم التروية ففي الأمر بالاحرام قبلها أمر بالاحرام وهو مقيم أو أمر بالتقدم إلى منى وكلاهما أمر بخلاف الأفضل المسنون فلا يجوز الأمر بذلك

وأما وقت الاستحباب يوم التروية فقال أبو الخطاب الأفضل أن يحرم يوم التروية بعد الزوال وقال القاضي وابن عقيل يستحب أن يوافي منى بعد الزوال محرما

وقول أبي الخطاب أجود لأن في الحديث أمرنا عشية التروية أن نحرم بالحج وأما مكان الاحرام فالمشهور عند أصحابنا أنه يستحب أن يحرم من جوف الكعبة قال أحمد في رواية المروذي فإن كنت متمتعا قصرت من شعرك وحللت فإذا كان يوم التروية صليت ركعتين في المسجد الحرام وأهللت بالحج تقول اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله منى وأعنى عليه وإنما تشترط إذا كنت في الحرم ثم قل لبيك اللهم إلى اخره

وفي موضعه روايتان إحداهما بعد أن تخرج من المسجد قال في رواية عبد الله فإذا كان يوم التروية طاف بالبيت فإذا خرج من المسجد لبى بالحج وقال أيضا قلت لأبي من أين يهل بالحج قال إذا جعل البيت خلف ظهره قلت فإن بعض الناس يقول يحرم من الميزاب قال إذا جعل البيت خلف ظهره أهل

والرواية الثانية يهل من جوف المسجد قال في رواية حرب في وصف المتعة ويحل إن لم يكن معه هدي فإذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد وإن كان ساق الهدي أهل بالحج يوم التروية مع كونه باقيا على احرامه وهذا ظاهر رواية المروذي وقد استحب المروذي أن يصلي ركعتين في المسجد ثم يحرم لأن الاحرام يستحب أن يكون عقب صلاة كالاحرام من الميقات واستحب في رواية عبد الله أن يطوف حلالا ثم يحرم بعد الطواف وهذا الطواف لتوديع البيت لكونه خارجا إلى الحل ويستحب لمن خرج إلى الحل أن يودع البيت وأن يحرم عقب الطواف كما استحب لمن يحرم بغير مكة أن يحرم عقب الصلاة ومتى طاف أحرم عقب ركعتي الطواف

وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله الذي يحرم من مكة من أين يحرم قال إذا توجه إلى منى كما صنع أصحاب رسول الله

وعن الحسن التميمي قال قلت لابن عباس إني تمتعت فأنا أريد أن أهل بالحج أين أهل قال من حيث شئت قلت من المسجد قال من المسجد

وعن الزبير بن عربي قال قلت لابن عمر يا أبا عبد الرحمن قال حسن يا بن جميل فقلت من أين أهل ومتى أهل قال من حيث شئت ومتى شئت رواهما سعيد

ووجه الأول أن كل ميقات فيه مسجد فإنه يستحب الاحرام بعد الصلاة في مسجده كميقات ذي الحليفة

وأما حديث جابر فإن النبي إنما أمرهم بالاحرام إذا توجهوا إلى منى ولم يعين مكانا في أمره لأن بقاع مكة والحرم مستوية في جواز الاحرام منها فأحرم من شاء من الأبطح كما أحرم خلق من أصحابه من ذي الحليفة ولم يدخلوا المسجد

ولو قدم المتمتع الاحرام جاز قال الفضل سألت أبا عبد الله عن متمتع أهل بالحج حين رأى هلال ذي الحجة فقال كان ابن عمر يفعل ذلك ثم أخر ذلك إلى يوم التروية وقال في رواية الميموني الوجه أن يهل المتمتع بالحج في اليوم الذي أهل فيه أصحاب رسول الله فإن أهل قبله فجائز

وأما من كان مقيما بمكة من أهلها وغيرهم ممن اعتمر قبل أشهر الحج أو لم يعتمر ففيهم روايتان إحداهما هم وغيرهم سواء يحرمون بالحج يوم التروية قال في رواية أبي طالب في المكى إذا كان يوم التروية صلى الفجر وطاف بالبيت فإذا توجه إلى منى أحرم بالحج لقول جابر فلما توجهنا أهللنا بالحج

والرواية الثانية يهل إذا رأى الهلال قال في رواية أبي داود إذا دخل مكة متمتعا يهل بالحج يوم التروية إذا توجه من المسجد إلى منى قيل له فالمكى يهل إذا رأى الهلال قال كذا روى عن عمر

قال القاضي فقد نص على أن المتمتع يهل يوم التروية فالمكى يهل قبل ذلك وقال في موضع اخر قول أحمد في المكى يهل إذا رأى الهلال حكى في ذلك قول عمر والحكم فيه كالحكم في غير

واختلف أصحابنا فيما إذا سئل أحمد عن مسألة فقال فيها قال فلان كذا وأشار إلى بعض الفقهاء فقال ابن حامد يكون ذلك مذهبا لأنه قد استدعى منه الجواب فلولا أن ذلك مذهبه لم يكن قد أجاب

وذهب غيره إلى أنه لا يكون مذهبا له لجواز أن يكون قد أخبر بمذهب الغير ليقلده السائل

فأما إن أخبر بقول صحابي فهو عندهم مذهب بناء على أن قول الصحابي حجة كما لو أخبر بآية أو حديث ولم يتأوله ولم يضعفه فإنه يكون مذهبا له بلا خلاف

وذلك لما روى القاسم بن محمد قال قال عمر يا أهل مكة ما لى أرى الناس يقدمون شعثا غبرا وأنتم يفوح من أحدكم ريح المسك إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأهلوا رواه سعيد

ولأن النبي أمر من أراد الأضحية إذا دخل العشر أن لا يأخذ من شعره ولا ظفره فالذي يريد الحج أعظم من ذلك فيستحب له أن يحرم من أول العشر وإن لم يحرم فقد روى عبد الله بن السائب المخزومي قال قال عمر رحمه الله تجردوا في الحج وإن لم تحرموا

والرواية الأولى اختيار القاضي وغيره لأنه ثبت أنه لا يستحب تقديم الاحرام على الميقات المكانى فكذلك على الميقات الزماني

ولأن النبي لما حج حجة الوداع لم ينقل أنه أمر أهل مكة بالإحرام من أول العشر ولا قبل يوم التروية

ولأن السنة للمحرم أن يحرم عند إرادة السفر بدليل ان النبي بات بذي الحليفة ولم يحرم حتى أراد الرحيل فأما أن يحرم ويقيم مكانه أو يقيم بمصر من الأمصار وبهذا احتج ابن عمر رضي الله عنه عن عطاء قال رأيت ابن عمر رحمه الله وهو في المسجد فقيل له قد رئى هلال ذي الحجة فخلع قميصه ثم أحرم ثم رأيته في العام المقبل وهو في البيت فقيل له قد رئى هلال ذي الحجة فخلع قميصه ثم أحرم فلما كان العام الثالث قيل له قد رئى هلال ذي الحجة فقال وما أنا الا كرجل من أصحابي وما أراني أفعل إلا كما فعلوا فأمسك حتى كان يوم التروية فأتى البطحاء فلما استوت به راحلته أحرم وعن مجاهد نحو ذلك قال يعني فسألته عن ذلك فقال إني كنت أمرءا من أهل المدينة فأحببت أن أهل بأهلالهم ثم ذهبت انظر فإذا أنا أدخل على أهلي وأنا محرم وأخرج وأنا محرم فإذا ذلك لا يصلح لأن المحرم إذا أحرم خرج لوجهه قلت فأي ذلك ترى قال يوم التروية رواهما سعيد الفصل الثالث

أنهم يبيتون بمنى حتى تطلع الشمس على ثبير وهو الجبل المشرف على منى فلا يشرعوا في الرحيل قبل طلوع الشمس فأما شد الأحمال ووضعها على الحمولة فليس من السير الفصل الرابع

أنهم يسيرون من منى إلى عرفات ولا يقفون عند المشعر الحرام كما كانت الجاهلية تفعل فينزلون قبل الزوال بنمرة ومن أصحابنا من قال ينزلون بعرفة

قال أبو عبد الله في رواية المروذي ثم يغدوا يعني بعد المبيت بمنى إلى عرفات ويقول اللهم إليك توجهت وعليك اعتمدت ووجهك أردت أسألك أن تبارك لي في سفري وتقضي حاجتي وتغفر لي ذنوبي اللهم إني لك أرجوا وإياك أدعوا وإليك أرغب فإصلح لي شأني كله من الآخرة والدنيا

قال جابر بن عبد الله فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب بنمرة فسار رسول الله ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس فقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يؤطين فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولكم عليهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام الصلاة فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله حتى أتى الموقف رواه مسلم وغيره

وعن ابن عمر قال غدا رسول الله من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة وهى منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفه حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله مهجرا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف على الموقف من عرفة رواه أحمد وأبو داود

وقد روى الأزرقي عن ابن جريج قال سألت عطاء أين كان رسول الله ينزل يوم عرفة قال بنمرة منزل الخلفاء ألى الصخرة الساقطة بأصل الجبل عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفات يلقى عليها ثوب يستظل به قال الأزرقي نمرة هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف وتحت جبل نمرة غار أربع أذرع في خمس أذرع وذكروا أن النبي كانه ينزله يوم عرفة حتى يروح إلى الموقف وهو منزل الأئمة اليوم والغار داخل في جدار دار الأمارة في بيت في الدار

وروى أبو داود في مراسيله عن ابن جريج ثنا أبان بن سلمان أن النبي نزل يوم عرفة عند الصخرة المقابلة منازل الامراء يوم عرفة التي بالأرض في أسفل الجبل وستر اليها بثوب عليه

وأما سلوكه من منى إلى عرفة فقال القاضي في الأحكام السلطانية يستحب للامام في الحج أن يخرج في اليوم الثامن من مكة فينزل بخيف بنى كنانة حيث نزل رسول الله ويبيت بها ويسير بهم من غده وهو اليوم التاسع مع طلوع الشمس إلى عرفة على طريق ضب ويعود على طريق المأزمين اقتداء برسول الله وليكون عائدا في غير الطريق التي صدر منها فإذا أشرف على عرفة نزل ببطن نمرة وأقام به حتى تزول الشمس ثم سار منه إلى مسجد ابراهيم عليه السلام بوادي عرفة

وقال الأزرقي ضب طريق مختصرة من المزدلفة إلى عرفة وهي في أصل المأزمين عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة وقد ذكروا أن النبي سلكها حين عدل من منى إلى عرفة قال ذلك بعض المكيين

وروي بإسناده عن ابن جريج قال سلك عطاء طريق ضب قال هي طريق موسى بن عمران

وفي رواية فقيل له في ذلك فقال لا بأس إنما هي طريق والسنة أن ينزل الناس بنمرة وهي من الحل وليست من أرض عرفات وبها يكون سوقهم

وأما أرض عرفات فليست السنة أن ينزل بها ولا يباع فيها ولا يشتري وانما تدخل وقت الوقوف

مسألة فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما

قال أبو عبد الله في رواية المروذي فإذا أتيت فقل اللهم هذه عرفة عرف بيننا وبين نبينا محمد واغتسل إن أمكنك وصل مع الإمام الظهر والعصر فإن لم تدرك الإمام جمعت بينهما ثم صرت إلى عرفات فوقفت على قرب من الإمام في أصل الجبل إن استطعت وعرفات كلها موقف وارفع عن بطن عرنة وقل الله أكبر الله أكبر ولله الحمد لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير وذكر دعاء كثيرا

وجملة ذلك أنه إذا زالت الشمس فإن الإمام والناس يقصدون مصلى النبي وهو بطن وادى عرنة حيث خطب بالناس وصلى بهم فيخطب الإمام بالناس ويصلى بهم الصلاتين يجمع بينهما ثم يسيرون إلى الموقف بعرفة

قال جابر حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله حتى أتى الموقف رواه مسلم وفي حديث ابن عمر نحوه وقد تقدم وعن سالم قال كتب عبد الملك إلى الحجاج أن لا يخالف ابن عمر في الحج فجاء ابن عمر وأنا معه يوم عرفة حين زالت الشمس

فصاح عند سرادق الحجاج فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال ما بالك يا أبا عبد الرحمن فقال الرواح إن كنت تريد السنة قال هذه الساعة قال نعم قال فأنظرنى حتى أفيض على رأسي ثم أخرج فنزل حتى خرج الحجاج فسار بيني وبين أبي فقلت إن كنت تريد السنة فأقصر الخطبة وعجل الوقوف فجعل ينظر إلى عبد الله فلما رأى ذلك عبد الله قال صدق رواه البخاري والنسائي

وعن ابن عمر قال لما قتل الحجاج ابن الزبير أرسل إلى ابن عمر أيت الساعة كان رسول الله يروح في هذا اليوم قال إذا كان ذلك رحنا فلما أراد ابن عمر أن يروح قال قالوا لم تزغ الشمس قال أزاغت قالوا لم تزغ قال فلما قالوا قد زاغت ارتحل رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

فعلى هذا يسيرون إلى بطن الوادي فينزلون فيسمعون الخطبة ويصلون ثم يركبون إلى الموقف وأما الأحمال فعلى حالها

ولم يكن في هذا المصلى على عهد النبي وخلفائه مسجد

قال مالك بن أنس رضي الله عنه لم يكن بعرفة مسجد منذ كانت وإنما أحدث مسجدها بعد بني هاشم بعشر سنين وكان الإمام يخطب منها موضع يخطب اليوم ويصلى بالناس فيه

وقد ذكر الأزرقي أن من حد الحرم إلى هذا المسجد ألف ذراع وستمائة ذراع وخمسة أذرع وأنه من الغار الذي بعرنة وهو منزل النبي إلى هذا المسجد ألفا ذراع وأحد عشر ذراعا

ويسمون هذا المسجد مسجد إبراهيم وربما قال وهذا المسجد ببطن عرنة وليس هو من عرفات فتكون الخطبة والصلاة يوم عرفة ببطن عرنة

وقد أعرض جمهور الناس في زماننا عن أكثر هذه السنن فيوافون عرفة من أول النهار وربما دخلها كثير منهم ليلا وبات بها وأوقد النيران بها وهذا بدعة وخلافا للسنة ويتركون أتيان نمرة والنزول بها فإنها عن يمين الذي يأتي عرفة من طريق المأزمين يمانى المسجد الذي هناك كما تقدم تحديدها ومن قصد عرفات من طريق ضب كانت على طريقه

ولا يجمعون الصلاتين ببطن عرنة بالمسجد هناك ولا يعجلون الوقوف الذي هو الركوب وشد الأحمال بل يخلطون موضع النزول أول النهار بموضع الصلاة والخطبة بموضع الوقوف ويتخذون الموقف سوقا وإنما كانت الأسواق بين الحرم والموقف فإذا لم يفعل الإمام فمن أمكنه

فصل

والسنة أن يخطب بهم الإمام ببطن عرنة موضع المسجد قبل الوقوف يخطب ثم يصلى وهذه الخطبة سنة مجمع عليها قال أحمد خطبة يوم عرفة لم يختلف الناس فيها وقد رواها عن النبي جابر وابن عمر كما تقدم وابن عباس وجابر بن سمرة ونبيط بن شريط والعداء بن خالد وغيرهم سلمة بن نبيط عن أبيه وكان قد حج مع النبي قال رأيته يخطب يوم عرفة على بعيره رواه الخمسة إلا الترمذي وعن العداء بن خالد بن هوذة قال رأيت رسول الله يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائما في الركابين رواه أحمد وأبو داود

قال أصحابنا إذا زالت الشمس خطبهم خطبة يعلمهم فيها المناسك من موضع الوقوف ووقت الدفع من عرفات وموضع صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة والمبيت والغدو إلى منى للرمى والنحر والطواف والتحلل والمبيت بمنى لرمى الجمار زاد أبو الخطاب وقت الوقوف ولا حاجة إليه فإنه قد دخل لما روى يحيى بن حصين قال سمعت جدى يقول سمعت رسول الله يخطب بعرفات يقول غفر الله للمحلقين ثلاث مرات قالوا والمقصرين فقال والمقصرين في الرابعة رواه أحمد

وعن محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله خطب يوم عرفة فقال يوم الحج الأكبر إن من كان قبلكم من أهل الأوثان والجاهلية يفيضون إذا الشمس على الجبال كأنها عمائم الرجال ويدفعون من جمع إذا أشرقت على الجبال كأنها عمائم الرجال فخالف هدينا هدى الشرك والأوثان رواه أبو داود في المراسيل

وفي حديث علي وغيره أن النبي وقف بعرفة قال وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف

وعن ابن عمر أن عمر خطب الناس بعرفة فعلمهم أمر الحج رواه مالك فقد تبين أن هذه الخطبة ذكر فيها أمر الوقوف بعرفة ومزدلفة والحلق وقد ذكر في خطبته جوامع من أمور الدين والشريعة كما ذكر جابر ابن عبد الله

وعن جابر بن سمرة في حديثه في اثنى عشر خليفة أنه سمع من النبي بعرفات وهو يخطب رواه أحمد

وعن ابن عباس

قال أصحابنا ويخطب عقب الزوال ثم يأمر بالإذان وينزل فيصلى بالناس الظهر والعصر فتكون الخطبة بين والاذان

قال أحمد الصلاة قبل الخطبة هكذا يصنع الناس لا يشرع في الاذان حتى يقضى الخطبة لأن حديث جابر الذي في الصحيح قال فأتى بطن الوادي وذكر خطبته فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر رواه مسلم وغيره

مسألة ويستقبل القبلة

وذلك لما تقدم عن جابر أن النبي استقبل القبلة

مسألة ويكون راكبا

وجملة ذلك أن الوقوف بعرفة عبارة عن الكون بها سواء كان قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو ماشيا لكن اختلف أصحابنا في أفضل الأحوال للوقوف فقال بعضهم الأفضل أن يكون راكبا كما ذكره الشيخ وهذا هو قول الأثرم وهو منصوص وكذلك ذكر القاضي قال ابن القاسم قلت لأحمد روي عن مالك أنه كان يقول الوقوف بعرفة على ظهور الدواب سنة والوقوف على الأقدام رخصة فكيف تقول في هذا قال قد روى عن النبي أنه وقف وهو راكب

وظاهره أنه وافق مالكا واحتج له لأن النبي وقف راكبا ولا يفعل إلا الأفضل وقد قال خذوا عني مناسككم وكذلك

وقال بعضهم الراجل أفضل قال القاضي وقد نص أحمد على أن رمى الجمار ماشيا أفضل كذلك يجيء عنه في الوقوف

وقال محمد بن الحسن بن هارون سألته عن الوقوف بعرفة راكبا فرخص في ذلك وقال النبي وقف على راحلته وظاهره أنه رخصة وهذا اختيار ابن عقيل قال لأن جميع العبادات والمناسك على ذلك يعني من الطواف والسعي والوقوف بمزدلفة وبمنى وإنما وقف النبي راكبا ليرى الناس ويروه

فعلى هذا يقف الإمام راكبا وكذلك قال القاضي في الأحكام السلطانية وقوفه على راحلته ليقتدى به الناس أولى لأن في ذلك تخفيفا عن المركوب وتواضعا لله بالنزول إلى الأرض

فعلى هذا إذا أعيى من القيام فهل يكون قعوده أفضل

وقيل هما سواء وقد نقل ابن منصور عن أحمد أيهما أفضل أن يقف راكبا أو راجلا فتوقف

ومن رجح الأول قال الوقوف يطول زمانه والواقف على رجليه يعيى ويكل وذلك يضجره عن الدعاء والإبتهال

مسألة ويكثر من قول لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس

وجملة ذلك أن هذا الموقف مشهد عظيم ويوم كريم ليس في الدنيا مشهد أعظم منه روت عائشة أن رسول الله قال ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وأنه ليدنو يباهى بهم الملائكة ويقول ما أراد هؤلاء رواه مسلم والنسائي وابن ماجة ولفظه عبدا أو أمة وروى ابن أبي الدنيا من حديث أبي نعيم عن مسروق مولى طلحة بن عبد الله البأهلي عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله إذا كان ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهى بكم الملائكة فيقول انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم فتقول الملائكة فيهم فلان بن فلان فقال رسول الله صلى الله عيه وسلم فما من يوم أكثر عتقا من يوم عرفة

وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله قال ما روى الشيطان يوما هو أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أرى يوم بدر قيل وما رأى يوم بدر قال أما إنه قد رأى جبريل وهو يزع الملائكة رواه مالك وابن أبي الدنيا وهو مرسل

وفي مثل هذا اليوم وهذا المكان أنزل الله سبحانه { اليوم أكملت لكم دينكم } فروى طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له يا أمير المؤمنين اية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال أي اية قال { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فقال عمر قد عرفنا ذلك اليوم وذلك المكان الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة يوم الجمعة رواه الجماعة إلا أبا داود وابن ماجة

وأما توقيت الدعاء فيه فليس فيه عن النبي شيء مؤقت إلا أن أصحابنا قد استحبوا المأثور عنه في الجملة وهو ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان أكثر دعاء النبي يوم عرفة لا اله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير رواه أحمد وهذا لفظه

ورواه الترمذي ولفظه أن النبي قال خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير قال الترمذي حديث غريب من هذا الوجه

وعن علي قال قال رسول الله أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رواه الطبراني في مناسكه من رواية قيس بن الربيع وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال قال رسول الله أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك رواه مالك

واستحبوا أيضا ما روى عن علي بن أبي طالب قال أكثر ما دعى به رسول الله عشية عرفة في الموقف اللهم لك الحمد كالذي نقول وخير مما نقول اللهم لك صلاتي ومحياى ومماتي وإليك مأبى ولك تراثى اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الأمر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجرى به الريح رواه الترمذي وقال حديث غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوى

وقد روى عن ابن عباس قال كان مما دعا به رسول الله في حجة الوداع اللهم انك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي لا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال المذنب وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خضعت لك رقبته وفاضت لك عيناه وذل جسده ورغم أنفه لك اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا وكن بى رؤفا رحيما يا خير المسؤلين ويا خير المعطين رواه الطبراني في معجمه وقد تقدم عن ابن عمر أنه كان يدعو بعرفات بمثل دعائه على الصفا وقد تقدم

وعن عبد الله بن الحارث أن ابن عمر كان يرفع صوته عشية عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم اهدنا بالهدى وزينا بالتقى واغفر لنا في الاخرة والأولى ثم يخفض صوته ثم يقول اللهم إني أسألك من فضلك وعطائك رزقا طيبا مباركا اللهم انك أمرت بالدعاء وقضيت على نفسك بالإجابة وإنك لا تخلف وعدك ولا تكذب عهدك اللهم ما أحببت من خير فحببه الينا ويسره لنا وما كرهت من شر فكرهه إلينا وجنبناه ولا تنزع منا الاسلام بعد إذ أعطيتنا رواه الطبراني في المناسك بإسناد جيد

