انتقل إلى المحتوى

رسالة التوابع والزوابع/الفصل الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
رسالة التوابع والزوابع المؤلف ابن شهيد الأندلسي
الفصل الأول - توابع الشعراء


شيطان امرئ القيس

تذاكرتُ يوماً مع زُهير بن نُميرٍ أخبار الخُطباء والشعُّراء، وما كان يألفُهُم من التوابع والزوابع، وقلتُ: هل حيلةٌ في لقاء من اتفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا. وطار عني ثم انصرف كلمحٍ بالبَصَر، وقد أُذن له، فقال: حُلَّ على متن الجَوادِ. فصرنا عليه؛ وسار بنا كالطائر يجتابُ الجوَّ فالجوَّ، ويقطعُ الدَّوَّ فالدَّوَّ، حتى التمحتُ أرضاً لا كأرضنا، وشارفتُ جواً لا كجوّنا، متفرع الشجر، عطر الزَّهر؛ فقال لي: حللتَ أرض الجن أبا عامر، فبمن تُريدُ أن نبدأ؟ قلتُ: الخطباء أولى بالتقديم، لكني إلى الشعراء أشواق. قال: فمن تُريدُ منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأما العنان إلى وادٍ من الأدوية ذي دَوحٍ تتكسرُ أشجارُه، وتترنمُ أطياره، فصاح: يا عُتيبةُ بن نوفل، بسقط اللّوى فحومل، ويمِ دارةِ جُلجُل، إلاَّ ما عرضتَ علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك، وسمعت من الإنسي، وعرَّفتنا كيف إجازتُك له! فظهر لنا فارسٌ على فرسٍ شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زُهير، وحيّا صاحبك أهذا فتاهُم؟ قلتُ: هو هذا، وأيُّ جمرةٍ يا عتُيبة! فقال لي: أنشد؛ فقلتُ: السيدُ أولى بالإنشاد. فتطامح طرفُه، واهتزَّ عطفه، وقبض عنانَ الشقراء وضربها بالسّوط، فسمت تُحضر طُولاً عنّا، وكرَّ فاستقبلنا بالصَّعدةِ هازاً لها، ثم ركزها وجعل يُنشد:

سما لك شوقٌ بعدما كان أقصرا

حتى أكمَلها ثم قال: لي: أنشِد؛ فهمتُ بالحيصة، ثم اشتدَّت قُوى نفسي وأنشدت:

شَجَتْهُ مَعانٍ من سُليمى وأدْؤرُ

حتى انتهيتُ فيها إلى قول:

ومِن قُبّةٍ لا يُدركُ الطَّرفُ رأسها
تَزِلُّ بها ريحُ الصَّبا فتحدَّرُ
تكلّفتُها والليلُ قد جاش بحرهُ،
وقد جعلت أمواجهُ تتكسرُ
ومن تحت حضني أبيضٌ ذو سفاسقٍ،
وفي الكفّ من عسّالةِ الخطّ أسمرُ
هُما صاحباي من لدُن كنتُ يافعاً
مُقِيلانِ من جدّ الفتى حين يعثُرُ
فذا جدولٌ في الغمدِ تُسقى به المنى
وذا غُصُنٌ في الكفّ يُجنى فيثُمرُ


فلما انتهيتُ تأملني عُتيبةُ ثم قال: اذهب أجزتُك. وغاب عنّا.

شيطان طرفة

فقال لي زُهير: من تُريدُ بعدُ؟ قلتُ: صاحب طرفة. فجزعنا وادي عُتيبة، وركضنا حتى انتهينا إلى غيضةٍ شجرُها شجران: سامٌ يفوحُ بهاراً، وشحرٌ يعبق هندياً وعاراً. فرأينا عيناً معينةً تسيل، ويدُورُ ماؤها فلكياً ولا يحُل. فصاح به زهير: يا عنترُ بن العجلان، حلَّ بك زهيرٌ وصاحبه، فبخَولة، وما قطعت معها من ليلة، إلاَّ ما عرضت وجهك لنا! فبدا إلينا راكبٌ جميلُ الوجه، قد توشح السّيف، واشتمل عليه كساء خزّ، وبيده خطّيّ، فقال: مرحباً بكُما! واستنشدني فقلتُ: الزعيمُ أولى بالإنشاد؛ فأنشد:

لِسُعدى بِحِزَّانِ الشُّريف طُلُول

حتى أكملها، فأنشدته من قصيدة:

أمِن رسمِ دارٍ بالعقيقِ مُحِيلِ

حتى انتهيتُ إلى قولي:

ولما هبطنا الغيثَ تُذعرُ وحشُهُ
على كل خوَّار العنان أسيلِ
وثارت بناتُ الأعوجيّاتِ بالضُّحى
أبابِيلَ، من أعطافِ غير وبيلِ
مُسوَّمةً نعتدُّها من خِيارها،
لِطردِ قنيصٍ، أو لطردِ رعيلِ
إذا ما تغنّى الصَّحبُ فوق متونِها
ضُحيناً، أجابت تحتهم بصهيلِ
تدُوسُ بها أبكارَ نورٍ كأنّه
رِداءُ عرُوسٍ أوذنتُ بحليل
رَمينا بها عُرضَ الصُّوارِ فأقعصت
أغنَّ قتلناهُ بغيرِ قتيلِ
وبادَرَ أصحابي النُّزولَ، فأقبلت
كراديسُ من غض الشِّواء نشيلِ
نُمسِّحُ بالحوذانِ مِنهُ،
إذا ما اقتنصنا منه غير قليلِ
فقُلنا لسلقِيها: أدرها سُلافةً
شمولاً، ومِن عينيك صِرفَ شمولِ
فقالم بكأسيه مُكيعاً لأمرِنا،
يميلُ به الإدلالُ كلَّ مَميلِ
وشَعشَعَ راحيه، فما زال مائلاً
برأسِ كريمِ منهُمُ وتليلِ
إلى أن ثناهُم راكدينَ، لما احتسوا،
خليعينَ من بطش وفضل عُقولِ
نشاوى على الزَّهراء، صرعى كأنهم
أساكينُ قصرٍ، أو جُذُوعُ نخيلِ


فصاحَ عنترٌ: لله أنت! اذهب مُجازٌ. وغاب عنّا. ثم مِلنا عنه.

شيطان قيس بن الخطيم

فقال لي زهير: إلى من تتُوقُ نفسُك بعدُ من الجاهليّين؟ قلت: كفاني من رأيتُ؛ اصرِف وجه قصدنا أبي تمام. فركضنا ذات اليمين حيناً، ويشتدُّ في إثرِنا فارسٌ كأنه الأسد، على فرسٍ كأنها العُقاب، وهو في عدوه ذلك يُنشد:

طعنتُ ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ،.......لها نفذٌ، لولا الشعاعُ، أضاءهـا

فاستربتُ منه، فقال لي زهير: لا عليك، هذا أبو الخطّارِ صاحبُ قيسِ ابن الخطيم. فاستبى لُبيّ من إنشاده البيت، وازددتُ خوفاً لُجرأته، وأنّنا لم نُعرَّج عليه.

فصرف إليه زهيرٌ وجه الأدم، وقال: حيّاك اللهُ أبا الخطّار! فقال: أهكذا يُحادُ عن أبي الخطار، ولا يُخطرُ عليه؟ قال: علمناك صاحب قنص، وخفنا أن نشغلك.

فقال لي: أنشدنا يا أشجعي، وأُقسم أنك إن لم تُجد ليكوننَّ يوم شر. فأنشدتُه قولي من قصيدة: منازلهم تبكي إليكَ عَفاءها ومنها:

خليليَّ عُوجا، باركَ الله فيكُما،
بدارتِها الأولى نُحيِّ فناءها!
فلم أرَ أسراباً كأسرابها الدُّمى،
ولا ذئب مثل قد رعى، ثمَّ شاءها
ولا كضلالٍ كان أهدى لصبوتي،
ليالي يهديني الغرامُ خِباءها
وما هاجَ هذا الشوقَ إلاَّ حمائِمٌ،
بكيتُ لها لمّا سمعتُ بُكاءها
عجِبتُ لنفسي كيف مُلكها الهوى،
وكيف استَفَزَّ الغانِياتُ إباءها؟
ولو أنني أنحتْ عليَّ أكارمٌ؛
ترضَّيتُ بالعرضِ الكريمِ جزاءها
ولكنَّ جُرذان الثُّغورِ رمينني،
فأكرمتُ نفسي أن تُريق دماءها
إليك أبا مروان ألقيتُ رابياً
بحاجة نفسِ ما حُربتُ خزاءها
هززتُكَ في نَصري ضُحىً فكأنّني
هززتُ، وقد جئتُ الجبال، حراءها
نقضتُ عُرى عزم الزَّمانِ، وإن عَتا،
بعزمةِ نفسٍ لا أريدُ بقاءها


فلما انتهيتُ تبسمَّ وقال: لنعمَ ما تخلّصتَ! اذهب فقد أجزتُك.

ناصرالبدرى

ثمَّ انصرفنا، وركضنا حتى انتهينا إلى شجرةٍ غيناء يتفجرُ من أصلِها عينٌ كمقلةٍ حَواء. فصاح زُهير: يا عتابُ بن حبناء، حلَّ بك زُهير وصاحبهُ، فبعمروٍ والقمر الكّالِع، وبالرُّقعةِ المفكوكةِ الطّابع، إلاَّ ما أريتنا وجهك! فانفلق ماء العين عن وجهِ فتىً كفِلقةِ القمر، ثم اشتقَّ الهواء صاعداً إلينا من قعرها حتى استوى معنا فقال: حيّاك الله يا زهير، وحيّا صاحبك! فقلتُ: وما الذي أسكنك قعر هذه العين يا عتاب؟ قال: حيائي من التّحسُّنِ باسمِ الشِّعرِ وأنا لا أُحسنُه. فصحتُ: ويلي منه؛ كلامُ مُحدثٍ ورب الكعبة! واستنشدني فلم أُنشده إجلالاً له، ثم أنشدتُه:

أبكيتَ، إذ طَعَنَ الفريقُ، فِراقَها

حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:

إنّ امرُؤٌ لعب الزَّمانُ بهمّتي،
وسُقيتُ من كأس الخُطوبِ دهاقها
وكبوتُ طِرفاً في العُلى، فاستضكتْ
حُمُرُ الأنامِ، فما تريمُ نُهاقها
وإذا ارتمت نحوي المُنى لأنالها،
وقف الزَّمانُ لها هُناك فعاقها
وإذا أبو يحيى تأخَّرُ نفسهُ،
فمتى أُؤمّلُ في الزَّمان لحاقها؟


فلما انتهيتُ قال: أنشدني من رثائك. فأنشدتُه:

أعينَا امرأَ نَزَحَتْ عينُهُ،
ولا تَعجَبا مِن جُفُونٍ جمادىِ
إذا القلبُ أحرقهُ بثُّهُ،
فإنَّ المدامِعَ تِلوُ الفُؤادِ
يودُّ الفتى مَنهلاً خالياً،
وسعدُ المَنيةِ في كل وادِ
ويصرفُ للكونِ ما في يديهِ،
وما الكونُ إلاَّ نذيرُ الفسادِ
لقد عثرَ الدَّهرُ بالسابقينَ،
ولم يُعجِزِ الموت ركضُ الجَوادِ
لعمرُكَ ما ردَّ ريبَ الرّدى
أرِيبٌ، ولا جاهدٌ باجتِهادِ
سِهامُ المَنايا تُصِيبُ الفتى،
ولَوْ ضَرَبُوا دُونه بالسِّدادِ
أصَبنَ، على بطشِهِم، جُرهُماً،
وأصمينَ، في دارهم، قومَ عادِ
وأقصعنَ كلباً على عِزِّهِ،
فما اعتزَّ بالصَّافِناتِ الجِيادِ


إلى أن انتهيتُ فيها إلى قولي:

ولكنّني خانَني مَعشري،
ورُدتُ يَفاعاَ وبيلَ المَرادِ
وهل ضرب السيفُ من غيرِ كفٍ؟
وهل ثبتَ الرَّأسُ في غيرِ هادِ؟


