تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة البقرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


{ الۤمۤ } * { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } * { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }[عدل]

{الم } أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة، أسماء العدد، إذاعدّوا يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة. وقد اختل الناس في المراد بها، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى.

{ذٰلِكَ}، ذا: إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً، ثلاثي الأصل، لا أحادي الوضع، وألفه ليست زائدة، خلافاً للكوفيين والسهيلي، بل ألفه منقبلة عن ياء، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه: ذا وذائه وهو يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً، وقالوا: ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو. {ٱلْكِتَـٰبِ }، يطلق بإزاء معان العقد المعروفبين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق

{ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ }، وعلى الفرض { إن ٱلصَّلَوٰةَ كانت علىٱلمؤمنين كتاباً موقوتاً }

{ كتب عليكم القصاص }

{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ }

وعلى الحكم، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله كتاب الله أحق وعلى القدر: يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا

أي قدر الله وعلى مصدر كتبت تقول: كتبت كتاباً وكتباً، ومنه كتاب الله عليكم، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب، قال:

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجاج يتلى كتابها

{لا } نافية، والنفي أحد أقسامها، وقد تقدمت. {رَيْبَ }، الريب: الشك بتهمة راب حقق التهمة قال: ليس في الحق يا أمية ريب إنما الريب ما يقول الكذوب

وحقيقة الريب قلق النفس: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه: أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء، وريب الدهر: صرفه وخطبه. {فِيهِ }: في لوعاء حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللوافقة على، والباء مثل ذلك زيد في المسجد

{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ }

{ ٱدْخُلُواْ فِى أُمَمٍ }

{ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ }

{ فِي ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلأَخِرَةِ }

{ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }

{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }، أي يكثركم به. الهاء المتصلة ب في من فيه ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو. {هُدًى }، الهدى: مصدر هدي، وتقدم معنى الهداية، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدي حسنة، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية: الهدي لفظ مؤنث، وقال اللحياني: هو مذكر. انتهى كلامه. قال ابن سيده: والهدي اسم من أسماء النهار، قال ابن مقبل: حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخضعن في الآل غلفاً أو يصلينا وهو على وزن فعلى، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجيء من فعلىٰ مصدر سوى هذه الثلاثة، وليس بصحيح، فقد ذكر ليشيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت: لقيته لقى وأنشدنا لبعض العرب: وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة، مثل ذلك: جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. {لّلْمُتَّقِينَ }المتقي اسم فاعل من اتقى، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس، وافتعل هنا: للاتخاذ أي اتخذ وقاية، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل، وهو: الاتخاذ، والتسبب، وفعل الفاعل بنفسه، والتخير، والخطفة، ومطاوعة أفعل، وفعل، وموافقة تفاعل، وتفعل، واستفعل، والمجرد، والإغناءعنه، مثل ذلك: اطبخ، واعتمل واضطرب، وانتخب، واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع غممته، واجتور: وابتسم، واعتصم، واقتدر، واستلم الحجر.وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف. فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو: قال، والميم في نحو: ملك، وبعضهم يقول: إنها أسماء السور، قاله زيد بنأسلم. وقال قوم: إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى. قال مجاهد: هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد. بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش. وقال الحسن: هي أسماء السور وفواتحها، وقوم: إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها. وروي عن ابن عباس وقوم: هي حروف متفرقة دلتعلى معان مختلفة، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم: يتألف منها اسم الله الأعظم، قاله علي وابن عباس، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها، أو اسم ملك من ملائكته، أو نبي من أنبيائه، لكن جهلنا طريق التأليف. وقال سعيدبن جبير: هي أسماء الله تعالى مقطعة، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم. وقال قتادة: هي أسماء القرآن كالفرقان. وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: هي حروف تدل على مدة الملة، وهي حساب أبي جاد، كما ورد في حديث حيـي بن أخطب. وروى هذا عن أبي العالية وغيره. وقيل:مدة الأمم السالفة وقيل: مدة الدنيا. وقال أبو العالية أيضاً: ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين، وقيل: هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم. وقال قطرب وغيره:هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله: {الم } بمنزلة:أ ب ت ث، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفاً. وقال قوم: هي تنبيه كما في النداء. وقال قوم: إنا لمشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقيل: هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب في أول سور منه حروف مقطعة، وقيل: حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه. وقال ابن عباس: {الم } أنا الله أعلم، والمراد أنا الله أرى. و{المص } أنا الله أفصل. وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك. وروي عن ابن عباس الألف: من الله، واللام: من جبريل، والميم: من محمد . وقال الأخفش: هي مبادىء كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم. وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا يتضمن أموراً كثيرة دارت فيها الألسن، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد، وليسمنها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم. وقال قوم: معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو، ولهذا قال الصديق رضي الله عنه: في كتاب الله سر، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور. وبه قال الشعب. وقال سلمة بن القاسم: ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وهي خزانة سرّه ومكنون علمه، ومنها تتفرع أسماء الله كلها، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب، وعلى هذا حوّم جماعة من القائلين بعلوم الحروف، وممن تكلم في ذلك: أبو الحكم بن برجان، وله تفسير للقرآن، والبوني، وفسر القرآن والطائي بن العربي، والجلالي، وابن حمويه، وغيرهم، وبينهم اختلاف في ذلك. وسئل محمد بن الحنفية عن {كهيعص } فقال للسائل: لو أُخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك. وقال قوم: معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه. وقال قوم: اختص الله بعلمها نبيه . وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها. والذي أذهبُ إليه: أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وسائر كلامه تعالى محكم. وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين، قالوا: هي سر الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت. وقال الجمهور: بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه. قال ابن عطية: والصواب ما قال الجمهور، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول الشاعر:

قلت لها قفي فقالت قاف أراد قالت وقفت

وكقول القائل:بالخير خيرات وإن شرَّفا ولا أريد الشر إلا أن تآ

أراد وإن شراً فشر، وأراد إلا أن تشاء: والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه، انتهى كلامه. وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا: لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم، هذا إذا جعلناها اسماً للسور،وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماءالسور، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف، ومنه مالا يمنع الصرف، وتفصيل ذلك في علم النحو. وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية، فقال الكوفيون: {الم }آية، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها، وكذلك {المص } و{طسم } وأخواتها و{طه } و{يس }و{حـم } وأخواتها إلا {حـم عسق } فإنها آيتان و{كهيعص } آية، وأما {المر } وأخواتها فليست بآية، وكذلك{طس } و{ص } و{ق } و{ن } و{القلم} وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة، وجعلوا الكلمةآية، كما عدوا: {ٱلرَّحْمَـٰنُ } {ومدهامتـان} آيتيين. وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية. وذكر المفسرون الاقتصار على هذهالحروف في أوائل السور، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها. وذكروا أنالتركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة، وهو: كهيعص، لأنه أقصى ما يتركب منه الإسم المجرد، وقطع ابن القعقاع ألفلام ميم حرفاً حرفاً بوقفة وقفة، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلافي طس تلك فإنه لم يظهر، وذلك اسم مشار بعيد، ويصح أن يكون في قوله {الم ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } علىبابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب، فإذا حملناه على موضوعه فالمشارإليه ما نزل بمكة من القرآن، قاله ابن كيسان وغيره، أو التوراة والإنجيل، قاله عكرمة، أو ما في اللوح المحفوظ،قاله ابن حبيب، أو ما وعد به نبيه من أنه ينزل إليه كتاباً لا يمحوه الماءولا يخلق على كثرة الرد، قاله ابن عباس، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق، قاله عطاء بن السائب، أوالكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، قاله ابن رئاب، أو الذي لم ينزل من القرآن، أو البعد بالنسبة إلى الغايةالتي بين المنزل والمنزل إليه، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها. وسمعت الأستاذ أبا جعفربن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله:{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ }، كأنهم لما سألوا الهداية إلىالصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورةالبقرة بسورة الحمد، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره، لا إلى شيء لم يجر له ذكر، وقدركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله: {ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }. والذي نختاره منها أن قوله: {ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ }جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار، كان أولى أن يسلك بهالإضمار والافتقار، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف، وأسوغهافي لسان العرب. ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرىء القيس، وشعر الأعشى، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ منوجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله من أفصح كلام، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه، هذا على أناإنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه، فقالوا: يجوز أن يكون ذلك خبرالمبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً.وفي موضع خبر {الم } {وَلاَ رَيْبَ } جملة تحتمل الاستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون فيموضع خبر لذلك، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر، إذا كان الكتاب خبراً، وقلت بتعدد الأخبارالتي ليست في معنى خبر واحد، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين، لأن الأول مفرد والثاني جملة، وأن يكون فيموضع نصب أي مبرأ من الريب، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن، فهو في موضع نصبولا وهو في موضع رفع بالابتداء، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصبفي الاسم فقط، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا، فعملت عنده النصب والرفع، وتقرير هذا في كتبالنحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب، والفتح هو قراءة الجمهور. وقرأ أبو الشعثاء: {لاَرَيْبَ فِيهِ } بالرفع، وكذا قراءة زيد بن علي حيث رفع، والمراد أيضاً هنا الاستغراق، لا من اللفظ بل مندلالة المعنى، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، وصار نظير من قرأ:{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } بالبناء والرفع،لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم، ويحتمل نفي الوحدة، لكن سياق الكلام يبينأن المراد العموم، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا، أو يكون عملها إعمالليس، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الإسم ونصبت الخبر،أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الإسم خاصة، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضعرفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الإسم معها، وذلك في مذهب سيبويه، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ }، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليسضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بنعمير، فيه: بضم الهاء، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبيإسحاق: فهو بضم الهاء ووصلها بواو، وجوزوا في قوله: أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش، وخبراً لها مع اسمهاعلى مذهب سيبويه، أن يكون صفة والخبر محذوف، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريبفيتعلق به، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعمولهنحو لا ضارباً زيداً عندنا، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علملم تلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب، وإدغامالباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو، والمشهور عنه الإظهار، وهي رواية اليزيدي عنه. وقد قرأتهبالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس، ونفي الريب يدل على نفي الماهية، أي ليس مما يحله الريب ولايكون فيه، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين. فعلى ما قلناه لا يحتاجإلى حمله على نفي التعليق والمظنة، كما حمله الزمخشري، ولا يرد علينا قوله تعالى:{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } لاختلافالحال والمحل، فالحال هناك المخاطبون، والريب هو المحل، والحال هنا منفي، والمحل الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في ريب منالقرآن وكون الريب منفياً عن القرآن. وقد قيد بعضهم الريب فقال: لا ريب فيه عند المتكلم به، وقيل هوعموم يراد به الخصوص، أي عند المؤمنين، وبعضهم جعله على حذف مضاف، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيهوصدق أخباره. وهذه التقادير لا يحتاج إليها. واختيار الزمخشري أن فيه خبر، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال: هلاقدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى:{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }؟ وأجاب: بأن التقديم يشعر بمايبعد عن المراد، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنةعلى خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيبوالنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحداً يفرق بين: ليس فيالدار رجل، وليس رجل في الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال، وقد وصفت بذلك العرب خمرالدنيا، قال علقمة بن عبدة:تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم وأبعدمن ذهب إلى أن قوله: لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ، وفيه في موضع الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى،أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عنذلك، وبقوله لا ريب فيه، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مرفي الإعراب، أو في موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة، أو الكتاب، والعامل فيهاعلى هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد،فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنهاحال لازمة. والأولى: جعل كل جملة مستقلة، فذلك الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم يحتج إلىحرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق. فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل، كما تقول: زيد الرجل، أي الكاملفي الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز إما فيه هدى،أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى، كقوله:إذا مـا مـات ميت مـن تميـم والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أوترك، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر؟ في ذلك خلاف. وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين، فحذف لدلالة أحد الفريقين، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم. ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هوالطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله الذي قال فيه { مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء }، فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنهنفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها، وفيالثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفاًوالهدى مظروفاً، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيتعلى زيد في قولك: زيد في البيت: {ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }: الإيمان: التصديق،{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }، وأصله منالأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صدقة، وأمن به: وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب،وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء واللام { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَىٰ }، والتعدية باللام في ضمنها تعدبالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب: مصدر غاب يغيب إذا توارى، وسمى المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيلمن غاب فأصله غيب، وخفف نحو لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في ذوات الياء، فلا يجيز فيلين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو، ونحو: سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء.وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. {وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ } والإقامة: التقويم،أقام العود قومه، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر،والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة: فعلة، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب،ويمتد منه عرقان في كل ورك، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصلياً، ومنهأخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق. قال ابن عطية: فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانيةالإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة، وصلىفعل الصلاة، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذمن صلى بمعنى دعا، كما قال:عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً وقال: لها حارس لا يبرح الدهر بيتها وإن ذبحت صلى عليها وزمزما

قال: فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء، وانضاف إليه هيئآت وقراءة، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاءأحسن، انتهى كلامه. وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة، ومن حرف جر. وزعم الكسائيأن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة: بذلنا مارن الخطى فيهم وكل مهند ذكر حسام منا أن ذر قرن الشمس حتى

وتأول ابن جني، رحمهالله، على أنه مصدر على فعل من منى بمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال: وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل، ولموافقة في مثل ذلك: سرت من البصرة إلى الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل،{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ }

{ في آذانهم من الصواعق }

{ بٱلحياة ٱلدنيا من الآخرة }

{ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ }، قربت منه،

{ وَنَصَرْنَـٰهُ مِنَ ٱلْقَوْمِ }

{ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ }

{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ }

{ مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ }. ما تكون موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة.مثل ذلك: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } مال هذا الرسول، {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ }، مررت بما معجب لك،لأمر ما جدع قصير أنفه، ما أحسن زيداً. {رَزَقْنَـٰهُمْ } الرزق: العطاء، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيلالرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته، {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا }، وقال:رزقت مالاً ولم ترزق منافعه إن الشقي هو المحروم ما رزقا وقيل: أصل الرزق الحظ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها: الجمع، والتفريق،والإعطاء، والمنع، والامتناع، والإيذاء، والغلبة، والدفع، والتحويل، والتحول، والاستقرار، والسير، والستر، والتجريد، والرمي، والإصلاح، والتصويت. مثل ذلك: حشر، وقسم، ومنح،وغفل، وشمس، ولسع، وقهر، ودرأ، وصرف، وظعن، وسكن، ورمل، وحجب، وسلخ، وقذف، وسبح، وصرخ. وهي هنا للإعطاء نحو: نحل، ووهب،ومنح. {يُنفِقُونَ }، الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد، والهمزة للتعدية، يقال نفق الشيء نفذ، وأصل هذه المادة تدلعلى الخروج والذهاب، ومنه: نافق، والنافقاء، ونفق.. {وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلأْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين، أو البدل والنصب على المدح على القطع، أو بإضمار أعني علىالتفسير قالوا، أو على موضع المتقين، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام،والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل، لأنه هنالا ينحل بحرف مصدر وفعل، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى، أي هدىكائن للمتقين، والرفع على القطع أي هم الذين، أو على الابتداء والخبر. {أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُٱلْمُفْلِحُونَ }، أولئك المتقدمة، وأولئك المتأخرة، والواو مقحمة، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن، والمختار في الإعراب الجرعلى النعت والقطع، إما للنصب، وإما للرفع، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور: يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاءالكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي هذا عن عاصم، وقرأ رزينبتحريك الهمزة مثل: يؤخركم، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الإسم، كمررت بزيد، فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، فيتعين في هذا الوجه المصدر، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل، قالوا: وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه: هذا خلق لله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظرلأن الغيب مصدر غاب اللازم، أو على التخفيف من غيب كلين، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز التخفيف، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلاً من كلام العرب. والغيب هنا القرآن،قاله عاصم بن أبي الجود، أو ما لم ينزل منه، قاله الكلبي، أو كلمة التوحيد وما جاء به محمد صلىالله عليه وسلم، قاله الضحاك، أو علم الوحي، قاله ابن عباس، وزر بن حبيش، وابن جريج، وابن وافد، أو أمرالآخرة، قاله الحسن، أو ما غاب من علوم القرآن، قاله عبد الله بن هانىء، أو الله عز وجل، قاله عطاء،وابن جبير، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة، قاله ابن عيسى، أو القضاء والقدر، أو معنى بالغيب بالقلوب،قاله الحسن؛ أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات، أو المهدي المنتظر، قاله بعض الشيعة، أو متعلق بماأخبر به الرسول من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو: الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخروالقدر، خيره وشره، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب. والإيمان المطلوب شرعاً هو ذاك، ثمإن هذا تضمن الاعتقاد القلبي، وهو الإيمان بالغيب، والفعل البدني، وهو الصلاة، وإخراج المال. وهذه الثلاثة هي عمد أفعال المتقي،فناسب أن يشرح الغيب بما ذكرنا، وما فسر به الإقامة قبل يصلح أن يفسر به قوله: {وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ }، وقالوا:وقد يعبر بالإقامة عن الأداء، وهو فعلها في الوقت المحدود لها، قالوا: لأن القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت،والقنوت القيام بالركوع والسجود. قالوا: سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها، {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبّحِينَ }، قاله الزمخشري ولايصح إلا بارتكاب مجاز بعيد، وهو أن يكون الأصل قامت الصلاة بمعنى أنه كان منها قيام ثم دخلت الهمزة للتعديةفقلت: أقمت الصلاة، أي جعلتها تقوم، أي يكون منها القيام، والقيام حقيقة من المصلي لا من الصلاة، فجعل منها علىالمجاز إذا كان من فاعلها. والصلاة هنا الصلوات الخمس، قاله مقاتل: أو الفرائض والنوافل، قاله الجمهور. والرزق قيل: هو الحلال،قاله أصحابنا، لكن المراد هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي. ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط، وكانحقها أن تكوم منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد، ولأنها قد أخفيت نون منفي اللفظ فناسب حذفها في الخطأ، وهنا للتبعيض، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف.والنفقة التي في الآية هي الزكاة الواجبة، قاله ابن عباس، أو نفقة العيال، قاله ابن مسعود وابن عباس؛ أو التطوعقبل فرض الزكاة، قاله الضحاك معناه، أو النفقة في الجهاد أو النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، وقالوا إنهكان الفرض على الرجل أن يمسك مما في يده بمقدار كفايته في يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء، ورجح كونهاالزكاة المفروضة لاقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن والسنة، ولتشابه أوائل هذه السورة بأول سروة النمل وأول سورةلقمان، ولأن الصلاة طهرة للبدن، والزكاة طهرة للمال والبدن، ولأن الصلاة شكر لنعمة البدن، والزكاة شكر لنعمة المال، ولأن أعظمما لله على الأبدان من الحقوق الصلاة، وفي الأموال الزكاة، والأحسن أن تكون هذه الأقوال تمثيلاً للمتفق لا خلافاً فيه.وكثيراً ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق، أو أخبر به، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أنالذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه، وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة، ولم يجعل الموصولأل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدحفي صفة المتقين تجدد الأوصاف، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد وإشعاراً أن المخرج هوبعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه، واجتمعت فيه شروطجواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر، ومن شيء رزقناهموالضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل ما موصولة لعمومها، ولأن حذفالعائد على الموصول أو جعل ما مصدرية، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر، فيضطرإلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق، وترتيب الصلاة علىحسب الإلزام. فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائماً، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات، والنفقة لازمة في بعض الأوقات، وهذا من بابتقديم الأهم فالأهم. الإنزال: الإيصال والإبلاغ، ولا يشترط أن يكون من أعلا، {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } أي وصل وحل،إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن، وأجاز الفراء زيادتها، مثل ذلك: سرتإلى الكوفة، {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ }، السجن أحب إلي، {وَٱلاْمْرُ إِلَيْكِ }، كأنني إلى الناس مطلبي، أي فيالناس. أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو، أي تهواهم، وحكمهافي ثبوت الفاء، وقلبها حكم على، وقد تقدم. والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر، وتكسر للمؤنث، ويلحقها ما يلحق أنتفي التثنية والجمع دلالة عليهما، وربما فتحت للمؤنث، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو:ولست بسائل جارات بيتي أغياب رجالك أم شهود

قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو،ومدلول قبل متقدم، كما أن مدلول بعد متأخر. الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف

{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ }

{ وَلَدَارُ ٱلاْخِرَةِ }، ثم صارت من الصفات الغالبة، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذفوينقل الحركة إلى اللام. الإيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته، وافعل بمعنى استفعل كابلبمعى استبل. وقرأ الجمهور: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } مبنياً للمفعول، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بنقطيب مبنياً للفاعل. وقرىء شاذاً بما أنزل إليك بتشديد اللام، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن وضاح آخرالماضي في قوله:إنمـا شعري قيـد، قد خلط بخلجـان ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلانمن كلمتين، والإدغام جائز فأدغم. وقرأ الجمهور: يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن. وقرأأبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو، كما قال الشاعر:لحب المؤقذان إلى موسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضمومفكان الضمة فيها، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت، فأبدلوا من هذه همزة، إذقدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل، فيحتمل أن يراد مؤمنوا أهل الكتاب لإيمانهمبكل وحي، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنوا العرب، وذلكلانقسام المتقين إلى القسمين. وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسممن المتقين. ويحتمل المغايرة في الوصف، فتكون الواو للجمع بين الصفات، ولا تغاير في الذواب بالنسبة للعطف وحذف الفاعل فيقراءة الجمهور، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل، نحو: أنزل المطر، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي، وأبي حيوة، ويزيد بن قطيب،فاعله مضمر، قيل: الله أو جبريل. قالوا: وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله: {وَمِمَّا}، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، إذ لو جرى على الأول لجاء {بِمَا * أَنزَلْنَا إِلَيْكَ }، {وَمَاأَنزَلْنَا مِن قَبْلِكَ }، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة، فأقام الأكثر مقام الجميع،أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقتصي الإيمان بالمتأخر، لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولميعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان. وبالآخرة: تقدم أن المعنىبها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة، إذ قد جاء أيضاً مصرحاً بهذا الموصوف،وكلاهما يدل على البعث. وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق، وإن كان فيالحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعاً لمجاز إطلاق العلم، ويراد به الظن، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكونإلا إيقاناً لا يخالطه شيء من الشك والارتياب. وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة لتكرار، وكانالإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب،ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى. فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل، فلذلك خص بلفظالإيقان، ولأن المنزل إلى الرسول مشاهد أو كالمشاهد، والآخرة غيب صرف، فناسب تعليق اليقين بما كانغيباً صرفاً. قالوا: والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أو استدلالياً، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى، ليس منصفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكدفي الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك: ريد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الإسم في الكلام بكونه مضمراً، وتصديرهمبتدأ بشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله: {هُمْ يُوقِنُونَ}، ولم يذكر لفظة هم في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاجهذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ كان يكون وممارزقناهم هم ينفقون. أولئك: اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاءالتنبيه لا تدخل عليه. وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين،وبالكسر على أصل التقائهما. الفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية، أو البقاء، قيل: وأصله الشق والقطع:إن الحـديـد بالحـديـد يفـلـح وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو: فلي وفلق وفلذ، تقدم في إعراب الذين يؤمنون بالغيب، إن منوجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكونبدلاً وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله: {عَلَىٰ هُدًى }، وإن كان رفع الذينعلى أنه خبر مبتدأ محذوف، أو كان مجروراً أو منصوباً، كان أولئك مبتدأ خبره {عَلَىٰ هُدًى }، وقد تقدم أنالا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به، وأي فائدةللتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به. وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكرأن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم، اتجه لسائل أن يقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين جمعواهذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بالمنزل، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل، وذوو فلاح فيالآجل. ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله: أحب رسول الله الأنصار الذين قارعوا دونه،فكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين، كما استأنف بصفة الأنصار. وعلى مااخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذهالأوصاف الشريفة هو على هدى، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله: {عَلَىٰ هُدًى }، هو مجاز نزل المعنى منزلةالعين، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول: فلان على الحق، وإنما حصل لهم هذاالاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم، أي كائن من ربهم، تعظيمللهدى الذي هم عليه. ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيـىء لهمأسباب السعادتين: الدنيوية والأخروية، فجعلهم في الدنيا على هدى، {وَفِي ٱلاْخِرَةِ * هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. وقد تكون ثم صفة محذوفةأي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوبإلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم. وقرأ ابن هرمز: منربهم بضم الهاء، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء،ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صارالخبر مبنياً على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا، ومنهاما متعلقة أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتىبحرف العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه.ألا ترى إلى قوله تعالى:{ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ } بعد قوله:

{ أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ }

كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبريناللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خيراً عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره،والجملة من قوله: هم المفلحون في موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو. وقدجمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنهمحل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترىإلى قوله تعالى:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا }

{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ }، وقوله:{ وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاْنثَىٰ }

{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلاْولَىٰ }، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به فينسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتةوالإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى:{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ } ،فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم عُبِد من دونالله واتُّخذ إلهاً، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد.والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن، وذلك أنك إذا قلت: زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجودذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له: زيد المنطلق، فتفيده معرفةالنسبة التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت: زيد هو المنطلق، لتأكيد النسبة، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أنالمخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة. وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى: {الم} إلى قوله: {ٱلْمُفْلِحُونَ } أقوالاً: أحدها: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة.الثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد. وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعاً: الأول: حسن الافتتاح، وأنهتعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط. الثاني: الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارةإلى بعد المنازل. الثالث: معدول الخطاب في قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ } صيغته خبر ومعناه أمر، وقد مضى الكلامفيه. الرابع: الاختصاص هو في قوله {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }. الخامس: التكرار في قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }، {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَإِلَيْكَ }، وفي قوله: {ٱلَّذِينَ }، {وَٱلَّذِينَ } إن كان الموصوف واحداً فهو تكرار اللفظ والمعنى، وإن كان مختلفاً كانمن تكرار اللفظ دون المعنى، ومن التكرار {أُوْلَـٰئِكَ }، {وَأُوْلـئِكَ }. السادس: تأكيد المظهر بالمضمر في قوله: {وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ}، وفي قوله: {هُمْ يُوقِنُونَ }. السابع: الحذف، وهو في مواضع أحدها هذه ألم عند من يقدر ذلك، وهو هدى،وينفقون في الطاعة، وما أنزل إليك من القرآن، ومن قبلك، أي قبل إرسالك، أو قبل الإنزال، وبالآخرة، أي بجزاء الآخرة،ويوقنون بالمصير إليها، وعلى هدى، أي أسباب هدى، أو على نور هدى، والمفلحون، أي الباقون في نعيم الآخرة.

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } * { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } * { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ }

{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَـٰدِعُونَٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }، الناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومرادفه: أناسي،جمع: إنسان أو إنسي. قد قالت العرب: ناس من الجن، حكاه ابن خالويه، وهو مجاز إذ أصله في بني آدم،ومادته عند سيبويه رحمه الله والفراء: همزة ونون وسين، وحذفت همزته شذوذاً، وأصله أناس ونطق بهذا الأصل، قال تعالى:

{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ }، فمادته ومادة الإنس واحدة. وذهب الكسائي إلى أن مادته نون وواو وسين، ووزنه فعل مشتقمن النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس نوساً إذا تحرك، والنوس: تذبذب الشيء في الهواء، ومنه نوس القرط في الأذنوذلك لكثرة حركته. وذهب قوم إلى أنه من نسي، وأصله نسي ثم قلب فصار نيس، تحركت الياء وانفتح ما قبلهافقلبت ألفاً فقيل: ناس، ثم دخلت الألف واللام. والكلام على هذا الأقوال مذكور في علم التصريف. من: موصولة، وشرطية، واستفهامية،ونكرة موصوفة، وتقع على ذي العلم، وتقع أيضاً على غير ذي العلم إذا عومل معاملة العالم، أو اختلط به فيماوقعت عليه أو فيما فصل بها، ولا تقع على آحاد ما لا يعقل مطلقاً خلافاً لزاعم ذلك. وأكثر لسان العربأنها لا تكون نكرة موصوفة إلا في موضع يختص بالنكرة، كقول سويد بن أبي كاهل:رب من أنضجت غيظاً صدره لو تمنى لي موتاً لم يطع

ويقل استعمالها في موضع لا يختص بالنكرة، نحوقول الشاعر:فكفى بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا

وزعم الكسائيأن العرب لا تستعمل من نكرة موصوفة إلا بشرط وقوعها في موضع لا يقع فيه إلا النكرة، وزعم هو وأبوالحسن الهنائي أنها تكون زائدة، وقال الجمهور: لا تزاد. وتقع من على العاقل المعدوم الذي لم يسبقه وجود، تتوهمه، موجوداًخلافاً لبشر المريسي، وفاقاً للقراء، وصححه أصحابنا. فأما قول العرب: أصبحت كمن لم يخلق فنزيد: كمن قد مات، وأكثر المعربينللقرآن متى صلح عندهم تقدير ما أو من بشيء جوزوا فيها أن تكون نكرة موصوفة، وإثبات كون ما نكرة موصوفةيحتاج إلى دليل، ولا دليل قاطع في قولهم: مررت بما معجب لك لإمكان الزيادة، فإن اطرد ذلك في الرفع والنصبمن كلام العرب، كان سرني ما معجب لك وأحببت ما معجباً لك، كان في ذلك تقوية لما دعى النحويون منذلك، ولو سمع لأمكنت الزيادة أيضاً لأنهم زادوا ما بين الفعل ومرفوعه والفعل ومنصوبه. الزيادة أمر ثابت لما، فإذا أمكنذلك فيها فينبغي أن يحمل على ذلك ولا يثبت لها معنى إلا بدليل قاطع. وأمعنت الكلام في هذه المسألة بالنسبةإلى ما يقع في هذا الكتاب من علم النحو لما ينبني على ذلك في فهم القرآن. القول: هو اللفظالموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال على النسبة الإسنادية، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني، ويقولون في أنفسهم:

{ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا ٱللَّهُ }، وتراكيبه الست تدل على معنى الخفة والسرعة، وهو متعد لمفعول واحد، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول،وللقول فصل معقود في النحو. الخداع: قيل إظهار غير ما في النفس، وأصله الإخفاء، ومنه سمي البيت المفرد في المنزلمخدعاً لتستر أهل صاحب المنزل فيه، ومنه الأخدعان: وهما العرقان المستبطنان في العنق، وسمي الدهر خادعاً لما يخفي من غوائله،وقيل الخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه، من قولهم: ضب خادع وخدع إذا أمر الحارث، وهوصائد الضب، يده على باب حجره أوهمه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر، وهو راجع إلى معنى القول الأول،وقيل أصله الفساد، من قول الشاعر:أبيض اللون لذيذ طعمه طيب الريق إذا الريق خدع أي فسد. إلا: حرف، وهو أصل لذوات الاستثناء، وقد يكون ما بعده وصفاً، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضعللاستثناء. وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو. النفس: الدم، أو النفس: المودع في الهيكل القائم به الحياة، والنفس، الخاطر، مايدري أي نفسيه يطيع، وهل النفس الروح أم هي غيره؟ في ذلك خلاف. وفي حقيقة النفس خلاف كثير ومجمع علىأنفس ونفوس، وهما قياس فعل الإسم الصحيح العين في جميعه القليل والكثير. الشعور: إدراك الشيء من وجه يدق مشتق منالشعر، والإدراك بالحاسة مشتق من الشعار، وهو ثوب بلى الجسد ومشاعر الإنسان حواسه. {فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًاوَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ }، المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف والفتور، ومنه قيل: فلان يمرضالحديث أي يفسده ويضعفه. وقال ابن عرفة: المرض في القلب: الفتور عن الحق، وفي البدن: فتور الأعضاء، وفي العين: فتورالنظر، ويطلق ويراد به الظلمة، قال:في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس به نجم ولا قمر وقيل: المرض: الفساد، وقال أهل اللغة: المرض والألم والوجع نظائر. الزيادة: فعلها يتعدى إلى اثنين منباب أعطى وكسى، وقد تستعمل لازماً نحو: زاد المال. أليم: فعيل من الألم بمعنى مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، أو للمبالغةوأصله ألم. كان: فعل يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، فيدل على زمان مضمون الجملة فقط، أوعليه وعلى الصيرورة، وتسمى ناقصة وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً، بمعنى كفل أو غزل: كنت الصبي كفلت،وكنت الصوف غزلته، وهذا من غريب اللغات، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد، وأحكامها مستوفاة فيالنحو. التكذيب: مصدر كذب، والتضعيف فيه للرمي به كقولك: شجعته وجبنته، أي رميته بالشجاعة والجبن، وهي أحد المعاني التي جاءتلها فعل وهي أربعة عشرة: الرمي، والتعدية، والتكثير، والجعل على صفة، والتسمية، والدعاء للشيء أو عليه، والقيام على الشيء، والإزالة،والتوجه، واختصار الحكاية، وموافقة تفعل وفعل، والإغناء عنهما، مثل ذلك: جبنته، وفرحته، وكثرته، وفطرته، وفسقته، وسقيته، وعقرته، ومرضته، وقذيت عينه،وشوق، وأمن، قال: آمين، وولى: موافق تولى، وقدر: موافق قدر، وحمر: تكلم بلغة حمير، وعرد في القتال. وأما الكذب فسيأتيالكلام عليه، لما ذكر من الكتاب هدى لهم، وهم المتقون الذين جمعوا أوصاف الإيمان من خلوص الإعتماد وأوصاف الإسلام منالأفعال البدنية والمالية، ولما ذكر ما آل أمرهم إليه في الدنيا من الهدى وفي الآخرة من الفلاح. ثم أعقب ذلكبمقابلهم من الكفار الذين ختم عليهم بعدم الإيمان، وختم لهم بما يؤولون إليه من العذاب في النيران. وبقي قسم ثالثأظهروا الإسلام مقالاً وأبطنوا الكفر اعتقاداً وهم المنافقون، أخذ يذكر شيئاً من أحوالهم. ومن في قوله: ومن الناس للتبعيض،وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أوللعهد، فكأنه قال: ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختوم على قلوبهم، كما ذهب إليه الزمخشريفقال: فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختوم على قلوبهم؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنساً واحداً،وكون المنافقين نوعاً من نوعي هذا الجنس مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لايخرجهم من أن يكونوا بعضاً من الجنس، انتهى. لأن المنافقين داخلون في الأوصاف التي ذكرت للكفار من استواء الإنذار وعدمه،وكونهم لا يؤمنون، وكونهم مختوماً على قلوبهم وعلى سمعهم ومجعولاً على أبصارهم غشاوة ومخبراً عنهم أنهم لهم عذاب عظيم، فهمقد اندرجوا في عموم الذين كفروا وزادوا أنهم قد ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في دعواهم. وسيأتي شرح ذلك. وسألسائل: ما معنى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ }؟ ومعلوم أن الذي يقول هو من الناس، فكيف يصلح لهذا الجار والمجروروقوعه خبراً للمبتدأ بعده؟ فأجيب بأن هذا تفصيل معنوي لأنه تقدم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكافرين، ثم أعقب بذكر المنافقين،فصار نظير التفصيل اللفظي في قوله: ومن الناس من يعجبك، ومن الناس من يشري نفسه، فهو في قوة تفصيل الناسإلى مؤمن وكافر ومنافق، كما فصلوا إلى من يعجبك قوله، ومن يشري نفسه، ومن: في قوله تعالى: {مَن يِقُولُ }نكرة موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم الذكر. ويقول: صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه. وكأنهقال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله: { مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ }قال: إن جعلت اللام للجنس يعني في قوله:ومن الناس، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة كقوله:{ وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ }. واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة بمعنىالذي قال، لأن الذي يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق يقول: وما ذهب إليه الزمخشريمن أن اللام في الناس، إن كانت للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر لا تحقيقله، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوزأن تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره. وأما استضعاف أبي البقاء كون من موصولة وزعمهأن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم: عبد الله بن أبي بنسلول، وأصحابه، ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وقد وصفهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية،وذكر عنهم أقاويل معينة قالوها، فلا يكن ذلك صارداً إلا من معين فأخبر عن ذلك المعين. والذي نختار أن تكونمن موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح. ألا ترى جعل من نكرة موصوفةإنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع التي تختصبالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جداً، حتى أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة،فلا نحمل كتاب الله ماأثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلاً الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: منالأسماء التي لفظها مفرد مذكر دائماً، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد مايعود على من مذكراً، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك، وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قالابن عطية: من يقول آمنا رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك لأن الواحدقبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من لفظ جمع إلى توحد، لو قلت: ومن الناس من يقولونويتكلم لم يجز، انتهى كلامه، وما ذكر من أنه لا يجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ، بل نص النحويونعلى جواز الجملتين، لكن البدء بالحمل على اللفظ ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى، ثم يرجع إلىالحمل على اللفظ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول الشاعر:لست ممن يكع أو يستكينو ن إذا كافحته خيل الأعادي

وفي بعض هذه المسائل تفصيل، كما أشرنا إليه. ويقول: أفرد فيه الضميرمذكراً على لفظ من وآمنا: جملة هي المقولة، فهي في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعياً للمعنى، إذ لو راعىلفظ من قال آمنت. واقتصروا من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر حيدة منهم عن أن يعترفوا بالإيمان برسول الله وبما أنزل إليه وإيهاماً أنهم من طائفة المؤمنين، وإن كان هؤلاء، كما زعم الزمخشري، يهوداً. فإيمانهمبالله ليس بإيمان، كقولهم:

{ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ }

وباليوم الآخر، كذلك لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، وهم لو قالوا ذلكعلى أصل عقيدتهم لكان كفراً، فكيف إذا قالوا ذلك على طريقة النفاق خديعة للمسلمين واستهزاءً بهم؟ وفي تكرير الباء دليلعلى مقصود كل ما دخلت عليه الباء بالإيمان. واليوم الآخر يحتمل أن يراد به: الوقت المحدود من البعث إلى استقراركل من المؤمنين والكافرين فيما أعد لهم، ويحتمل أن يراد به: الأبد الدائم الذي لا ينقطع. وسمي آخراً لتأخره، إماعن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الأول أو عن الأوقات المحدودة باعتبار الاحتمال الثاني. والباء في بمؤمنين زائدة والموضع نصب لأنما حجازية وأكثر لسان الحجاز جر الخبر بالباء، وجاء القرآن على الأكثر، وجاء النصب في القرآن في قوله: { مَا هَـٰذَا بَشَرًا }

{وما هنّ أمّهاتهم}. وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم يحفظ منه أيضاً إلا قول الشاعر:وأنا النذير بحرة مسودة تصل الجيوش إليكم أقوادها أبناؤها متكفون أباهم

ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية، بل تزاد في لغة تميم خلافاً لمن منع ذلك، وإنما ادعيناأن قوله: بمؤمنين في موضع نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنه حين حذفت الباء من الخبر ظهر النصب فيه،ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو. وإنما زيدت الباء في الخبر للتأكيد، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي إيمانهم،جاءت الجملة المنفية إسمية مصدرة بهم، وتسلط النفي على إسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان، إذلو جاء اللفظ منسحباً على اللفظ المحكي الذي هو: آمنا، لكان: وما آمنوا، فكان يكون نفياً للإيمان الماضي، والمقصود أنهمليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أيوما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يردّ الله تعالى عليهم قولهم: آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان،وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. وهم في قوله: {وَمَا هُمبِمُؤْمِنِينَ } عائد على معنى من، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد على المعنى فجمع.وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى:{ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ }

{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } الآية،{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَـٰلِحاً }. وذكر شيخنا الإمام علم الدين أبو محمد عبد الكريم بنعلي بن عمر الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والمنشأ، المعروف بابن بنت العراقي، رحمه الله تعالى، أنه جاء موضع واحدفي القرآن بدىء فيه بالحمل على المعنى أولاً ثم أتبع بالحمل على اللفظ، وهو قوله تعالى:{ وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا }، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأورد بعضهمقراءة من قرأ في الشاذ، {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } بضم الهمزة متخيلاً أنه مما بدىء فيه بالحمل على المعنى،وسيأتي الكلام عليه في موضعه. ولا يجيز الكوفيون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما، ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال ابنعصفور، ولم يرد السماع إلا بالفصل، كما ذهب الكوفيون إليه، وليس ما ذكر بصحيح، ألا ترى قوله تعالى:{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ }؟ فحمل على اللفظ في كان، إذ أفرد الضمير وجاء الخبر علىالمعنى، إذ جاء جمعاً ولا فصل بين الجملتين، وإنما جاء أكثر ذلك بالفصل لما فيه من إزالة قلق التنافر الذييكون بين الجملتين. وقراءة الجمهور: يخادعون الله، مضارع خادع. وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع لمجرد،ويحتمل قوله: {يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ } أن يكون مستأنفاً، كأن قائلاً يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل: يخادعون،ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله: يقول آمنا، ويكون ذلك بياناً، لأن قولهم: آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة، فيكونبدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة فيموضع الحال، وذو الحال الضمير المستكن في يقول، أي: ومن الناس من يقول آمنا، مخادعين الله والذين آمنوا. وجوّز أبوالبقاء أن يكون حالاً، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو: بمؤمنين، وذو الحال: الضمير المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعرابخطأ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلكالحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في لسان العرب: أحدهما: وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاكقد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك،وليس معنى الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع، بل المعنى: نفي الإيمانعنهم مطلقاً. والطريق الثاني: وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيدولم يضحك: أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهمونفي الخداع. والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال:ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهىكلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بلكل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء. فمخادعة المنافقين الله هو منحيث الصورة لا من حيث المعنى من جهة تظاهرهم بالإيمان وهم مبطنون للكفر، قاله جماعة، أو من حيث عدم عرفانهمبالله وصفاته فظنوا أنه ممن يصح خداعه. فالتقدير الأول مجاز والثاني حقيقة، أو يكون على حذف مضاف، أي يخادعون رسولالله والذين آمنوا، فتارة يكون المحذوف مراداً وتارة لا يكون مراداً، بل مخادعتهم رسول الله صلىالله عليه وسلم بمنزلة مخادعة الله، فجاء: يخادعون الله، وهذا الوجه قاله الحسن والزجاج. وإذا صح نسبة مخادعتهم إلىالله تعالى بالأوجه التي ذكرناها، كما ذكرناها، فلا ضرورة تدعو إلى أن نذهب إلى أن اسم مقحم، لأن المعنى يخادعونالذين آمنوا، كما ذهب إليه الزمخشري، وقال: يكون من باب: أعجبني زيد وكرمه، المعنى هذا أعجبني كرم زيد، وذكر زيدتوطئة لذكر كرمه، والنسبة إلى الإعجاب إلى كرمه هي المقصودة، وجعل من ذلك والله ورسوله أحق أن يرضوه، إن الذينيؤذون الله ورسوله وما ذكره في هذه المثل غير مسلم له. وللآيتين الشريفتين محامل تأتي في مكانها، إن شاء اللهتعالى. وأما أعجبني زيد وكرمه، فإن الإعجاب أسند إلى زيد بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لصفة الكرم منسائر الصفات التي انطوى عليها لشرف هذه الصفة، فصار من المعنى نظيراً لقوله تعالى:{ وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ }، فلايدعي كما ادعى الزمخشري أن الاسم مقحم، وأنه ذكر توطئة لذكر الكرم. وخادع الذي مضارعه يخادع على وزن فاعل، وفاعليأتي لخمسة معان: لاقتسام الفاعلية، والمفعولية في اللفظ، والاشتراك فيهما من حيث المعنى، ولموافقة أفعل المتعدي، وموافقة المجرد للإغناء عنأفعل وعن المجرد. ومثل ذلك: ضارب زيداً عمر، وباعدته، وواريت الشيء، وقاسيت. وخادع هنا إما لموافقة الفعل المجرد فيكون بمعنىخدع، وكأنه قال: يخدعون الله، ويبينه قراءة ابن مسعود وأبي حياة، وقد تقدمت. ويحتمل أن يكون خادع من باب المفاعلة،فمخادعتهم تقدم تفسيرها، ومخادعة الله لهم حيث أجرى عليهم أحكام المسلمين واكتفى منهم في الدنيا بإظهار الإسلام، وإن أبطنوا خلافه،ومخادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أحكام المسلمين عليهم. وفي مخادعتهم هم للمؤمنين فوائد لهم، من تعظيمهم عند المؤمنين، والتطلععلى أسرارهم فيغشونها إلى أعدائهم، ورفع حكم الكفار عنهم من القتل وضرب الجزية، وغير ذلك، وما ينالون من الإحسان بالهدايةوقسم الغنائم. وقرأ: وما يخادعون، الحرميان، وأبو عمرو. وقرأ باقي السبعة: وما يخدعون. وقرأ الجارود بن أبي سبرة، وأبو طالوتعبد السلام بن شداد: وما يخدعون مبنياً للمفعول. وقرأ بعضهم: وما يخادعون، بفتح الدال مبنياً للمفعول. وقرأ قتادة، ومورق العجلي:وما يخدعون، من خدّع المشدّد مبنياً للفاعل، وبعضهم يفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة. فهذه ست قراءات توجيه: الأولى: أنالمعنى في الخداع إنما هو الوصول إلى المقصود من المخدوع، بأن ينفعل له فيما يختار، وينال منه ما يطلب علىغرة من المخدوع وتمكن منه وتفعل له، ووبال ذلك ليس راجعاً للمخدوع، إنما وباله راجع إلى المخادع، فكأنه ما خادعولا كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة، وهو لا يشعر بذلك جهلاً منه بقبيح انتحاله وسوء مآله. وعبر عن هذاالمعنى بالمخادعة على وجه المقابلة، وتسمية الفعل الثاني باسم الفعل الأول المسبب له، كما قال:ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا جعل انتصاره جهلاً، ويؤيد هذا المنزع هنا أنه قد يجيءمن واحد: كعاقبت اللص، وطارقت النعل. ويحتمل أن تكون المخادعة على بابها من اثنين، فهم خادعون أنفسهم حيث منوهاً الأباطيل،وأنفسهم خادعتهم حيث منتهم أيضاً ذلك، فكأنها مجاورة بين اثنين، وقال الشاعر:تذكر من أني ومن أين شربه يؤامر نفسيه لذي البهجة الإبل

وأنشد ابن الأعرابي:لم تدر ما ولست قائلها عمرك ما عشت آخر الأبد ولم تؤامر نفسيك ممتريا

وقال:يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة أيستوبع الذوبان أم لا يطورها

وأنشد ثعلب عنابن الأعرابي:وكنت كذات الضي لم تدر إذ بغت تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني

ففي هذه الأبيات قدجعل للشخص نفسين على معنى الخاطرين، ولها جنسين، أو يكون فاعل بمعنى فعل، فيكون موافقاً لقراءة: وما يخدعون. وتقول العرب:خادعت الرجل، أعملت التحيل عليه فخدعته، أي تمت عليه الحيلة ونفذ فيه المراد، خِدعاً، بكسر الخاء في المصدر وخديعة، حكاهأبو زيد. فالمعنى: وما ينفذ السوء إلا على أنفسهم، والمراد بالأنفس هنا: ذواتهم. فالفاعل هو المفعول، وقد ادعى بعضهم أنهذا من المقلوب وأن المعنى: وما يخادعهم إلا أنفسهم قال: لأن الإنسان لا يخدع نفسه، بل نفسه هي التي تخدعهوتسوّل له وتأمره بالسوء. وأورد أشياء مما قلبته العرب، وللنحويين في القلب مذهبان: أحدهما: أنه يجوز في الكلام والشعر اتساعاًواتكالاً على فهم المعنى. والثاني: أنه لا يجوز في الكلام ويجوز في الشعر حالة الاضطرار، وهذا هو الذي صححه أصحابنا،وكان هذا الذي ادعى القلب لما رأى قولهم: منتك نفسك، وقوله تعالى:{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ }تخيل أن الممنيوالمسوّل غير الممنيَّ والمسوَّل له، وليس على ما تخيل، بل الفاعل هنا هو المفعول. ألا ترى أنك تقول: أحب زيدنفسه، وعظم زيد نفسه؟ فلا يتخيل هنا تباين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ، وأما المدلول فهو واحد. وإذا كانالمعنى صحيحاً دون قلب، فأي حاجة تدعو إليه هذا؟ مع أن الصحيح أنه لا يجوز إلا في الشعر، فينبغي أنينزه كتاب الله تعالى منه. ومن قرأ: وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول، فانتصاب ما بعد إلا على ماانتصب عليه زيد غبن رأيه، إما على التمييز على مذهب الكوفيين، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم بعضهم،وإما على إسقاط حرف الجر، أي: في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون، فينتصب على أنهمفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدى بإلى في قوله:{ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ }، ولا يقال رفث إلى كذا،وكما ضمن{ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تزكى }، معنى أجذبك، ولا يقال: إلا هل لك في كذا. وفي قراءة: وما يخدعون،فالتشديد إما للتكثير بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل، إذ هو مصير إلى عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو:قدر الله وقدر، وقد تقدم ذكر معاني فعل. وقراءة من قرأ: وما يخدعون، أصلها يختدعون فأدغم، ويكون افتعل فيه موافقاًلفعل نحو: اقتدر على زيد، وقدر عليه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وهي اثنا عشر معنى، وقد تقدمذكرها. {أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }: جملة معطوفة على: وما يخادعو إلا أنفسهم، فلا موضع لها من الإعراب، ومفعول يشعرون محذوفتقديره إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، روي ذلك عن ابن عباس، أو تقديره هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبديبكفرهم ونفاقهم، روي ذلك عن زيد. ويحتمل أن يكون وما يشعرون: جملة حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرينبذلك، لأنهم لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين. وجاء: يخادعون الله بلفظالمضارع الماضي لأن المضي يشعر بالانقطاع بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح بالديمومة، نحو: زيد يدع اليتيم،وعمرو يقري الضيف. والقراء على فتح راء مرض في الموضعين إلا الأصمعي، عن أبي عمرو، فإنه قرأ بالسكون فيهما،وهما لغتان كالحلب والحلب، والقياس الفتح، ولهذا قرأ به الجمهور، ويحتمل أن يراد بالمرض الحقيقة، وأن المرض الذي هو الفسادأو الظلمة أو الضعف أو الألم كائن في قلوبهم حقيقة، وسبب إيجاده في قلوبهم هو ظهور الرسول صلى الله عليهوسلم وأتباعه، وفشو الإسلام ونصر أهله. ويحتمل أن يراد به المجاز، فيكون قد كنى به عما حل القلب من الشك،قاله ابن عباس، أو عن الحسد والغل، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول، أو عن الضعف والخور لمارأوا من نصر دين الله وإظهاره على سائر الأديان، وحمله على المجاز أولى لأن قلوبهم لو كان فيها مرض لكانتأجسامهم مريضة بمرضها، أو كان الحمام عاجلهم، قال: بعض المفسرين يشهد لهذا الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الحديث، فقوله صلىالله عليه وسلم: إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد جميعه، وإذا فسدت فسد الجسد جميعه، ألا وهي القلب . وأما القانون الطبي، فإن الحكماء وصفو القلب على ما اقتضاه علم التشريح، ثم قالوا: إذا حصلت فيهمادة غليظة، فإن تملكت منه ومن غلافه أو من أحدهما فلا يبقى مع ذلك حياة وعاجلت المنية صاحبه، وربما تأخرتتأخيراً يسيراً، وإن لم تتمكن منه المادة المنصبة إليه ولا من غلافه، أخرت الحياة مدة يسيرة؟ وقالوا: لا سبيل إلىبقاء الحياة مع مرض القلب، وعلى هذا الذي تقرر لا تكون قلوبهم مريضة حقيقة. وقد تلخص في القرآن من المعانيالسببية التي تحصل في القلب سبعة وعشرون مرضاً، وهي: الرين، والزيع، والطبع، والصرف، والضيق، والحرج، والختم، والإقفال، والإشراب، والرعب، والقساوة،والإصرار، وعدم التطهير، والنفور، والاشمئزاز، والإنكار، والشكوك، والعمى، والإبعاد بصيغة اللعن، والتأبى، والحمية، والبغضاء، والغفلة، والغمزة، واللهو، والارتياب، والنفاق. وظاهرآيات القرآن تدل على أن هذه الأمراض معان تحصل في القلب فتغلب عليه، وللقلب أمراض غير هذه من الغل والحقدوالحسد، ذكرها الله تعالى مضافة إلى جملة الكفار. والزيادة تجاوز المقدار المعلوم، وعلم الله محيط بما أضمروه ومن سوء الاعتقادوالبغض والمخادعة، فهو معلوم عنده، كما قال تعالى:{ وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }، وفي كل وقت يقذف في قلوبهم منذلك القدر المعلوم شيئاً معلوم المقدار عنده، ثم يقذف بعد ذلك شيئاً آخر، فيصير الثاني زيادة على الأول، إذا لولم يكن الأول معلوم المقدار لما تحققت الزيادة، وعلى هذا المعنى يحمل: { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ }. وزيادة المرض إمامن حيث أن ظلمات كفرهم تحل في قلوبهم شيئاً فشيئاً، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: { ظُلُمَـٰتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ }،أو من حيث أن المرض حصل في قلوبهم بطريق الحسد أو الهم، بما يجدد الله سبحانه لدينه من علو الكلمةولرسوله وللمؤمنين من النصر ونفاذ الأمر، أو لما يحصل في قلوبهم من الرعب، وإسناد الزيادة إلى الله تعالى إسناد حقيقيبخلاف الإسناد في قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ}{ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَـٰناً }. وقالت المعتزلة: لا يجوزأن تكون زيادة المرض من جنس المزيد عليه، إذ المزيد عليه هو الكفر، فتأولوا ذلك على أن يحمل المرض علىالغم لأنهم كانوا يغتمون بعلو أمر رسول الله ، أو على منع زيادة الألطاف، أو على ألمالقلب، أو على فتور النية في المحاربة لأنهم كانت أولاً قلوبهم قوية على ذلك، أو على أن كفرهم كان يزدادبسبب ازدياد التكليف من الله تعالى. وهذه التأويلات كلها إنما تكون إذا كان قوله: {فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } خبراً، وإماإذا كان دعاء فلا، بل يحتمل أن يكون الدعاء حقيقة فيكون دعاء بوقوع زيادة المرض، أو مجازاً فلا تقصد بهالإجابة لكون المدعو به واقعاً، بل المراد به السب واللعن والنقص، كقوله تعالى:{ قَـٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } { ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ صَرَفَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون } ، وكقوله: لعن الله إبليس وأخزاه ومعلوم أن ذلك قد وقع، وأنه قدباء بخزي ولعن لا مزيد عليه لأنه لا انتهاء له، وتنكير مرض من قوله: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } لا يدلعلى أن جميع أجناس المرض في قلوبهم، كما زعم بعض المفسرين، لأن دلالة النكرة على ما وضعت له إنما هيدلالة على طريقة البدل، لأنها دلالة تنتظم كل فرد فرد على جهة العموم، ولم يحتج إلى جمع مرض لأن تعدادالمحال يدل على تعداد الحال عقلاً، فاكتفى بالمفرد عن الجمع، وتعدية الزيادة إليهم لا إلى القلوب، إذ قال تعالى: {فَزَادَهُمُ}، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً، والثاني: أنه زادذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبه الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهممرضاً، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياءإلا فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين، إلا ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين، وقدجمعتها في بيتين في قصيدتي المسماة، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي، وهما:وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكملا بزاد وخاب طاب خاف معاً وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا يعني أنه قد استثنى حمزة،{ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلاْبْصَـٰرُ }، في سورة الأحزاب،{ وَإِذْ زَاغَتِ عَنْهُمُ ٱلابْصَـٰرُ }، في سورة ص، فلم يملها. ووافق ابن ذكوان حمزة على إمالة جاء وشاء في جميع القرآن، وعلى زاد فيأول البقرة، وعنه خلاف في زاد هذه في سائر القرآن، وبالوجهين قرأته له، والإمالة لتميم، والتفخيم للحجاز. وأليم: تقدم تفسيره.فإذا قلنا إنه للمبالغة فيكون محوّلاً من فعل لها ونسبته إلى العذاب مجاز، لأن العذاب لا يألم، إنما يألم صاحبه،فصار نظير قولهم: شعر شاعر، والشعر لا يشعر إنما الشاعر ناظمه. وإذا قلنا إنه بمعنى: مؤلم، كما قال عمرو بنمعدي كرب:أمـن ريحانـة الـداعي السميـع أي المسمع، وفعيل: بمعنى مفعل مجاز، لأن قياس أفعل مفعل، فالأول مجاز في التركيب،وهذا مجاز في الإفراد. وقد حصل للمنافقين مجموع العذابين: العذاب العظيم المذكور في الآية، قيل لانخراطهم معهم ولانتظامهم فيهم. ألاترى أن الله تعالى في تلك الآية قد أخبر أنهم لا يؤمنون في قوله: لا يؤمنون، وأخبر بذلك في هذهالآية بقوله: وما هم بمؤمنين؟ والعذاب الأليم، فصار المنافقون أشد عذاباً من غيرهم من الكفار، بالنص على حصول العذابين المذكورينلهم، ولذلك قال تعالى:{ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلاْسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ }، ثم ذكر تعالى أن كينونة العذاب الأليم لهؤلاءسببها كذبهم وتكذيبهم وما منسوية أي بكونهم يكذبون، ولا ضمير يعود عليها لأنها حرف، خلافاً لأبي الحسن. ومن زعم أنكان الناقصة لا مصدر لها، فمذهبه مردود، وهو مذهب أبي علي الفارسي. وقد كثر في كتاب سيبويه المجيء بمصدر كانالناقصة، والأصح أنه لا يلفظ به معها، فلا يقال: كان زيد قائماً كوناً، ومن أجاز أن تكون ما موصولة بمعنىالذي، فالعائد عنده محذوف تقديره يكذبونه أو يكذبونه. وزعم أبو البقاء أن كون ما موصولة أظهر، قال: لأن الهاء المقدرةعائدة إلى الذي دون المصدر، ولا يلزم أن يكون، ثم هاء مقدرة، بل من قرأ: يكذبون، بالتخفيف، وهم الكوفيون، فالفعلغير متعد، ومن قرأ بالتشديد، وهم الحرميان، والعربيان، فالمفعول محذوف لفهم المعنى تقديره فكونهم يكذبون الله في أخباره والرسول فيماجاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف على جهة المبالغة، كما قالوا في: صدق صدق، وفي: بان الشيءبين، وفي: قلص الثوب قلص. والكذب له محامل في لسان العرب: أحدها: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه،وعمرو بن بحر يزيد في ذلك أن يكون المخبر عالماً بالمخالفة، وهي مسألة تكلموا عليها في أصول الفقه. الثاني: الإخباربالذي يشبه الكذب ولا يقصد به إلا الحق، قالوا: ومنه ما ورد في الحديث عن إبراهيم صلوات الله عليه وعلىنبينا. الثالث: الخطأ، كقول عبادة فيمن زعم: أن الوتر واجب، كذب أبو محمد أي أخطأ. الرابع: البطول، كقولهم: كذب الرجل،أي بطل عليه أمله وما رجا وقدر. الخامس: الإغراء بلزوم المخاطب الشيء المذكور، كقولهم: كذب عليك العسل، أي أكل العسل،والمغرى به مرفوع بكذب، وقالوا: لا يجوز نصبه إلا في حرف شاذ، ورواه القاسم بن سلام عن معمر بن المثنى،والمؤثم هو الأول. وقد اختلف الناس في الكذب فقال قوم: الكذب كله قبيح لا خير فيه، وقالوا: سئل مالكعن الرجل يكذب لزوجته ولابنه تطييباً للقلب فقال: لا خير فيه. وقال قوم: الكذب محرم ومباح، فالمحرم الإخبار بالشيء علىخلاف ما هو عليه إذا لم يكن في مراعاته مصلحة شرعية، والمباح ما كان فيه ذلك، كالكذب لإصلاح ذات البين.وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات خلافاً، قال قوم: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كعبد الله بن أبيبن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونتمسك معذلك بديننا، فأظهروا الإيمان باللسان واعتقدوا خلافه. ورواه أبو صالح، عن ابن عباس، وقال قوم: نزلت في منافقي أهل الكتابوغيرهم، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[عدل]