وقال أبو عبد الله في رواية أبي الحارث يصلي مع الإمام الظهر والعصر بعرفة ثم يمضي إلى مر ثم يدعو ويرفع يديه

وكان ابن عمر يقول الله أكبر الله أكبر الحمد لله كثيرا اللهم اهدني بالهدي واغفر لي في الاخرة والأولى ثم يردد ذلك كقدر ما يقرأ فاتحة الكتاب وذكره بإسناد وروى ذلك أيضا بهذا الإسناد في رواية عبد الله ثنا إسماعيل بن ابراهيم ثنا سليمان التميمي عن أبي مجلز قال كان ابن عمر يقول الله أكبر ولله الحمد الله أكبر ولله الحمد الله أكبر ولله الحمد لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد اللهم إهدني بالهدي وقنى بالتقوى واغفر لي في الاخرة والأولى ثم يرد يديه فيسكت كقدر ما كان إنسان قارئا بفاتحة الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك فلم يزل يفعل ذلك حتى أفاض

قال أحمد في رواية عبد الله يقف ويدعو ويرفع يديه لما روى أسامه ابن زيد قال كنت رديف النبي بعرفات فرفع يديه يدعو فمالت به ناقته فسقط خطامها فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الأخرى رواه أحمد والنسائي

وعن سليمان بن موسى قال لم يحفظ من رسول الله أنه رفع يديه الرفع كله إلا في ثلاث مواطن الإستسقاء والإستغفار وعشية عرفة ثم كان بعد رفع دون رفع رواه أبو داود في مراسيله وعن أبي سعيد

مسألة ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار ويكون ملبيا ذاكرا لله عز وجل

وجملة ذلك أنه لا يجوز الخروج من عرفة حتى تغرب الشمس ولا يدفع حتى يدفع الإمام ويسير وعليه السكينة والوقار

قال أبو عبد الله في رواية المروذي فإذا دفع الإمام دفعت معه ولا تفض حتى يدفع الإمام وأنت في خلال ذلك تلبى فإذا أفضت من عرفات فهلل وكبر ولب وقل اللهم إليك أفضت وإليك رغبت ومنك رهبت فأقبل نسكي وأعظم أجري وتقبل توبتي وارحم تضرعي واستجب دعائي وأعطني سؤلي

قال جابر بن عبد الله في حديثه عن النبي فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله وقد شنق للقصوى الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى يصعد حتى أتى المزدلفة رواه مسلم وعن ابن عباس أنه دفع مع النبي فسمع وراءه زجرا شديدا وضربا وصوتا للإبل فأشار بسوطه إليهم أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بالإيضاع رواه البخاري

وعن ابن عباس أن رسول الله أفاض من عرفة وأسامة ردفه قال أسامة فما زال يسير على هينته حتى أتى جمعا رواه مسلم

وعن عروة بن الزبير أنه قال سئل أنس وأنا جالس كيف كان يسير رسول الله في حجة الوداع حين أفاض من عرفات قال يسير العنق فإذا وجد فجوة نص متفق عليه

وأما التلبية فلما تقدم في حديث الفضل بن عباس

وإنما استحب له سلوك المأزمين

وإن سلك الطريق الأخرى جاز

قال أبو طالب سألت أحمد عن قول عطاء لا بأس بطريق ضب قال طريق مختصر من عرفات إلى منى

مسألة فإذا وصل إلى مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما قال أبو عبد الله في رواية المروذي فإذا انتهيت إلى مزدلفة وهي جمع فاجمع بين المغرب والعشاء كل صلاة بإقامة ولا بأس أن صليتهما مع الإمام فهو أفضل وقل اللهم هذه جمع فأسألك أن توفقني فيها لجوامع الخير كله فإنه لا يقدر على ذلك إلا أنت رب المشعر الحرام ورب الحرمات العظام أسألك أن تبلغ روح محمد عني السلام وتصلح لي نيتي وتشرح لي صدري وتطهر لي قلبي وتصلحني صلاح الدنيا والاخرة

والجمع بين الصلاتين بمزدلفة من السنة المتواترة التي توارثتها الأمة قال جابر بن عبد الله في حديثه عن النبي حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال بأذان واحد واقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح رواه مسلم

وعن أبي أيوب أن رسول الله جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بمزدلفة متفق عليه

وعن أسامة بن زيد قال ردفت مع النبي من عرفات فلما بلغ رسول الله الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ قال ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوء خفيفا فقلت الصلاة يا رسول الله قال الصلاة أمامك فركب رسول الله حتى أتى المزدلفة فصلى ثم أردف الفضل رسول الله غداة جمع قال كريب فأخبرني عبد الله ابن عباس عن الفضل أن رسول الله لم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة متفق عليه وفي رواية دفع رسول الله من عرفة فنزل الشعب بال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له الصلاة قال الصلاة أمامك فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل انسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما متفق عليه

وهذا الجمع مسنون لكل حاج من المكيين وغيرهم وقد جاء ذلك منصوصا قال عبد الله بن مسعود إن رسول الله قال إن الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب فلا يقدم الناس جمعا حتى يعتموا وصلاة الفجر هذه الساعة رواه البخاري

وهذا حكم عام وتعليل عام وبيان أن العلة ليست مجرد السفر كما لم يكن هو المؤثر في تقديم الفجر وإنما ذاك لأجل الدفع من عرفات فأما على قول فإن صلى المغرب قبل أن يصل إلى المزدلفة أجزأه

قال أبو الحارث قلت لأحمد فإن صلى المغرب بعرفة أو في الطريق قال إن وصل إلى جمع أرجو أن يجزءه والسنة أن يصلى المغرب بجمع

لأن النبي صلى المغرب بجمع

مسألة ثم يبيت بها

السنة في حق الحاج جميعا أن يبيتوا بمزدلفة إلى طلوع الفجر ثم يقفوا بها إلى قبيل طلوع الشمس

مسألة ثم يصلى الفجر بغلس

قال أبو عبد الله في رواية أبي الحارث فإذا برق الفجر صلى مع الإمام إن قدر ثم وقف فدعا ثم دفع قبل طلوع الشمس حتى يأتي مني

السنة التغليس بالفجر في هذا المكان قبل جميع الأيام ليتسع وقت الوقوف بالمشعر الحرام قال جابر بن عبد الله ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام رواه مسلم وعن عبد الرحمن بن يزيد قال حج عبد الله فأتينا المزدلفة حين الآذان بالعتم أو قريبا من ذلك فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر أرى فأذن وأقام قال لا أعلم الشك إلا من زهير ثم صلى العشاء مرتين فلما طلع الفجر قال إن النبي كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم قال عبد الله هما صلاتان تحولان عن وقتهما صلاة المغرب بعدما يأتي المزدلفة والفجر حين يبزغ الفجر وقال رأيت رسول الله يفعله

وفي لفظ خرجت مع عبد الله إلى مكة ثم قدمنا جمعا فصلى الصلاتين كل واحدة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما ثم صلى الفجر حين طلع الفجر قائل يقول طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع الفجر ثم قال رسول الله إن الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان المغرب فلا يقدم الناس جمعا حتى يعتموا وصلاة الفجر هذه الساعة ثم وقف حتى أسفر ثم قال أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان رضي الله عنه فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر رواه البخاري وفي رواية ما رأيت رسول الله صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها متفق عليه

مسألة ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو ويكون من دعائه اللهم كما وقفنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا وأغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق { فإذا أفضتم من عرفات } الايتين إلى أن يسفر ثم يدفع قبل طلوع الشمس

قال أبو عبد الله في رواية المروذي فإذا برق الفجر فصل الفجر مع الإمام إن قدرت ثم قف مع الإمام في المشعر الحرام وتقول اللهم أنت خير مطلوب منه إلى اخره

إعلم أن المشعر الحرام في الأصل اسم للمزدلفة كلها وهو المراد لأن عرفة هي المشعر الحلال وسمى جمعا لأن الصلاتين تجمع بها كأن الأصل موضع جمع أو ذات جمع ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه

وروى سعيد بن أبي عروبة في مناسكه عن قتادة في قوله { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } قال هي ليلة جمع ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول ما بين الجبلين مشعر

وعن عمرو بن ميمون قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص ونحن بعرفة عن المشعر الحرام قال إن اتبعتني أخبرتك فدفعت معه حتى إذا وضعت الركاب أيديها في الحرم قال هذا المشعر الحرام قلت إلى أين قال إلى أن تخرج منه رواه الأزرقي وغيره بإسناد صحيح

ويبين ذلك أن الله أمر بذكره عند المشعر الحرام فلا بد من أن يشرع امتثال هذا الأمر وانما شرع من الذكر صلاة المغرب والعشاء والفجر والوقوف للدعاء غداة النحر وهذا الذكر كله يجوز في مزدلفة كلها لقول النبي هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف فعلم أنها جميعا تدخل في مسمى المشعر الحرام ثم إنه خص بهذا الاسم قزح لأنه أخص تلك البقعة بالوقوف عنده والذكر وغلب هذا الاستعمال في عرف الناس حتى إنهم لا يكادون يعنون بهذا الاسم إلا نفس قزح وإياه عنى جابر بقوله في حديثه عن النبي ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس رواه مسلم

وكثيرا ما يجيء في الحديث المشعر الحرام يعني به نفس قزح

وأما في عرف الفقهاء فهو غالب عليه ونسبة هذا الجبل إلى مزدلفة كنسبة جبل الرحمة إلى عرفة

إذا تبين هذا فإن السنة أن يقف الناس غداة جمع بالمزدلفة يذكرون الله سبحانه ويدعونه كما صنعوا بعرفات إلى قبيل طلوع الشمس وهو موقف عظيم ومشهد كريم وهو تمام للوقوف بعرفة وبه تجاب المسائل التي توقفت بعرفة كالطواف بين الصفا والمروة مع الطواف بالبيت وأوكد قال تعالى { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } ووقف النبي فيه بالناس وقد روى عباس بن مرداس أن رسول الله دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب قد غفرت لهم ما خلا المظالم فإني اخذ للمظلوم منه قال أي ربى إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشية عرفة فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل قال فضحك رسول الله أو تبسم فقال أبو بكر وعمر بأبي أنت وأمي إن هذه الساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي أضحكك أضحك الله سنك قال إن عدو الله ابليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثو على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه رواه أبو داود وابن ماجه وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه وابن أبي الدنيا

وعن ابن عمر قال قال رسول الله إذا كان عشية عرفة باهى الله بالحاج فيقول لملائكته انظروا إلى عبادي شعثا غبرا قد أتوني من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي أشهدكم أني قد غفرت لهم إلا ما كان من تبعات بعضهم بعضا فإذا كان غداة المزدلفة قال الله لملائكته أشهدكم أني قد غفرت لهم تبعات بعضهم بعضا وضمنت لأهلها النوافل رواه ابن أبي داود من حديث ابن أبي رواد عن نافع عنه

وعن بلال بن رباح أن النبي قال له غداة جمع يا بلال اسكت لنا أو أنصت الناس ثم قال إن الله تطاول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى محسنكم ما سأل ادفعوا باسم الله رواه ابن ماجة

فصل

ولا يفيض الإمام من جمع حتى يسفر النهار فيفيض قبل طلوع الشمس قال جابر في حديثه الطويل فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس

وعن عمر بن الخطاب قال كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير قال فخالفهم النبي فأفاض قبل طلوع الشمس رواه الجماعة إلا مسلما وقال في رواية أحمد وابن ماجة كما يغير

وعن ابن عباس أن رسول الله وقف بجمع فلما أضاء كل شيء قبل أن تطلع الشمس أفاض رواه أحمد

وقد تقدم في حديث عبد الله بن مسعود أنه وقف حتى أسفر ثم قال إن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة رواه البخاري

ولا ينبغي لأحد أن يدع الوقوف غداة جمع ويتعجل بليل إلا لعذر قال حنبل قال عمى من لم يقف غداة المزدلفة ليس عليه شيء لأن النبي قدم الضعفة ولا ينبغي له أن يفعل إلا أن يكون معه ضعفة أو غلبة وعليه أن يبيت ليلة المزدلفة فإن لم يبت فعليه دم

والمعذور يذكر الله عند المشعر الحرام بليل وذلك لما روى سالم أن عبد الله بن عمر كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله متفق عليه ولفظه لمسلم وعن ابن عمر أن رسول الله أرخص لضعفة الناس من المزدلفة بليل رواه أحمد

وعن عبد الله مولى أسماء ابنة أبي بكر عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلى فصلت ساعة ثم قالت يا بني غاب القمر قلت لا فصلت ساعة ثم قالت هل غاب القمر قلت نعم قالت فارتحلوا فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت يا بني إن رسول الله أذن للظعن متفق عليه

وعن أم حبيبة أن النبي بعث بها من جمع بليل رواه أحمد ومسلم والنسائي وعن ابن عباس قال أنا ممن قدم النبي ليلة المزدلفة في ضعفة أهله رواه الجماعة إلا الترمذي

وعن الفضل بن عباس قال أمر رسول الله ضعفة بني هاشم أن يتعجلوا من جمع بليل رواه أحمد والنسائي

فهذا الترخيص دليل على أن غيرهم ليسوا لما أذن لضعفه الناس وأذن للظعن وأرخص في أولئك يقتضي قصر الأذن عليهم وأن غيرهم لم يؤذن له وكذلك تقديمه ضعفة أهله وابقاؤه سائر الناس معه دليل على أن حكمهم بخلاف ذلك

والضعفة من يخاف من تأذية بزحمة الناس عند الوقوف والمسير ورمى الجمرة وهم النساء والصبيان والمرضى ونحوهم ومن يقوم بهؤلاء

فصل

والجبل الذي يستحب الوقوف عنده بالمزدلفة له ثلاثة أسماء قزح والمشعر الحرام والميقدة

مسألة ثم يدفع قبل طلوع الشمس فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رميه بحجر حتى يأتي منى قال جابر في حديثه الطويل عن النبي فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما فلما دفع رسول الله مرت ظعن يجرين فطفق الفضل ينظر اليهن فوضع رسول الله يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الاخر ينظر فحول رسول الله يده إلى الشق الاخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الاخر ينظر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات رواه

ويستحب أن يدفع وعليه السكينة كما في الدفع من عرفة كما روى الفضل ابن عباس وكان رديف رسول الله أنه قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى قال عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة وقال لم يزل رسول الله يلبى حتى رمى جمرة العقبة وفي لفظ يشير بيده كما يخذف الانسان رواه مسلم وأما الإسراع في وادي محسر فقد ذكره جابر وقال الفضل وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا

وعن جابر أن النبي أوضع في وادي محسر وأمرهم أن بمثل حصى الخذف رواة الخمسة و

وعن نافع أن ابن عمر كان يحرك راحلته في بطن محسر قد رميه بحجر رواه مالك عنه

مسألة حتى يأتي منى فيبدأ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف يكبر مع كل حصاة ويرفع يده في الرمى ويقطع التلبية مع ابتداء الرمى ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ولا يقف عندها في هذا الكلام فصول أحدها أن أول شيء يصنعه إذا قدم منى أن يؤم جمرة العقبة وهي اخر الجمرات أقصاهن من منى وأدناهن إلى مكة وهي الجمرة الاخرة وقد تسمى الجمرة القصوى باعتبار من يؤمها من منى وربما سميت

وسميت جمرة العقبة لأنها في عقبة مأزم منى وخلفها من ناحية الشام واد فيه بايع الأنصار رسول الله بيعة العقبة وقد بني هناك مسجد فيبدأ برمي هذه الجمرة قبل كل شيء كما فعل النبي

قال أصحابنا رميها تحية منى كما أن الطواف تحية البيت وكما أن المغرب تحية المزدلفة وكما أن ويستحب أن يسلك إليها والجمرة اسم الفصل الثاني

أن يرميها بسبع حصيات وهذا من العلم العام الذي توارثته الأمة خلفا عن سلف قال جابر في حديثه ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر رواه مسلم وروى أنه رمى بسبع حصيات ابن مسعود والفضل بن عباس الفصل الثالث

أنه يستحب أن يكون الحصى كحصى الخذف كما رواه جابر عن النبي أمرا وفعلا وفي حديث الفضل عن النبي قال حتى دخل محسرا وهو من منى قال عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة وفي لفظ يشير بيده كما يخذف الانسان رواه مسلم الفصل الرابع

أن يكبر مع كل حصاة ويرفع يده في الرمي قال جابر في حديثه الطويل عن النبي فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة وكذلك في حديث الفضل قال أحمد في رواية المروذي يكبر في أثر كل حصاة يقول الله أكبر اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا وتجارة لن تبور

وقال حرب قلت لأحمد فيكبر قال نعم يكبر مع كل حصاة تكبيرة قلت بعد الرمي أو قبل الرمي قال يرمي ويكبر الفصل الخامس

أنه يقطع التلبية مع ابتداء الرمي لما روي الفضل بن عباس أن النبي لم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة متفق عليه وفي رواية لأحمد والنسائي فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاه الفصل السادس

أن السنة أن يرميها من بطن الوادي وهو الطريق يماني الجمرة هذا هو المذهب المعروف المنصوص قال عبد الله قلت لأبي من أين يرمى الجمار قال من بطن الوادي

وقال حرب سألت أحمد قلت فإن رمى الجمرة من فوقها قال لا ولكن يرميها من بطن الوادي قلت لأحمد يكبر قال يكبر مع كل حصاة تكبيرة قلت بعد الرمي أو قبل الرمي قال يرمي ويكبر

وذكر القاضي عن حرب عن أحمد لا يرمى الجمرة من بطن الوادي ولا يرمى من فوق الجمرة قال القاضي يعني لا يرميها عرضا من بطن الوادي

وقال ابن عقيل إنما لم يستبطن الوادي لأنه أمر أن يرمى إليه لا فيه فإذا رمى فيه سقط وقوفه على ما علاه وسقط بعض ماحية بالرمى وهذا غلط على المذهب منشأه الغلط في نقل الرواية

وقد ذكر القاضي في موضع اخر المذهب كما حكيناه ولعل سببه أن النسخة التي نقل منها رواية حرب كان فيها غلط فإني نقلت رواية حرب من أصل متقن قديم من أصح الأصول وكذلك ذكرها أبو بكر في الشافي لما روى قدامة بن عبد الله الكلابى أنه رأى النبي رمى جمرة العقبة من بطن الوادي يوم النحر على ناقة له صبها لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك رواه أحمد وابن ماجة والنسائي ولم يذكروا فيه من بطن الوادي

وعن عبد الرحمن بن زيد أنه كان مع عبد الله بن مسعود فأتى جمرة العقبة فاستبطن الوادي فاستعرضها فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة قال فقلت يا أبا عبد الرحمن إن الناس يرمونها من فوقها فقال هذا والذي لا إله إلا هو مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة متفق عليه

وفي رواية للبخاري فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها فرماها بسبع حصيات فكبر مع كل حصاة ثم قال من هاهنا والذي لا اله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة

وفي رواية لأحمد أنه انتهى إلى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات وهو راكب يكبر مع كل حصاة وقل اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا ثم قال ها هنا كان يقوم الذي أنزلت عليه سورة البقرة

وفي حديث جابر أنه رمى من بطن الوادي وكذلك في عدة أحاديث ولا معدل عن السنة الصحيحة الصريحة أم كيف يجوز أن ينسب إلى أحمد أنه قال لا ترمى من بطن الوادي وهو أعلم الناس بسنته واتبعهم لها الفصل السابع

أنه يستقبل القبلة فيجعل الجمرة عن يمينه ومنى وراءه ويستبطن الوادي كما ذكر الشيخ وكذلك ذكر أبو الخطاب ولما روي عن عبد الله بن مسعود أنه لما أتى جمرة العقبة استبطن واستقبل الكعبة وجعل الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم قال من ها هنا والذي لا إله غيره رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وذكر القاضي في المجرد وابن عقيل أنه إذا رمى جمرة العقبة يكون مستدبر القبلة مستقبلا لمنى فإنه إذا وافى هذه الجمرة مر بها ثم رجع فتوجه إليها فإذا جاوزها ثم عاد متوجها إليها كان مستقبلا لمنى مستدبرا للقبلة وهذا بناء على أنه لا يرميها من بطن الوادي وإنما يرميها من ناحية المأزم الفصل الثامن

أنه لا يقف عندها

مسألة ثم ينحر هديه

قال جابر في حديثه عن النبي ورمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هدية ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب رسول الله فأفاض إلى البيت رواه مسلم

وعن أنس بن مالك أن رسول الله أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس رواه مسلم وأبو داود

مسألة ثم يحلق ويقصر

وذلك لما تقدم في حديث أنس عن النبي ثم أتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق خذ وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطيه الناس رواه مسلم

وفي رواية له لما رمى رسول الله الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعى أبا طلحة الأنصاري فأعطاه اياه ثم ناوله الشق الأيسر فقال احلق فحلقه بأعطاه أبا طلحة فقال أقسمه بين الناس وفي رواية للبخاري أن رسول الله لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ من شعره

وعن ابن عمر أن رسول الله حلق رأسه في حجة الوداع متفق عليه زاد البخاري وزعموا أن الذي حلق النبي معمر ابن عبد الله بن نضلة بن عوف

مسألة ثم قد حل له كل شيء إلا النساء

لا يختلف المذهب أنه إذا رمى الجمرة ونحر وحلق أو قصر فقد حل له اللباس والطيب والصيد وعقد النكاح ولا يحل له النساء وهذا يسمى التحلل الأول وذلك لما روي عن ابن عباس قال قال رسول الله إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء الا النساء فقال رجل والطيب فقال ابن عباس أما أنا فرأيت رسول الله يضمخ رأسه بالمسك أفطيب ذلك أم لا هكذا رواه أحمد واحتج به في رواية ابنه عبد الله قال ابن عباس قال رسول الله إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وساق الحديث وكذلك رواه أبو بكر في الشافي من حديث أحمد ومحمد بن إسماعيل الترمذي عن وكيع ثنا سفيان عن سلمة عن الحسن العرني ورواه النسائي من حديث يحيى بن سعيد وابن ماجه من رواية ابن أبي شيبة والطنافسي عن وكيع ومن رواية محمد بن خلاد البأهلي عن يحيى عن وكيع وابن مهدي ثلاثتهم عن سفيان عن سلمة عن الحسن عن ابن عباس قال إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء جعلوا أوله موقوفا على ابن عباس ولذلك قيل إنه في المسند

وعن الحجاج بن ارطأة عن الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت قال رسول الله إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء رواه أحمد والد وأبو داود ولفظه إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء وقال هذا حديث ضعيف الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه

وعن عائشة قالت كنت أطيب رسول الله لاحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت متفق عليه ولفظ مسلم وغيره ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك

وفي رواية للنسائي ولحله بعد ما يرمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت

فإذا ثبت بهذه السنة حل الطيب وهو من مقدمات النكاح ودواعيه فعقد النكاح أولى ولأن الله سبحانه قال { وإذا حللتم فاصطادوا } ولم يقيده بالحل من جميع المحظورات بل هو مطلق ونكرة في سياق الشرط فيدخل فيه كل حل سواء كان حلا من جميع المحظورات أم من أكثرها أم من بعضها

وقال في الآية الأخرى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وإذا رمى الجمرة فليس بحرام ولذلك قال النبي لا ينكح المحرم ولا ينكح وبعد الجمرة ليس بمحرم بدليل أنه إذا نذر

وفي المحرم من النساء روايتان إحداهما يحرم عليه جميع وجوه الاستمتاع من الوطء والمس والقبلة وغير ذلك وعلى هذا فيحرم عليه وهذا اختيار عامة أصحابنا مثل الخرقى وأبي بكر وابن حامد والقاضي وأصحابه

والرواية الثانية قال في رواية أبي طالب وقد سأله عن القبلة بعد رمى جمرة العقبة قبل أن يزور البيت فقال ليس عليه شيء قد حل له كل شيء إلا النساء فمن أصحابنا من قال هذا يدل على أنه يباح له كل شيء إلا الوطء في الفرج لأنه أباح له القبلة وحكوا هذه الرواية لذلك

ومنهم من قال ظاهر هذا أنه أباح له القبلة بعد التحلل الأول

وقال القاضي عندي أن قوله ليس عليه شيء أي ليس عليه دم لا أنها مباحة وهذا من القاضي يقتضي أنها محرمة ولا دم فيها

فصل

فيما يحصل به التحلل الأولى وفي روايتان منصوصتان

إحداهما يحصل بمجرد الرمي فلو لبس قبل الحلق أو تطيب أو قتل الصيد لم يكن عليه شيء قال في رواية عبد الله وأبي الحارث حجه فاسد إذا وطيء قبل أن يرمي وإن كان قد وقف بعرفة لأن الاحرام قائم عليه فإذا رمي الجمرة انتقض بعض إحرامه وحل له كل شيء إلا النساء

وقال في رواية ابن منصور وقد سئل عن المحرم يغسل رأسه قبل أن يحلق فقال إذا رمي الجمرة فقد انتقض إحرامه إن شاء غسله

لأن في حديث ابن عباس إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء وكذلك في حديث عائشة من رواية أبي داود والثانية بالرمي والحلاق قال القاضي وهو أصح الروايتين قال في رواية المروذي إبدأ بشق رأسك الأيمن وأنت متوجه إلى الكعبة وقل اللهم هذه ناصيتي بيدك اجعل لي بكل شعرة نورا يوم القيامه اللهم بارك لي في نفسي وتقبل عملي وخذ من شاربك وأظفارك ثم قد حل من كل شيء إلا النساء

والمرأة تقصر من شعرها وتقول مثل ذلك

وقد نص في مواضع كثيرة على أن المعتمر ما لم يحلق أو يقصر فهو محرم لأن في حديث عائشة إذا رميتم وحلقتم وهذه زيادة

واختلف أصحابنا في مأخذ هذا الاختلاف على طرق فقال القاضي في المجرد وأبو الخطاب وجماعات من أصحابنا هذا مبنى على أن الحلق هل هو نسك أو طلاق من محظور وخرجوا في ذلك روايتين إحداهما أنه إطلاق من محظور بمنزلة تقليم الأظفار وأخذ الشارب ولبس الثياب والطيب لأنه محظور في حال الاحرام فكان في وقته إطلاق محظور كسائر المحظورات من اللبس والطيب ولأنه لو كان نسكا من أعمال الحج لم يجب بفعله حال الاحرام دم كسائر المناسك من الطوافين والوقوفين والرمى وسبب هذا أن الحلق هو من جملة القاء التفث وازالة الشعث والغبار ونوع من الترفه وذلك بالمباحات أشبه منه بالعبادات وأصحاب هذا القول ربما استحبوا الحلاق من حيث هو نظافة للطواف كما يستحب الحلق والتقليم والاغتسال لا لأمر يختص النسك وعلى هذا القول لا فرق بين حلق الرأس وحلق العانة

واعلم أن هذا القول غلط على المذهب ليس عن أحمد ما يدل على هذا بل كلامه كله دليل على أن الحلق من المناسك وإنما توهم ذلك من توهمه حيث لم يوقف التحلل عليه أو حيث لم يقيد النسك بالوطء قبله وهذه الأحكام لها مأخذ اخر ثم هو خطأ في الشريعة كما سيذكره

الطريقة الثانية أن الحلق أو التقصير نسك يثاب على فعله ويعاقب على تركه من غير تردد لكن هل يتوقف التحلل الأول عليه على روايتين فإن قيل يتوقف التحلل عليه فهو كالرمي والسلام في الصلاة وإن لم يتوقف التحلل عليه فهو كالمبيت بمنى وكرمى الجمار أيام منى وكسجود السهو بعد الصلاة وهذه طريقة القاضي في خلافه وطريقة

وهذه الطريقة أجود من التي قبلها لأن الرواية إنما اختلفت عن أحمد في وجوب الدم على من وطيء في العمرة قبل الحلاق ولم يختلف عنه أنه مسيء بذلك واختلف عنه الطريقة الثالثة أنه نسك مؤكد وتاركه مسيء بغير تردد لكن هل هو واجب بحيث إذا فات بفساد العبادة يجب عليه دم أو يعاقب على تركه على روايتين

وإذا قلنا هو واجب فهل يتحلل بدونه على روايتين

وهذه الطريقة أجود الطرق وهي مقتضى ما سلكه المتقدمون من أصحابنا ولا يختلف أصحابنا في اختيار كونه نسكا وذلك لأن الله سبحانه قال { ثم ليقضوا تفثهم } وهذه اللام لام الأمر على قراءة

وأيضا فإنه سبحانه قال { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } فجعل الحلق والتقصير شعار النسك وعلامته وعبر عن النسك بالحلق والتقصير وذلك يقتضي كونه جزء منه وبعضا له لوجوه أحدها أن العبادة إذا سميت ما يفعل فيها دل على أنه واجب فيها كقوله { وقرآن الفجر } وقوله { قم الليل } و{ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } و{ واركعي مع الراكعين } { وكن من الساجدين } { وسبح بحمد ربك }

ويقال صليت ركعتين وسجدتين وكذلك في الأعيان يعبر عن الشيء ببعض أجزائه كما قال { فتحرير رقبة } ويقال عنده عشرة رؤوس وعشر رقاب

الثاني أن الحلق والتقصير إذا كان من لوازم النسك وهو أمر ظاهر باق أثره في المناسك كان وجود النسك وجودا له فجاز أن يقصد النسك بلفظه للزومه إياه أما إذا وجد معه تارة وفارقه أخرى بحسب اختيار الانسان كان بمنزلة الركوب والمشي لا يحسن التعبير به عنه ولا يفهم منه

الثالث

ويشبه والله أعلم إنما ذكر الحلاق والتقصير دون الطواف والسعي لأنهما صفتان لبدن الانسان ينتقلان بانتقاله

والمراد بالدخول الكون فكأنه قال لتكونن بالمسجد الحرام ولتمكثن به حالقين ومقصرين وفيه أيضا تنبيه على تمام النسك لأن الحلق والتقصير إنما يكون بعد التمام لئلا يخافوا أن يصدوا عن إتمام العمرة كما صدوا عن إتمامها عام أول وأيضا فإن النبي حلق هو وجميع أصحابه وهو من الأعمال التي تناقلتها الأمة خلفا عن سلف قولا وفعلا فلو لم يكن ذلك عبادة ونسكا لله وطاعة لم يحافظوا عليه هذه المحافظة

وأيضا فإن النبي دعا

وأيضا فإن الحلق أمر لا يشرع لغير الحج بل هو أما مكروهة أو مباح وكل أمر شرع في الحج ولم يشرع في غيره فإنه يكون نسكا كالرمي والسعي والوقوف وعكسه التقليم ونتف الأبط ولبس الثياب فإنه مشروع قبل الإحرام ففعله عودا إلى الحال الأولى

أما حلق الرأس فإنه لا يشرع قبل الإحرام بحال

وأيضا فحلق الرأس ليس من النظافة المأمور بها كالتقليم وأخذ الشارب ولا الزينة المندوب إليها كلبس الثياب فلو لم يكن نسكا لكان عبثا محضا إذ لا فائدة فيه أصلا

وأيضا فإنه لو كان المقصود إزالة وسخ لما اكتفى بمجرد التقصير فالاكتفاء به دليل على أن المقصود وضع شيء من شعره لله تعالى وأيضا فإن الحلق يجمع صفات منها أنه تحلل من الإحرام لأنه كان محظورا قبل هذا والتحلل من العبادة عبادة كالسلام

ومنها أن وضع النواصي نوع من الذل والخضوع ولهذا كانت العرب إذا أرادت المن على الأسير جزت ناصيته وأرسلته وأعمال الحج مبناها على الخضوع والذل

ومنها أنه قد يكون فيه ترف بالقاء وسخ الرأس وشعثه وقمله لكن هذا القدر يمكن إزالته بالترجل فلو فرض أنه من أنواع المباحات ببعض صفاته لم يمنع أن يكون من نوع العبادات بباقي الصفات

فصل

فإن كان معه هدى وقلنا يتحلل بالرمي فلا كلام وإن قلنا لا يتحلل إلا بالحلق قال القاضي وأصحابه مثل أبي الخطاب وابن عقيل يحصل التحلل الأول بالرمي والحلق أو بالمرمى والطواف أو بالطواف والحلق على قولنا بأن التحلل نسك واجب

وعلى قولنا يحصل التحلل بدونه يحصل إما بالرمي أو بالطواف

مسألة ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة وهو الطواف الذي به تمام الحج

قال جابر في حديثه ثم ركب رسول الله فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه رواه مسلم

وعن ابن عمر أن رسول الله أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى متفق عليه

وذكر أبو طالب أنه ثنا أحمد بحديث ابن عمر هذا أن رسول الله أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى قال فهو أحب إلي وقال كان أحمد يسأل عن هذا الحديث

وفي حديث ابن عمر وعائشة عن النبي أنه طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله من أهدى فساق الهدى من الناس متفق عليه وهذا الطواف يسميه الحجازيون طواف الافاضة لأنه يكون بعد الافاضة من عرفة ومزدلفة ومنى

ويسميه العراقيون طواف الزيارة

ويسمى الطواف الفرض وربما يسمى طواف الصدر عن منى لا الصدر عن مكة

مسألة ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو ممن لم يسع مع طواف القدوم

لما روى ابن عباس قال فلما قدمنا مكة قال رسول الله اجعلوا أهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج وإذا فرغنا من المناسك جئنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقدتم حجنا وعلينا الهدي وذكر الحديث رواه البخاري

وعن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال من كان معه هدى فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل منهما فقدمت مكة وأنا حائض فلما قضينا حجنا أرسلني مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فأعتمرت فقال هذه مكان عمرتك فطاف الذين أهلوا بالعمرة ثم حلوا ثم طافوا طوافا اخر بعد أن رجعوا من منى والذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا متفق عليه وفي لفظ مسلم فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا واحدا

وهذا يدل على أن المتمتعين طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة مرتين قبل التعريف وبعده لأنها إنما عنت بقولها ثم طافوا طوافا اخر الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة لأنه هو المتقدم ذكره ولأن الذين جمعوا الحج والعمرة إنما اقتصروا على طواف واحد بالبيت وبين الصفا والمروة فأما الطواف المفرد فقد فعلوه بعد عرفة بدليل أن النبي طاف بعد الافاضة وكان قد جمع بين العمرة والحج وهذا كما في حديث ابن عمر أنه أوجب عمرة ثم قال ما شأن الحج والعمرة إلا واحدا أشهدكم أنى قد جمعت حجة مع عمرتي وأهدى هديا مقلدا اشتراه بقديد وانطلق حتى قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا ولم يزد على ذلك ولم يحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر فحلق ونحر ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ثم قال هكذا صنع رسول الله متفق عليه

فمعنى قوله قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول أنه قضى الطواف بالبيت وبالصفا والمروة يعني لم يطف بالبيت وبالصفا والمروة مرتين ولم يرد أنه لم يطف البيت بعد الافاضة لأن النبي طاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم طاف بالبيت بعد عرفة

ولأن طواف الافاضة لا بد منه بإجماع المسلمين وانما ذكرت هذه الأحاديث بيانا لأن القارن يجزئه طواف واحد بالبيت وبالصفا والمروة لحجه وعمرته إلا أن يكون أريد بهذين الحديثين أن القارن يجزئه طوافه بالبيت وبالصفا والمروة قبل التعريف فيجزيء طواف القدوم عن الركن وهذا لم يقله

فإن قيل فقد قال جابر لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي

وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله مهلين بالحج مع النساء والولدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقال رسول الله من لم يكن معه هدى فليحلل قال فقلنا أي الحل قال الحل كله فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة رواه مسلم وأبو داود

وهذا نص في أن المتمتع لا يطوف بالصفا والمروة إلا طوافا واحدا كالقارن والمفرد وقد روى أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقول المفرد والقارن والمتمتع يجزئه طوافه بالبيت وسعى بين الصفا والمروة

مسألة ثم قد حل من كل شيء

وجملة ذلك أنه إذا طاف طواف الافاضة وسعى السعي المشروع عقبه فقد حل من كل شيء

فأما قبل السعي فإن قلنا السعي ركن أو واجب توقف التحلل الثاني عليه وإن قلنا هو سنة وذكر ابن عقيل أن السعي مع كونه فرضا لا يتوقف عليه التحلل الأول ولا الثاني

مسألة ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ثم يقول اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك

قال جابر في حديثه عن النبي ثم ركب رسول الله وأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلوا فشرب منه

فقد شرب رسول الله من زمزم عقب طواف الافاضة

وعن الشعبي أن ابن عباس حدثه قال سقيت رسول الله من زمزم فشرب وهو قائم متفق عليه زاد البخاري قال عاصم فحلف عكرمة ما كان يؤمئذ إلا على بعير ولمسلم فأتيته بدلو واستسقى وهو عند البيت

وفي حديث علي ثم أفاض رسول الله فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ ثم قال انزعوا يا بني عبد المطلب فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت رواه أحمد وأبو داود والترمذي وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه وهذا لفظه وإسناده

وعن جابر أن رسول الله رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر وصلى ركعتين ثم عاد إلى الحجر ثم ذهب إلى زمزم فشرب منها وصب على رأسه ثم رجع فاستلم الركن ثم رجع إلى الصفا فقال أبدأ بما بدأ الله به رواهما وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله ماء زمزم لما شرب له رواه أحمد وابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل أنه سمع أبا الزبير يقول سمعت جابرا

وعن ابن عباس قال قال رسول الله ماء زمزم لما شرب له إن شربته تستشفى به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله وإن شربته لقطع ظمأك قطعه الله وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل رواه الدارقطني

وفي حديث أبي ذر في قصة اسلامه فقال يعني النبي متى كنت ها هنا قال قلت كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال فمن كان يطعمك قال قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطنى وما أجد على بطنى سخفة جوع قال إنها مباركة رواه مسلم ورواه الطيالسي وزاد فيه وشفا سقم

وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال كنت عند ابن عباس جالسا فجاءه رجل فقال من أين جئت قال من زمزم قال فشربت منها كما ينبغي قال وكيف قال إذا شربت فاستقبل القبلة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا فرغت فأحمد الله عز وجل فإن رسول الله قال إن اية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من زمزم رواه ابن ماجه وعن عكرمة قال كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء رواه الدارقطني

فصل

ويستحب الشرب من شراب السقاية لما روى ابن عباس أن رسول الله جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس يا فضل إذهب إلى أمك فات رسول الله بشراب من عندها فقال اسقنى فقال يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه رواه البخاري

وعن بكر بن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل قدم رسول الله على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة وقال أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا فلا نريد بغير ما أمر به رسول الله

باب ما يفعله بعد الحل[عدل]

مسألة ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها

وجملة ذلك أن السنة للحاج أن لا يبيت ليالي التشريق إلا بمنى لأن رسول الله رجع إلى منى فبات بها هو وجميع من معه وقد قال لتأخذوا عنى مناسككم وهذه السنة المورثة عنه التي تناقلتها الأمة خلفا عن سلف إلا أن أهل السقاية الذين يسقون الحجيج يرخص لهم في المبيت بمكة لما روى ابن عباس قال استأذن العباس رسول الله أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له وعن ابن عمر مثله متفق عليهما

وأهل السقاية هم وسواء كانوا من ولد العباس رضي الله عنهم أو من غيرهم وكذلك يرخص للرعاء لحديث أبي البداح الاتى ذكره

مسألة فيرمى بها الجمار بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات يبدأ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع كما يرمى جمرة ثم يتقدم فيقف يدعو الله عز وجل ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك ثم يرمى جمرة العقبة ولا يقف عندها ثم يرمى في اليوم الثاني كذلك

في هذا الكلام فصول أحدها أن الحاج يرمى الجمرات الثلاث أيام منى الثلاثة بعد الزوال وهذا من العلم العام الذي تناقلته الأمة خلفا عن سلف عن نبيها عن عائشة قالت أفاض رسول الله من اخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمى الجمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمى الثالثة ولا يقف عندها رواه أحمد وأبو داود

وعن ابن عباس قال رمى رسول الله الجمار حين زالت الشمس رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن

وعن جابر قال رمى رسول الله الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس رواه مسلم

وعن وبرة قال سألت ابن عمر متى أرمى الجمرة قال إذا رمى إمامك فارمه فأعدت عليه المسألة قال كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا رواه البخاري الفصل الثاني

أنه يرمى كل جمرة بسبع حصيات كما تقدم في جمرة العقبة وهذا من العلم العام والسنة المتواترة وقد روى جابر قال قال رسول الله الاستجمار تو ورمى الجمار تو والسعى بين الصفا والمروة تو والطواف تو وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو يعني الوتر رواه مسلم والبرقاني وزاد عن التخلى والكحل تو يعني ثلاثا ثلاثا يقال هو الوتر يقال سافر سفرا توا إذا لم يعرج في طريقه على مكان والتو الجبل المفتول طاقا واحدا الفصل الثالث

أن يبتديء بالجمرة الأولى وهي أقربهن إلى مسجد الخيف وهي الجمرة الصغرى والجمرة الدنيا لأنها أدناهن إلى المشاعر ومنازل أكثر الناس ثم بالجمرة الثانية وهي الجمرة الوسطى ثم بجمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى وهذا من العلم العام الفصل الرابع

أنه يستقبل القبلة عند رمي الأوليين هكذا ذكره أصحابنا الذين قالوا يستدبر القبلة في جمرة العقبة والذين قالوا يستقبلها وقد تقدم الكلام في جمرة العقبة قالوا ويجعل الجمرة الأولى عن يسرته والثانية والثالثة عن يمينه لأن الرمي من الطريق ومتى رمى من الطريق كانت الأولى عن يسرته والأخرتان عن يمينه

وفي حديث ابن عمر أنه كان إذا رمى الوسطى أخذ ذات الشمال فيسهل الفصل الخامس

أنه إذا رمى الأولى والثانية تقدم قليلا إلى ناحية الكعبة حيث لا يصيبه الحصى فاستقبل القبلة ووقف يدعو الله سبحانه لما روي عن سالم عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة قياما طويلا ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله يفعله رواه أحمد والبخاري

أسهل إذا صار إلى الأرض السهل المنخفضة عما فوقها كما يقال أنجد وأتهم وأعرق وأشام

وفي لفظ للبخاري عن ابن عمر أن رسول الله كان إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو وكان يطيل الوقوف ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الواد فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر عند كل حصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها قال وكان ابن عمر يفعله

وقد تقدم ذكر قيام النبي وتضرعه في حديث عائشة وأنه كان يطيل القيام بين الجمرتين

وأما مقدار هذا القيام فقال حرب قلت لأحمد كم يقوم الرجل بين الجمرتين قال يقوم ويدعو ويبتهل ولم يؤقت وقتا

وقال في رواية المروذي فإذا كان من الغد وزالت الشمس رميت الجمرة الأولى بسبع حصيات تكبر مع كل حصاة وتقول بين كل تكبيرتين اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا وعملا متقبلا وتجارة لن تبور ثم أمش قليلا حتى تأتي موضع يقام عن يسار الجمرة التي رميت مستقبل القبلة وتدعو بدعائك بعرفة وتزيد وأتمم لنا مناسكنا ثم تأتي الجمرة الوسطى كذلك ثم ترمى جمرة العقبة ولا تقف عندها وكل ما دعوت به أجزأك

ويستحب طول القيام عند الجمار في الدعاء وكذلك قال في رواية عبد الله

فصل والسنة أن يمشي من منزله إلى الجمار ويرميها واقفا ويرجع إلى منزله لما روي عن ابن عمر أنه كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد النحر ماشيا ذاهبا وراجعا ويخبر أن النبي كان يفعل ذلك رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولفظ أحمد أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيا ويخبرهم أن النبي كان يفعل ذلك

فإن كان له عذر فلا بأس بالركوب قال حرب قلت لأحمد فالركوب إلى الجمار قال للنساء والضعفة

ولا فرق بين الرمي يوم النفر وقبله

واختلف أصحابنا في الأفضل فقال أبو الخطاب وجماعة الأفضل أن يرمى الجمار كلها ماشيا لأن في حديث ابن عمر أن النبي كان إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا هذا لفظ الترمذي وقال حديث حسن صحيح

وقال القاضي في المجرد يرمي يوم النحر وثالث أيام منى راكبا واليومين الاخرين راجلا لأن النبي رمى يوم النحر راكبا ولأن يوم النحر يجيء راكبا من مزدلفة فيستحب له أن يفتتح منى بالرمي قبل نزوله ويوم النفر يخرج من منى فيستحب أن يودعها بالرمي ثم يخرج منها وهو راكب لا يحتاج إلى ركوب بعد ذلك الحصبة متفق عليه

فهذا بيان من النبي أن عائشة صارت قارنة بإدخال الحج على إحرام العمرة وأن طوافها بعد التعريف أجزأها عن الحج والعمرة

وعن جابر قال لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وفي رواية عن الحجاج عن الزبير عن جابر أن رسول الله قرن بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافا واحدا رواه الترمذي وفي رواية لابن ماجة أن النبي طاف للحج والعمرة طوافا واحدا

وعن ليث قال حدثني عطاء وطاوس ومجاهد عن جابر بن عبد الله وابن عمر وابن عباس أن النبي لم لطف هو وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا لعمرتهم وحجهم

وعن أبي سعيد أن النبي طاف طوافا واحدا لحجه وعمرته

وعن أبي قتادة أن النبي وأصحابه طافوا لحجهم وعمرتهم طوافا واحدا رواهن الدارقطني بأسانيد حسان يصدق بعضها بعضا