فقال: زِدني من رثائك وتحريضك، فأنشدتُه:

أفي كلّ عامٍ مصـرعٌ لـعـظـيمِ؟
أصابَ المَنايا حـادثـي وقـديمـي
هوى قمراً قيس بن عـيلانَ آنـفـاً،
وأوحشَ مِن كلبٍ مـكـانُ زعِـيم
فكيف لِقائي الحادِثاتِ إذا سـطـتْ،
وقد فُلَّ سيفي منهُـمُ وعَـزيمـي؟
وكيف اهتدائي في الخطُوب إذا دجت
وقد فقدت عيناي ضـوءَ نُـجُـومِ؟
مضى السَّلفُ الوضَّـاحُ إلا بـقـيةً،

ومنها:

رَمَيتُ بها الآفاقَ عنّـي غـريبةً،
نتيجةَ خفاقِ الضُّـلـوعِ كـظـيمِ
لأُبدي إلى أهل الحجى مِن بواطني،
وأُدلي بعُدرٍ في ظـواهـر لُـومِ
أنا السّيفُ لم تتعبْ به كفُّ ضاربٍ،
صرومٌ إذا صادفتُ كفَّ صـرُومِ
سعيتُ بأحرارِ الرّجالِ، فخانـنـي
رجالٌ، ولم أُنجَدْ بِـجِـدِّ عـظـيمِ
وضيعني الأملاكُ بـدءاً وعـودةً،
فضعتُ بدارٍ مـنـهُـمُ وحَـريمِ

فقال: إن كنتَ ولا بُدَّ قائلاً، فإذا دعتك نفسكُ إلى القولِ فلا تكُدَّ قريحتك، فإذا أكملتَ فجمامُ ثلاثة لا أقلَّ. ونقّحْ بعدَ ذلك، وتذكّرْ قوله:

وجَشَّمَني خوفُ ابنِ عَفّانَ رَدَّها،
فثقفتُها حولاً كريتاً ومربَـعـا
وقد كان في نفسي عليها زيادةٌ،
فلم أرَ إلاَّ أن أُطيعَ وأسمَـعـا

وما أنتَ إلاَّ مُحسِنٌ على إساءةِ زمانكَ. فقبلتُ على رأسه، وغاصَ في العَين.

صاحب البحتري

ثم قال لي زُهير: من تُريد بعده؟ قلتُ: صاحب أبي نُواس؛ قال: هو بدَيرِ حنّة منذُ أشهر، قد علبت عليه الخمر، ودّيرُ حنّة في ذلك الجَبل. وعرضه عليَّ، فإذا بيننا وبينه فراسخ. فركضنا ساعةً وجُزنا في ركضِنا بقصرٍ عظيمٍ قُدَّامه ناوردٌ يتطاردُ فيه فُرسان، فقُلتُ: لمَن هذا القصرُ يا زُهير؟ قال: لطوقِ بن مالك؛ وأبُو الطَّبعِ صاحبُ البُحتُريّ في ذلك النَّاورد، فهل لكَ في أن تراه؟ قلتُ: ألفُ أجلْ، إنه لمن أساتيذي،، وقد كُنتُ أُنسِيتُه. فصاح: يا أبا الطَّبعِ! فخرج فتىً على فرسٍ أشعل، وبيده قناة، فقال له زُهير: إنك مؤتمُّنا؛ فقال: لا، صاحُبك أشمخُ مارِناً من ذلك، لولا أنه ينقصُه. قلتُ: أبا الطَّبعِ على رِسلِك، إنَّ الرّجالَ لا تُكالُ بالقُفزان. أنشدنا من شعرك. فأنشد:

ما على الرَّكبِ من وُقوفِ الرَّكابِ

حتى أكملها، ثم قال: هاتِ إن كنتَ قُلتَ شيئاً. فأنشدتُه:

هذِهِ دارُ زينَبٍ والرَّبابِ

حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:

وارتكَضنا حتى مضى الليلُ يَسعى،
وأتى الصبحُ قاطـعَ الأسـبـابِ
فكأنّ النجوم فـي الـلـيل جـيشٌ
دخلوا للكُمُون في جـوف غـابِ
وكأن الصبـاح قـانـصُ طـير
قبضتْ كفّـه بـرجْـلِ غُـرابِ
وفُتوٍّ سَرَوا وقد عـكـف الـلـي
ل وأرخى مُغْـدَودِن الأطـنـابِ
وكأنّ النجـومَ لـمّـا هـدَتـهُـم
أشرقَت لـلـعـيون مـن آدابِ
يتَـقَـرَّوْن جَـوزَ كـلّ فَــلاةٍ،
جُنْح ليلٍ، جَوزاؤه من ركـابـي
عَنَّ ذِكري لمُدلِحيهم، فـتـاهـوا
من حديثي في عُرض أمرٍ عُجابِ
همّةٌ في السماء تـسـحـب ذيلاً،
من ذيول العُلـى، وَجَـدٌّ كـابِ
ولو أن الـدنـيا كـرينةُ نَـجـرٍ،
لم تكن طُعمةً لفَرْس الـكِـلابِ
جيفةٌ أنتـنـتْ فـطـار إلـيهـا،

ومنها:

من شُهيدٍ في سرّها، ثم من أش
جَعَ في السرّ من لُباب اللبابِ
خُطباءُ الأنام، إن عَنَّ خَطْـبٌ،
وأعاريبُ في مُتـون عِـرابِ

حتى أكملتُها. فكأنما غشّى وجهَ أبي الطبع قطعةٌ من الليل. وكرّ راجعاً إلى ناوَرْدِه دون أن يُسلّم. فصاح به زهير: أأجَزْتَه؟ قال: أجَزْتُه، لا بورِك فيك من زائر، ولا في صاحبك أبي عامر!

صاحب أبي نواس

فضربَ زهير الأدهم بالسوط، فسار بنا في قَنَنه، وسِرنا حتى انتهينا إلى أصل جَبل دير حَنّة، فشقّ سَمعي قرْع النواقيس، فصِحْتُ: من منازل أبي نواس، وربِّ الكعبة العَلياء! وسِرنا نجتاب أدياراً وكنائس وحانات، حتى انتهينا إلى ديرٍ عظيمٍ تَعبق روائحه، وتَصوكُ نوافِحه. فوقف زهير ببابه وصاح: سلامٌ على أهل دير حَنّة! فقلتُ لزهير: أوَهل صِرنا بذات الأُكَيراج؟ قال: نعم. وأقبلتْ نحونا الرَّهابين، مُشدّدة بالزنانير، قد قبضتْ على العَكاكيز، بِيضَ الحواجب واللحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مُكثِرين للتسبيح، عليهم هَدْيُ المسيح. فقالوا: أهلاً بكَ يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بُغيتُك؟ قال: حسين الدِّنان.

قالوا: إنه لفي شُرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نُراكما منتفعين به. فقال: وعلى ذلك. ونزلنا وجاؤوا بنا إلى بيتٍ قد اصطفّت دِنانه، وعكفتْ غِزلانُه، وفي فُرجته شيخٌ طويل الوجه والسَّبَلة، قد افترش أضغاث زَهر، واتّكأ على زِقّ خمر، وبيده طَرْجهارة، وحواليه صِبيةٌ كأظْبٍ تَعطو إلى عَرارة. فصاح به زهير: حيّاك الله أبا اٌلإحسان! فجاوب بجوابٍ لا يُعقل لغَلبة الخمر عليه. فقال لي زهير: اقرعْ أُذُن نشوته بإحدى خَمريّاتك، فإنه ربما تنبّه لبعض ذلك. فصِحْتُ أُنشد من كلمةٍ لي طويلة:

ولـرُبَّ حـانٍ قـد أدرتُ بـديره
خَمْر الصِّبا مُزجَتْ بصَفْو خُمورهِ
في فِتيةٍ جعلوا الزِّقاق تِكـاءَهـم،
مُتصاغِرين تخشُّعـاً لـكـبـيرهِ
والى عليَّ بطَرْفـه وبـكـفّـه،
فأمال مِنْ رأسي لِعَبِّ كـبـيرهِ
وترنَّم الناقوس عند صَـلاتـهـم،
ففتحْتُ من عيني لرجع هَـديرهِ
يُهدي إلينا الراحَ كلُّ مُعصفَـري،
كالخِشف خَفَّره التِماحُ خَـفـيرهِ