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } * { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } * { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلاإِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }، إذا: ظرف زمان، ويغلب كونها شرطاً، وتقع للمفاجأة ظرف زمان وفاقاًللرياشي، والزجاج، لا ظرف مكان خلافاً للمبرد، ولظاهر مذهب سيبويه، ولا حرفاً خلافاً للكوفيين. وإذا كانت حرفاً، فهي لما تيقنأو رجح وجوده، ويجزم بها في الشعر، وأحكامها مستوفاة في علم النحو. الفعل الثلاثي الذي انقلب عين فعله ألفاً فيالماضي، إذا بني للمفعول، أخلص كسر أوله وسكنت عينه ياء في لغة قريش ومجاوريهم من بني كنانة، وضم أولها عندكثير من قيس وعقيل ومن جاورهم، وعامة بني أسد. وبهذه اللغة قرأ الكسائي وهشام في: قيل، وغيض، وحيل، وسيـىء، وسيئت،وجيء، وسيق. وافقه نافع وابن ذكوان في: سيـىء، وسيئت. زاد ابن ذكوان: حيل، وساق. وباللغة الأولى قرأ باقي القراءة، وفيذلك لغة ثالثة، وهي إخلاص ضم فاء الكلمة وسكون عينه واواً، ولم يقرأ بها، وهي لغة لهذيل، وبني دبير. والكلامعلى توجيه هذه اللغات وتكميل أحكامها مذكور في النحو. الفساد: التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة. قال سهيل في الفصيح: فسد،ونقيضه: الصلاح، وهو اعتدال الحال واستواؤه على الحالة الحسنة. الأرض: مؤنثة، وتجمع على أرّض وأراض، وبالواو والنون رفعاً وبالياءوالنون نصباً وجراً شذوذاً، فتفتح العين، وبالألف والتاء، قالوا: أرضات، والأراضي جمع جمع كأواظب. إنما: ما: صلة لأن وتكفها عنالعمل، فإن وليتها جملة فعلية كانت مهيئة، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل الأصول إنها للحصر، وكونها مركبة منما النافية، دخل عليها إن التي للإثبات فأفادت الحصر، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليهأنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعلزيداً قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيداً قائم، وإنما زيد قائم، وأذا فهم حصر، فإنما يفهم من سياقالكلام لا أن إنما دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:

{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ }

{ قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ } ، {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا }. وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع منلسان العرب، والذي عليه أصحابنا أنه غير مسموع. نحن: ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو لمعظم نفسه، وفياعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو. ألا: حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالةعلى تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقاً، كقوله تعالى:

{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ } ، ولكونها من المنصبفي هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقال ذلك الزمخشري. والذي نختاره أنألا التنبيهية حرف بسيط، لأن دعوى التركيب على خلاف الأصل، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لاالنافية دلالة على تحقق ما بعدها، إلى آخره خطاً، لأن مواقع ألا تدلّ على أن لا ليست للنفي، فيتم ماادعوه، ألا ترى أنك تقول: ألا إن زيداً منطلق، ليس أصله لا أن زيداً منطلق، إذ ليس من تراكيب العرببخلاف ما نظر به من قوله تعالى: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ } ، لصحة تركيب، ليس زيد بقادر، ولوجودها قبل رب وقبلليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا نافية، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق،قال امرؤ القيس:

ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل

وقال الآخر:

ألا ليت شعري كيف حادث وصلها وكيف تراعي وصلة المتغيب

وقال الآخر:

ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي

وقال الآخر:

ألا يا قيس والضحاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق

إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه. وأما قوله: لاتكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح، ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح، برب،وبليت، وبفعل الأمر، وبالنداء، وبحبذا، في قوله:

ألا حبـذا هنـد وأرض بهـا هنـد

ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامةألا هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وتكون أيضاً حرف عرض فيليها الفعل، وإن وليها الاسم فعلى إضمارالفعل، وحرف جواب بقول القائل: ألم تقم فتقول: ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب كتاب (وصف المباني في حروف المعاني)قال: وهو قليل شاذ، وأما ألا التي للتمني في قولهم: إلا ماء، فذكرها النحاة في فصل لا الداخل عليها الهمزة.لكن: حرف استدراك، فلا يجوز أن يكون ما قبلها موافقاً لما بعدها، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز، أو خلافاًففي الجواز خلاف، وفي التصحيح خلاف. وحكى أبو القاسم بن الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس، وحكى ذلك غيره عنالأخفش، وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن غالباً إلا وواو العطف قبلها، ومما جاءتفيه من غير واو قوله تعالى:{ لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ }

{ لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ }، وفي كلام العرب:

إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله لكن وقائعه في الحرب تنتظر

وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو.الكاف: حرف تشبيه تعمل الجر وأسميتها مختصة عندنا بالشعر، وتكون زائدة وموافقة لعلى، ومن ذلك قولهم: كخير في جواب منقال كيف أصبحت، ويحدث فيها معنى التعليل، وأحكامها مذكورة في النحو. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُكَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }، السفه: الخفة. ومنه قيل للثوب الخفيف النسج سفيه، وفيالناس خفة الحلم، قاله ابن كيسان، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما يعلم، قاله مؤرج، أو الظلم والجهل، قاله قطرب.والسفهاء جمع سفيه، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي بينه وبين مؤنثه التاء، والفعل منه سفهبكسر العين وضمها، وهو القياس لأجل اسم الفاعل. قالوا: ونقيض السفه: الرشد، وقيل: الحكمة، يقال رجل حكيم، وفي ضده سفيه،ونظير السفه النزق والطيش. {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ}، اللقاء: استقبال الشخص قريباً منه، والفعل منه لقي يلقى، وقد يقال لاقى، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرّد، وسمع للقىأربعة عشر مصدراً، قالوا: لقى، لقيا، ولقية، ولقاة، ولقاء، ولقاء، ولقى، ولقي، ولقياء، ولقياء، ولقيا، ولقيانا، ولقيانة، وتلقاء. الخلو: الانفراد،خلا به أي انفرد، أو المضي،{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ }. الشيطان، فيعال عند البصريين، فنونه أصلية منشطن، أي بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أمية:

أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأكبال

وقال رؤبة:

وفي أخاديد السياط المتن شاف لبغي الكلب المشيطن

ووزنهفعلان عند الكوفيين، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك، قال الشاعر:

قد تظفر العير في مكنون قائلة وقد تشطو على أرماحنا البطل

والشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب، قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة، قال الشاعر:

هي البازل الكوماء لا شيء غيرها وشيطانة قد جن منها جنونها

وشياطين: مع شيطان، نحو غراثين في جمع غرثان،وحكاه الفراء، وهذا على تقدير أن نونه زائدة تكون نحو: غرثان، مع اسم معناه الصحبة اللائقة بالمذكور، وتسكينها قبل حركةلغة ربيعة وغنم، قاله الكسائي. وإذا سكنت فالأصح أنها اسم، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف الوصل، فالفتح لغة عامّةالعرب، والكسر لغة ربيعة، وتوجيه اللغتين في النحو، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبراً عن الجثة والأحداث، وإذا أفرد نوّن مفتوحاً،وهي ثلاثي الأصل من باب المقصور، إذ ذاك لا من باب يد، خلافاً ليونس، وأكثر استعمال معاً حال، نحو: جميعاً،وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان نصاً، وجميع تحتمله. وقد سأل أحمد بن يحيـى أحمد بن قادم عنالفرق بين. قام عبد الله وزيد معاً، وقام عبد الله وزيد جميعاً، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرقابن يحيـى: بأن جيمعاً يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد، وأما إذا قلت: معاً، فيكون في وقت واحد. الاستهزاء:الاستخفاف والسخرية، وهو استفعل بمعنى الفعل المجرد، وهو فعل، تقول: هزأت به واستهزأت بمعنى واحد، مثل استعجب: بمعنى عجب، وهوأحد المعاني التي جاءت لها استفعل. {ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } المد: التطويل، مدّ الشيء: طوّله وبسطه،{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظلّ } ، وأصل المد: الزيادة، وكل شيء دخل في شيء فكثره فقد مدّه، قالهاللحياني. وأمدّ بمعنى مدّ، مدّ الجيش، وأمدّه: زاده وألحق به ما يقويه من جنسه. وقال بعض أهل العلم: مدّ زادمن الجنس، وأمدّ: زاد من غير الجنس. وقال يونس: مدّ في الخير وأمدّ في الشر. انتهى قوله. ويقال: مدّ النهروأمدّه نهر آخر، ومادّة الشيء ما يمدّه، الهاء فيه للمبالغة. وقال ابن قتيبة: مددت الدواة وأمددتها بمعنى، ويقال: مددنا القوم:صرنا لهم أنصاراً وأمددناهم بغيرنا. وقال اللحياني: أمد الأمير جنده بالخيل، وفي التنزيل: { وَأَمْدَدْنَـٰكُم بِأَمْوٰلٍ وَبَنِينَ } . الطغيان: مجاوزةالمقدار المعلوم، يقال طغى الماء، وطغت النار. العمه: التردد والتحير، وهو شبيه بالعمى، إلا أن العمى توصف به العين التيذهب نورها، والرأي الذي غاب عنه الصواب. يقال: عمه، يعمه، عمهاً، وعمهاناً فهو: عمه، وعامه. ويقال: برية عمهاء إذا لميكن بها علم يستدل به. وقال ابن قتيبة: العمه أن يركب رأسه ولا يبصر ما يأتي. وقيل: العمه: العمى عنالرشد. {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }، الاشتراء والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء والاعتياضمنه، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع، وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد المعاني التيجاء لها افتعل. الربح: هو ما يحصل من الزيادة على رأس المال. التجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف فيالمال لطلب النموّ والزيادة. المهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه للمطاوعة، هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم. والمطاوعةأحد المعاني التي جاءت لها افعل، ولا تكون افتعل للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي، وقد وهم من زعم أنهاتكون من اللازم، وأن ذلك قليل فيها، مستدلاً بقول الشاعر:

حتى إذا اشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر

لأن افتعل في البيت بمعنى، فعل. تقول: شال يشول، واشتال يشتال بمعنى واحد، ولا تتعقل المطاوعة،إلا بأن يكون المطاوع متعدياً. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } جملة شرطية، ويحتمل أن تكون من باب عطفالجمل استئنافاً ينعي عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم، ويحتمل أن يكون كلاماً، وفي الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة. وأجازالزمخشري، وأبو البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون، فإذ ذاك يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، لأنها معطوفة علىخبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم. وعلى الاحتمالين الأولينلا تكون جزءاً من الكلام، وهذا الوجه الذي أجازاه على حد وجهي ما من قوله بما كانوا يكذبون خطأ، وهوأن تكون ما موصولة بمعنى الذي، وذلك أن المعطوف على الخبر خبر، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما، وقوله:وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما، فبطل أن يكون معطوفاً عليه، إذ يصير التقدير:ولهم عذاب أليم بالذي كانوا، {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ * تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }، وهذا كلامغير منتظم لعدم العائد. وأما وجهها الآخر، وهو أن تكون ما مصدرية، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب أيضاً خطأ،إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه. وأما على مذهب الجمهور، فهذاالإعراب شائع، ولم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء إعراب هذا سوى أن يكون معطوفاً على يكذبون، أو على يقول، وزعماً أنالأول وجه، وقد ذكرنا ما فيه، والذي نختاره الاحتمال الأول، وهو أن تكون الجملة مستأنفة، كما قررناه، إذ هذه الجملةوالجملتان بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب. ألا ترى قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }، وقولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء}، وقولهم عند لقاء المؤمنين {مِنَ } كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملاً مستقلة ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفهللمؤمنين واستهزائهم، فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاكلا تكون مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول إن كان اسماً، ومتممة لمعناه إن كان حرفاً. والجملة بعد إذافي موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في الآية منصوبة بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }. والذي نختارهأن الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروفالتي يجازى بها وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم بها حملاً على متى منصوباًبفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجمهور جوازا إذا قمت فعمر وقائم، لأن ما بعدالفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا الفجائية جواباً لإذا الشرطية، قال تعالى: { وَإِذَا أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ } إذا لهم مكر في آياتنا، وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القولهنا للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول ، أو بعض المؤمنين، وكل من هذا قدقيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله، فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: {لا تفسدوا في الأرض، إلا أنذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين. وقد تقدمت المذاهب فيذلك عند الكلام على قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والمفعول الذي لم يسم فاعله في ذلك حكمهحكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو، يفسره سياق الكلامكما فسر المضمر في قوله تعالى: { حتى توارت بالحجاب } سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا القولالموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا جائزأن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقيلا تفسدوا لا ارتباط له، إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له. وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسمفاعله هو الجملة التي هي: لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف حرف من ثلاثة أحرف،ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل، وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب الإسنادإلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص بهالاسم بل يوجد في الإسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلكبالتخريج الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها للام عند كلامنا على قولهتعالى: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ }. وإفسادهم في الأرض بالكفر، قاله ابن عباس، أو المعاصي، قاله أبو العالية ومقاتل، أو بهما، قالهالسدي عن أشياخه؛ أو بترك امتثال الأمر واجتناب النهي، قاله مجاهد؛ أو بالنفاق الذي ضافوا به الكفار وأطلعوهم على أسرارالمؤمنين، ذكره علي بن عبيد الله، أو بإعراضهم عن الإيمان برسول الله والقرآن؛ أو بقصدهم تغييرالملة، قاله الضحاك، أو باتباعهم هواهم وتركهم الحق مع وضوحه، قاله بعضهم. وقال الزمخشري: الإفساد في الأرض تهييج الحروبوالفتن، قال: لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، قال تعالى: { لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ } { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }، ومنه قيل لحرب كانت بين طيء:حرب الفساد، انتهى كلامه. ووجه الفساد بهذه الأقوال التي قيلت أنها كلها كبائر عظيمة ومعاص جسيمة، وزادها تغليظاً إصرارهم عليها،والأرض متى كثرت معاصي أهلها وتواترت، قلّت خيراتها ونزعت بركاتها ومنع عنها الغيث الذي هو سبب الحياة، فكان فعلهم الموصوفأقوى الأسباب لفساد الأرض وخرابها. كما أن الطاعة والاستغفار سبب لكثرة الخيرات ونزول البركات ونزول الغيث، ألا ترى قوله تعالى: { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } { وَأَنَّ لُو ٱسْتَقَـٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ }{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ }{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ }، الآيات. وقد قيل في تفسيره ما روي في الحديث من أن الفاجر يستريح منه العباد والبلادوالشجر والدواب، إن معاصيه يمنع الله بها الغيث، فيهلك البلاد والعباد لعدم النبات وانقطاع الأقوات. والنهي عن الإفساد في الأرضمن باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السرإليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقةمنهياً عنه لفظاً. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلاْرْضِ مُفْسِدِينَ }. وليسذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهوسترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد. ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا } وقال تعالى: { هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَٱلاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَـٰهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَـٰهَا مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَـٰمِكُمْ }، وقوله تعالى:{ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَاء صَبّاً }، الآية. إلى غير ذلك من الآيات المنبهة على الامتنان علينا بالأرض،وما أودع الله فيها من المنافع التي لا تكاد تحصى. وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }،فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي المعنى الذي اعتقدواأنهم مصلحون. أقوال: أحدها: قول ابن عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. والثاني: قول مجاهدوهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى. والرابع: أنهم ظنوا أن فيممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَوَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }. والخامس: أنهم أنكروا أن يكونوا فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} باجتناب ما نهينا عنه. والذي نختاره أنه لا يتعين شيء من هذه الأقوال، بل يحمل النهي على كلفرد من أنواع الإفساد، وذلك أنهم لما ادعوا الإيمان وأكذبهم الله في ذلك وأعلم بأن إيمانهم مخادعة، كانوا يكونون بينحالين: إحداهما: أن يكونوا مع عدم إيمانهم موادعين لرسول الله وللمؤمنين، والحالة الأخرى أن يكونوا مععدم إيمانهم يسعون بالإفساد بالأرض لتفرق كلمة الإسلام وشتات نظام الملة، فنهوا عن ذلك وكأنهم قيل لهم: إن كنتم قدقنع منكم بالإقرار بالإيمان، وإن لم تؤمن قلوبكم فإياكم والإفساد في الأرض، فلم يجيبوا بالامتناع من الإفساد، بل أثبتوا لأنفسهمأنهم مصلحون وأنهم ليسوا محلاً للإفساد، فلا يتوجه النهي عن الإفساد نحوهم لاتصافهم بضده وهو الإصلاح. كل ذلك بهت منهموكذب صرف على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما كانوا قد قابلوا النهي عن الإفساد بدعوىالإصلاح الكاذبة أكذبهم الله بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ}، فأثبت لهم ضد ما ادعوه مقابلاً لهم ذلك في جملة اسميةمؤكدة بأنواع من التأكيد منها: التصدير بأن وبالمجيء بهم، وبالمجيء بالألف واللام التي تفيد الحصر عند بعضهم. وقال الجرجاني: دخلتالألف واللام في قوله المفسدون لما تقدم ذكر اللفظة في قوله لا تفسدوا، فكأنه ضرب من العهد، ولو جاء الخبرعنهم ولم يتقدم من اللفظة ذكر، لكان {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }، انتهى كلامه، وهو حسن. واستفتحت الجملة بألامنبهة على ما يجيء بعدها لتكون الأسماع مصغية لهذا الإخبار الذي جاء في حقهم، ويحتمل هم أن يكون تأكيداً للضميرفي أنهم وإن كان فصلاً، فعلى هذين الوجهين يكون المفسدون خبراً لأن، وأن يكون مبتدأ ويكون المفسدون خبره. والجملة خبرلأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند الكلام على قوله: {وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. وتحقيق الاستدراك هنا في قوله: {وَلَـٰكِنلاَّ يَشْعُرُونَ }، هو أن الإخبار عنهم أنهم هم المفسدون يتضمن علم الله ذلك، فكان المعنى أن الله قد علمأنهم هم المفسدون، ولكن لا يعلمون ذلك، فوقعت لكن إذ ذاك بين متنافيين، وجهة الاستدراك أنهم لما نهوا عن إيجادمثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر الله عنهم أنهم هم المفسدون، كانوا حقيقينبأن يعلموا أن ذلك كما أخبر الله تعالى، وأنهم لا يدعون أنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فاتهم منعدم الشعور بذلك. تقول: زيد جاهل ولكن لا يعلم، وذلك أنه من حيث اتصف بالجهل وصار وصفاً قائماً بزيد، كانينبغي لزيد أن يكون عالماً بهذا الوصف الذي قام به، إذ الإنسان ينبغي أن يعلم ما اشتمل عليه من الأوصاف،فاستدرك عليه بلكن، لأنه مما كثر في القرآن ويغمض في بعض المواضع إدراكه. قالوا: ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديرهأنهم مفسدون، أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتنقطع التوبة، والأولى، ويحتمل أن لا ينوي محذوف فيكون قدنفى عنهم الشعور من غير ذكر متعلقه ولا نية، وهو أبلغ في الذم، جعلوا لدعواهم ما هو إفساد إصلاحاً ممنانتفى عنه الشعور وكأنهم من البهائم، لأن من كان متمكناً من إدراك شيء فأهمل الفكر والنظر حتى صار يحكم علىالأشياء الفاسدة بأنها صالحة، فقد انتظم في سلك من لا شعور له ولا إدراك، أو من كابر وعاند فجعل الحقباطلاً، فهو كذلك أيضاً. وفي قوله تعالى: {ولكن لا يشعرون تسلية عن كونهم لا يدركون الحق، إذ من كان منأهل الجهل فينبغي للعالم أن لا يكترث بمخالفته. والكلام على قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا، كالكلام على قولهتعالى: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا} من حيث عطف هذه الجملة على سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من قوله:من يقول، أو عطفها على يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد إذا، ومن حيث المفعولالذي لم يسم فاعله. واختلف في القائل لهم آمنوا، فقال ابن عباس: الصحابة، ولم يعين أحداً منهم، وقال مقاتل: قوممخصوصون منهم وهم: سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد بن الحضير. ولما نهاهم تعالى عن الإفساد أمرهم بالإيمان لأن الكماليحصل بترك مالا ينبغي وبفعل ما ينبغي، وبدىء بالمنهي عنه لأنه الأهم، ولأن المنهيات عنها هي من باب التروك، والتروكأسهل في الامتثال من امتثال المأمورات بها. والكاف من قوله: {كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ } في موضع نصب، وأكثر المعربين يجعلونذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير عندهم: آمنوا إيماناً كما آمن الناس، وكذلك يقولون: في سير عليه شديد، أو: سرت حثيثاً،إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف التقدير: سير عليه سيراً شديداً، وسرت سيراً حثيثاً. ومذهب سيبويه، رحمه الله، أن ذلكليس بنعت لمصدر محذوف، وإنما هو منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم المحذوف بعد الإضمار علىطريق الاتساع، وإنما لم يجز ذلك لأنه يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي ذكروها. وتلكالمواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتب ومهندس، أو واقعة خبراً، نحو: زيد قائم، أو حالاً، نحو:مررت بزيد راكباً، أو وصفاً لظرف، نحو: جلست قريباً منك، أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، نحو:الأبطح والأبرق. وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا تابعة للموصوف، ولا يكتفي عن الموصوف، ألا ترى أنسيبويه منع: ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز: ولو بارداً، لأنه حال، وتقرير هذافي كتب النحو. وما، من: كما آمن الناس، مصدرية التقدير كإيمان الناس، فينسبك من ما، والفعل بعدها مصدر مجرور بكافالتشبيه التي هي نعت لمصدر محذوف، أو حال على القولين السابقين، وإذا كانت ما مصدرية فصلتها جملة فعلية مصدرة بماضمتصرف أو مضارع، وشذ وصلها بليس في قول الشاعر:

بمـا لستمـا أهـل الخيانـة والغـدر

ولا توصل بالجملة الإسمية خلافاً لقوم،منهم: أبو الحجاج الأعلم، مستدلين بقوله:

وجدنا الحمر من شر المطايا كما الحبطات شر بني تميم

وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء في ما من قوله: كما آمن، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في:ربما قام زيد، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر فيه مصدرية، لأن إبقاءها مصدرية مبقللكاف على ما استقر فيها من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما المصدرية، وقد أمكنذلك في: كما آمن الناس، فلا ينبغي أن تجعل كافة. والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس، فكأنه قال:الكاملون في الإنسانية، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم الناس في الحقيقة، ومن عداهم صورته صورة الناس، وليس منالناس لعدم تمييزه، كما قال الشاعر:

ليس من الناس ولكنه يحسبه الناس من الناس

ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، ويعني به رسول الله وأصحابه، قاله ابن عباس، أو عبدالله بن سلام، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله مقاتل، أو معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بنالحضير، وجماعة من وجوه الأنصار عدهم الكلبي. والأولى حملها على العهد، وأن يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلكلهم، فيكون حوالة على من سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر بالإيمان. والتشبيه في: {كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ }إشارة إلى الإخلاص، وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها. أنؤمن: معمول لقالوا، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء. ولماكان المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء }، والقول في الكاف وما في هذاكالقول فيهما في: {كَمَا ءامَنَ ٱلنَّاسُ }. والألف واللام في السفهاء للعهد، فيعني به الصحابة، قاله ابن عباس؛ أو الصبيانوالنساء، قاله الحسن، أو عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله مقاتل، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج تحته من فسر بهالناس من المعهودين، أو الكاملون في السفه، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم. وأبعد من ذهب إلىأن الألف واللام للصفة الغالبة نحو: العيوق والدبران، لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، فصاروا إذا قيل: السفهاء، فهم منهناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص. ويحتمل قولهم: {كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } أن يكون ذلك من باب التعنتوالتجلد حذراً من الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قدنسبوهم للسفه معتقدين أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي إلى إدراك الحق، وهم كانوا فيرئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه المثابة كان من السفهاءلأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا عن طلب الرئاسة والغنى وما به السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفهعندهم. وفي قوله: {كَمَا آمَنَ ٱلسُّفَهَاء } إثبات منهم في دعواهم بسفه المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلامورجحان العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم السفهاء،وأكد ذلك بأن وبلفظ هم. وإذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو: {ٱلسُّفَهَاء أَلا }، ففي ذلكأوجه. أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر. والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها إذا كانتمفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو: أواتي مضارع آتى، فاعل من أتيت، وجؤن تقول: أواتي وجون، وبذلك قرأ الحرميان، وأبوعمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وإبدال الثانية واواً.وأجاز قوم وجهاً. خامساً: وهو جعل الأولى بين الهمزة والواو، وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع بعضهم ذلك لأن جعلالثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من الألف، والألف لا تقع بعد الضمة، والأعاريب الثلاثة التي جازت في: هم، فيقوله: {هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ }، جائزة في: هم، من قوله: {هُمُ ٱلسُّفَهَاء }. والاستدراك الذي دلت عليه لكن في قوله:{وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }، مثله في قوله تعالى: {وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }، وإنما قال هناك لا يشعرون وهنا لا يعلمونلأن المثبت لهم هناك هو الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير،فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواس، مبالغة في تجهيلهم، وهو أن الشعور الذي قد يثبت للبهائم منفي عنهم، والمثبتهنا هو السفه، والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمعان فكر واستدلال ونظر تام يفضي إلى الإيمانوالتصديق، ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالمأمور، قال السموأل:

نخاف أن تسفه أحلامنا فنجهل الجهل مع الجاهل

والعلم نقيض الجهل، فقابله بقوله: لايعلمون، لأن عدم العلم بالشيء جهل به. قرأ ابن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: {وَإِذَا * يَتَذَكَّرُونَ * ٱلَّذِينَ }، وهيفاعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد معاني فاعل الخمسة، والواو المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون مابعدها، ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو، واللقاء يكون بموعد وبغير موعد، فإذا كان بغير موعد سميمفاجأة ومصادفة، وقولهم لمن لقوا من المؤمنين: آمنا، بلفظ مطلق الفعل غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاماً، فيحتمل أن يريدوابه الإيمان بموسى وبما جاء به دون غيره، وذلك من خبثهم وبهتهم، ويحتمل أن يريدوا به الإيمان المقيد في قولهم:{بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلأْخِرِ وَمَا }، وليسوا بصادقين في ذلك، ويحتمل أن يريدوا بذلك ما أظهروه بألسنتهم من الإيمان، ومن اعترافهمحين اللقاء، وسموا ذلك إيماناً، وقلوبهم عن ذلك صارفة معرضة. وقرأ الجمهور: خلوا إلى بسكون الواو وتحقيق الهمزة، وقرأورش: بإلقاء حركة الهمزة على الواو وحذف الهمزة، ويتعدى خلا بالباء وبإلى، والباء أكثر استعمالاً، وعدل إلى إلى لأنها إذاعديت بالباء احتملت معنيين: أحدهما: الانفراد، والثاني: السخرية، إذ يقال في اللغة: خلوت به، أي سخرت منه، وإلى لا يحتملإلا معنى واحداً، وإلى هنا على معناها من انتهاء الغاية على معنى تضمين الفعل، أي صرفوا خلاهم إلى شياطينهم، قالالأخفش: خلوت إليه، جعلته غاية حاجتي، وهذا شرح معنى، وزعم قوم، منهم النضر بن شميل: إن إلى هنا بمعنى معأي: وإذا خلوا مع شياطينهم، كما زعموا ذلك في قوله تعالى:{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَهُمْ إِلَىٰ أَمْوٰلِكُمْ }

{ وَمِنْ * أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ }، أي مع أموالكم ومع الله، ومنه قول النابغة:

فلا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب

ولا حجة في شيء من ذلك. وقيل: إلى بمعنى الباء، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض،وهذا ضعيف، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه، والخليل، وتقرير هذا في النحو. وشياطينهم: هم اليهود الذينكانوا يأمرونهم بالتكذيب، قاله ابن عباس؛ أو رؤساؤهم في الكفر، قاله ابن مسعود. وروي أيضاً عن ابن عباس: أو شياطينالجن، قاله الكلبي: أو كهنتهم، قاله الضحاك وجماعة. وكان في عهد رسول الله من الكهنة جماعةمنهم: كعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر فيبني أسد، وابن السوداء في الشام، وكانت العرب يعتقدون فيهم الاطلاع على علم الغيب، ويعرفون الأسرار، ويداوون المرضى، وسموا شياطينلتمردهم وعتوّهم، أو باسم قرنائهم من الشياطين، إن فسروا بالكهنة، أو لشبههم بالشياطين في وسوستهم، وغرورهم، وتحسينهم للفواحش، وتقبيحهم للحسن.والجمهور على تحريم العين من معكم، وقرىء في الشاذ: إنا معكم، وهي لغة غنم وربيعة، وقد اختلف القولان منهم،فقالوا للمؤمنين: آمنا، ولشياطينهم إنا معكم. فانظر إلى تفاوت القولين، فحين لقوا المؤمنين قالوا آمنا، أخبروا بالمطلق، كما تقدم، منغير توكيد، لأن مقصودهم الإخبار بحدوث ذلك ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون فيه، أو لأنه لا تطوعبذلك ألسنتهم لأنه لا باعث لهم على الإيمان حقيقة، أو لأنه لو أكدوه ما راج ذلك على المؤمنين فاكتفوا بمطلقالإيمان، وذلك خلاف ما أخبر الله عن المؤمنين بقوله: ربنا إننا آمنا، وحين لقوا شياطينهم، أو خلوا إليهم قالوا: إنامعكم، فأخبروا إنهم موافقوهم، وأخرجوا الأخبار في جملة اسمية مؤكدة بأن ليدلوا بذلك على ثباتهم في دينهم، ثم بينوا أنما أخبروا به الذين آمنوا إنما كان على سبيل الاستهزاء، فلم يكتفوا بالإخبار بالموافقة، بل بينوا أن سبب مقالتهم للمؤمنينإنما هو الاستهزاء والاستخفاف، لا أن ذلك صادر منهم عن صدق، وجد، وأبرزوا هذا في الإخبار في جملة اسمية مؤكدةبإنما مخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الذي يدل على الثبوت، وأن الاستهزاء وصف ثابت لهم، لا أن ذلك تجددعندهم، بل ذلك من خلقهم وعادتهم مع المؤمنين، وكأن هذه الجملة وقعت جواباً لمنكر عليهم قولهم: إنا معكم، كأنه قال:كيف تدعون أنكم معنا وأنتم مسالمون للمؤمنين، تصدقونهم، وتكثرون سوادهم، وتستقبلون قبلتهم، وتأكلون ذبائحهم؟ فأجابوهم بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ }، أيمستخفون بهم، نصانع بما نظهر من ذلك عن دمائنا وأموالنا وذرياتنا، فنحن نوافقهم ظاهراً ونوافقكم باطناً، والقائل إنا معكم، أماالمنافقون لكبارهم، وأما كل المنافقين للكافرين، وقرىء: مستهزؤن، بتحقيق الهمزة، وهو الأصل، وبقلبها ياء مضمومة لانكسار ما قبلها، ومنهم منيحذف الياء تشبيهاً بالياء الأصلية في نحو: يرمون، فيضم الراء. ومذهب سيبويه، رحمه الله، في تحقيقها: أن تجعل بين بين.ومذهب أبي الحسن: أن تقلب ياء قلباً صحيحاً. قال أبو الفتح: حال الياء المضمومة منكر، كحال الهمزة المضمومة. والعرب تعافياء مضمومة قبلها كسرة، وأكثر القراء على ما ذهب إليه سيبويه، انتهى. وهل الاجتماع والمعية في الدين، أو فيالنصرة والمعونة على رسول الله وأصحابه، أو في اتفاقهم مع الكفار على اطلاعهم على أحوال المؤمنينوإعلامهم بما أجمعوا عليه من الأمر وأخفوه من المكايد، أو في اتفاقهم مع الكفار على أذى المسلمين وتربصهم بهم الدوائروفرحهم بما يسوء المسلمين وحزنهم بما يسرهم وقصدهم إخماد كلمة الله؟ أقوال أربعة، والدواعي إلى الاستهزاء: خوف الأذى، واستجلاب النفع،والهزل، واللعب. والله تعالى منزه عن ذلك، فلا يصح إضافة الاستهزاء الذي هذه دواعيه إلى الله تعالى. فيحتمل أنيكون الاستهزاء المسند إلى الله تعالى كناية عن مجازاته لهم، وأطلق اسم الاستهزاء على المجازاة ليعلم أن ذلك جزاء الاستهزاء،أو عن معاملته لهم بمثل ما عاملوا به المؤمنين، فأجرى عليهم أحكام المؤمنين من حقن الدم، وصون المال، والإشراك فيالمغنم، مع علمه بكفرهم. وأطلق على الشيء ما أشبهه صورة لا معنى، أو عن التوطئة والتجهيل، لإقامتهم على كفرهم، وسمىالتوطئة لهم استهزاء لأنه لم يعجل لهم العقوبة، بل أملى، وأخرهم إلى الآخرة، أو عن فتح باب الجنة فيسرعون إليهفيغلق، فيضحك منهم المؤمنون، أو عن خمود النار فيمشون فيخسف بهم، أو عن ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وهو السورالمذكور في الحديد، أو عن قوله تعالى: { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ }، أو عن تجديد الله لهم نعمةكلما أحدثوا ذنباً، فيظنون أن ذلك لمحبة الله لهم، أو عن الحيلولة بين المنافقين وبين النور الذي يعطاه المؤمنون، كماذكروا أنه روي في الحديث، أو عن طردهم عن الجنة، إذا أمر بناس منهم إلى الجنة ودنوا منها ووجدوا ريحهاونظروا إلى ما أعد الله فيها لأهلها، وهو حديث فيه طول، روي عن عدي بن حاتم، ونحا هذا المنحى ابنعباس، والحسن. وفي مقابلة استهزائهم بالمؤمنين باستهزاء الله بهم ما يدل على عظم شأن المؤمنين وعلو منزلتهم، وليعلم المنافقونأن الله هو الذي يذب عنهم ويحاب من حاربهم. وفي افتتاح الجملة باسم التفخيم العظيم، حيث صدرت الجملة به، وجعلالخبر فعلاً مضارعاً يدل عندهم على التجددد والتكرر، فهو أبلغ في النسبة من الاستهزاء المخبرية في قولهم، ثم في ذلكالتنصيص على الذين يستهزىء الله بهم، إذ عدى الفعل إليهم فقال: يستهزىء بهم وهم لم ينصوا حين نسبوا الاستهزاء إليهمعلى من تعلق به الاستهزاء، فلم يقولوا: إنما نحن مستهزؤن بهم وذلك لتحرجهم من إبلاغ ذلك للمؤمنين فينقمون ذلك عليهم،فأبقوا اللفظ محتملاً أن لو حوققوا على ذلك لكان لهم مجال في الذب عنهم أنهم لم يستهزؤا بالمؤمنين. ألا ترىإلى مداراتهم عن أنفسهم بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وبقولهم: إذا لقوهم قالوا آمنا فهم، عند لقائهم لا يستطيعون إظهارالمداراة، ولا مشاركتهم بما يكرهون، بل يظهرون الطواعية والانقياد. وقرأ ابن محيصن وشبل: يمدهم وتروى عن ابن كثير: ونسبةالمد إلى الله حقيقة، إذ هو موجد الأشياء والمنفرد باختراعها. والمعنى: أن الله تعالى يطول لهم في الطغيان. وقد ذهبالزمخشري إلى تأويل المد المنسوب إلى الله تعالى بأنه منع الألطاف وخذلانهم بسبب كفرهم وإصرارهم، بقيت قلوبهم تتزايد الظلمة فيهاتزايد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك التزايد مداً وأسند إلى الله لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم، أوبأن المد هو على معنى القسر والالجاء. قال: أو على أن يسند فعل الشيطان إلى الله لأنه بتمكينه وإقداره والتخليةبينه وبين إغواء عبادة، وإنما ذهب إلى التأويل في المد لأن مد الله لهم في الطغيان قبيح، والله منزه عنفعل القبيح. والتأويل الأول الذي ذكره الزمخشري: قول الكعبي، وأبي مسلم. وقال الجبائي: هو المد في العمر، وعندنا نحن أنالله خالق الخير والشر، وهو الهادي والمضل. وقد تقدم الكلام في نحو من هذا عند قوله تعالى: {خَتَمَ ٱللَّهُعَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } ومد الله في طغيانهم، التمكين من العصيان، قاله ابن مسعود، أو الإملاء، قاله ابن عباس، أو الزيادةمن الطغيان، قاله مجاهد، أو الإمهال، قاله الزجاج وابن كيسان، أو تكثير الأموال، والأولاد، وتطييب الحياة، أو تطويل الأعمار، ومعافاةالأبدان، وصرف الرزايا، وتكثير الأرزاق. وقرأ زيد بن علي: في طغيانهم بكسر الطاء، وهي لغة، يقال: طغيان بالضم والكسر، كماقالوا: القيان، وغينان، بالضم والكسر. وأمال الكسائي في طغيانهم، وأضاف الطغيان إليهم لأنه فعلهم وكسبهم، وكل فعل صدر من العبدصحت إضافته إليه بالمباشرة، وإلى الله بالاختراع. وما فسر به العمه يحتمله قوله تعالى: {يَعْمَهُونَ }، فيكون المعنى: يترددون ويتحيرون،أو يعمون عن رشدهم، أو يركبون رؤوسهم ولا يبصرون. قال بعض المفسرين: وهذا التفسير الأخير أقرب إلى الصواب لأنهم لميكونوا مترددين في كفرهم، بل كانوا مصرين عليه، معتقدين أنه الحق، وما سواه الباطل. يعمهون: جملة في موضع الحال، نصبعلى الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل أنيكون متعلقاً بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير فييمدهم، قال: لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو أنتكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو: لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حالواحد، كما ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن لا يجوز كما لم يجز ذلك للعامل أن يقضيمصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن لا يكونالثاني على جهة البدل، أو معطوفاً، فإنه إذا كانا كذلك جازت المسألة. قال: بعضهم: إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل فيظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلىأنه يجوز للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن الفعل الصادر من فاعل، أو الواقعبمفعول، يستحيل وقوعه في زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال واحد، إلا إن كانا ضدين، أونقيضين. فيجوز أن تقول: جاء زيد ضاحكاً راكباً، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين. فعلى هذا الذي قررناهمن الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال واحد، والعامل فيهما واحد. أولئك: اسم أشير به إلى الذين تقدمذكرهم، الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السّفه للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة وهم معالكفار. وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو. وقرأ أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح. ولاعتلال ضمة الواو وجوه أربعةمذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في التقاء الساكنين، نحو:{ وَأنَّ لُو ٱسْتَقَـٰمُواْ }، ووجه الفتح اتباعها لحركة الفتحقبلها. وأمال حمزة والكسائي الهدي، وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. والاشتراء هنا مجاز كنى به عنالاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذولفي المشتري، وإنما ذهب في الاشتراء إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في يد غيرك،وهذا مفقود هنا. وقد ذهب قوم إلى أن الاشتراء هنا حقيقة لا مجاز، والمعاوضة متحققة، ثم راموا يقررون ذلك،ولا يمكن أن يتقرر لأنه على كل تقدير يؤول الشراء فيه إلى المجاز، قالوا: إن كان أراد بالآية المنافقين، كماقال مجاهد، فقد كان لهم هدى ظاهر من التلفظ بالشهادة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والغزو، والقتال. فلما لم تصدقبواطنهم ظواهرهم واختاروا الكفر، استبدلوا بالهدى الضلال، فتحققت المعاوضة، وحصل البيع والشراء حقيقة، وكان من بيوع المعاطاة التي لا تفتقرإلى اللفظ، وقالوا: لما ولدوا على الفطرة واستمر لهم حكمها إلى البلوغ وجد التكليف، استبدلوا عنها بالكفر والنفاق فتحققت المعاوضة،وقالوا: لما كانوا ذوي عقول متمكنين من النظر الصحيح المؤدي إلى معرفة الصواب من الخطأ، استبدلوا بهذا الاستعداد النفيس اتباعالهوى والتقليد للآباء، مع قيام الدليل الواضح، فتحققت المعاوضة. قالوا: وإن كان أراد بالآية أهل الكتاب، كما قال قتادة، فقدكانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، ومصدقين ببعث النبي ، ومستفتحين به، ويدعون بحرمته، ويهددون الكفار بخروجه، فكانوامؤمنين حقاً. فلما بعث وهاجر إلى المدينة، خافوا على رئاستهم ومآكلهم وانصراف الاتباع عنهم، فجحدوا نبوتهوقالوا: ليس هذا المذكور عندنا، وغيروا صفته، واستبدلوا بذلك الإيمان الكفر الذي حصل لهم، فتحققت المعاوضة. قالوا: وإن كان أرادسائر الكفار، كما قاله ابن مسعود، وابن عباس، فالمعاوضة أيضاً متحققة، إما بالمدة التي كانوا عليها على الفطرة ثم كفروا،أو لأن الكفار كان في محصولهم المدارك الثلاثة: الحسي والنظري والسمعي، وهذه التي تفيد العلم القطعي، فاستبدلوا بها الجري علىسنن الآباء في الكفر. وقال ابن كيسان: خلقهم لطاعته، فاستبدلوا عن هذه الخلقة المرضية كفرهم وضعف قوله، لأنه تعالى لوبرأهم لطاعته، لما كفر أحد منهم لاستحالة أن يخلق شيئاً لشيء ويتخلف عن ذلك الشيء. وسيأتي الكلام على قوله تعالى: { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }، وعلى ولذلك خلقهم إن شاء الله. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي: الضلالة: الكفر، والهدى: الإيمان،وقبل الشك واليقين، وقيل الجهل والعلم، وقيل الفرقة والجماعة، وقيل الدنيا والآخرة، وقيل النار والجنة. وعطف: فما ربحت، بالفاء، يدلعلى تعقب نقي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح. وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله:{فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان في صلة فعل، كانفي معنى الشرط، ومثله { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ }، وقع الجواب بالفاء في قوله:{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ، وكذلك الذي يدخلالدار فله درهم، انتهى. وهذا خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل الفاء في خبره، كماندخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن أولئك، وقوله: فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة فعليهمعطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ }خطأ، لأنه ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ،وفما ربحت تجارتهم خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه الجملة الواقعة خبراً لأولئك. ولتحققمضي الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية، معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ،والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من أولئك، صار الذين مخصوصاًلأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ والذين خبراًعنه. ونسبة الريح إلى التجارة من باب المجاز لأن الذي يربح أو يخسر إنما هو التاجر لا التجارة، ولما صورالضلالة والهدى مشترى وثمناً، رشح هذا المجاز البديع بقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ }، وهذا من باب ترشيح المجاز، وهوأن يبرز المجاز في صورة الحقيقة، ثم يحكم عليه ببعض أوصاف الحقيقة، فينضاف مجازاً إلى مجاز، ومن ذلك قول الشاعر:

بكى الخز من روح وأنكر جلده وعجت عجيجاً من جذام المطارف

أقام الخز مقام شخص حين باشر روحاًبكى من عدم ملامته، ثم رشحه بقوله: وأنكر جلده، ثم زاد في ترشيح المجاز بقوله: وعجب، أي وصاحت مطارف الخزمن قبيل روح هذا، وهي: جذام. ومعنى البيت: أن روحاً وقبيلته جذام لا يصلح لهم لباس الخز ومطارقه، لأنهم لاعادة لهم بذلك، فكنى عن التباين بينهما بما كنى فيه في البيت، ومن ذلك قول الشافعي، رضي الله عنه:

أيا بومة قد عششت فوق هامتي على الرغم مني حين طار غرابها

لما كنى عن الشيب بالبومة فأقبل عليهاوناداها، رشح هذا المجاز بقوله: قد عششت، لأن الطائر من أفعاله اتخاذ العشة، وقد أورد الزمخشري في ترشيح المجاز فيكشافه مثلاً. وقرأ ابن أبي عبلة: تجاراتهم، على الجمع، ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه قراءة الجمهور على الأفراد أنهاكتفى به عن الجمع لفهم المعنى، وفي قوله: فما ربحت تجارتهم، إشعار بأن رأس المال لم يذهب بالكلية، لأنه إنمانفى الربح، ونفي الربح لا يدل على انتقاص رأس المال. وأجيب عن هذا بأنه اكتفى بذكر عدم الربح عن ذكرذهاب المال، لما في الكلام من الدلالة على ذلك، لأن الضلال نقيض الهدى، والنقيضان لا يجتمعان، فاستبدالهم الضلالة بالهدى دلعلى ذهاب الهدى بالكلية، ويتخرج عندي على أن يكون من باب قوله:

علــي لا حب لا يهتــدي بمنــاره

أيلا منار له فيهتدي به، فنفى الهداية، وهو يريد نفي المنار، ويلزم من نفي المنار نفي الهداية به، فكذلك هذهالآية لما ذكر شراء شيء بشيء، توهم أن هذا الذي فعلوه هو من باب التجارة، إذ التجارة ليس نفس الاشتراءفقط، وليس بتاجر، إنما التجارة: التصرف في المال لتحصيل النموّ والزيادة فنفى الربح. والمقصود نفي التجارة أي لا يتوهم أنهذا الشراء الذي وقع هو تجارة فليس بتجارة وإذا لم يكن تجارة انتفى الربح فكأنه قال: فلا تجارة لهم ولاربح. وقال الزمخشري معناه: إن الذي يطلبه التجار في متصرفاتهم شيئان: سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً،لأن رأس المال مالهم كان هو الهدى، فلم يبق لهم مع الضلالة، وحين لم يبق في أيديهم إلا الضلالة لميوصفوا بإصابة الربح، وإن ظفروا بما ظفروا به من الأعراض الدنيوية، لأن الضلال خاسر دامر، ولأنه لا يقال لمن لميسلم له رأس ماله قد ربح. انتهى كلامه. ومع ذلك ليس بمخلص في الجواب لأن نفي الربح عن التجارة لايدل على ذهاب كل المال، ولا على الخسران فيه، لأن الربح هو الفضل على رأس المال، فإذا نفى الفضل لميدل على ذهاب رأس المال بالكلية، ولا على الانتقاص منه، وهو الخسران. قيل: لما لم يكن قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتتِّجَـٰرَتُهُمْ } مفيداً لذهاب رؤوس أموالهم، أتبعه بقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }، فكمل المعنى بذلك، وتم به المقصود، وهذا النوعمن البيان يقال له: التتميم، ومنه قول امرىء القيس:

كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

تمم المعنى بقوله: الذي لم يثقب، وكمل الوصف وسمى الله تعالى اعتياضهم الضلالة عن الهدى تجارة، وإن كانتالتجارة هي البيع والشراء المتحقق منه الفائدة، أو المترجى ذلك منه. وهذا الاعتياض منفي عنه ذلك، لأن الكفر محبط للأعمال.قال تعالى:{ وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ } الآية. وفي الحديث، أنه سئل عن ابن جدعان: وهوينفعه وصله الرحم وإطعام المساكين؟ فقال: لا إنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ، لأنهم لم يعتاضوا ذلكإلا لما تحققوا وارتجوا من العوائد الدنيوية والأخروية. ألا ترى إلى قولهم: {نحن أبناء الله وأحباؤه}، وقولهم: { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ }. وكانت اليهود تزعم أنهم لا يعذبون إلا أياماً معدودة، وبعضهم يقول يوماً واحداً، وبعضهم عشراً، وكل طائفة من الكفارتزعم أنها على الحق وأن غيرها على الباطل. فلحصول الراحة الدنيوية ورجاء الراحة الأخروية، سمى اشتراءهم الضلالة بالهدى تجارة، ونفىالله تعالى عنهم كونهم مهتدين. وهل المعنى ما كانوا في علم الله مهتدين، أو مهتدين من الضلالة، أو للتجارة الرابحة،أو في اشتراء الضلالة، أو نفي عنهم الهداية والربح، لأن من التجار من لا يربح في تجارته ويكون على هدى،وعلى استقامة، وهؤلاء جمعوا بين نفي الربح والهداية. والذي أختاره أن قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } إخبار بأن هؤلاءما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، أنهم كانوا على هدى فيما مضى، فبين قوله: {وَمَا كَانُواْمُهْتَدِينَ } مجاز قوله: بالهدى، ودل على أن الذي اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى، فالمثبت فيالاعتياض غير المنفى أخيراً، لأن ذاك بالقوة وهذا بالفعل. وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافاًلمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً، وخلافاً لمن زعم أن أصل انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الإسمبرفع كان، إلا أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة، فقيل: كان أخوك زيداً تغليباً للخير،لا للحال. وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات أقوالاً: أحدها: أنها نزلت في المنافقين. الثاني: في قوم أعلمالله بوصفهم قبل وجودهم، وفيه إعلام بالمغيبات. الثالث: في عبد الله بن أبي وأصحابه نزل: {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }والتي قبلها في جميع المنافقين، وذكروا ما معناه: أنه لقي نفراً من المؤمنين، فقال لأصحابه: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاءعنكم، فذكر أنه مدح وأثنى على أبي بكر وعمر وعلي، فوبخه علي وقال له: لا تنافق، فقال: ألي تقول هذا،والله إن إيماننا كإيمانكم، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيراً. وقد تقدمت أقاويل غيرهذه الثلاثة في غضون الكلام قبل هذا.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ[عدل]

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْفِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }: المثل في أصل كلام العرب بمعنى المثل والمثيل، كشبه وشبه وشبيه، وهو النظير، ويجمع المثل والمثل على أمثال. قال اليزيدي: الأمثال: الأشباه، وأصل المثل الوصف، هذا مثل كذا، أي وصفه مساً ولو صف الآخر بوجهمن الوجوه. والمثل: القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه. وقيل: المثل، ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدلبه علي وصف مشابه له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء ليصير في الذهن مساوياً للأول في الظهور منوجه دون وجه. والمقصود من ذكر المثل أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لأن الغرضمن ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته ويصير الحس مطابقاً للعقل. والذي: اسم موصول للواحدالمذكر، ونقل عن أبي علي أنه مبهم يجري مجرى مَن في وقوعه على الواحد والجمع. وقال الأخفش: هو مفرد، ويكونفي معنى الجمع، وهذا شبيه بقول أبي علي، وقال صاحب التسهيل فيه، وقد ذكر الذين، قال: ويغني عنه الذي فيغير تخصيص كثيراً وفيه للضرورة قليلاً وأصحابنا يقولون: يجوز أن تحذف النون من الذين فيبقي الذي، وإذا كان الذي لمفردفسمع تشديد الياء فيه مكسورة أو مضمومة، وحذف الياء وإبقاء الذال مكسورة أو ساكنة، وأكثر أصحابنا على أن تلك لغاتفي الذي. والاستيقاد: بمعنى الإيقاد واستدعاء ذلك، ووقود النار ارتفاع لهيبها. والنار: جوهر لطيف مضيء حار محرق. لما: حرف نفييعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفاً بمعنى حين عند الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف وجوبلوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما، ولمجيء جوابها مصدراً بإذا الفجائية. الإضاءة: الإشراق، وهو فرط الإنارة.وحوله: ظرف مكان لا يتصرف، ويقال: حوال بمعناه، ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تتصرف وتلزم الإضافة. الذهاب: الانطلاق. النور: الضوءمن كل نير ونقيضة الظلمة، ويقال نار ينور إذا نفر، وجارية نوار: أي نفور، ومنه اسم امرأة الفرزدق، وسمي نوراًلأن فيه اضطراباً وحركة. الترك: التخلية، أترك هذا أي خله ودعه، وفي تضمينه معنى التصيير وتعديته إلى اثنين خلاف، الأصحجواز ذلك. الظلمة: عدم النور، وقيل: هو عرض ينافي النور، وهو الأصح لتعلق الجعل بمعنى الخلق به، والإعدام لا توصفبالخلق، وقد رده بعضهم لمعنى الظلم، وهو المنع، قال: لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية. الإبصار: الرؤية. {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌفَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } جموع كثرة على وزن فعل، وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا، نحو: أحمروحمراء، أو انفرد المانع في الخلقة، نحو: عذل ورتق. فإن كان الوصف مشتركاً لكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء،وذلك نحو: رجل آلي وامرأة عجزاء، لم ينقس فيه فعل بل يحفظ فيه. والصمص: داء، يحصل في الأذن يسد العروقفيمنع من السمع، وأصله من الصلابة، قالوا: قناة صماء، وقيل أصله السد وصممت القارورة: سددتها. والبكم: آفة تحصل في اللسانتمنع من الكلام، قاله أبو حاتم، وقيل: الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم الكلام ولا يهتدي إلى الصواب، فيكونإذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان. والعمى: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، والفعل منها على فعلبكسر العين، واسم الفاعل على أفعل، وهو قياس الآفات والعاهات. والرجوع، إن لم يتعد، فهو بمعنى: العود، وإن تعدى فبمعنى:الإعادة. وبعض النحويين يقول: إنها تضمن معنى صار فتصير من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر. قال الزمخشري: لماجاء بحقيقة صفتهم عقبها بذكر ضرب المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيانه، ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأنليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق، حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقنوالغائب بأنه مشاهد، وفيه تبكيت للخصم الألد وقمع لسورة الجامح الآبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين وفي سائركتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله وكلام الأنبياء والحكماء، فقال الله تعالى: { وَتِلْكَ ٱلاْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ } ، ومن سور الإنجيل سور الأمثال، انتهى كلامه. ومثلهم: مبتدأ والخبر في الجار والمجروربعده، والتقدير كائن كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية: الخبر الكاف، وهي على هذا اسم،كما هي في قول الأعشى:

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

انتهى.وهذا الذي اختاره ونبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز أن تكون الكاف اسماً في فصيح الكلام،وتقدم أنا لا نجيزه إلا في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر الوجه الذياختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في قوله: فصيروا مثل: { كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } .

وحمله على ذلك، والله أعلم،أنه لما تقرر عنده أن المثل والمثل بمعنى، صار المعنى عنده على الزيادة، إذ المعنى تشبيه المثل بالمثل، لا يمثلالمثل والمثل هنا بمعنى القصة والشأن، فشبه شأنهم ووصفهم بوصف المستوقد ناراً فعلى هذا لا تكون الكاف زائدة. وفي جهةالمماثلة بينهم وبين الذي استوقد ناراً وجوه ذكروها: الأول: أن مستوقد النار يدفع بها الأذى، فإذا انطفأت عنه وصل الأذىإليه، كذلك المنافق يحقن دمه بالإسلام ويبيحه بالكفر. الثاني: أنه يهتدي بها، فإذا انطفأت ضل، كذلك المنافق يهتدي بالإسلام، فإذااطلع على نفاقه ذهب عنه نور الإسلام وعاد إلى ظلمه كفرة. الثالث: أنه إذا لم يمدها بالحطب ذهب ضوؤها، كذلكالمنافق، إذا لم يستدم الإيمان ذهب إيمانه. الرابع: أن المستضيء بها نوره من جهة غيره لا من جهة نفسه، فإذاذهبت النار بقي في ظلمة، كذلك المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد قلبه كان نور إيمانه كالمستعار. الخامس: أنالله شبه إقبالهم على المسلمين بالإضاءة وعلى المشركين الذهاب، قاله مجاهد: السادس: شبه الهدى الذي باعوه بالنور الذي حصل للمستوقد،والضلالة المشتراة بالظلمات. السابع: أنه مثل ضربه الله للمنافق لأنه أظهر الإسلام فحقن به دمه ومشى في حرمته وضيائه ثمسلبه في الآخرة عند حاجته إليه، روي معناه عن الحسن، وهذه الأقاويل على أن ذلك نزل في المنافقين، وهو مرويعن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. وروي عن ابن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان بن رئاب، أنهافي اليهود، فتكون في المماثلة إذ ذاك وجوه ذكروها: الأول: أن مستوقد النار يستضيء بنورها ويتأنس وتذهب عنه وحشة الظلمة،واليهود لما كانوا يبشرون النبي ويستفتحون به على أعدائهم ويستنصرون به فينصرون، شبه حالهم بحال المستوقدالنار، فلما بعث وكفروا به، أذهب الله ذلك النور عنهم. الثاني: شبه نار حربهم التي شبوها لرسول الله صلى اللهعليه وسلم بنار المستوقد، وإطفاءها بذهاب النور الذي للمستوقد.

الثالث: شبه ما كانوا يتلونه في التوراة من اسم رسول الله وصفته وصفة أمته ودينه وأمرهم باتباعه بالنور الحاصل لمن استوقد ناراً، فلما غيروا اسمه وصفته وبدلواالتوراة وجحدوا أذهب الله عنهم نور ذلك الإيمان، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه يجري مجرى منفي الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظاً وإن كان في المعنى نعتاًلما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد ناراً كأحد التأويلين في قوله:
وإن الـذي حـانت بفلـج دماؤهـم

ولايحمل على المفرد لفظاً ومعنى بجمع الضمير في ذهب الله بنورهم، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم أن الذي هناهو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد الضمير في العلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف كالملفوظ به.ألا ترى جمعه في قوله تعالى:

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ }

على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر:

يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الـذي قـامـوا بـأطـراف المســد

وأما قول الفارسي: إنهامثل مَن، ليس كذلك لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر أبداً وليس كذلك الذي،وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى:

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ }

، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما: أن الذي لكونهوصلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم اقتصروا على اللامفي أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد تقدمه إليهبعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تحظى العاملإلى أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أوحذفت، قال: والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائرالموصولات لفظ الجمع والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون صحيح منحيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون واقعاًإلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين منجهة أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنياً التزم فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثرالعرب، وهذيل أتت بصيغة الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً، وكل العرب التزمت جمع الضمير العائد عليهمن صلته كما يعود على الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ لأن يوضع الذيموضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً. وقرأابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع، وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين فحذفت نونهتخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عنديعلى وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هولفظ ومعنى، كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم قد وقع بين مختلفي الحد، وهوإجراء الموصول في الجزم مجرى اسم الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن الموصولان مثال الجزم بالذي،قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع

الثاني:أن يكون إفراد الضمير، وإن كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقدجاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد أبو الحسن:

وبالبدو منا أسرة يحفظوننا سراع إلى الداعي عظام كراكره

أي كراكرهم. والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين، وإنما هو عائد علىاسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى:

{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ }

أي هو أي البداء المفهوم من بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد علىالذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما: أن يكون حذف وأصله لهم، أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لمتكن فيه شروط الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر:

ولو أن ما عالجت لين فؤادها فقسا استلين به للان الجندل

يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير، وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهيمذكورة في مبسوطات كتب النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع رفع، وأن يكون الموصول، أوالموصوف به الموصول، أو المضاف للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنى، وأن يكون الفعل الذي تعلق بهالحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق به الحرف السابق. والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى الواقعة صلةلا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلكالعائد المتأخر، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد علىالذين الضمير الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }، ولم يذكر أحد ممن وقفنا على كلامهتخريج قراءة ابن السميمع. واستوقد: استفعل، وهي بمعنى افعل. حكى أبو زيد: أوقد واستوقد بمعنى، ومثله أجاب واستجاب، وأخلفلأهله واستخلف أي خلف الماء، أو للطلب، جوز المفسرون فيها هذين الوجهين من غير ترجيح، وكونها بمعنى أوقد، قول الأخفش،وهو أرجح لأن جعلها للطلب يقتضي حذف جملة حتى يصح المعنى، وجعلها بمعنى أوقد لا يقتضيه. ألا ترى أنه يكونالمعنى في الطلب استدعوا ناراً فأوقدوها، {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ }، لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب، إنما تتسبب عنالاتقاد، فلذلك كان حملها على غير الطلب أرجح، والتشبيه وقع بين قصة وقصة، فلا يحتاج في نحو هذا التشبيه إلىمقابلة جماعة بجماعة. ألا ترى إلى قوله تعالى: { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } ،وعلى أنه في قوله: {كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً }، هو من قبيل المقابلة أيضاً؟ ألا ترى أن المعنى هو كمثلالجمع؟ أو الفوج الذي استوقد، فهو من المفرد اللفظ المجموع المعنى. على أن من المفسرين من تخيل أنه مفرد وراممقابلة الجمع بالجمع، فادعى أن ذلك هو على حذف مضاف التقدير، كمثل أصحاب الذي استوقد، ولا حاجة إلى هذا الذيقدره لأنه لو فرضناه مفرداً لفظاً ومعنى لما احتيج إلى ذلك، لأن التشبيه إنما جرى في قصة بقصة، وإذا كانكذلك فلا تشترط المقابلة، كما قدمنا، ونكر ناراً وأفردها، لأن مقابلها من وصف المنافق إنما هو نزر يسير من التقييدبالإسلام، وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق مملوأة به، فشبه حاله بحال من استوقد ناراً ما إذ ما إذ لا يدلإلا على المطلق، لا على كثرة ولا على عهد، والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة،ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره إن استوقد فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد علىما يشبه هذا الزعم في قوله: {فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ }، فأغنى عن إعادته هنا. وأضاءت: قيل متعد وقيل لازمومتعد، قالوا: وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعدياً كانت الهمزة فيه للنقل، إذ يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بنعبد المطلب، في النبي عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير الناروما مفعولة وحوله صلة معمولة لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لناالكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار المكان الذي حوله، وإذا كان لازماً فقالوا: إن الضمير في أضاءت للنار، ومازائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى، أي:فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في قولهم: ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذاأولى مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلساً حسناً، ولاقت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنىمحفوظ، كما ذكرناه، ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة ما، والأولى فيالآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى. وقرأ ابن السميفع،وابن أبي عبلة: فلما أضاءت ثلاثياً فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة، إما موصولة وإما موصوفة، كماتقدم، ولما جوابها: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }، وجمع الضمير في: بنورهم حملاً على معنى الذي، إذ قررنا أن المعنى كالجمعالذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد، وأجازوا أن يكون جواب لما محذوفاًلفهم المعنى، كما حذفوه في قوله:

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ } ، الآية. قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه لاستطالة الكلام معأمن الإلباس الدال عليه، انتهى. وقوله: لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره خمدت، وأي استطالة فيقوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ }، خمدت؟ بل هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ }، فإنالكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغاًلاستطالة الكلام. وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضاً غير مسلم، وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟بل الذي يقتضيه ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } هو الجواب، فإذا جعلت غيره الجوابمع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئاً يبادر إلى الفهم وأضمرتشيئاً يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ}. ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى منالإثبات، لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ للفظ في أداء المعنى،كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت، فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح فيإحياء النار، انتهى. وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها، لأنه يمكن له ذلك لو لم يكن يليقوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ }، قوله: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }. وأما ما في كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره،فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله، ويقدر تقادير وجملاً محذوفة لم يدل عليها الكلام، وذلك عادته في غير ماكلام في معظم تفسيره، ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله، ولا أن يزاد فيه، بل يكون الشرحطبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه. ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله تعالى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ}، فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون مستأنفاً جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت حالهم حالهذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري، وكلا الوجهينمبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره وأنه قوله تعالى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } والوجه الثاني من التخريجيناللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } بدلاً من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهرفي صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً * فَجَعَلَهُ *ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } بدلاً منهذه الجملة، على سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت الجملة فعلية تبدل منجملة فعلية، فقد ذكروا جواز ذلك. أما أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك، والبدلعلى نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكونالثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها، ومن جعل الجوابمحذوفاً جعل الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية، وهي إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أنالباء تجيء لها، وهي عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت: خرجت بزيد؛ فمعناه أخرجت زيداً، ولا يلزم أن تكونأنت خرجت، وذهب أبو العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته، وإذا قلت: أقمت زيداً،لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي، قال: تدخلالباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار، ودخلتبه، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته. فلا بد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت: قعدت به، ودخلتبه. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها. ألا ترى أن المعنى أذهب الله نورهم؟ ألا ترى أن الله لايوصف بالذهاب مع النور؟ قال بعض أصحابنا، ولا يلزم ذلك أبا العباس: إذ يجوز أن يكون الله وصف نفسه بالذهابعلى معنى يليق به، كما وصف نفسه تعالى بالمجيء في قوله: { وَجَاء رَبُّكَ } ، والذي يفسد مذهب أبي العباس منالتفرقة بين الباء والهمزة قول الشاعر:

ديار التي كانت ونحن على منى تحل بنا لولا نجاء الركائب

أي تحلنا ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالاً غير محرمين، وليست تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراماً،فتصير خلالاً بعد ذلك؟ ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، ولقوله تعالى:

{ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ }

،في قراءة من جعله رباعياً تخريج بذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى. ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت فيالنحو. وقرأ اليماني: أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة، ونسبة الإذهاب إلى الله تعالى حقيقة، إذ هوفاعل الأشياء كلها. وفي معنى: {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } ثلاثة أقوال: قال ابن عباس: هو مثل ضرب للمنافقين، كانوايعتزون بالإسلام، فناكحهم المسلمون ووارثوهم وقاسموهم الفيء، فلما ماتوا سبلهم الله العز، كما سلب موقد النار ضوءه، {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ}، أي في عذاب. الثاني: إن ذهاب نورهم باطلاع الله المؤمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإسلام بما أظهرمن كفرهم. الثالث: أبطل نورهم عنده، إذ قلوبهم على خلاف ما أظهروا، فهم كرجل أوقد ناراً ثم طفئت فعاد فيظلمة. وهذه الأقوال إنما تصح إذا كان الضمير في بنورهم عائداً على المنافقين، وإن عاد على المستوقدين، فذهاب النور هوإطفاء النار التي أوقدوها، ويكون بأمر سماوي ليس لهم فيه فعل، فلذلك قال الضحاك: لما أضاءت النار أرسل الله عليهاريحاً عاصفاً فاطفأها، وهذا التأويل يأتي على قول من قال: إنها نار حقيقة أوقدها أهل الفساد ليتوصلوا بها وبنورها إلىفسادهم وعبثهم، فأخمد الله نارهم وأضل سعيهم، وأما إذا قلنا إن ذكر النار هنا مثل لا حقيقة لها، وإن المرادبها نار العداوة والحقد، فإذهاب الله لها دفع ضررها عن المؤمنين. وإذا كانت النار مجازية، فوصفها بالإضاءة ما حول المستوقدهو من مجاز الترشيح، وقد تقدم الكلام فيه. وإذهاب النور أبلغ من إذهاب الضوء لاندراج الأخص في نفي الأعم، لاالعكس. فلو أتى بضوئهم لم يلزم ذهاب النور. والمقصود إذهاب النور عنهم أصلاً، ألا ترى كيف عقبه بقوله: {وَتَرَكَهُمْ فِيظُلُمَـٰتٍ }؟ وإضافة النور إليهم من باب الإضافة بأدنى ملابسة، إذ إضافته إلى النار هو الحقيقة، لكن مما كانوا ينتفعونبه صح إضافته إليهم. وقرأ الجمهور: في ظلمات بضم اللام، وقرأ الحس، وأبر السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها.وهذه اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو:كلية، امتنعت الضمة، أو كان مضعفاً نحو: دره، أو معتل العين نحو: سورة، أو وصفاً نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة.وقرأ قوم: إن ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا جمع جمع، والعدول إلى الفتحتخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع، لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوار، أو إليه فينحو: جفنة وجوباء. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أنيصار إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كلواحد له ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن جاء على هذا المنزع من إفراد النوروجمع الظلمات. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله. ونكرت الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بمادل عليه المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون: فيظلمات، في موضع الحال من المفعول، فيتعلق بمحذوف، ولا يبصرون: في موضع الحال أيضاً، إما من الضمير في تركهم وإمّامن الضمير المستكن في المجرور فيكون حالاً متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن من ترك في ظلمةلزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني،ولا يبصرون جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحل، ولا يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني،وإن كان يجوز ظننت زيداً منفرداً لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف لأن المفعول الثانيأصله خبر لمبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي الخبر على جهة التأكيد، إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار.فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في ظلمة لا يبصر، فلا يكونفي قوله لا يبصرون من الفائدة إلا التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين قول امرىءالقيس:

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشق وشق عندنا لم يحول

على أن وشقمبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه يؤدي إلىمجيء الخبر مؤكداً، لأن نفي التحويل مفهوم من كون الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه. قالابن عباس: والظلمات هنا العذاب، وقال مجاهد: ظلمة الكفر، وقال قتادة: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، وقال السدّي: ظلمةالنفاق، ولم يذكر مفعول لا يبصرون، ولا ينبغي أن ينوي، لأن المقصود نفي الإبصار عنهم لا بالنسبة إلى متعلقه.قرأ الجمهور: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ }، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالةالوضعية، لكنها في موضع خبر واحد، إذ يؤول معناها كلها إلى عدم قبولهم الحق وهم سمعاء الآذان، فصح الألسن، بصراءالأعين، لكنهم لم يصيخوا إلى الحق ولا نطقت به ألسنتهم، ولا تلمحوا أنوار الهداية، وصفوا بما وصفوا من الصمم والبكموالعمى، وقد سمع عن العرب لهذا نظائر، أنشد الزمخشري من ذلك أياتاً، وأنشد غيره:

أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر وأصم عما كان بينهما

وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين، وليس من باب الاستعارة، لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون. والاستعارةإنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه، صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير:

لدي أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم

وحذف المبتدأ هناك لذكره، فلا يقال: إنه من باب الاستعارة، إذ هو كقول زهير:

أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر

والإخبار عنهم بالصمم والبكم والعمى هو كماذكرناه من باب المجاز، وذلك لعدم قبولهم الحق. وقيل: وصفهم الله بذلك لأنهم كانوا يتعاطون التصامم والتباكم والنعامي من غيرأن يكونوا متصفين بشيء من ذلك، فنبه على سوء اعتمادهم وفساد اعتقادهم. والعرب إذا سمعت ما لا تحب، أو رأتما لا يعجب، طرحوا ذلك كأنهم ما سمعوه ولا رأوه. قال تعالى:

{ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً }

،وقالوا:

{ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ }

الآية. قيل: ويجوز أن يكون أريد بذلك المبالغة في ذمهم، وأنهم من الجهل والبلادة أسوأحالاً من البهائم وأشبه حالاً من الجمادات التي لا تسمع ولا تتكلم ولا تبصر. فمن عدم هذه المدارك الثلاثة كانمن الذم في الرتبة القصوى، ولذلك لما أراد ابراهيم، على نبينا وعليه السلام، المبالغة في ذم آلهة أبيه قال: { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } ؟ وهذه الجملة خبرية ولا ضرورة تدعو إلى اعتقادأنه خبر أريد به الدعاء، وإن كان قد قاله بعض المفسرين. قال: دعاء الله عليهم بالصمم والبكم والعمى جزاء لهمعلى تعاطيهم ذلك، فحقق الله فيهم ما يتعاطونه من ذلك وكأنه يشير إلى ما يقع في الآخرة من قوله:

{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا } . وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صماً بكماً عمياً، بالنصب،وذكروا في نصبه وجوهاً: أحدها: أن يكون مفعولاً ثانياً لترك، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم، أو في موضع الحال، ولايبصرون. حال. الثاني: أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أوتكون تعدت إليهما وقد أخذتهما. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني. الرابع: أن يكون منصوباً على الحال منالضمير في يبصرون، وفي ذلك نظر. الخامس: أن يكون منصوباً على الذم، صماً بكماً، فيكون كقول النابغة:

أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع

وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أنتكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين،إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ }، وكان الضمير في نورهميعود على المنافقين، فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالةالرفع من أوصافهم. ألا ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض المفسرين على ضعف النصبعلى الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه: أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الإسم السابق فتعدل عن المطابقةفي الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذاضعف النصب على الذم. فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملةالسابقة ومتعقبتها، لأن من كانت فيه هذه الأوصاف الثلاثة، التي هي كناية عن عدم قبول الحق، جدير أن لا يرجعإلى إيمان. فإن كانت الآية في معنيين، فذلك واضح، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يرجع إلى الإيمان لايرجع أبداً، وإن كانت في غير معنيين فذلك مقيد بالديمومة على الحالة التي وصفهم الله بها. قال قتادة، ومقاتل: لايرجعون عن ضلالهم، وقال السدي: لا يرجعون إلى الإسلام، وقيل: لا يرجعون عن الصم والبكم والعمى، وقيل: لا يرجعون إلىثواب الله، وقيل: عن التمسك بالنفاق، وقيل: إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وأسند عدمالرجوع إليهم لأنه لما جعل تعالى لهم عقولاً للهداية، وبعث إليهم رسلاً بالبراهين القاطعة، وعدلوا عن ذلك إلى اتباع أهوائهم،والجري على مألوف آبائهم، كان عدم الرجوع من قبل أنفسهم. وقد قدمنا أن فعل العبد ينسب إلى الله اختراعاً وإلىالعبد لملابسته له، ولذلك قال في هذه الآية: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }، فأضاف هذه الأوصاف الذميمة إلىملابسها وقال تعالى: { أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ } ، فأضاف ذلك إلى الموجد تعالى. وهذه الأقاويل كلها علىتقدير أن يكون الرجوع لازماً، وإن كان متعدياً كان المفعول محذوفاً تقديره فهم لا يرجعون جواباً.

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ[عدل]

{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ }

{أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } أو، لها خمسة معان:الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ يقول:أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي: أو للدلالة على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر المشكوكفيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت للشك، فقد تكون في الخبر، ولاشك إذا أبهمت على المخاطب. وأما التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخير إنما يريد أحد الشيئين، وأما التي زعموا أنهاللإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما دخلتلغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علماً بأن أو ليستمعتمدة هنا. الصيب: المطر، يقال: صاب يصوب فهو صيب إذا نزل والسحاب أيضاً، قال الشاعر:

حتى عفاها صيب ودقه داني النواحي مسبل هاطل

وقال الشماخ:

وأشحـم دان صـادق الرعـد صيب

ووزن صيب فيعل عندالبصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم: صيقل بكسر القاف علم لامرأة، وليسوزنه فعيلاً، للفراء. وقد نسب هذا المذهب للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم الكلام على تخفيفمثل هذا السماء: كل ما علاك من سقف ونحوه، والسماء المعروفة ذات البروج، وأصلها الواو لأنها من السمو، ثم قديكون بينها وبين المفرد تاء تأنيث. قالوا: سماوة، وتصح الواو إذ ذاك لأنها بنيت عليها الكلمة، قال العجاج:

طيّ الليالي زلفاً فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا

والسماء مؤنث، وقد يذكر، قال الشاعر:

فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب

والجنس الذي ميز واحده بتاء، يؤنثه الحجازيون،ويذكره التميميون وأهل نجد، وجمعهم لها على سموات، وعلى أسمية، وعلى سماء. قال: فوق سبع سمائنا شاذ لأنه، أولاً: اسمجنس فقياسه أن لا يجمع، وثانياً: فجمعه بالألف والتاء ليس فيه شرط ما يجمع بهما قياساً، وجمعه على أفعله ليسمما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال. الرعد، قال ابن عباس، ومجاهد، وشهر بن حوشب، وعكرمة:الرعد ملك يزجر السحاب بهذا الصوت، وقال بعضهم: كلما خالفت صحابة صاح بها، والرعد اسمه. وقال علي: وعطاء، وطاوس، والخليل:صوت ملك يزجر السحاب. وروي هذا أيضاً عن ابن عباس، ومجاهد. وقال مجاهد: أيضاً صوت ملك يسبح، وقيل: ريح تختنقبين السماء والأرض. وروي عن ابن عباس: أنه ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت، وقيل: اصطكاك الأجرام السحابية، وهوقول أرباب الهيئة. والمعروف في اللغة: أنه اسم الصوت المسموع، وقاله علي، قال بعضهم: أكثر العلماء على أنه ملك، والمسموعصوته يسبح ويزجر السحاب، وقيل: الرعد صوت تحريك أجنحة الملائكة الموكلين بزجر السحاب. وتلخص من هذه النقول قولان: أحدهما: أنالرعد ملك، الثاني: أنه صوت. قالوا: وسمي هذا الصوت رعداً لأنه يرعد سامعه، ومنه رعدت الفرائص، أي حركت وهزت كماتهزه الرعدة. واتسع فيه فقيل: أرعد، أي هدد وأوعد لأنه ينشأ عن الإبعاد. والتهدد: ارتعاد الموعد والمهدد. البرق: مخرافحديد بيد الملك يسوق به السحاب، قاله علي، أو أثر ضرب بذلك المخراف. وروي عن علي: أو سوط نور بيدالملك يزجرها به، قاله ابن عباس، أو ضرب ذلك السوط، قاله ابن الأنباري وعزاه إلى ابن عباس. وروي نحوه عنمجاهد: أو ملك يتراءى. وروي عن ابن عباس أو الماء، قاله قوم منهم أبو الجلد جيلان بن فروة البصري، أوتلألؤ الماء، حكاه ابن فارس، أو نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب، قاله بعضهم. والذي يفهم من اللغة: أن الرعدعبارة عن هذا الصوت المزعج المسموع من جهة السماء، وأن البرق هو الجرم اللطيف النوراني الذي يشاهد ولا يثبت.{يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم مّنَ ٱلصَّوٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وَٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكـٰفِرِينَ } جعل: يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدىلواحد، وبمعنى صبر أو سمى فيتعدى لاثنين، وللشروع في الفعل فتكون من أفعال المقاربة، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط المذكورةفي بابها. الأصبع: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، وذكروا فيها تسع لغات وهي: الفتح للهمزة، وضمها، وكسرها مع كل من ذلكللباء. وحكوا عاشرة وهي: أصبوع، بضمها، وبعد الباء واو. وجميع أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام، فإن بعض بني أسد يقولون:هذا إبهام، والتأنيث أجود، وعليه العرب غير من ذكر. الأذن: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا:أذينة، ولا تلحق في العدد، قالوا: ثلاث آذان، قال أبو ثروان في أحجية له:

ما ذو ثلاث آذان يسبق الخيل بالرديان

يريد السهم وآذانه وقذذه. الصاعقة: الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعةمن نار تسقط مع صوت الرعد، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيءإلا أتت عليه، وهي مع حدتها سريعة الخمود، ويهلك الله بها من يشاء. قال لبيد يرثي أخاه أربد، وكان ممنأحرقته الصاعقة:

فجعني البرق والصواعق بالـــفارس يوم الكريهـة النجـد

ويشبه بالمقتول بها من مات سريعاً، قالعلقمة بن عبدة:

كأنهم صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب

وروى الخليل عن قوممن العرب: الساعقة بالسين، وقال النقاش: صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. قال أبو عمرو: الصاقعة لغة بني تميم، قال الشاعر:

ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع لا بل هن فوق الصواقع

وقال أبو النجم:

يحلون بالمقصورة القواطع تشقق البروق بالصواقع

فإذا كان ذلك لغة، وقد حكوا تصريف الكلمةعليه، لم يكن من باب المقلوب خلافاً لمن ذهب إلى ذلك، ونقل القلب عن جمهور أهل اللغة. ويقال: صعقته وأصعقتهالصاعقة، إذا أهلكته، فصعق: أي هلك. والصاعقة أيضاً العذاب على أي حال كان، قاله ابن عرفة، والصاعقة والصاقعة: إما أنتكون صفة لصوت الرعد أو للرعد، فتكون التاء للمبالغة نحو: راوية وإما أن تكون مصدراً، كما قالوا في الكاذبة. الحذر،والفزع، والفرق، والجزع، والخوف: نظائر الموت، عرض يعقب الحياة. وقيل: فساد بنية الحيوان، وقيل: زوال الحياة. الإحاطة: حصر الشيء بالمنعله من كل جهة، والثلاثي منه متعد، قالوا: حاطه، يحوطه، حوطاً. أو كصيب: معطوف على قوله: {كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ}، وحذف مضافان، إذ التقدير: أو: كمثل ذوي صيب، نحو قوله تعالى: { كَٱلَّذِى يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ }

، أي كدورانعين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبههبحال ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وأن المعنى أيهما شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيرهذهب إليه، ولا إلى أن أو للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون هنا. ولا إلى كونأو للشك بالنسبة للمخاطبين، إذ يستحيل وقوعه من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها للإبهام، لأنالتخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في معناه. وهذه الجملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنىبل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل، ولأن الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهملا معنى له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل. وهذا التمثيل الثاني أتى كاشفاً لحالهم بعد كشف الأول. وإنماقصد بذلك التفصيل والإسهاب بحال المنافق، وشبهه في التمثيل الأول بمستوقد النار، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع جدواه بذهاب النور. وشبهفي الثاني دين الإسلام بالصيب وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من الإفزاع والفتن من جهة المسلمينبالصواعق، وكلا التمثيلين من التمثيلات المفرقة، كما شرحناه. والأحسن أن يكون من التمثيلات المركبة دون المفرقة، فلا تتكلف مقابلةشيء بشيء، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك عند الكلام على التمثيل الأول، فوصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما حبطوا فيهمن الحيرة والدهشة بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وبحال من أخذته السماء في ليلة مظلمةمع رعد وبرق وخوف من الصواعق، وإنما قدر كمثل ذوي صيب لعود الضمير في يجعلون. والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدلّعلى فرط الحيرة وشدة الأمر، ولذلك أخر فصار ارتقاء من الأهون إلى الأغلظ. وقد رام بعض المفسرين ترتب أحوال المنافقينوموازنتها في المثل من الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق، فقال: مثل الله القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال، وعما همبالظلمات والوعيد والزجر بالرعد والنور والحجج الباهرة التي تكاد أحياناً أن تبهرهم بالبرق وتخوفهم بجعل أصابعهم، وفضح نفاقهم وتكاليف الشرعالتي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوها بالصواعق، وهذا قول من ذهب إلى أنه من التمثيل المفرق الذي يقابل منه شيءشيئاً من الممثل، وستأتي بقية الأقوال في ذلك، إن شاء الله تعالى. وقرىء: أو كصايب، وهو اسم فاعل من صابيصوب وصيب، أبلغ من صايب، والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع. والجملة من قوله: {ذَهَبَ ٱللَّهُبِنُورِهِمْ } إذا قلنا ليست جواب لما جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك أيضاً {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين. فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقدمنع ذلك أبو علي، وردّ عليه بقول الشاعر:

لعمرك والخطوب مغيرات وفي طول المعاشرة التقالي لقد باليت مظعن أمّ أوفى

ففصل بين القسم وجوابهبجملتي الاعتراض. من السماء متعلق بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون في موضع الصفةفتعلق بمحذوف، وتكون من إذ ذاك للتبعيض، ويكون على حذف مضاف التقدير، أو كمطر صيب من أمطار السماء، وأتى بالسماءمعرفة إشارة إلى أن هذا الصيب نازل من آفاق السماء، فهو مطبق عام. قال الزمخشري: وفيه أن السحاب من السماءينحدر، ومنها يأخذ ماءه، لا كزعم من زعم أنه يأخذه من البحر، ويؤيده قوله تعالى:

{ وَيُنَزّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ }

انتهى كلامه. وليس في الآيتين ما يدل على أنه لا يكون منشأ المطر من البحر، إنماتدل الآيتان على أن المطر ينزل من السماء، ولا يظهر تناف بين أن يكون المطر ينزل من السماء، وأن منشأهمن البحر. والعرب تسمي السحاب بنات بحر، يعني أنها تنشأ من البحار، قال طرفة:

لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر كبنات البحر يمأدن كما

وقد أبدلوا الباء ميماً فقالوا: بنات المحر، كما قالوا: رأيته من كثب ومن كثم. وظلمات: مرتفع بالجار والمجرورعلى الفاعلية، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة، ويجوز أن تكون فيه من موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله: {مّنَٱلسَّمَاء }، إما تخصيص العمل، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب من السماء، وأجازوا أن يكونظلمات مرفوعاً بالابتداء، وفيه في موضع الخبر. والجملة في موضع الصفة، ولا حاجة إلى هذا لأنه إذا دار الأمر بينأن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن تكون من قبيل الجمل، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد وجمع الظلمات،لأنه حصلت أنواع من الظلمة. فإن كان الصيب هو المطر، فظلماته ظلمة تكاتفه وانتساجه وتتابع قطره، وظلمة: ظلال غمامه معظلمة الليل. وإن كان الصيب هو السحاب، فظلمة سجمته وظلمة تطبيقه مع ظلمة الليل. والضمير في فيه عائد على الصيب،فإذا فسر بالمطر، فمكان ذلك السحاب، لكنه لما كان الرعد والبرق ملتبسين بالمطر جعلا فيه على طريق التجوّز، ولم يجمعالرعد والبرق، وإن كان قد جمعت في لسان العرب، لأن المراد بذلك المصدر كأنه قيل: وإرعاد وإبراق، وإن أريد العينانفلأنهما لما كانا مصدرين في الأصل، إذ يقال: رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً، روعي حكم أصلهما وإن كان المعنى علىالجمع، كما قالوا: رجل خصم، ونكرت ظلمات ورعد وبرق، لأن المقصود ليس العموم، إنما المقصود اشتمال الصيب على ظلمات ورعدوبرق. والضمير في يجعلون عائد على المضاف المحذوف للعلم به، لأنه إذا حذف، فتارة يلتفت إليه حتى كأنه ملفوظبه فتعود الضمائر عليه كحاله مذكوراً، وتارة يطرح فيعود الضمير الذي قام مقامه. فمن الأول هذه الآية وقوله تعالى:

{ أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـٰهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ }

، التقدير، أو كذي ظلمات، ولذلك عاد الضمير المنصوب عليه في قوله:يغشاه. ومما اجتمع فيه الالتفات والاطراح قوله تعالى:

{ وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ }

المعنىمن أهل قرية فقال: فجاءها، فأطرح المحذوف وقال: أو هم، فالتفت إلى المحذوف. والجملة من قوله: يجعلون لا موضع لهامن الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون، وقيل: الجملة لها موضعمن الإعراب وهو الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل: جاعلين، وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصبعلى الحال من الضمير الذي هو الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف ثابت الألف واللام عنه التقدير منصواعقه. وأراد بالأصابع بعضها، لأن الأصبع كلها لا تجعل في الأذن، إنما تجعل في الأنملة، لكن هذا من الاتساع،وهو إطلاق كل على بعض، ولأن هؤلاء لفرط ما يهولهم من إزعاج الصواعق كأنهم لا يكتفون بالأنملة، بل لو أمكنهمالسد بالأصبع كلها لفعلوا، وعدل عن الإسم الخاص لما يوضع في الأذن إلى الاسم العام، وهو الأصبع، لما في تركلفظ السبابة من حسن أدب القرآن، وكون الكنايات فيه تكون بأحسن لفظ، لذلك ما عدل عن لفظ السبابة إلى المسبحةوالمهللة وغيرها من الألفاظ المستحسنة، ولم تأت بلفظ المسبحة ونحوها لأنها ألفاظ مستحدثة، لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنماأحدثت بعد. وقرأ الحسن: من الصواقع، وقد تقدم أنها لغة تميم، وأخبرنا أنها ليست من المقلوب، والجعل هنا بمعنىالإلقاء والوضع كأنه قال: يضعون أصابعهم، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول منأجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً، هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله:من الصواعق هو في المعنى مفعول من أجله، ولو كان معطوفاً لجاز، كقول الله تعالى:

{ ٱبْتَغَاء مَرْضَـٰتِ ٱللَّهِ }

وتثبيتاًمن أنفسهم، وقول الراجز:

يركب كل عاقر جمهور مخافة وزعل المحبور والهـول مـن تهـول الهبـور

وقالوا أيضاً: يجوز أن يكون مصدراً، أي يحذرون حذر الموت، وهو مضاف للمفعول. وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبيليلى: حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا وانتصابه على أنه مفعول له. الإحاطة هنا: كناية عن كونه تعالى لايفوتونه، كما لا يفوت المحاط المحيط به، فقيل:العلم وقيل: بالقدرة، وقيل: بالإهلاك. وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتيناللتين هما: يجعلون أصابعهم، { ويكاد ٱلْبَرْقَ } ، وهما من قصة واحدة. وقد تقدم لنا أن هذا التمثيل من التمثيلات المركبة،وهو الذي تشبه فيه إحدى الجملتين بالأخرى في أمر من الأمور، وإن لم يكن آحاد إحدى الجملتين شبيهة بآحاد الجملةالأخرى، فيكون المقصود تشبيه حيرة المنافقين في الدين والدنيا بحيرة من انطفأت نارة بعد إيقادها، وبحيرة من أخذته السماء فيالليلة المظلمة مع رعد وبرق. وهذا الذي سبق أنه المختار. وقالوا: أيضاً: يكون من التشبيه المفرق، وهو أن يكون المثلمركباً من أمور، والممثل يكون مركباً أيضاً، وكل واحد من المثل مشبه لكل واحد من الممثل. وقد تقدم قولانمن جعل هذا المثل من التمثيل المفرق. والثالث: أن الصيب مثل للإسلام والظلمات، مثل لما في قلوبهم من النفاق والرعدوالبرق، مثلان لما يخوفون به. والرابع: البرق مثل للإسلام والظلمات، مثل للفتنة والبلاء. والخامس: الصيب: الغيث الذي فيه الحياة مثلللإسلام والظلمات، مثل لإسلام المنافقين وما فيه من إبطان الكفر، والرعد مثل لما في الإسلام من حقن الدماء والاختلاط بالمسلمينفي المناكحة والموازنة، والبرق وما فيه من الصواعق مثل لما في الإسلام من الزجر بالعقاب في العاجل والآجل، ويروى معنىهذا عن الحسن. والسادس: أن الصيب والظلمات والرعد والبرق والصواعق كانت حقيقة أصابت بعض اليهود، فضرب الله مثلاً بقصتهم لبقيتهم،وروي في ذلك حديث عن ابن مسعود، وابن عباس. السابع: أنه مثل ضربه الله للخير والشر الذي أصاب المنافقين، فكأنهمكانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم الغلمان، أو أصابوا غنيمة أو فتحاً قالوا: دين محمد صدق، فاستقاموا عليه، وإذا هلكت أموالهموأولادهم وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدوا كفاراً. الثامن: أنه مثل الدنيا وما فيها من الشدة والرخاءوالنعمة والبلاء بالصيب الذي يجمع نفعاً بإحيائه الأرض وإنباته النبات وإحياء كل دابة والانتفاع به للتطهير وغيره من المنافع، وضراًبما يحصل به من الإغراق والإشراق، وما تقدمه من الظلمات والصواعق بالإرعاد والإبراق، وأن المنافق يدفع آجلاً بطلب عاجل النفع،فيبيع آخرته وما أعد الله له فيها من النعيم بالدنيا التي صفوها كدر ومآله بعد إلى سفر. التاسع: أنه مثلللقيامة لما يخافونه من وعيد الآخرة لشكهم في دينهم وما فيه من البرق، بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم،ومثل ما فيه من الصواعق بما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. العاشر: ضرب الصيب مثل لما أظهرالمنافقون من الإيمان والظلمات بضلالهم وكفرهم الذي أبطنوه، وما فيه من البرق بما علاهم من خير الإسلام وعلتهم من بركته،واهتدائهم به إلى منافعهم الدنيوية، وأمنهم على أنفسهم وأموالهم وما فيه من الصواعق، بما اقتضاه نفاقهم وما هم صائرون إليهمن الهلاك الدنيوي والأخروي. وقد ذكروا أيضاً أقوالاً كلها ترجع إلى التمثيل التركيبي: الأول: شبه حال المنافقين بالذين اجتمعتلهم ظلمة السحاب مع هذه الأمور، فكان ذلك أشد لحيرتهم، إذ لا يرون طريقاً، ولا من أضاء له البرق ثمذهب كانت الظلمة عنده أشد منها لو لم يكن فيها برق. الثاني: أن المطر، وإن كان نافعاً إلا أنه لماظهر في هذه الصورة صار النفع به زائلاً، كذلك إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن، وأما مع عدم الموافقفهو ضرر. الثالث: أنه مثل حال المنافقين في ظنهم أن ما أظهروه نافعهم وليس بنافعهم بمن نزلت به هذه الأمورمع الصواعق، فإنه يظن أن المخلص له منها جعل أصابعه في أذانه وهو لا ينجيه ذلك مما يريد الله بهمن موت أو غيره. الرابع: أنه مثل لتأخر المنافق عن الجهاد فراراً من الموت بمن أراد دفع هذه الأمور بجعلأصابعهم في آذانهم. الخامس: أنه مثل لعدم خلاص المنافق من عذاب الله بالجاعلين أصابعهم في آذانهم، فإنهم وإن تخلصوا منالموت في تلك الساعة، فإن الموت من ورائهم.

يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ[عدل]

{ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْوَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ }. يكاد: مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل، نحوخاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان: فعل كما ذكرناه، وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطبأو نون إناث ضموا الكاف فقالوا: كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ماذكر قول الشاعر:

وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي وكيد خراش عند ذلك ييتم

يريد، وكادت، وكاد،وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا: كاد، وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الإسم وتنصبالخبر، إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولها باب معقود في النحو، وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبوإسحاق البهاري في كتابه (شرح جمل الزجاجي). وقال بعض المفسرين: يكاد فعل ينفي المعنى مع إيجابه ويوجبه مع النفي، وقدأنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره، والصحيح عند أصحابناأنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. الخطف: أخذ الشيء بسرعة. كل:للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل: هو تنوين الصرف،وإذا كان المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش،والفارسي، وربما انتصب حالاً، والأصل فيها أن تتبع توكيداً كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً، وليس ذلكبمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه. وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تليالعوامل اللفظية، وإذا ابتدىء بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائدأو معنى لا لفظاً، فالأصل، وقد يحسن الإفراد وأحكاك كل كثيرة. وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بالتذكرة،وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيراً. المشي: الحركة المعروفة. لو: عبارة سيبويه، إنها حرف لماكان سيقع لوقوع غيره، وهو أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع لاطراد تفسير سيبويه، رحمه الله، في كلمكان جاءت فيه لو، وانخرام تفسيرهم في نحو: لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً، إذ على تفسير الإمام يكون المعنىثبوت الحيوانية على تقدير ثبوت الإنسانية، إذ الأخص مستلزم الأعم، وعلى تفسيرهم ينخرم ذلك، إذ يكون المعنى ممتنع الحيوانية لأجلامتناع الإنسانية، وليس بصحيح، إذ لا يلزم من انتفاء الإنسانية انتفاء الحيوانية، إذ توجد الحيوانية ولا إنسانية. وتكون لو أيضاًشرطاً في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم بها خلافاً لقوم، قال الشاعر:

لا يلفك الراجوك إلا مظهرا خلق الكرام ولو تكون عديماً

وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على ذلك عند قوله تعالى:

{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فنتبرأ مِنْهُمْ }

، إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً لزاعم ذلك. شاء: بمعنى أراد، وحذف مفعولهاجائز لفهم المعنى، وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري: ولقد تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد،يعني حذف مفعوليهما، قال: لا يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته

وقوله تعالى:

{ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـٰهُ }

، و

{ لَوْ رَادَّ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ }

، انتهىكلامه. قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً، كان الأحسن أن يذكر نحو: لو شئت أن ألقى الخليفة كليوم لقيته، وسر ذكره أن السامع منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن منكراً فالحذفنحو: لو شئت قمت. وفي التنزيل:

{ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا }

، انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري. وليس ذلك عنديعلى ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيتمن حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه، فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهماأكثر. فأحدهما الحذف ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأيالإسناد، وهو الخبر في نحو: لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير جنس المثبت فلأن يحذف المفعولالذي هو فضلة لدلالة الجواب عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى. والثاني: أن يذكر مفعول المشيئة فيحتاج أنيكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـٰهُ }، وقول الشاعر:

فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته

وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف، نحو قوله تعالى: {لِمَن شَاءمِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }. الشيء: ما صح أن يعلم من وجه ويخبر عنه،قال سيبويه، رحمه الله، وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه منقبل أن يعلم أذكر هو أو أنثى؟ والشيء مذكر، وهو عندنا مرادف للموجود، وفي إطلاقه على المعدوم بطريق الحقيقة خلاف،ومن أطلق ذلك عليه فهو أنكر النكرات، إذ يطلق على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمستحيل. القدرة: القوة على الشيء والاستطاعةله، والفعل قدر ومصادره كثيرة: قدر، قدرة، وبتثليث القاف، ومقدرة، وبتثليث الدال: وقدر، أو قدر، أو قدر، أو قدار، أوقدار، أو قدراناً، ومقدراً، ومقدراً. الجملة من قوله: {يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ } لا موضع لها من الإعراب إذهي مستأنفة جواب قائل قال: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: {يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ }، ويحتمل أن تكون فيموضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم، والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة فيقوله: {فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }، فصار نظير: لقيت رجلاً فضربت الرجل، وقوله تعالى:

{ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ }

. وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيــــى بن زيد: يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد: وأظنهغلطاً واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة. وقال الزمخشري: الفتح، يعني في المضارع أفصح،انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب يقول: خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر. قال ابن عطية،ونسب المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي، وابن مسعود: يختطف. وقرأ أُبي: يتخطف. وقرأ الحسنأيضاً: يخطف، بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضاً، والجحدري، وابن أبي إسحاق: يخطف، بفتح الياء والخاء وتشديد الطاءالمكسورة، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضاً، وأبو رجاء، وعاصم الجحدري، وقتادة: يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وقرأ أيضاًالحسن، والأعمش: يخطف، بكسر الثلاثة وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي: يخطف، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة منخطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ بعض أهل المدينة: يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء المكسورة، والتحقيق أنهاختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير حد التقائهما. فهذا الحرف قرىء عشر قراءات:السبعة يخطف، والشواذ: يخطف يختطف يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذاً، كما حذفها مع التاء قياساً. يخطفيخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام فلزم تحريك ما قبلها، فإمابحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر. وكسر الياء اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألةإدغام اختصم به، وهي مسألة تصريفية يختلف فيها اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم التصريف. ومن فسرالبرق بالزجر والوعيد قال: يكاد ذلك يصيبهم. ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال: المعنى يكاد ذلك يبهرهم. وكل:منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت: ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى مدّة صحبتكلي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي، وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذرلله شارق، فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعلالواقع صلة لما، فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض العرب. والتكرار الذي يذكره أهل أصولالفقه والفقهاء في كلما، إنما ذلك فيها من العموم، لا إن لفظ كلما وضع للتكرار، كما يدل عليه كلامهم، وإنماجاءت كل توكيداً للعموم المستفاد من ما الظرفية، فإذا قلت: كلما جئتني أكرمتك، فالمعنى أكرمك في كل فرد فرد منجيئاتك إليّ. وما أضاء: في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على حذف مضاف أيضاً، معناه: كلّ وقتإضاءة، فقام المصدر مقام الظرف، كما قالوا: جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله: مشوا فيه، وأضاء عند المبرد هنامتعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق الطريق. فيحتمل على هذا أن يكون الضمير في فيه عائداً على المفعول المحذوف، ويحتملأن يعود على البرق، أي مشوا في نوره ومطرح لمعانه، ويتعين عوده على البرق فيمن جعل أضاء لازماً، أي: كلمالمع البرق مشوا في نوره، ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة: كلما ضاء ثلاثياً، وقد تقدّم أنها لغة. وفي مصحفأُبيّ: مرّوا فيه، وفي مصحف ابن مسعود: مضوا فيه. وهذه الجملة استئناف ثالث كأنه قيل: فأضاء لهم في حالتي وميضالبرق وخفائه، قيل: كلما أضاء لهم إلى آخره. وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل أظلمأن لا يتعَدّى، يقال: أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لمالم يسم فاعله. قال الزمخشري: أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر حبيب بن أوس الطائي:

هما أظلما حاليّ ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة، فهومن علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون بذلكلوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس يقول أبي تمام:هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري، وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدّىبحرف جر. ألا ترى كيف عدى أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون الذي قام مقام الفاعل أو حذف هوالجار والمجرور، فيكون في موضع رفع، وكان الأصل: وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار والمجرور مقامه، نحو: غضبزيد علي عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني الفعل للمفعول فتقول: غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك: وإذا أظلمالله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقدعلى أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب:

من كان مرعى عزمه وهمومه روض الأماني لم يزل مهزولاً

وكيفيستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من اللحن في شعره؟ ومعنى قاموا: ثبتوا ووقفوا، وصدرتالجملة الأولى بكلما، والثانية بإذا. قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وتأتيه، فكلماصادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقف والتحبس، انتهى كلامه. ولا فرق في هذه الآية عندي بين كلما وإذا منجهة المعنى، لأنه متى فهم التكرار من: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } لزم منه أيضاً التكرار في أنه إذاأظلم عليهم قاموا، لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام، فمتى وجد هذا فقد هذا، فيلزم من تكرار وجود هذاتكرار عدم هذا، على أن من النحويين من ذهب إلى أن إذاً تدل على التكرار ككلما، وأنشد:

إذا وجدت أوار الحب في كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد

قال: فهذا معناه معنى كلما. وفي تأويل هذه الآيةأقوال. قال ابن عباس والسدي: كلما أتاهم القرآن بما يحبونه تابعوه. وقال قتادة: إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامةنفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته. وقال مقاتل: البرق الإسلام، ومشيهم فيه إهتداؤهم، فإذا تركوا ذلك وقعوا في ضلالهم. وقيل: إضاءتهلهم: تركهم بلا ابتلاء، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة بإظهار ما يظهرونه، وقيل: كلما سمع المنافقون القرآن وحججه أنسوا ومشوامعه، فإذا نزل ما يعمون فيه أو يكلفونه قاموا، أي ثبتوا على نفاقهم. وقيل: كلما توالت عليهم النعم قالوا: دينحق، وإذا نزلت بهم مصيبة سخطوا وثبتوا على نفاقهم. وقيل: كلما خفي نفاقهم مشوا، فإذا افتضحوا قاموا، وقيل: كلما أضاءلهم الحق اتبعوه، فإذا أظلم عليهم بالهوى تركوه. وقيل: ينتفعون بإظهار الإيمان، فإذا وردت محنة أو شدة على المسلمين تحيروا،كما قام أولئك في الظلمات متحيرين. قال الزمخشري: وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما همفيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون،، إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم، انتهزواتلك الخفقة فرصة فحطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة، انتهى كلامه. ومفعول شاءهنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام فيها في: {ذَهَبَٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }، وتوحيد السمع تقدم الكلام عليه عند الكلام على قوله: {خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }. وقرأابن أبي عبلة: لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء زائدة التقدير لأذهب أسماعهم، كما قال بعضهم: مسحت برأسه، يريد رأسه، وخشنت بصدره،يريد صدره، وليس من مواضع قياس زيادة الباء، وجمعه الإسماع مطابق لجمع الإبصار. ومعنى الجملة: أن ذهاب الله بسمعهم وأبصارهمكان يقع على تقدير مشيئة الله ذلك. وقيل: المعنى لإهلاكهم، لأن في هلاكهم ذهاب سمعهم وأبصارهم. وقيل: وعيد بإذهاب الأسماعوالأبصار من أجسادهم حتى لا يتوصلوا بهما إلى مالهم، كما لم يتوصلوا بهما إلى ما عليهم. وقيل: لأظهر عليهم بنفاقهمفذهب منهم عز الإسلام. وقيل: لأذهب أسماعهم فلا يسمعون الصواعق فيحذرون، ولأذهب أبصارهم فلا يرون الضوء ليمشوا. وقيل، عن ابنعباس: لذهب بسمعهم وأبصارهم لما تركوا من الحق بعد معرفته. وقيل: لعجل لهم العقوبة في الدنيا، فذهب بسمعهم وأبصارهم، فلمينتفعوا بها في الدنيا، لأنهم لم يستعملوها في الحق فينتفعوا بها في أخراهم. وقيل: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم وفيضوء البرق فأعماهم. وقيل: لأوقع بهم ما يتخوفونه من الزجر والوعيد. وقيل: لفضحهم عند المؤمنين وسلطهم عليهم. وقال الزمخشري: لذهبسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق. وظاهر الكلام أن هذا كله مما يتعلق بذوي صيب، فصرف ظاهره إلى أنهمما يتعلق بالمنافقين غير ظاهر، وإنما هذا مبالغة في تحير هؤلاء السفر وشدة ما أصابهم من الصيب الذي اشتمل علىظلمات ورعد وبرق، بحيث تكاد الصواعق تصمهم والبرق يعميهم. ثم ذكر أنه لو سبقت المشيئة بذهاب سمعهم وأبصارهم لذهبت، وكمااخترنا في قوله {ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } إلى آخره أنه مبالغة في حال المستوقد، كذلك اخترنا هنا أن هذا مبالغةفي حالة السفر، وشدة المبالغة في حال المشبه بهما يقتضي شدة المبالغة في حال المشبه، فهو وإن لم تكن هذهالجزئيات التي للمشبه به ثابتة للمشبه بنظائرها ثابتة له، ولا سيما إذا كان التمثيل من قبيل التمثيلات المفردة. وأما علىما اخترناه من أنه من التمثيلات المركبة، فتكون المبالغة في التشبيه بما آل إليه حال المشبه به، وقد تقدم الكلامعلى ذلك قبل، وخص السمع والأبصار في قوله: {لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ } لتقدم ذكرهما في قوله: {أَوْ كَصَيّبٍ }، وفيقوله: {يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ }. وقال بعضهم: تقدم ذكر الرعد والصواعق، ومدركهما السمع، والظلمات والبرق، ومدركهما: البصر، ثم قال: لو شاءأذهب ذلك من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم، أعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالإخبار عنه تعالى بالقدرة لأن بهماتمام الأفعال، أعني القدرة والإرادة وأتى بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه تعالى. وعلى كل شيء: متعلق بقوله: قدير،وفي لفظ قدير ما يشعر بتخصيص العموم، إذ القدرة لا تتعلق بالمستحيلات. وقد تقدم لنا بعض كلام على تناسقالآي التي تقدم الكلام عليها، ونحن نلخص ذلك هنا، فنقول: افتتح تعالى هذه السورة بوصف كلامه المبين، ثم بين أنههدى لمؤمني هذه الأمة ومدحهم، ثم مدح من ساحلهم في الإيمان وتلاهم من مؤمني أهل الكتاب، وذكر ما هم عليهمن الهدى في الحال ومن الظفر في المآل، ثم تلاهم بذكر أضدادهم المختوم على قلوبهم وأسماعهم المغطي أبصارهم الميؤوس منإيمانهم، وذكر ما أعد لهم من العذاب العظيم، ثم أتبع هؤلاء بأحوال المنافقين المخادعين المستهزئين وأخر ذكرهم وإن كانوا أسوأأحوالاً من المشركين، لأنهم اتصفوا في الظاهر بصفات المؤمنين وفي الباطن بصفات الكافرين، فقدم الله ذكر المؤمنين، وثنّى بذكر أهلالشقاء الكافرين، وثلّث بذكر المنافقين الملحدين، وأمعن في ذكر مخازيهم فأنزل فيهم ثلاث عشرة آية، كل ذلك تقبيح لأحوالهم وتنبيهعلى مخازي أعمالهم، ثم لم يكتف بذكر ذلك حتى أبرز أحوالهم في صورة الأنفال، فكان ذلك أدعى للتنفير عما اجترحوهمن قبيح الأفعال. فانظر إلى حسن هذا السباق الذي نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة معاني البيان.

يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[عدل]

{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِىجَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ }.يا: حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناها: أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلابها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادي بها القريب والبعيد والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها المبتدأ والأمروالتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها منادي. أي: استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف واللام، وموصولة، خلافاًلأحمد بن يحيـى، إذ أنكر مجيئها موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر استعمالها مع ضمير رفعمنفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء وبينالمرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد، يقولون: يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة. الخلق: الاختراع بلامثال، وأصله التقدير، خلقت الأديم قدرته، قال زهير:

ولأنت تفرى ما خلقت وبعــض القوم يخلق ثم لا يفرى

قال قطرب: الخلق هو الإيجاد على تقدير وترتيب، والخلق والخليقة تنطلق على المخلوق، ومعنى الخلق والإيجاد، والإحداث، والإبداع،والإختراع، والإنشاء، متقارب. قيل: ظرف زمان، ولا يعمل فيها عامل فيخرجها عن الظرفية إلا من، وأصلها وصف ناب عن موصوفهلزوماً، فإذا قلت: قمت قبل زيد، فالتقدير قمت زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله وناب عنه قبل زيد.لعل: حرف ترج في المحبوبات، وتوقع في المحذورات، ولا تستعمل إلا في الممكن، لا يقال: لعل الشباب يعود، ولا تكونبمعنى كي، خلافاً لقطرب وابن كيسان، ولا استفهاماًخلافاً للكوفيين، وفيها لغات لم يأت منها في القرآن إلا الفصحى، ولم يحفظبعدها نصب الاسمين، وحكى الأخفش أن من العرب من يجزم بلعل، وزعم أبو زيد أن ذلك لغة بني عقيل. الفراش:الوطاء الذي يقعد عليه وينام ويتقلب عليه. البناء: مصدر، وقد يراد به المنقول من بيت أو قبة أو خباء أوطراف وأبنية العرب أخبيتهم. الماء: معروف، وقال بعضهم: هو جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة من واووهمزته بدل من هاء يدل عليه: مويه، ومياه، وأمواه. الثمرة: ما تخرجه الشجرة من مطعوم أو مشموم. الند: المقاوم المضاهىمثلاً كان أو ضداً أو خلافاً. وقال أبو عبيدة والمفضل: الند: الضد، قال ابن عطية، وهذا التخصيص تمثيل لا حصر.وقال غيره: الند: الضد المبغض المناوىء من الندود، وقال المهدوي: الند: الكفؤ والمثل، هذا مذهب أهل اللغة سوى أبي عبيدة.فإنه قال: الضد. قال الزمخشري: الند: المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف للمناوىء، قال جرير:

أتيم تجعلون إلي ندا وما تيم لذي حسب نديد

وناددت الرجل: خالفته ونافرته، من ند ندوداً إذا نفر. ومعنىقولهم: ليس لله ند ولا ضد، نفى ما يسد مسده ونفي ما ينافيه. يا أيها الناس: خطاب لجميع منيعقل، قاله ابن عباس، أو اليهود خاصة، قاله الحسن ومجاهد، أو لهم وللمنافقين، قاله مقاتل، أو لكفار مشركي العرب وغيرهم،قاله السّدي، والظاهر قول ابن عباس لأن دعوى الخصوص تحتاج إلى دليل. ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنهتعالى لما ذكر المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤول إليه حال كل منهم، انتقل من الإخبار عنهمإلى خطاب النداء، وهو التفات شبيه بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، بعد قوله: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، وهو من أنواعالبلاغة كما تقدم، إذ فيه هز للسامع وتحريك له، إذ هو خروج من صنف إلى صنف، وليس هذا انتقالاً منالخطاب الخاص إلى الخطاب العام، كما زعم بعض المفسرين، إذ لم يتقدم خطاب خاص إلا إن كان ذلك تجوزاً فيالخطاب بأن يعني به الكلام، فكأنه قال: انتقل من الكلام الخاص إلى الكلام العام، قال هذا المفسرون، وهذا من أساليبالفصاحة، فإنهم يخصون ثم يعمون. ولهذا لما نزل:

{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاْقْرَبِينَ }

دعاهم رسول الله فخصوعم، فقال: يا عباس عم محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً . وقال الشاعر:

يا بني اندبوا ويا أهل بيتي وقبيلي عليّ عاماً فعاما

انتهى كلامه. وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهمقالوا: كل شيء نزل فيه: {يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } فهو مكي، و{يا أيها ٱلَّذِينَ آمنواْ} فهو مدني. أما في {ياأيها ٱلَّذِينَ آمنواْ } فصحيح، وأما في {يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاءفيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافاً للكسائي والرياشي،وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادي توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضعنصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب،فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيافيالنداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل، فتقديره: يا من هو الرجل. والكلام علىهذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو. اعبدوا ربكم: ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدمتفسيرها في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال: المؤمنون عابدون، فيكف يصح الأمر بماهم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنهالسيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكاً أو مصلحاً أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب، إنكان عاماً، كان قوله: {ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ } صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهممشترك بين الله تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره،

{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }

،أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامةالحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامعلمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا: المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده،وأدغم أبو عمر وخلقكم، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا الله تعالى.وقد أجمع المسلمون على أن لا خالق إلا الله تعالى، وإذا كان بمعنى التقدير، فمقتضى اللغة أنه قد يوصفبه غير الله تعالى، كبيت زهير. وقال تعالى:

{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ }

{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطّينِ }

. وقال أبوعبد الله البصري، أستاذ القاضي عبد الجبار: إطلاق اسم الخالق على الله تعالى محال، لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكروالظن والحسبان، وذلك في حق الله تعالى محال. وكأنّ أبا عبد الله لم يعلم أن الخلق في اللغة يطلق علىالإنشاء، وكلام البصري مصادم لقوله تعالى:

{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَـٰلِقُ البارىء }

، إذ زعم أنه لا يطلق اسم الخالق على الله،وفي اللغة والقرآن والإجماع ما يرد عليه. وعطف قوله: {خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } على الضمير المنصوب في خلقكم، والمعطوفمتقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر منعلمه بأحوال غيره، إذ أقرب الأشياء إليه نفسه، ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة، فتنبيههم أولاً على أحوال أنفسهم آكد وأهم، وبدأأولاً بصفة الخلق، إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها، وهم المخاطبون، والناس تبع لهم، إذ نزل القرآن بلسانهم. وقرأابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي: {وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } بفتح ميم من،قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على أشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جريرفي قوله:

يـا تيـم تيـم عـدي لا أبـا لكـم

تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة بينالمضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. وهذا التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعضالنحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحوقوله:

من النفر اللائي الذين أذاهم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا

فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به للتأكيد. قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيتعلى أن الصلة للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللاتيهم الذين أذا هم، وجاز حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن يكون قبلكم صلة من،ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم. وعلى قراءة الجمهورتكون صلة الذين قوله: {مِن قَبْلِكُمْ }، وفي ذلك إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس فيالإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل، وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصفصح وقوعه خبراً نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل زمانكم. وهذا نظير قولهتعالى: {كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } وإنما ذكر {وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }، وإن كان خلقهم لا يقتضي العبادة علينا لأنهم كالأصوللهم، فخلق أصولهم يجري مجرى الأنعام على فروعهم، فذكرهم عظيم إنعامه تعالى عليهم وعلى أصولهم بالإيجاد. وليست لعل هنابمعنى كي لأنه قول مرغوب عنه ولكنها للترجي والأطماع، وهو بالنسبة إلى المخاطبين، لأن الترجي لا يقع من الله تعالى إذ { هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } ، وهي متعلقة بقوله: {ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }، فكأنه قال: إذا عبدتم ربكم رجوتم التقوى، وهيالتي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة. قال ابن عطية: ويتجه تعلقها بخلقكم لأن كل مولود يوجد على الفطرةفهو بحيث يرجى أن يكون متقياً. ولم يذكر الزمخشري غير تعلقها بخلقكم، قال: لعل واقعة في الآية موقع المجاز لاالحقيقة، لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف، وركب فيهم العقول والشهوات، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم، وهداهم النجدين، ووضعفي أيديهم زمام الاختيار، وأراد منهم الخير والتقوى، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم، وهم مختارون بينالطاعة، والعصيان، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه الاعتزالي منأن العبد مختار، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين. والذي يظهرترجيحه أن يكون: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } متعلقاً بقوله: {ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }. فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلقبها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بلجاء في ضمن المقصود بالعبادة. وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها. وإذاكان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره، بخلاف قوله: اعبدوا،فإنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين. وإذا تعلق بقوله: اعبدوا، كان ذلك موافقاً، إذ قوله: اعبدوا خطاب، ولعلكمتتقون خطاب. ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال: فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون، فكذلك خلق الذين منقبهلم، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم، قلت: لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى علىإرادتهم جميعاً، انتهى كلامه. وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله: اعبدوا، فيسقط هذا السؤال. وقال المهدوي: لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم،لأن من ذرأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي. والمعنى عند سيبويه: افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا،انتهى كلامه. ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقاً بالخلق قال: فإن قلت: فهلا قيل: تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكانتتقون ليتجاوب طرفا النظم؟ قلت: ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم، وإنما التقوى قصارى أمر العابدومنتهى جهده، فإذا قال: {ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ } للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاماًلها وأثبت لها في النفوس، انتهى كلامه. وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى، وقد تقدم ذلك.وأما قوله: ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى: اعبدوا ربكم لعلكمتتقون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى، إذ هو مثل: اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لعلكتقصده. ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى، والقرآن متنزه عن ذلك. والذي جاء به القرآن هوفي غاية الفصاحة، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم، لأن التقوى مصدر اتقى، واتقىمعناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة. فعلى هذا، العبادة ليست نفس التقوى، لأن الاتقاءهو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز، فكأنه قال: اعبدوهفتحترزوا عن عقابه، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز، ومفعول يتقون محذوف. قال ابن عباس: الشرك، وقال الضحاك:النار، أو معناه تطيعون، قاله مجاهد: ومن قال المعنى الذي خلقكم راجين للتقوى. قال بعض المفسرين: فيه بعد من حيثإنه لو خلقهم راجين للتقوى كانوا مطيعين مجبولين عليها، والواقع خلاف ذلك، انتهى كلامه. ويعني أنهم لو خلقوا وهم راجونللتقوى لكان ذلك مركوزاً في جبلتهم، فكان لا يقع منهم غير التقوى وهم ليسوا كذلك، بل المعاصي هي الواقعة كثيراً،وهذا ليس كما ذكر، وقد يخلق الإنسان راجياً لشيء فلا يقع ما يرجوه، لأن الإنسان في الحقيقة ليس له الخيارفيما يفعله أو يتركه، بل نجد الإنسان يعتقد رجحان الترك في شيء ثم هو يفعله، ولقد صدق الشاعر في قوله:

علمي بقبح المعاصي حين أركبها يقضي بأني محمول على القدر

فلا يلزم من رجاءالإنسان لشيء وقوع ما يرتجي، وإنما امتنع ذلك التقدير، أعني تقدير الحال، من حيث إن لعل للإ نشاء، فهي ومادخلت عليه ليست جملة خبرية فيصح وقوعها حالاً. قال الطبري: هذه الآية، يريد: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ } منأدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق بمعونة الله غير جائز، وذلك أن الله عزوجل أمر بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون. والموصولالثاني في قوله: {ٱلَّذِى جَعَلَ} يجوز رفعه ونصبه، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، فهو رفع على القطع، إذ هوصفة مدح، قالوا: أو على أنه مبتدأ خبره قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً }، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أنصلة الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا ينابسب دخول الفاء في الخبر. الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا علىمذهب أبي الحسن، لأن من الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } جملة خبرية، والرابطلفظ الله من لله كأنه قيل: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً }، وهذا من تكرار المبتدأ بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلكإلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول: زيد قام أبو عمرو، وإذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه علىمنع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح، كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفاً لماكان له وصفاً الذي خلقكم، وهو ربكم، قالوا: ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله: {ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ }، فيكون نعتاًللنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت. والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها راجعة إلى منعوت واحد،إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت، فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول، نحو قولك: يا أيها الفارسذو الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجازأيضاً نصبه بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله الذي دون واو لتكون هذه الصفة وماقبلها راجعين إلى موصوف واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر، لأن العطف أصله المغايرة. وجعل: بمعنىصيَّر، لذلك نصبت الأرض. وفراشاً، ولكم متعلق بجعل، وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال، على أن يكون جعلبمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد، وغاير اللفظ كما غاير في قوله:{ خُلِقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ * وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } ، ولأنه قصد إلى ذكر جملتين، فغاير بين اللفظين لأن التكرار ليس في الفصاحة، كاختلاف اللفظ والمدلول واحد. وأدغم أبو عمرو لامجعل في لام لكم، والألف واللام في الأرض يجوز أن تكون للجنس الخاص، فيكون المراد أرضاً مخصوصة، وهي كل ماتمهد واستوى من الأرض وصلح أن يكون فراشاً. ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكلحيوان. فالوهد مستقر بني آدم وغيرهم من الحيوانات، والجبال والحزون مستقر لبعض الآدميين بيوتاً أو حصوناً ومنازل، أو لبعض الحيواناتوحشاً وطيراً يفترشون منها أوكاراً، ويكون الامتنان على هذا مشتملاً على كل من جعل الأرض له قراراً. وغلب خطاب منيعقل على من لا يعقل، أو يكون خطاب الامتنان وقع على من يعقل، لأن ما عداهم من الحيوانات معد لمنافعهمومصالحهم، فخلقها من جملة المنة على من يعقل. وقرأ يزيد الشامي: بساطاً، وطلحة: مهاداً. والفراش، والمهاد، والبساط، والقرار، والوطاء نظائر.وقد استدل بعض المنجمين بقوله: {جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً } على أن الأرض مبسوطة لا كروية، وبأنها لو كانتكروية ما استقر ماء البحار فيها. أما استدلاله بالآية فلا حجة له في ذلك، لأن الآية لا تدل على أنالأرض مسطحة ولا كروية، إنما دلت على أن الناس يفترشونها كما يتقلبون بالمفارش، سواء كانت على شكل السطح أو علىشكل الكرة، وأمكن الافتراش فيها لتباعد أقطارها واتساع جرمها. قال الزمخشري: وإذا كان يعني الافتراش سهلاً في الجبل، وهو وتدمن أوتاد الأرض، فهو أسهل في الأرض ذات الطول والعرض. وأما استدلاله باستقرار ماء البحار فيها فليس بصحيح، قالوا: لأنهيجوز أن تكون كروية ويكون في جزء منها منسطح يصلح للاستقرار، وماء البحر متماسك بأمر الله تعالى لا بمقتضى الهيئة،انتهى قولهم. ويجوز أن يكون بعض الشكل الكروي مقراً للماء إذا كان الشكل ثابتاً غير دائر، أما إذا كان دائراًفيستحيل عادة قراره في مكان واحد من ذلك الشكل الكروي. وهذه مسألة يتكلم عليها في علم الهيئة. وقوله تعالى:{وَٱلسَّمَاء بِنَاء}: هو تشبيه بما يفهم كقوله تعالى:

{ وَٱلسَّمَاء بَنَيْنَـٰهَا بِأَيْدٍ }

، شبهت بالقبة المبنية على الأرض، ويقال لسقفالبيت بناء، والسماء للأرض كالسقف، روي هذا عن ابن عباس وجماعة. وقيل: سماها بناء، لأن سماء البيت يجوز أن يكونبناء غير بناء، كالخيام والمضارب والقباب، لكن البناء أبلغ في الإحكام وأتقن في الصنعة وأمنع لوصول الأذى إلى من تحته،فوصف السماء بالأبلغ والأتقن والأمنع، ونبه بذلك على إظهار قدرته وعظيم حكمته، إذ المعلوم أن كل بناء مرتفع لا يتهيأإلا بأساس مستقر على الأرض أو بعمد وأطناب مركوزة فيها، والسماء في غاية ما يكون من العظم، وهي سبع طباقبعضها فوق بعض، وعليها من أثقال الأفلاك وأجناس الأملاك وأجرام الكواكب التي لا يعبر عن عظمها ولا يحصي عددها، وهيمع ذلك بغير أساس يمسكها ولا عمد تقلها ولا أطناب تشدها، وهي لو كانت بعمد وأساس كانت من أعظم المخلوقاتوأحكم المبدعات، فكيف وهي عارية عن ذلك ممسكة بالقدرة الإلهية:

{ إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ *أَن تَزُولاَ }

. وقيل:سميت بناء لتماسكها كما يتماسك البناء بعضه ببعض. وأنزل من السماء: يجوز أن يراد به السحاب، ويجوز أن يرادبه السماء المعروفة. فعلى الأول الجامع بينهما هو القدر المشترك من السمو، ولا يجوز الإضمار لأنه غير الأول، وعلى الثانيفحسن الإظهار دون الإضمار هنا كون السماء الأولى في ضمن جملة، والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة تامة لولاعطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنهلو تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي منمياه السماء ونكر. ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو ما صدق عليه الاسم. فأخرجبه: والهاء في به عائدة إلى الماء، والباء معناها السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل سبب في خلقالولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنهتعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي. وللهتعالى في إنشاء الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في إنشائها دفعة واحدة من غيرانتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً للباري. من الثمرات: منللتبعيض، والألف واللام في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموعالتي يتفاوت بعضها موضع بعض لالتقائهما في الجمعية، نحو:

{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتٍ } ، و { ثَلَـٰثَةَ قُرُوء } ، فقامت الثمرات مقامالثمر أو الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة،فإن الألف واللام التي للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراقفيهما، ولذلك رد المحققون على من نقد على حسان قوله:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

بأن هذا جمع قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد غير صحيح لماذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من في الواجب،وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين والكوفيين إلا الأخفش. والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع الثمراتالتي أخرجها رزقاً لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا يمكن أن يكون رزقاً لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعضالثمار رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا، وهو الواقع. وناسب في الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيضوتنكير الرزق، إذ المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهمهو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج، ويكون على هذارزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق كالطحن والرعي، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر، وشروط المفعولله فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج، ويكون رزقاً مفعولاً بأخرج. وقرأ ابن السميفع: من الثمرة على التوحيد، يريدبه الجمع كقولهم: فلان أدركت ثمرة بستانه، يريدون ثماره. وقولهم: للقصيدة كلمة، وللقرية مدرة، لا يريدون بذلك الإفراد. ولكم: إنأريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام منوية لتعدّي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديباً له، أي تأديبه، وإنأريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام بمحذوف، أي كائناً لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج، أيفأخرج لكم به من الثمرات رزقاً. وانتهى عند قوله: رزقاً لكم ذكر خمسة أنواع من الدلائل: اثنين من الأنفس خلقهموخلق من قبلهم، وثلاثة من غير الأنفس كون الأرض فراشاً وكون السماء بناءً، والحاصل من مجموعهما تقدم خلق الإنسان لأنهأقرب إلى معرفته، وثنّى بخلق الآباء، وثلث بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدّم السماء على نزول المطر وإخراج الثمرات،لأن هذا كالأمر المتولد بين السماء والأرض والأثر متأخر عن المؤثر. وقيل: قدم المكلفين لأن خلقهم أحياء قادرين أصل لجميعالنعم. وأما خلق السماء والأرض والماء والثمر، فإنما ينتفع به بشرط حصول الخلق والحياة والقدرة والشهوة والعقل. وقد اختلف أيهماأفضل، ومن قال السماء أفضل قال: لأنها متعبد الملائكة وما فيها من بقعة عصى الله فيه، ولأن آدم لما عصاهقال: لا تسكن جواري، ولتقديم السماء على الأرض في أكثر الآيات، ولأن فيها العرش والكرسي واللوح المحفوظ والقلم، وأنها قبلةالدعاء. ومن قال الأرض أفضل قال: لأن الله وصف منها بقاعاً بالبركة، ولأن الأنبياء مخلوقون منها، ولأنها مسجد وطهور.{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } ظاهره أنه نهى عن اتخاذ الأنداد، وسموا أنداداً على جهة المجاز من حيث أشركوهم معهتعالى في التسمية بالإلهية، والعبادة صورة لا حقيقة لأنهم لم يكونوا يعبدونهم لذواتهم بل للتقرب إلى الله تعالى، وكانوا يسمونالله إله الآلهة ورب الأرباب، ومن شابه شيئاً في وصف مّا قيل: هو مثله وشبهه ونده في ذلك الوصف دونبقية أوصافه، والنهي عن اتخاذ الأنداد بصورة الجمع هو على حسب الواقع لأنهم لم يتخذوا له تعالى نداً واحداً، وإنماجعلوا له أنداداً كثيرة، فجاء النهي على ما كانوا اتخذوه، ولذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل:

أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور

وقرأ زيد بن علي بن محمد بن السميفع:نداً على التوحيد، وهو مفرد في سياق النهي، فالمراد به العموم، إذ ليس المعنى: فلا تجعلوا لله نداً واحداً بلأنداداً، وهذا النهي متعلق في بالأمر قوله: {ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد.قال الزمخشري: متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطَّلِعَ في قوله:

{ لَّعَـلّى أَبْلُغُ ٱلاْسْبَـٰبَ * أَسْبَـٰبَ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ * فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ }

، في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهىكلامه. فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي، وهو لا يجوز على مذهب البصريين،إنما ذهب إلى جواز ذلك الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في جوابه فكذلك الترجي. فهذاالتخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز على مذهب البصريين، وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم، ألا ترى إلى تقديره أيخلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه؟ فلا تشبهوه بخلقه، وهو جار على ما مر من مذهبه الاعتزالي، ويجوز أن يكون متعلقاًبالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تجعلواله أنداداً. والظاهر في هذا القول هو ما قدمناه أولاً من تعلقه بقوله: {ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }:جملة حالية، وفيها من التحريك إلى ترك الأنداد وإفراد الله بالوحدانية ما لا يخفى، أي أنتم من ذوي العلم والتمييزبين الحقائق والإدراك للطائف الأشياء والاستخراج لغوامض الدلائل، في الرتبة التي لا تليق لمن تحلى بها أن يجعل لله نداًوهو خلقه. إذ ذاك فعل من كان أجهل العالم وأبعدهم عن الفطنة وأكثرهم تجويزاً للمستحيلات. ومفعول تعلمون متروك لأن المقصودإثبات أنهم من أهل العلم والمعرفة. والتمييز تخصيص العلم بشيء، قال معناه ابن قتيبة، لأنه فسر تعلمون بمعنى تعقلون، وقيل:هو محذوف اختصاراً تقديره: وأنتم تعلمون أنه خلق السموات وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات. ومعنى هذا مرويعن ابن عباس وقتادة ومقاتل، أو أنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابيكم التوراة والإنجيل. وروي ذلك أيضاً عن ابنعباس، أو أنه لا ند له، قاله مجاهد، أو أنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه،ذكره علي بن عبيد الله، أو وأنتم تعلمون أنها حجارة، قاله أبو محمد بن الخشاب، أو وأنتم تعلمون ما بينهوبينها من التفاوت، أو وأنتم تعلمون أنها لا تفعل مثل أفعاله كقوله:

{ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء }

؟ قالهما الزمخشري والمخاطب بقوله: فلا تجعلوا ظاهره أنه للناس المأمورين باعبدوا ربكم، وقد تقدمت أقاويل السلف في ذلك.قال ابن فورك: ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين، المعنى: فلا ترتدوا أيها المؤمنون وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم أنالعلم هو نفي الجهل بأن الله واحد. قال أبو محمد بن عطية، هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسانبنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذبطرف من جعل نداً، انتهى. وقول أبي محمد يعطي أن الله أغنى الإنسان، خطأ في التركيب، لأن أعطى لا تنوبأنّ ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب مناب مفعوليها، ولذلك ذكر في علم العربية. قال بعض المفسرين: اختصتعالى بهذه المخلوقات وهي: الخلقة البشرية، والبنيتان الأرضية والسماوية، لأنها محل الاعتبار ومسرح الإبصار ومواطن المنافع الدنيوية والأخروية، وبها يقومالدليل على وجود الصانع وقدرته وحكمته وحياته وإرادته، وغير ذلك من صفاته الذاتية والفعلية، وانفراده بخلقها وأحكامها، وقدم الخلقة البشرية،وإن كانت للعالم الأصغر، لما فيها من بدائع الصنعة ما لا يعبر عنه وصف لسان ولا يحيط بكنهه فكرجنان، وظهورحسن الصنعة في الأشياء اللطيفة الجرم أعظم منه في الأجرام العظام، ولأن اعتبار الإنسان بنفسه في تقلب أحواله أقرب إلىذهنه. قال تعالى:

{ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ، أو لأن العرب عادتها تقديم الأهم عندها والمعتنى به، قال: وهو تعالىبإصلاح حال البنية البشرية أكثر اهتماماً من غيرها من المخلوقات، لأنها أشرف مخلوقاته وأكرمها عليه. قال تعالى:

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } الآية، ولأنه تعالى خلق هذه الأشياء منافع لبني آدم وأعدها نعماً يمتن بها عليهم، وذكر المنعم عليه يتقدمعلى ذكر النعمة. ثم إنه تعالى لما عرفهم أنه خالقهم أخبرهم أنه جعل لهم مكاناً يستقرون عليه، إذ كانت حكمتهاقتضت ذلك، فيستقرون فيه جلوساً ونوماً وتصرفاً في معايشهم، وجعل منه سهلاً للقرار والزرع، ووعراً للاعتصام، وجبالاً لسكون الأرض منالاضطراب. ثم لما منّ عليهم بالمستقر أخبرهم بجعل ما يقيهم ويظلهم، وجعله كالخيمة المضروبة عليهم، وأشهدهم فيها من غرائب الحكمةبأن أمسكها فوقهم بلا عمد ولا طنب لتهتدي عقولهم، أنها ليست مما يدخل تحت مقدور البشر، ثم نبههم على النعمةالعظمى، وهي إنزال المطر الذي هو مادة الحياة وسبب اهتزاز الأرض بالنبات، وأجناس الثمرات. وقدم ذكر الأرض على السماء، وإنكانت أعظم في القدرة وأمكن في الحكمة، وأتم في النعمة وأكبر في المقدار، لأن السقف والبنيان، فيما يعهد، لا بدله من أساس وعمد مستقر على الأرض، فبدأ بذكرها، إذ على متنها يوضع الأساس وتستقر القواعد، إذ لا ينبغي ذكرالسقف أولاً قبل ذكر الأرض التي تستقر عليها قواعده، أو لأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، فإنه تعالى خلقالأرض ومهد رواسيها قبل خلق السماء. قال تعالى:

{ قُال أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } إلى آخر الآيات، أو لأن ذلك منباب الترقي بذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى. وقد تضمنت هاتان الآيتان من بدائع الصنعة، ودقائق الحكمة، وظهور البراهين، مااقتضى تعالى أنه المنفرد بالإيجاد، المتكفل للعباد، دون غيره من الأنداد، التي لا تخلق ولا ترزق ولا لها نفع ولاضر، ألا لله الخلق والأمر. قال بعض أصحاب الإشارات: لما امتن تعالى عليهم بأنه خلقهم والذين من قبهلم، ضرب لهممثلاً يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم، وأنهم وإن كانوا متوالدين بين ذكر وأنثى، مخلوقين {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ }، هوتعالى خالقهم على الحقيقة، ومصوّرهم في الأرحام كيف يشاء، ومخرجهم طفلاً، ومربيهم بما يصلحهم من غذاء وشراب ولباس، إلى غيرذلك من المنافع التي تدعو حاجتهم إليها فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الزوج، وهي أيضاً تسمىفراشاً، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلاً للنطفةالتي تنزل من صلب الأب، وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات بالولد الذي يخرج من بطن الأم، يؤنس تعالىبذلك عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق، ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه، كما أنه الخالقللثمرات ومخرجها من بطون أشجارها، ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا أوضح ذلك لهم أفردوه بالإلهية، وخصوه بالعبادة، وحصلت لهم الهداية.

وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[عدل]

{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّنمِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ }إن: حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً، وهو أصل أدواته، وحرف نفي، وفيإعماله إعمال ما الحجازية خلاف، وزائداً مطرداً بعد ما النافية، وقبل مدة الإنكار، ولا تكون بمعنى إذ خلافا لزاعمه، ولايعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد: لغة المملوك الذكر من جنسالإنسان، وهو راجع لمعنى العبادة، وتقدم شرحها. الإتيان: المجيء، والأمر منه: ائت، كما جاء في لفظ القرآن، وشذ حذف فائهفي الأمر قياساً واستعمالاً، قال الشاعر:

ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها

وقال آخر:

فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم فتوناً قفوا دوناً إذن بالجرائم

السورة: الدرجة الرفيعة. ألمتر أن الله أعطاك سورة؟ وسميت سورة القرآن بها لأن قارئها يشرف بقراءتها على من لم تكن عنده، كسور البناء.وقيل: لتمامها وكمالها، ومنه قيل للناقة التامة: سورة، أو لأنها قطعة من القرآن، من أسأرت، والسؤر فاصلها الهمز وخففت، قالهأبو عبيدة، والهمز فيها لغة. من مثله: المماثلة تقع بأدنى مشابهة، وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، أن: مررت برجل مثلك،يحتمل وجوهاً ثلاثة، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله:

ومثلك من يملك الناس طراً على أنه ليس في الناس مثل

ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين. وله في باب الصفة، إذا جرىعلى مفرد ومثنى ومجموع، حكم ذكر في النحو. الدعاء: الهتف باسم المدعو. الشهداء: جمع شهيد، للمبالغة، كعليم وعلماء، ولا يبعدأن يكون جمع شاهد، كشاعر وشعراء، وليس فعلاء باب فاعل، دون: ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية، ولا يتصرففيه بغير من. قال سيبويه: وأما دونك فلا يرفع أبداً. قال الفراء: وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماءمرفوعة على اختيار، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش: جواز تصرفه، خرج قوله تعالى، ومنادون ذلك على أنه مبتدأ وبني لإضافتهإلى المبنى، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً، قال الشاعر:

ألم ترني أني حميت حقيبتي وباشرت حد الموت والموت دونها

وتجيء دون صفة بمعنى رديء، يقال: ثوب دون، أي رديء، حكاه سيبويه في أحدقوليه، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركاً. الصدق: يقابله الكذب، وهو مطابقة الخبر للمخبر عنه. لن: حرف نفيثنائي الوضع بسيط، لا مركب من لا إن خلافاً للخليل في أحد قوليه، ولا نونها بدل من ألف، فيكون أصلهالا خلافاً للفرّاء، ولا يقتضي النفي على التأييد خلافاً للزمخشري في أحد قوليه، ولن هي أقصر نفياً من لا إذلن تنفي ما قرب، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في لا خلافاً لزاعمه، ولا يكون دعاء خلافاً لزاعمه،وعملها النصب، وذكروا أن الجزم بها لغة، وأنشد ابن الطراوة:

لن يخب الآن من رجائك من حرك دون بابك الحلقة

ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو. الوقود: اسم لما يوقد به، وقد سمع مصدراً،وهو أحد المصادر التي جاءت على فعول، وهي قليلة، لم يحفظ منها، فيما ذكر، الأستاذ أبو الحسن بن عصفور سوىهذا، والوضوء والطهور والولوع والقبول، الحجارة: جمع الحجر، والتاء فيها التأكيد تأنيث الجمع كالفحولة. أُعدّت: هيئت. {وَإِن كُنتُمْ فِىرَيْبٍ } نزلت في جميع الكفار. وقال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود، وسبب ذلك أنهم قالوا: هذا الذي يأتينابه محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه، والأظهر القول الأول. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما احتجتعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك، وعرفهم أن من جعل لله شريكاً فهو بمعزل من العلم والتمييز، أخذ يحتجعلى من شك في النبوة بما يزيل شبهته، وهو كون القرآن معجزة، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند اللهأم من عنده، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة هذا، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حوك الكلام، من الثار والنظاموالمنقلبون في أفانين البيان، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان. ولما كانوا في ريب حقيقة، وكانت إن الشرطية إنما تدخل علىالممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها: إذا، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفتإليه، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكماً ليستلغيرها من الأفعال الماضية، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال، بل يكون على معناه من المضيإن دخلت عليه إن، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال، وتأولوا ما ظاهره ما ذهبإليه المبرد، إما على إضمار يكن بعد إن نحو:

{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } أي إن يكن كان قميصه، أوعلى أن المراد به التبيين، أي أن يتبين كون قميصه قدّ. فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريبماضياً، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول. ولهذاقال بعض المفسرين في قوله: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ }: جرى كلام الله فيه على التحقيق، مثال قول الرجل لعبده:إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب، قال: وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قولاليهود: وإنا لفي شك مما جاء به، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى، أو مثل قول القائل: إن كنتعبدي فأطعني، فراراً من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيمامضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل، لأن الماضي من الجائز أن يستدام، بأن يظهر لمعتقد الريب فيمامضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب، فقيل: وإن كنتم، أي: وإن تكونوا في ريب، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم،فأتوا، وهذا مثل من يقول لولده العاق له: إن كنت تعصيني فارحل عني، فمعناه: إن تكن في المستقبل تعصيني فارحلعني، لا يريد التعليق على الماضي، ولا أن إن بمعنى إذا، إذ لا تنافي بين تقدّم العصيان وتعليق الرحيل علىوقوعه في المستقبل، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية. وقد تقدّم لنا أنه لا تنافيبين قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ } وبين قوله: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } عند الكلام على قوله: {لاَ رَيْبَفِيهِ }. وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الإجرام. ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وماموصولة، أي من الذي نزلناه، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقدتقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل، وهو المرادف لهمزة النقل. ويدل على مرادفتهما فيهذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة، وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة، خلافاًللزمخشري، قال: فإن قلت لم قيل: مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على التدريج والتنجمي،وهو من مجازه لمكان التحدي. وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا، هو الذي يعبر عنهبالتكثير، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة. وذهل الزمخشري عن إن ذلكإنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: جرحت زيداً، وفتحت الباب، وقطعت، وذبحت، لا يقال: جلسزيد، ولا قعد عمر، ولا صوم جعفر، ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً، وتعديه إنما يفيده التضعيفأو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا: مات المال، وموت المال، إذا كثر ذلك فيه، وأيضاً، فالتضعيف الذييراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا، ونزلنا قبل التضعيف كان لازماًولم يكن متعدياً، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير، وقد دخلعلى اللازم، بقي لازماً نحو: مات المال، وموّت المال. وأيضاً فلو كان التضعيف في نزل مفيداً للتنجمي لاحتاج قوله تعالى:

{ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جُمْلَةً وٰحِدَةً }

إلى تأويل، لأن التضعيف دال على التنجمي والتكثير، وقوله: {جُمْلَةً وٰحِدَةً } ينافيذلك. وأيضاً فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد. وأيضاً مجيء نزل حيث لا يمكن فيهالتكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جداً يدل على ذلك. قال تعالى: { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ } ، وقال تعالى: { قُل لَوْ كَانَ فِى ٱلاْرْضِ مَلَـٰئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ ٱلسَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً } ، ليس المعنى على أنهماقترحوا تكرير نزول الآية، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض، وإنما المعنى، واللهأعلم، مطلق الإنزال. وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، لأن قبله {ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } و{فَلاَتَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً }. فلو جرى الكلام على هذا السياق لكان مما نزل على عبده، لكن في هذا الالتفات منالتفخيم للمنزل والمنزل عليه ما لا يؤديه ضمير غائب، لا سيما كونه أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر ونظيره،

{ وَهُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا } ، وتعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه،وأنه قد صار كالملابس له، بخلاف إلى فإنها تدل على الانتهاء والوصول. ولهذا المعنى الذي أفادته على تكرار ذلكفي القرآن في آيات، قال تعالى:

{ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ }

{ طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ }

{ هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ }. وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظيم قدره، واختصاصه بخالص العبودية، ورفع محله وإضافتهإلى نفسه تعالى، واسم العبد عام وخاص، وهذا من الخاص:

لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائي

ومن قرأ: على عبادنا بالجمع، فقيل: يريد رسول الله وأمته، قاله الزمخشري،وصار نظير قوله تعالى:

{ إِنَّمَا أُنزِلَ ٱلْكِتَـٰبُ عَلَىٰ طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } ، لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به من امتثالالتكاليف، والموعود على ذلك لا يختص بل يشترك فيه المتبوعون والتباع، فجعل كأنه نزل عليهم. وذلك نوع من المجاز يجعلفيه من لم يباشر الشيء إذا كان مكلفاً به منزلة من باشر، ويحتمل أن يريد به النبيين الذين أنزل عليهمالوحي، والكتب والرّسول أول مقصود بذلك، وأسبق داخل في العموم، لأنه هو الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، ويكون ذلكخطاباً لمنكري النبوات، كما قال تعالى، حكايةعن بعضهم:

{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء } . ويحتمل أن يراد بالمفرد الجمع. وتبينه هذه القراءة كقوله تعالى:

{ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا * إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى ٱلاْيْدِى وَٱلاْبْصَـٰرِ } ، في قراءة من أفرد، فيكون إذ ذاك للجنس. فأتوا بسورة: طلب منهم الإتيان بمطلق سورة، وهيالقطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فتعنتوا في ذلك، بل سهل عليهم وأراحعليهم بطلب الإتيان بسورة ما، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم. فإذا كنتم لا تقدرون أنتم ولا معاضدوكم بالإتيان بسورةمن مثله، فكيف تزعمون أنه من جنس كلامكم؟ وكيف يلحقكم في ذلك ارتياب أنه من عند الله؟ وقد تعرضالزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً، وليس ذلك من علم التفسير، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير. منمثله: الهاء عائدة على ما، أو على عبدنا، والراجح الأول وهو قول أكثر المفسرين ورجحانه من وجوه: أحدها: أن الارتيابأولاً إنما جيء به منصباً على المنزل لا على المنزل عليه، وإن كان الريب في المنزل ريباً في المنزل عليهبالالتزام، فكان عود الضمير عليه أولى. الثاني: أنه قد جاء في نظير هذه الآية وهذا السياق قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّنمِّثْلِهِ}،

{ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }

{ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } . الثالث: اقتضاءذلك كونهم عاجزين عن الإتيان، سواء اجتمعوا أو انفردوا، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين، وعوده على المنزل يقتضيكون آحاد الأدميين عاجزاً عنه، لأنه لا يكون مثله إلا الشخص الواحد الأمي. فأما لو اجتمعوا أو كانوا قارئين فلاشك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى، فإذا جعلنا الضمير عائداً على المنزل، فمن: للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورةأي بسورة كائنة من مثله. ويظهر من كلام الزمخشري تناقض في من هذه قال: من مثله متعلق بسورة صفةلها، أي بسورة كائنة من مثله فقوله متعلق بسورة يقتضي أن يكون معمولاً لها، وقوله صفة لها، أي بسورة كائنةمن مثله يقتضي أن لا يكون معمولاً لها فتناقض كلامه ودافع آخره أوله، ولكن يحمل على أنه لا يريد التعلقالصناعي كتعلق الباء في نحو: مروري بزيد حسن، لكنه يريد التعلق المعنوي، أي تعلق الصفة بالموصوف، واحترز من القول الآخرأنها تتعلق بقوله: فأتوا، فلا يكون من مثله عائداً على المنزل، على ما سيأتي تبيينه إن شاء الله. وأجاز المهدويوأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل، وتفسر المثلية بنظمه ورصفهوفصاحة معانيه التي تعرفونها، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن، أو في غيوبه وصدقه، وأجازا على هذا الوجهأيضاً أن تكون زائدة، وستأتي الأقوال في تفسير المثلية على عود الضمير إلى المنزل، إن شاء الله. وقد اختلفالنحويون في إثبات هذا المعنى لمن، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيانالجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين. وفي المثليةعلى كون الضمير عائداً على المنزل أقوال: الأول: من مثله في حسن النظم، وبديع الرصف، وعجيب السرد، وغرابة الأسلوب وإيجازهوإتقان معانيه. الثاني: من مثله في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون. الثالث: في احتوائه على الأمر، والنهي، والوعد،والوعيد، والقصص، والحكم، والمواعظ، والأمثال. الرابع: من مثله في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف. الخامس: من مثله، أي كلام العربالذي هو من جنسه. السادس: في أنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تمله الأسماع، ولا يمحوه الماء، ولا تغنىٰعجائبه، ولا تنتهي غرائبه، ولا تزول طلاوته على تواليه، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه. السابع: من مثله في دوامآياته وكثرة معجزاته. الثامن: من مثله، أي مثله في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله، تشهد لكم بأنما جاءكم به ليس هو من عند الله، كما قال تعالى:

{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }

وإن جعلناالضمير عائداً على المنزل عليه، فمن متعلقة بقوله: فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية،ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وهي أيضاً لابتداء الغاية، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول، أيابتداء كينونتها من مثله. وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل على أقوال: الأول: من مثله من أميلا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية. الثاني: من مثله لم يدارس العلماء، ولم يجالس الحكماء، ولم يؤثر عنه قبل ذلكتعاطي الأخبار، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار. الثالث: من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون. الرابع:من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته، وذكر المثل في قوله: من مثله هو على سبيل الفرض على أكثر الأقوالالتي فسرت بها المماثلة، إذا كان الضمير عائداً على المنزل، وعلى بعضها لا يكون على سبيل الفرض، وهو على قولمن فسر أنه أراد بالمثل: كلام العرب الذي هو من جنسه، وأما إذا كان عائداً على المنزل عليه فليس علىسبيل الفرض، لوجود أمي لا يحسن الكتابة، ولوجود من لم يدارس العلماء، ولوجود من هو ساحر على زعمهم ذلك فيالمنزل عليه. واختار الزمخشري أن لا مثل ولا نظير. قال بعد أن فسر المثل على تقدير عود الضمير علىالمنزل: فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم، وعلى تقدير عوده على المنزلعليه، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء،قال الزمخشري، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج، وقال له: لأحملنك على الأدهم مثل الأميرحمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وبسطة اليد، ولم يقصد أحداً يجعله مثلاًللحجاج. انتهى كلام الزمخشري. وعلى ما فسرت به المماثلة إذ جعل الضمير عائداً على المنزل عليه، وقد تقدم بيان وجودالمثل، وعلى أنه عائد على المنزل يمكن وجوده في بعض تفاسير المماثلة. فقول الزمخشري: لا مثل ولا نظير مع تفسيرهالمماثلة في كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ليس بصحيح، لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود.ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم،حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر، فقال: {وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم }، وفسر هنا ادعوا:باستغيثوا. قال أبو الهيثم: الدعاء طلب الغوث، دعا: استغاث وباستحضر دعا فلان فلاناً إلى الحاكم، استحضره، وشهداؤهم: آلهتهم، فإنهم كانوايعتقدون أنهم يشهدون لهم عند الله، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل، والفراء، أو من يشهدهم ويحضرهم من الأعوان والأنصار، قالهابن قتيبة. وروي عن ابن عباس، أو من يشهد لكم، أن ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد وكونهجمع شهيداً حسن من جمع شاهد لجريانه على قياس جمع فعيل نحو: هذا ولما في فعيل من المبالغة وكأنه أشارإلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة. {مِن دُونِ ٱللَّهِ }: تتعلق بادعوا، أي وادعوامن دون الله شهداءكم، أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقول العاجز عن إقامةالبيت قبل ادعوا من الناس الشهداء الذين شهادتهم تصحح بها الدعاوى، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم،ويحتمل أن يتعلق من دون الله بشهداءكم. والمعنى: ادعوا من اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يومالقيامة أنكم على الحق، أو أعوانكم من دون الله، أي من دون أولياء الله الذين يستعينون بهم دون الله، أويكون معنى من دون الله: بين يدي الله، كما قال الأعشى:

تـريك القـذى مـن دونهـا وهي دونـه

أي تريك القذىقدامها، وهي قدام القذى لرقتها وصفائها. وأمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان، مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك،أمر تهكم وتعجيز. وقد بين تعالى بعد ذلك أن ذلك لا يقع منهم سيما تفسير الشهداء بآلهتهم لأنها جماد لاتنطق، فالأمر بأن يستعينوا بما لا ينطق في معارضة المعجز غاية التهكم بهم، فظاهر قوله: {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } معناه:في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا، وقيل: فيما تقتدرون عليه من المعارضة. وقد حكى عنهمفي آية أخرى:

{ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } ، لكن لم يجر ذكر المعارضة في هذه الآية، إلا أن كونهمفي ريب يقتضي عندهم أنه ليس من عند الله، وما لم يكن من عند الله فهو عندهم تمكن معارضته، فيحتملأن يكون المعنى: إن كنتم صادقين في القدرة على المعارضة. ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثلهأمر تهكم وتعجيز لأنهم غير قادرين على ذلك، انتقل إلى إرشادهم، إذ ليسوا بقادرين على المعارضة، وأمرهم باتقاء النار التيأعدت لمن كذب، وأتى بإن، وإن كان من مواضع إذا تهكماً بهم، كما يقول القائل: أن غلبتك لم أبق عليك،وهو يعلم أنه غالب، أو أتى بان على حسب ظنهم، وإن المعجز منهم كان قبل التأمل، كالمشكوك فيه عندهم لاتكالهمعلى فصاحتهم. ومعنى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } فإن لم تأتوا، وعبر عن الإتيان بالفعل، والفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر بهعن كل فعل، ويغنيك عن طول ما تكنى عنه. قال الزمخشري: لو لم يعدل عن لفظ الإتيان إلى لفظ الفعللاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولا يلزم ما قال الزمخشري، لأنهلو قيل: فإن لم تأتوا ولن تأتوا، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراًمفعول لم تفعلوا ولن تفعلوا. ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله ولن تفعلوا لإتيان بسورةمن مثله فهما سيان في الحذف؟ وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم، قال: وجزمت لم لأنها أشبهتلا في التبرئة في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا تنوين الاسم، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.وفي قوله: {وَلَن تَفْعَلُواْ } إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة. أحدهما:صحة كون المتحدي به معجزاً، الثاني: الإخبار بالغيب من أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويدل علىذلك أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين عليه، فإذا لم ينقل دل على أنه إخبار بالغيبوكان ذلك معجزه. وأما ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره، وأبو الطيب المتنبي في عبره ونحوهما، فلم يقصدوا بهالمعارضة، إنما ادعوا أنه نزل عليهم وحي بذلك، فأتوا من ذلك باللفظ الغث، والمعنى السخيف، واللغة المهجنة، والأسلوب الرذل، والفقرةغير المتمكنة، والمطلع المستقبح، والمقطع المستوهن، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير ما ادّعوا أنه وحي، كان بينهما منالتفاوت في الفصاحة والتباين في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك: فكيف الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء،فسلبهم الله فصاحتهم بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله: {وَلَن تَفْعَلُواْ } جملة اعتراض، فلا موضع لها من الإعراب، وفيهامن تأكيد المعنى ما لا يخفى، لأنه لما قال: فإن لم تفعلوا، وكان معناه نفي في المستقبل مخرجاً ذلك مخرجالممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه. واقتران الفعل بلن مميزلجملة الإعتراض من جملة الحال، لأن جملة الحال لا تدخل عليها لن، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا،وإن كانتا أختين في نفي المستقبل، لأن في لن توكيداً وتشديداً، تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت:لن أقيم غداً، كما تفعل في: أنا مقيم، وإنني مقيم، قاله الزمخشري، وما ذكره هنا مخالف لما حكي عنه أنلن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما ذهب إليه ابن خطيب زملكا من أن لن تنفي ما قرب وأن لايمتد النفي فيها، فكاد يكون عكس قول الزمخشري. وهذه الأقوال، أعني التوكيد والتأبيد ونفي ما قرب: أقاويل المتأخرين، وإنماالمرجوع في معاني هذه الحروف وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال سيبويه، رحمه الله: ولن نفي لقوله:سيفعل، وقال: وتكون لا نفياً لقوله: تفعل، ولم تفعل، انتهى كلامه. ويعني بقوله: تفعل، ولم تفعل المستقبل، فهذا نص منهأنهما ينفيان المستقبل إلا أن لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي يراد به الاستقبال. فلنأخص، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل الاستقبال لفظاً. ولذلك وقع الخلاف في لا: هل تختص بنفي المستقبل،أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه، رحمه الله، هنا أنها لا تنفي الحال، إلا أنه قد ذكرفي الاستثناء من أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه بمعنى إلا، فهو للإنشاء، وإذا كانللإنشاء فهو حال، فيفيد كلام سيبويه في قوله: وتكون لا نفياً لقوله يفعل، ولم يفعل هذا الذي ذكر في الاستثناء،فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه، كان الأقرب من هذه الأقوال قول الزمخشري: أولاً: من أن فيها توكيداً وتشديداً لأنها تنفيما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا، فإنها تنفي المراد به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له، ولأن لا قدينفى بها الحال قليلاً، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع، ولأن ولن تفعلوا أخصر من ولا تفعلون، فلهذا كله ترجيح النفيبلن على النفي بلا. فاتقوا النار: جواب للشرط، وكنى به عن ترك العناد، لأن من عاند بعد وضوح الحقله استوجب العقاب بالنار. واتقاء النار من نتائج ترك العناد ومن لوازمه. وعرف النار هنا لأنه قد تقدم ذكرها نكرةفي سورة التحريم، والتي في سورة التحريم نزلت بمكة، وهذه بالمدينة. وإذا كررت النكرة سابقة ذكرت ثانية بالألف واللام، وصارتمعرفة لتقدمها في الذكر ووصفت بالتي وصلتها. والصلة معلومة للسامع لتقدم ذكر قوله:

{ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } ، أو لسماعذلك من أهل الكتاب قبل نزول الآية، والجمهور على فتح الواو. وقرأ الحسن باختلاف، ومجاهد وطلحة وأبو حياة وعيسى بنعمر الهمداني بضم الواو. وقرأ عبيد بن عمير وقيدها على وزن فعيل. فعلى قراءة الجمهور وقراءة ابن عمير هو الحطب،وعلى قراءة الضم هو المصدر على حذف مضاف، أي ذو وقودها لأن الناس والحجارة ليسا هما الوقود، أو على أنجعلوا نفس الوقود مبالغة، كما يقول: فلان فخر بلده، وهذه النار ممتازة عن غيرها بأنها تتقد بالناس والحجارة، وهما نفسما يحرق، وظاهر هذا الوصف أنها نار واحدة ولا يدل على أنها نيران شتى قوله تعالى:

{ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } ، ولا قوله تعالى:

{ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ } ، لأن الوصف قد يكون بالواقع لا للامتياز عن مشتركفيه، والناس يراد به الخصوص ممن شاء الله دخولها، وإن كان لفظه عاماً، والحجارة الأصنام، وكانا وقوداً للنار مقرونين معاً،كما كانا في الدنيا حيث نحتوها وعبدوها آلهة من دون الله. ويوضحه قوله تعالى:

{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ، أو حجارة الكبريت، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جريج. واختصت بذلك لما فيه منسرعة الالتهاب، ونتن الرائحة، وعظم الدخان، وشدة الالتصاق بالبدن، وقوة حرها إذا حميت. وقيل: هو الكبريت الأسود، أو حجارة مخصوصةأعدت لجهنم، إذا اتقدت لا ينقطع وقودها. وقيل: إن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا، فينشىء الله سحابة سوداءمظلمة، فيرجون الفرج، ويرفعون رؤوسهم إليها، فتمطر عليهم حجارة عظاماً كحجارة الرحى، فتزداد النار إيقاداً والتهاباً أذ الحجارة ما اكتنزوهمن الذهب والفضة تقذف معهم في النار ويكوون بها. وعلى هذه الأقوال لا تكون الألف واللام في الحجارة للعموم بللتعريف الجنس. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بهاصالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين، فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، قال: وإنما ذكر الناس والحجارةتعظيماً لشأن جهنم وتنبيهاً على شدّة وقودها، ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع، ويحصل به من التخويف ما لا يحصلبغيره، وليس المراد الحقيقة. وما ذهب إليه هذا الذاهب من أن هذا الوصف هو بالصلاحية لا بالفعل غير ظاهر،بل الظاهر أن هذا الوصف واقع لا محالة بالفعل، ولذلك تكرر الوصف بذلك، وليس في ذلك أيضاً ما يدل علىأنها ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها، وقدم الناس علىالحجارة لأنهم العقلاء الذين يدركون الآلام والمعذبون، أو لكونهم أكثر إيقاداً للنار من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوموالعظام والشعور، أو لأن ذلك أعظم في التخويف. فإنك إذا رأيت إنساناً يحرق، أقشعرّ بدنك وطاش لبك، بخلاف الحجر. قالابن عطية: وفي قوله تعالى: {أُعِدَّتْ } ردّ على من قال: إن النار لم تخلق حتى الآن، وهو القول الذيسقط فيه منذر بن سعيد، انتهى كلامه. ومعناه أنه زعم أن الإعداد لا يكون إلا للموجود، لأن الإعداد هو التهيئةوالإرصاد للشيء، قال الشاعر:

أعـددت للحـدثـان سابغـة وعـداءً علنـدا

أي هيأت. قالوا: ولا يكون ذلك إلا للموجود. قال بعضهم: أوما كان في معنى الموجود نحو قوله تعالى: { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }. ومنذر الذي ذكره ابن عطيةكان يعرف بالبلوطي، وكان قاضي القضاة بالأندلس، وكان معتزلياً في أكثر الأصول ظاهرياً في الفروع، وله ذكر ومناقب في التواريخ،وهو أحد رجالات الكمال بالأندلس. وسرى إليه ذلك القول من قول كثير من المعتزلة، وهي مسألة تذكر في أصول الدينوهو: أن مذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان على الحقيقة. وذهب كثير من المعتزلة والجهمية والنجاومية إلى أنهما لميخلقا بعد، وأنهما سيخلقان. وقرأ عبد الله اعتدت: من العتاد بمعنى العدة. وقرأ ابن أبي عبلة: أعدها الله للكافرين، ولايدل إعدادها للكافرين على أنهم مخصوصون بها، كما ذهب إليه بعض المتأولين من أن نار العصاة غير نار الكفار، بلإنما نص على الكافرين لانتظام المخاطبن فيهم، إذ فعلهم كفر. وقد ثبت في الحديث الصحيح إدخال طائفة من أهل الكبائرالنار، لكنه اكتفى بذكر الكفار تغليباً للأكثر على الأقل، أو لأن الكافرين لن يشتمل من كفر بالله وكفر بأنعمه، أولأن من أخرج منها من المؤمنين لم تكن معدة له دائماً بخلاف الكفار. والجملة من قوله: أعدت للكافرين في موضعالحال من النار، والعامل فيها: فاتقوا، قاله أبو البقا، وفي ذلك نظر، لأن جعله الجملة حالاً يصير المعنى: فاتقوا النارفي حال إعدادها للكافرين، وهي معدّة للكافرين، اتقوا النار أو لم يتقوها، فتكون إذ ذاك حالاً لازمة. والأصل في الحالالتي ليست للتأكيد أن تكون منتقلة، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب، وكأنها سؤال جواب مقدّركأنه لما وصفت بأن وقودها الناس والحجارة قيل: لمن أعدت؟ فقيل: أعدت للكافرين.

وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ[عدل]

{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

{وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلانْهَـٰرُ كُلَّمَارُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ }. البشارة: أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر، وأكثر استعمالهفي الخبر، وظاهر كلام الزمخشري. أنه لا يكون إلا في الخير، ولذلك قال: تأول { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وهو محجوجبالنقل. قيل عن سيبويه: هو خبر يؤثر في البشرة من حزن أو سرور. قال بعضهم: ولذا يقيد في الحزن، والبشارة:الجمال، والبشير: الجميل، قاله ابن دريد، وتباشير الفجر: أوائله. وفي الفعل لغتان: التشديد، وهي اللغة العليا، والتخفيف: وهي لغة أهلتهامة. وقد قرىء باللغتين في المضارع في مواضع من القرآن، ستأتي إن شاء الله. الصلاح: يقابله الفساد. الجنة: البستان الذيسترت أشجاره أرضه، وكل شيء ستر شيئاً فقد أجنه، ومن ذلك الجنة والجنة والجن والمجن والجنين. المفضل الجنة: كل بستانفيه ظل، وقيل: كل أرض كان فيها شجر ونخل فهي جنة، فإن كان فيها كرم فهي: فردوس. تحت: ظرف مكانلا يتصرف فيه بغير من، نص على ذلك أبو الحسن. قال العرب: تقول تحتك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت.النهر: دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع قولان، وفيه لغتان: فتح الهاء،وهي اللغة العالية، والسكون، وعلى الفتح جاء الجمع أنهاراً قياساً مطرداً إذ أفعال في فعل الاسم الصحيح العين لا يطرد،وإن كان قد جاءت منه ألفاظ كثيرة، وسمي نهراً لاتساعه، وأنهر: وسع، والنهار لاتساع ضوئه. التشابه: تفاعل من الشبهوالشبه المثل. وتفاعل تأتي لستة معان: الاشتراك في الفاعلية من حيث اللفظ، وفيها وفي المفعولية من حيث المعنى، والإبهام، والروم،ومطاوعة فاعل الموافق أفعل، ولموافقة المجرد وللإغناء عنه. الزوج: الواحد الذي يكون معه آخر، واثنان: زوجان. ويقال للرجل: زوج، ولامرأتهأيضاً زوج وزوجة أقل. وذكر الفراء أن زوجاً المراد به المؤنث فيه لغتان: زوج لغة أهل الحجاز، وزوجة لغة تميموكثير من قيس وأهل نجد، وكل شيء قرن بصاحبه فهو زوج له، والزوج: الصنف ومنه: زوج بهيج، أو يزوجهم ذكراناًوإناثاً. الطهارة: النظافة، والفعل طهر بفتح الهاء وهو الأفصح، وطهر بالضم، واسم الفاعل منهما طاهر. فعلى الفتح قياس وعلى الضمشاذ نحو: حمض فهو حامض، وخثر فهو خاثر. الخلود: المكث في الحياة أو الملك أو المكان مدّة طويلة لا انتهاءلها وهل يطلق على المدّة الطويلة التي لها انتهاء بطريق الحقيقة أو بطريق المجاز قولان، وقال زهير:

فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت ولكن حمد الناس ليس بمخلد

ويقال: خلد بالمكان أقام به، وأخلد إلىكذا، سكن إليه، والمخلد: الذي لم يشب، ولهذا المعنى، أعني من السكون والاطمئنان، سمي هذا الحيوان اللطيف الذي يكون فيالأرض خلداً. وظاهره هذه الاستعمالات وغيرها يدل على أن الخلد هو المكث الطويل، ولا يدل على المكث الذي لا نهايةله إلا بقرينة. واختار الزمخشري فيه: أنه البقاء اللازم الذي لا ينقطع، تقوية لمذهبه الاعتزالي في أن من دخل النارلم يخرج منها بل يبقى فيها أبداً. والأحاديث الصحيحة المستفيضة دلت على خروج ناس من المؤمنين الذين دخلوا الناربالشفاعة من النار، ومناسبة قوله تعالى: وبشر لما قبله ظاهره، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤولإليه حالهم في الآخرة، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهمفي الآخرة من النعيم السرمدي. وهكذا جرت العادة في القرآن غالباً متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين ومالهم وبالعكس، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف، ومنهممن هو بالعكس. والمأمور بالتبشير قيل: النبي ، وقيل: كل من يصلح للبشارة من غير تعيين. قالالزمخشري: وهذا أحسن وأجزل لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارةبه، انتهى كلامه. والوجه الأول عندي أولى، لأن أمره لخصوصيته بالبشارة أفخم وأجزل، وكأنه ما اتكلعلى أن يبشر المؤمنين كل سامع، بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الإخبار بهذه البشارةالعظيمة، إذ تبشيره تبشير من الله تعالى. والجملة من قوله: وبشر معطوفة على ما قبلها، وليسالذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصفثواب المؤمنين، فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق، وبشر عمراً بالعفو والإطلاق، قالهذا الزمخشري وتبعه أبو البقاء فقال: الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على جملة عقاب الكافرين، انتهى كلامه.وتلخص من هذا أن عطف الجمل بعضها على بعض ليس من شرطه أن تتفق معاني الجمل، فعلى هذا يجوزعطف الجملة الخبرية على الجملة غير الخبرية، وهذه المسألة فيها اختلاف. ذهب جماعة من النحويين إلى اشتراط اتفاق المعاني، والصحيحأن ذلك ليس بشرط، وهو مذهب سيبويه. فعلى مذهب سيبويه يتمشى إعراب الزمخشري وأبي البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أنيكون قوله: وبشر معطوفاً على قوله: فاتقوا النار، ليكون عطف أمر على أمر. قال الزمخشري: كما تقول يا بني تميماحذروا عقوبة ما جنتيم، وبشر يا فلان بني أسد بإحسان إليهم، وهذا الذي ذهبا إليه خطأ لأن قوله: فاتقوا جوابللشرط وموضعه جزم، والمعطوف على الجواب جواب، ولا يمكن في قوله: وبشر أن يكون جواباً لأنه أمر بالبشارة ومطلقاً، لاعلى تقدير إن لم تفعلوا، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمراً ليس مترتباً على شيء قبله، وليس قوله: وبشرعلى إعرابه مثل ما مثل به من قوله: يا بني تميم إلخ، لأن قوله: احذروا لا موضع له من الإعراب،بخلاف قوله: فاتقوا. فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في وبشر. وقرأ زيد بن علي: وبشر فعلاً ماضياًمبنياً للمفعول. قال الزمخشري: عطفاً على أعدت انتهى. وهذا الإعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضعالحال، لأن المعطوف على الحال حال، ولا يتأتى أن يكون وبشر في موضع الحال، فالأصح أن تكون جملة معطوفة علىما قبلها، وإن لم تتفق معاني الجمل، كما ذهب إليه سيبويه وهو الصحيح، وقد استدل لذلك بقول الشاعر:

تناغى غزالاً عند باب ابن عامر وكحل أماقيك الحسان بإثمد

وبقول امرىء القيس:

وإن شفائي عبرة إن سفحتها وهل عند رسم دارس من معوّل

وأجاز سيبويه: جاءني زيد، ومن أخوكالعاقلان، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء مضر. وقد تقدم لنا أن الزمخشري يخص البشارة بالخبر الذي يظهر سرور المخبربه. وقال ابن عطية: الأغلب استعماله في الخير، وقد يستعمل في الشر مقيداً به منصوصاً على الشر للمبشر به، كماقال تعالى: { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير، انتهى كلامه. وتقدم لنا ما يخالفقوليهما من قول سيبويه وغيره، وأن البشارة أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر، قالوا: وسمي بذلكلتأثيره في البشرة، فإن كان خيراً أثر المسرة والانبساط، وإن كان شراً أثر القبض والانكماش. قال تعالى: { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ وَرِضْوٰنٍ } ، وقال تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }، وجعل الزمخشري هذا العكس في الكلام الذي يقصد به استهزاء الزائدفي غيظه المستهزأ به وتألمه. وقيل: معناه ضع هذا موضع البشارة منهم، قالوا: والصحيح أن كل خبر غير البشرة خيراًكان أو شراً بشارة، قال الشاعر:

يبشرني الغراب ببين أهل فقلت له ثكلتك من بشير

وقال آخر:

وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وأن الود موعده الحشر

والتضعيففي بشر من التضعيف الدال على لتكثير فيما قال بعضهم، ولا يتأتى التكثير في بشر إلا بالنسبة إلى المفاعيل، لأنالبشارة أول خبر يسر أو يحزن على المختار، ولا يتأتى التكثير فيه بالنسبة إلى المفعول الواحد، فبالنسبة إليه يكون فعلفيه مغنياً عن فعل، لأن الذي ينطق به مشدداً غير العرب الذين ينطقون به مخففاً، كما بينا قبل. وكون مفعولبشر موصولاً بجملة فعلية ماضية ولم يكن اسم فاعل، دلالة على أن مستحق التبشير بفضل الله من وقع منه الإيمانوتحقق به وبالأعمال الصالحة. والصالحات: جمع صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال الحطيئة:

كيف الهجاء وما ينفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني

فعلى هذا انتصابها على أنها مفعولبها، والألف واللام في الصالحات للجنس لا للعموم، لأنه لا يكاد يمكن أن يعمل المؤمن جميع الصالحات، لكن يعمل جملةمن الأعمال الصحيحة المستقيمة في الدين على حسب حال المؤمن في مواجب التكليف. والفرق بين لام الجنس إذا دخلت علىالمفرد، وبينها إذا دخلت على الجمع، أنها في المفرد يحتمل أن يراد بها واحد من الجنس، وفي الجمع لا يحتمله.قال عثمان بن عفان: الصالح ما أخلص لله تعالى، وقال معاذ بن جبل: ما احتوى على أربعة: العلم والنية والصبروالإخلاص، وقال سهل بن عبد الله: ما وافق الكتاب والسنة، وقال علي بن أبي طالب: الصلوات في أوقاتها وتعديل أركانهاوهيئاتها، وقيل: الأمانة، وقيل: التوبة والاختيار، قول الجمهور: وهو كل عمل صالح أريد به الله. قال ابن عطية: وفي قولهتعالى: {وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } ردّ على من يقول: إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها،انتهى كلامه. وفي ذلك أيضاً دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات،وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشراً. من هذه الآية: وبشر يتعدى لمفعولين: أحدهمابنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ } هو في موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر معأن قياساً مطرداً، واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟ فمذهب الخليل والكسائي: أن موضعه جر،ومذهب سيبويه والفراء: أن موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو. وجنات: جمع جنة، جمع قلة، فروي عن ابن عباس أنهاسبع جنات. وقال قوم: هي ثمان جنات. وزعم بعض المفسرين أن في تضاعيف الكتاب والسنة ما يدل على أنها أكثرمن العدد الذي أشار إليه ابن عباس وغيره، قال: فإنه قال:

{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ }

{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ }

{ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ }

{ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }

{ جَنَّـٰتِ عَدْنٍ }

وعن النبي قال: جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وهذا الذي أورده هذا المفسر لا يدل على أنها أكثر مماروي عن ابن عباس. وقال الزمخشري: الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب علىحسب استحقاق العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان، انتهى كلامه. وقد دس فيه مذهبه الاعتزالي بقوله: على حسباستحقاق العاملين. وقد جاء في القرآن ذكر الجنة مفردة ومجموعة، فإذا كانت مفردة فالمراد الجنس، واللام في لهم للاختصاص، وتقديمالخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود المضير على الذين آمنوا، فهو أسر للسامع، والشائع أنه إذا كانالاسم نكرة تعين تقديمه { أئن لَنَا لاجْرًا } ، ولم يذكر في الآية الموافاة على الإيمان فإن الردة تحبطه، وذلك مفهوممن غير هذه الآية. وأما الزمخشري فجرى على مذهبه الاعتزالي من أنه يشترط في استحقاق الثواب بالإيمان والعمل، أن لايحبطهما المكلف بالكفر والإقدام على الكبائر، وأن لا يندم على ما أوجده من فعل الطاعة وترك المعصية، وزعم أن اشتراطذلك كالداخل تحت الذكر. وقد علم من مذهب أهل السنة أن من وافى على الإيمان فهو من أهل الجنة،سواء كان مرتكباً كبيرة أم غير مرتكب، تائباً أو غير تائب، ومن قال: إن من زائدة والتقدير تجري تحتها، أوبمعنى في، أي في تحتها، فغير جار على مألوف المحققين من أهل العربية، بل هي متعلقة بتجري، وهي لابتداء الغاية.وإذا فسرنا الجنات بأنها الأشجار الملتفة ذوات الظل، فلا يحتاج إلى حذف. وإذا فسرناها بالأرض ذات الأشجار، احتاج، إذ يصيرالتقدير من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها. وقيل: عبر بتحتها عن أسافلها وأصولها. وقيل: المعنى في تجري من تحتها: أيبأمر سكانها واختيارهم، فعبر بتحتها عن قهرهم لها وجريانها على حكمهم، كما قيل فيم قوله تعالى، حكاية عن فرعون:

{ وَهَـٰذِهِ ٱلاْنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى } ، أي بأمري وقهري. وهذا المعنى لا يناسب إلا لو كانت التلاوة: أن لهم جنات تجريمن تحتهم، فيكون نظير من تحتي إذا جعل على حذف مضاف، أي من تحت أهلها، استقام المعنى الذي ذكر أنهلا يناسب، إذ ليس المعنى بأمر الجنات واختيارها. وقيل: المعنى في من تحتها: من جهتها. وقد روي عن مسروق: أنأنهار الجنة تجري في غير أخاديد، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة. وإذا صح هذا النقل، فهو أبلغ فيالنزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره، وأحسن البساتين ماكانت أشجاره ملتفة وظله ضافياً وماؤه صافياً منساباً على وجه أرضه، لا سيما الجنة، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ، فتنكسر تلكالمياه على ذلك الحصى، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآلىء له خريراً،قال شيخنا الأديب البارع أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي، رحمه الله تعالى، من كلمة:

وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

خرج الترمذي من حديث حكيم بن معاوية، عنأبيه، عن النبي : إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعده . ويؤيد هذا الحديث قوله تعالى:

{ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ }

الآية. ولما كانت الجنة لا تشوق،والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعاً بذكر الأنهار، مقدماًهذا الوصف فيها على سائر الأوصاف. قال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء وحده توسعاً وتجوزاً، كماقال تعالى: { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } ، وكما قال الشاعر:

نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس

انتهى كلامه. وناقض قوله هذا ما شرح به الأنهار قبله بنحو من خمسة أسطر قال:والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، انتهى كلامه. والألف واللام في الأنهار للجنس، قال الزمخشري: أو يراد أنهارها، فعوض التعريفباللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى:

{ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } ، وهذا الذي ذكره الزمخشري، وهو أن الألف واللام تكون عوضاًمن الإضافة، ليس مذهب البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله تعالى:

{ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلاْبْوَابُ } ،أي أبوابها. وأما البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير محذوفاً، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللامعوضاً من الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر:

قطوب رحيب الجيب منها رقيقة بجس الندامى بضة المتجرد

ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار الأربعة المذكورة فيسورة القتال. وجاء هذا الجمع بصيغة جمع القلة إشارة إلى الأنهار الأربعة، إن قلنا: إن الألف واللام فيها للعهد، أوإشارة إلى أنهار الماء، وهي أربعة أو خمسة، في الصحيح. إن رسول الله ذكر الجنة فقال: نهران باطنان: الفرات والنيل، ونهران ظاهران: سيحان وجيحان . وفي رواية سيحون وجيحون، وعن أنس قال: سئل رسول الله صلى اللهعليه وسلم عن ماء الكوثر قال: ذاك نهر أعطانيه الله تعالى، يعني في الجنة، ماؤه وأشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل الحديث. وإن كانت أنهاراً كثيرة فيكون ذلك من إجراء جمع القلة مجرى جمع الكثرة، كما جاء العكس علىجهة التوسع والمجاز لاشتراكهما في الجمعية. {كُلَّمَا رُزِقُواْ }، تقدّم الكلام على كلما عند قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم}، وبينا كيفية التكرار فيها على خلاف ما يفهم أكثر الناس، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا موضعلها من الإعراب، وأنه لما ذكر أن من آمن وعمل الصالحات لهم جنات صفتها كذا، هجس في النفوس حيث ذكرتالجنة الحديث عن ثمار الجنات، وتشوقت إلى ذكر كيفية أحوالها، فقيل لهم: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً }، وأجيزأن تكون الجملة لها موضع من الإعراب: نصب على تقدير كونها صفة للجنات، ورفع: على تقدير خبر مبتدأ محذوف. ويحتملهذا وجهين: إما أن يكون المبتدأ ضميراً عائداً على الجنات، أي هي {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا }، أو عائداً على {ٱلَّذِينَآمنوا }، أي هم كلما رزقوا، والأولى الوجه الأول لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر بالمفرد، فهي مفتقرةإلى الموصوف، أو إلى المبتدأ المحذوف. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا تقديره مرزوقين على الدوام، ولايتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال مقدرة، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام. وأجاز أيضاًأن تكون حالاً من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري، فقربت من المعرفة، وتؤول أيضاً إلى الحال المقدرة. والأصلفي الحال أن تكون مصاحبة، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير ما ذكره أبو البقاء. ومن: في قوله: منها،هي لابتداء الغاية، وفي: من مثمرة كذلك، لأنه بدل من قوله: منها، أعيد معه حرف كقوله تعالى: { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا } ، على أحد الاحتمالين، وكلتاهما تتعلق برزقوا على جهة البدل، كما ذكرناه، لأن الفعللا يقضي حرفي جر في معنى واحد إلا بالعطف، أو على طريقة البدل، وهذا البدل هو بدل الاشتمال. وقد طولالزمخشري في إعراب قوله: من ثمرة، ولم يفصح بالبدل، لكن تمثيله يدل على أنه مراده، وأجاز أن يكون من ثمرةبياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً، تريد أنت أسد، انتهى كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهلالعربية، بل تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك، ولو فرضنا مجيء من للبيان، لما صح تقديرها للبيان هنا، لأنالقائلين بأن من للبيان قدروها بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة، إن كان قبلها معرفة، نحو:{ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ } ،أي الرجس الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة، فهو يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أيهو رجل، ومن هذه ليس قبلها ما يصلح أن يكون بياناً له، لا نكرة ولا معرفة، إلا إن كان يتمحللذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما رزقوا منها رزقاً من ثمرة، فتكون من مبينة لرزقاً، أي: رزقاً هوثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه كتاب الله عن مثله. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداءالغاية أو للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أحدته منك، ولا يراد بثمرة الشخص الواحد من التفاح أو الرمان أو غير ذلك،بل المراد، والله أعلم، النوع من أنواع الثمار. قال الزمخشري: وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون من بياناً يصحأن يراد بالثمرة النوع من الثمار، والجنات الواحدة، انتهى كلامه. وقد اخترنا أن من لا تكون بياناً فلا نختار ماابتنى عليه، مع أن قوله: والجنات الواحدة مشكل يحتاج فهمه إلى تأمل، ورزقاً هنا هو المرزوق، والمصدر بعيد جداً لقوله:{هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ * كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً }، فإن المصدر لا يؤتى به متشابهاً، إنما هذا من الإخبار عنالمرزوق لا عن المصدر. {قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ }، قالوا: هو العامل في كلما، وهذا الذي: مبتدأمعمول للقول. فالجملة في موضع مفعول، والمعنى: هذا، مثل: الذي رزقنا، فهو من باب ما الخبر شبه به المبتدأ، وإنمااحتيج إلى هذا الإضمار، لأن الحاضر بين أيديهم في ذلك الوقت يستحيل أن يكون عين الذي تقدم إن رزقوه، ثمهذه المثلية المقدرة حذفت لاستحكام الشبه، حتى كأن هذه الذات هي الذات، والعائد على الذي محذوف، أي رزقناه، ومن متعلقةبرزقناً، وهي لابتداء الغاية. وقيل: مقطوع عن الإضافة، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره من قبله: أي منقبل المرزوق. واختلف المفسرون في تفسير ذلك، فقال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل: معناه رزق الغداة كرزق العشي. وقال يحيـى بنأبي كثير، وأبو عبيد: ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف المجني اشتبه عليهم. فقالوا: هذا الذيرزقنا من قبل، وقال مجاهد، وابن زيد: يعني بقوله: من قبل في الدنيا، والمعنى أنه مثله في الصورة، فالقبلية علىالقولين الأولين تكون في الجنة، وعلى هذا القول تكون في الدنيا. وقال بعض المفسرين: معناه هذا الذي وعدنا في الدنياأن نرزقه في الآخرة، فعلى هذا القول يكون المبتدأ، هو نفس الخبر، ولا يكون التقدير مثل: وعبر عن الوعد بمتعلقهوهو الرزق، وهو مجاز، فلصدق الوعد به صار كأنهم رزقوه في الدنيا، وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضاً مجاز، إلاأن هذا المجاز أكثر وأسوغ. وعلى هذا القول تكون القبلية أيضاً في الدنيا، لأن الوعد وقع فيها إلا أن كونالقبلية في الدنيا يبعده دخول من على قبل لأنها لابتداء الغاية، فهذا موضع قبل لا موضع من، لأن بين الزمانينتراخياً كثيراً، ومن تشعر بابتداء القبلية فتنافي التراخي والابتداء. وإذا كانت القبلية في الآخرة كان في ذلك إشكال من حيثإن الرزق الأول الذي رزقوه لا يكون له مثل رزقوه قبل لأن الفرض أنه أول، فإذا كان أول لم يكنقبله شيء رزقوه. قال ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس، أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل، انتهى كلامه.وليس هذا إشارة إلى الجنس، بل هذا إشارة إلى الرزق. وكيف يكون إشارة إلى الجنس وقد فسر قوله بعد منالجنس الذي رزقناه من قبل؟ فكأنه قال: هذا الجنس من الجنس الذي رزقنا من قبل، وأنت ترى هذا التركيب كيفهو. ولعل الناقل صحف مثل بمن، فكان التقدير هذا الجنس مثل الجنس الذي رزقنا من قبل، والأظهر أنه تصحيف، لأنالتقدير من الجنس بعيد، وإنما يصح ذلك على ضرب من التجوز من إطلاق كل، ويراد به بعض فتقول: هذا منبني تميم، ثم تتجوز فتقول: هذا بنو تميم، تجعله كل بني تميم مجازاً توسعاً. ومعمول القول جملة خبرية يخاطب بهابعضهم بعضاً، وليس ذلك على معنى التعجب، قاله: جماعة. وقال ابن عباس يقولون ذلك على طريق التعجب. قال الحسن ومجاهد:يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً. قال ابن عباس: ليسفي الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة. وقراءة الجمهور: وأتوا مبنياً للمفعول وحذف الفاعل للعلم به،وهو الحذم والولدان. يبين ذلك قراءة هارون الأعور والعتكي. وأتوا به على الجمع، وهو إضمار لدلالة المعنى عليه. ألا ترىإلى قوله تعالى: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰنٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } إلى قوله تعالى: { وَفَـٰكِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } ؟ فدل ذلكعلى أن الولدان هم الذين يأتون بالفاكهة، والضمير في قوله تعالى: به، عائد على الرزق، أي: وأتوا بالرزق الذي هومن الثمار، كما أن هذا إشارة إليه. قال الزمخشري: قال قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلىالمرزوق في الدنيا والآخرة، لأن قوله: {هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين، انتهىكلامه. أي لما كان التقدير هذا مثل الذي رزقناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً. ألا ترى أنك إذا قيل:زيد مثل حاتم، كان منطوياً على ذكر زيد وحاتم؟ وما ذكره الزمخشري غير ظاهر الآية، لأن ظاهر الكلام يقتضي أنيكون الضمير عائداً على مرزوقهم في الآخرة فقط، لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل، مع أنه إذافسرت القبلية بما في الجنة تعين أن لا يعود الضمير إلا إلى المرزوق في الجنة، كأنه قال: وأتوا بالمرزوق فيالجنة متشابهاً، ولا سيما إذا أعربت الجملة حالاً، إذ يصير التقدير قالوا: هذا مثل الذي رزقنا من قبل. وقد أتوابه متشابهاً، أي قالوا ذلك في هذه الحال، وكان الحامل على القول المذكور كونه أتوا به متشابهاً. ومجيء الجملة المصدرةبماض حالاً ومعها الواو على إضمار قد جائز في فصيح الكلام. قال تعالى: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }أي وقد كنتم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا، أي وقد قعدوا. وقال الذي نجا منهما: { وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } أيوقد ادّكر إلى غير ذلك مما خرج على أنه حال، وكذلك أيضاً لا يستقيم عوده إلى المرزوق في الدارين إذاكانت الجملة معطوفة على قوله تعالى: {قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكونماضياً معنى لازماً في حيز كلما، والعامل فيها يتعين هنا أن يكون مستقبل المعنى، وإن كان ماضي اللفظ لأنها لاتخلو من معنى الشرط. ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة تضمنت الإخبار عن الإتيان بهذا الذي رزقوه متشابهاً. وقول الزمخشري فيعود الضمير إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لا يظهر أيضاً، لأن هذه الجمل إنما جاءت محدثاً بها عن الجنة وأحوالها،وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه، ليس من حديث الجنة إلا بتكلف. فالظاهر ما ذكرناه أولاً منعود الضمير إلى الذي أشير إليه بهذا فقط، وانتصب متشابهاً على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمة، لأنالتشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا به، والتشابه قيل: في الجودة والخيار، فإن فواكه الجنة ليس فيها رديء،قاله قتادة، وذلك كقوله تعالى: { كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً }، قال ابن عطية: كأنه يريد متناسباً في أن كل صنف هو أعلىجنسه، فهذا تشابه مّا أو في اللون، وهو مختلف في الطعم، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، أو في الطعم واللذةوالشهوة، وإن اختلفت ألوانه، أو متشابه بثمر الدنيا في الاسم مختلف في اللون والرائحة والطعم، أو متشابه بثمر الدنيا فيالصورة لا في القدر والطعم، قاله عكرمة وغيره. وروى ابن المبارك حديثاً يرفعه. قال أصحاب رسول الله صلى الله عليهوسلم: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم. أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة مؤذية،وما كنت أرى في الجنة شجرة مؤذية تؤذي صاحبها، فقال رسول الله : ما هي؟ قال: السدرة،فإن لها شوكاً مؤذياً. فقال رسول الله : أليس يقول في سدر مخضود، خضد الله، الشوك، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمراً يفتق من الثمرة منها على اثنين وسبعين لوناً طعاماً ما فيه لون يشبه الآخر؟ واختار الزمخشري أن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا، وأطلق القول في كونه كان مشابهاً لثمر الدنيا، ولم يكن أجناساًأخر. وملخص ما ذكر أن الإنسان يأنس بالمألوف، وإذا رأى غير المألوف نفر عنه طبعه، وإذا ظفر بشيء مماألفه وظهر له فيه مزية، وتفاوت في الجنس، سر به واغتبط بحصوله. ثم ذكر ما ورد في مقدار الرمانة والنبقةوالشجرة وكيفية نخل الجنة والعنقود والأنهار ما يوقف عليه في كتابه. وليس في الآية ما يدل على ما اختاره الزمخشري.والأظهر أن يكون المعنى ثبوت التشابه له، ولم يقيد التشابه بل أطلق، فتقييده يحتاج إلى دليل. ولما كانت مجامع اللذاتفي المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون. وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرارفي دار المقام، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر ثالثاً الأزواج لأن بها تمام الالتئام، فقال تعالى: {وَلَهُمْفِيهَا أَزْوٰجٌ } والأولى أن تكون هذه الجملة مستأنفة. كما اخترنا في قوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ } لأن جعلها استئنافاً يكونفي ذلك اعتناء بالجملة، إذ سيقت كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي، ومن جعلها صفة فقد سلك بها مسلكغير ما هو أصل للحمل. وارتفاع أزواج على الابتداء، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناهمن الاستئناف أيضاً، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر. والأزواج منجموع القلة، لأن زوجاً جمع على زوجة نحو: عود وعودة، وهو من جموع الكثرة، لكنه ليس في الكثير من الكلاممستعملاً، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعاً وتجوزاً. وقد ورد في الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج من الحوروغيرهم. وأريد هنا بالأزواج: القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرتكالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي: مطهرات، فجمع بالألف والتاء على طهرن. قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن،وهن فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه بيت الحماسة:

وإذا العذارى بالدخان تقنت واستعجلت نصب القدور فملت

والمعنى: وجماعة أزواج مطهرة، انتهى كلامه. وفيه تعقب أن اللغة الواحدة أولى من الأخرى، وذلك أنجمع ما لا يعقل، إما أن يكون جمع قلة، أو جمع كثرة إن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حدضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، نحو: الأجذاع انكسرن، ويجوز انكسرت، وكذلكإذا كان ضميراً عائداً على جمع العاقلات الأولى فيه النون من التاء، فإذا بلغن أحلهن، والوالدات يرضعن، ولم يفرقوا فيذلك بين جمع القلة والكثرة كما فرقوا في جمع ما لا يعقل. فعلى هذا الذي تقرر تكون قراءة زيد الأولىإذ جاءت في الظاهر على ما هو أولى. ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول، ولم تأت ظاهرة أو ظاهرات، أفخم لأنهأفهم أن لها مطهِّراً وليس إلا الله تعالى. وقراءة عبيد بن عمير مطهرة، وأصله متطهرة، فأدغم. وفي كلام بعض العربما أحوجني إلى بيت الله فاطهر به أطهرة، أي: فأتطهر به تطهرة، وهذه القراءة مناسبة لقراءة الجمهور، لأن الفعل ممايحتمل أن يكون مطاوعاً نحو: طهرته فتطهر، أي أن الله تعالى طهرهن فتطهرن. وهذه الأزواج التي وصفها الله بالتطهير إنكن من الحور العين، كما روي عن عبد الله. فمعنى التطهير: خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولاخارجي وإن كن من بني آدم، كما روي عن الحسن: عن عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب، فقيل: مطهرة من العيوبالذاتية وغير الذاتية، وقيل: مطهرة من الأخلاق السيئة والطبائع الرديئة، كالغضب والحدة والحقد والكيد المكر، وما يجري مجرى ذلك، وقيل:مطهرة من الفواحش والخنا والتطلع إلى غير أزواجهن، وقيل: مطهرة من الأدناس الذاتية، مثل الحيض والنفاس والجنابة والبول والتغوط وغيرذلك من المقادير الحادثة عن الأعراض المنقبلة إلى فساد: كالبخر والذفر والصنان والقيح والصديد، أو إلى غير فساد: كالدمع والعرقوالبصاق والنخامة. وقيل: مطهرة من مساوىء الأخلاق، لا طمحات ولا مرجات ولا يغرن ولا يعزن. وقال النخعي: الولد. وقال يمان:من الإثم والأذى، وكل هذه الأقوال لا يدل على تعيينها قوله تعالى: {مُّطَهَّرَةٍ } لكن ظاهر اللفظ يقتضي أنهن مطهراتمن كل ما يشين، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النظافة والوضاءة. ولما ذكر تعالى مسكنالمؤمنين ومطعهمهم ومنحكهم، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال، ولذلك قيل:

أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه ارتحالا

أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلودفي دار النعيم، فقال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ }. وقد تقدم ذكر الخلاف في الخلود، وأن المعتزلة تذهب إلى أنهالبقاء الدائم الذي لا ينقطع أبداً، وأن غيرهم يذهب إلى أنه البقاء الطويل، انقطع أو لم ينقطع، وأن كون نعيمأهل الجنة وعذاب أهل النار سرمدي لا ينقطع، ليس مستفاداً من لفظ الخلود بل من آيات من القرآن وأحاديث صحاحمن السنة، قال تعالى:

{ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } ، وقال تعالى: { وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } . وفي الحديث: يا أهل الجنة خلود بلا موت . وفي حديث أخرجه مسلم في وصف أهل الجنة: وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً . إلى غيرذلك من الآيات والأحاديث.

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا[عدل]

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } * { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ * يَسْتَحْىِ * إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاًمَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ }، الحياء: تغير وإنكسار يعتري الإنسان من خوفما يعاب به ويذم، ومحله الوجه، ومنبعه من القلب، واشتقاقه من الحياة، وضده: القحة، والحياء، والاستحياء، والانخزال، والانقماع، والانقلاع، متقاربةالمعنى، فتنوب كل واحدة منها مناب الأخرى. أن: حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل الذي يليه مصدر، وعمله فيالمضارع النصب، إن كان معرباً، والجزم بها لغة لبني صباح، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف، وذكروا أنها توصل بالأمر، وإذا نصبتالمضارع فلا يجوز الفصل بينهما بشيء. وأجاز بعضهم الفصل بالظرف، وأجاز الكوفيون الفصل بينها وبين معمولها بالشرط. وأجازوا أيضاً إلغاءهاوتسليط الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه، وأجاز الفراء تقديم معمول معمولها عليها، ومنعه الجمهور. وأحكام أن الموصولةكثيرة، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين، إذ زعموا أنها لا تأتي تفسيراً، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } ، إن شاء الله تعالى. وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد لما،ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد، خلافاً لمن زاد على ذلك أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدتقبله، وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لووالجواب، ولا تكون أن للمجازاة خلافاً للكوفيين، ولا بمعنى إن المكسورة المخففة من الثقيلة خلافاً للفارسي، ولا للنفي، ولا بمعنىإذ، ولا بمعنى لئلا خلافاً لزاعمي ذلك. وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف ثلاثي الوضع، وسيأتي الكلام عليه عند أولما يذكر، إن شاء الله تعالى. والضرب: إمساس جسم بجسم بعنف ويكنى به عن السفر في الأرض ويكون بمعنى الصنعوالاعتمال. وروى ضرب رسول الله خاتماً من ذهب. والبعوضة: واحد البعوض، وهي طائر صغير جداًمعروف، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت، واشتقاقه من البغض بمعنى القطع. أما: حرف، وفيه معنى الشرط، وبعضهميعبر عنها بحرف تفصيل، وبعضهم بحرف إخبار، وإبدل بنو تميم الميم الأولى ياء فقالوا: أيما. وقال سيبويه في تفسير أما:أن المعنى مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها، إلاإن كانت الجملة دعاء فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء، وإذا فصل بها فلا بدمن الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي أما، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن وفاقاًلسيبويه وأبي عثمان، وخلافاً للمبرود وابن درستويه، ولا بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء. ومسألة أما علماً، فعالم لزم أهلالحجاز فيه النصب وتختاره تميم، وتوجيه هاتين المسألتين مذكور في النحو. الحق: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره. حق الأمر ثبتووجب ومنه: { حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } ، والباطل مقابله، وهو المضمحل الزائل، ماذا: الأصل في ذا أنها اسم إشارة، فمتى أريدموضوعها الأصلي كانت ماذا جملة مستقلة، وتكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا خبره. وقد استعملت العرب ماذا ثلاثةاستعمالات غير الذي ذكرناه أولاً: أحدها: أن تكون ما استفهاماً وذا موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح،وبدليل رفع البدل قال الشاعر:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

الثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وهذا الوجه هو الذي يقول بعض النحويين فيه: إن ذا لغو ولا يريدبذلك الزيادة بل المعنى أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً، ويدل على هذا الوصف وقوع الإسم جواباً لها منصوباًفي الفصيح، وقول العرب: عماذا تسأل بإثبات ألف ما، وقول الشاعر:

يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم لا يستفقن إلى الديرين تحتانا

ولا يصح موصولية ذاهنا، الثالث: أن تكونما مع ذا اسماً موصولاً، وهوقليل، قال الشاعر:

دعي ماذا علمت سأتقيه ولكن بالمغيب نبئيني

فعلى هذا الوجه والأوليكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من الإعراب ولا يتسلط على ماذا: وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا إنكان مما يمكن أن يتسلط. وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة موصوفة وجعل منه: دعى ماذا علمت. الإرادة: طلب نفسكالشيء وميل قلبك إليه، وهي نقيض الكرهة، ويأتي الكلام عليها مضافة إلى الله تعالى، إن شاء الله. الفسوق: الخروج، فسقتالرطبة: خرجت، والفاسق شرعاً: الخارج عن الحق، ومضارعه جاء على يفعل ويفعل. النقض: فك تركيب الشيء وردّه إلى ما كانعليه أولاً، فنقض البناء هدمه، ونقض المبرم حله. والعهد: الموثق، وعهد إليه في كذا: أوصاه به ووثقه عليه. والعهد فيلسان العرب على ستة محامل: الوصية، والضمان، والأمر، والالتقاء، والرؤية، والمنزل. والميثاق: العهد المؤكد باليمين. والميثاق والتوثقة: كالميعاد بمعنى الوعد،والميلاد بمعنى الولادة. الخسار: النقصان أو الهلاك، كيف: اسم، ودخول حرف الجر عليها شاذ، وأكثر ما تستعمل استفهاماً، والشرط بهاقليل، والجزم بها غير مسموع من العرب، فلا نجيزه قياساً، خلافاً للكوفيين وقطرب، وقد ذكر خلاف فيها: أهي ظرف أماسم غير طرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه، والثاني إلى الأخفش والسيرافي، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوبان،ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ، ومنصوب إن كان ناسخاً. أمواتاً: جمع ميت، وهو أيضاً جمع ميتة، وجمعهماعلى أفعال شذوذ، والقياس في فيعل إذا كسر فعائل. الاستواء: الاعتدال والاستقامة، استوى العود وغيره: إذا استقام واعتدل، ثم قيل:استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، والتسوية: التقويم والتعديل. { إِنَّٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وأما الذينكفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً}، الآيات. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، ومقاتل، والفراء: نزلت في اليهود لما ضربالله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت، والذباب، والتراب، والحجارة، وغير ذلك مما يستحقر ويطرح. قالوا: إن الله أعز وأعظم منأن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات، فردّ الله عليهم بهذه الآية. وقال الحسن، ومجاهد، والسدّي، وغيرهم: نزلت في المنافقين، قالوا:لما ضرب الله تعالى المثل بالمستوقد والصيب قالوا: الله أعلى وأعظم أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بالبها، فرد الله عليهم بهذه الآية، وقيل نزلت في المشركين، والكل محتمل، إذ اشتملت على نقض العهد، وهو من صفةاليهود، لأن الخطاب بوفاء العهد إنما هو لبني إسرائيل، وعلى الكافرين

{ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ }

، وهم المشركون والمنافقون، وكلهمكانوا في إيذائه متوافقين. وقد نص من أول السورة إلى هنا ذكر ثلاث طوائف، وكلهم منالذين كفروا، قاله القفال، قال: ويجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب. وقال الربيع بن أنس: هذا مثل ضربهالله تعالى للدنيا وأهلها، وأن البعوضة تحيا ما جاعت، فإذا شبعت وامتلأت ماتت. كذلك مثل أهل الدنيا إذا امتلؤوا منهاكان سبباً لهلاكهم، وقيل: ضرب ذلك تعالى مثلاً لأعمال العباد أنه لا يمتنع أن يذكر ما قل منها أو كثرليجازي عليها ثواباً أو عقاباً، والأَظهر في سبب النزول القولان الأولان. ومناسبة هذه الآية ظاهرة، إذ قد جرى قبل ذكرالمثل بالمستوقد والصيب، ونزل التمثيل بالعنكبوت والذباب، فأنكر ذلك الجهلة وأهل العناد، واستغربوا ما ليس بمستغرب ولا منكر، إذ التمثيليكشف المعنى ويوضح المطلوب. وقد تقدم الكلام في فائدته عند قوله تعالى:

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } ، والعاقل إذاسمع التمثيل استبان له به الحق، وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور والأجناس والحشرات والهوام، ولسان العرب ملآن منذلك، ألا ترى إلى قول الشاعر:

وإني لألقى من ذوي الضغن منهم وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره كما لقيت ذات الصفا من حليفهاوما انفكت الأمثال في الناس سائره

فذكر قصة ذات الصفا، وهي حية كانت قد قتلتقرابة حليفها، فتواثقا بالله على أنها تدي ذلك القتيل ولا تؤذيها، إلى آخر القصة المذكورة في ذلك الشعر. والأمثال مضروبةفي الإنجيل بالأشياء الحقيرة كالنخالة والدود والزنابير. وكذلك أيضاً قرأت أمثالاً في الزبور. فإنكار ضرب الأمثال جهالة مفرطة أو مكابرةواضحة، ومساق هذه الجملة مصدرة بأن يدل على التوكيد. وقرأ الجمهور: يستحيـي بياءين، والماضي: استحيا، وهي لغة أهل الحجاز،واستفعل هنا جاء للإغناء عن الثلاثي المجرد: كاستنكف، واستأثر، واستبد، واستعبر، وهو من المعاني التي جاء لها استفعل. وقد تقدمذكرها عند قوله:

{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، وهذا هنا من الحياء. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن استحيا ليس مغنياًعن المجرد بل هو موافق للمجرد، وهو أحد المعاني أيضاً الذي جاء لها استفعل. قال الزمخشري: يقال حيـي الرجل كمايقال: نسي وخشي وشظي الفرس، إذا اعتلت هذه الأعضاء جعل الحيـي لما يعبر به عن الانكسار، والتغير منكسر القوة منتقضالحياة، كما قالوا: فلان هلك حياء من كذا، ومات حياء، ورأيت الهلال في وجهه من شدة الحياء، وذاب حياء، وجمدفي مكانه خجلاً، انتهى كلامه. فظاهره أنه يقال: من الحياء حيـي الرجل، فيكون استحيا على ذلك موافقاً للمجرد، وعلى مانقلناه قبل يكون مغنياً عن المجرد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب: يستحي بياء واحدة، وهي لغةبني تميم، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر:

ألا تستحي منا ملوك وتتقي محارمنا لا يبوء الدم بالدم

والماضي: استحى، قال الشاعر:

إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسيت في إناء من الورد

واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل لام الكلمة، فالوزن يستفع، فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارتيستفع. وقيل المحذوف العين، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة علىأن المحذوف هو العين. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا، وليس هذا الحذفمختصاً بالماضي والمضارع، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات، كاسم الفاعل، واسم المفعول، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنهيكون متعدياً بنفسه، ويكون متعدياً بحرف جر، يقال: استحييته واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل {أَن يَضْرِبَ } أن يكون مفعولاًبه على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه، أو تعدى إليه على إسقاط حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناهفي قوله تعالى: { أَنَّ لَهُمْ جَنَّـٰتٍ } ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في موضع جر؟.واختلف المفسرون في معنى الاستحياء المنسوب إلى الله تعالى نفيه، فقيل: المعنى لا يترك، فعبر بالحياء عن الترك، قاله الزمخشريوغيره، لأن الترك من ثمرات الحياء، لأن الإنسان إذا استحيا من فعل شيء تركه، فيكون من باب تسمية المسبب باسمالسبب. وقيل: المعنى لا يخشى، وسميت الخشية حياء لأنها من ثمراته، ورجحه الطبري. وقد قيل في قوله تعالى:

{ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } ، أن معناه تستحي من الناس. وقيل: المعنى لا يمتنع. وكل هذه الأقوال متقاربة من حيث المعنى، يجوز أن يوصفالله تعالى بها، وهذه التأويلات هي على مذهب من يرى التأويل في الأشياء التي موضوعها في اللغة لا ينبغي أنيوصف الله تعالى به، وقيل: ينبغي أن تمر على ما جاءت، ونؤمن بها ولا نتأولها ونكل علمها إليه تعالى، لأنصفاته تعالى لا يطلع على ماهيتها الخلق. والذي عليه أكثر أهل العلم أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب، وفيه الحقيقةوالمجاز، فما صح في العقل نسبته إليه نسبناه إليه، وما استحال أوّلناه بما يليق به تعالى، كما نؤول فيما ينسبإلى غيره مما لا يصح نسبته إليه، والحياء بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلى الله تعالى، فلذلك أوله أهل العلم،وقد جاء منسوباً إلى الله مثبتاً فيما روي عن رسول الله أنه قال: إن الله حيـي كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً ، وأول بأن هذا جار على سبيلالتمثيل مثل تركه تخييب العبد من عطائه لكرمه بترك من ترك رد المحتاج إليه حياء منه، وقد يجوز أيضاً فيالاستحياء، فنسب إلى ما لا يصح منه بحال، كالبيت الذي أنشدناه قبل وهو:

إذا مـا استحيـن المـاء يعرض نفسـه

قالأبو التمام:

هو الليث ليث الغاب بأساً ونجدة وإن كان أحيا منه وجهاً وأكرما

ويجوز أن يكون قولهتعالى: {لاَ يَسْتَحْىِ } على سبيل المقابلة، لأنه روي أن الكفار قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذبابوالعنكبوت ومجيء الشيء على سبيل المقابلة، وإن لم يكن من جنس ما قوبل به، شائع في لسان العرب، ومنه: { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا }، وجاء ذكر الاستحياء منفياً عن الله تعالى، وإن كان إثباته بموضوع اللغة لا يصح نسبته إلىالله تعالى، فكل أمر مستحيل على الله تعالى إثباته، يصح أن ينفي عن الله تعالى، وبذلك نزل القرآن وجاءت السنة.ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }

{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }

{ مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ }

{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ؟ ونقول: الله تعالى ليس بجسم. فالإخبار بانتفاء هذه الأشياء هو الصدق المحض، وليسانتفاء الشيء مما يدل على تجويزه على من نفي عنه، ولا صحة نسبته إليه، كما ذهب إليه أبو بكر بنالطيب وغيره. زعم أن ما لا يجوز على الله إثباتاً يجب أن لا يطلق على طريق النفي، قال: فيما وردمن ذلك هو بصورة النفي وليس بنفي على الحقيقة، وكثرة ذلك، أعني نفي الشيء عما لا يصح إثباته، له كثيرفي القرآن ولسان العرب، بحيث لا يحصر ما ورد من ذلك. ويضرب: قيل معناه: يبين، وقيل: يذكر، وقيل: يضع، منضربت عليهم الذلة، وضرب البعث على بني فلان، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد، وقيل يضرب: في معنى يجعل ويصير،كما تقول: ضربت الطين لبناً، وضربت الفضة خاتماً. فعلى هذا يتعدى لاثنين، والأصح أن ضرب لا يكون من باب ظنوأخواتها، فيتعدى إلى اثنين، وبطلان هذا المذهب مذكور في كتب النحو. وما: إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة للمثلتزيد النكرة شياعاً، كما تقول: ائتني برجلٍ ما، أي: أيّ رجل كان. وأجاز الفراء، وثعلب، والزجاج: أن تكون ما نكرة،وينتصب بدلاً من قوله: مثلاً. وقرأ الجمهور: بنصب بعوضة. واختلف في توجيه النصب على وجوه: أحدها: أن تكون صفةلما، إذا جعلنا ما بدلاً من مثل، ومثلاً مفعول بيضرب، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت باسم الجنس المتنكر لإبهامما، وهو قول الفراء. الثاني: أن تكون بعوضة عطف بيان، ومثلاً مفعول بيضرب. الثالث: أن تكون بدلاً من مثل. الرابع:أن يكون مفعولاً ليضرب، وانتصب مثلاً حالاً من النكرة مقدمة عليها. والخامس: أن تكون مفعولاً ليضرب ثانياً، والأول هو المثلعلى أن يضرب يتعدى إلى اثنين. والسادس: أن تكون مفعولاً أول ليضرب، ومثلاً المفعول الثاني. والسابع: أن تكون منصوباً علىتقدير إسقاط الجار، والمعنى {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } ما بين {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }، وحكوا له عشرون ما ناقة فجملاً،ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين، ونسبه المهدوي للكوفيين، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء، ويكون: مثلاً مفعولاً بيضرب على هذا الوجه، وأنكرهذا النصب، أعني نصب بعوضة على هذا الوجه، أبو العباس. وتحرير نقل هذا المذهب: أن الكوفيين يزعمون أن ما تكونجزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي، فينتصب ما بعدها، سواء كان نكرة أم غير نكرة، ويعطف عليه بالفاء فقط،وتلزم ولا يصلح مكانها الواو، ولا ثم، ولا أو، ولا لاو، ويجعلون النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف، وهوبين. فلما حذف بين، قام هذا مقامه في الإعراب. ويقدرون الفاء بإلى، وقد جاء التصريح بها في بعض المواضع. حكىالكسائي عن العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وما منصوبة بمطرنا. وحكى الكسائي والفراء عن العرب: هي أحسن الناس ما قرنا،وانتصاب ما في هذه المسألة على التفسير، وتقول: هي حسنة ما قرنها إلى قدمها. قال الفراء: أنشدنا أعرابي من بنيسليم:

يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ولا حبال محب واصل تصل

وقال الكسائي: سمعتأعرابياً نظر إلى الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، وحكى الفراء عن العرب: الشنق ما خما فعشرين. والمعنىفيما تقدم ما بين كذا إلى كذا، وما في هذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقول: مطرنا زبالة فالثعلبية. وهذاالذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون، ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا، والذي نختاره من هذه الأعاريبأن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح، وذلك لواحد هو مثلاً لقوله تعالى: ضرب مثل، ولأنه المقدم في التركيب، وصالحلأن ينتصب بيضرب. وما: صفة تزيد النكرة شياعاً، لأن زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس. وبعوضة: بدل لأن عطف البيانمذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، إنما ذهب إلى ذلك الفارسي، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس. وقرأالضحاك، وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب: بعوضة بالرفع، واتفق المعربون على أنه خبر، ولكن اختلفوا فيما يكونعنه خبراً، فقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة، وفي هذا وجهان: أحدهما: أن هذه الجملة صلة لما، وما موصولةبمعنى الذي، وحذف هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين، حيث لم يشترطوا في جواز حذف هذاالضمير طول الصلة. وأما البصريون فإنهم اشترطوا ذلك فير غير أيّ من الموصولات، وعلى مذهبهم تكون هذه القراءة على هذاالتخريج شاذة، ويكون إعراب ما على هذا التخريج بدلاً، التقدير: مثلاً الذي هو بعوضة. والوجه الثاني: أن تكون ما زائدةأو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة، كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق، وقيل: خبر مبتدأ ملفوظ به وهو ما،على أن تكون استفهامية. قال الزمخشري، لما استنكفوا من تمثيل الله لأصنامهم بالمحقرات قال: إن الله لا يستحي أنيضرب للأنداد ما شاء من الأشياء المحقرة بله فما فوقها، كما يقال، فلأن لا يبالي بما وهب ما دينار وديناران،والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه، لأن الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين، والثاني فيه غرابة واستبعاد عن معنىالاستفهام، وما من قوله: فما معطوفة على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف، أو موصوفة وصفتها الظرف، والموصوفةأرجح. وإن رفعنا بعوضة، وكانت ما موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً، فذلك من عطف الجمل، أو كانت البعوضةخبراً لهو محذوفة، وما زائدة، أو صفة فعطف على البعوضة، إما موصولة أو موصوفة، وما فوقها الظاهر أنه يعني فيالحجم كالذباب والعنكبوت، قاله ابن عباس: ويكون ذكر البعوضة تنبيهاً على الصغر، وما فوقها تنبيهاً على الكبر، وبه قال أيضاًقتادة، وابن جريج، وقيل: المعنى فما فوقها في الصغر، أي وما يزيد عليها في الصغر، كما تقول: فلان أنذل الناس،فيقال لك: هو فوق ذلك، أي أبلغ وأعرق في النذالة، قاله أبو عبيدة، والكسائي. وقال ابن قتيبة: فوق منالأضداد ينطلق على الأكثر والأقل، فعلى قول من قال بأن اللفظ المشترك يحمل على معانيه، يكون دلالة على ما هوأصغر من البعوضة وما هو أكبر. وقيل: أراد ما فوقها وما دونها، فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر لدلالة المعنى عليها،كما اكتفى في قوله:

{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ }

عن قوله: والبرد، ورجح القول بالفوقية في الصغر بأن المقصود من التمثيلتحقير الأوثان، وكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود من هذا الباب أكمل، وبأن الغرض هنا أن الله لايمتنع عن التمثيل بالشيء الحقير، وبأن الشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب. فإذا كان في نهاية الصغرلم يحط به إلا علم الله سبحانه، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالكبير، والذينختاره القول الأول لجريان فوق على مشهور ما استقر فيها في اللغة، وفي المعنى الذي أسند الله إليه عدم الاستحياءمن أجله في ضرب المثل بهذه المصغرات والمستضعفات وجوه: أحدها: أن البعوضة قد أوجدها على الغاية القصوى من الإحكام وحسنالتأليف والنظام، وأظهر فيها، مع صغر حجمها، من بدائع الحكمة كمثل ما أظهره في الفيل الذي هو في غاية الكبروعظم الخلقة. وإذا كل واحد منهما قد استوفى نصاب حسن الصنعة وبدائع التأليف والصنعة، فضرب المثل بالصغير والكبير سيان عندهإذا كانا في توفية الحكمة سواء. الثاني: أن البعوضة لما كانت من أصغر ما خلق الله تعالى خصها بالذكر فيالقلة، فلا يستحي أن يضرب المثل في الشيء الكبير بالكبير والحقير بالحقير، وله المثل الأعلى في ضرب الأمثال. الثالث: أنفي البعوضة، مع صغر حجمها وضعف بنيانها، من حسن التأليف ودقيق الصنع، من اختصار الخصر ودقة الخرطوم ولطيف تكوين الأعضاءولين البشرة، ما يعجز أن يحاط بوصفه، وهي مع ذلك تبضع بشوكة خرطومها، مع لينها، جلد الجاموس والفيل، وتهتدي إلىمراق البشرة بغير دليل، فلا يستحي الله تعالى أن يضرب بها المثل، إذ ليس في وسع أحد من البشر أنيخلق مثلها ولا أقل منها، كما قال تعالى: { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } . الرابع: أن المثل بالذباب والبعوضوالعنكبوت، وما يجري مجراه، أتى به تعالى في غاية ما يكون من التمثيل، وأحسن ما يكون من التشبيه، لأن الذيجعلها مثلاً لهم في غاية ما يكون من الحقارة، وضعف القوة، وخسة الذات والفعل، فلو شبههم بغير ذلك ما حسنموقع التشبيه، ولا عذب مذاق التمثيل، إذ الشيء لا يشبه إلا بما يماثله ويشاكله، ومن أتى بالشيء على وجهه فلايستحيا منه. وتصدير الجملتين بأما التي معناها الشرط مشعر بالتوكيد، إذ هي أبلغ من: فالذين آمنوا يعلمون، والذين كفروا يقولون،إذ قد تقرر أن ما برز في حيز أما من الخبر كان واقعاً لا محالة، وما مفيد ذلك ومثيرهإلا ترتب الحكم على معنى الشرط، والضمير في أنه عائد على المثل، وقيل: هو عائد على المصدر المفهوم من يضربكأنه قال: فيعلمون أن ضرب المثل. وقيل: هو عائد على المصدر المفهوم من لا يستحي، أن فيعلمون أن إنتفاء الاستحياءمن ذكر الحق، والأظهر الأول لدلالة قوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } فميز الله تعالى المشار إليه هنابالمثل. والتقسيم ورد على شيء واحد، فظهر أنه عائد على المثل، وأخبر عن المؤمنين بالعلم لأنه الجزم المطابق لدليل، وأخبرعن الكافرين بالقول، وهو اللفظ الجاري على اللسان، وجعل متعلقه الجملة الاستفهامية الشاملة للاستغراق والاستبعاد والاستهزاء، وهي قوله: {مَاذَا أَرَادَٱللَّهُ }. وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا، وهي ههنا تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما: أن تكون مااستفهاماً في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبر عن ما. وأراد صلة لذا الموصولة والعائد محذوف، إذ فيه شروطجواز الحذف، والتقدير ما الذي أراده الله. والثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وتركيب ذا مع ما، وتكون مفعولاً بإرادةالتقدير، أي شيء أراده الله، وهذان الوجهان فصيحان. قال ابن عطية: واختلف النحويون في ماذا فقيل: هي بمنزلة اسم واحدبمعنى أي شيء أراد الله، وقيل: ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي، فما في موضع رفع بالابتداء وذا خبر.انتهى كلام ابن عطية، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا هنا وليس كذلك، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العربوليست مسألة خلاف عند النحويين، بل كل من شدا طرفاً من علم النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا، وكذاكل من وقفنا على كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا. والإرادة بالتفسير اللغوي، وهي ميل القلب إلىالشيء، يستحيل نسبتها إلى الله تعالى. قال بعض المفسرين: الإرادة ماهية يجدها العاقل من نفسه ويدرك التفرقة البديهية بينها وبينعلمه وقدرته ولذته وألمه. وقال المتكلمون: إنها صفة تقتضي رجحان طرفي الجائز على الآخر في الإيقاع، لا في الوقوع، واحترزبهذا القيد الأخير من القدرة. وأهل السنة يعتقدون أن الله مريد بإرادة واحدة أزلية موجودة بذاته، والقدرية المعتزلة والنجارية والجهميةوبعض الرافضة نفوا الصفات التي أثبتها أهل السنة، والبهشمية والبصريون من المعتزلة يقولون بحدوث إرادة الله تعالى لا في محل،والكرّامية تقول بحدوثها فيه تعالى، وإنها إرادات كثيرة، وأكثرهم زعموا مع القول بالحدوث أنه يستحيل فيها العدم، ومنهم من قاليجوز عدمها، وهذه المسألة يبحث فيها في أصول الدين. وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين، أي من مثل، وأجاز بعضهمنصبه على الحال من اسم الإشارة، أي متمثلاً به، والعامل فيه اسم الإشارة، وهو كقولك: لمن حمل سلاحاً رديئاً، ماذاأردت بهذا سلاحاً، فنصبه من وجهين: التمييز والحال من اسم الإشارة. وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من الله تعالى، أيمتمثلاً. وأجاز الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع، ومعنى هذا أنه كان يجوز أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذالم تتبعه في الإعراب وقطعته عنه نصب على القطع، وجعلوا من ذلك.