فصل

وأما التمتع فلا بد له من طواف للعمرة وسعى لها وهل عليه سعى اخر للحج على روايتين منصوصتين إحداهما عليه سعيان كما عليه طوافان قال في رواية الأثرم القارن يجزؤه طواف واحد وسعي واحد والمتمتع طوافان وسعيان وقال في رواية حنبل وقد سئل عن القارن كم يطوف ويسعى بين الصفا والمروة فقال يجزؤه طواف واحد إذا دخل بالحج والعمرة فإن دخل متمتعا بعمرة ثم حج فأراى أن يسعى سعيا للعمرة وسعيا للحج هذا هو المعروف عند أصحابنا

والرواية الثانية يكفيه سعي واحد قال عبد الله بن أحمد قلت لأبي المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة قال إن طاف طوافين فهو أجود وإن طاف طوافا واحد فلا بأس وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي واحتج بحديث جابر لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول

وقال المروذي قال أبو عبد الله إن شاء القارن طاف طوافا واحدا وإن شاء المتمتع طاف طوافا واحدا

وهذا هو الصواب بلا شك لحديث جابر المذكور وكذلك عامة الأحاديث فيها أن أصحاب رسول الله إنما طافوا بين الصفا والمروة الطواف الأول ومن قال من أصحابنا أن النبي كان متمتعا فهذا لازم له لأن الأحاديث الصحيحة لما تختلف أن النبي لم يسع بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة وإنه لما طاف طواف الافاضة لم يسع بعده وهذا بين في حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة وجابر وغيرهم وقد تقدم كثير من ذلك فيما مضى وعن جابر قال خرجنا مع رسول الله مهلين بالحج مع النساء والوالدان فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبين الصفا والمروة فقال لنا رسول الله من لم يكن معه هدي فليحلل قال فقلنا أي الحل قال الحل كله فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة رواه مسلم وأبو داود وهذا نص في أنهم تمتعوا واكتفوا بطواف واحد بين الصفا والمروة

فإن قيل فحديث عائشة الذي قالت فيه فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلوا ثم طافوا طوافا اخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا

وكذلك حديث ابن عباس المتقدم ولأنكم قد استحببتم طوافين وإذا كان الصحابة مع النبي قد اقتصروا على طواف واحد فلا معنى لاستحباب الزيادة عليهم

قلنا لعل جابرا أخبر عن بعض المتمتعين وعائشة أخبرت عن بعضهم فإنهم كانوا خلقا كثيرا فأخبر جابر عما فعله هو ومن يعرفه وأخبرت عائشة عما فعله من تعرفه والله أعلم بحقيقة الحال على أن أحاديث جابر وأصحابه مفسرة واضحة لا احتمال فيها

وإنما استحب أحمد الطوافين لحديث ابن عباس وعائشة ولأنه أحوط وأتم وأيضا فإن المتمتع إنما يفعل عمرة في حجة ولهذا قال النبي إنه قد ادخل عليكم في حجكم عمرة فهو حاج من حين يحرم بالعمرة بخلاف العمرة المفردة فذلك السعي يجزيء عن عمرته وحجه

مسألة لكن عليه وعلى المتمتع دم لقوله تعالى { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم }

مسألة وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطوف عند فراغه من جميع أموره حتى يكون اخر عهده بالبيت

وجملة ذلك أن الحاج إذا أراد القفول لم ينفر حتى يودع البيت بطواف قالت عائشة في حديثها عن عمرتها فخرجنا حتى إذا فرغت وفرغت من الطواف جئته بسحر قال هل فرغتم قلت نعم فاذن بالرحيل في أصحابه فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى المدينة متفق عليه

وعن ابن عباس قال أمر الناس أن يكون اخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه وعن ابن عباس قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله لا ينفرن أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة

مسألة فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده

مسألة ويستحب له إذا طاف أن يقف في الملتزم بين الركن والباب فيلتزم البيت ويقول اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فأزدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك دراي فهذا أوان إنصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا بيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والاخرة إنك على كل شيء قدير ثم تصلي على النبي

مسألة ومن خرج قبل الوداع رجع إن كان قريبا وإن بعد بعث بدم

مسألة إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء بهذا

وجملة ذلك أن المرأة إذا حاضت بعد طواف الافاضة لم يجب عليها أن تحتبس حتى تودع البيت بل لها أن تخرج وهي حائضة من غير وداع لما روى عن عائشة قالت حاضت صفية بنت حيى بعد ما أفاضت قالت فذكرت حيضها لرسول الله فقال أحابستنا هي قلت يا رسول الله إنها أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الافاضة قال فلتنفر إذا متفق عليه

وفي رواية متفق عليها قالت لما أراد رسول الله أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة قال عقرى حلقى إنك لحابستنا ثم قال لها أكنت أفضت يوم النحر قالت نعم قال فانفري

وفي حديث ابن عباس إلا أنه خفف عن المرأة الحائض

وعنه أيضا أن النبي رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الافاضة رواه أحمد

فإن قيل فقد روى يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوس الثقفي قال سألت عمر بن الخطاب عن المرأة تطوف بالبيت ثم تحيض قال ليكن اخر عهدها الطواف بالبيت قال فقال الحارث كذلك أفتاني رسول الله قال فقال عمر أربت عن يديك سألتني عن شيء سألت عنه رسول الله لكيما أخالف رواه أحمد وأبو داود

قيل الحارث كان قد سمع من النبي أن من حج البيت أو اعتمر فليكن اخر عهده بالبيت واللفظ ظاهر في العموم ثم سأل عمر عن صورة من صور العموم وأفتاه بما يطابق العموم ولم يعلما أن تلك الصورة مخصوصة من هذا اللفظ ولم يذكر الحارث أنه استفى النبي في هذه الصورة بعينها يبين ذلك ما روى في بعض طرقه عن الحارث هذا قال قال رسول الله من حج البيت أو اعتمر فليكن اخر عهده بالبيت فبلغ حديثه عمر فقال له خررت من يديك سمعت هذا من رسول الله فلم تخبرنا به رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حديث غريب

باب أركان الحج والعمرة[عدل]

مسألة أركان الحج الوقوف بعرفة وطواف الزيارة

وجملة ذلك أن أركان الحج هي أبعاضه وأجزاؤه التي لا يتم إلا بها فمن أخل ببعضها لم يصح حجه سواء تركها لعذر أو غير عذر بل لا بد من فعلها بخلاف أركان الصلاة فإنها تجب مع القدرة وتسقط مع العجز وسبب الفرق أنه متى عجز عن أركان الحج أمكنه الستنابة فيما عجز عنه في حياته أو بعد موته بخلاف الصلاة المكتوبة فإنه لا نيابة فيها

وفي هذه الجملة فصول أحدها أن الوقوف بعرفة لا يتم الحج إلا به والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } وكلمة إذا لا تستعمل إلا في الأفعال التي لا بد من وجودها كقولهم إذا احمر البسر فأتني ولا يقال إن أحمر البسر وذلك لأنها في الأصل ظرف لما يستقبل من الأفعال وتتضمن الشرط في الغالب فإذا جوزيء بها كان معناه إيقاع الجزاء في الزمن الذي أضيف إليه الفعل فلا بد من أن يكون الفعل موجودا في ذلك الزمان وإلا خرجت عن أن تكون ظرفا

ومعلوم أن الافاضة من عرفات من أفعال العباد فالإخبار عن وجودها يكون أمرا حتما بإيجادها نحو أن يترك بعض الناس وكلهم الافاضة وصار هذا بمنزلة إذا صليت الظهر فافعل كذا

وقوله { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } الآية قالت عائشة كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفه وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الاسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } وفي لفظ قالت الحمس هم الذين أنزل الله فيهم { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } قالت كان الناس يفيضون من عرفات وكان الحمس يفيضون من المزدلفة يقولون لا نفيض إلا من الحرم فلما نزلت { أفيضوا من حيث أفاض الناس } رجعوا إلى عرفات متفق عليه

وعن جبير بن مطعم قال أضللت بعيرا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة فرأيت رسول الله واقفا مع الناس بعرفة فقلت والله إن هذا لمن الحمس فما شأنه ها هنا وكانت قريش تعد من الحمس متفق عليه

وعن جابر قال كانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عرى فلما أجاز رسول الله من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ويكون منزله ثم فأجاز ولم يعرض حتى أتى عرفات فنزل رواه مسلم

فإن قيل كيف قيل { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } والافاضة من عرفات بعد قوله تعالى { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام }

قيل قد قيل إنه لترتيب الأخبار ومعناه أن الله يأمركم إذا أفضتم من عرفات أن تذكروه عند المشعر الحرام ثم يأمركم أن تفيضوا من حيث أفاض الناس وترتيب الأمر لا يقتضي ترتيب الفعل المأمور به وإنما أمر بهذا بعد هذا لأن الأول أمر لجميع الحجيج والثاني أمر للحمس خاصة ويقال إنه معطوف على قوله { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال } إلى قوله { ثم أفيضوا } ويكون معناه فمن فرض الحج فلا يرفث ولا يفسق ثم بعد فرض الحج يفيض من حيث أفاض الناس ويكون الكلام في بيان المحظورات والمفروضات

فإن قيل لم ذكر لفظ الافاضة دون الوقوف

قيل لأنه لو قال ثم قفوا حيث وقف الناس لظن أن الوقوف بعرفة يجزيء في كل وقت بحيث يجوز تقديمه وأما الافاضة فإنها الدفع بعد تمام الوقوف وقد علموا أن وقت الدفع هو اخر يوم عرفة فإذا أمروا بالافاضة منها علم أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الافاضة وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج فلا يتجاوز ولا يقصر عنها لأن المقصر والمجاوز لا يفيضان منها وأما السنة فما روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء الليثي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله وهو واقف بعرفة فسألوه فأمر مناديا فنادى الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه وأردف رجلا خلفه ينادى بهن رواه الخمسة قال ابن عيينة هذا أجود حديث رواه الثوري

وفي رواية لسعيد من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه

وفي رواية له فمن أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه

وعن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال أتيت رسول الله بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال رسول الله من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وفي رواية لأحمد صحيحة من شهد صلاتنا هذه ووقف بعرفات وفي رواية صحيحة لسعيد من وقف معنا هذا الموقف وشهد معنا هذه الصلاة يعني صلاة الفجر أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه

وفي رواية له أفرح روعك من أدرك افاضتنا هذه فقد أدرك الحج

وأما الإجماع

فصل

وللوقوف بعرفة مكان وزمان فأما حدود عرفات فقد تقدم وأما زمان الوقوف فاليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة وليلة العاشر من ذي الحجة إلى طلوع الفجر وتسمى ليلة المزدلفة وليلة النحر وليلة عرفة فمن طلع الفجر ولم يقف في شيء من عرفة فقد فاته الحج لأن الله قال { فإذا أفضتم من عرفات } وإذا كلمة توقيت وتحديد فأشعر ذلك بأن الافاضة لها وقت محدود إلا أن يقال ولأن النبي قال الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وهذا ذكره في معرض تحديد وقت الوقوف فعلم أن من جاءها ليلا فقد أدرك الحج ومن لم يوافها حتى طلع الفجر فقد فاته الحج

وكذلك قوله من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا والصلاة بالمزدلفة هي أول ما يبزغ الفجر فعلم أن وقت الوقوف قبل ميقات تلك الصلاة ليلا أو نهارا وإنما يكون هذا قبل طلوع الفجر يوم النحر وهذا مما أجمع عليه

وعن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول من لم يقف بعرفة ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج رواه مالك عن نافع عنه

ومن لم يواف عرفة إلا ليلا أجزأه الوقوف ولو لحظة في بعض جوانبها لقول النبي من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك وقوله وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا

ولا دم عليه لأن النبي ذكر أنه يدرك الحج وأنه قد تم حجه وقضى تفثه ولم يذكر أن عليه دما وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز لا سيما في حكم عظيم أردف خلفه من ينادي به في الناس في حجة الوداع

ومن وافاها نهارا فإنه يجب عليه أن يقف إلى الليل كما سيأتي لكن لو لم يقف إلى الليل إما بأن يدفع منها أو يعرض ما يمنع صحة الوقوف من إغماء أو موت فإنه يجزئه إن وقف بعد الزوال

وأما إن وقف قبل الزوال ففيه روايتان إحداهما يجزئه الوقوف في أية ساعة كان من يوم عرفة وليلتها من طلوع فجر يومها إلى طلوع فجر يوم النحر قال اسحق بن منصور قال أحمد إذا كان مريضا أهل من الميقات ثم أغمى عليه بعرفات فلم يقف حتى أصبح فلا حج له فإن أفاق ولو ساعة إلى أن يطلع الفجر من ليل أو نهار فقد تم حجه ويرمي عنه قلت لأحمد إذا عقل عند الميقات فأهل بعرفة ساعة قال قد أجزأ عنه وقال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول كل من وقف بعرفة من ليل أو نهار ولو ساعة فقد تم حجه

وهذا قول أكثر أصحابنا مثل أبي بكر وابن أبي موسى وابن حامد والقاضي وأصحابه قالوا لو وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ونفر منها قبل الزوال أساء وحجه تام وعليه دم

والثانية لا يجزئه إلا بعد الزوال وهو قول ابن بطة وأبي حفص العكبريين فمن لم يقف عندهم بعد الزوال فحجه باطل قال أحمد في رواية عبد الله وأبي الحارث وقد سئل عن الذي يشرد به بعيره بعرفة فقال كل من وطيء عرفة بليل أو نهار بعد أن يقف الناس فقد تم حجه إذا أتى ما يجب عليه ويدخل على قول من قال يجزئه حجه إذا أغمى عليه بعرفة لو أن رجلا أغمى عليه في أول يوم من شهر رمضان حتى انسلخ عنه فلم يأكل ولم يشرب أنه يجزئه صوم رمضان ولا يقضي شيئا من الصلاة

فقد قيد الوقوف المجزيء أن يكون بعد وقوف الناس بها وأول وقت وقوف الناس بعد زوال الشمس وذلك لأن النبي إنما وقف بعد الزوال وهذه السنة المورثة عنه المنقولة نقلا عاما فلو كان قبل الزوال وقت وقوف لوقف فيه ولم ينزل بنمرة وهي خارجة عن المعرف إذ المسارعة إلى العبادة أولى من التأخير

ولأن مواقيت العبادات إنما تتلقى من فعله أو قوله

وإنما وقف بعد الزوال كما رمى جمار أيام منى بعد الزوال وكما صلى الظهر وغيرها من العبادات في مواقيتها والعبادة المفعولة قبل وقتها لا تصح بخلاف المفعولة بعد وقتها

وفي حديث ابن عمر المتقدم إذا كان عشية عرفة باها الله بالحاج فمن لم يقف إلى العشية لم يباه الله به فلا يكون من الحاج

ولأن الرمى المشروع بعد الزوال لا يجوز تقديمه على وقته وإن جاز التأخير عنه فالوقوف أولى وأحرى

ولأن الوقوف عبادة مشروعة عشية اليوم فلا يجوز فعلها قبل الزوال كالظهر والعصر وهذا لأن ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر موقيت الصلوات المكتوبات فجاز أن يجعلها الله ميقاتا للمناسك التي هي من جنس الصلاة بخلاف صدر النهار

ووجع الأول قول النبي من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه وقضاء التفث بالصلاة بمزدلفة وبأن يقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فمن وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض إلى جمع فوقف بها مع الإمام فقد دخل في عموم الحديث ولو كان وقت الاجزاء بعد الزوال لقال ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا بعد الزوال

فإن قيل إنما معناه بعرفة قبل ذلك ليلا فقط أو نهارا إلى الليل لأن المخاطبين قد علموا أن من وقف نهارا وصل الوقوف إلى الليل والشك إنما كان فيمن لم يدركها إلا ليلا فخرج كلامه لبيان ما أشكل بدليل أن الوقوف إلى اخر النهار واجب وتركه موجب للدم والنبي ذكر أنه قد تم حجه وقضى تفثه ولم يذكر دما ومن يكون قد ترك واجبا لا يكون حجه تاما إلا بإخراج الدم

قيل أولا هذا السؤال إنما يصح ممن يقول إن الوقوف بالليل ركن كما قال مالك ولا يختلف المذهب أن من دفع قبل غروب الشمس صح حجه لكن عليه دم كما سيأتي بيانه إن شاء الله وبين ضعف هذا أنه على هذا التقدير يكون الوقت المعتبر هو الليل فقط فكان يكفى أن يقال ووقف بعرفة قبل ذلك في شيء من الليل فلما قال ووقف بعرفة ليلا أو نهارا علم أن كلا منهما وقت للوقوف على انفراد وحج من وقف في أحدهما تام وتفثه مقضى نعم قد يجب عليه دم في بعض الأوقات وليس كل من لم يدرك اخر النهار عليه دم كما سيأتي

وأيضا فقوله في بعض الروايات أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه يبطل هذا التأويل لأن من أفاض نهارا لم يقف إلى الليل وأما الإجماع فقال أبو عبد الله في رواية عبد الله وأبي الحارث قوله الحج عرفة على السلامة فإذا هو عمل ما يعمل الناس من طواف يوم النحر فهو الطواف الواجب لأنه لم يختلف الناس علمنا أنه من لم يطف يوم النحر أنه يرجع حتى يطوف ولو كان قد أتى أهله وذلك مشبه قول النبي من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها فإذا أدرك ركعة أفليس عليه أن يأتي بها على كمالها وما أفسد اخرها أفسد أولها وإنما ذلك على كمالها وكذلك الواقف بعرفة ما لم يأت برمى الجمار وهذه الأشياء فحجه فاسد إذا وطىء قبل رمى الجمار وإن كان قد وقف بعرفة لأن الاحرام قائم عليه وإذا رمى الجمار فقد انتقض احرامه وحل له كل شيء إلا النساء

فصل

ويشترط لصحة كل طواف في الحج والعمرة وفي غير حج وعمرة عشرة أشياء أحدها النية وهي أن يقصد الطواف بالبيت فلو دار حول البيت طالبا لرجل أو متروحا بالمشي ونحو ذلك لم يكن ذلك طوافا كما لو أمسك عن المفطرت ولم يقصد الصوم أو تجرد عن المخيط ولبى ولم يقصد الاحرام وهذا أصل مستقر في جميع العبادات المقصودة لا تصح إلا بنية لقوله سبحانه { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وهذا لم ينو العبادة

الشرط الثاني أن يكون طاهرا من الحدث فلو كان محدثا أو جنبا أو حائضا لم يجز له فعل الطواف رواية واحدة بل هو حرام عليه ولا يجوز أن يؤمر به لأن الأمر بالحرام حرام لما روى ابن عباس عن النبي أن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضى المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن

وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن أبي بكر أنه خرج حاجا مع رسول الله ومعه أسماء بنت عميس فولدت محمد بن أبي بكر فأتى أبو بكر النبي فأمره رسول الله أن يأمرها أن تغتسل ثم تهل بالحج وتصنع ما يصنع الناس إلا أنها لا تطوف بالبيت رواه النسائي وابن ماجه وعن عائشة أنها قالت خرجنا مع رسول الله لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سرف فطمثت فدخل علي رسول الله وأنا أبكى فقال ما يبكيك فقلت والله لوددت أني لم أكن خرجت العام قال ما لك لعلك نفست قلت نعم قال هذا شيء كتبه الله على بنات ادم فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري وذكرت الحديث متفق عليه

وفي رواية لمسلم فاقض ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي وفي رواية لأحمد عن عائشة عن النبي قال الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف

وهذا متواتر في حديث عائشة أنها حاضت لما قدمت مكة منعها النبي من الطواف وأمرها بالإهلال بالحج وطافت لما رجعت من عرفات ثم اعتمرت بعد الصدر من منى

وقد تقدم أيضا في حديث صفية بنت حيي أنها حاضت بعدما أفاضت فقال النبي عقرى حلقي إنك لحابستنا ثم قال لها أكنت أفضت يوم النحر قالت نعم قال فانفري ورخص للحائض أن تنفر من غير وداع ولو كان للحائض سبيل إلى الطواف بجبران أو غير جبران لم يحبس النبي المسلمين من أجلها بل أمرها بالطواف بجبران لو كان جائزا وكذلك لو كان جائزا لم يسقط عنها طواف الوداع بل أمرها به وبجبرانه وعن عائشة أن أول شيء بدأ به النبي حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليه

وعن طاوس عن رجل قد أدرك النبي أن النبي قال إنما الطواف صلاة فإذا طفتم فاقلوا الكلام رواه أحمد والنسائي ورواه الترمذي عن طاوس عن ابن عباس أن النبي قال الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير قال وقد روى عن ابن عباس موقوفا

فقد جعله صلاة ومثل الصلاة إلا في إباحة النطق وهذا يقتضي أنه يساوي الصلاة في سائر الأحكام من الطهارتين والزينة ونحو ذلك إذ لو فارقها في غير الكلام لوجب استثناؤه فإن استثناء هذه الصورة دليل على أنها تدخل في العموم لولا الاستثناء وإذا دخلت هذه الصورة فدخول سائر الصور أوكد

وعلى هذا فالمحدث يمنع منه كما يمنع من الصلاة وأما الجنب فيمنع منه لذلك ولأن الطواف لا يصح إلا في المسجد والجنب ممنوع من اللبث في المسجد إلا أن هذا المانع يزول عنه إذا توضأ للصلاة والحائض تمنع منه لهذين السببين إلا إذا انقطع دمها وتوضأت فإنما تمنع لسبب واحد على وفي قول النبي غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي دليل على أنها ممنوعة منه قبل الاغتسال توضأت أو لم تتوضأ والجنب مثلها في هذه الصورة ولو فرض أن الجنب والحائض يباح لهما المسجد لكن الحائض والجنب دخو يمنعان منها كما يمنعان من الاعتكاف

قال في رواية أبي طالب لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرا والتطوع أيسر ولا يقف مشاهد الحج إلا طاهرا

فصل

فإن طاف على غير طهارة ففيه روايتان إحداهما لا يجزؤه بحال قال في رواية حنبل إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر لم يجزه وقال في رواية أبي طالب إذا طاف محدثا أو جنبا أعاد طوافه وكذلك نقل الأثرم وابن منصور

والثانية يجزؤه في الجملة قال في رواية ابن الحكم وقد سأله عن الرجل يطوف للزيارة أو الصدر وهو جنب أو على غير وضوء قلت إن مالكا يقول يعود للحج والعمرة وعليه هدي قال هذا شديد قال أبو عبد الله أرجو أن يجزءه أن يهريق دما إن كان جنبا أو على غير وضوء ناسيا والوقوف بعرفة أهو من طواف الزيارة وإن ذكر وهو بمكة أعاد الطواف

وفي لفظ إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى يرجع فإنه لا شيء عليه واختار له أن يطوف وهو طاهر وإن وطيء فحجه ماض ولا شيء عليه

فقد نص على أنه يجزؤه إن كان ناسيا ويجب عليه أن يعيد إذا ذكر وهو بمكة فإن استمر به النسيان أهرق دما وأجزأه