فصاح من حبائل نشوته: أأشجعيّ؟ قلتُ: أنا ذاك! فاستدعى ماء قرّاحاً، فشرب منه وغسل وجهه، فأفاق واعتذر إليَّ من حال. فأدركتْني مَهابته، وأخذتُ في إجلاله لمكانه من العِلم والشعر. فقال لي: أنشِد، أو حتى أُنشدَك؟ فقلت: إنّ ذلك لأشدّ لتأنيسي، على أنه ما بعدك لمُحسنٍ إحسانٌ. فأنشد:

يا دير حَـنّة مـن ذات الأكَـيراح،
من يَصحُ عنكَ فأني لستُ بالصاحي
يَعتادُهُ كلُّ مَحـفـوفٍ مَـفـارقُـهُ
من الدهان، عليه سَحْقُ أمـسـاحِ
لا يدلِـفـون إلـى مـاءٍ بـآنـيةٍ،
إلاّ اغتِرافاً من الغُدران بـالـراحِ
فكدتُ والله أخرج من جِلدي طَرباً، ثم أنشد:

وأنشد أيضاً:

لمَنْ دِمنٌ تـزداد طـيبَ نـسـيمِ،
على طول ما أقْوَتْ، وحُسنَ رُسومِ
تجافى البِلى عنهمّ حتى كـأنـمـا
لبِسنَ، من الإقواء، ثـوبَ نـعـيمِ

واستمرّ فيها حتى أكملها. ثم قال لي: أنشِد. فقلتُ: وهل أبقيتَ للإنشاد موضعاً؟ قال: لا بُدّ لكَ، وأوعِثْ بي ولا تُنجِدْ. فأنشدته:

أصباحٌ شِـيمَ أمْ بـرقٌ بَـدا،
أم سَنا المحبوبِ أوْرى أزْنُدا
هَبَّ منْ مرقده منـكَـسِـراً،
مسبِلاً للكُمّ، مُـرْخٍ لـلـرِّدا
يمسح النَّعسةَ من عيني رشاً،
صائدٍ فـي كـل يومٍ أسـدا
قلتُ: هَبْ لي يا حبيبي قُبـلةً،
تَشْفِ من عمّك تَبريح الصَّدى
فانْثنى يهتزُّ من مـنـكـبـه،
قائلاً: لا! ثمّ أعطانـي الـيَدا
كلّما كلّمـنـي قـبّـلْـتُـهُ،
فهْوَ إمـا قـال قـولاً ردّدا
كان أن يرجع، من لثْمي لـه
وارتِشافي الثغرَ منـه، أدردا
قال لي يلعب: خُذْ لي طائراً،
فتَراني الدهرَ أجري بالكُدى
وإذا استنجزْتُ يوماً وعْـده،
قال لي يَمطُلُ: ذكّرني غَـدا
شربَت أعطافُه خمر الصِّبـا،
وسَقاه الحُسن حتى عَرْبَـدا
وإذا بِتُّ بـه، فـي روضةٍ،
أغيداً يَعرو نَـبـاتـاً أغـيَدا
قام في الليل بجـيدٍ أتْـلـعٍ،
ينقُضُ اللمّة مِنْ دَمْع النـدى
رَشَأٌ، بل غادةٌ مـمـكـورةٌ،
عمّمتْ صُبحاً بلـيلٍ أسـودا
أحَحَتْ مِن عَضَّتي في نهْدها،
ثمّ عضّت حُرّ وجهي عَمَـدا
فأنا المجروحُ مِنْ عضّتهـا،
لا شَفاني الله منـهـا أبَـدا!