وعـاليـن قنوانـا مـن البسـر أحمـرا

فأحمر عندهم منصفات البسر، إلا أنه لما قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر، كذلك قالوا: ما أرادالله بهذا المثل. فلما لم يجر على إعراب هذا، انتصب مثلاً على القطع، وإذا قلت: عبد الله في الحمام عرياناً،ويجيء زيد راكباً، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند الكسائي. وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليهفهو المنصوب على القطع، ومـالاً فمنصوب على الحال، وهذا كله عند البصريين منصوب على الحال، ولم يثبت البصريون النصب علىالقطع. والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات النحور، المختار انتصاب مثل على التمييز، وجاء على معنىالتوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده مؤكداً للاسم الذي أشير إليه. يضلّ بهكثيراً ويهدي به كثيراً}: جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين المصدرتين بإما، ووصف تعالى العالمين بأنه الحق، والسائلينعنه سؤال استهزاء بالكثرة، وإن كان قد قال تعالى:

{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ }

{ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }

وقليلمّا هم، فلا تنافي بينهما لأن الكثرة والقلة أمران نسبيان، فالمهتدون في أنفسهم كثير، وإذا وصفوا بالقلة فبالنسبة إلى أهلالضلال، أو تكون الكثرة بالنسبة إلى الحقيقة، والقلة بالنسبة إلى الأشخاص، فسموا كثيراً ذهاباً إلى الحقيقة، كما قال الشاعر:

إن الكرام كثير في البلاد وإن قلوا كما غيرهم قلوا وإن كثروا

واختار بعض المعربين والمفسرين أنيكون قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } في موضع الصفة لمثل، وكان المعنى: {مَاذَا أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَامَثَلاً } يفرق به الناس إلى ضلال وإلى هداية، فعلى هذا يكون من كلام الذين كفروا. وهذا الوجه ليس بظاهر،لأن الذي ذكر أنّ الله لا يستحي منه هو ضرب مثل مّا، أي مثل: كان بعوضة، أو ما فوقها، والذينكفروا إنما سألوا سؤال استهزاء وليسوا معترفين بأن هذا المثل {يُضِلُّ ٱللَّهُ * بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }، إلاأن ضمن معنى الكلام أن ذلك على حسب اعتقادكم وزعمكم أيها المؤمنون فيمكن ذلك، ولكن كونه إخباراً من الله تعالىهو الظاهر، وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد حقيقي كما أن إسناد الهداية كذلك، فهو خالق الضلال والهداية، وقد تؤولهنا الإضلال بالإضلال عن طريق الجنة، والإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى تقبيح الدين وتركه، وهو الإضلال المضافإلى الشيطان، والإضلال بهذا المعنى منتف عن الله بالإجماع. والزمخشري على طريقته الاعتزالية يقول: إسناد الضلال إلى الله تعالى إسنادإلى السبب، لأنه لما ضرب به المثل فضل به قوم واهتدى به قوم تسبب لضلالهم وهداهم. وقيل: يضل بمعنى يعذب،كقوله تعالى:

{ إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـٰلٍ وَسُعُرٍ }

، قاله بعض المعتزلة، وردّ القفال هذا وقال: بل المراد في الشاهد فيضلال عن الحق وجوز ابن عطية أن يكون قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } من كلام الكفار، ويكون قوله: {وَيَهْدِي بِهِكَثِيرًا } إلى آخر الآية، من كلام الله تعالى. وهذا الذي جوزه ليس بظاهر لأنه إلباس في التركيب، لأن الكلامإما أن يجري على أنه من كلام الكفار، أو يجري على أنه من كلام الله. وإما أن يجري بعضه علىأنه من كلام الكفار وبعضه من كلام الله تعالى من غير دليل على ذلك فإنه يكون إلباساً في التركيب، وكتابالله منزه عنه. وقرأ زيد بن علي: يضلّ به كثير ويهدي به كثير وما يضلّ به إلا الفاسقون، فيالثلاثة على البناء للمفعول. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة، في الثلاثة على البناء للفاعل الظاهر، مفتوح حرف المضارعة. قال عثمانبن سعيد الصيرفي: هذه قراءة القدرية. وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: يضلّ بضمّ الياء في الأول، وما يضلّ بهبفتح الياء، والفاسقون بالواو، وكذا أيضاً في القراءتين السابقتين، وهي قراءات متجهة إلى أنها مخالفة للمصحف المجمع عليه. والظاهر أنالضمير في به في الثلاثة عائد على مثلاً، وهو على حذف المضاف، أي يضرب المثل. وقيل: الضمير في به منقوله: {يُضِلُّ بِهِ }، أي بالتكذيب في به من قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا }، أي بالتصديق. ودلّ على ذلك قوةالكلام في قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ } {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ }. ومعنى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّٱلْفَـٰسِقِينَ }، أي: وما يكون ذلك سبباً للضلالة إلا عند من خرج عن الحق. وقال بعض أهل العلم: معنى يضلّويهدي: الزيادة في الضلال والهدى، لا أن ضرب المثل سبب للضلالة والهدى، فعلى هذا يكون التقدير: نزيد من لم يصدقبه وكفر ضلالاً على ضلالة، ومن آمن به وصدق إيماناً على إيمانه. والفاسقين: مفعول يضلّ لأنه استثناء مفرغ، ومنع أبوالبقاء أن يكون منصوباً على الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره: وما يضل به أحداً إلا الفاسقين، وليس بممتنع، وذلكأن الاسم بعد إلا: إما أن يفرغ له العامل، فيكون على حسب العامل نحو: ما قام إلا زيد، وما ضربتإلا زيداً، وما مررت إلا بزيد، إذا جعلت زيداً وبزيد معمولاً للعامل قبل لا، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ،فأما أن يكون العامل طالباً مرفوعاً، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا، وإضماره إن كان مما يضمر، أو منصوباً، أومجروراً، فيجوز حذفه لأنه فضلة وإتيانه. فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً على الاستثناء فتقول: ما ضربت إلازيداً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررت إلا عمراً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً، وما مررت إلاعمراً، قال الشاعر:

نجا سالم والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف، وإن أثبته، ولم يحذفه، فله أحكام مذكورة. فعلى هذا الذي قد قعده النحويونيجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل، ويكون من الاستثناء المفرغ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، ويكون معمول يضلقد حذف لفهم المعنى، والفاسق هو الخارج من طاعة الله تعالى. فتارة يكون ذلك بكفر وتارة يكون بعصيان غير الكفر.قال الزمخشري: الفاسق في الشريعة: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة، وهو النازل بين المنزلتين، أي بين منزلة المؤمنوالكافر. وقالوا: إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء، رضي الله عنه وعن أشياعه. وكونهبين بين، أي حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح، ويوارث، ويغسل، ويصلي عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، وهو كالكافر فيالذم، واللعن، والبراءة منه، واعتقاد عداوته، وأن لا تقبل شهادته. ومذهب مالك بن أنس والزيدية أن الصلاة لا تجزي خلفه،ويقال للخلفاء المردة من الكفار الفسقة، وقد جاء الاستعمالان في كتاب الله تعالى:

{ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلاْيمَانِ } ، يريداللمز والتنابز، { إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ } ، انتهى كلام الزمخشري. وهو جار على مذهبه الاعتزالي، والذي عليه سلف هذه الأمة:أن من كان مؤمناً وفسق بمعصية دون الكفر، فإنه فاسق بفسقه مؤمن بإيمانه، وأنه لم يخرج بفسقه عن ازيمان، ولابلغ حد الكفر. وذهبت الخوارج إلى أن من عصى وأذنب ذنباً فقد كفر بعد إيمانه. ومنهم من قال: من أذنببعد الإيمان فقد أشرك. ومنهم من قال: كل معصية نفاق، وإن حكم القاضي بعد التصديق أنه منافق. وذهبت المعتزلة إلىما ذكره الزمخشري، وذكر أن لأصل هذه المسألة سموا معتزلة، فإنهم اعتزلوا قول الأمة فيه، فإن الأمة كانوا على قولين،فأحدثوا قولاً ثالثاً فسموا معتزلة لذلك، وهذه المسألة مقررة في أصول الدين. {ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ}: يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين: إما على الاتباع، وإما على القطع، أي أذم الذين. والرفع من وجهين: إماعلى القطع، أي هم الذين، وإما على الابتداء، ويكون الخبر الجملة من قوله: {أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ }. وعلى هذا الإعرابتكون هذه الجملة كأنها كلام مستأنف، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد، فالأولى من هذا الإعراب الأعاريب التيذكرناها وأولاها الاتباع، وتكون هذه الصفة صفة ذم، وهي لازمة، إذ كل فاسق ينقض العهد ويقطع ما أمر الله بوصله.واختلفوا في تفسير العهد على أقوال: أحدها: أنه وصية الله إلى خلقه، وأمره لهم بطاعته، ونهيه لهم عن معصيته فيكتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة، ونقضهم له تركهم العمل به. الثاني: أنه العهد الذي أخذه الله عليهم حين أخرجهممن أصلاب آبائهم في قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } الآية، ونقضهم له كفر، بعضهم بربوبيته، وبعضهم بحقوق نعمته. الثالث: ماأخذه الله عليهم في الكتب المنزلة من الإقرار بتوحيده والاعتراف بنعمه والتصديق لأنبيائه ورسله، وبما جاؤوا به في قوله: { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ }الآية، ونقضهم له نبذه وراء ظهورهم، وتبديل ما في كتبهم من وصفه. الرابع: ما أخذه الله تعالى على الأنبياء ومتبعيهم أن لا يكفروا بالله ولا بالنبي صلى اللهعليه وسلم، وأن ينصروه ويعظموه في قوله تعالى: { وَإِذَا * وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا آتيتكم } الآية، ونقضهم لهإنكارهم لنبوته وتغييرهم لصفته. الخامس: إيمانهم به ورسالته قبل بعثه ونقضهم له جحدهم لنبوته ولصفته. السادس:ما جعله في عقولهم من الحجة على توحيده وتصديق رسوله، بالنظر في المعجزات الدالة على إعجاز القرآن وصدقه ونبوة محمد، ونقضهم هو تركهم النظر في ذلك وتقليدهم لآبائهم. السابع: الأمانة المعروضة على السموات والأرض التي حملهاالإنسان، ونقضهم تركهم القيام بحقوقها. الثامن: ما أخذه عليهم من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، ونقضهمعودهم إلى ما نهوا عنه، وهذا القول يدل على أن المخاطب بذلك بنو إسرائيل. التاسع: هو الإيمان والتزام الشرائع، ونقضهكفره بعد الإيمان. وهذه الأقوال التسعة منها ما يدل على العموم في كل ناقض للعهد، ومنها ما يدل علىأن المخاطب قوم مخصوصون، وهذا الاختلاف مبني على الاختلاف الذي وقع في سبب النزول، والعموم هو الظاهر. فكل من نقضعهد الله من مسلم وكافر ومنافق أو مشرك أو كتابي تناوله هذا الذم، ومن متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية،ويدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل بينهما، وفي ذلك دليل على عدم اكتراثهم بالعهد، فإثرما استوثق الله منهم نقضوه. وقيل: من زائدة وهو بعيد، والميثاق مفعول من الوثاقة، وهو الشدّ في العقد، وقد ذكرناأنه العهد المؤكد باليمين. وليس المعنى هنا على ذلك، وإنما كنى به عن الالتزام والقبول. قال أبو محمد بن عطية:هو اسم في موضع المصدر، كما قال عمرو بن شييم:

أكفراً بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا

أراد بعد إعطائك، انتهى كلامك. ولا يتعين ما ذكر، بل قد أجاز الزمخشري أن يكونبعد التوثقة، كما أن الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة، وظاهر كلام الزمخشري أن يكون مصدراً، والأصل في مفعال أنيكون وصفاً نحو: مطعام ومسقام ومذكار. وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج، وكلام أبي عبد الله بن مالك، وهمامن أوعب الناس لأبنية المصادر، فلم يذكرا مفعالاً في أبنية المصادر. والضمير في ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه،وأجيز أن يكون عائداً على الله تعالى، أي من توثيقه عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده على اختلافالتأويلين في الميثاق. قال أبو البقاء: أن أعدت الهاء على اسم الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن أعدتها إلىالعهد كان مضافاً إلى المفعول، وهذا يدل على أن الميثاق عنده مصدر. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ}: وما موصولة بمعنى الذي، وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنه رسول الله ، قطعوه بالتكذيب والعصيان، قالهالحسن وفيه ضعف، إذ لو كان كما قال لكان من مكان ما. الثاني: القول: أمر الله أن يوصل بالعمل فقطعوابينهما، قالوا: ولم يعملوا، يشير إلى أنها نزلت في المنافقين { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ . الثالث: التصديق بالأنبياء،أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض. الرابع: الرحم والقرابة، قاله قتادة، وهذا يدل على أنه أراد كفار قريش ومنأشبههم. الخامس: أنه على العموم في كل ما أمر الله به أن يوصل، وهذا هو الأوجه، لأن فيه حمل اللفظعلى مدلوله من العموم، ولا دليل واضح على الخصوص. وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد بيناضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصاً هنا، إذ يصير المعنى: ويقطعون شيئاً أمر الله به أن يوصل، فهو مطلقولا يقع الذم البليغ والحكم بالفسق والخسران بفعل مطلق ما، والأمر هو استدعاء الأعلى من الفعل من الأدنى، قال الزمخشري:وبعثه عليه، وهي نكتة اعتزالية لطيفة، قال: وبه سمي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأن الداعي الذي يدعو إليه منلا يتولاه شبه بآمر يأمره به، فقيل له: أمر تسمية للمفعول به بالمصدر كأنه مأمور به، كما قيل له: شأن،والشأن الطلب والقصد، يقال شأنت شأنه، أي قصدت قصده، وأمر يتعدى إلى اثنين، والأول محذوف لفهم المعنى، أي ما أمرالله به، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به وصله، أي ما أمرهم الله بوصله،نحو قول الشاعر:

أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص فتقصر عنها حقبة وتبوص

أي أمن ذكرسلمى نأيها. وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن تكون أن يوصل في موضع نصب بدلاً من ما، أيوصله، والتقدير: ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون في موضع نصب مفعولاً من أجله،وقدره المهدوي كراهية أن يوصل، فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو البقاء وجه المفعولمن أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريبكلها ضعيفة، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحاً. والأول الذي اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام اللهوسواه من الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام له أفصح الكلام وهو كلام الله. {وَيُفْسِدُونَ فِى ٱلاْرْضِ }، فيه أربعةأقوال: أحدها: استدعاؤهم إلى الكفر، والترغيب فيه، وحمل الناس عليه. الثاني: إخافتهم السبيل، وقطعهم الطريق على من هاجر إلى النبي وغيرهم. الثالث: نقض العهد. الرابع: كل معصية تعدى ضررها إلى غير فاعلها. وقال ابن عطية: يعبدونغير الله، ويجوزون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، وهذا قريب من القول الرابع. وقد تقدّم ما معنى في الأرض،والتنبيه على ذكر الأرض، عند الكلام على قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ } ، فأغنى عن إعادته هنا.وقد تضمنت هذه الآية الكبيرة نوعاً من البديع يسميه أرباب البيان: بالطباق. وقد تقدّم شيء منه، وهو أن تأتي بالشيءوضدّه، ووقع هنا في قوله تعالى: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }، فإنهما دليلان على الحقير والكبير، وفي قوله: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ}، {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، وفي قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا * وَفِى * قَوْلُهُ * يَنقُضُونَعَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ }، وفي قوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل. وجاء في هذه الثلاثة الأخيرةمناسبة الطباق، وهو أن كل أول منها كائن بعد مقابله، فالضلال بعد الهداية لقوله: كل مولود يولد على الفطرة، ولدخولأولاد الذين كفروا الجنة إذا ماتوا قبل البلوغ، والنقض بعد التوثقة، والقطع بعد الوصل. فهذه ثلاثة تناسبت في الطباق. وفيوصل الذين بالمضارع وعطف المضارعين عليه دليل على تجدد النقض والقطع والإفساد، وإشعار أيضاً بالديمومة، وهو أبلغ في الذم، وبناءيوصل للمفعول هو أبلغ من بنائه للفاعل، لأنه يشمل ما أمر الله بأن يصلوه أو يصله غيرهم. وترتيب هذهالصلات في غاية من الحسن، لأنه قد بدأ أولاً بنقض العهد، وهو أخص هذه الثلاث، ثم ثنى بقطع ما أمرالله بوصله، وهو أعم من نقض العهد وغيره، ثم أتى ثالثاً بالإفساد الذي هو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق،وأتى باسم الفاعل صلة للألف واللام ليدل على ثبوتهم في هذه الصفة، فيكون وصف الفسق لهم ثابتاً، وتكون النتائج عنهمتجدّدة متكررة، فيكون الذم لهم أبلغ لجمعهم بين ثبوت الأصل وتجدّد فروعه ونتائجه، ولما ذكر أوصاف الفاسقين أشار إليهم بقوله:{أولئك}، أي: أولئك الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة من النقض والقطع والإفساد. {هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ }: وفسر الخاسرون بالناقصين حظوظهم وشرفهم،وبالهالكين، وسبب خسرانهم استبدالهم النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والإفساد بالإصلاح، وعقابها بالثواب، وقيل: الخاسرون المغبونون بفوت المثوبة ولزوم العقوبة وقيل:خسروا نعيم الآخرة، وقيل: خسروا حسناتهم التي عملوها، أحبطوها بكفرهم. والآية في اليهود، ولهم أعمال في شريعتهم وفي المنافقين، وهميعملون في الظاهر عمل المخلصين. قال القفال: الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملاً يجزى عليه. {كَيْفَ }:قد تقدم أنه اسم استفهام عن حال، وصحيه معنى التقرير والتوبيخ، فخرج عن حقيقة الاستفهام. وقيل: صحبه الإنكار والتعجب، أيإن من كان بهذه المثابة من القدرة الباهرة والتصرف التام والمرجع إليه آخراً فيثيب ويعاقب، لا يليق أن يكفر به.والإنكار بالهمزة إنكار لذات الفعل، وبكيف إنكار لحاله وإنكار حاله إنكار لذاته، لأن ذاته لا تخلو من حال يقع فيها،فاستلزم إنكار الحال إنكار الذات ضرورة، وهو أبلغ، إذ يصير ذلك من باب الكناية حيث قصد إنكار الحال، والمقصود إنكاروقوع ذات الكفر. قال الزمخشري: وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كل موجودلا ينفك من حال وصفة عند وجوده، ومحال أن يوجد تغير صفة من الصفات، كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني،انتهى كلامه. وهذا الخطاب فيه التفات، لأن الكلام قبل كان بصورة الغيبة، ألا ترى إلى قوله: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} إلى آخره؟ وفائدة هذا الالتفات أن الإنكار إذا توجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجهه إلى الغائب لجواز أنلا يصله الإنكار، بخلاف من كان مخاطباً، فإن الإنكار عليه أردع له عن أن يقع فيما أنكر عليه. والناصب لـ{كَيْفَتَكْفُرُونَ }. وأتى بصيغة تكفرون مضارعاً ولم يأت به ماضياً وإن كان الكفر قد وقع منهم، لأن الذي أنكر أوتعجب منه الدوام على ذلك، والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون ذلك توبيخاً لمن وقع منه الكفر ثم آمن، إذلو جاء كيف كفرتم {بِٱللَّهِ } لاندرج في ذلك من كفرتم آمن كأكثر الصحابة رضي الله عنهم. والواو في قوله:{وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }: واو الحال، نحو قوله تعالى:{ وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ * أُمُّهُ }

{ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } . قال الزمخشري: فإن قلت فكيف صح أن يكون حالاً، وهو ماض؟ ولا يقال: جئت وقامالأمير، ولكن: وقد قام، إلا أن يضمر قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده، ولكن على جملة قوله:كنتم أمواتاً إلي ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم فجعلكمأحياء؟ {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بعد هذه الحياة؟ {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } بعد الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه. ونحن نقول: إنه علىإضمار قد، كما ذهب إليه أكثر الناس، أي وقد كنتم أمواتاً فأحياكم. والجملة الحالية عندنا فعلية. وأما أن نتكلف ونجعلتلك الجملة اسمية حتى نفر من إضمار قد، فلا نذهب إلى ذلك، وإنما حمل الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميعالجمل مندرجة في الحال، ولذلك قال: فإن قلت، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعحالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلم بالقصة،كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة، وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه. ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجةفي الحال، إذ يحتمل أن يكون الحال قوله: وكنتم أمواتاً فأحياكم، ويكون المعنى كيف تكفرون بالله وقد خلقكم فعبر عنالخلق بقوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ }، ونظيره قوله : أن تجعل لله نداً وهو خلقك أيأن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به، لأنه لا نعمة أعظم من نعمة الاختراع، ثم نعمةالاصطناع، وقد شمل النعمتين قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُم} لأن بالإحياء حصلتا. ألا ترى أنها تضمنت الجملة الإيجاد والإحسان إليكبالتربية والنعم إلى زمان أن توجه عليك إنكار الكفر؟ ولما كان مركوزاً في الطباع ومخلوقاً في العقول أن لا خالقإلا الله،

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } ، كانت حالاً تقتضي أن لا تجامع الكفر، فلا يحتاج إلى تكلف.إن الحال هو العلم بهذه الجملة. وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِتُرْجَعُونَ } جملاً أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال، ولذل كغاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل عماقبلها من الحرف والصيغة. ومن جعل العلم بمضمون هذه الجمل هو الحال، جعل تمكنهم من العلم بالإحياء الثاني والرجوع لمانصب على ذلك من الدلائل التي توصل إليه بمنزلة حصول العلم. فحصوله بالإماتتين والإحياء الأول، وكثير من الناس علموا ثمعاندوا، وفي ترتيب هاتين الموتتين والحياتين اللاتي ذكر الله تعالى وامتن عليها بها أقوال: الأول: أن الموت الأول: العدم السابققبل الخلق، والإحياء الأول: الخلق، والموت الثاني: المعهود في دار الدنيا، والحياة الثانية: البعث للقيامة، قاله ابن مسعود وابن عباسومجاهد. الثاني: أن الموت الأول: المعهود في الدنيا، والإحياء الأول: هو في القبر للمسألة، والموت الثاني: في القبر بعد المسألة،والإحياء الثاني: البعث، قاله ابن عباس وأبو صالح. الثالث: أن الموت الأول: كونهم في أصلاب آبائهم، والإحياء الأول: الإخراج منبطون الأمهات، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث، قاله قتادة. الرابع: أن الموت الأول: هو الذي اعتقب إخراجهم من صلبآدم نسماً كالذر، والإحياء الأول: إخراجهم من بطون أمهاتهم، والموت الثاني: المعهود، والإحياء: البعث، قاله ابن زيد. الخامس: أن الموتالأول: مفارقة نطفة الرجل إلى الرحم فهي ميتة إلى نفخ الروح فيحييها بالنفخ، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث. السادس:أن الموت الأول هو الخمول، والإحياء الأول: الذكر والشرف بهذا الدين والنبي الذي جاءكم، والموت الثاني: المعهود، والإحياء الثاني: البعث،قاله ابن عباس. السابع: أن الموت الأول: كون آدم من طين، والإحياء الأول: نفخ الروح فيه فحييتم بحياته، والموت الثاني:المعهود، والإحياء الثاني: البعث. واختار ابن عطية القول الأول وقال: هو أولى الأقوال، لأنه لا محيد للكفار عن الإقراربه في أول ترتيبه، ثم إن قوله: وكنتم أمواتاً، وإسناده آخراً الإماتة إليه، مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوسالكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر وجاء جحدهم له دعوىلا حجة عليها. انتهى كلامه، وهو كلام حسن. وللمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال تخالف ما تقدم: أحدها: أمواتاً بالشركفأحياكم بالتوحيد. الثاني: أمواتاً بالجهل فأحياكم بالعلم. الثالث: أمواتاً بالاختلاف فأحياكم بالائتلاف. الرابع: أمواتاً بحياة نفوسكم وإماتتكم بإماتة نفوسكم وإحياءقلوبكم. الخامس: أمواتاً عنه فأحياكم به، قاله الشبلي. السادس: أمواتاً بالظواهر فأحياكم بمكاشفة السرائر، قاله ابن عطاء. السابع: أمواتاً بشهودكمفأحياكم بمشاهدته ثم يميتكم عن شواهدكم ثم يحييكم بقيام الحق عنه ثم إليه ترجعون من جميع ما لكم، قاله ابنفارس. واختار الزمخشري: أن الموت الأول كونهم نطفاً في أصلاب آبائهم فجعلهم أحياء، ثم يميتهم بعد هذه الحياة، ثميحييهم بعد الموت، ثم يحاسبهم. وجوز أيضاً أن يكون المراد بالإحياء الثاني: الإحياء في القبر، وبالرجوع: النشور، وأن يراد بالإحياءالثاني أيضاً النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. وهذا الذي جوز أن يراد به الإحياء في القبر لا يفهم منه أنهيحيا للمسألة في القبر، ولا لأن ينعم فيه أو يعذب لأنه ليس مذهبه، لأن المعتزلة وأتباعهم أنكروا عذاب القبر، وأهلالسنة والكرامية أثبتوه بلا خلاف بينهم، إلا أن أهل السنة يقولون: يحيا الميت الكافر فيعذب في قبره، والفاسق يجوز أنيعذب في قبره، والكرامية تقول: يعذب وهو ميت. والأحاديث الصحيحة قد استفاضت بعذاب القبر، فوجب القول به واعتقاده. واختارصاحب المنتخب أن المراد بقوله: أمواتاً أي تراباً ونطفاً، لأن ابتداء خلق آدم من التراب، وخلق سائر المكلفين من أولاده،إلا عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، من النطف. قال: واختلفوا، فالأكثرون على أن إطلاق اسم الميت على الجمادمجاز، لأن الميت من يحله الموت، ولا بد أن يكون بصفة من يجوز أن يكون حياً في العادة، والقول بأنهحقيقة في الجماد مروي عن قتادة، انتهى كلامه. وتفسيره الأموات بالتراب والنطف لا يظهر ذلك في التراب، لأن المخلوق منالتراب لم يتصف بالصفة التي أنكرت أو تعجب منها وقتاً قط، فكيف يندرج في قوله: {وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا }؟ والذي نختارهأن كونهم أمواتاً، ومن وقت استقرارهم نطفاً في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلكالأطوار من النطفة والعلقة والمضغة واكتساء العظام لحماً. والإماتة الثانية هي المعهودة، والإحياء هو البعث بعد الموت. ويكون الإحياء الأولوالموت الأول، والإحياء الثاني حقيقة، وأما كونهم أمواتاً، فمن ذهب إلى أن الجماد يوصف بالموت حقيقة فيكون إذ ذاك حقيقة،ومن ذهب إلى المجاز فهو مجاز سائغ قريب، لأنه على كل حال موجود، فقرب اتصافه بالموت، بخلاف من زعم أنهأريد به كونه معدوماً وكونه في الصلب. أو حين كان آدم طيناً، فإن المجاز في ذلك بعيد لأن ذلك عدمصرف، والعدم الذي لم يسبقه وجود يبعد فيه أن يسمى موتاً، ألا ترى ما أطلق عليه في اللفظ لفظ الموتمما لا تحله الحياة كيف يكون موجوداً لا عدماً صرفاً؟

{ وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلاْرْضُ ٱلْمَيْتَةُ }

{ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَاء ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ }

{ إِنَّ ٱلَّذِى أَحْيَـٰهَا لمحيي الموتى } { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ } ، وتقول العرب: أرض موات. وأماقول من ذهب إلى أن الموت الأول: هو الخمول، والإحياء الأول: هو التنويه والذكر، فمجاز بعيد هنا، لأنه متى أمكنالحمل على الحقيقة أو المجاز الحقيقة أو المجاز الغريب كان أولى. وقد أمكن ذلك بما ذكرناه، ثم أكثر تلكالأقاويل يبعد فيها التعقيب بالفاء في قوله: فأحياكم، لأن بين ذاك الموت والإحياء مدة طويلة، وعلى ما اخترناه تكون الفاءدالة على معناها من التعقيب. ومن قال: إن الموت الأول: هو المعهود، والإحياء الأول هو للمسألة، فيكون فيه الماضي قدوضع موضع المستقبل مجاز التحقق وقوعه، أي وتكونون أمواتاً فيحييكم، كقوله: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ }. وقد استدل بهذه الآية قومعلى نفي عذاب القبر، لأنه ذكر تعالى موتتين وحياتين، ولم يذكر حياة بين إحيائهم في الدنيا وإحيائهم في الآخرة. قالوا:ولا يجوز أن يستدل بقوله تعالى: { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } ، لأنه من كلام الكفار، ولأن كثيراً من الناس أثبتواحياة الذر في صلب آدم. والجواب: أنه لا يلزم من عدم ذكر هذه الحياة للمسألة عدمها قبل وأيضاً، فيمكن أنيكون قوله: ثم يحييكم هو للمسألة، ولذلك قال: ثم إليه ترجعون، فعطف بثم التي تقتضي التراخي في الزمان. والرجوع إلىالله تعالى حاصل عقب الحياة التي للبعث، فدل ذلك على أن تلك الحياة المذكورة هي للمسألة. قال الحسن: ذكرالموت مرتين هنا لأكثر الناس، وأما بعضهم فقد أماتهم ثلاث مرات، { أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ }

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ }

{ فخذ أربعة من الطير } ، الآيات. وفي قوله تعالى: {فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} دليل علىاختصاصه تعالى بذلك، ودليل على النشر والحشر. والظاهر في قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أن الهاء عائدة على اللهسبحانه وتعالى، لأن الضمائر السابقة عائدة عليه تعالى، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي إلى جزائه من ثواب أو عقاب.وقيل: عائدة على الجزاء على الأعمال. وقيل: عائدة على الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم فيه. وقيل: عائدة على الإحياءالمدلول عليه بقوله: فأحياكم. وشرح هذا أنكم ترجعون بعد الحياة الثانية إلى الحال التي كنتم عليها في ابتداء الحياة الأولى،من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئاً. واستدلت المجسمة بقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }، على أنه تعالى في مكان ولا حجةلهم في ذلك. وقرأ الجمهور: ترجعون مبنياً للمفعول من رجع المتعدي. وقرأ مجاهد، ويحيـى بن يعمر، وابن أبيإسحاق، وابن محيصن، والفياض بن غزوان، وسلام، ويعقوب: مبنياً للفاعل، حيث وقع في القرآن من رجع اللازم، لأن رجع يكونلازماً ومتعدياً. وقراءة الجمهور أفصح، لأن الإسناد في الأفعال السابقة هو إلى الله تعالى، {فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }،فكان سياق هذا الإسناد أن يكون الفعل في الرجوع مسنداً إليه، لكنه كان يفوت تناسب الفواصل والمقاطع، إذ كان يكونالترتيب: { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } ، فحذف الفاعل للعلم به وبنى الفعل للمفعول حتى لا يفوت التناسب اللفظي. وقد حصل التناسبالمعنوي بحذف الفاعل، إذ هو وقبل البناء للمفعول مبني للفاعل. وأما قراءة مجاهد، ومن ذكر معه، فإنه يفوت التناسب المعنوي،إذ لا يلزم من رجوع الشخص إلى شيء أن غيره رجعه إليه، إذ قد يرجع بنفسه من غير رادّ. والمقصودهنا إظهار القدرة والتصرف التام بنسبة الإحياء والإماتة، والإحياء والرجوع إليه تعالى، وإن كنا نعلم أن الله تعالى هو فاعلالأشياء جميعها. وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } من الترهيب والترغيب ما يزيد المسيء خشية ويرده عن بعض مايرتكبه، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان، وفيها رد على الدهرية والمعطلة ومنكري البعث، إذهو بيده الإحياء والإماتة والبعث وإليه يرجع الأمر كله. {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً }: مناسبةهذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما ذكر أن من كان منشئاً لكم بعد العدم ومفنياً لكم بعد الوجودوموجداً لكم ثانية، إما في جنة، وإما إلى نار، كان جديراً أن يعبد ولا يجحد، ويشكر ولا يكفر. ثم أخذيذكرهم عظيم إحسانه وجزيل امتنانه من خلق جميع ما في الأرض لهم، وعظيم قدرته وتصرفه في العالم العلوي، وأن العالمالعلوي والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء، وأنه عليم بكل شيء. ولفظة هو من المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب،وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أنيطلق عليه هو، ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين. ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة، وشددتها همدان، وسكنتها أسدوقيس، وحذف الواو مختص بالشعر. ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا، رأيت أن أذكره هناليقع الذكر فيه. قالوا: أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام: مظهرات، ومضمرات، ومستترات. فالمظهرات: أسماء ذات، وأسماء صفات، وهذهكلها مشتقة، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة، وغير المشتق واحد وهو الله. وقد قيل: إنه مشتق، والذي ينبغي اعتقاده أنهغير مشتق، بل اسم مرتجل دال على الذات. وأما المضمرات فأربعة: أنا في مثل: { ٱللَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } ،وأنت في مثل: { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ } ، وهو في مثل: { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم }، ونحن في مثل: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } . قالوا: فإذا تقرر هذا فالله أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات، ولفظة هو من أعظم أسمائهالمظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص، ولا يمنع أنيكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازاً من الاشتراك، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأةعن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو. فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه، فإنك لا بد أنيشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه، وهذا الاسم لأجلدلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه، اختاره الجلة من المقربين مداراً لذكرهم ومناراً لكل أمرهم فقالوا: ياهو، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد، والمقربون لا يخطرفي عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته، وهو اسم مركب من حرفين وهما: الهاء والواو، والهاء أصلوالواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية، والجمع في هما وهم، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد. انتهى ما نقلعن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى الله تعالى مقرراً لما ذكروه ومعتقداً لما حبروه. ولهم في لفظة أناوأنت وهو كلام غريب جداً بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لميفتح لي فيه ببارقة، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية،وأن يجنبنا مسالك الغواية، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين: السنة والكتاب. ولكم: متعلق بخلق، واللام فيه، قيل: للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصاً، وهو تمليك ما ينتفعالخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل: للاختصاص، وهو أعم من التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولاً من أجله لأنهبما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي. فالديني: النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرةالصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء، وأما الدنيوي: فظاهر، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهيةوغير ذلك. وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ }، من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، فلكل أحدأن ينتفع بها، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه.وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر، فلا يقدم على شيء إلا بإذن. وذهب قوم إلىأن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف. وحكى أبو بكر بن فورك عن ابنالصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، فلا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به أثر لهاحال تستصحب، وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئاً لسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيرهلفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله: {مَّا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً }، جميع ما كانت الأرض مستقراً لهمن الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة. واستدل بعضهم بذلك على تحريم الطين، قال:لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض. وقد تقدم قبل هذا الإمتنان بجعل الأرض لنا فراشاً، وهناامتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعاً على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام،ومعنى جميعاً العموم. فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل: ما في الأرض كله، ولا تدل على الاجتماعفي الزمان، وهذا هو الفارق بين معاً وجميعاً. وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع، ومن زعم أنالمعنى بقوله: ما في الأرض، الأرض وما فيها، فهو بعيد عن مدلول اللفظ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ، ومنقوله تعالى: { ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً }، فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق الله ذلك لنا. وقال الزمخشري:إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء، كما تذكر السماء، ويراد بها الجهات العلوية، جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيهاواقعة في الجهات السفلية. وقال بعض المنسوبين للحقائق: خلق لكم لبعد نعمه عليكم، فتقتضي الشكرمن نفسك لتطلب المزيد منه. وقالأبو عثمان وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاءفي المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد. وقال ابنعطاء: خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له. وقال بعض البغداديين: أنعمعليك بها، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم. وقال الثوري: أعلىمقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق: والعطف بثم يقتضي التراخي في الزمان، ولا زمان إذ ذاك، فقيل: أشار بثم إلىالتفاوت الحاصل بين خلق السماء والأرض في القدر، وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والبركةفيها وتقدير الأقوات عطف بثم، إذ بين خلق الأرض والاستواء تراخ يدل على ذلك: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِى خَلَقَ ٱلاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ } ، الآية. استوى أهل الحجاز على الفتح، ونجد على الإمالة. وقرىء في السبعة بهما، (وفي الاستواء هنا سبعةأقوال): أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة منقولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري،وبين ما الذي استعير منه. الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمرهوسلطانه، واختاره الطبري. الثالث: أن يكون إلى بمعنى على، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكاًلخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر:

فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

الرابع: أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء هو الاستقرار، فيكون ذلك على حذف مضاف، أيثم استوى أمره إلى السماء، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء، قاله الحسن البصري. والخامس: أنالمعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول المعنى إلى القول الأول. السادس: أن المعنى كمل صنعه فيها،كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه. السابع: أن الضمير في استوى عائد على الدخان، وهذا بعيدجدًّا يبعده قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَاء وَهِىَ دُخَانٌ } ، واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياقالكلام. وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود فيغيره تعالى، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش، إن شاءالله تعالى. ومعنى التسوية: تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم: درهم سواء، أيوازن كامل تام، أو جعلهن سواء من قوله: { إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أو تسوية سطوحها بالإملاس. والضمير في فسوّاهنعائد على السماء على أنها جمع سماوة، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع، ويكون مراداً بههنا الجمع. قال الزمخشري، والضمير في فسواهن ضمير مبهم. و{سَبْعَ سَمَـٰوَاتٍ } تفسيره كقولهم: ربه رجلاً، انتهى كلامه. ومفهومه أنّهذا الضمير يعود على ما بعده، وهو مفسر به، فهو عائد على غير متقدّم الذكر. وهذا الذي يفسره ما بعده:منه ما يفسر بجملة، وهو ضمير الشأن أو القصة، وشرطها عند البصريين أن يصرح بجزأيها، ومنه ما يفسر بمفرد، أيغير جملة، وهو الضمير المرفوع بنعم وبئس وما جرى مجراهما. والضمير المجرور بربّ، والضمير المرفوع بأول المتنازعين على مذهب البصريين،والضمير المجعول خبره مفسراً له، والضمير الذي أبدل منه مفسره في إثبات هذا القسم الأخير خلاف، وذلك نحو: ضربتهم قومك،وهذا الذي ذكره الزمخشري ليس واحداً من هذه الضمائر التي سردناها، إلا أن تخيل فيه أن يكون سبع سموات بدلاًمنه ومفسراً له، وهو الذي يقتضيه تشبيه الزمخشري له بربه رجلاً، وأنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله، لكنهذا يضعف بكون هذا التقدير يجعله غير مرتبط بما قبله ارتباطاً كلياً، إذ يكون الكلام قد تضمن أنه تعالى استوىعلى السماء، وأنه سوى سبع سموات عقيب استوائه السماء، فيكون قد أخبر بإخبارين: أحدهما استواؤه إلى السماء والآخر: تسويته سبعسموات. وظاهر الكلام أن الذي استوى إليه هو بعينه المستوي سبع سموات. وقد أعرب بعضهم سبع سموات بدلاً منالضمير على أن الضمير عائد على ما قبله، وهو إعراب صحيح، نحو: أخوك مررت به زيد، وأجازوا في سبع سمواتأن يكون منصوباً على المفعول به، والتقدير: فسوى منهن سبع سموات، وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.أما من حيث اللفظ فإن سوى ليس من باب اختار، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح الكلام، وأما منحيث المعنى فلأنه يدل على أن الموات كثيرة، فسوى منهن سبعاً، والأمر ليس كذلك، إذ المعلوم أن السموات سبع. وأجازواأيضاً أن يكون مفعولاً ثانياً لسوى، ويكون معنى سوى: صير، وهذا ليس بجيد، لأن تعدى سوى لواحد هو المعلوم فياللغة،

{ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }

{ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ }. وأما جعلها بمعنى صير، فغير معروف في اللغة. وأجازوا أيضاًالنصب على الحال، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل باعتبارين، والمفعول به، ومفعول ثان، وحال، والمختار البدل باعتبار عود الضميرعلى ما قبله والحال، ويترجح البدل بعدم الاشتقاق. وقد اختلف أهل العلم في أيهما خلق قبل، فمنهم من قال:السماء خلقت قبل الأرض، ومنهم من قال: الأرض خلقت قبل السماء، وكل تعلق في الاستدلال بظواهر آيات يأتي الكلام عليهاإن شاء الله تعالى. والذي تدل عليه هذه الآية أن خلق ما في الأرض لنا متقدم على تسوية السماء سبعاًلا غير، والمختار أن جرم الأرض خلق قبل السماء، وخلقت السماء بعدها، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبهذا يحتملالجمع بين الآيات. وقال بعضهم: وإنما خلق السموات سبعاً، لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة، كأنه ضوعفسبع مرات. ومن شأن العرب أن يبالغوا بالسبعة والسبعين من العدد، لما في ذكرها من دليل المضاعفة. قال تعالى:

{ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً }

{ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ، والسبعة تذكر في جلائل الأمور: الأيام سبعة، والسموات سبع، والأرضين سبع،والنجوم التي هي أعلام يستدل بها سبعة: زحل، والمشتري، وعطارد، والمريخ، والزهرة، والشمس، والقمر، والبحار سبعة، وأبواب جهنم. وتسكين الهاءفي هو وهي بعد الواو والفاء واللام وثم جائز، وقل بعد كاف الجر وهمزة الاستفهام، وندر بعد لكن، في قراءةأبي حمدون، لكن هو الله ربي، وهو تشبيه بتسكين سبع وكرش، شبه الكلمتان بالكلمة. {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ }: وقرأبتسكين {وَهُوَ } أبو عمرو والكسائي وقالون، وقرأ الباقون بضم الهاء على الأصل. ووقف يعقوب على وهو بالهاء نحو: وهوه{بِكُلّ } متعلق بقوله: {عَلِيمٌ }، وكان القياس التعدي باللام حالة التقديم، أو بنفسه. وأما حالة التأخير فبنفسه لأنه منفعل متعد، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي للمبالغة، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام في فعلها ولا في اسمالفاعل، وذلك أن هذا المبني للمبالغة المتعدي، إما أن يكون فعله متعدياً بنفسه، أو بحرف جر، فإن كان متعدياً بحرفجر تعدى المثال بحرف الجر نحو: زيد صبور على الأذى زهيد في الدنيا، لأن صبر يتعدى بعلى، وزهد يتعدى بفي،وإن كان متعدياً بنفسه. فإما أن يكون ما يفهم علماً وجهلاً، أو لا. إن كان مما يفهم علماً أو جهلاًتعدى المثال بالباء نحو: زيد عليم بكذا، وجهول بكذا، وخبير بذلك، وإن كان لا يفهم علماً ولا جهلاً فيتعدى باللامنحو قوله تعالى:

{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ }

وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف مذكور في النحو، وإنماخالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة أفعالها المتعدية بنفسه، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل حكمه هكذا.قال تعالى:

{ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } ، وقال الشاعر:

أعطــى لفــارهــة حلــو مــراتعهــا

وقال:

أكــر وأحمــى للحقيقــة منهــم

فإن جاء بعدهما ظاهره أنه منصوب به نحو: قوله تعالى

{ إن ربك هو أعلم من يضل }

، وقول الشاعر:

وأضــرب منــا بــالسيـوف القـوانســا

أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعال التفضيل. {شَىْء }: قد تقدم اختلاف الناس في مدلول شيء. فمنأطلقه على الموجود والمعدوم كان تعلق العلم بهما من هذه الآية ظاهراً، ومن خصه بالموجود فقط كان تعلق علمه تعالىبالمعدوم مستفاداً من دليل آخر غير هذه الآية. {عَلِيمٌ }؛ قد ذكرنا أنه من أمثلة المبالغة، وقد وصف تعالى نفسهبعالم وعليم وعلام، وهذان للمبالغة. وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في علامة، ولا يجوز وصفه به تعالى. والمبالغة بأحدأمرين: أما بالنسبة إلى تكرير وقوع الوصف سواء اتحد متعلقه أم تكثر، وأما بالنسبة إلى تكثير المتعلق لا تكثير الوصف.ومن هذا الثاني المبالغة في صفات الله تعالى، لأن علمه تعالى واحد لا تكثير فيه، فلما تعلق علمه تعالى بالجميعكلية وجزئية دقيقة، وجليلة معدومة وموجودة، وصف نفسه تعالى بالصفة التي دلت على المبالغة، وناسب مقطع هذه الآية بالوصف بمبالغةالعلم، لأنه تقدم ذكر خلق الأرض والسماء والتصرف في العالم العلوي والسفلي وغير ذلك من الإماتة والإحياء، وكل ذلك يدلعلى صدور هذه الأشياء عن العلم الكامل التام المحيط بجميع الأشياء. وقال بعض الناس: العليم من كان علمه من ذاته،والعالم من كان علمه متعدياً من غيره، وهذا ليس بجيد لأن الله تعالى قد وصف نفسه بالعالم، ولم يكن علمهبتعلم. وفي تعميم قوله تعالى: {بكل شيء عليم رد على من زعم أن علم الله تعالى متعلق بالكليات لا بالجزئيات،تعالى الله عن ذلك. وقالوا: علم الله تعالى يتميز على علم عباده بكونه واحداً يعلم به جميع المعلومات، وبأنه لايتغير بتغيرها، وبأنه غير مستفاد من حاسة ولا فكر، وبأنه ضروري لثبوت امتناع زواله، وبأنه تعالى لا يشغله علم عنعلم، وبأن معلوماته تعالى غير متناهية. وفي قولهم لا يشغله علم عن علم، يريدون، معلوم عن معلوم، لأنه قد تقدمأن علم الله واحد ولا يشغله تعلق علم شيء عن تعلقه بشيء آخر. وتضمن قوله تعالى: {إن الله لايستحي} إلى آخر قوله: {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ }: أن ما ضرب به المثل في كتابه: من مستوقد النار، والصيب،والذباب، والعنكبوت، وما يجري مجرى ذلك، فيه عجائب من الحكم الخفية، والجلية، وبدائع الفصاحة العربية، وموافقة المثل لما ضرب به،وأنه لا يحسن في مثله الأمثلة، وأنه تعالى لا يترك ذلك لما فيه من الحكم ومدح من عرف أن ذلكحق، وذم من أنكره وعابه، وأن في ضربه هدى لمن آمن، وضلالاً لمن صد عنه، وذم من نقض عهد اللهوقطع ما يجب أن يوصل، وأفسد في الأرض، وإعلامه بأن ذلك سبب خسرانه، والإعلام أن ناقضي عهده هو تعالى قادرعلى إحيائهم بعد الموت، كما كان قادراً على إيجادهم بعد العدم، وأنه جامعهم وباعثهم ومجازيهم بأعمالهم، وفي ذلك أشد التخويفوالتهديد. ثم بعد التخويف ذكرهم تعالى بنعمه التي أنعمها عليهم: من خلق الأرض المقلة، والسماء المظلة، والمخلوقات المتعددة التي ينتفعونبها ويعتبرون بها، ليجمع بذلك بين الترهيب والترغيب، وهذه هي الموعظة التي يتعظ بها ذو العقل السليم والذهن المستقيم. ثمختم ذلك بالفضل الأكبر من إعلامهم بإحاطة علمه بجميع الأشياء من الابتداء إلى الانتهاء.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً[عدل]

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنيُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ }.. إذ: اسم ثنائي الوضع مبني لشبهه بالحرف وضعاً أو افتقاراً، وهو ظرفزمان للماضي، وما بعده جملة اسمية أو فعلية، وإذا كانت فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة بالمضارع،وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضياً، وهو ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولاً به، ولاحرفاً للتعليل أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، ولا زائدة، خلافاً لزاعمي ذلك، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو. الملك:ميمه أصلية وهو فعل من الملك، وهو القوة، ولا حذف فيه، وجمع على فعائله شذوذاً، قاله أبو عبيدة، وكأنهم توهمواأنه ملاك على وزن فعال، وقد جمعوا فعالاً المذكر، والمؤنث على فعائل قليلاً. وقيل وزنه في الأصل فعأل نحو شمألثم نقلوا الحركة وحذفوا، وقد جاء فيه ملأك، فيحتمل أن يكون فعأ، وعلى هذا تكون الهمزة زائدة في فاء الكلمةوعينها، فمنهم من قال: الفاء لام، والعين همزة، من لاك إذا أرسل، وهي لغة محكية، فملك أصله ملأك، فخفف بنقلالحركة والحذف إلى فعل، قال الشاعر:

فلست لإنسى ولكن لملأك تنزل من جو السماء يصوب

فجاء به على الأصل، وهذا قول أبي عبيدة، واختاره أبو الفتح، وملائكة على هذا القول مفاعلة. ومنهم من قالالفاء همزة، والعين لام من الألوكة، وهي الرسالة، فيكون على هذا أصله مألكاً، ويكون ملأك مقلوباً، جعلت فاؤه مكان عينه،وعينه مكان فائه، فعلى هذا القول يكون في وزنه معلاً. ومنهم من قال: الفاء لام، والعين واو، ومن لاك الشيء:أداره في فيه، وصاحب الرسالة يديرها في فيه، فهو مفعل من ذلك، نحو: معاذ، ثم حذفوا العين تخفيفاً. فعلى هذاالقول يكون وزنه معلاً، وملائكة على القول مفاعلة، والهمزة أبدلت من واو كما أبدلت في مصائب. وقال النضر بن شميل:الملك لا تشتق العرب فعله ولا تصرفه، وهو مما فات علمه، انتهى. والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع، وقبل: للمبالغة، وقدورد بغير تاء، قال الشاعر:

أنـا خـالـد صلـت عليـك المـلائـك

خليفة: فعيلة، وفعيلة تأتي بمعنى الفاعل للمبالغة، كالعليم، أو بمعنىالمفعول كالنظيحة، والهاء للمبالغة. السفك: الصب والإراقة، لا يستعمل إلا في الدم، ويقال: سفك وسفك وأسفك بمعنى، ومضارع سفك يأتيعلى بفعل ويفعل. الدماء: جمع دم، ولامه ياء أو واو محذوفة لقولهم: دميان ودموان، وقصره وتضعيفه مسموعان من لسان العرب.والمحذوف اللام، قيل: أصله فعل، وقيل: فعل، التسبيح: تنزيه الله وتبرئته عن السوء، ولا يستعمل إلا لله تعالى، وأصله منالسج، وهو الجري. والمسبح جار في تنزيه الله تعالى، التقديس: التطهير، ومنه بيت المقدس والأرض المقدسة، ومنه القدس: السطل الذييتطهر به، والقداس: الجمان، قال الشاعر:

كنظــم قــداس سلكــه متقطــع

وقال الزمخشري: من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد.علم: منقول من علم التي تتعدى لواحد، فرقوا بينها وبين علم التي تتعدى لاثنين في النقل، فعدوا تلك بالتضعيف، وهذهبالهمزة، قاله الأستاذ أبو علي الشلوبين، وسيأتي لكلام عليه عند الشرح. آدم: اسم أعجمي كآزر وعابر، ممنوع الصرف للعلمية والعجمة،ومن زعم أنه أفعل مشتق من الأدمة، وهي كالسمرة، أو من أديم الأرض، وهو وجهها، فغير صواب، لأن الاشتقاق منالألفاظ العربية قد نص التصريفيون على أنه لا يكون في الأسماء الأعجمية، وقيل: هو عبري من الإدام، وهو التراب، ومنزعم أنه فاعل من أديم الأرض فجعلوه ظاهراً لعدم صرفه، وأبعد الطبري في زعمه أنه فعل رباعي سمي به. العرض:إظهار الشيء حتى تعرف جهته. الإنباء: الإخبار، ويتعدى فعله الواحد بنفسه والثاني بحرف جر، ويجوز حذف ذلك الحرف، ويضمن معنىأعلم فيتعدى إلى ثلاثة. هؤلاء: إسم إشارة للقريب، وها: للتنبيه، والاسم أولاء: مبني على الكسر، وقد تبدل همزته هاء فيقال:هلاء، قد يبنى على الضم فيقال: أولاء، وقد تشبع الضمة قبل اللام فيقال: أولاء، قاله قطرب. وقد يقال: هؤلاء بحذفألف ها وهمزة أولاء وإقرار الواو التي بعد تلك الهمزة، حكاه الأستاذ أبو علي الشلوبين، وأنشد قوله:

تجلد لا تقل هولاء هذا بكى لما بكى أسفاً عليكا

وذكر الفراء: أن المد في أولاء لغةالحجاز، والغصر لغة تميم، وزاد غيره أنها لغة بعض قيس وأسد، وأنشد للأعشى:

هؤلاء ثم هؤلاء كلا أعطيت نعالاً محذوة بنعال

والهمزة عند أبي علي لام الفعل، ففاؤه ولامه همزة، وعند أبي العباس بدلمن الياء وقعت بعد ألف فقلبت همزة. سبحانك: معناه تنزيهك، وسبحان اسم وضع موضع المصدر، وهو مما ينتصب بإضمار فعلمن معناه لا يجوز إظهاره، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على المصدرية، ويضاف ويفرد، فإذا أفرد كان منوناً، نحوقول الشاعر:

سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد

فقيل: صرفه ضرورة،وقيل: لجعله نكرة غير منون، نحو قول الشاعر:

أقول لما جاءني فخبره سبحان من علقمة الفاخر

جعله علماً فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. وزعم بعض النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعاً عن الإضافة،فعاد إليه التنوين، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد، وقد ردّ هذا القول في كتب النحو. الحكيم: فعيل بمعنىمفعل، من أحكم الشيء: أتقنه ومنعه من الخروج عما يريده. الإبداء: الإظهار، والكتم: الإخفاء. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ }:لم يرد في سبب نزول هذه الآيات شيء. ومناسبتها لما قبلها أنه لما امتن عليهم بخلق ما في الأرض لهم،وكان قبله إخراجهم من العدم إلى الوجود، أتبع ذلك ببدء خلقهم، وامتن عليهم بتشريف أبيهم وتكريمه وجعله خليفة وإسكانه داركرامته، وإسجاد الملائكة تعظيماً لشأنه وتنبيهاً على مكانه واختصاصه بالعلم الذي به كمال الذات وتمام الصفات، ولا شك أن الإحسانإلى الأصل إحسان إلى الفرع، وشرف الفرع بشرف الأصل. واختلف المعربون في إذ، فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى زيادتها،وهذا ليس بشيء، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في علم النحو. وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد، التقدير: وقدقال ربك، وهذا ليس بشيء، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به باذكر، أي واذكر: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ }،وهذا ليس بشيء، لأن فيه إخراجها عن بابها، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية، أو بإضافة ظرف زمان إليها.وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس قبلهما وبعدهما، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف. واختلوا، فقال بعضهم: هي في موضع رفع،التقدير: ابتداء خلقكم. وقال بعضهم في موضع نصب، التقدير: وابتداء خلقكم، إذ قال ربك. وناسب هذا التقدير لما تقدم قوله:

{ خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً }، وكلا هذين القولين لا تحرير فيه، لأن ابتداء خلقنا لم يكن وقت قولالله للملائكة: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً }، لأن الفعل العامل في الظرف لا بد أن يقع فيه، أما أنيسبقه أو يتأخر عنه، فلا لأنه لا يكون له ظرفاً. وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال بعدها، وليس بشيء،لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم، تقديره:

{ وَهُوَ ٱلَّذِى أَحْيَاكُمْ } ، {إِذْ قَالَ رَبُّكَ }، وهذا ليس بشيء لأنه حذف بغير دليل، وفيه أن الإحياء ليس واقعاً فيوقت قول الله للملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصلة. وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى:

{ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِىْ خَلَقَكُمْ }

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ }، فتكون الواو زائدة، ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التيكادت أن تكون سوراً من القرآن، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له، وعدم تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزل كتاب الله عنها. والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ }، أي وقت قولالله للملائكة: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ }، {قَالُواْ أَتَجْعَلُ }، كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك، أي وقت مجيئكأكرمتك، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا. فانظر إلى حسن هذا الوجه السهل الواضح، وكيف لم يوفق أكثر الناسإلى القول به، وارتبكوا في دهياء وخبطوا خبط عشواء. وإسناد القول إلى الرب في غاية من المناسبة والبيان، لأنه لماذكر أنه خلق لهم ما في الأرض، كان في ذلك صلاح لأحوالهم ومعايشهم، فناسب ذكر الرب وإضافته إلى رسول الله تنبيه على شرفه واختصاصه بخطابه، وهز لاستماع ما يذكر بعد ذلك من غريب افتتاح هذا الجنسالإنساني، وابتداء أمره ومآله. وهذا تنويع في الخطاب، وخروج من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص، وفي ذلك أيضاً إشارة لطيفةإلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها، إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه،ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه وجعل أفضل أنبيائه أمّ بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحتلوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه وفي داري تكليفه وجزائه. واللام في للملائكة: للتبليغ، وهو أحد المعاني التي جاءت لهااللام، فظاهر لفظ الملائكة العموم. وقال بذلك قوم، وقال قوم هو عام المراد به الخصوص، وهم سكان الأرض من الملائكةبعد الجان. وقيل: هم المحاربون مع إبليس. ومعمول القول إني جاعل، وكان ذلك مصدراً بأن، لأن المقصود تأكيد الجملة المخبربها، وإن هذا واقع لا محالة وإن تكسر بعد القول، ولفتحها بعده عند أكثر العرب شروط ذكرت في النحو، وبنوسليم يفتحونها بعده من غير شرط، وقال شاعرهم:

إذا قلت إني آيب أهل بلدة نزعت بها عنها الولية بالهجر

جاعل: اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويجوز إضافته للمفعول إلا إذا فصل بينهما كهذا، فلا يجوز، وإذا جازإعماله، فهو أحسن من الإضافة، نص على ذلك سيبويه، وقال الكسائي: هما سواء، والذي أختاره أن الإضافة أحسن، وقد ذكرناوجه اختيارنا ذلك في بعض ما كتبناه في العربية. وفي الجعل هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فيتعدى إلى واحد،قاله أبو روق، وقريب منه ما روي عن الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل، ولم يذكر ابن عطية غير هذا. والثاني:أنه بمعنى التصيير، فيتعدى إلى اثنين. والثاني هو في الأرض، أي: مصير في الأرض خليفة، قاله الفراء، ولم يذكر الزمخشريغيره. وكلا القولين سائغ، إلا أن الأول عندي أجود، لأنهم قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }؟ فظاهر هذا أنهمقابل لقوله: {جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً }. فلو كان الجعل الأول على معنى التصيير لذكره ثانياً، فكان: أتجعل فيها خليفةمن يفسد فيها؟ وإذا لم يأت كذلك، كان معنى الخلق أرجح. ولا احتياج إلى تقدير خليفة لدلالة ما قبله عليه،لأنه إضمار، وكلام بغير إضمار أحسن من كلام بإضمار، وجعل الخبر اسم فاعل، لأنه يدل على الثبوت دون التجدد شيئاًشيئاً. والجعل: سواء كان بمعنى الخلق أو التصيير، وكان آدم هو الخليفة على أحسن الفهوم، لم يكن إلا مرةواحدة، فلا تكرر فيه، إذ لم يخلقه أو لم يصيره خليفة إلا مرة واحدة. وقوله: في الأرض: ظاهره الأرض كلها،وهو قول الجمهور. وقيل: أرض مكة. وروى ابن سابط هذا التفسير بأنها أرض مكة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليهوسلم، فإن صح ذلك لم يعدل عنه، قيل: ولذلك سمي وسطها بكة، لأن الأرض بكت من تحتها، واختصت بالذكر لأنهامقر من هلك قومه من الأنبياء، ودفن بها نوح وهود وصالح بين المقام والركن، وتكون الألف واللام فيها للعهد نحو:

{ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلاْرْضَ }

{ وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى ٱلاْرْضِ }

{ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلاْرْضِ }

، وقال الشاعر:

يقولون لي أرض الحجاز جديبة فقلت وما لي في سوى الأرض مطلب

وقرأ الجمهور: خليفة، بالفاء، ويحتمل أن يكون بمعنى الخالف، ويحتملأن يكون بمعنى المخلوف، وإذا كان بمعنى الفاعل كان معناه: القائم مقام غيره في الأمر الذي جعل إليه. والخليفة، قيل:هو آدم لأنه خليفة عن الملائكة الذين كانوا في الأرض، أو عن الجن بني الجان، أو عن إبليس في ملكالأرض، أو عن الله تعالى، وهو قول ابن مسعود وابن عباس. والأنبياء هم خلائف الله في أرضه، واقتصر على آدملأنه أبو الخلائف، كما اقتصر على مضر وتميم وقيس، والمراد القبيلة. وقيل: ولد آدم لأنه يخلف بعضهم بعضاً: إذا هلكتأمة خلفتها أخرى، قاله الحسن، فيكون مفرداً أُريد به الجمع، كما جاء:

{ وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ }

{ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاْرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }

. وقيل: الخليفة اسم لكل من انتقل إليه تدبير أهل الأرض والنظر في مصالحهم،كما أن كل من ولى الروم: قيصر، والفرس: كسرى، واليمن: تبع. وفي المستخلف فيه آدم قولان: أحدهما: الحكم بالحق والعدل.الثاني: عمارة الأرض، يزرع ويحصد ويبني ويجري الأنهار. وقرأ زيد بن علي وأبو البرهسم عمران: خليقة، بالقاف ومعناه واضح.وخطاب الله الملائكة بقوله: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً } أن كان للملائكة الذين حاربوا مع إبليس الجن، فيكون ذلكعاماً بأنه رافعهم إلى السماء ومستخلف في الأرض آدم وذريته. وروي ما يدل على ذلك عن ابن عباس، وهو ماملخصه: أن الله أسكن الملائكة السماء، والجن الأرض، فعبدوا دهراً طويلاً ثم أفسدوا وحسدوا، فاقتتلوا، فبعث الله إليهم جنداً منالملائكة رأسهم إبليس، وكان أشدهم وأعلمهم، فهبطوا الأرض وطردوا الجن إلى شعف الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوها، وخفف عنهمالعبادة، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنة، فكان يعبد تارة في الأرض وتارة في الجنة، فدخلهالعجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا إلا أني أكرم الملائكة عليه. فقال الله تعالى له ولجنوده: {إِنّي جَاعِلٌفِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً } بدلاً منكم ورافعكم إليّ، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة، وقالوا: {أَتَجْعَلُ } الآية. وإنكان الملائكة، جميع الملائكة. فسبب القول: إرادة الله أن يطلع الله الملائكة على ما في نفس إبليس من الكبر وأنيظهر ما سبق عليه في علمه. روي عن ابن عباس، وعن السدي، عن أشياخه: وأن يبلو طاعة الملائكة، قالهالحسن، أو أن يظهر عجزهم عن الإحاطة بعلمه، أو أن يعظم آدم بذكر الخلافة قبل وجوده، ليكونوا مطمئنين له إذاوحدوا، أو أن يعلمهم بخلقه ليسكن الأرض وإن كان ابتداء خلقه في السماء، وأن يعلمنا أن نشاور ذوي الأحلام مناوأرباب المعرفة إذ استشار الملائكة اعتباراً لهم، مع علمه بحقائق الأشياء، أو أن يتجاوز الخطاب بما ذكر فيحصل منهم الاعترافوالرجوع عما كانوا يظنون من كمال العلم، أو أن يظهر علو قدر آدم في العلم بقوله لآدم: {أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ }،أو أن يعلمنا الأدب معه وامتثال الأمر، عقلنا معناه أو لم نعقله، لتحصل بذلك الطاعة المحضة أو أن تطمئن قلوبالملائكة حين خلق الله النار فخافت وسألت: لمن خلقت هذا؟ قال: لمن عصاني. إذ لم يعلموا وجود خلق سواهم، قالهابن زيد. وقال بعض أهل الإشارة في قوله: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً }: سابق العناية، لا يؤثر فيه حدوثالجناية، ولا يحط عن رتبة الولاية، وذلك أنه تعالى نصب آدم خليفة عنه في أرضه مع علمه بما يحدث عنهمن مخالفة أمره التي أوجبت له الإخراج من دار الكرامة وأهبطه إلى الأرض التي هي محل الأكدار، ومع ذلك لميسلبه ما ألبسه من خلع كرامته، ولا حطه عن رتبة خلافته، بل أجزل له في العطية فقال:

{ ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } ، قال الشاعر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

كان عمر ينقل الطعام إلى الأصنام والله يحبه، قال الشاعر:

أتظنني من زلة أتعتب قلبي عليك أرق مما تحسب

ويقال إن الله سبحانه خلق ما خلق ولم يقل في شيء منها ما قالفي حديث آدم، حيث قال: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً }. فظاهر هذا الخطاب تنبيه لشرف خلق الجنان وما فيها،والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل: إني خالق عرشاً أو جنة أو ملكاً، وإنما قالذلك تشريفاً وتخصيصاً لآدم. قالوا تقدم أن الاختيار في العامل إذ هو، قالوا: ومعموله الجملة من قوله: أتجعل؟ ولما كانتالملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، لم يكن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا } الآية، إلا عن نبأ ومقدمة، فقيل: الهمزة،وإن كان أصلها للاستفهام، فهو قد صحبه معنى التعجب، قاله مكي وغيره، كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أومن يعصي من يستخلفه في أرضه. وقيل: هو استفهام على طريق الاستعظام، والإكبار للاستخلاف والعصيان. وقيل: هو استفهام معناه التقرير،قاله أبو عبيدة، قال الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح

وعلى هذهالأقوال يكون علمهم بذلك قد سبق، إما بإخبار من الله، أو بمشاهدة في اللوح، أو يكون ومخلوق غيرهم وهم معصومون،أو قالوا ذلك بطريق القياس على من سكن الأرض فأفسد قبل سكنى الملائكة، أو استنبطوا ذلك من لفظ خليفة، إذالخليفة من يكون نائباً في الحكم، وذلك يكون عند التظالم. وقيل: هو استفهام محض، قاله أحمد بن يحيـى، وقدره: أتجعلهذا الخليفة على طريقة من تقدّم من الجن أم لا؟ وفسره أبو الفضل التجلي: أي أم تجعل من لا يفسد،وقدره غيرهما، ونحن نسبح بحمدك، أم تتغير؟ فعلى الأقوال الثلاثة الأول لا معادل للاستفهام، لأنه مذهوب به مذهب التعجب أوالاستعظام أو التقرير. وعلى القول الرابع يكون المعادل مفعول أتجعل، وهو من يفسد. وعلى القول الخامس تكون المعادلة من الجملةالحالية التي هي قوله، ونحن نسبح بحمدك. وقرأ الجمهور: ويسفك بكسر الفاء ورفع الكاف. وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة:بضم الفاء. وقُرىء: ويسفك من أسفك ويسفك من سفك مشدّد الفاء. وقرأ ابن هرمز: ويسفك بنصب الكاف، فمن رفع الكافعطف على يفسد، ومن نصب فقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام، وهو تخريج حسن وذلك أن المنصوب في جوابالاستفهام أو غيره بعد الواو بإضمار أن يكون المعنى على الجمع، ولذلك تقدر الواو بمعنى مع، فإذا قلت: أتأتينا وتحدثناونصبت، كان المعنى على الجمع بين أن تأتينا وتحدثنا، أي ويكون منك إتيان مع حديث، وكذلك قوله:

أتبيت ريان الجفون من الكرى وأبيت منك بليلة الملسوع

معناه: أيكون منك مبيت ريان مع مبيتي منكبكذا، وكذلك هذا يكون منك جعل مفسد مع سفك الدماء. وقال أبو محمد بن عطية: النصب بواو الصرف قال: كأنهقال من يجمع أن يفسد وأن يسفك، انتهى كلامه. والنصب بواو الصرف ليس من مذاهب البصريين. ومعى واو الصرف: أنالفعل كان يستحق وجهاً من الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى النصب كقوله تعالى:

{ وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ } ، في قراءة من نصب، وكذلك: { وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } . فقياس الأول الرفع، وقياس الثاني الجزم، فصرفت الواو الفعلإلى النصب، فسميت واو الصرف، وهذا عند البصريين منصوب بإضمار أن بعد الواو. والعجب من ابن عطية أنه ذكر هذاالوجه أولاً وثنى بقول الهدوي، ثم قال: والأول أحسن. وكيف يكون أحسن وهو شيء لا يقول به البصريون وفساده مذكورفي علم النحو؟ ولما كانت الصلة يفسد، وهو فعل في سياق الإثبات، فلا يدل على التعميم في الفساد. نصوا علىأعظم الفساد، وهو سفك الدماء، لأنه به تلاشي الهياكل الجسمانية التي خلقها الله، ولو لم ينصوا عليه لجاز أن لايراد من قولهم: يفسد، وكرر فيها لأن في ذلك تنبيهاً على أن ما كان محلاً للعبادة وطاعة الله كيف يصيرمحلاً للفساد؟ كما مر مثله في قوله:

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ }

ولم يحتج إلى تكرير فيهابعد قوله: ويسفك، اكتفاء بما سبق وتنكباً أن يكرروا فيها ثلاث مرات. ألا ترى أنهم نقدوا على أبي الطيب قوله:

ونهب نفوس أهل النهب أولى بأهل النهب من نهب القماش

{وَنَحْنُ نُسَبّحُ }: جملةحالية، والتسبيح التنزيه، قاله قتادة: أو رفع الصوت بذكر الله تعالى، قاله المفضل: والخضوع والتذلل، قاله ابن الأنباري، أو الصلاة،أي نصلي لك، من المسبحين: أي من المصلين، قاله ابن مسعود وابن عباس، أو التعظيم، أي ونحن نعظمك، قاله مجاهد،أو تسبيح خاص، وهو: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العظمة والجبروت، سبحان الحيّ الذي لا يموت. ويعرف هذا بتسبيحالملائكة، أو بقول: سبحان الله وبحمده. وفي حديث عن عبادة بن الصامت، عن أبي ذر، أن النبي صلى اللهعليه وسلم سئل: أي الكلام أفضل قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده . {بِحَمْدِكَ }: في موضعالحال، والباء فيه للحال، أي نسبح ملتبسين بحمدك، كما تقول: جاء زيد بثبابه، وهي حال متداخلة لأنها حال في حال.وقيل: الباء للسبب، أي بسبب حمدك، والحمد هو الثناء، والثناء ناشيء عن التوفيق للخير والإنعام على المثنى، فنزل الناشىء عنالسبب منزلة السبب فقال: ونحن نسبح بحمدك، أي بتوفيقك وإنعامك، والحمد مصدر مضاف إلى المفعول نحو قوله: من دعاء الخير،أي بحمدنا إياك. والفاعل عند البصريين محذوف في باب الصمدر، وإن كان من قواعدهم أن الفاعل لا يحذف وليس ممنوعفي المصدر، كما ذهب إليه بعضهم، لأن أسماء الأجناس لا يضمر فيها، لأنه لا يضمر إلا فيما جرى مجرى الفعل،إذ الإضمار أصل في الفعل، ولا حاجة تدعو إلى أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، كما ذهب إليه بعضهم، وأن التقدير:ونحن نسبح ونقدس لك بحمدك، فاعترض بحمدك بين المعطوف والمعطوف عليه لأن التقديم والتأخير مما يختص بالضرورة، فلا يحمل كلامالله عليه، وإنما جاء بحمدك بعد نسبح لاختلاط التسبيح بالحمد. وجاء قوله بعد: {وَنُقَدّسُ لَكَ } كالتوكيد، لأن التقديس هو:التطهير، والتسبيح هو: التنزيه والتبرئة من السوء، فهما متقاربان في المعنى. ومعنى التقديس كما ذكرنا التطهير، ومفعوله أنفسنا لك منالأدناس، قاله الضحاك وغيره، أو أفعالنا من المعاصي، قاله أبو مسلم، أو المعنى: نكبرك ونعظمك. قاله مجاهد وأبو صالح، أونصلي لك، أو نتطهر من أعمالهم يعنون بني آدم. حكى ذلك عن ابن عباس، أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلىغيرك، واللام في لك زائدة، أي نقدّسك. وقيل: لام العلة متعلقة بتقدّس، قيل: أو بنسج وقيل: معدية للفعل، كهي فيسجدت لله، وقيل: اللام للبيان كاللام بعد سقياً لك، فتتعلق إذ ذاك بمحذوف دلّ عليه ما قبله، أي تقديسنا لك.والأحسن أن تكون معدية للفعل، كهي في قوله:

{ يُسَبّحُ لِلَّهِ }

{ وَسَبّحْ لِلَّهِ }

. وقد أبعد من ذهب إلىأن هذه الجملة من قوله: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ } استفهامية حذف منها أداة الاستفهام وأن التقدير، أو نحن نسبح بحمدك، أمنتغير، بحذف الهمزة من غير دليل، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول الهمزة عليها، وهي قوله: أم نتغير، وليس ذلك مثلقوله:

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا بسبع رمين الجمر أم بثمان

يريد: أبسبع،لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده يدلان على حذف الهمزة. ولما كان ظاهر قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنيُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ }، مما لا يناسب أن يجاوبوا به الله، إذ قال لهم:{إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً }. وكان من القواعد الشرعية والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض، لم يخالف فيذلك إلا طائفة من الحشوية. وهي مسألة يتكلم عليها في أصول الدين، ودلائلها مبسوطة هناك، احتاج أهل العلم إلى إخراجالآية السابقة عن ظاهرها وحملها كل قائل ممن تقدّم قوله على ما سبح له، وقوي عنده من التأويل الذي هوسائغ في علم اللسان. وقال بعض أهل الإشارات: الملائكة لما توهموا أن الله تعالى أقامهم في مقام المشورة بأن لهموجه المصلحة في بقاء الخلافة فيمن يسبح ويقدس، وأن لا ينقلها إلى من يفسد فيها ويسفك، فعرضوا ذلك على الله،وكان ذلك من جملة النصح في الاستشارة، والنصح في ذلك واجب على المستشار، ولله تعالى الحكم فيما يمضي من ذلكويختار. ومن أندر ما وقع في تأويل الآية ما ذهب إليه صاحب (كتاب فك الأزرار)، وهو الشيخ صفي الدينأبو عبد الله الحسين بن الوزير أبي الحسن علي بن أبي المنصور الخزرجي، قال: في كتاب ظاهر كلام الملائكة يشعربنوع من الاعتراض، وهم منزهون عن ذلك والبيان، أن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين، وكان إبليس مندرجاً فيجملتهم، فورد منهم الجواب مجملاً. فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه وظهورإبليسيته واستكباره، انفصل الجواب إلى نوعين: فنوع الاعتراض منهكان عن إبليس، وأنواع الطاعة والتسبيح والتقديس كان عن الملائكة. فانقسم الجواب إلى قسمين، كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كلجواب من ظهر عنه والله أعلم. انتهى كلامه. وهو تأويل حسن، وصار شبيهاً بقوله تعالى:

{ وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ تَهْتَدُواْ }

، لأن الجملة كلها مقولة، والقائل نوعان، فرد كل قول لمن ناسبة. وقيل في قوله: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُلَكَ }، إشارة إلى جواز التمدح إلى من له الحكم في التولية ممن يقصد الولاية، إذا أمن على نفسه الجوروالحيف، ورأى في ذلك مصلحة. ولذلك جاز ليوسف، على نبينا وعليه السلام، طلبه الولاية، ومدح نفسه بما فيها فقال:

{ ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ }

، قال: {إِنِي أَعْلَمُ }، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل: أو نكرةموصوفة، وقد تقدم: أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة. وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنااسماً بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب، لأن هذاالاسم لا ينصرف، وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل. والتقدير: أعلم منكم، وما منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم، أيعلمت، وأعلم ما لا تعلمون. وهذا القول فيه خروج عن الظاهر وادعاء حذفين: أحدهما: حذف المفضل عليه وهو منكم.والثاني: الفعل الناصب للموصول، وأما ما أجازه مكي فهو مبني على أمرين غير صحيحين. أحدهما: ادّعاء أن أفعل تأتي بمعنىفاعل، وهذا قال به أبو عبيدة من المتقدمين، وخالفه النحويون وردوا عليه قوله، وقالوا: لا يخلوا أفعل من التفضيل، وإنكان يوجد في كلام بعض المتأخرين أن أفعل قد يخلو من التفضيل، وبنوا على ذلك جواز مسألة يوسف أفضل إخوته،حتى أن بعضهم ذكر في جواز اقتياسه خلافاً، تسليماً منه أن ذلك مسموع من كلام العرب فقال: واستعماله عارياً دونمن مجرداً عن معنى التفضيل، مؤولاً باسم فاعل أو صفة مشبهة، مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على السماع، انتهىكلامه. والأمر الثاني: أنه إذا سلم وجود أفعل عارياً من معنى التفضيل، فهو يعمل عمل اسم الفاعل أم لا. والقائلونبوجود ذلك لا يقولون بإعماله عمل اسم الفاعل إلا بعضهم، فأجاز ذلك، والصحيح ما ذهب إليه النحويون المتقدمون من كونأفعل لا يخلو من التفضيل، ولا مبالاة بخلاف أبي عبيدة لأنه كان يضعف في النحو، ولا بخلاف بعض المتأخرين لأنهممسبوقون بما هو كالإجماع من المتقدمين، ولو سلمنا إسماع ذلك من العرب، فلا نسلم اقتياسه، لأن المواضع التي أوردت دليلاًعلى ذلك في غاية من القلة، مع أنها قد تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذلك، فلا نسلم كونه يعمل عمل اسمالفاعل. وكيف نثبت قانوناً كلياً ولم نسمع من العرب شيئاً من أفراد تركيباته لا يحفظ: هذا رجل أضرب عمراً، بمعنىضارب عمراً، ولا هذه امرأة أقتل خالداً، بمعنى قاتلة خالداً، ولا مررت برجل أكسى زيداً جبة، بمعنى: كاس زيداً جبة.وهل هذا إلا إحداث تراكيب لم تنطق العرب بشيء من نظيرها؟ فلا يجوز ذلك. وكيف يعدل في كتاب الله عنالشيء الظاهر الواضح من كون أعلم فعلاً مضارعاً إلى هذا الذي هو؟ كما رأيت في علم النحو، وإنما طولت فيهذه المسألة لأنهم يسلكون ذلك في مواضع من القرآن سيأتي بيانها، إن شاء الله تعالى، فينبغي أن يتجنب ذلك. ولأناستعمال أفعل عارية من معنى التفضيل مشهور عند بعض المتأخرين، فنبهت على ما في ذلك، والمسألة مستوفاة الدلائل. نذكر فيعلم النحو: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ } الذي مدح الله به نفسه من العلم دونهم علمه ما في نفس إبليس معالبغي والمعصية، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي عن أشياخه أو علمه بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة،أو علمه بمن يملأ جهنم من الجنة والناس، قاله ابن زيد؛ أو علمه بعواقب الأمور فيبتلي من تظنون أنه مطيعفيؤديه الابتلاء إلى المعصية، ومن تظنون أنه عاص فيؤديه الابتلاء إلى الطاعة فيطيع، قاله الزجاج، أو علمه بظواهر الأمور وباطنها،جليها ودقيقها، عاجلها وآجلها، صالحها وفاسدها، على اختلاف الأحوال والأزمان علماً حقيقياً، وأنتم لا تعلمون ذلك، أو علمه بغير اكتسابولا نظر ولا تدبر ولا فكر، وأنتم لا تعلمون المعلومات على هذا النسق. أو علمه بأن معهم إبليس، أو علمهباستعاظمكم أنفكم بالتسبيح والتقديس. والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أنه أخبرهم إذا تكلموا بالجملة السابقة التي هي أتجعل فيها بأنهيعلم ما لا تعلمونه. وأبهم في إخباره الأشياء التي يعلمها دونهم، فإذا كان كذلك، فإخباره بأنه يجعل في الأرض خليفةيقتضي التسليم له والرجوع إليه فيما أراد أن يفعله والرضا بذلك، لأن علمه محيط بما لا يحيط به علم عالم،جل الله وعز. والأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه من قوله، قال: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِيأَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضِ } الآية. {وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلاسْمَاء كُلَّهَا }: لما أخبر تعالى الملائكة عن وجه الحكمة فيخلق آدم وذريته على سبيل الإجمال، أراد أن يفصل، فبين لهم من فضل آدم ما لم يكن معلوماً لهم، وذلكبأن علمه الأسماء ليظهر فضله وقصورهم عنه في العلم، فتأكد الجواب الإجمالي بالتفضيل. ولا بد من تقدير جملة محذوفة قبلهذا، لأنه بها يتم المعنى ويصح هذا العطف، وهي: فجعل في الأرض خليفة. ولما كان لفظ الخليفة محذوفاً مع الجملةالمقدرة، أبرزه في قوله: {وَعَلَّمَ ءادَمَ }، ناصاً عليه ومنوهاً بذكره باسمه. وأبعد من زعم أن: {وَعَلَّمَ ءادَمَ } معطوفعلى قوله، قال من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ }. وهل التعليم بتكليم الله تعالى له فيالسماء، كما كلم موسى في الأرض، أو بوساطة ملك أو بالإلهام؟ أقوال أظهرها أن الباري تعالى هو المعلم، لا بواسطةولا إلهام. وقرأ اليماني ويزيد اليزيدي: وعلم آدم مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به والتضعيف في علم للتعدية، إذ كانقبل التضعيف يتعدى لواحد، فعدى به إلى اثنين. وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر فيه على مورد السماع، سواء كانالفعل قبل التضعيف لازماً أم كان متعدياً، نحو: علم المتعدية إلى واحد. وأما إن كان متعدياً إلى اثنين، فلا يحفظفي شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث. وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح الملحة له أنعلم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف متعدية إلى ثلاثة، ولا يحفظ ذلك من كلامهم.وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف. قال الإمام أبو الحسين بن أبي الربيع في (كتاب التلخيص) من تأليفه:الظاهر من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم، وفيما علمه أقوال: أسماء جميع المخلوقات، قاله ابن نعباسوابن جبير ومجاهد وقتادة، أو اسم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزى إلى ابن عباس، وهو قريب منالأول، أو جميع اللغات، ثم كلم كل واحد من بنيه بلغة فتفرقوا في البلاد، واختص كل فرقة بلغة أو كلمةواحدة تفرع منها جميع اللغات، أو أسماء النجوم فقط، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، أو أسماء الملائكة فقط، قاله الربيعبن خيثم، أو أسماء ذريته، قاله الربيع بن زيد، أو أسماء ذريته والملائكة، قاله الطبري واختاره؛ أو أسماء الأجناس التيخلقها، علماً أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بهامن المنافع الدينية والدنيوية، واختاره الزمخشري، أو أسماء ما خلق في الأرض، قاله ابن قتيبة، أو الأسماء بلغة ثم وقعالاصطلاح من ذريته في سواها، أو علمه كل شيء حتى نحو سيبويه، قاله أبو علي الفارسي، أو أسماء الله عزوجل، قاله الحكيم الترمذي، أو أسماء من أسمائه المخزونة، فعلم بها جميع الأسماء، قاله الجريري، أو التسميات. ومعنى هذا علمهأن يسمي الأشياء، وليس المعنى علمه الأسماء، لأن التسمية غير الاسم، قاله الجمهور، وحالة تعليمه تعالى آدم، هل عرض عليهالمسميات أو وصفها له ولم يعرضها عليه قولان: قال بعض من عاصرناه: المختار أسماء ذريته، وعرفه العاصي والمطيع ليعرف الملائكةبأسمائهم وأفعالهم رداً عليهم قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }، الأسماء كلها يحتمل أسماء المسميات، فحذف المضاف إليه لدلالةالأسماء عليه. قال الزمخشري: وعوض منه اللام كقوله:

{ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً }

، انتهى. وقد تقدم لنا أن اللام عوضمن الإضافة ليس مذهب البصريين، ويحتمل أن يكون التقدير مسميات، الأسماء، فحذف المضاف وقيم المضاف إليه مقامه، ويترجح الأول، وهوتعليق التعليم بالأسماء تعلق الأنباء به في قوله: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَـؤُلاء }، والآية التي بعدها، ولم يقل: أنبئوني بهؤلاء، ولاأنبئهم بهم. ويترجح الثاني بقوله، ثم عرضهم إذا حمل على ظاهره، لأن الأسماء لا تجمع كذلك، فدل على عوده علىالمسميات نحو قوله تعالى:

{ أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـٰهُ }

، التقدير: أو كذي ظلمات، فعاد الضمير من يغشاه علىذي المحذوفة، القائم مقامها في الإعراب ظلمات. والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الله علم آدم الأسماء ولم يبين لناأسماء مخصوصة، بل دل قوله تعالى: {كُلَّهَا } على الشمول، والحكمة حاصلة بتعليم الأسماء، وإن لم تعلم مسمياتها. ويحتمل أنيريد بالأسماء المسميات، فيكون من إطلاق اللفظ ويراد به مدلوله. {ثُمَّ عَرَضَهُمْ }: ثم: حرف تراخ، ومهلة علم آدمثم أمهله من ذلك الوقت إلى أن قال: {أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } ليتقرر ذلك في قلبه ويتحقق المعلوم ثم أخبره عماتحقق به واستيقنه. وأما الملائكة فقال لهم على وجه التعقيب دون مهلة {أَنبِئُونِى }، فلما لم يتقدم لهم تعريف لميخبروا، ولما تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر ونطق إظهاراً لعنايته السابقة به سبحانه. عرضهم خلقهم وعرضهم عليهم، قاله ابن مسعود،أو صورهم لقلوب الملائكة، أو عرضهم وهم كالذر، أو عرض الأسماء، قاله ابن عباس، وفيه جمعها بلفظة هم. والظاهر أنضمير النصب في عرضهم يعود على المسميات، وظاهره أنه للعقلاء، فيكون إذ ذاك المعنى بالأسماء أسماء العاقلين، أو يكون فيهمغير العقلاء، وغلب العقلاء. وقرأ أبي ثم عرضها. وقرأ عبد الله ثم عرضهن، والضمير عائد على الأسماء، فتكون هي المعروضة،أو يكون التقدير مسمياتها، فيكون المعروض المسميات لا الأسماء. {عَلَى ٱلْمَلَـٰئِكَةِ }: ظاهره العموم، فقيل: هو مراد، وقيل: الملائكة الذينكانوا مع إبليس في الأرض. {فَقَالَ }: الفاء: للتعقيب، ولم يتخلل بين العرض والأمر مهلة بحيث يقع فيها تروّ أوفكر، وذلك أجدر بعدم الإضافة. {أَنبِئُونِى }: أمر تعجيز لا تكليف. وقرأ الأعمش: أنبوني، بغير همز، وقد استدل بقوله: أنبئونيعلى جواز تكليف ما لا يطاق، وهو استدلال ضعيف، لأنه على سبيل التبكيت، ويدل عليه: {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }. {بِأَسْمَاءهَـؤُلاء }: ظاهره حضور أشخاص حالة العرض على الملائكة، ومن قال: إن المعروض إنما هي أسماء فقط، جعل الإشارة إلىأشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب وذلك أسماؤها وكأنه قال لهم: في كل اسم لأيشخص هذا الإسم، وهذا فيه بعد وتكلف وخروج عن الظاهر بغير داعية إلى ذلك. {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }: شرطجوابه محذوف تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبؤني السابق هو الجواب، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين، وخالفالكوفيون وأبو زيد وأبو العباس، فزعموا أن جواب الشرط هو المتقدّم في نحو هذه المسألة، هذا هو النقل المحقق، وقدوهم المهدوي، وتبعه ابن عطية، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند المبرد، التقدير: فأنبئوني، إلا إن كانا اطلعا على نقلآخر غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس، فيحتمل. وكذلك وهم ابن عطية وغيره، فزعما أنّ مذهب سيبويه تقديمالجواب على الشرط، وأن قوله: أنبئوني المتقدم هو الجواب. والصدق هنا هو الصواب، أي إن كنتم مصيبين، كما يطلق الكذبعلى الخطأ، كذلك يطلق الصدق على الصواب. ومتعلق الصدق فيه أقوال:

{ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }

، إني لا أخلق خلقاً، لاكنتم أعلم منه، لأنه هجس في أنفسهم أنهم أعلم من غيرهم، أو فيما زعمتم أن خلفائي يفسدون في الأرض، أوفيما وقع في نفوسكم أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه، أو بأمور من أستخلفهم بعدكم، أو إني إناستخلفتكم فيها سبحتموني وقدّستموني، وإن استخلفت غيركم فيها عصاني، أو في قولكم: إنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلاوأنتم تصلحون له وتقومون به، قاله ابن مسعود وابن عباس، أو في ذلك أنباء، وجواب السؤال بالأسماء، روي أن الملائكةحين خلق الله آدم قالت: يخلق ربنا ما شاء، فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه. فأراد أن يريهممن علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا، قالوا: ولقوله إن كنتم صادقين، لم يجز لهم الاجتهاد، إذ لو لم يقيدبالصدق، وهو الإصابة، لجاز الاجتهاد، كما جاز للذي قال له: كم لبثت؟ ولم يشرط عليه الإصابة فلم يصب ولم يعنف.وأبعد من ذهب إلى أن الصدق هنا ضد الكذب المتعارف لعصمة الملائكة، كما أبعد من جعل إن بمعنى إذ، فأخرجهاعن الشرطية إلى الظرفية. وإذا التقت همزتان مكسورتان من كلمتين نحو: هؤلاء إن كنتم، فورش وقنبل يبدلان الثانية ياء ممدودة،إلا أن ورشاً في: هؤلاء إن كنتم، وعلى البغاء إن أردن، يجعل الياء مكسورة، وقالون والبزي يلينان الأولى ويحققان الثانية،وعنهما في بالسوء إلا وجوه: أحدها: هذا الأصل الذي تقرر لهما. الثاني: إبدال الهمزة الأولى واواً مكسورة وإدغام الواو الساكنةقبلها فيها وتحقيق الثانية. الثالث: إبدال الهمزة الأولى ياء، نحو: بالسوي. الرابع: إبدالها واواً من غير إدغام، نحو: السوو. وقرأأبو عمرو: بحذف الأولى، وقرأ الكوفيون وابن عامر: بتحقيق الهمزتين. { قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا }: أي تنزيهكعن الادعاء وعن الاعتراض. وقيل: معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه لفظ تثنية، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك، ومعناه:تلبية بعد تلبية. وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحاً، وأنه لا يكون منصوباً بل مرفوعاً، وأنه لمتسقط النون للإضافة، وأنه التزم فتحها. والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه. وأجاز بعضهم أن يكون فاعلاً، لأن المعنىتتزهت. وقد ذكرنا، حين تكملنا على المفردات، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه واجب الحذف. وزعم الكسائي أنهمنادي مضاف، ويبطله أنه لا يحفظ دخول حرف النداء عليه، ولو كان منادى لجاز دخول حول حرف النداء عليه، ونقللنا. ولما سأل تعالى الملائكة، ولم يكن عندهم علم بالجواب، وكانوا قد سبق منهم قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} الآية، أرادوا أن يجيبوا بعدم العلم إلا ما علمهم، فقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله اعتذاراً وأدباً منهم فيالجواب، وإشعاراً بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى، فقالوا: سبحانك، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لاالتي بنيت معها النكرة، فاستغرف كل فرد من أنواع العلوم، ثم استثنوا من ذلك ما علمهم هو تعالى، فقالوا: {إِلاَّمَا عَلَّمْتَنَا }، وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول لله تعالى. قال أبو عثمان المغربي: مابلاء الخلق إلا الدعاوى. ا ترى أن الملائكة لما قالوا: ونحن نسبح بحمدك، كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا: لاعلم لنا؟ وروي معنى هذا الكلام عن جعفر الصادق، وخبر: لا علم، في الجار والمجرور. وتقدم لنا الكلام في لاريب فيه، ولا علم مثله، فأغنى عن إعادته. وما موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، والأولى أنتكون في موضع رفع على البدل. وحكى ابن عطية في عن الزهراوي: أن موضع ما من قولهم: ما علمتنا، نصببعلمتنا، وهذا غير معقول. ألا ترى أن ما موصولة، وأن الصلة: علمتنا، وأن الصلة لا تعمل في الموصول ولكن يتكلفبه وجه وهو أن يكون استثناء منقطعاً فيكون معنى إلا: لكن، على التقدير الذي استقر في الاستثناء المنقطع، وتكون ماشرطية منصوبة بعلمتنا، ويكون الجواب محذوفاً كأنهم نفوا أولاً سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل، أي شيء علمهم علموه،ويكون هذا أبلغ في ترك الدعوى، إذ محوا أنفسهم من سائر العلوم ونفوا جميعها، فلم يستثنوا لهم شيئاً سابقاً ماضياًتحلوا به، بل صاروا إلى الجهل الصرف والتبري من كل علم. وهذا الوجه ينافي ما روي أنه كان أعلمهم تعالى،أو علموا باطلاع من اللوح بأنه سيكون في الأرض من يفسد ويسفك، فإذا صح هذا كانوا قد بالغوا في نفيكل علم عنهم، وجعلوا هذا العلم الخاص كالمعدوم، ومن اعتقد أن الملائكة غير معصومين جعل قولهم، لا علم لنا توبة،ومن اعتقد بعصمتهم قال: قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون إلا ما علموا، أو قالوا: {أَتَجْعَلُفِيهَا } الآية، لأنه أعلمهم بذلك، وأما الأسماء فكيف يعلمونها وما أعلمهم ذلك؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه للهتعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه، ثم أردفوا الوصف بالعلم، الوصف بالحكمة، لأنه سبق قوله: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِخَلِيفَةً }. فلما صدر من هذا المجعول خليفة، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله: وجعلهخليفة. فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه الله، ثم اعترفوا بالجهل، ثم نسبوا إلى اللهالعلم والحكمة، وناسب تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة، لأنه المتصل به في قوله: {وَعَلَّمَ }، {أَنبِئُونِى }، {لاَ عِلْمَلَنَا }. فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة هو ، فناسب ذكره متصلاً به، ولأن الحكمة إنما هي آثار وناشئةعنه، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة. ولأن يكون آخر مقالهم مخالفاً لأوله حتىيبين رجوعهم عن قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا }، وعلى القول بأن الحكيم هو ذو الحكمة، يكون الحكيم صفة ذات، وعلى القولبأنه المحكم لصنعته يكون صفة فعل. وأنت: يحتمل أن يكون توكيداً للضمير، فيكون في موضع نصب، أو مبتدأ فيكون فيموضع رفع، والعليم مخبره، أو فضلاً فلا يكون له موضع من الإعراب، على رأي البصريين، ويكون له موضع من الإعرابعلى رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده، والأحسن أن يحمل العليمالحكيم على العموم، وقد خصه بعضهم فقال: العليم بما أمرت ونهيت، الحكيم فيما قدرت وقضيت. وقال آخر: العليم بالسر والعلانية،والحكيم فيما يفعله وهو قريب من الأول. {قَالَ يَـاءادَمُ * ءادَمَ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ }: نادى آدم باسمه العلم، وهيعادة الله مع أنبيائه، قال تعالى:

{ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مّنَّا }

{ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ }

{ يٰإِبْرٰهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَا }

{ يٰمُوسَىٰ إِنّى أَنَا ٱللَّهُ }

{ ُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ }

، ونادى محمداًنبينا وعلى سائر الأنبياء بالوصف الشريف من الإرسال والإنباء فقال:

{ يا أيها ٱلرَّسُولَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ }

. فانظر تفاوت ما بين هذا النداء وذاك النداء، والضمير في أنبئهم عائد إلى الملائكة، وفي بأسمائهم عائد على المعروضينعلى الخلاف السابق. قال القشيري: من آثار العناية بآدم عليه السلام لما قال للملائكة: أنبئوني، داخلهم من هيبة الخطاب ماأخذهم عنهم، لا سيما حين طالبهم بإنبائهم إياه ما لم تحط بهم علمومهم. ولما كان حديث آدم رده في الإنباءإليهم فقال: {أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ }، ومخاطبة آدم للملائكة لم توجب الاستغراق في الهيبة. فلما أخبرهم آدم عليه السلام بأسماء ماتقاصرت عنه علومهم، ظهرت فضيلته عليهم فقال: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ }، يعني ما تقاصرت عنه علومالخلق وأعلم ما تبدون من الطاعات وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم. انتهى كلام القشيري. والجملة المفتتحة بالقول إذاكانت مرتباً بعضها على بعض في المعنى، فالأصح في لسان العرب أنها لا يؤتى فيها بحرف ترتب، اكتفاء بالتريب المعنوي،نحو قوله تعالى: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا }، أتى بعده، {قَالَ إِنّي أَعْلَمُ }، ونحو: {قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ }، {قَالَ يَـاءادَمُ *ءادَمَ أَنبِئْهُم }، ونحو:

{ قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ }

{ قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ }

، {قَالَ كَمْ لَبِثْتَقَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }،

{ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ }

، {قَالَ أو لَّمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِنلّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى }،

{ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ }

. وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك عشرون موضعاً في قصةموسى، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، في إرساله إلى فرعون ومحاورته معه، ومحاورة السحرة، إلى آخر القصة، دون ثلاثة،جاء منها اثنان جواباً وواحد كالجواب، ونحو هذا في القرآن كثير. وقرأ الجمهور: أنبئهم بالهمز وضم الهاء، وهذا الأصل كماتقول: أكرمهم. وروي عن ابن عباس: أنبئهم بالهمز وكسر الهاء، ووجهه أنه أتبع حركة الهاء لحركة الباء، ولم يعتد بالهمزةلأنها ساكنة، فهي حاجز غير حصين. وقرىء: أنبيهم، بإبدال الهمزة وكسر الهاء. وقرأ الحسن والأعرج وابن كثير من طريق القواس:أنبهم، على وزن أعطهم، قال ابن جني: هذا على إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول: أنبيت، كأعطيت، قال: وهذا ضعيففي اللغة لأنه بدل لا تخفيف. والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. انتهى كلام أبي الفتح. وما ذكرمن أنه لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ليس بصحيح. حكى الأخفش في الأوسط: أن العرب تحول من الهمزةموضع اللام ياء، فيقولون: قريت، وأخطيت، وتوضيت، قال: وربما حولوه إلى الواو، وهو قليل، نحو: رفوت، والجيد: رفأت، ولم أسمع:رفيت. انتهى كلام الأخفش. ودل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر، كما ذكر أبو الفتح، وهو قوله تعالى: {أَنبِئْهُمبِأَسْمَائِهِمْ }. وقوله: {فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم }: جملة محذوفة، التقدير: فأنبئهم بها، فلما أنبأهم حذفت لفهم المعنى، وفي قوله: أنبئوني،فلما أنبأهم تنبيه على إعلام الله أنه قد أعلم الله أنه قد أعلم آدم من أحوالهم ما لم يعلمهم منحاله، لأنهم رأوه قبل النفخ مصوراً، فلم يعلموا ما هو، وعلى أنه رفع درجة آدم عندهم، لكونه قد علم لآدمما لم يعلمهم، وعلى إقامته مقام المفيد المعلم، وإقامتهم مقام المستفيدين منه، لأنه أمره أن يعلمهم أسماء الذين عرضهم عليهموعلى أدبهم على ترك الأدب من حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا }، فإن الطواعية المحضة ويكونوا مع عدم العلم بالحكمة فيماأمروا به، وعدم الاطلاع على ذلك الأمر ومصلحته ومفسدته كهم مع العلم والاطلاع. وكان الامتثال والتسليم، بغير تعجب ولا استفهام،أليق بمقامهم لطهارة ذواتهم وكمال صفاتهم. وفي كتاب بعض من عاصرناه، قالت المعتزلة: ظهر من آدم عليه السلام فيعلمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته في ذلك الوقت، والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حواء، ولا يبعد أن يكون أيضاًمبعوثاً إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة، لأن جميعهم، وإن كانوا رسلاً، فقد يجوز الإرسال إلى الرسول، كبعثه إبراهيمعليه السلام إلى لوط عليه السلام، واحتجوا بكونه ناقضاً للعادة. ولقائل أن يقول: حصول العلم باللغة لمن علمه الله وعدمحصوله لمن لم يعلم ليس بناقض للعادة. وأيضاً، فالملائكة أما إن علموا وضع تلك الأسماء للمسميات فلا مزية أو لا،فكيف علموا إصابته في ذلك؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنه ربما يكون لكل صنف منهم لغة، ثم حضر جميعهم فعرفكل صنف إصابته في تلك اللغة، إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفتها بأسرها. الثاني: أن الله عرفهم الدليل على صدقه،ولم لا يكون من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ واحتج من قال: لم يكن نبياً، بوجوه: أحدها: صدور المعصيةعنه بعد، وذلك غير جائز على النبي. وثانيها: أنه لو كان مبعوثاً لكان إلى أحد، لأن المقصود منه التبليغ، وذلكلا يكون الملائكة، لأنهم أفضل، ولا حوّاء، لأنها مخاطبة بلا واسطة بقوله: {وَلاَ تَقْرَبَا }، ولا الجن، لأنهم لم يكونوافي السماء. وثالثها: قوله: {ثُمَّ ٱجْتَبَـٰهُ }، وهذا يدل على أن الاجتباء كان بعد الزلة، والنبي لا بد أن يكونمجتبى وقت كونه نبياً. {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ }؛ جواب فلما، وقد تقدّم ذكر الخلاف في لما المقتضية للجواب،أي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول وذكرنا أنه مذهب سيبويه. وألم: أقل تقرير، لأن الهمزة إذا دخلت على النفي كانالكلام في كثير من المواضع تقريراً نحو قوله تعالى:

{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ }

{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }

{ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً }

؟ ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو: ووضعنا، ولبثت، ولكم فيه، تنبيههم بالخطاب وهزهم لسماع المقول، نحو قوله:

{ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً }

نبهه في الثانية بالخطاب. وقد تقدم أن اللام في نحو: قلتلك، أو لزيد، للتبليغ، وهو أحد المعاني التي ذكرناها فيها. {إِنِي أَعْلَمُ }: ياء المتكلم المتحرك ما قبلها، إذا لقيتهمزة القطع المفتوحة، جاز فيها وجهان: التحريك والإسكان، وقرىء بالوجهين في السبعة، على اختلاف بينهم في بعض ذلك، وتفصيل ذلكمذكور في كتب القراءات. وسكنوا في السبعة إجماعاً تفتني ألا،

{ أَرِنِى أَنظُرْ }

{ فَٱتَّبِعْنِى أَهْدِكَ }

{ وَتَرْحَمْنِى أَكُن }

، ولايظهر بشيء من اختلافهم واتفاقهم علة إلا اتباع الرواية. والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوباً أو مجروراً جازهنا، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا. وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه: قال المهدوي: ويجوزأن يكون قوله: أعلم اسماً بمعنى التفضيل في العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: وإذا قدرالأول اسماً، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب، تقديره: إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلاًمضارعاً أخصر وأبلغ. انتهى. وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم. والذي ذكر المهدوي في تفسيره ما نصه: {وَأَعْلَمُ مَاتُبْدُونَ }، يجوز أن ينتصب ما بأعلم على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون ما جراً بالإضافة،ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم وتنصب ما به، فيكون بمعنى حواج بيت الله، انتهى. فأنتترى أنه لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب، وتكون أفعل اسماً إلا إذاكان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكونأعلم أفعل بمعنى التفضيل، وخفض ما بالإضافة ألبتة. {غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضِ }: تقدم الكلام على هذه الألفاظ الثلاثة، واختلففي الغيب هنا، فقيل: غيب السموات: كل آدم وحواء من الشجرة، لأنها أول معصية وقعت في السماء، وغيب الأرض: قتلقابيل هابيل، لأنها أول معصية كانت في الأرض. وقيل: غيب السموات ما قضاه من أمور خلقه، وغيب الأرض ما فعلوهفيها بعد القضاء. وقيل: غيب السموات ما غاب عن ملائكته المقربين وحملة عرشه مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوتالأعلى، وغيب الأرض ما أخفاه عن أنبيائه وأصفيائه من أسرار ملكوته الأدنى وأمور الآخرة الأولى. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَاكُنتُمْ تَكْتُمُونَ } قال علي وابن مسعود وابن عباس، رضوان الله عليهم أجمعين: ما تبدون: الضمير للملائكة، وما كنتم تكتمون:يعني إبليس. فيكون من خطاب الجمع، ويراد به الواحد نحو:

{ إَنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ }

. وروي أن إبليس مرّ على جسدآدم بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح فقال: لأمر مّا خلق هذا، ثم دخل من فيه وخرج مندبره وقال: إنه خلق لا يتمالك لأنه أجوف، ثم قال للملائكة الذين معه: أرأيتم إن فضل هذا عليكم وأمرتم بطاعتهما تصنعون؟ قالوا: نطيع الله، فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلّطت عليه لأهلكنه، ولئن سلّط علي لأعصينه، فهذا قولهتعالى: {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } الآية، يعني: من قول الملائكة وكتم إبليس. وقال الحسن وقتادة: ما أبدوه هو قولهم: {أَتَجْعَلُفِيهَا * وَمَا * يُفْلِحُ ٱلْكَـٰفِرُونَ * وَقُل رَّبّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرحِمِينَ * سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا وَفَرَضْنَـٰهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا}، وما كتموه أضمروه من الطاعة لله والسجود لآدم. وقيل: ما أبدوه هو الإقرار بالعجز، وما كتموه الكراهية لاستخلاف آدمعليه السلام. وقيل: هو عام فيما أبدوه وما كتموه من كل أمورهم، وهذا هو الظاهر. وأبرز الفعل في قوله: {وَٱعْلَمْ} ليكون متعلقه جملة مقصودة بالعامل، فلا يكون معمولها مندرجاً تحت الجملة الأولى، وهو يدل على الاهتمام بالإخبار، إذ جعلمفرداً بعامل غير العامل، وعطف قوله {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } هو من باب الترقي في الإخبار، لأن علم الله تعالىواحد لا تفاوت فيه بالنسبة إلى شيء من معلوماته، جهراً كان أو سراً، ووصل ما بكنتم يدل على أن الكتموقع فيما مضى، وليس المعنى أنهم كتموا عن الله لأن الملائكة أعرف بالله وأعلم، فلا يكتمون الله شيئاً، وإنما المعنىأنه هجس في أنفسهم شيء لم يظهره بعضهم لبعض، ولا أطلعه عليه، وإن كان المعنى إبليس، فقد تقدم أنه قالفي نفسه: ما حكيناه قيل عنه، فكتم ذلك عن الملائكة. وقد تضمن آخر هذه الآية من علم البديع الطباق وهوقوله: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }.