قال أبو حفص العكبري لا يختلف قوله إذا تعمد فطاف على غير طهارة لا يجزؤه واختلف قوله في النسيان على قولين أحدهما أنه معذور بالنسيان والاخر لا يجزؤه مثل الصلاة

وكذلك قال أبو بكر عبد العزيز في الطواف قولان أحدهما أنه إذا طاف وهو غير طاهر أن الطواف يجزيء عنه إذا كان ناسيا فإذا وطيء بعد الطواف فقد تم حجه والاخر لا يجزؤه حتى يكون طاهرا فعلى هذا يرجع من أي موضع ذكر حتى يطوف وبه أقول وعلى هذا إذا ذكر وهو بمكة بعد أن وطيء

وذكر القاضي وأصحابه والمتأخرون من أصحابنا المسألة على روايتين في طواف المحدث مطلقا

وقال في رواية الميموني وقد قال له من سعى أو طاف الطواف الواجب وهو على غير طهارة ثم واقع أهله فقال لي مسألة الناس فيها مختلفون وذكر قول ابن عمر وما يقول عطاء وما يسهل فيه وما يقول الحسن وأمر عائشة فقال لها النبي حين حاضت افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت إلا أن هذا أمر قد كتبه الله وقد بليت به نزل عليها ليس من قبلها قلت فمن الناس من يقول عليه الحج فقال نعم كذلك أكبر علمي ومن الناس من يذهب إلى أن عليه دما قال أبو عبد الله أولا واخرا هي مسألة فيها شبة فيها نظر دعني حتى أنظر فيها ومن الناس من يقول وإن أتى بلده يرجع حتى يطوف قلت والنسيان قال النسيان أهون حكما بكثير يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا والرواية الأولى اختيار أصحابنا أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي وأصحابه وقال ابن أبي موسى إن حاضت قبل طواف الافاضة لزم انتظارها حتى تطهر ثم تطوف وإن حاضت بعدما أفاضت لم يجب انتظارها وجاز لها أن تنفر ولم تودع لحديث صفية المتقدم

والشرط الثالث أن يكون طاهرا من الخبث فإن كان حاملا للنجاسة أو ملاقيها في بدنه أو ثيابه أو مطافه فقال في رواية أبي طالب إذا طاف الرجل في ثوب غير طاهر فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر

فإن فعل ذلك فقد ذكر أصحابنا فيه الروايتين في المحدث وهذا إذا كان متعمدا فأما إن كان ناسيا وقلنا تصح صلاته فالطواف أولى وإن قلنا لا تصح صلاته ففي طوافه روايتان ويشترط ها هنا ما يشترط في الصلاة

الشرط الرابع السترة والأصل فيها قوله سبحانه { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى } الايات كلها إلى قوله { خذوا زينتكم عند كل مسجد } قال ابن عباس كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول اليوم يبدوا بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أحله فنزلت هذه الآية { خذوا زينتكم عند كل مسجد } رواه مسلم

وروى أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت كانوا يطوفون عراة إلا أن يعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء

فقد سمى الله سبحانه نزع الثياب فتنة وفاحشة وأمر بأخذ اللباس عند كل مسجد

وعن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان متفق عليه

وتشترط السترة الواجبة في الصلاة حتى ستر المنكب فإن طاف عريان فقد ذكر أصحابنا فيه الروايتين في المحدث أشهرهما أنه لا يجزئه والأخرى عليه دم

الشرط الخامس أن يطوف سبعة أشواط فلو نقص طوافا أو خطوة من طواف لم يجزه قال في رواية الأثرم فيمن ترك طوفة من الطواف الواجب لا يجزئه حتى يأتي بسبع تام لا بد منه

وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان إذا لم يكمل سبعة فهو بمنزلة من لم يطف يكون حراما حتى يرجع فيقضي حجة كانت أو عمرة فقال أحمد ما أحسن ما قال

ونقل عنه أبو طالب وذكر له قول عطاء إذا طاف أكثر الطواف خمسا أو ستا فقال أنا أقول يعيد الطواف قيل له فإن كان بخرسان قال يرجع فإذا بلغ التنعيم أهل ثم طاف ويهدي مثل قول ابن عباس

وقد نقل عنه الميموني فيمن وطيء وقد بقى عليه شوط فالدم قليل ولكن يأتي ببدنة وأرجوا أن يجزءه ولم يذكر إعادة الطواف

الشرط السادس الترتيب هو شيئان أحدهما أن يبتديء بالحجر الأسود فإن ابتدأ بما قبله من ناحية الركن اليماني لم يضره الزيادة وإن ابتدأ بما بعده من ناحية الباب لم يحتسب له بذلك الشوط

الثاني وهو الشرط السابع أن يبتديء بعد الحجر الأسود بناحية الباب ثم ناحية الحجر ثم ناحية الركن اليماني فيجعل البيت عن يساره فلو نكس الطواف فابتدأ بناحية الركن اليماني وجعل البيت عن يمينه لم يجزه

وإن مر على الباب لكن استقبل البيت في طوافه ومشى على جنب قال في رواية حنبل من طاف بالبيت طواف الواجب منكوسا لم يجزه حتى يأتي به على ما أمر الله وسنة النبي فإن طاف كذلك وانصرف فعليه أن يأتي به لا يجزئه

وذلك لأن الله أمر بالطواف وقد فسره النبي بفعله وتلقته الأمة عنه بالعمل المتواتر وفعله إذا خرج إمتثالا لأمر وتفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ذلك الأمر وقد قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

الشرط الثامن الموالاة وهو أن لا يطيل قطعة فإن أطال قطعة لمكتوبة أقيمت أو جنازة حضرت لم يقطع موالاته لأنه فرض يخاف فوته فأشبه خروج المعتكف لصلاة الجمعة

قال في رواية ابن ابراهيم في الرجل يطوف ويرى جنازة يقطع ويصلي عليها ويبني وسئل عن الرجل يطوف بالبيت فيعيا هل يستريح قال نعم قد فعله ابن عمر وابن الزبير طافا واسترحا

فإن أطال فذكر فيها روايتين إحداهما يبني قال في رواية ابن منصور وقد سئل إذا قطع الطواف يبني أو يستأنف قال يبني وقال في رواية حنبل في رجل طاف ستة أشواط وصلى ركعتين ثم ذكر بعد يطوف شوطا ولا يعيد وإن طاف ابتداء فهو أحوط

والثانية يستأنف قال في رواية حرب في أمرأة طافت ثلاثة أشواط ثم حاضت تقيم حتى تطوف قيل له تبني على طوافها قال لا تبتديء وقال في رواية أبي طالب إذا طاف خمسا أو ستا ورجع إلى بلده يعيد الطواف

قال أبو بكر عبد العزيز لو طافت خمسا ثم حاضت بنت وقيل تبتديء وهو اختياري وهذا هو الذي ذكره

وقال القاضي في المجرد وابن عقيل إنه إن قطعه لعذر مثل سبق الحدث فعلى الروايات الثلاث وكذلك النسيان وإن قطعه لغير عذر وأطال إبتدأ وإن لم يطل بنى

الشرط التاسع أن يطوف بالبيت جميعه فلا يطوف في شيء منه لأن الله قال { وليطوفوا بالبيت العتيق } فإن اخترق الحجر في طوافه أو الشاذروان لم يصح

قال أحمد في رواية الأثرم فيمن طاف في الحجر فاخترقه لا يجزؤه لأن الحجر من البيت فإن كان شوطا واحدا أعاد ذلك الشوط وإن كان كل الطواف أعاده

وكذلك نقل حنبل فيمن طاف واخترق الحجر لا يجزؤه ويعيد ونقل حرب كذلك لأن الله أمر بالطواف بالبيت ومن سلك شيئا من البيت في طوافه لم يطف به كله وإنما طاف فيه

قال ابن عباس من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر فإن الله يقول { وليطوفوا بالبيت العتيق } وقد طاف النبي من وراء الحجر رواه الأثرم

وعن عمر قال لو أن الحجر لم يكن من البيت لما طيف به

وعن عائشة قالت الحجر من البيت

وعن الزهري قال سمعت بعض علمائنا يقول إنما حجر الحجر فطاف الناس من ورائه إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت رواهن أحمد

والأصل في ذلك ما روى سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي أن رسول الله قال لها ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم فقلت يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم قال لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت قال عبد الله لأن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله ما أرى رسول الله ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد ابراهيم

وفي رواية قال سمعت رسول الله يقول لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر وعن عروة عن عائشة قالت قال لي رسول الله لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس ابراهيم فإن قريشا حين بنت استقصرت ولجعلت لها خلفا وفي رواية يعني بابا

وعن الأسود عن عائشة قالت سألت رسول الله عن الجدر أمن البيت هو قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال إن قومك قصرت بهم النفقة قلت فما شأن بابها مرتفعا قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن قومك حديث عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وألصق بابه بالأرض وفي رواية الحجر مكان الجدر متفق عليهن

وعن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة أن النبي قال لها يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه والزقته بالأرض ولجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس ابراهيم فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه قال يزيد وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كاسنمة البخت قال جرير ابن حازم فقلت له يعني يزيد أين موضعه فقال أريكه الآن فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان فقال ها هنا قال جرير فحزرت من الحجر ست أذرع أو نحوها رواه البخاري

وعن سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير قال حدثتني خالتي يعني عائشة قالت قال رسول الله يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة رواه مسلم وعن عطاء عن ابن الزبير قال إني سمعت عائشة تقول إن النبي قال لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع ولجعت له بابا يدخل الناس منه وبابا يخرج الناس منه رواه مسلم

وعن الحارث بن عبد الله بن ربيعة أنه سمع عائشة تقول قال رسول الله إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حدثان عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمني لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع رواه مسلم

الشرط العاشر أن يطوف في المسجد الحرام فإن طاف خارج المسجد لم يصح وإن طاف فيه جاز سواء كان بينه وبين البيت حائل مثل زمزم وقبة السقاية أو طاف في الأروقة التي في جوانب المسجد أو طاف قريبا منه هذا قول وعلى هذا القول فالمصحح للطواف الكون في المسجد

ولا فرق بين ما كان مسجدا على عهد رسول الله وبين ما زيد فيه على عهد عمر وبني أمية وبني العباس وقال القاضي في المجرد يجوز الطواف في المسجد وإن حال بينه وبين البيت قبة زمزم وسقايته لأن الحائل في المسجد كلا حائل وإن طاف خارج المسجد لم يجزه لأن الحائل خارج المسجد يقطع حكم المسجد كما لو ائتم بالإمام في المسجد وبينهما سوره وعلى هذا فالمانع وجود الحائل فلو فرض زوال جدار المسجد صحت الصلاة خارجه

وقال ابن عقيل إن تباعد عن البيت من غير عذر لم يمنع الاجزاء لأن هذه عبادة تتعلق بالبيت فلا يؤثر في إبطالها البعد مع مسامتته ومحاذاته كالصلاة

وإن طاف حول المسجد أو حول البيت وبينه وبين البيت جدار اخر احتمل أن لا يجزءه لأنه لا يسمى طائفا بالبيت بل بالمسجد أو الجدار الذي هو حائل ولأن البقعة التي هي محال الطواف معتبرة لقوله خذوا عني مناسككم فلا يجوز أن يجعل غير المطاف مطافا ولأنه لو سعي في مسامته المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه كذلك ها هنا

ووجه الأول قوله تعالى { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } فإنه يقتضي أن بيته معد للطائفين والعاكفين والمصلين وذلك يقتضي أن له أثر في اختصا الفصل الثالث أنه لا ركن إلا الوقوف بعرفه والطواف طواف الزيارة وقد احتلفت عبارة أصحابنا في ذلك

وأصل ذلك أن السعي بين الصفا والمروة هل هو ركن فيه روايتان فإن قلنا ليس بركن فمن أصحابنا من يقول هما ركنان كما ذكره الشيخ

قال أبو الحسن التيمي فرض الحج فرضان لا ثالث لهما روى ذلك عن أحمد المروذي واسحق بن إبراهيم وغيرهم ونقل عنه ابناه وأبو الحارث والفضل بن زياد أنه قال فيمن وقف بعرفة وزار البيت يوم النحر وانصرف ولم يعمل غير ذلك فحجتة صحيحه وعليه دم قال وبهذا أقول

وهذا قول أبي بكر عبد العزيز

قال حرب قيل لأحمد رجل حج فوقف بعرفة ثم زار البيت يوم النحر فمضى على وجهه ولم ينصرف إلى منى ولم يرم الجمار قال عليه دم وقال القاضي وأصحابه وعامة المتأخرين من أصحابنا أركانه ثلاثة بغير خلاف الاحرام والوقوف والطواف

ومن أصحابنا من يحكى ذلك خلافا فيقول الأركان ركنان في قول وثلاثة في قول وأربعة في قول ويعتقد أن المذهب مختلف في الاحرام كاختلافه في السعي

قال ابن أبي موسى وفروض الحج أربعة فروض وهي الأهلال بالحج والوقوف بعرفة وطواف الافاضة والسعي بين الصفا والمروة وروي عنه أن السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب وروي عنه أن فرض الحج فرضان هما الوقوف بعرفة وطواف الافاضة وما عداهما مسنون حتى أنه سئل عن رجل حج فوقف بعرفه وطاف طواف الافاضة وانصرف ولم يأت بغير ذلك فقال عليه دم شاة وحجه صحيح

واعلم أن الاختلاف في الاحرام اختلاف في عبارة وذلك أن الاحرام يعني به شيئان أحدهما قصد الحج ونيته وهذا مشروط في الحج بغير خلاف فإن الحج لا يصح بغير نية بإجماع المسلمين وهذا المعنى هو الغالب على أصول أصحابنا لأن الاحرام ينعقد بمجرد النية

فعلى هذا منهم من يجعل هذا القصد والنية ركنا وهو الغالب على قول الفقهاء المصنفين في المذهب من أصحابنا وهو الجاري على أصول أحمد لأن العمرة عنده للشهر الذي أحرم فيه ومنهم من يجعله شرطا للحج بمنزلة الطهارة للصلاة وهو قول كثير من مصنفي الخلاف من أصحابنا ويشهد له من أصولنا إنعقاده قبل أشهر الحج وسقوط الفرض عن العبد والصبي إذا عتق وبلغ قبل الافاضة من عرفات وإن كان الاحرام قد إنعقد قبل وجوب الحج فإن أركان العبادة لا تفعل قبل وجوبها ولا قبل دخول وقتها

والتحقيق أنه أصل منفرد بنفسه كما أن الحج عبادة مستقلة بنفسها وهو يشبه أركان العبادة من وجه وشروطها من وجه فإنه ركن مستدام إلى اخر العبادة

والمعنى الثاني للاحرام هو التجرد عن المخيط وكشف الرأس واجتناب المحظورات وهذا هو واجب ليس بركن ولا شرط فمن فهم الاحرام هذا المعنى قال إن أركان الحج ركنان ومن فهم المعنى الأول قال أركانه ثلاثة ومن أعتقد الاحرام شرطا قال إن أركانه ركنان فعلى هذا قيل الاحرام شرط وقيل هو ركن وقيل هو واجب على ما بيناه

مسألة وواجباته الاحرام من الميقات

وجملة ذلك أن واجبات الحج هي عبارة عما يجب فعله ولا يجوز تركه إلا لعذر وإذا تركه كان عليه دم يجبر به حجه ويصح الحج بدونه لكن هل يتم الحج قبل إخراج الهدي

فأول الواجبات أن يحرم من الميقات وهو أن ينشيء النية ويعقد الاحرام من الميقات فالواجب هو الابتداء بالاحرام من الميقات وقد يجوز أن يكون أراد أن الواجب هو الاحرام وابتداؤه من الميقات إذا عنى بالاحرام ترك المحظور كما تقدم وذلك لأن النبي قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وهذا خبر معناه الأمر وإلا لزم مخالفته مخبره والأمر يقتضي الوجوب خصوصا في العبادات وإنما قلنا ليس بركن لأن

مسألة والوقوف بعرفة إلى الليل

وجملة ذلك أنه إذا وافى عرفة نهارا لم يجز أن يفيض منها إلى الليل لكن هل يجوز أن يتعمد المكث في غير عرفة إلى الليل ثم يقف بها ليلا مثل أن يمكث بنعمان أو بالحرم أو بنمرة وهل عليه أن يجد في السير إذا خاف فوت النهار وذلك لأن رسول الله وقف بعرفة حتى غابت الشمس كما تقدم ولأن أهل الجاهلية كانوا يفيضون من عرفات إذا اصفرت فسن النبي الوقوف إلى غروب الشمس مخالفة لهديهم وذلك داخل في امتثاله لأمر الله سبحانه بالحج وفي تفسيره للحج المجمل في كتاب الله

والفعل إذا خرج منه مخرج الامتثال والتفسير كان حكمه حكم الأمر وهو داخل في عموم قوله خذوا عني مناسككم وقد روى محمد بن قيس بن مخرمة أن رسول الله خطب يوم عرفة فقال هذا يوم الحج الأكبر إن من كان قبلكم من أهل الأوثان والجاهلية كانوا يفيضون إذا الشمس على الجبال كأنها عمائم الرجال ويدفعون من جمع إذا أشرقت على الجبال كأنها عمائم الرجال فخالف هدينا هدي الشرك رواه أبو داود في مراسيله وفي رواية كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس فلا تعجلوا فإنا نفيض بعد غروبها

وإنما قلنا ليس بركن لقول النبي ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ولحديث الذي وقصته راحلته بعرفات

فصل

لا يجوز له أن يفيض من عرفات قبل غروب الشمس بلا تردد سواء فرض أن الإمام أخطأ السنة فأفاض قبل ذلك أم لا أم لم يكن للموسم امام فإذا غربت الشمس فالسنة أن لا يفيض قبل الإمام إلا أن يخالف الإمام السنة فيقف إلى مغيب الشفق

قال أحمد في رواية المروذي إذا دفع الإمام دفعت معه ولا تفض حتى يدفع الإمام فإن أفاض بعد غروب الشمس قبل الإمام فقال أبو الحارث سألت أحمد هل يجوز لأحد أن يفيض قبل الامام قال إذا أفاض الإمام أفاض معه ويفيض الإمام إذا غربت الشمس وعليه السكينة ويفيض الناس معه قلت فإن أفاض قبل الإمام فقال ما يعجبني قلت فما يجب على من دفع قبل الإمام قال أقل ما يجب عليه دم ثنا يحيى عن ابن جريج عن عطاء إذا دفع قبل أن تغيب الشمس فعليه دم وقال الحسن يرجع فإن لم يرجع فعليه بدنة وقال مالك إذا دفع قبل أن تغرب الشمس فسد حجه قال أحمد بن حنبل إذا دفع قبل غروب الشمس قبل الإمام فعليه دم

وقال في رواية الأثرم وقد سئل عن رجل دفع قبل الإمام من عرفة بعد ما غابت الشمس فقال ما وجدت أحدا سهل فيه كلهم يشدد فيه وما يعجبني أن يدفع قبل الإمام

وممن قال إذا دفع قبل الإمام عليه دم الخرقي وأبو بكر

وقال أكثر المتأخرين من أصحابنا إنما الدم على من دفع قبل غروب الشمس وجعل هؤلاء قوله دفع قبل بمعنى دفع قبل غروب الشمس لأن الإمام إنما يدفع بعد الغروب وحمل القاضي رواية الأثرم الصريحة على الاستحباب لأنه قال في رواية حرب إذا دفع من عرفة قبل غروب الشمس يهريق دما وقال أيضا في رواية الأثرم مالك يقول إذا دفع قبل غروب الشمس فسد حجه وهذا شديد والذي نذهب عليه دم

فإن كان له عذر في الافاضة قبل غروب الشمس مثل أن ينسى نفقته بمكان اخر فقال أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يقف بعرفة مع الإمام من الظهر إلى العصر ثم يذكر أنه نسى نفقته بمنى قال إن كان قد وقف بعرفة فأحب إلى أن يستأذن الإمام يخبره أنه نسى نفقته فإذا أذن له ذهب ولا يرجع قد وقف { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } وهم معه على أمر جامع وإن كان لم يقف بعرفة يرجع فيأخذ نفقته ويرجع إلى عرفة فيقف بها ومن وقف بعرفة من ليل أو نهار قبل طلوع الفجر فقد تم حجه فهذا يرجع فيقف

فصل

ولو وقف قبل الزوال ثم خرج ثم رجع بعد الزوال فقد أحسن وإن خرج بعد الزوال إلى عرفة ليصلي بها ويخطب وإن وقف بعد الزوال ثم أفاض من عرفه ثم رجع فقال القاضي وابن عقيل وكثير من أصحابنا إن عاد قبل الغروب ووقف إلى غروب الشمس فلا دم عليه وإن عاد بعده فعليه دم وخرج ابن عقيل إحتمالا بأن عليه دما مطلقا ويحتمله كلام أحمد لأنه قال إذا دفع قبل الإمام فعليه دم ولم يفرق بين أن يعود أو لا يعود مع ذكر التفرقة عن الحسن

وذكر القاضي في خلافه أنه لا دم عليه إذا عاد مطلقا وقد ذكره أحمد عن الحسن لأنه قد جمع بين الليل والنهار

مسألة والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل

وجملة ذلك أن الوقوف بمزدلفة في الجملة واجب تارة يعبر عنه أحمد بالوقوف بمزدلفة وتارة يعبر بالمبيت بمزدلفة لقوله سبحانه { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم } والمشعر الحرام مزدلفة كلها كما تقدم وإن أريد به نفس قزح فقد أمر بالذكر عنده وذلك يحصل بالوقوف فيما حوله بدليل قول النبي هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر

وأيضا فإن النبي وقف بها وقال خذوا عني مناسككم وقال هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف كما قال هذا الموقف وعرفة كلها موقف

فإن طلعت الشمس ولم يقف بالمزدلفة فعليه دم وحجه صحيح

قال أحمد في رواية ابن القاسم ليس أمر جمع عندي كعرفة ولا أرى الناس جعلوها كذلك

وقال صالح سألت أبي عن رجل فاته الوقوف بجمع وقد وقف بعرفة ومر بجمع بعد طلوع الشمس قال عليه دم

وقال أبو طالب سألت أحمد عن حديث عروة الطائي من صلى معنا صلاة الصبح وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجة قال هذا شديد قلت فكيف يصنع من أتى عرفات ولم يشهد جمعا مع الإمام قال هذا أحسن حالا ممن لم يجئها

وقد رخص رسول الله للضعفة أن يتعجلوا بليل وصلى عمر رضوان الله عليه وجعل ينتظر الأعرابي وقد جاء الأعرابي قلت فيجزؤه إذا أتى عرفة ثم لم يدرك جمعا قال هذا مضطر أرجو أن يجزءه لأن النبي قدم الضعفة ولم يشهدوا معه قلت أليس من لم يقف بجمع عليه دم قال نعم عليه دم إذا لم يقف بجمع عليه دم لكن يأتي جمع فيمر قبل الإمام قلت قبل الإمام يجزؤه قال نعم قد قدم النبي الضعفة

