انتقل إلى المحتوى

خطب لسان الحال فيه أبكم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

خَطْبٌ لِسانُ الحالِ فيهِ أبكَمُ

​خَطْبٌ لِسانُ الحالِ فيهِ أبكَمُ​ المؤلف صفي الدين الحلي


خَطْبٌ لِسانُ الحالِ فيهِ أبكَمُ،
وهوًى طَريقُ الحَقّ فيهِ مُظلِمُ
وقَضيّةٌ صَمَتَ القُضاةُ تَرَفّعاً
عن فصلها، والخصمُ فيها يحكمُ
أمسَى الخَبيرُ بها يُسائِلُ: مَن لها،
فأجَبتُهُ، وحُشاشتي تَتَضرّمُ:
إن كنتَ ما تدري، فتلكَ مصيبةً،
أو كنتَ تَدري، فالمُصيبَةُ أعظَمُ
أشكو فيَعرِضُ عن مَقالي ضاحكاً،
والحرُّ يوجعهُ الكلامُ ويؤلمُ
ماذاكَ من فرطِ العياءِ، وإنّما
لِهَوَى القلوبِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ
فلئِنْ عَلا رأسي المَشيبُ، فلم يكُنْ
كبراً، ولكنّ الحوادثَ تهرمُ
فالله يَحرُسُ ماردينَ، فإنها
بلَدٌ يَلَذُ بها الغَريبُ ويَنعَمُ
أرضٌ بها يسطو على الليثِ الطلا،
ويعوثُ في غابِ الهزبرِ الأرقمُ
حالتْ بها الأشياءُ عن عاداتها،
فالخيلُ تنهقُ، والحميرُ تحمحمُ
يجني بها الجاني، فإنْ ظَفِروا بهِ
يوماً، يُحَلَّفُ بالطّلاقِ ويُرحَمُ
شَرْطُ الوُلاةِ بها بأنْ يَمْضي الَّذي
يَمْضي، ويَسْلَمُ عِنْدَهُمْ ما يَسْلَمُ
لا كالشآمِ، فإنّ شرطَ ولاتِها:
اللصُّ يجني، والمقدَّمُ يغرمُ
ومُعَنِّفٍ في الظّنّ قلتُ له: اتّئِدْ،
فأَقصِرْ، فبَعضُ الغَيبِ غَيبٌ يُعلَمُ
من أينَ يدري اللصُّ أنّ دراهمي
لم يبقَ منها في الخزانةِ درهمُ؟
صَبَروا، ومالي في البيوتِ مُقَسَّمٌ،
حتى إذا اكتملَ الجميعُ تسلمّوا
يا أيها الملكُ الذي في عصرِهِ
كُلُّ المُلوكِ لعَدلِهِ تَتَعَلّمُ
لا تطمعنّ ذوي الفسادِ بتركهم،
فالنذلُ تطغَى نفسهُ إذْ تكرمُ
إن كانَ من مراراً لم يخفْ
قَطعاً، فلا أدري على ما يَندَمُ
أيَجوزُ أنْ تَخفَى علَيكَ قَضِيّتي،
والنّاسُ في مُضَرٍ بها تَتَكَلّمُ
فإذا شكَوتُ، يقالُ لم يَذهَبْ لهُ
مالٌ، ولكنْ ظالِمٌ يتَظَلّمُ
أيَجوزُ أنْ يُمسي السّقيمُ مُبَرّأً
منها، وصِبيانُ المَكاتِبِ تُتْهَمُ
وأُجيلُ عَيني في الحبوسِ فلا أرى
إلاّ ابنَ جاري، أو غلاماً يخدمُ
أيزارُ في بابِ البويرةِ راهبٌ
ليلاً، فيدري في الصباحِ ويعلمُ
وتزفُّ داري بالشموعِ جماعةٌ
غُلبٌ، فيُستَرُ عن عُلاكَ ويُكتَمُ
قومٌ لهمْ ظهرٌ شديدٌ مانعٌ،