فلمّا انتهيتُ قال: لله أنت! وإنْ كان طبُعك مخترَعاً منك؟ ثم قال لي: أنشِدني من رِثائك شيئاً؟ فأنشدتُه من قولي في بُنيّةٍ صغيرة:

أيها المعتَدُّ في أهل النُّهى،
ولا تَذُبْ، إثر فقيدٍ، ولها

حتى انتهيتُ إلى قولي:

وإذا الأُسْدُ حَمَتْ أغـيالـهـا،
لم يَضُرَّ الخيس صرعاتُ المَها
وغريبٌ يا ابنَ أقمار الـعُـلا،
أن يُراع البدرُ من فقدِ السُّهـا

فلما انتهيتُ قال لي: أنشِدني من رثائك أشدّ من هذا وأفصَح. فأنشدتُهُ من رثائي في ابن ذَكْوان. ثم قال: أنشِدني جَحْدريّتَك من السجن؛ فأنشدته: قريبٌ بمُحْتَبلّ الهَوان بعيدِ حتى انتهيتُ فيها إلى قولي:

فإنْ طال ذكْري بالمُجون فإنـنـي
شقيٌّ بمنظوم الـكـلام سَـعـيدُ
وهل كنتُ في العشّاق أوّل عاشقٍ،
هَوَتْ بحِجـاه أعـينٌ وخـدود؟
فمّن مبلغُ الفتيان أني بـعـدهـم
مقيمٌ بدار الظـالـمـين طَـريدُ
ولستُ بـذي قـيدٍ يرقُّ، وإنـمـا
على اللحظ من سُخط الإمام قيودُ

فبكى لها طويلاً. ثم قال: أنشدْني قطعةً من مجونك، فقد بعُد عهدي بمثلك.

فأنشدته:

وناظرةٍ تحت طـيّ الـقـنـاع،
دعاها إلى الـلـه والـخـير داعِ
سَعَت بابنها تـبـغـي مـنـزلاً،
لوصل التَّبَـتُّـل، والانـقـطـاع
فجاءتْ تهادى كمـثـل الـرَّؤوم،
تُراعي غزالاً بـأعـلـى يَفـاعِ
أتتنا تبخْـتَـرُ فـي مـشـيهـا،
فحلّت بوادٍ كـثـيرِ الـسِّـبـاعِ
وريعَتْ حِذاراً على طـفـلـهـا،
فنـاديتُ: يا هـذه لا تُـراعـي!
فولّت وللمِـسـك مـن ذيلـهـا،
على الأرض، خطٌّ كطهر الشُّجاعِ

فلما سمع هذا البيت قام يرقُص به ويردّده، ثم أفاق، ثم قال: هذا والله شيء لن نُلهمه نحن، ثم استدناني فدنوتُ منه فقبّل بين عينيَّ، وقال: اذهب فإنك مُجاز. فانصرفنا عنه وانحدرنا من الجبل.

صاحب أبي الطيب

فقال لي زهير: ومنْ تريد بعد؟ قلت له: خاتمة القوم صاحب أبي الطيّب؛ فقال: اشدُد له حَيازيمك، وعطّر له تسمك، وانثُر عليه نجومك. وأمال عنان الأدهم إلى طريقٍ، فجعل يركض بنا، وزهيرٌ يتأمّل آثار فرسٍ لمحناها هناك؟ فقلت له: ما تتبَّعك لهذه الآثار؟ قال: هي آثار فرس حارثة بن المغلَّس صاحب أبي الطيب، وقصدي هو صاحب قَنص. فلم يزل يتقرّاها حتى دفعنا إلى فارسٍ على فرسٍ بيضاء كأنه قضيبٌ على كثيب، وبيده قناةٌ قد أسندها إلى عنقه، وعلى رأسه عمامةٌ حمراء قد أرخى لها عَذَبَةً صفراء. فحيّاه زهير، فأحسن الردّ ناظراً من مقلةٍ شَوساء، قد مُلئت تيهاً وعُجباً. فعرّفه زهيرٌ قصدي، وألقى إليه رغبتي. فقال: بلغني أنه يتناول؛ قلت: للضرورة الدافعة، وإلا فالقريحة غير صادعة، والشفْرة غير قاطعة. قال: فأنشدني؛ وأكبرتُه أن أستنشده، فأنشدته قصيدتي التي أوّلها: أبرقٌ بدا أمْ لمع أبيضَ قاصِلِ حتى انتهيت إلى قولي:

ترددَ فيها البرقُ حتى حسبـتُـهُ
يشير إلى نجمٍ الرُّبى بالأنـامـلِ
ربىً نسجت أيدي الغَمام للُبسهـا
غلائلَ صُفراً، فوق بيضِ غلائلِ
سهرتُ بها أرعى النجوم وأنجماً
طوالع للراعين، غـير أوافـلِ
وقد فغرتْ فاها بها كلّ زهـرةٍ،
إلى كل ضَرعٍ للغَمامة حافـلِ
ومرّت جيوش المُزن رَهواً، كأنهـا
عساكر زَنْجٍ مذهَباتُ المنـاصِـلِ
وحلّقتِ الخضراء في غُرّ شُهبهـا،
كلُجّة بحرٍ كُلّلـتْ بـالـيعـالـلِ
تخال بها زُهر الكواكب نرجِـسـاً،
على شطّ وادٍ للـمـجَـرّة سـائلِ
وتلمحُ من جَوزائها في غُروبـهـا
نساقُطَ عرشٍ واهنِ الدعـم مـائلِ
وتحسب صقراً واقعاً دَبَـرانـهـا،
بعُشّ الثريا فوق حمر الحواصـلِ
وبَدرَ الدجى فيها غديراً، وحـولـه
نجومٌ كطلعات الحمام الـنـواهـلِ
كأن الدجى همّي، ودمعي نجومـه،
تحدّر إشفـاقـاً لـدهـر الأراذلِ
هوتْ أنجم العلـياء إلاّ أقـلّـهـا،
وغِبنَ بما يحظى به كـل عـاقـلِ
وأصبحتُ في خلفٍ إذا ما لمحتُهـم
تبيّنتُ أن الجهل إحدى الفـضـائلِ
وما طاب في هذي البـريّة أخـرٌ،
إذا هو لم يُنجـدْ بـطِـيب الأوائلِ
أرى حُمُراً فوق الصواهـلِ جـمّةً،
فأبكي بعَيْني ذُبلّ تلك الصـواهـلِ
ورُبّتَ كُتّـابٍ إذا قـيبـل: زوِّروا،
بكتْ من تأنّيهم صُدورُ الـرسـائلِ
وناقل فِقْهٍ لم يرَ الـلـه قـلـبـه،
يظنّ بأن الدين حِفظُ الـمـسـائلِ
وحاملِ رمحٍ راحَ، فوق مَـضـائه،
به كاعباً في الحيّ ذات مـغـازلِ
حُبُّوا بالمُنى دوني، وغودِرتُ دونهم
أرودُ الأماني في رياض الأباطـلِ
وما هـي إلا هـمةٌ أشـجـعـيّةٌ،
ونفْسٌ أبتْ لي من طِلاب الـرذائلِ
وفهمٍ لو البِرجيسُ جـئتُ بـجـدّه،
إذاً لتلقّاني بنحْـسِ الـمـقـاتِـلِ
ولمّا طَما بحر البَيان بفـطـرتـي،
وأغرقَ قرْن الشمس بعض جداولي
رحلتُ إلى خير الورى كـلّ حـرّةٍ
من المدح، لم تَخمُلْ بِرَعي الخمائلِ
وكدتُ لفضلِ القول أبلُغُ ساكـتـاً،
وإنْ ساء حُسّادي مدى كـلّ قـائلِ

فلما انتهيتُ قال: أنشدني أشدّ من هذا. فأنشدتُه قصيدتي: هاتيكَ دارُهُمُ فقِفْ بمَعانِها

فلما انتهيتُ، قال لزهير: إن امتدّ به طلق العُمُر، فلا بدّ أن بنفث بدُرر، وما أُراه إلا سيُحتضَر، بين قريحةٍ كالجمر، وهمّةٍ تضع أخمصه على مفرِقِ البدر.

فقلت:

أهلاَّ وضعتُه على صَلعة النسر? فاستضحك إليّ وقال: اذهب فقد أجزتُك بهذه النُّكتة. فقبّلتُ على رأسه وانصرفنا.