وقال حنبل قال عمي من لم يقف غداة المزدلفة ليس عليه شيء لأن النبي قدم الضعفة ولا ينبغي له أن يفعل إلا أن يكون معه ضعفة أو غلمة وعليه أن يبيت ليلة المزدلفة وإن لم يبت فعليه دم وسئل عمن لم يأت جمع قال ليس عليه شيء إذا أخطأ الطريق أو كان جاهلا فليس عليه شيء إذا لم ينزل وهو قول الحسن رضي الله عنه

وقال حرب قلت لأحمد رجل أتى عرفة قبل طلوع الفجر قال حجه جائز إذا وقف بعرفة قبل طلوع الفجر قيل فإن لم يقف بجمع جائز وأحكام جمع مضطربة تتخلص في مسائل

الأولى أن الوقوف بها واجب في الجملة لما تقدم

الثانية أنه ليس بركن فمن فاته الوقوف بها حتى طلعت الشمس لعذر صح حجه وإن تعمد ترك اتيانها أو سلك إلى منى غير طريقها فكلامه يقتضي روا ينظر ألفاظ الأحاديث وذلك لأن النبي لما سألوه وهو واقف بعرفة كيف فقال الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ومعلوم أنه لو كان الحج يفوت بفوات المزدلفة لما قال الحج عرفة بل قال الحج عرفة ومزدلفة

وقوله من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج يدل على أمن الفوات لأن من أدرك العبادة لا تفوته البتة ولو كان ترك الوقوف بمزدلفة يفوت الحج لم يكن الواقف بعرفة مدركا وهذا كقوله من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر نعم يمكن أن يوجد بعد الإدراك ما يبطل العبادة ولا يبطل الحج إلا الوطء فأما ترك واجب مؤقت يكون تركه فواتا للحج فلا ألا ترى أنه لما أراد أن يبين ما به يتم الحج قال من شهد معنا هذه الصلاة ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فجعل الوقوف بمزدلفة بعد التعريف به يتم الحج ويقضي التفث إذ لم يبق بعده إلا التحلل برمي جمرة العقبة وما بعده فعلم بهذين الحديثين أنه بالوقوف بعرفة يدرك الحج ويؤمن فواته فلو كان بعده ركن مؤقت لم يدرك ولم يؤمن الفوات وبالوقوف بمزدلفة يتم الحج ويقضي التفث وأيضا ما احتج به أحمد من إجماع الناس حيث قال ليس أمره عندي كعرفة ولا أرى الناس جعلوها كذلك فذكر أنه لم ير أحدا من الناس سوى بينهما مع معرفته لمذاهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الفتوى

وعن ابن عمر قال من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج وإن لم يدرك الموقف بجمع

وعن ابن عباس قال الحج عرفات والعمرة لا يجاوز بها البيت ومن لم يحل عند البيت فلا عمرة له

الثالثة أن من فاته الوقوف بها والمبيت فعليه دم هذا هو المذهب المنصوص في رواية صالح وغيره

ويحتمل كلامه في رواية حنبل وأبي طالب إذا تركها لعذر لا شيء عليه

وخرج القاضي وابن عقيل فيمن لم يمر بها حتى طلعت الشمس أو أفاض منها أول الليل لا شيء عليه تخريجا من إحدى الروايتين في المبيت بمنى لأن المبيت ليس بمقصود لنفسه وإنما يقصد للوقوف في غداتها وذلك ليس بواجب فما يقصد له أولى

وهذا التخريج فاسد على المذهب باطل في الشريعة فإن بين الوقوف بمزدلفة والمبيت بمنى من المباينة في الكتاب والسنة ما لا يجوز معه الحاق أحدهما بالاخر إلا كالحاق الوقوف بين الجمرتين بالوقوف بعرفة

وقولهم ليس بمقصود قد منعه من يقول إن الوقت يمتد إلى طلوع الفجر

والتحقيق أن المقصود هو الوقوف بالمشعر الحرام ووقته من أواخر الليل إلى طلوع الشمس كما سيأتي

الرابعة أنه يفوت وقتها بطلوع الفجر فمن لم يدركها قبل ذلك فعليه دم هذا هو الذي ذكره القاضي وعامة أصحابنا بعده لقول أحمد وعليه أن يبيت بالمزدلفة فإن لم يبت فعليه دم لأن الواجب هو المبيت بالمزدلفة والمبيت إنما يكون بالليل كالمبيت بمنى فإذا طلع الفجر ذهب وقت المبيت وأصحاب هذا القول لا يرون الوقوف بالمزدلفة واجبا وإنما الواجب عندهم المبيت بها ولا يرون الوقوف غداة جمع من جنس الواجب بل من جنس الوقوف بين الجمرتين وهذا القول في غاية السقوط لمن تدبر الكتاب والسنة ونصوص الإمام أحمد والعلماء قبله

ونقل عنه صالح في رجل فاته الوقوف بجمع وقد وقف بعرفة ومر بجمع بعد طلوع الشمس قال عليه دم

ونقل عنه المروذي إذا وقف بعرفة فغلبه النوم حتى طلعت الشمس عليه دم فأوجب الدم بفوات الوقوف بها إذا طلعت الشمس

وكذلك قال في رواية أبي طالب إذا لم يقف بجمع عليه دم ولكن يأتي جمع فيقف قبل الإمام ويجزءه فجعل الموجب للدم عدم الوقوف فإذا وقف مع الإمام أو قبله فلا دم عليه وكذلك احتج بحديث عمر لما انتظر الأعرابي وإنما جاء بعد طلوع الفجر وعلى هذا إذا لم يقف قبل طلوع الفجر فعليه أن يقف بعد طلوعه وهذا هو الصواب أن وقت الوقوف لا يفوت إلى طلوع الشمس فمن وافاها قبل ذلك فقد وقف بها لأن النبي وقف بها وأفاض قبيل طلوع الشمس وهذا الوقوف المشروع في غداتها هو المقصود الأعظم من الوقوف بمزدلفة وبه يتم امتثال قوله { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الآية وإليه الإشارة بقوله هذا هو الموقف وجمع كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر وهذا نظير الوقوف عشية عرفة وأحد الموقفين الشريفين فكيف لا يكون له تأثير في الوجوب وجودا وعدما أم كيف لا يكون هذا الزمان وقتا للنسك المشروع بمزدلفة

وأيضا فإن عروة بن مضرس أتى النبي وهو بمزدلفة حين خرج لصلاة الفجر وقال له النبي من أدرك معنا هذه الصلاة ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه

وهذا نص في مزدلفة تدرك بعد طلوع الفجر كما تدرك قبل الفجر لأن هذا السائل إنما وافاها بعد طلوع الفجر وأخبره النبي بقضاء حجه ولم يخبره أن عليه دما وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولا يصح أن يقال فلعله دخل فيها قبل الفجر ولأن النبي أخبر أن من أدرك الصلاة والموقف بجمع ووقف قبل ذلك بعرفات فقد تم حجه ولم يذكر دما ولا غيره ولم يشترط إدراك مزدلفة قبل الفجر بل نص على الإكتفاء بإدراك الوقوف مع الناس

وفي لفظ من أدرك افاضتنا هذه والافاضة قبيل طلوع الشمس فأين يذهب عن البيان الواضح من النبي

ولأن من أدرك عرفة قبيل الفجر فمحال أن يدرك المزدلفة تلك الليلة فلو كان هذه المدرك لعرفة قد فاتته المزدلفة وعليه دم لم يصح أن يقال من أدرك عرفة أدرك الحج مطلقا فإنه قد فاته بعض الواجبات بل أعظم الواجبات ولذلك أصحاب رسول الله والتابعون بعده صرحوا بأن من طلع عليه الفجر بعرفة فقد أدرك الحج من غير ذكر لدم ولا تفويت الوقوف بالمزدلفة

وأيضا فايجاب النسك باسم المبيت بمزدلفة لم ينطق كتاب ولا سنة ولا ذكره الصحابة والتابعون بل الذي في كتاب الله قوله { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } وهذا يقتضي التعقيب لقوله { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } فمن أفاض من عرفات عند طلوع الفجر يذكر الله إذا أفاض بعد طلوع الفجر بنص الآية

وأيضا فإن الله أمر كل مفيض من عرفات بذكره عند المشعر الحرام فلو كان وقت هذا الواجب يفوت بطلوع الفجر لم يمكن كل مفيض امتثال هذا الأمر

وأيضا فإن وقت التعريف يمتد إلى طلوع الفجر فلا بد أن يكون عقبيه وقت للمشعر الحرام لئلا يتداخل وقت هذين النسكين

وأما السنة فإن النبي الوقوف بالمزدلفة وشهود صلاة الصبح والوقوف معه وإنما جاء المبيت بمزدلفة تبعا لأن الوقوف بعد الفجر وإنما يكون ذلك بعد المبيت فكيف يكون المقصود تبعا والتبع مقصودا

وأيضا فما روى إبراهيم عن الأسود أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب وهو بجمع بعدما أفاض من بعرفات فقال يا أمير المؤمنين قدمت الآن فقال أما كنت وقفت بعرفات قال لا قال فأت عرفة وقف بها هنيهة ثم أفض فانطلق الرجل وأصبح عمر بجمع وجعل يقول أجاء الرجل فلما قيل قد جاء أفاض رواه سعيد بإسناد صحيح واحتج به أحمد

فهذا رجل إنما أدرك الناس قبل الافاضة من جمع لأن مجيئه إلى مزدلفة قبل التعريف لا أثر له فإن مزدلفة إنما يصح المبيت والوقوف بها بعد عرفة ومع هذا لم يأمره عمر بدم بل انتظره ليقف مع الناس ولو كان وقت الوجوب قد ذهب لما كان لانتظاره معنى

وأيضا فإن الوقوف بالمزدلفة بعد الوقوف بعرفة بنص القرآن والسنة والعبادات المتعاقبة لا يجوز دخول وقت إحداهما في وقت الأخرى كأوقات الصلوات ووقت عرفة يمتد إلى طلوع الفجر فلو كان وقت مزدلفة ينتهي إلى ذلك الوقت لكان وقت مزدلفة بعض وقت عرفة وذلك لا يجوز

وأما قولهم المبيت بمزدلفة واجب

قلنا هذا غير مسلم فإن من أدركها في النصف الثاني أو قبيل طلوع الفجر لا يسمى بائتا بها ألا ترى أن المبيت بمنى لما كان واجبا لم يجز أن يبيت بها لحظة من اخر الليل حتى يبيت بها معظم الليل نعم من أدركها أول الليل فعليه أن يبيت بها إلى اخر الليل لأجل أن الوقوف المطلوب هو في النصف الاخر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وصار هذا مثل الوقوف الواجب بعرفة هو اخر النهار فإذا نزلوا بنمرة أقاموا إلى نصف النهار لانتظار الوقوف لا لأن النزول بنمرة هو المقصود ولو تأخر الانسان إلى وقت الوقوف أجزأ كذلك هنا

الخامسة من وافاها أول الليل فعليه أن يبيت بها بمعنى أن يقيم بها لا يجوز له الخروج منها إلى اخر الليل

قال أحمد في رواية حنبل وعليه أن يبيت بمزدلفة وإن لم يبت فعليه دم

ثم إن كان من أهل الأعذار مثل النساء والصبيان والمرضى ومن يقوم بهم فله الدفع منها في اخر الليل من غير كراهة كما تقدم

وأما غيرهم فالسنة له أن يقيم إلى أن يقف بعد طلوع الفجر

وفي الوقت الذي يجوز الدفع فيه روايتان إحداهما يجوز الدفع بعد نصف الليل قال حرب قلت لأحمد رجل خرج من المزدلفة نصف الليل فأتى منى وعليه ليل يرمي الجمار قال نعم أرجو أن لا يكون به بأس قلت لأحمد فإنه مضى من حتى أتى مكة فطاف طواف الزيارة قبل أن يطلع الفجر قال لا يمكنه أن يأتي مكة بليل

ولعل حربا سأل أحمد عن هاتين المسألتين في وقتين لأن في أول المسألة أنه أباح الافاضة نصف الليل وفي اخرها قال لا يجوز الخروج من جمع حتى يغيب القمر وبينهما زمن جيد وقال عنه في موضع اخر وقد سئل عن الافاضة من جمع من غير عذر فقال أرجو إلا أنه قال في وجه السحر وهذا قول القاضي ومن بعده من أصحابنا لما روى عن عائشة قالت أرسل النبي بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله تعني عندها رواه أبو داود

وفي رواية لابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم سلمة قالت قدمني النبي فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة قالت فرميت الجمرة بليل ثم مضيت إلى مكة فصليت بها الصبح ثم رجعت إلى منى

قالوا ومن المنزل إلى مكة نحو من سبعة أميال أو أكثر ومن موقف الإمام بعرفة إلى باب المسجد الحرام بريد اثنا عشر ميلا

ومن يسير إلى منى ويرمي الجمرة ويطوف للافاضة ثم يصلي الصبح لا يقطع سبعة أميال إلا أن يكون أفاض بليل

ولأن أكثر الشيء يقوم مقام جميعه فإذا بات أكثر الليل بالمزدلفة صار في حكم من بات جميعها لما رخص النبي في الافاضة منها قبل طلوع الفجر

فعلى هذا العبرة بنصف الليل المنقضي بطلوع الفجر أو بطلوع

والرواية الثانية لا تجوز الافاضة قبل مغيب القمر وانما يغيب قبل الفجر بمنزلتين من منازل القمر وهما أقل من ساعتين

قال في رواية حرب أيضا لا يجوز أن يخرج من جمع حتى القمر وأكثر نصوصه على هذا لأن الذي في الأحاديث الصحيحة أن النبي أرخص للضعفة أن يفيضوا من جمع بليل ولم يؤقته بل إنما قدمهم في وجه السحر

وكان ابن عمر يقدم ضعفة أهله فيقومون عند المشعر الحرام بالمزدلفة فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع بهم فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله متفق عليه

ولم يجيء توقيت في حديث إلا حديث أسماء رواه عبد الله الهر مولاها أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلى فصلت ساعة ثم قالت يا بني هل غاب القمر قلت لا فصلت ساعة قالت يا بني هل غاب القمر قلت نعم قالت فارتحلوا فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها يا هنتهاه ما أرانا إلا قد غلسنا قالت يا بني إن رسول الله أذن للظعن متفق عليه

فهذه أسماء قد روت الرخصة عن رسول الله وجعلتها مؤقتة بمغيب القمر إذ كانت هي التي روت الرخصة وليس في الباس شيء مؤقت أبلغ من هذا وسائر الأحاديث لا تكاد تبلغ هذا الوقت وحديث أم سلمة لا يخالفه فإن ستة أميال تقطع في أقل من ثلاث ساعات بكثير بل في قريب من ساعتين فإذا قامت بعد مغيب القمر أدركت الفجر بمكة ادراكا حسنا

وأما طوافها وعلى هذا فيكون المبيت واجبا إلى أن يبقى سبعا الليل إذا جعل اخره طلوع الشمس وذلك أقل من الثلث ولا يصلون إلى جمع إلا بعد أن يمضي شيء من الليل فتكون الافاضة من جمع جائزة إذا بقى من وقت الوقوف الثلث وتقدير الرخصة بالثلث له نظائر في الشرع والتقدير بالأسباع له نظائر خصوصا في المناسك فإن أمر الأسباع فيه غالب فيجوز أن يكون الوقوف بمزدلفة مقدرا بالأسباع

فصل

وهل يجب هذا المبيت على أهل السقاية والرعاء قال

المسألة السادسة أن من وافاها بعد جواز الافاضة منها إما بعد منتصف الليل أو بعد مغيب القمر أو بعد طلوع الفجر على ما مضى أجزأه ذلك ولا دم عليه وسواء نزل بها أو لم ينزل

قال في رواية أبي الحارث فيمن أفاض من جمع بليل قبل طلوع الفجر فقال إذا نزل بها أو مر بها فأرجو أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله تعالى

وقال أبو طالب قلت أليس من لم يقف بجمع عليه دم قال نعم إذا لم يقف بجمع عليه دم لكن يأتي جمع فيمر قبل الإمام قلت قبل الإمام يجزؤه قال نعم قد قدم النبي الضعفة المسألة السابعة من لا عذر له فإنه يجوز أن يخرج منها قبل طلوع الفجر ويكون وقوفه الواجب مكثه بها قبل ذلك والمستحب وقوفه عند قزح قبل ذلك هذا هو المذهب وقد نص عليه في رواية الجماعة

قال في رواية حنبل من لم يقف غداة المزدلفة ليس عليه شيء

وقال في رواية أبي طالب يأتي جمع فيقف قبل الإمام يجزؤه وقد تقدم نصه في رواية حنبل وأبي الحارث

وقال الأثرم قيل لأبي عبد الله يدفع من مزدلفة قبل الإمام قال المزدلفة عندي غير عرفة وذكر حديث ابن عمر أنه دفع قبل ابن الزبير قيل لأبي عبد الله كأن سنة المزدلفة عندك غير سنة عرفة قال نعم واحتج على ذلك بأن النبي قدم الضعفة ولم يشهدوا معه الموقف بجمع ولو كان الوقوف بالغداة واجبا لما سقط عن الظعن ولا غيرهم كالوقوف بعرفة إلى غروب الشمس وكرمي الجمار وغير ذلك من الواجبات ولأنهم من حين يدخلون إلى المزدلفة فهم في الموقف بالمشعر الحرام إلى أن يخرجوا منها فجاز التعجيل منها لطول المقام بها رخصة وتخفيفا بخلاف عرفات فإن الوقوف بها ليس بطويل

ولأن الوقوف بالمزدلفة ليس بمحدود المبتدأ فإن الناس يجيئون اليها على قدر سيرهم فجاز أن لا يكون محدود المنتهي فيخرجون منها كذلك بخلاف عرفات يدخلونها وقت الزوال ويخرجون منها بعد الغروب وهذا لأنه لما لم يتقيدوا بالإمام في مبتدأ الوقوف بمزدلفة لم يتقيدوا به في منتهاه وعرفة بخلاف ذلك

وأيضا فإن عرفات كان المشركون يتعجلون منها فسن لنا مخالفتهم بايجاب التأخير إلى غروب الشمس وكانوا يتأخرون بالمزدلفة إلى طلوع الشمس فسن لنا التعجيل منها قبل ذلك مخالفة لهم فجاز أن يوسع وقت التعجيل وأن يفيض قبل الإمام لأن ذلك أبعد عن التشبه بهدي المشركين وهذا معنى قول أحمد سنة عرفة غير سنة المزدلفة

وقد أجاب أحمد عن قول النبي من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا حتى تطلع الشمس فقد تم حجه وقضى تفثه بأن منطوق الحديث لا اشكال فيه وأما مفهومه فليس على عمومه إذ لا يجوز أن يكون معناه من لم يصل معنا ويقف إلى طلوع الشمس لم يتم حجه لأن النبي قدم الضعفة ولم يصلوا معه ولم يقفوا وعمر رضي الله عنه انتظر الأعرابي بين ظهراني المسلمين حتى جاء ولم يصل والناس يرون ذلك ولم ينكر أحد عليه فوت الصلاة وذلك لأن هذا مفهوم منطوق خرج جوابا عن سؤال سائل فإن عروة بن مضرس كان قد أدرك مع النبي الصلاة والوقوف فذكر النبي حكم من هو في حاله أن حجه تام ومثل هذا قد لا يكون له مفهوم لأن التخصيص بالذكر لأجل حال السائل ومنه فائدة أخرى وهو أن من أدرك الصلاة فإنه يكون قد أدرك الوقوف بعرفة قبل ذلك بخلاف من لم يدرك الصلاة فإنه قد لا يكون دخل عرفة إلا بعد الفجر

وفيه أيضا وجوب الوقوف مع الإمام على من لم يقف قبل طلوع الفجر على ما ذكرناه فيما تقدم

ويتوجه وجوب الوقوف بعد الفجر لغير أهل الأعذار لما روت عائشة قالت كانت سودة أمرأة ضخمة ثبطة فاستأذنت رسول الله أن تفيض من جمع بليل فأذن لها فقالت عائشة فليتني كنت استأذنت رسول الله كما استأذنته سودة وكانت عائشة إلا مع الإمام

وفي رواية وددت أني كنت أستأذنت رسول الله كما استأذنته سودة فأصلى الصبح بمنى فأرم الجمرة قبل أن يأتي الناس فقيل لعائشة فكانت سودة استأذنته قالت نعم إنها كانت ثقيلة ثبطة فاستأذنت لها رسول الله فأذن لها وفي رواية استأذنت سودة رسول الله ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل حطمة الناس وكانت أمرأة ثبطة يقول القاسم والثبطة الثقيلة قالت فأذن لها فخرجت قبل دفعه وحبسن حتى أصبحنا فدفعنا بدفعة ولأن أكون استأذنت رسول الله كما استأذنته سودة فأكون أدفع بإذنه أحب إلى من مفروح به متفق عليه

فلو كان الإذن في الدفع قبل الإمام عاما للناس لم تستأذنه عائشة لسودة ولو فهمت وهي السائلة له أن إذنه لسودة إذن لكل الناس لم تتأسف على أنها لم تستأذنه لنفسها وهي أعلم بمعنى ما سألته وما أجابها وإنما كانت الرخصة مقصورة على ذي العذر فخشيت عائشة أن لا تكون هي من جملة أولى الأعذار فبنت على الأصل

وأيضا قول ابن عمر أرخص في أولئك رسول الله وفي لفظ لضعفة الناس وقول أسماء إن رسول الله أذن للظعن كل دليل على أن الإذن خاص بالظعن وأن المعرف المستقر بينهم أنه لا يجوز إفاضة أحد حتى يفيض الإمام حتى رويت الرخصة في الضعفاء ولا يلزم من الأذن للضعفة الأذن لغيرهم لأن تخصيص النبي وأصحابه لهم بالذكر والأذن من بين سائر الناس دل على أن حكم غيرهم بخلاف ذلك

ولأن الأصل وجوب اتباعه في جميع المناسك بقوله اخذوا عنى مناسككم لا سيما وفعله خرج إمتثالا لقوله { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } والفعل إذا خرج إمتثالا لأمر كان بمنزلته والأمر للوجوب ولا يجوز أن يقال فالذكر ليس بواجب لأن أمر الله في كتابه للوجوب لا سيما في العبادات المحضة وهناك ذكر واجب بالإجماع وهو صلاة الفجر بمزدلفة على أنه يحتاج من قال إن الذكر لا يجب إلى دليل

مسألة والسعي

يعني به بين الصفا والمروة

وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيه فروى عنه أنه ركن لا يتم الحج والعمرة إلا به قال في رواية الأثرم فيمن انصرف ولم يسع يرجع فيسعى وإلا فلا حج له

وقال في رواية ابن منصور إذا بدأ بالصفا والمروة يرجع قبل البيت لا يجزئه

وقال في رواية أبي طالب في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن يسعى فسدت عمرته وعليه مكانها ولو طاف وسعى ثم وطيء قبل أن يحلق أو يقصر فعليه دم إنما العمرة الطواف والسعي والحلاق