كُلٌّ بهِ يَدري على ما يُقدِمُ
لا يَحفِلونَ، وقد أحاطَ عديدُهم
بالدّارِ، أيقاظٌ بها أو نُوّمُ
إن يَظفَروا فتَكوا، وإنْ يُظفَرْ بهِم،
كلٌّ عليهِ ينابُ أويستخدمُ
فأقِمْ حدودَ اللَّهِ فيهِم، إنّهمْ
وثقوا بأنكَ راحمٌ لا تنقمُ
إن كنتَ تخشى أن تعدّ بظالمٍ
لهمُ، فإنّكَ للرّعيّةِ أظلَمُ
فالحِلمُ في بَعضِ المَواطِنِ ذِلّةٌ،
والبَغْيُ جُرْحٌ، والسّياسةُ مَرهَمُ
بالبَطِش تَمّ المُلكُ لابنِ مَراجِلٍ،
وتأخّرَ ابنُ زُبَيدَةَ المُتَقَدِّمُ
وعَنَتْ لمُعتصِم الرّقابُ ببأسِه،
ودهى العبادَ بلينهِ المستعصمُ
ما رتبَ اللهُ الحدودَ، وقصدهُ،
في النّاس، أن يَرَعى المُسيءَ ويَرحَمُ
لو شاءَ قال: دَعوا القِصاصَ، ولم يقلْ
بل في القصاصِ لكم حياةٌ تنعمُ
إن كانَ تَعطيلُ الحُدودِ لرَحمَةٍ،
فاللهُ أرأفُ بالعبادِ وأرحمُ
فاجزِ المُسيءَ، كما جَزاهُ بفِعلِهِ،
واحكمْ بما قد كانَ ربكَ يحكمُ
عقرتْ ثمودُ لهُ قديماً ناقةً،
وهو الغنيّ، عن الورى، والمنعمُ
فأذاقَهمْ سَوطَ العَذابِ، وإنّهمْ
بالرجزِ يخسفُ أرضهمْ ويدمدمُ
وكَذاكَ خَيرُ المُرسَلِينَ مُحَمّدٌ،
وهوَ الذي في حكمِهِ لا يظلمُ
لمّا أتَوهُ بعُصبَةٍ سَرقوا لهُ
إبلاً من الصدقاتِ، وهو مصممُ
لم يَعفُ بل قَطَعَ الأكُفّ وأرجُلاً
من بَعدِ ما سَمَلَ النّواظِرَ منهُمُ
ورماهمُ من بعدِ ذاكَ بحرةٍ،
نارُ الهَواجرِ فوقَها تتَضرّمُ
ورجا أناسٌ أن يرقّ عليهمُ،
فأبَى، وقال: كذا يجازي المجرمُ
وكذا فتى الخطابِ قادَ بلطمةٍ
ملكاً لغسانٍ، أبوهُ الأيهمُ
فشكا، وقالَ له: أتلطمُ سوقةٌ
مَلِكاً؟ فقال: أجَل وأنفُك مُرغَمُ
هذي حدودُ اللهِ من يخللْ بها،
فجزاؤهُ، يومَ المعادِ، جهنمُ
وانظرْ لقولِ ابنِ الحسينِ وقد رأى
حالاً يشقُّ على الأبيّ ويعظمُ
لا يَسلَمُ الشرَفُ الرّفيعُ من الأذى،
حتى يراقَ على جوانبِهِ الدمُ
هذا فَعالُ اللَّهِ، ثمّ نَبيّهِ،
والصحبُ والشعراءُ، فيما نظموا
فافتُكْ بهمْ فَتكَ المُلوكِ، ولا تَلِنْ
فيصحَّ ما قالَ السوادُ الأعظمُ
واعذِرْ مُحِبّاً لم يُسىءْ بقَريضِهِ،
أدباً، ولكنّ الضرورةَ تحكمُ
واللهِ ما أسفي على مالٍ مضَى،
إلاّ على استِلزامِ بُعدي عنكُمُ
فالمالُ مكتسبٌ على طولِ المدى،
والذكرُ ينجدُ في البلادِ ويتهمُ
هَذي العِبارَةُ للمُحَقِّقِ عِبرَةٌ،
واللَّهُ أعلَمُ بالصّوابِ وأحكَمُ