وروى عنه أنه سنة قال في رواية أبي طالب فيمن نسى السعي بين الصفا والمروة أو تركه عامدا فلا ينبغي له أن يتركه وأرجو أن لا يكون عليه شيء

وقال في رواية الميموني السعي بين الصفا والمروة تطوع والحاج والقارن والمتمتع عند عطاء واحد إذا طافوا ولم يسعوا

وقال في رواية حرب فيمن نسى السعي بين الصفا والمروة حتى أتى منزله لا شيء عليه

وقال القاضي في المجرد وغيره هذا واجب يجبره دم هذا هو الذي ذكره الشيخ في كتابه

فمن قال إنه تطوع احتج بقوله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } فأخبر أنهما من شعائر الله وهذا يقتضي أن الطواف بهما مشروع مسنون دون زيادة على ذلك إذ لو أراد زيادة لأمر بالطواف بهما كما قال { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } ثم قال { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ورفع الجناح وإن كان لإزالة الشبهة التي عرضت لهم في الطواف بهما كما سيأتي إن شاء الله فإن هذه الصيغة تقتضي إباحة الطواف بهما وكونهما من شعائر الله يقتضي استحباب ذلك فعلم أن الكلام خرج مخرج الندب إلى الطواف بهما واماطة الشبهة العارضة فأما زيادة على ذلك فلا ثم قال تعالى { ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } وإذا ندب الله إلى أمر وحسنه ثم ختم ذلك بالترغيب في التطوع كان دليلا على أنه تطوع وإلا لم يكن بين فاتحة الآية وخاتمتها نسبة

وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ أن لا يطوف بهما

وعن عطاء في قراءة ابن مسعود أو في مصحف ابن مسعود أن لا يطوف بهما رواهما أحمد في الناسخ والمنسوخ وعن أنس قال كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة حتى نزلت { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } متفق عليه لفظ مسلم ولفظ البخاري عن عاصم بن سليمان قال سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة قال كنا نرى من أمر الجاهلية فلما كان الاسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله } فذكر إلى بهما

فهذا أنس بن مالك قد علم سبب نزول الآية وقد كان يقول إنه تطوع فعلم أنه فهم من الآية أنها خرجت مخرج الندب والترغيب في التطوع

وأما من قال إنها واجبة في الجملة وهو الذي عليه جمهور أصحابنا فإن الله قال هما { من شعائر الله } وكل ما كان من شعائر الله فلا بد من نسك واجب بهما كسائر الشعائر من عرفة ومزدلفة ومنى والبيت فإن هذه الأمكنة جعلها الله يذكر فيها اسمه ويتعبد فيها له وينسك حتى صارت أعلاما وفرض على الخلق قصدها واتيانها فلا يجوز أن يجعل المكان شعيرة لله وعلما له ويكون الخلق مخيرين بين قصده والأعراض عنه لأن الأعراض عنه مخالف لتعظيمه وتعظيم الشعائر واجب لقول الله تعالى { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } والتقوى واجبة على الخلق وقد أمر الله بها ووصى بها في غير موضع وذم من لا يتقي الله ومن استغنى عن تقواه توعده وإذا كان الطواف بهما تعظيما لهما وتعظيمهما من تقوى القلوب والتقوى واجبة كان الطواف بهما واجبا وفي ترك الوقوف بهما ترك لتعظيمهما كان ترك الحج بالكلية ترك لتعظيم الأماكن إلى شرفها الله وترك تعظيمها من فجور القلوب بمفهوم الآية

وأما قوله { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فنفس تدل على أنه لم يقصد بذلك مجرد إباحة الوقوف بحيث يستوي وجوده وعدمه لأنهما جعلهما من شعائر الله ثم قال { فلا جناح عليه } والحكم إذا تعقب الوصف بحرف الفاء علم أنه علة فيكون كونهما من شعائر الله موجبا لرفع الحرج ثم اتبع ذلك بما يدل على الترغيب وهو قوله { ومن تطوع خيرا } الآية نعم هذه الصفة لا تستعمل إلا فيما يتوهم حظره كقوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } وقوله { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقوله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } الآية فإن المحرم للميتة موجود حال الاضطرار والموجب للصلاة موجود حال السفر كذلك هنا كانت هاتان الشعيرتان قد انعقد لهما سبب من أمور الجاهلية خيف أن يحرم التطوف بهما لذلك وقد تقدم عن أنس أنهم كانوا يكرهون الطواف بهما حتى أنزل الله هذه الآية

وعن الزهري عن عروة قال سألت عائشة فقلت أرأيت قول الله عز وجل { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة قالت بئس ما قلت يا ابن أخي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح أن لا يطوف بهما ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة فلما سألوا رسول الله عن ذلك فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة فأنزل الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية قالت عائشة رضي الله عنها وقد سن رسول الله الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال إن هذا لعلم ما كنت سمعته ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل لمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة فلما ذكر طواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القران قالوا يا رسول الله كنا نطوف بالصفا وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة فأنزل الله عز وجل { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية

قال أبو بكر فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلاهما في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الاسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت متفق عليه

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال قلت لعائشة وأنا حديث السن أرأيت قول الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة كلا لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الاسلام سألوا رسول الله فأنزل الله { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } متفق عليه وفي لفظ لمسلم إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة وفي لفظ له إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في أبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة

وقد روى الأزرقي عن ابن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب بين الصفا صنما يقال له نهيك مجاود الريح ونصب على المروة صنما يقال له مطعم الطير ونصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا وهي التي كانت الأزد وغسان يحجونهما ويعظمونهما فإذا طافوا بالبيت وأفاضوا من عرفات وفرغوا من منى لم يحلقوا إلا عند مناة وكانوا يهلون لها ومن أهل لها لم يطف بين الصفا والمروة لمكان الصنمين الذين عليهما نهيك مجاود الريح ومطعم الطير فكان هذه الحى من الأنصار يهلون لمناة قال وكانت مناة للأوس والخزرج وغسان من الأزد ومن كان بدينها من أهل يثرب وأهل الشام وكانت على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد وذكره بإسناده عن ابن السائب قال كانت صخرة لهذيل وكانت بقديد

قد تبين أن الآية قصد بها رفع ما توهم الناس أن الصفا والمروة من جملة الأحجار التي كان أهل الجاهلية يعظمونها

أما الأنصار في الجاهلية فكانوا يتركون الطواف بهما لأجل الصنم الذي كانوا يهلون له ويحلون عنده مضاهاة بالصنمين الذين كانا على الصفا والمروة

وأما غيرهم فلكون أهل الجاهلية غير الأنصار كانوا يعظمونهما ولم يجر لهما ذكر في القرآن وهذا السبب يقتضي تعظيمهما وتشريفهما مخالفة للمشركين وتعظيما لشعائر الله فإن اليهود والنصارى لما أعرضوا عن تعظيم الكعبة قال الله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وأوجب حجها على البيت فإذا كانت الصفا والمروة مما أعرض عنه بعض المشركين وهو من شعائر الله كان الأظهر ايجاب العبادة عنده كما وجبت العبادة عند البيت ولذلك سن النبي مخالفة المشركين حيث كانوا يفيضون من المزدلفة فأفاض من عرفات وصارت الافاضة من عرفات واجبة ووقف إلى غروب الشمس فصار الوقوف بها واجبا فقد رأينا كل مكان من الشعائر أعرض المشركون عن النسك فيه أوجب الله النسك فيه

وأما قوله { ومن تطوع خيرا } فإن التطوع في الأصل مأخوذ من الطاعة وهو الإستجابة والإنقياد يقال طوعت الشيء فتطوع أي سهلته فتسهل كما قال { فطوعت له نفسه قتل أخيه } وتطوعت الخير إذا فعلته بغير تكلف وكراهية

ولما كانت مناسك الحج عبادة محضة وانقيادا صرفا وذلا للنفوس وخروجا عن العز والأمور المعتادة وليس فيها حظ للنفوس فربما قبحها الشيطان في عين الانسان ونهاه عنها ولهذا قال { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } قال رجل من أهلم العلم هو طريق الحج وقال بعد أن فرض { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } لعلمه أن من الناس من قد يكفر بهذه العبادة وإن لم يكفر بالصلاة والزكاة والصيام فلا يرى حجه برا ولا تركه اثما ثم الطواف بالصفا والمروة خصوصا فإنه مطاف بعيد وفيه عدو شديد وهو غير مألوف في غير الحج والعمرة فربما كان الشيطان أشد تنفيرا عنهما فقال سبحانه { ومن تطوع خيرا } فاستجاب لله وانقاد له وفعل هذه العبادة طوعا لا كرها عبادة لله وطاعة له ولرسوله وهذا مبالغة في الترغيب فيهما ألا ترى أن الطاعة موافقة الأمر وتطوع الخير خلاف تكرهه فكل فاعل خير طاعة لله طوعا لا كرها فهو متطوع خيرا سواء كان واجبا أو مستحبا نعم ميز الواجب بأخص اسميه فقيل فرض أو واجب وبقى الاسم العام في العرف غالبا على أدنى القسمين كلغة الدابة والحيوان وغيرهما

وأيضا فإن النبي طاف في عمره وفي حجته والمسلمون معه بين الصفا والمروة وقال لتأخذوا عني مناسككم والطواف بينهما من أكبر المناسك وأكثرها عملا وخرج ذلك منه مخرج الإمتثال لأمر الله بالحج في قوله { ولله على الناس حج البيت } وفي قوله { وأتموا الحج والعمرة } ومخرج التفسير والبيان لمعنى هذا الأمر فكان فعله هذا على الوجوب ولا يخرج عن ذلك إلا هيئات في المناسك وتتمات وأما جنس تام من المناسك ومشعر من المشاعر يقتطع عن هذه القاعدة فلا يجوز أصلا وبهذا احتج أصحاب رسول الله

قال عمرو بن دينار سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي أمرأته فقال قدم رسول الله فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وبين الصفا والمروة سبعا وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة متفق عليه وزاد البخاري وسألنا جابر بن عبد الله فقال لا يقربنها حتى يطوف بالصفا والمروة

وأيضا فما روى ابن عمر وعائشة أن النبي قال لأصحابه من كان منكم أهدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد وذكر الحديث متفق عليه وهذا أمر من النبي وهو للإيجاب لا سيما في العبادات المحضة وفي ضمنه أشياء كلها واجب

وعن عائشة قالت أمر رسول الله من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل متفق عليه فأمره بالحل بعد الطوافين فعلم أنه لا يجوز التحلل قبل ذلك

وعن أبي موسى قال أهللت بأهلال النبي قال هل معك من هدي قلت لا فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأهللت وفي لفظ فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل متفق عليه

ثم من قال هو واجب يجب بتركهما هدي قال قد دلت الأدلة على وجوبهما لكن لا يبلغ مبلغ الركن لأن المناسك إما وقوف أو طواف والركن من جنس الوقوف نوع واحد فكذلك الركن من جنس الطواف يجب أن يكون طوافا واحدا لأن أركان الحج لا يجوز أن تتكرر من جنس واحد كما لا يتكرر وجوبه بالشرع

ولأن الركن يجوز أن يكون مقصودا بإحرام فإنه إذا وقف بعرفة ثم مات فعل عنه سائر الحج وتم حجه وإذا خرج من مكة قبل طواف الزيارة رجع إليها محرما للطواف فقط والسعي لا يقصد بإحرام فهو كالوقوف بمزدلفة ورمى الجمار ولأن نسبة الطواف بهما إلى الطواف بالبيت كنسبة الوقوف بمزدلفة إلى وقوف عرفة لأنه وقوف بعد وقوف وطواف بعد طواف ولأن الثاني لا يصح إلا تبعا للأول فإنه لا يجوز الطواف بهما إلا بعد الطواف بالبيت ولا يصح الوقوف بمزدلفة إلا إذا أفاض من عرفات وقد دل على ذلك قوله { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وقوله { فإذا أفضتم من عرفات } الآية فإذا كان الوقوف المشروع بعد عرفة ليس بركن فالطواف المشروع بعد طواف البيت أولى أن لا يكون ركنا لأن الأمر بذلك في القرآن أظهر وذلك لأن ما يفعل إلا تبعا لغيره يكون ناقصا عن درجة ذلك المتبوع والناقص عن الركن هو الواجب ولهذا كل ما يفعل بعد الوقوف بعرفة تبعا له فهو واجب وطرد ذلك أركان الصلاة فإن بعضها يجوز أن ينفرد عن بعض فإن القيام يشرع وحده في صلاة الجنازة والركوع ابتداء في صلاة المسبوق والسجود عند التلاوة والسهو ولو عجز عن بعض أركان الصلاة أتى بما بعده فعلم أنه ليس بعضها تبعا لبعض وهنا إذا فاته الوقوف بعرفة لم يجز فعل ما بعده

ولأنه لو كان ركنا لشرع من جنسه ما ليس بركن كالوقوف من جنسه الوقوف بمزدلفة

ولأنه لو كان لتوقت أوله واخره كالاحرام والطواف والوقوف والسعي لا يتوقت

ومن قال إنه ركن احتج على ذلك بما روت صفية بنت شيبة أخبرتني حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت نظرت إلى رسول الله يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن ميزره ليدور من شدهة السعي حتى أقول إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي وفي رواية رأيت رسول الله يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبته من شدة السعي يدور به ازاره وهو يقول اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي رواه أحمد ورواه أيضا عن صفية أمرأة أخبرتها أنها سمعت النبي بين الصفا والمروة يقول كتب عليكم السعي فاسعوا

وأيضا فإن النبي أمر به كما أمر بالطواف بالبيت في قرن واحد وأمره على الوجوب كما تقدم وما ثبت وجوبه تعين فعله ولم يجز أن يقام غيره مقامه إلا بدليل

وأيضا فإنه نسك يختص بمكان يفعل في الحج والعمرة فكان ركنا كالطواف بالبيت وذلك لأن تكرره في النسكين دليل على قوته

واختصاصه بمكان دليل على وجوب قصد ذلك الموضع وقد قيل نسك يتكرر في النسكين فلم ينب عنه الدم كالطواف والاحرام

وأيضا فإن الأصل في جميع الأفعال أن يكون ركنا لكن ما يفعل بعد الوقوف لم يكن ركنا لأنه لو كان ركنا لفات الحج بفواته والحاج إذا أدرك عرفة فقد أدرك الحج والسعي لا يختص بوقت

وأيضا فإن أفعال الحج على قسمين مؤقت وغير مؤقت فالمؤقت إما أن يفوت بفوات وقته أو يجبر بدم لكون وقته إذا مضى لم يمكن فعله وأما غير المؤقت إذا كان واجبا فلا معنى لنيابة الدم عنه لأنه يمكن فعله في جميع الأوقات والطواف والسعي ليسا بمؤقتين في الانتهاء فالحاق أحدهما بالاخر أولى من الحاقه بالمزدلفة ورمى الجمار لأن ذلك يفوت بخروج وقته وبهذا يظهر الفرق بينه وبين توابع الوقوف

فصل

وبكل حال فيشترط له ستة أشياء أحدها نية السعي بينهما كما اشترطناها في الطواف

الثاني استكمال سبعة أشواط تامة فلو ترك خطوة من شوط لم يجزه ولا بد أن يستوعب ما بين الجبلين بالسعي سواء كان راكبا أو ماشيا

قال الأزرقي حدثني جدي قال كانت الصفا والمروة يسند فيهما من يسعى بينهما ولم يكن بينهما بناء ولا درج حتى كان عبد الصمد بن علي في خلافة أبي جعفر فبنى درجهما فكان أول من أحدث بناءها

الثالث الترتيب هو أن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط لأن النبي قال لما خرج إلى الصفا أبد بما بدأ الله به

الرابع الموالاة قال في رواية حنبل وذكر له أن الحسن طاف بين الصفا والمروة أسبوعا فغشى عليه فحمل إلى أهله فجاء من العشى فأتمه فقال أحمد إن أتمه فلا بأس وإن استأنف فلا بأس

الخامس أن يتقدمه طواف سواء كان واجبا أو مسنونا فإذا طاف عقب طواف القدوم أو طواف الزيارة أجزأ ذلك وإن طاف عقب طواف الوداع لم

وإن سعى عقب طواف آخر وإن قدم السعي على الطواف

فأما الموالاة بينه وبين الطواف

السادس أن يتقدم على أشهر الحج فلو أحرم بالحج قبل أشهره وقدم مكة فطاف للقدوم لم يجز أن يسعى قبل دخول أشهر الحج

وأما الطهارة فتسن له ولا تشترط هذا هو المنصوص عنه صريحا قال في رواية أبي طالب إذا حاضت المرأة وهي تطوف بالبيت قبل أن تقضي خرجت ولا تسعى بين الصفا والمروة لأنها لم تتم الطواف فإن طافت بالبيت ثم خرجت تسعى فحاضت فلتمض في سعيها فإنه لا يضرها وليس عليها شيء

وقال في رواية حرب الحائض لا تطوف بالبيت ولا بين الصفا والمروة إلا أن تكون قد طافت قبل ذلك فإنها تسعى

وحكى بعض أصحابنا القاضي وغيره رواية أخرى أن الطهارة شرط لقوله في رواية اسحق بن ابراهيم الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة

فصل

ومن طاف راكبا على دابة أو محمولا لانسان فإن كان لعذر من مرض أو جاز

مسألة والمبيت بمنى

السنة للحاج أن لا يبيت ليالي منى إلا بها لأن الله سبحانه قال { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } ومعنى التعجل هو الافاضة من منى فعلم أنه قبل التعجل يكون مقيما بها فلو لم يبت بها ليلا وليس عليه أن يقيم بها نهارا لم يكن مقيما بها ولم يكن فرق بين إتيانه منى لرمي الجمار واتيانه مكة لطواف الافاضة والوداع

والآية دليل على أن عليه أن يقيم في الموضع الذي شرع فيه ذكر الله وجعل ذلك المكان والزمان عيدا لأن النبي وأصحابه فعلوا ذلك ولأن العباس استأذن النبي أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له متفق عليه

فاستئذان العباس دليل على أنهم كانوا ممنوعين من المبيت بها وإذنه له من أجل السقاية دليل على أنه لا يؤذن في ترك المبيت بغير عذر

ولأن النبي قال يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الاسلام

والعيد هو المجتمع للعبادة فيوم عرفة ويوم النحر يجتمعون بعرفة ومزدلفة ومنى وأيام منى لا أن بد أ يجتمعوا وهم لا يجتمعون نهارا لأجل مصالحهم فإنهم يرمون الجمار متفرقين فلا بد من الإجتماع ليلا

وعن ابن عمر قال لا يبيتن أحد من الحاج من وراء جمرة العقبة وكان يبعث إلى من وراء العقبة فيدخلون منى رواه مالك وأحمد وهذا لفظه

وعن نافع عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لا يبيتن أحد من الحاج وراء جمرة العقبة وكان يرسل رجالا فلا يجدون أحدا شذ من منى إلا أدخل

وعن ابن عمر قال لا يبيتن أحد من وراء جمرة العقبة ليالي منى رواهما أحمد فإن ترك المبيت بمنى فقال أبو بكر في الشافي روي عنه عليه الدم وروي يتصدق بشيء وروى عنه لا شيء عليه وبهذا أقول

فهذه ثلاث روايات إحداهن لا شيء عليه قال في رواية المروذي من بات بمكة ليالي منى يتصدق بشيء وإن بات من غير عذر أرجو أن لا يكون عليه شيء

وذلك لأن النبي أرخص لأهل السقاية في ترك المبيت بها وللرعاة كما أرخص للضعفة في الافاضة من جمع بليل ولو كان واجبا لم يسقط إلا لضرورة كطواف الوداع

ولأن ابن عباس قال إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت رواه أحمد في رواية حرب ولأنه أحد المبيتين بمنى فلم يجب كالمبيت بها ليلة عرفة عشية التروية

والثانية قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال ولا يبيت أحد ليالي منى من وراء العقبة ومن زار البيت رجع من ساعته ولا يبيت اخر الليالي إلا بمنى لأن عمر رضي الله عنه منع من ذلك فمن بات فعليه دم وهذا قول القاضي وأصحابه لأنه واجب كما تقدم ومن ترك شيئا من نسكه فعليه دم كما لو ترك المبيت بمزدلفة قال القاضي في خلافه فإنها تجب رواية واحدة

والثانية يتصدق بشيء وهو أكثر عنه

قال في رواية ابن منصور من بات دون منى ليلة يطعم شيئا

قال في رواية حرب في الرجل يبيت وراء العقبة ليالي منى يتصدق بشيء قال ابن جريج عن عطاء يتصدق بدرهم ومغيرة عن شعبة قال أبو عبد الله الدم شديد ويحيى عن سفيان ليس عليه شيء وكان سفيان يرخص وقال ابن عباس إذا رميت جمرة العقبة فبت حيث شئت

وقال في رواية الأثرم فيمن جاء للزيارة فبات بمكة يعجبني أن يطعم شيئا وخففه بعضهم يقول ليس عليه شيء وإبراهيم قال عليه دم وضحك وقال الدم شديد وكذلك نقل ابن أبي عبدة

وقال في رواية أبي طالب وابن إبراهيم لا يبيت أحد بمكة ليالي منى فمن غلبته عينه فليتصدق بدرهم أو بنصف درهم كذا قال عطاء ولا يبيت عامدا فقد أمره أن يتصدق بشيء ولم يقدره وقال مرة درهم أو نصف درهم لأنه أقل ما يتصدق به من النقود وإن تصدق بطعام

وذلك لأن الإذن في ترك هذا المبيت لحاجة غير ضرورية تدل على أنه ليس من المناسك المؤكدة فإن المناسك المؤكدة لا يرخص في تركها لأحد ولو قيل تقدر به

ولو ترك المبيت ليلة واحدة أو ليلتين فقال القاضي في خلافه وابن عقيل ليس عليه دم رواية واحدة بخلاف ترك المبيت بمزدلفة فإنها نسك واحد فإذا تركه لزمه الدم وليالي منى جميعها نسك واحد فلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها كما لو ترك حصاة أو حصاتين

واستشهدوا على ذلك بما تقدم عنه أنه استكثر الدم في ترك ليلة واحدة وأمره أن يتصدق بشيء وخرجاها على ثلاث روايات

إحداهن يتصدق بدرهم أو نصف درهم وهو المنصوص عنه هنا

والثانية في ليلة مد وفي ليلتين مدان

والثالثة في ليلة قبضة من طعام وفي ليلتين قبضتان وهاتان مخرجتان من حلق شعرة أو شعرتين

وأما أبو الخطاب فإنه جعل في ترك المبيت ليالي منى الدم قولا واحدا وذكر في ترك ليلة أو ليلتين أربع روايات

إحداهن عليه دم

والثانية يتصدق بدرهم أو نصف درهم

والثالثة مد من طعام

والرابعة لا شيء عليه

ومن سلك هذه الطريقة حمل كلام أحمد في الأمر بالصدقة وفي كونه لا شيء عليه على الليلة والليلتين وأصحاب هاتين الطريقتين يسوون بين ثلاث حصيات وترك ثلاث ليال وحلق ثلاث شعرات ويجعلون عدد الليالي كعدد الحصى والشعر قالوا لأن كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة يجب في جميعه دم وفي بعضه صدقة فلذلك سوينا بينهما لكن منصوص أحمد في أن من بات ليالي منى من وراء العقبة يتصدق بشيء أو لا شيء عليه تبطل هذه الطريقة

والطريقة المنصوصة عن أحمد أن في الليلة والليالي الثلاث ثلاث روايات كما تقدم لفظه فيهن إحداهن عليه دم والثانية عليه صدقة والثالثة لا شيء عليه وغير مستنكر إيجاب الدم في جملة وايجابها في بعضها فإن رمي الجمار كلها فيها دم وفي الجمرة الواحدة أيضا دم بل المنصوص عنه أنه إذا ترك مزدلفة ومنى ورمي الجمار وطواف الوداع كفاه دم

وكذلك لا فرق بين أن يحرم دون الميقات بمسافة قليلة أو كثيرة ولا فرق بين أن يخرج من عرفات قبل المغيب بزمن طويل أو طويل والحاق هذه بالحصى ويحلق الشعر لا يصح لأن ذاك قد ثبت بالنص والإجماع أن في جميعه دما وهنا الخلاف في أصل وجوبه

فصل وقدر المبيت الواجب بمنى

مسألة والرمي

لا يختلف المذهب أن الرمي واجب لأن الله سبحانه قال { الحج أشهر معلومات } إلى قوله { فإذا أفضتم من عرفات } إلى قوله { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول } الآية إلى قوله { واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون }

فأمر سبحانه بعد قضاء المناسك بذكر الله سبحانه وأمر بذكره في أيام معدودات أمرا يختص الحاج لأنه قال { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } وإنما يمكن ذلك للحاج فعلم أنهم مأمورون بهذا الذكر بمنى وليس بمنى ذكر ينفرد به الحج إلا ذكر الجمار كما قال إنما جعل الطواف بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله فعلم أن رمي الجمار شرع لإقامة ذكر الله المأمور به في قوله { واذكروا الله في أيام معدودات }

وأيضا فإنه قال { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه } فعلم أنه من تعجل قبل اليومين لا يزول عنه الاثم وإنما ذاك لأن بمنى فعلا واجبا ولا فعل بها إلا رمي الجمار لأن المبيت اخف منه وإنما وجب تبعا له

وأيضا فإنه أمر بالذكر في الأيام وجعل التعجيل فيها فلا بد من فعل واجب في الأيام

وأيضا فما روى

ومن رمى بحجر قد رمى به لم يجزه ومن رمى بذهب أو فضة لم يجزه قولا واحدا وفي غير الحصى روايتان إحداهما لا يجزؤه إلا الحجر فليعد الرمي والثانية يجزؤه مع الكراهة

فصل

وأما الأدعية المشروعة في الحج مثل التبية والذكر عند رؤية البيت وفي الطواف وعلى الصفا والمروة وفي السعي وفي عرفة ومزدلفة ومنى وعند رمى الجمار فهي سنة عند أصحابنا

فصل وأما ركعتا الطواف

مسألة والحلق

اختلفت الرواية عن أحمد في وجوبه على روايتين إحداهما أنه واجب قال في رواية مهنا إذا أخرت المرأة التقصير حتى خرجت أيام منى عليها دم

مسألة وطواف الوداع

وجملة ذلك أن هذا الطواف يسمى طواف الوداع وطواف الصدر وطواف الخروج أن طواف الوداع واجب نص عليه في رواية ابن منصور وابن ابراهيم وأبي طالب والأثرم والمروذي وحرب وأبي داود

فإذا خرج قبل أن يودع وجب عليه أن يرجع قبل أن يبلغ مسافة القصر فيودع فإن رجع فلا شيء عليه وإن بلغ مسافة القصر استقر الدم عليه ولا ينفعه الرجوع بعد ذلك وسواء تركه عامدا أو ناسيا أو جاهلا

وإن لم يمكنه الرجوع قبل مسافة القصر لعدم الرفيق أو خشية الانقطاع عن الرفقة قال في رواية ابن منصور فيمن نفر ولم يودع البيت فإذا تباعد فعليه دم وإذا كان قريبا رجع

وقال في رواية ابن إبراهيم إذا نسى الرجل طواف الصدر وتباعد بقدر ما تقصر فيه الصلاة فعليه دم

وقال في رواية الأثرم من ترك طواف الصدر عليه دم وذلك لأن النبي قال لا ينفرن أحد حتى يكون عهده بالبيت رواه مسلم

وأيضا فترخيصه للحائض أن تنفر قبل الوداع دليل على أن غيرها لا رخصة له في ذلك

وعن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رد رجلا من مر الظهران لم يكن ودع البيت رواه مالك عنه

فصل

فأما طواف القدوم فالمشهور في المذهب أنه ليس بواجب بل سنة ونقل عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائي الطواف ثلاثة واجبة طواف القدوم وطواف الزيارة وطواف الصدر أما طواف الزيارة فلا بد منه فإن تركه رجع معتمرا وطواف الصدر إذا تباعد بعث بدم

وهذه رواية قوية لأن النبي وأصحابه من بعده لم يزالوا إذا قدموا مكة طافوا قبل التعريف ولم ينقل أن أحدا منهم ترك ذلك لغير عذر وهذا خرج منه إمتثالا لقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } وقوله { وأتموا الحج والعمرة لله } وبيانا لما أمر الله به من حج بيته كما بين الطواف الواجب بسبعة أشواط فيجب أن تكون أفعاله في حجه كلها واجبة إلا أن يقوم دليل على بعضها أنه ليس بواجب وقد قال لتأخذوا عنى مناسككم ولم يرد أن نأخذها عنه علما بل علما وعملا كما قال { وما آتاكم الرسول فخذوه } فتكون المناسك التي أمر الله بها هي التي فعلها رسول الله

مسألة وأركان العمرة الطواف وواجباتها الاحرام والسعي والحلق

القول في حكم هذه المناسك في العمرة كالقول في حكمها في الحج وما زاد على ذلك من الوقوف بعرفة ومزدلفة ومنى ورمي الجمار فإنما يشرع في الحج الأكبر ويتوقت بوقت مخصوص إذ الحج لا يكون إلا في وقت مخصوص إذ العمرة تجوز في جميع السنة

فأما الطواف فلا بد منه وأما الاحرام فقد عده المصنف رحمه الله من الواجبات على ما تقدم من التفسير أنه يعني به اجتناب المحظورات مع قصد الحج من الميقات المشروع

وأما النية نية الاعتمار فلا بد منها وقد تقدم وجه أن الاحرام من الحل ركن في العمرة لأنه لولا ذلك لكان كل طائف معتمرا وقد تقدم معنى قول من يعد الاحرام مطلقا من الأركان ومن يعده شرطا

أما السعي والحلق فعلى ما تقدم إلا أن الحلق في العمرة

وقال ابن عقيل السعي في العمرة ركن لا نعرف فيه رواية أخرى بخلاف الحج لأنها أحد النسكين فلا يجزيء فيها بركنين كالحج فإن هناك دخل الوقوف يعني أن فيها الاحرام والطواف فلا بد من ثالث وهو السعي وعامة أصحابه على أن حكمها في العمرة كحكمها في الحج

وأما الحلق فإن عامة النصوص عن أحمد أنه لا يجوز له الوطء قبل الحلاق وأنه إذا وطيء قبله فأكثر الروايات عنه أن عليه دما وفي بعضها قال الدم لهذا كثير

مسألة فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا به ومن ترك واجبا جبره بدم ومن ترك سنة فلا شيء عليه

وهو كما قال الركن لا بد منه وأما الواجب فإذا تركه فعليه أن يأتي به ما لم يفت وقته إن كان مؤقتا كالمبيت بمزدلفة ومنى ورمى الجمار والاحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل وطواف الوداع إذا خرج إلى مسافة القصر فإنه قد تعذر فعل هذه الواجبات فاستقر الدم

وأما السعي فمن قال إنه واجب فقوله مشكل لأنه لا يفوت بالتأخير فكيف يجزؤه إخراج الدم وهو بدل عن الواجب مع قدرته على أداء الواجب وبعده عن البلد ليس عذرا إذا كان متمكنا من العود

وأما الحلق أو التقصير فإن قلنا هو مؤقت بأيام منى فقد التحق برمى الجمار

فإن قلنا ليس بمؤقت فهو كالحلق في العمرة فإذا لم يكن مؤقتا بمكان أيضا بل يجوز في الحل والحرم فكيف يتصور فوات حتى يجزيء إخراج الدم عنه

وأما السنن فهي على مراتبها منها ما هو نسك إذا تركه يكون مسيئا

مسألة ومن لم يقف بعرفه حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج فيتحلل بطواف وسعى وينحر هديا إن كان معه وعليه القضاء

في هذا الكلام فصول أحدها أنه يجب على الرجل إذا أحرم بالحج أن يقصد الوقوف بعرفة في وقته ولا يجوز له التباطؤ حتى يفوته الحج فإن احتاج إلى سير شديد وإن لم يصل العشاء إلى اخر ليلة النحر وخاف إن نزل لها فاته الحج فقياس المذهب أنه يصلى صلاة الخائف لأن تفويت كل واحدة من العبادتين غير جائز وفوات الحج أعظم ضررا في دينه ونفسه من فوت قتل كافر

فإذا طلع الفجر ولم يواف عرفة فقد فاته الحج سواء فاته لعذر من مرض أو عدو أو ضل الطريق أو أخطأ العدد أو أخطأ مسيره أو فاته بغير عذر كالتواني والتشاغل بما لا يعنيه لا يفترقان إلا في الاثم وعلى من فاته أن يأتي بعمرة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر

وأما الأفعال التي تخص الحج من الوقوف بمزدلفة ومنى ورمى الجمار فقد سقطت هذا هو المعروف في المذهب الذي عليه أصحابنا وهو المنصوص عن أحمد

قال في رواية أبي طالب إذا فاته الحج تحلل بعمرة

وقال في رواية الأثرم فيمن قدم حاجا فطاف وسعى ثم مرض فحيل بينه وبين الحج حتى مضت أيامه يحل بعمرة فقيل له يجدد أهلالا فيمن فاته الحج للعمرة أم يجزؤه الإهلال الأول فقال يجزؤه الإهلال الأول

وقد حكى ابن أبي موسى عنه رواية ثانية أنه يمضي في حج فاسد قال ومن فاته الحج بغير احصار تحلل بعمرة في إحدى الروايتين وعليه الحج من قابل ودم الفوات فإن كان قد ساق هديا نحره ولم يجزه عن دم الفوات

والرواية الأخرى يمضي في حج فاسد ويحج من قابل وعليه دم الفوات

وقال أحمد في رواية ابن القاسم في الذي يفوته الحج يفرغ من عمله يعني عمل الحج وفسر القاضي هذا الكلام بأنه الطواف والسعي والحلق الذي يفعله الذي كان واجبا بالحج كأحد الوجهين كما سيأتي

ومن فسره باتمام الحج مطلقا على ظاهره قال لأنه قد وجب عليه فعل جميع المناسك ففوات الوقوف بعرفة لا يسقط ما أدرك وقته من المناسك كمن عجز عن بعض أركان الصلاة وقدر على بعض أكثر ما فيه أن الحج قد انتقض وفسد فأشبه من أفسده بالوطء فإنه يمضي في حج فاسد

والصواب هو الأول لأن الله سبحانه قال { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } الآية فأمرهم بالذكر عقب الافاضة من عرفات فمن لم يفض من عرفات لم يكن مأمورا بالوقوف بالمشعر الحرام وما لا يؤمر به من أفعال الحج فهو منهى عنه كالوقوف بعرفة في غير وقته

ولأن الحكم المعلق بالشرط معدوم بعدمه فإذا علق الوقوف بالمشعر الحرام بالافاضة من عرفة اقتضى عدمه عند عدم الافاضة من عرفات ولأن الآية تقتضي أنه مأمور بالذكر عند المشعر حين الافاضة وعقبها فإذا بطل الوقت الذي أمر بالذكر عند المشعر الحرام فيه وبطل التعقيب كان قد فات وقت الوقف بالمشعر وشرطه وذلك يمنع الوقوف فيه ونظير هذا قوله { فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } فإنها دليل على امتناع الطواف بهما من غير الحاج والمعتمر ولذلك لا يشرع الطواف بالصفا والمروة إلا في حج أو عمرة بخلاف الطواف بالبيت فإنه عبادة منفردة أفردها بالذكر في قوله { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ثم قال بعد ذلك { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم } إلى قوله { واذكروا الله في أيام معدودات } فالأمر بالذكر كذكر الاباء والذكر في أيام معدودات هو بعد قضاء المناسك ومن لم يقف بعرفة لم يقض مناسكه فبطل في حقه الذكر المأمور به الذي يتضمن التعجل والتأخر ولا يقال واذكروا الله في أيام معدودات كلام مبتدأ

وأيضا فإن النبي قال الحج عرفة من جاء من ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج

فإذا لم يدرك عرفة فلا حج له بل قد فاته الحج ومن لا حج له لا يجوز أن يفعل شيئا من أعمال الحج لأنه يكون في حج من لا حج له وهذا لا يجوز بخلاف المفسد فإنه في حج تام لأنه أدرك الوقوف لكن هو فاسد وغير ممتنع انقسام العمل إلى صحيح وفاسد أما أن يكون في حج من ليس في حج فهذا ممتنع ولهذا قلنا إذا فاته الحج لم يفعل ما يختص بالحج من المواقف والرمى وإنما يفعل ما اشترك فيه الحج والعمرة من الطواف والحلق

وأيضا قوله من أدرك معنا هذه الصلاة وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا

وأيضا فما روى ابن أبي ليلى عن عطاء أن نبي الله قال من لم يدرك فعليه دم ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل رواه النجاد وهذا وإن كان مرسلا من مراسيل عطاء فهو أعلم التابعين بالمناسك وهذا المرسل معه أقوال الصحابة وقول جماهير أهل العلم وظاهر القرآن وذلك يوجب كونه حجة وفاقا بين الفقهاء والعمدة الظاهرة إجماع الصحابة والتا فعن أن أبا أيوب بن زيد خرج حاجا حتى إذا كان بالنازية أضل رواحله فطلبهن فقدم وقد فاته الحج فسأل عمر فأمره أن يجعلها عمرة ويحج من عام المقبل وعليه ما استيسر من الهدي

وعن سليمان بن يسار عن هناد بن الأسود أنه أهل بالحج فقدم على عمر رضي الله عنه يوم النحر وقد أخطأ العدد فقال أهل بعمرة وطف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصر أو احلق وحج من قابل وأهرق دما وعن الأسود عن عمر وزيد قالا في رجل يفوته الحج يهل بعمرة عليه الحج من قابل

وعن ابن عمر كان يقول من لم يقف بعرفة إلا بعد طلوع الفجر فقد فاته الحج وليجعلها عمرة وليحج قابلا وليهد إن وجد هديا وإلا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع

وعن عطاء عن ابن عباس من فاته الحج فإنه يهل بعمرة وليس عليه الحج رواهن النجاد

فصل

وقد اتفق أصحابنا على أنه يطوف ويسعى ثم يحل واختلفت عباراتهم في هذا العمل فقال أكثرهم يتحلل بعمرة ويخرج من إحرام الحج إلى احرام العمرة بمنزلة الذي يفسخ الحج إلى العمرة صرح بذلك أبو بكر والقاضي وأصحابه وغيرهم وهو المفهوم من كلام أحمد والخرقي قالا إذا فاته الحج تحلل بعمرة بل هو المنصوص صريحا عن أحمد لأنه نص على أن من فاته الحج بعد أن طاف وسعى أنه يتحلل بعمرة ولو كان إنما يفعل طواف الحج وسعيه لم يحتج إلى سعى ثان

ثم اختلفت عبارة هؤلاء فقال القاضي وأصحابه يتحول احرامه بالحج احراما بعمرة فعلى هذا لا يحتاج إلى قصد وإرادة لأن أحمد قال يكفيه الإهلال الأول

وقال أبو بكر إذا فاته الحج جعله عمرة وعليه دم قال أحمد إذا فاته الحج جعلها عمرة

وقال ابن حامد احرام الحج باق ويتحلل منه بعمل عمرة وهو ظاهر كلام المصنف وذكر القاضي أن قول أحمد في رواية ابن القاسم في الذي يفوته الحج يفرغ من عمله إيماء إلى هذا القول وذلك لأن الاحرام بالحج أوجب عليه أفعالها كلها فتعذر الوقوف وما يتبعه لا يوجب تعذر الطواف وما يتبعه فوجب أن يكون هذا الطواف هو الطواف الذي أوجبه احرام الحج

ونحن وإن قلنا إنه يجوز له فسخ الحج إلى العمرة فإنما ذاك أن يفسخ باختياره ويأتي بعد ذلك بالحج وهنا الانتقال إلى العمرة يصير واجبا ولا حج معه فكيف يقاس هذا على فسخ الحج إلى العمرة

والأول أصح لأن النبي قال الحج عرفة وبين أن من لم يدركها لم يدرك الحج فلو كان قد بقى بعض أعمال الحج لكان إنما فاته بعض الحج ولكان قد أدرك بعض الحج ولم يكن فرق بين قوله الحج عرفة والحج الطواف بالبيت لو كان كل منهما يمكن فعله مع فوت الاخر فلما قال الحج عرفة علم أن سائر أفعال الحج معلقة به فإذا وجد أمكن أن يوجد غيره وإذا انتفى امتنع أن يوجد غيره

وأيضا فإن أصحاب رسول الله كلهم صرحوا بأنه يجعلها عمرة ومنهم من قال يهل بعمرة

وهذا كله دليل بين في أنه يجعل احرامه بالحج عمرة ويهل بها كما قد يجعل الرجل صلاة الفرض نفلا نعم قد روى في بعض الطرق أن عمر قال لأبي أيوب اصنع كما يصنع المعتمر وقد حللت فإذا أدركت قابل فاحجج واهد ما تيسر من الهدي رواه النجاد وهذا كقول النبي لعائشة لما حاضت اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت

وأيضا فإن طواف الحج الواجب بعد التعريف كما أن الوقوف بمزدلفة لا يصح إلا بعده لأن الله قال { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } فمن لم يعرف كيف يطوف للحج ولم يقض تفثه ولم يوف نذره

وأيضا فإن العبادة المؤقتة التي يشترط الوقت لصحتها إذا فاتت زالت جميعها كالجمعة ولا يجوز أن يتمم شيء منها على أنه منها بعد خروج وقتها فكيف يجوز أن يقال قد فاته الحج ويمضي فيما بقى من أفعال الحج نعم لما كان الاحرام يوجب عليه إتمامه وإتمامه إنما يكون في حج أو عمرة وقد تعذر اتمامه لحجة أتمه لعمرة لأنه لا يجوز أن يخرج من الاحرام إلا بالتحلل ولا يتحلل من قدر على البيت إلا بعمرة أو حج فكان إنتقاله إلى ما هو جنسه العبادة التي تضمنته العبادة أشبه وهذا كمن أحرم بالفرض قبل وقته فإنه يصير نفلا لأن الصلاة اشتملت على شيئين فإذا امتنع أحدهما الاخر كذلك الحج الأصغر هو بعض الأكبر فإذا تعذر الأكبر بقى الأصغر

وأيضا فإن كونه يجوز فسخ الحج إلى العمرة فإنما ذاك إذا أمكن اتمامه كما أمر الله فأما إذا لم يمكن اتمامه صار إنتقاله إلى العمرة ضرورة وغيره فائدة هذا أنه إذا قلنا يجعل احرامه عمرة وأن يحج كان بمنزلة من أدخل عمرة على احرامه بالحج قبل أشهر الحج وأما أحرم بعمرة لم يصح على القولين ولو أراد أن يبقى محرما إلى عام قابل فيحج به لم يكن له ذلك

ولو بقى إلى عام قابل وطاف وسعى في أشهر متمتعا ولو كان قارنا فإنه يفعل عمرة الفوات وعمرة القران للحج وليس عليه إلا دم واحد ابن أبي موسى ومن أهل بح الحج اجزأه دم واحد

فصل

وعليه القضاء من العام المقبل في عند أصحابنا مع اختيارهم أن المحصر لا قضاء عليه والروا يلزمه الهدي ولا يلزمه القضاء لأنه امتنع اتمام حجه من جهته فلم يلزمه القضاء كالمحصر وذلك لأن المفوت قد العمرة ما بقى عليه من أعمال الحج كا مقام أفعال هذه الرواية يجب عليه الهدى لم يجد

الأول أن الله سبحانه قال { وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } فأوجب الأتمام على كل أحد غير المحصر وحجة الفوت لا تتم إلا بالقضاء فوجب أن يلزمه ذلك

وأيضا ما تقدم من الحديث المرسل وأقوال الصحابة مثل عمر وزيد وإن عمر وإفتاهم بذلك مثل أبي أيوب وهبار بن الأسود وغيرهم من الصحابة ولم ينكره منكر في ذلك الوقت فصار إجماعا

وإنما خالف فيه ابن عباس ولم يكن ذلك الوقت من أهل الفتيا

ولأنه أخر العبادة الواجبة عليه عن وقتها فلزمه قضاؤها كما لو فوت الصلاة والعبادات المنذورة عن أوقات معينة وذلك لأنه لما أحرم بالحج فقد وجب عليه شرعا أن يفعله في عامه كما تجب الصلوات والصيام في مواقيتها المحدودة بخلاف المحصر فإنه لم يجب عليه اتمام الحج والعمرة بل جاز له الخروج من الاحرام قبل الوقت فهو نظير من جاز له ترك الجمعة والجماعة أو ترك بعض الصلاة لعذر وقد علله بعض أصحابنا بأنه لم يكمل أفعال الحج فوجب عليه القضاء كالمفسد للحج وهذا ضعيف لأن المريض ونحوه لا تفريط من جهته ولكن أحسن من هذا ترك لعام للحج مع وصوله إلى المشاعر فلزمه القضاء سد بالحج وهذا لأن الحج في الأصل هو قصد المشاعر وإتيانها بوقت مثل الشرط لهذا المقصود والتكملة له كأوقات فإذا تمكن من اتيان المشاعر ولم يتم الحج وجب عليه القضاء ل رمضان فلم يصم أو دخل وقت الصلاة فلم يصل وإذا إلى المشاعر فقد تعذر أصل الحج في حقه فصار بمنزلة إليه سبيلا أو بمنزلة من لم يدرك شهر رمضان ولا وقت هذا لأن الاستطاعة في وجوب الحج والوقت شرط إذا لم يستطع الوصول إليه فقد فات شرط الوجوب وإذا وقت فقد الصحة مع إلا نعقاد بسبب الوجوب