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }[عدل]

قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَٱلْكَـٰفِرِينَ } السجود: التذلل والخضوع، وقال ابن السكيت: هو الميل، وقال بعضهم: سجد وضع جبهته بالأرض، وأسجد: ميل رأسه وانحنى،وقال الشاعر:

تـرى ألا كـم فيهـا سجـداً للحوافـر

يريد أن الحوافر تطأ الأكم، فجعل تأثر الأكم للحوافر سجوداً مجازاً، وقالآخر:

كمــا سجــدت نصـرانـة لــم تحنـف

وقال آخر:

سجـــود النصــارى لأحبـــارهـــا

يريد الإنحناء. إبليس: اسم أعجميّ منع الصرف للعجمةوالعلمية، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، ووزنهعلى هذا، فعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية، واعتذر من قالبالاشتقاق فيه عن منع الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، وردّ بإغريض، وإزميل، وإخريط، وإجفيل، وإعليط، وإصليت، وإحليل، وإكليل،وإحريض. وقد قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، وشبه العجمة، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقاً من الإبلاسفإنه لم يسم به أحد من العرب، فصار خاصاً بمن أطلقه الله عليه، فكأنه دليل في لسانهم، وهو علم مرتجل.وقد روي اشتقاقه من الإيلاس عن ابن عباس والسدي، وما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال الشاعر:

وأما أن تقولوا قد أبينا فشرّ مواطن الحسب الإباء

والفعل منه: أبي يأبى، ولما جاء مضارعه على يفعلبفتح العين وليس بقياس أمرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبىٰ بكسر حرف المضارعة، وقد سمع فيه أبيبكسر العين فيكون يأبىٰ على هذه اللغة قياساً، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة. وقد زعم أبوالقاسم السعدي أن أبىٰ يأتي بفتح العين لا خلاف فيه، وليس بصحيح، فقد حكى أبىٰ بكسر العين صاحب المحكم. وقدجاء يفعل في أربعة عشر فعلاً وماضيها فعل، وليست عينه ولا لامه حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضاً فعل بكسرالعين، وفي بعض مضارعها سمع أيضاً يفعل ويفعل بكسر العين وضمها، ذكرها التصريفيون. الاستكبار والتكبر: وهو مما جاء فيه استفعلبمعنى تفعل، وهو أحد المعاني الإثنى عشر التي جاءت لها استفعل، وهي مذكورة في شرح نستعين. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِٱسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، ومناسبة هذه الآيةلما قبلها أن الله تعالى لما شرف آدم بفضيلة العلم وجعله معلماً للملائكة وهم مستفيدون منه مع قولهم السابق: {أَتَجْعَلُفِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء }. أراد الله أن يكرم هذا الذي استخلفه بأن يسجد له ملائكته، ليظهر بذلكمزية العلم على مزية العبادة. قال الطبري: قصة إبليس تقريع لمن أشبهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد، مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم. وإذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها.وقيل: العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل: هي معطوفة على ما قبلها، يعني قوله: {وَإِذْ قَالَتْ * رَبَّكَ}، ويضعف الأول بأن الأسماءلا تزاد، والثاني أنها لازم ظرفيتها، والثالث لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذالأولى في إذ هذه. وقيل: العامل فيها أبى، ويحتمل عندي أن يكون العامل في إذ محذوف دل عليه قوله: {فَسَجَدُواْ}، تقديره: انقادوا وأطاعوا، لأن السجود كان ناشئاً عن الانقياد للأمر. وفي قوله: {قُلْنَا } التفات، وهو من أنواع البديع،إذ كان ما قبل هذه الآية قد أخبر عن الله بصورة الغائب، ثم انتقل إلى ضمير المتكلم، {وَءاتَى * بِنَا} التي تدل على التعظيم وعلوّ القدرة وتنزيله منزلة الجمع، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة. وحكمة هذا الالتفات وكونهبنون المعظم نفسه أنه صدر منه الأمر للملائكة بالسجود، ووجب عليهم الامتثال، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم،لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورودما صدر من المعظم. وقد جاء في القرآن نظائر لهذا، منها:

{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ٱسْكُنْ }

{ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ }

{ قُلْنَا يٰنَّار كُونِى بَرْداً } ، وقلنا من بعده لبني إسرائيل:

{ ٱسْكُنُواْ ٱلاْرْضَ }

{ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ }

{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ } . فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه، لأن الآمر اقتضى الاستعلاء علىالمأمور، فظهر للمأمور بصفة العظمة، ولا أعظم من الله تعالى، والمأمورون بالسجود، قال السدي: عامة الملائكة. وقال ابن عباس: الملائكةالذين يحكمون في الأرض. وقرأ الجمهور: للملائكة بجر التاء. وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وسليمان بن مهران: بضم التاء،اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة. قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، وقال ابنجني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناًصحيحاً نحو:

{ وَقَالَتِ ٱخْرُجْ } . وقال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم: {ٱلْحَمْدُللَّهِ }، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة، وقد نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارىءبها ولا يغلط، والقارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا القرآن عرضاً عن عبد الله بن عباس وغيرهمن الصحابة، وهو شيخ نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علل ضم التاء لشبهها بألف الوصل، ووجه الشبهأن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل. ألا تراهم قالوا: الملائك؟وقيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها. {وَٱسْجُدُواْ }: أمر، وتقتضي هذه الصيغة طلب إيقاع الفعل فيالزمان المطلق استقباله، ولا تدل بالوضع على الفور، وهذا مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر بن الطيب، واختاره الغزالي والرازي خلافاًللماليكة من أهل بغداد، وأبي حنيفة ومتبعيه. وهذه مسألة يبحث فيها في أصول الفقه، وهذ الخلاف إنما هو حيث لاتدل قرينة على فور أو تأخير. وأما هنا فالعطف بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة، فتكون الملائكةقد فهموا الفور من شيء آخر غير موضوع اللفظ، فلذلك بادروا بالفعل ولم يتأخروا. والسجود المأمور به والمفعول إيماء وخضوع،قاله الجمهور، أو وضع الجبهة على الأرض مع التذلل، أو إقرارهم له بالفضل واعترافهم له بالمزية، وهذا يرجع إلى معنىالسجود اللغوي، قال: فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك. {لاِدَمَ }: من قال بالسجود الشرعي قال: كان السجودتكرمة وتحية له، وهو قول الجمهور: علي وابن مسعود وابن عباس، كسجود أبوي يوسف، لا سجود عبادة، أو لله تعالى،ونصبه الله قبلة لسجودهم كالكعبة، فيكون المعنى إلى آدم، قاله الشعبي، أو لله تعالى، فسجد وسجدوا مؤتمين به، وشرفه بأنجعله إماماً يقتدون به. والمعنى في: {لاِدَمَ } أي مع آدم. وقال قوم: إنما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم قبلأن يخلقه، فالسجود امتثال لأمر الله، والسجود له، قاله مقاتل، والقرآن يرد هذا القول. وقال قوم: كان سجود الملائكة مرتين.قيل: والإجماع يرد هذا القول، والظاهر أن السجود هو بالجبهة لقوله: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـٰجِدِينَ } . وقيل: لا دليل في ذلك، لأن الجاثي على ركبتيه واقع، وأن السجود كان لآدم على سبيل التكرمة، وقال بعضهم:السجود لله بوضع الجبهة، وللبشر بالانحناء، انتهى. ويجوز أن يكون السجود في ذلك الوقت للبشر غير محرم، وقد نقل أنالسجود كان في شريعة من قبلنا هو التحية، ونسخ ذلك في الإسلام. وقيل: كان السجود لغير الله جائزاً إلى زمنيعقوب، ثم نسخ، وقال الأكثرون: لم ينسخ إلى عصر رسول الله . وروي أنه صلى الله عليهوسلم قال في حديث عرض عليه الصحابة أن يسجدوا له: لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين ،وأن معاذاً سجد للنبي فنهاه عن ذلك. قال ابن عطاء: لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجودلغيره ليريهم بذلك استغناءه عنهم وعن عبادتهم. {فَسَجَدُواْ }، ثم: محذوف تقديره: فسجدوا له، أي لآدم. دل عليه قول:{ٱسْجُدُواْ لاِدَمَ }، واللام في لآدم للتبيين، وهو أحد المعاني السبعة عشر التي ذكرناها عند شرح {ٱلْحَمْدُ للَّهِ }. {إِلاَّإِبْلِيسَ }: هو مستنثى من الضمير في فسجدوا، وهو استثناء من موجب في نحو هذه المسألة فيترجح النصب، وهو استثناءمتصل عند الجمهور: ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب وقتادة وابن جريج، واختاره الشيخ أبو الحسن والطبري، فعلى هذا يكونملكاً ثم أبلس وغضب عليه ولعن فصار شيطاناً. وروى في ذلك آثار عن ابن عباس وقتادة وابن جبير، وقد اختلففي اسمه فقيل: عزازيل، وقيل: الحارث. وقيل: هو استثناء منقطع، وأنه أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، ولم يكنقط ملكاً، قاله ابن زيد والحسن، وروي عن ابن عباس. وروي عن ابن مسعود وشهر بن حوشب: أنه من الجنالذين كانوا في الأض وقاتلتهم الملائكة، فسبوه صغيراً وتعبد مع الملائكة وخوطب معهم، واستدل على أنه ليس من الملائكة بقوله تعالى: { جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً } فعم، فلا يجوز على الملائكة الكفر ولا الفسق، كما لا يجوز على رسله من البشر،وبقوله: { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، وبقوله: { كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ } ، وبأن له نسلاً، بخلاف الملائكة،والظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة، فلو لم يكن لما توجه الأمر عليه، فلم يقع عليه ذم لتركهفعل ما لم يؤمر به. وأما جاعل الملائكة رسلاً، ولا يعصون الله ما أمرهم، فهو عام مخصوص، إذ عصمتهم ليستلذاتهم، إنما هي بجعل الله لهم ذلك، وأما إبليس فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية. وأما قولهتعالى: {كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ }، فقال قتادة: هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال ابن جبير: سبط من الملائكةخلقوا من نار، وإبليس منهم، أو أطلق عليه من الجن لأنه لا يرى، كما سمي الملائكة جنة، أو لأنه سميباسم ما غلب عليه، أو بما كان من فعله، أو لأن الملائكة تسمى جنَّاً. قال الأعشى في ذكر سليمان علىنبينا وعليه السلام:

وسخر من جن الملائك تسعة قياماً لديه يعملون بلا أجر

{أَبَىٰ}: امتنع وأنف من السجود لآدم. {وَٱسْتَكْبَرَ }: تكبر وتعاظم في نفسه وقدم الإباء على الاستكبار، وإن كان الاستكبار هوالأول، لأنه من أفعال القلوب وهو التعاظم، وينشأ عنه الإباء من السجود اعتباراً بما ظهر عنه أولاً، وهو الامتناع منالسجود، ولأن المأمور به هو السجود، فلما استثنى إبليس كان محكوماً عليه بأنه ترك السجود، أو بأنه مسكوت عنه غيرمحكوم عليه على الاختلاف الذي نذكره قريباً إن شاء الله. والمقصود: الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة. فناسب أنيبدأ أولاً بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء، أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة، والذي يؤدي هذا المعنى هو الإباءمن السجود. والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت: قام القوم إلا زيداً، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم،وأن زيداً غير محكوم عليه ام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام، وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أنالاستثناء من القول، والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورةفي كتب النحو، ومفعول أبي محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال الشاعر:

أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله

والتقدير: أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها النفي، ولهذايفرغ ما بعد إلا كما يفرغ لفعل المنفي، قال تعالى: { وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } ، ولا يجوز: ضربتإلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا تدخل في الواجب، وقال الشاعر:

أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع

وأبى زيد الظلم: أبلغ من لم يظلم، لأن نفي الشيءعن الشخص قد يكون لعجز أو غيره، فإذا قلت: أبى زيد كذا، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناعوالأنفة منه، فلذلك جاء قوله تعالى: {أَبَىٰ }، لأن استثناء إبليس لا يدل إلا على أنه لم يسجد، فلو اقتصرعليه لجاز أن يكون تخلفه عن السجود لأمر غير الإباء، فنص على سبب كونه لم يسجد وهو الإباء والأنفة.{وَكَانَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } قيل: كان بمعنى صار، وقيل: على بابها أي كان في علم الله لأنه لا خلاف أنهكان عالماً بالله قبل كفره. فالمعنى: أنه كان في علم الله سيكون من الكافرين. قال أبو العالية: من العاصين، وصلةأل هنا ظاهرها الماضي، فيكون قد سبق إبليس كفار، وهم الجن الذين كانوا في الأرض، أو يكون إبليس أول منكفر مطلقاً، إن لم يصح أنه كان كفار قبله، وإن صح، فيفيد أول من كفر بعد إيمانه، أو يراد الكفرالذي هو التغطية للحق، وكفر إبليس قيل: جهل سلبه الله ما كان وهبه من العلم، فخالف الأمر ونزع يده منالطاعة، وقيل: كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود. قال ابن عطية: والكفر عناداً مع بقاءالعلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكره جوازهواقع بالفعل. هذا فرعون كان عالماً بوحدانية الله وربوبيته دون غيره، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي منالملك، فادعى الألوهية مع علمه. وأبو جهل، كان يتحقق رسالة النبي ويعلم أن ما جاء بهحق، ومع ذلك أنكر نبوته، وأقام على الكفر. وكذلك الأخنس، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما ممن كفر عناداً، مع علمهمبصدق الرسل، وقد قسم العلماء الكفار إلى كافر بقلبه ولسانه، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي ، وكافر بقلبهمؤمن بلسانه وهم المنافقون، ومؤمن بقلبه كافر بلسانه، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود العلم. وقد استدلالمعتزلة بهذه الآية على أن المعصية توجب الكفر، وأجيب بأنه كافر منافق وإن كان مؤمناً فإنما كفر لاستكباره واعتقاد كونهمحقاً في ذلك التمرد، واستدلاله على ذلك بقوله:

{ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } . قال القشيري: لما كان إبليس مدة في دلالطاعته يختال في مراد موافقته، سلموا له رتبة التقدم واعتقدوا فيه استحقاق التخصص، فصار أمره كما قيل:

وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فانطفا

سئل أبو الفتوح أحمد، أخو أبيحامد الغزالي عن إبليس فقال: لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسي القدر إذا رمت أصمت،ثم أنشد:

وكنا وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلت

{ وَقُلْنَا يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ }[عدل]

{وَقُلْنَا يَاءادَمُ * ءادَمَ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَاوَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ } أسكن، أقم، ومصدره السكنى كالرجعى، والمعنى راجع إلى السكون، وهو عدم الحركة.وكان الساكن في المكان للبثه واستقراره فيه غير متحرك بالنسبة إلى غيره من الأماكن. رغداً: أي واسعاً كثير الاعناء فيه،قال امرؤ القيس:

بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد

وتميم تسكنالغين. وزعم بعض الناس أن كل اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه وتسكينها، مثل: بحر وبحر،ونهر ونهر، فأطلق هذا الإطلاق، وليس كذلك، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه التسكيننحو: السحر لا يقال فيه السحر، وإنما الكلام في فعل المفتوح الفاء الساكن العين، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلىأن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع، وهو مع ذلك مما وضع على لغتين، لا أن أحدهما أصلللآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه ذو لغتين، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح مذهب الكوفيين، والاستدلالمذكور في كتب النحو. حيث: ظرف مكان مبهم لازم الظرفية، وجاء جره بمن كثيراً وبفي، وإضافة لدى إليه قليلاً، ولإضافتهالا ينعقد منها مع ما بعدها كلام، ولا يكون ظرف زمان خلافاً للأخفش، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين، نحو:زيد حيث عمر، وخلافاً للكوفيين، ولا يجزم بها دون ما خلافاً للفراء، ولا تضاف إلى المفرد خلافاً للكسائي، وما جاءمن ذلك حكمنا بشذوذ، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات الثلاث، ويجوز: حوث، بالواو وبالحركات الثلاثة. وحكى الكسائي أن إعرابهالغة بني فقعس. القربان: معروف، وهو الدنوّ من الشيء. هذه: تكسر الهاء باختلاس وأشباع، وتسكن، ويقال: هذي بالياء، والهاء فيماذكر وابدل منها، وقالوا: ذ بكسر الذال بغير ياء ولا هاء، وهي تأنيث ذا، وربما ألحقوا التاء لتأنيث ذا فقالواذات مبنية على الكسر. الشجرة: بفتح الشين والجيم، وبعض العرب تكسر الشين، وإبدال الجيم ياء مع كسر الشين وفتحها منقول،وخالف أبو الفتح في كون اليد بدلاً، وقد أطلنا الكلام على ذلك في تأليفنا (كتاب التكميل لشرح التسهيل). والشجر: ماكان على ساق، والنجم: ما نجم وانبسط على الأرض ليس له ساق. الظلم: أصله وضع الشيء في غير موضعه، ثميطلق على الشرك، وعلى الجحد، وعلى النقص. والمظلومة: الأرض التي لم تمطر، ومعناه راجع إلى النقص. {وَقُلْنَا يَاءادَمُ *ءادَمَ * ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } الآية: لم يؤثر فيها سبب نزول سمعي، ومناسبتها لما قبلها: أن الله لماشرف آدم برتبة العلم وبإسجاد الملائكة له، امتن عليه بأن أسكنه الجنة التي هي دار النعيم. أباح له جميع مافيها إلا الشجرة، على ما سيأتي فيها، إن شاء الله. وقلنا: معطوف على الجملة السابقة التي هي قوله تعالى: {وَإِذْقُلْنَا} لا على قلنا وحده لاختلاف زمانيهما، ومعمول القول المنادى وما بعده، وفائدة النداء تنبيه المأمور له يلقى إليه منالأمر، وتحريكه لما يخاطب به، إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يجعل لها البال، وهو الأمر بسكنى الجنة. قالوا:ومعنى الأمر هنا إباحة السكنى والإذن فيها، مثل:

{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ }

{ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلاْرْضِ }

لأنالاستقرار في المواضع الطيبة لا تدخل تحت التعبد، وقيل: هو أمر وجوب وتكليف، لأنه أمر بسكنى الجنة، وبأن يأكل منها،ونهاه عن شجرة واحدة. والأصح أن الأمر بالسكنى وما بعده مشتمل على ما هو إباحة، وهو الانتفاع بجميع نعيم الجنة،وعلى ما هو تكليف، وهو منعه من تناول ما نهى عنه. وأنت: توكيد للضمير المستكن في أسكن، وهذا أحد المواضعالتي يستكن فيها الضمير وجوباً. وزوجك: معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت، ولا يجوز عند البصريينالعطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام التأكيد، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف، وما سوى ذلك ضرورةوشاذ. وقد روي: قم وزيد، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربينعلى ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن، ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعضالناس أنه لا يجوز إلا أن يكون من عطف الجمل، التقدير: ولتسكن زوجك، وحذف: ولتسكن، لدلالة اسكن عليه، وأتى بنظائرمن هذا الباب نحو: لا نخلفه نحن ولا أنت، ونحو: تقوم أنت وزيد، ونحو: ادخلوا أولكم وآخركم، وقوله:

نطوف ما نطوف ثم يأوي ذوو الأموال منا والعديم

إذا أعربناه بدلاً لا توكيداً، هو علىإضمار، فتقديره عنده، ولا تخلفه أنت، ويقوم زيد، وليدخل أولكم وآخركم، ويأوي ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نصكلام سيبويه، وليس كما زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه، كما ذهب إليه النحويون. قال سيبويه، رحمهالله: وأما ما يقبح أن يشركه المظهر فهو الضمير المرفوع، وذلك فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد الله، ثم ذكر تعليلالخليل لقبحه، ثم قال: نعته حسن أن يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد. وقال الله عز وجل:

{ ٱذْهَبْ أَنتَ * وَرَبُّكَ فَقَاتِلا }

{ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ }، انتهى. فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهرعلى المضمر، وقد أجمع النحويون على جواز: تقوم عائشة وزيد، ولا يمكن لزيد أن يباشر العامل، ولا نعلم خلافاً أنهذا من عطف المفردات. ولتكميل الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا، وتوجه الأمر بالسكنى على زوج آدم دليل علىأنها كانت موجودة قبله، وهو قول بعض المفسرين أنها خلقت من وقت علمه الله الأسماء وأنبأهم هو إياها. نام نومةفخلقت من ضلعه الأقصر قبل دخول الجنة. وأكثر أئمة التفسير أنها خلقت بعد دخول آدم الجنة. استوحش بعد لعن إبليسوإخراجه من الجنة فنام، فاستيقظ فوجدها عند رأسه قد خلقها الله من ضلعه الأيسر، فسألها: من أنت؟ قالت: امرأة، قال:ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ، فقالت له الملائكة، ينظرون مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حوّاء. قالوا: لم سميت حوّاء؟ قال:لأنها خلقت من شيء حي. وفي هذه القصة زيادات ذكرها المفسرون لا نطول بذكرها لأنها ليست مما يتوقف عليها مدلولالآية ولا تفسيرها. وعلى هذا القول يتوجه الخطاب على المعدوم، لأنه في علم الله موجود، ويكون آدم قد سكنالجنة لما خلقت أمراً معاً بالسكنى، لتسكن قلوبهم وتطمئن بالقرار في الجنة. وقد تكلم بعض الناس على أحكام السكنى، والعمرى،والرقبى، وذكر كلام الفقاء في ذلك، واختلافهم حين فسر قوله تعالى: {ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ }، وليس في الآية مايدل على شيء مما ذكر. الجنة: قال أبو القاسم البلخي، وأبو مسلم الأصبهاني: كانت في الأرض، قيل: بأرض عدن.والهبوط: الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله:

{ ٱهْبِطُواْ مِصْرًا }

، لأنها لو كانت دار الخلد لما لحقه الغرورمن إبليس بقوله:

{ هَلْ أَدُلُّكَ }

، ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله:

{ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ }

،ولأن إبليس ملعون، فلا يصل إلى جنة الخلد، ولأن دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله:

{ أُكُلُهَا دَائِمٌ }

، ولأنه لايجوز في حكمته أن يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم، ولأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأض، ولميذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء. ولو كان نقله إلى السماء لكان أولى بالذكر، لأنه من أعظم النعم.وقال الجبائي: كانت في السماء السابعة لقوله: {ٱهْبِطُواْ }، ثم الهبوط الأول كان من تلك السماء إلى السماء الأولى، والهبوطالثاني كان من السماء إلى الأرض. وقالت الجمهور: هي في السماء، وهي دار الثواب، لأن الألف واللام في الجنة لاتفيد العموم، لأن سكنى جميع الجنان محال، فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق، والمعهود دار الثواب، ولأنه ثبت فيالصحيح في محاجة آدم موسى فقال له: يا آدم أنت أشقيت بنيك وأخرجتهم من الجنة؟ فلم ينازعه آدم في ذلك.وقيل: هي السماء وليست دار الثواب، بل هي جنة الخلد. وقيل: في السماء جنة غير دار الثواب وغير جنة الخلد.ورد قول من قال: إنها بستان في السماء، فلم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة. ومما استدل بهمن قال: إنها في الأرض قوله تعالى:

{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلَـٰماً سَلَـٰماً }

{ وَلاَ * لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيم

{ وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } . وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحوّاء،ولأنها لو كانت دار الخلد لما وصل إليها إبليس ووسوس لهما حتى أخرجهما، ولأن جنة الخلد دار نعيم وراحة وليستبدار تكليف. وقد تكلف آدم أن لايأكل من الشجرة، ولأن إبليس كان من الجن المخلوقين من نار السموم. وقد نقلأنه كان من الجن الكفار الذين طردوا في الأرض، ولو كانت جنة الخلد لما دخلها، ولأنها محل تطهير، فكيف يحسنأن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين؟. وأجيب عن الآيات أنها محمولة على حالهم بعد دخول الاستقراروالخلود، لا على دخولهم على سبيل المرور والجواز. فقد صح دخول رسول الله الجنة في ليلةالمعراج وفي غيرها، وأنه رآها في حديث الكسوف. وأما دخول إبليس إليها فدخول تسليط لا تكريم، وذلك إن صح قالوا:والصحيح أنه لم يدخل الجنة وقف على بابها وكلمهما، وأراد الدخول فردته الخزنة، وقيل: دخل في جوف الحية مستتراً. وأماكونها ليست دار تكليف، فذلك بعد دخولهم فيها للإقامة المستمرة والجزاء بالأعمال الصالحة. وأما الدخول الذي يعقبه الخروج بسبب المخالفة،فلا ينافي التكليف بل لا يكون خالياً منه. {وَكُلاًّ }: دليل على أن الخطاب لهما بعد وجود حوّاء، لأنالأمر بالأكل للمعدوم فيه بعد، إلا على تقدير وجوده، والأصل في: كل أؤكل. الهمزة الأولى هي المجتلبة للوصل، والثانية هيفاء الكلمة، فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ، فوليت همزة الوصل الكاف، وهي متحركة، وإنما اجتلبت للساكن، فلما زال موجباجتلابها زالت هي. قال ابن عطية وغيره: وحذفت النون من كلا للأمر، انتهى كلامه. وهذا الذي ذكر ليس على طريقةالبصريين، فإن فعل الأمر عندهم مبني على السكون، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره مناسبة للضمير، فتقول: كلى،وكلا، وكلوا، وفي الإناث يبقى ساكناً نحو: كلن. وللمعتل حكم غير هذا، فإذا كان هكذا فقوله: وكلا، لم تكن فيهنون فتحذف للأمر، وإنما يكون ما ذكره على مذهب الكوفيين، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب، وأن أصل: كل التأكل،ثم عرض فيه من الخذف بالتدريج إلى أن صار: كل. فأصل كلا: لتأكلا، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيهنون، إذ كان أصله: تأكلان، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية: إن النون من كلا حذفت للأمر. {مِنْهَا }:الضمير عائد على الجنة، والمعنى على حذف مضاف، أي من مطاعمها، من ثمارها وغيرها، ودل ذلك على إباحة الأكل لهمامن الجنة على سبيل التوسعة، إذ لم يحظر عليهما أكل ما، إذ قال: {رَغَدًا }، والجمهور على فتح الغين. وقرأإبراهيم النخعي ويحيـى بن وثاب: بسكونها، وقد تقدم أنهما لغتان، وانتصاب رغداً، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلارغداً. وقال ابن كيسان: هو مصدر في موضع الحال، وفي كلا الإعرابين نظر. أما الأول: فإن مذهب سيبويه يخالفه، لأنهالا يرى ذلك، وما جاء من هذا النوع جعله منصوباً على الحال من الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل.وأما الثاني: فإنه مقصور على السماع، قال الزجاج: الرغد الكثير الذي لا يعنيك، وقال مقاتل: الواسع، وقال مجاهد: الذي لايحاسب عليه، وقيل: السالم من الإنكار الهني، يقال: رغد عيش القوم، ورغد، بكسر الغين وضمها، إذا كانوا في رزق واسعكثير، وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وقالوا عيشة رغد بالسكون أيضاً. {حَيْثُ شِئْتُمَا }: أباح لهماالأكل حيث شاءا فلم يحظر عليهما مكاناً من أماكن الجنة، كما لم يحظر عليهما مأكولاً إلا ما وقع النهي عنه.وشاء في وزنه خلاف، فنقل عن سيبويه: أن وزنه فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت، واللام ساكنة للضمير،فالتقى ساكنان، فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين لتدل على أن المحذوف هو ياء، كما صنعت في بعت. {وَلاَ تَقْرَبَا}: نهاهما عن القربان، وهو أبلغ من أن يقع النهي عن الأكل، لأنه إذا نهى عن القربان، فكيف يكون الأكلمنها؟ والمعنى: لا تقرباها بالأكل، لا أن الإباحة وقعت في الأكل. وحكى بعض من عاصرناه عن ابن العربي، يعني القاضيأبا بكر، قال: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل يقول: إذ قلت: لا تقرب، بفتح الراء معناه: لا تلبسبالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن، وقد تقدم أن معنى: لا تقرب زيد: ألا تدن منه. وفيهذه الحكاية عن ابن العربي من التخليط ما يتعجب من حاكيها، وهو قوله: سمعت الشاشي في مجلس النضر بن شميل،وبين النضر والشاشي من السنين مئون، إلا إن كان ثم مكان معروف بمجلس النضر بن شميل فيمكن. وقرىء: ولا تقربابكسر التاء، وهي لغة عن الحجازيين في فعل يفعل، يكسرون حرف المضارعة التاء والهمزة والنون، وأكثرهم لا يكسر الياء، ومنهممن يكسرها، فإن كان من باب: يوحل، وكاسر، وفاتح، مع إقرار الواو وقلبها ألفاً. {هَـٰذِهِ }: إشارة للحاضر الغريب منالمخاطب. وقرأ ابن محيصن: هذي بالياء. وقرأ الجمهور بالهاء. {ٱلشَّجَرَةِ }: نعت لإسم الإشارة، ويحتمل الإشارة أن تكون إلىجنس من الشجر معلوم، ويحتمل أن تكون إلى شجرة واحدة من الجنس المعلوم، وهذا أظهر، لأن الإشارة لشخص ما يشارإليه. قال ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر، وقال ابن عباسأيضاً، وأبو مالك وقتادة: السنبلة، وكان حبها ككلى البقر أحلى من العسل وألين من الزبد. روي ذلك عن وهب. ولماتاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. قال بعض الصحابة وقتادة: التين، وقال علي: شجرة الكافور. وقال الكلبي: شجرة العلم،عليها من كل لون، ومن أكل منها علم الخير والشر. وقال وهب: شجرة الخلد، تأكل منها الملائكة. وقال أبو العالية:شجرة من أكل منها أحدث. وقال بعض أهل الكتاب: شجرة الحنظل. وقال أبو مالك: النخلة. وقيل: شجرة المحنة. وقيل: شجرةلم يعلمنا الله ما هي، وهذا هو الأظهر، إذ لا يتعلق بعرفانها كبير أمر، وإنما المقصود إعلامنا أن فعل مانهينا عنه سبب للعقوبة. وقرىء: الشجرة بكسر الشين، حكاها هارون الأعور عن بعض القراء. وقرىء أيضاً الشيرة، بكسر الشين والياءالمفتوحة بعدها، وكره أبو عمرو هذه القراءة وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها، وينبغي أن لا يكرهها، لأنها لغة منقولة،فيها قال الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: كنا عند المفضل وعنده أعراب، فقلت: إنهم يقولون شيرة، فقالوا: نعم، فقلت له:قل لهم يصغرونها، فقالوا سبيرة، وأنشد الأصمعي:

نحسبــه بيــن الأنــام شيــره

وفي نهي الله آدم وزوجه عن قربان الشجرة دليلعلى أن سكناهما في الجنة لا تدوم، لأن المخلد لا يؤمر ولا ينهى ولا يمنع من شيء. فتكونا منصوب جوابالنهي، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء، وعند الجرمي بالفاء نفسه، وعند الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول في هذهالمذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا مجزوماً عطفاً على تقربا، قاله الزجاج وغيره، نحو قوله:

فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أعلى القطاة فتزلق

والأول أظهر لظهور السببية، والعطف لايدل عليها. {مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ }: قيل لأنفسكما بإخراجكما من دار النعيم إلى دار الشقاء، أو بالأكل من الشجرة التي نهيتماعنها، أو بالفضيحة بين الملأ الأعلى، أو بمتابعة إبليس، أو بفعل الكبيرة، قاله الحشوية، أو بفعل الصغيرة، قاله المعتزلة، أوبإلزامها ما يشق عليها من التوبة والتلافي، قاله أبو علي، أو بحط بعض الثواب الحاصل، قاله أبو هاشم، أو بتركالأولى، قال قوم: هما أول من ظلم نفسه من الآدميين، وقال قوم: كان قبلهم ظالمون شبهوا بهم ونسبوا إليهم. وفيقوله: {فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ } دلالة على أن النهي كان على جهة الوجوب لا على جهة الندب، لأن تاركه لايسمى ظالماً. قال بعض أهل الإشارات: الذي يليق بالخلق عدم السكون إلى الخلق، وما زال آدم وحده بكل خير وبكلعافية، فلما جاءه الشكل والزوج، ظهر إتيان الفتنة وافتتاح باب المحنة، وحين ساكن حواء أطاعها فيما أشارت عليه من الأكل،فوقع فيما وقع. ولقد قيل:

داء قديم في بني آدم صبوة إنسان بإنسان

وقالالقشيري: كل ما منع منه توفرت دواعي ابن آدم للاقتراب منه. هذا آدم عليه السلام أُبيح له الجنة بجملها، ونهيعن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مد يده إلى شيء من جملة ما أُبيح له، وكأنه عيل صبره حتىذاق ما نهي عنه، هكذا صفة الخلق. وقال: نبه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منهاقوله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً } فإذا أخبر تعالى بجعله خليفة في الأرض، فكيف يمكن بقاؤه في الجنة؟كان آدم لا أحد يوفيه في الرتبة يتوالى عليه النداء: يا آدم ويا آدم فأمسى وقد نزع عنه لباسه وسلباستئناسه، والقدرة لا تكابر، وحكم الله لا يعارض، وقال الشاعر:

لله درهم من فتية بكروا مثل الملوك وراحوا كالمساكين

فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ[عدل]

{ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } * { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

{فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْفِى ٱلارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }. أزل: من الزلل، وهو عثور القدم. يقال: زلت قدمه، وزلت به النعل.والزلل في الرأي والنظر مجاز، وأزال: من الزوال، وأصله التنحية. والهمزة في كلا الفعلين للتعدية. الهبوط: هو النزول، مصدر هبط،ومضارعه يهبط ويهبط بكسر الباء وضمها، والهبوط بالفتح: موضع النزول. وقال المفضل: الهبوط: الخروج عن البلدة، وهو أيضاً الدخول فيهامن الأضداد، ويقال في انحطاط المنزلة مجازاً، ولهذا قال الفراء: الهبوط: الذل، قال لبيد:

إن يقنطـوا يهبطـوا يومـاً وإن أُمـروا

بعض: أصله مصدر بعض يبعض بعضاً، أي قطع، ويطلق على الجزء، ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيحالكلام، قالوا: مررت ببعض قائماً، وبكل جالساً، وينوي فيهما الإضافة، فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطأوا أبا القاسمالزجاجي في قوله: ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض، إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً. وكذلك الخبر والحالوالوصف يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه. العدو: من العداوة، وهي مجاوزة الحدّ، يقال: عدا فلان طوره إذا جاوزه، وقيل: العداوة،التباعد بالقلوب من عدوى الجبل، وهما طرفاه، سميا بذلك لبعد ما بينهما، وقيل: من عدا: أي ظلم، وكلها متقاربة فيالمعنى. والعدو يكون للواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث، وقد جمع فقيل: أعداء، وقد أنث فقالوا: عدوة، ومنه: أي عدوات أنفسهن.وقال الفراء: قالت العرب للمرأة: عدوة الله، وطرح بعضهم الهاء. المستقر: مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً وزماناًومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما ذكر بصورة المفعول، ولذلك سميت الأرض: القرارة، قال الشاعر:

جادت عليه كل عين ثرّة فتركن كل قرارة كالدرهم

واستفعل فيه: بمعنى فعل استقر وقرّبمعنى. المتاع: البلغة، وهو مأخوذ من متع النهار إذا ارتفع، فينطلق على ما يتحصل للإنسان من عرض الدنيا، ويطلق علىالزاد وعلى الانتفاع بالنساء، ومنه،

{ فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } ، {ونكاح المتعة}، {وَعَلَىٰ الكسوة }، { وَمَتّعُوهُنَّ } ، وعلى التعمير، { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } ، قالوا: ومنه أمتع الله بك، أي أطال الله الإيناس بك، وكله راجع لمعنى البلغة، الحين: الوقتوالزمان، ولا يتخصص بمدة، بل وضع المطلق منه. تلقى: تفعل من اللقاء، نحو تعدى من العدو، قالوا: أو بمعنى استقبل،ومنه: تلقى فلان فلاناً استقبله. ويتلقى الوحي: أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه، وخرجنا نتلقى الحجج: نستقبلهم، وقال الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

وقال القفال: التلقي التعرض للقاء، ثم يوضع موضع القبولوالأخذ، ومنه وإنك لتلقى القرآن، تلقيت هذه الكلمة من فلان: أخذتها منه. الكلمة: اللفظة الموضوعة المعنى، والكلمة: الكلام، والكلمة: القصيدةسميت بذلك لاشتمالها على الكلمة والكلام، ويجمع بحذف التاء فيكون اسم جنس، نحو: نبقة ونبق. التوبة: الرجوع، تاب يتوب توباًوتوبة ومتاباً، فإذا عدى بعلى ضمن معنى العطف. تبع: بمعنى لحق، وبمعنى تلا، وبمعنى افتدى. والخوف: الفزع، خاف، يخاف خوفاًوتخوف تخوفاً، فأفزع، ويتعدى بالهمز وبالتضعيف، ويكون للأمر المستقبل. وأصل الحزن: غلظ الهم، مأخوذ من الحزن: وهو ما غلظ منالأرض، يقال: حزن يحزن حزناً وحزناً، ويعدى بالهمزة وبالفتحة، نحو: شترت عين الرجل، وشترها الله، وفي التعدية بالفتحة خلاف، ويكونللأمر الماضي. الآية: العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة:

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

ووزنها عند الخليل وسيبويه: فعلة، فأعلت العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس. وعند الكسائي: فاعلة، حذفتالعين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل، وعند الفراء: فعلة، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف، كماأبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين: فعلة: استثقل التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها، وهذه مسألةينهى الكلام عليها في علم التصريف. الصحبة: الاقتران، صحب يصحب، والأصحاب: جمع صاحب، وجمع فاعل: على أفعال شاذ، والصحبة والصحابة:أسماء جموع، وكذا صحب على الأصح خلافاً للأخفش، وهي لمطلق الاقتران في زمان ما. {فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا }: الهمزة:كما تقدم في أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلاً بإغوائه وحملهما على أن زلاً وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية.وقد تأتي بمعنى جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول: أضحكت زيداً فما ضحك وأبكيته فما بكى، أيجعلت له أسباب الضحك وأسباب البكاء فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول، وقال الشاعر:

كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

معناه: فيما يشرح الشراح، يزل اللبد:يزلقه عن وسط ظهره، وكذلك قوله: يزل الغلام الخف عن صهواته: أي يزلقه. وقيل أزلهما: أبعدهما. تقول: زل عن مرتبته،وزل عني ذاك، وزل من الشهر كذا: أي ذهب وسقط، وهو قريب من المعنى الأول، لأن الزلة هي سقوط فيالمعنى، إذ فيها خروج فاعلها عن طريق الاستقامة، وبعده عنها. فهذا جاء على الأصل من تعدية الهمزة. وقرأ الحسن وأبورجاء وحمزة: فأزالهما، ومعنى الإزالة: التنحية. وروي عن حمزة وأبي عبيدة إمالة فأزالهما. والشيطان: هو إبليس بلا خلاف هنا. وحكواأن عبد الله قرأ، فوسوس لهما الشيطان عنها، وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، فينبغي أن يجعل تفسيراً، وكذاما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف. وأكثر قراءات عبد الله إنما تنسب للشيعة. وقد قال بعض علمائنا:إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله على غير ما ينقل عنه مما وافق السواد، فتلك إنما هي آحاد، وذلكعلى تقدير صحتها، فلا تعارض ما ثبت بالتواتر. وفي كيفية توصل إبليس إلى إغوائهما حتى أكلا من الشجرة أقاويل:قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: شافههما بدليل، وقاسمهما، قيل: فدخل إبليس الجنة على طريق الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل:دخل في جوف الحية. وذكروا كيف كانت خلقة الحية وما صارت إليه، وكيف كانت مكالمة إبليس لآدم. وقد قصها اللهتعالى أحسن القصص وأصدقه في سورة الأعراف وغيرها. وقيل: لم يدخل إبليس الجنة، بل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل:قام عند الباب فنادى. وقيل: لم يدخل الجنة بل كان ذلك بسلطانه الذي ابتلى به آدم وذريته، كقول النبي صلىالله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . وقيل: خاطبه من الأرض ولم يصعد إلى السماء بعدالطرد واللعن، وكان خطابه وسوسة، وقد أكثر المفسرون في نقل قصص كثير في قصة آدم وحواء والحية، والله أعلم بذلك،وتكلموا في كيفية حاله حين أكل من الشجرة، أكان ذلك في حال التعمد، أم في حال غفلة الذهن عن النهيبنسيان، أم بسكر من خمر الجنة، كما ذكروا عن سعيد بن المسيب. وما أظنه يصح عنه، لأن خمر الجنة، كماذكر الله تعالى، { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } إلا إن كانت الجنة في الأرض، على ما فسرهبعضهم، فيمكن أن يكون خمرها بسكر. والذين قالوا: بالعمد، قالوا: كان النهي نهي تنزيه، وقيل: كان معه من الفزع عندإقدامه ما صير هذا الفعل صغيرة. وقيل: فعله اجتهاداً، وخالف لأنه تقدم الإشارة إلى الشخص لا إلى النوع، فتركها وأكلأخرى. والاجتهاد في الفروع لا يوجب العقاب. وقيل كان الأكل كبيرة، وقيل: أتاهما إبليس في غير صورته التي يعرفانها، فلميعرفاه، وحلف لهما أنه ناصح. وقيل: نسي عداوة إبليس، وقيل: يجوز أن يتأول آدم {وَلاَ تَقْرَبَا } أنه نهي عنالقربان مجتمعين، وأنه يجوز لكل واحد أن يقرب، والذي يسلك فيما اقتضى ظاهره بعض مخالفة تأويله على أحسن محمل، وتنزيهالأنبياء عن النقائص. وسيأتي الكلام على ما يرد من ذلك، وتأويله على الوجه الذي يليق، إن شاء الله. وفي(المنتخب) للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه: منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاةوالسلام، إلا الفضيلية من الخوارج، قالوا: وقد وقع منهم ذنوب، والذنب عندهم كفر، وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيلالتقية، واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، فلا يجوز عمداً ولا سهواً، ومن الناس من جوزذلك سهواً وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمداً واختلفوا في السهو. وأما أفعالهم فقالت الحشوية: يجوز وقوع الكبائر منهمعلى جهة العمد. وقال أكثر المعتزلة: بجواز الصغائر عمداً إلا في القول، كالكذب. وقال الجبائي: يمتنعان عليهم إلا على جهةالتأويل. وقيل: يمتنعان عليهم، إلا على جهة السهو والخطأ، وهم مأخوذون بذلك، وإن كان موضوعاً عن أمتهم. وقالت الرافضة: يمتنعذلك على كل جهة. واختلف في وقت العصمة فقالت الرافضة: من وقت مولدهم، وقال كثير من المعتزلة: من وقت النبوة.والمختار عندنا: أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة، لا الكبيرة ولا الصغيرة، لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانواأقل درجة من عصاة الأمة، لعظيم شرفهم، وذلك محال. ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم، ولئلا يقتدىبهم في ذلك، ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب، ولئلا يفعلون ضد ماأمرو به، لأنهم مصطفون، ولأن إبليس استثناهم في الاغواء. انتهىما لخصناه من المنتخب. والقول في الدلائل لهذه المذاهب، وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصولالدين. عنها: الضمير عائد على الشجرة، وهو الظاهر، لأنه أقرب مذكور. والمعنى: فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتكون عن إذذاك للسبب، أي أصدر الشيطان زلتهما عن الشجرة كقوله تعالى: { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى }

{ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } . وقيل: عائد على الجنة، لأنها أول مذكور، ويؤيده قراءة حمزة وغيره: فأزالهما، إذ يبعدفأزالهما الشيطان عن الشجرة. وقيل: عائد على الطاعة، قالوا بدليل قوله: { وَعَصَىٰ ءادَمَ رَبَّهُ } ، فيكون إذ ذاك الضمير عائداًعلى غير مذكور، إلا على ما يفهم من معنى قوله: { وَلاَ تَقْرَبَا } لأن المعنى: أطيعاني بعدم قربان هذه الشجرة.وقيل: عائد على الحالة التي كانوا عليها من التفكه والرفاهية والتبوّء من الجنة، حيث شاءا، ومتى شاءا، وكيف شاءا بدليل، { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا } . وقيل: عائد على السماء وهو بعيد. {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } من الطاعة إلى المعصية،أو من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا، أو من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب، أو رضوان الله، أو جواره.وكل هذه الأقوال متقاربة. قال المهدوي: إذا جعل أزلهما من زل عن المكان، فقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } توكيد.إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، انتهى. والأولى أن يكون بمعنى كسبهماالزلة لا يكون بإلقاء. قال ابن عطية: وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشجرة، ويعني أن المحذوف يتقدرقبل قوله: {فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ }، ونسب الإزلال والإزالة والإخراج لإبليس على جهة المجاز، والفاعل للأشياء هو الله تعالى. {وَقُلْنَاٱهْبِطُواْ }: قرأ الجمهور بكسر الباء، وقرأ أبو حياة: اهبطوا بضم الباء، وقد ذكرنا أنهما لغتان. والقول في: {وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ} مثل القول في:

{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ٱسْكُنْ } . ولما كان أمراً بالهبوط من الجنة إلى الأرض، وكان في ذلك انحاطرتبة المأمور، لم يؤنسه بالنداء، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه. والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله: {وَقُلْنَا يَاءادَمُ ٱسْكُنْ }،والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، أو هؤلاء وإبليس، قاله السدي عن ابن عباس، أوآدم وإبليس، قاله مجاهد، أو هما وحواء، قاله مقاتل، أو آدم وحواء فحسب. ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع علىالتثنية نحو:

{ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ } ، ذكره ابن الأنباري، أو آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن، أو آدم وحواء وذريتهما، قالهالفراء، أو آدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، ورجحه الزمخشري قال: لأنهما لما كانا أصل الأنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الأنس كلهم.والدليل عليه قوله: { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } ، ويدل على ذلك قوله: {مِنْ * تَبِعَ هُدَايَ }الآية، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، انتهى. وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد، لأن ذريتهما كانتإذ ذاك غير موجودة. وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف، لأنه كان خرج قبلهما، ويجوز على ضربمن التجوز. قال كعب ووهب: أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة. وقال مقاتل: أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس، قيل بالأيلة، وحواءبجدّة، وآدم بالهند، وقيل: بسرنديب بجبل يقال له: واسم. وقيل: كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولدهالصلع. وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعاً. وروي عن ابن عباس: أن الحية أهبطتبنصيبين. وروى الثعلبي: بأصبهان، والمسعودي: بسجستان، وهي أكثر بلاد الله حيات. وقيل: بيسان. وقيل: كان هذا الهبوط الأول من الجنةإلى سماء الدنيا. وقيل: لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيباً،فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحاً عنذكرها، قال: وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمسمائة عام، مما يعدأهل الدنيا، والأشبه أن قوله: اهبطوا أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكانلا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف يكون بسببالثواب. فكيف يكون عقاباً مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك، وهي نشر نسله فيهاليكلفهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم في جنة ونار. وكانت تلك الأكلة سبب هبوطه، والله يفعل ما يشاء. وأمره بالهبوطإلى الأرض بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {قُلْنَا ٱهْبِطُواْ * بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }، إن كان المخاطبون آدم وحواءوذريتهما، كما قال مجاهد، فالمراد ما عليه الناس من التعادي وتضليل بعضهم لبعض، والبعضية موجودة في ذريتهما، لأنه ليس كلهميعادي كلهم، بل البعض يعادي البعض. وإن كان معهما إبليس أو الحية، كما قاله مقاتل، فليس بعض ذريتهما يعادي ذريةآدم، بل كلهم أعداء لكل بني آدم. ولكن يتحقيق هذا بأن جعل المأمورون بالهبوط شيئاً واحداً وجزّئوا أجزاء، فكل جزءمنها جزء من الذين هبطوا، والجزء يطلق عليه البعض فيكون التقدير: كل جنس منكم معاد للجنس المباين له. وقالالزجاج: إبليس عدوّ للمؤمنين وهم أعداؤه. وقيل معناه: عداوة نفس الإنسان له وجوارحه، وهذا فيه بعد، وهذه الجملة في موضعالحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط عنها، واجتماعالواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى: { وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } ، وليس مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً، خلافاً للفراء ومن واقفه كالزمخشري. وقد روى سيبويه عنالعرب كلمته فوه إلى فيّ، ورجع عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى بدئه خبر، والجملةحال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها، فلا يكون ذلك شاذاً. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملةمستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيلأنه يلزم من القيد في الأمر أن يكون مأموراً به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك إذا قلت قم ضاحكاً كانالمعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له القيام إلا في حال الضحكوما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به مأمور؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من ذلك، لأنالفعل إذا كان مأموراً به من يسند إليه في حال من أحواله، لم تكن تلك الحال مأموراً بها، لأن النسبةالحالية هي لنسبة تقييدية لا نسبة إسنادية. فلو كانت مأموراً بها إذا كان العامل فيها امراً، فلا يسوغ ذلك هنا،لأن الفعل المأمور به إذا كان لا يقع في الوجود إلا بذلك القيد، ولا يمكن خلافه، لم يكن ذلك القيدمأموراً به، لأنه ليس داخلاً في حيز التكليف، وهذه الحال من هذا النوع، قل يلزم أن يكون الله أمر بها،وهذه الحال من الأحوال اللازمة. وقوله: لبعض متعلق بقوله عدوّ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه، وأفرد عدوّ على لفظ بعضأو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد. {وَلَكُمْ فِى ٱلارْضِمُسْتَقَرٌّ }: مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصححلجواز الابتداء بالنكرة، ولا يجوز {فِى ٱلاْرْضِ } أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد به مكان استقرار كما قاله أبوالعالية وابن زيد، أو المصدر، أي استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر الموصول لا يجوّزبعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض أن يكون خبراً، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع الحالمن مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك،وصار نظير: قائماً زيد في الدار، أو قائماً في الدار زيد، وهو لا يجوز بإجماع. مستقرّ: أي مكان استقراركم حالتيالحياة والموت، وقيل: هو القبر، أو استقرار، كما تقدم شرحه. {وَمَتَـٰعٌ }: المتاع ما استمتع به من المنافع، أوالزاد، أو الزمان الطويل، أو التعمير. {إِلَىٰ حِينٍ }: إلى الموت، أو إلى قيام الساعة، أو إلى أجل قد علمهالله، قاله ابن عباس. ويتعلق إلى بمحذوف، أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو منباب الأعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول، لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكونمن إعمال الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن على الأولى. والأفصح لا يقال إنه لايجوز أن يكون من باب الإعمال، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى بسبب أن الأول لايجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل بينهوبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً، وذلك أن المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر مصدري مع الفعل،وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدرلا يكون موصولاً، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو وله: لزيد معرفة بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء.فمثل هذا لا يتقدر بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف لم يحكم على الاسم بعده،لا برفع ولا بنصب، قالوا: فإذا قلت: يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد، وممكن أنزيداً يعرى منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بلتكون النية في الإخبار كالنية في: يعجبني خاتم زيد المحدود المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر. على هذه الطريقة لا يقضى عليهبرفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى. فأنت ترى تجويزهمأن لا يكون موصولاً مع المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً، وهو قولهم: يعجبني قيام زيد، فكيف مع ما لايجوز أن يكون موصولاً نحو: ما مثلنا به من قوله: له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكونمستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً. ولا يمتنع أن يعمل في الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولاً، كمامثلنا في قوله: له معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم: أناأبو المنهال بعض الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر. وأما أن تعمل في الفاعل، أو المفعول به فلا. وأماإذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو أن المصدر إذا نون، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له الاسمية وزال عنه تقديرالفعل، فانقطع عن أن يحدث إعراباً، وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضاً أن يخرج عليه قوله تعالى:{مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ }، ولا يبعد على هذا التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لايتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في الظرف أو المجرور من الاسم العلم. ويمكنأن يفسر قوله: {مُّسْتَقِرٌّ * مَتَـٰعٌ * إِلَىٰ حِينٍ } بقوله: { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }

وفيقَوله {إِلَىٰ حِينٍ } دليل على عدم البقاء في الأرض، ودليل على المعاد. وفي هذه الآية التحذير عن مخالفة أمرالله بقصد أو تأويل، وأن المخالفة تزيل عن مقام الولاية. {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ }، تلقى: تفعل مناللقاء، وهو هنا بمعنى التجرد، أي لقي آدم، نحو قولهم: تعداك هذا الأمر، بمعنى عداك، وهو أحد المعاني التي جاءتلها تفعل، وهي سبعة عشر معنى مطاوعة فعل، نحو: كسرته فتكسر، والتكلف نحو: تحلم، والتجنب نحو: تجنب، والصيرورة نحو: تألم،والتلبس بالمسمى المشتق منه نحو: تقمص، والعمل فيه نحو: تسحر، والاتخاذ نحو: تبنيت الصبي، ومواصلة العمل في مهلة نحو: تفهم،وموافقة استفعل نحو: تكبر، وموافقة المجرد نحو: تعدى الشيء، أي عداه، والإغناء عنه نحو: تكلم، والإغناء عن فعل نحو: توبل،وموافقة فعل نحو: تولى، أي ولى، والختل، نحو: تعقلته، والتوقع نحو: تخوفه، والطلب نحو: تنجز حوائجه، والتكثير نحو: تعطينا. ومعنىتلقي الكلمات: أخذها وقبولها، أو الفهم، أو الفطانة، أو الإلهام أو التعلم والعمل بها، أو الاستغفار والاستقالة من الذنب. وقولمن زعم أن أصله: تلقن، فأبدلت النون ألفاً ضعيف، وإن كان المعنى صحيحاً، لأن ذلك لا يكون إلا مما كانعينه ولامه من جنس واحد نحو: تظني، وتقضي، وتسرّي، أصله: تظنن، وتقضض، وتسرر. ولا يقال في تقبل: تقبى. وقرأ الجمهور:برفع آدم ونصب الكلمات، وعكس ابن كثير. ومعنى تلقي الكلمات لآدم: وصولها إليه، لأن من تلقاك فقد تلقيته فكأنه قال:فجاءت آدم من ربه كلمات. وظاهر قوله: كلمات، أنها جملة مشتملة على كلم، أو جمل من الكلام قالها آدم، فلذلكقدروا بعد قوله: كلمات، جملة محذوفة وهي فقالها فتاب عليه. واختلفوا في تعيين تلك الكلمات على أقوال، وقد طولوا بذكرها،ولم يخبرنا الله بها إلا مبهمة، ونحن نذكرها كما ذكرها المفسرون، قال ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد وابن كعبوعطاء الخراساني والضحاك وعبيد بن عمير وابن زيد: هي { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا }، الآية. ورويعن ابن ابن مسعود، أن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمكوتعالى جدّك، لا إلٰه إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وسئل بعض السلف عماينبغي أن يقوله المذنب فقال: يقول ما قاله أبواه: «ربنا ظلمنا أنفسنا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي» وما قالهيونس: «لا إلٰه إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». وروي عن ابن عباس ووهب أنها: «سبحانك اللهم وبحمدك عملتسوءاً وظلمت نفسي، فاغفر لي إنك خير الغافرين». وقال محمد بن كعب هي: «لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدكعملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم». وحكى السدّي عن ابن عباس أنه قال: «رب ألم تخلقنيبيدك؟» قال: بلى، قال: ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: ألمتسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: رب إن تبت وأصلحت أراجعي إلى الجنة؟ قال: «نعم». وزاد قتادة في هذا: «وسبقت رحمتكإليّ قبل غضبك؟ قيل له بلى، قال: رب هل كتبت هذا عليّ قبل أن تخلقني؟ يل له: نعم، فقال: ربإن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قيل له: نعم». وقال قتادة هي: «أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت التوّاب الرحيم».وقال عبيد بن عمير، قال: «يا رب خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني؟ أو شيء ابتدعته منقبل نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال: «فكما كتبت عليّ فاغفر لي». وقيل إنها: «سبحانك اللهملا إلٰه إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور». وقيل: رأى مكتوباً على ساق العرش محمد رسول الله،فتشفع بذلك فهي الكلمات. وقيل: قوله حين عطس: «الحمد لله». وقيل: هي الدعاء والحياء والبكاء. وقيل: الاستغفار والندم والحزن. قالابن عطية: وسماها كلمات، مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي: كن في كل واحدة منهن»، وهذا قوليقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود. انتهى كلامه. {فَتَابَ عَلَيْهِ }: أي تفضل عليه بقبول توبتهوأفرده بالإخبار عنه بالتوبة عليه، وإن كانت زوجته مشاركة له في الأمر بالسكنى والنهي عن قربان الشجرة وتلقي الكلمات والتوبة،لأنه هو المواجه بالأمر والنهي، وهي تابعة له في ذلك. فكملت القصة بذكره وحده، كما جاء في قصة موسى والخضر،إذ جا { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة } ، فحملاها بغير نول، وكان مع موسى يوشع، لكنه كان تابعاً لموسى فلم يذكرهولم يجمع معهما في الضمير، أو اكتفى بذكر أحدهما، إذ كان فعلهما واحداً، نحو قوله تعالى: { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }

{ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ } ، أو طوى ذكرها كما طواه عند ذكر المعصية في قوله:

{ وَعَصَىٰ آدَمَ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } . وقد جاء طي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة، وقد ذكرها في قوله:

{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } ، وإنما لم يراع هذا الستر في امرأتي نوح ولوط لأنهما كانت كافرتين، وقد ضرب بهما المثل للكفار،لأن ذنوبهما كانت غاية في القبح والفحش. والكافر لا يناسب الستر عليه ولا الإغضاء عن ذنبه، بل ينادي عليه ليكونذلك أخزى له وأحط لدرجته. وحوّاء ليست كذلك، ولأن معصيتهما تكرّرت واستمرّ منهما الكفر والإصرار على ذلك، والتوبة متعذرة لماسبق في علم الله أنهما لا يتوبان، وليست حوّاء كذلك لخفة ما وقع منها، أو لرجوعها إلى ربها، ولأن التبكيتللمذنب شرع رجاء الإقلاع، وهذا المعنى معقود فيهما، وذكرهما بالإضافة إلى زوجيهما فيه من الشهرة ما لا يكون في ذكراسميهما غير مضافين إليهما. وتوبة العبد: رجوعه عن المعصية، وتوبة الله على العبد: رجوعه عليه بالقبول والرحمة. واختلف في التوبةالمطلوبة من العبد، فقال قوم: هي الندم، أخذاً بظاهر قوله : الندم توبة وقال قوم: شروطها ثلاثة:الندم على ما فات، والإقلاع عنه، والعزم على أن لا يعود. وتأولوا: الندم توبة على معظم التوبة نحو: الحج عرفة،وزاد بعضهم في الشروط، برد المظالم إذا قدر على ردها، وزاد بعضهم: المطعم الحلال، وقال القفال: لا بد مع تلكالشروط الثلاثة من الإشفاق فيما بين ذلك، وذلك أنه مأمور بالتوبة، ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بها كمالزمه، فيكون خائفاً. ولهذا جاء يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه. روي عن ابن عباس أن آدم وحوّاء بكيا علىما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة. وقد ذكروا في كثرة دموع آدم وداود شيئاً يفوت الحصر كثرة. وقال شهربن حوشب: بلغني أن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى. ورويأن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء. وقرأ الجمهور {أَنَّهُ }: بكسر الهمزة، وقرأ نوفل بن أبي عقرب:أنه بفتح الهمزة، ووجهه أنه فتح على التعليل، التقدير: لأنه، فالمفتوحة مع ما بعدها فضلة، إذ هي في تقدير مفردثابت واقع مفروغ من ثبوته لا يمكن فيه نزاع منازع، وأما الكسر فهي جملة ثابتة تامة أخرجت مخرج الإخبار المستقلالثابت، ومع ذلك فلها ربط معنوي بما قبلها، كما جاءت في:{ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ }

{ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ }

{ وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتك } ، حتى لو وضعت الفاء التي تعطي الربط مكانها أغنت عنها،وقالوا: إن أن إنما تجيء لتثبيت ما يتردد المخاطب في ثبوته ونفيه، فإن قطع بأحد الأمرين، فليس من مظانها، فإنوجدت داخلة على ما قطع فيه بأحد الأمرين ظاهراً، فيكون ذلك لتنزيله منزلة المتردد فيه لأمر ما، وسيأتي الكلام علىذلك في نحو:

{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيّتُونَ }

إن شاء الله. ولما دخلت للتأكيد في قوله: {إِنَّهُ هُوَٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }، قوي التأكيد بتأكيد آخر، وهو لفظه: {هُوَ }. وقد ذكرنا فائدته في قوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } .وبولغ أيضاً في الصفتين بعده، فجاء التواب: على وزن فعال، والرحيم: على وزن فعيل، وهما من الأمثلة التي صيغت للمبالغة.وهذا كله ترغيب من الله تعالى للعبد في التوبة والرّجوع إلى الطاعة، واطماع في عفوه تعالى وإحسانه لمن تاب إليه.والتواب من أسمائه تعالى، وهو الكثير القبول لتوبة العبد، أو الكثير الإعانة عليها. وقد ورد هذا الإسم في كتاب اللهمعرفاً ومنكراً، ووصف به تعالى نفسه، فدل ذلك على أنه مما استأثر به تعالى. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لايوصف به إلا تجوزاً، وأجمعوا أنه لا يوصف تعالى بتائب ولا آيب ولا رجاع ولا منيب، وفرق بين إطلاقه علىالله تعالى وعلى العبد، وذلك لاختلاف صلتيهما. ألا ترى: فتاب عليه، وتوبوا إلى الله؟ فالتوبة من الله على العبد هيالعطف والتفضل عليه، ومن العبد هي الرّجوع إلى طاعته تعالى، لطلب ثواب، أو خشية عقاب، أو رفع درجات. وأعقب الصفةالأولى بصفة الرحمة، لأن قبول التوبة سببه رحمة الله لعبده، وتقدم التواب لمناسبة فتاب عليه، ولحسن ختم الفاصلة بقوله: {ٱلرَّحِيمِ}. وقد تقدم الكلام في البسملة على لفظة الرحيم وما يتعلق بها، فأغنى ذلك عن إعادته. {قُلْنَا }، كرّرالقول، إما على سبيل التأكيد المحض، لأن سبب الهبوط كان أول مخالفة، فكرّر تنبيهاً على ذلك، أو لاختلاف متعلقيهما، لأنالأول علق به العداوة، والثاني علق بإتيان الهدى. وأما لا على سبيل التأكيد، بل هما هبوطان حقيقة، الأول من الجنةإلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. وضعف هذا الوجه بقوله في الهبوط الأول: {عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلارْضِ مُسْتَقَرٌّ }،ولم يحصل الاستقرار على هذا التخريج إلا بالهبوط الثاني، فكان ينبغي الاستقرار يذكر فيه وبقوله في الهبوط الثاني منها، وظاهرالضمير أنه يعود إلى الجنة، فاقتضى ذلك أن يكون الهبوط الثاني منهما. {جَمِيعاً }: حال من الضمير في اهبطوا،وقد تقدم الكلام في لفظة جميعاً وأنها تقتضي التعميم في الحم، لا المقارنة في الزمان عند الكلام على قوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلاْرْضِ جَمِيعاً } ، فهنا يدل على أنهم كلهم خوطبوا بالهبوط، فقد دلا على اتحادزمان الهبوط. وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، فجعله نعتاً لمصدر محذوف، أو لاسمفاعل محذوف، كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم فاعل، مع منافاة ما قدره للحكمالذي صدره، لأنه قال: أولاً وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالاً من الضمير في اهبطوا على ماقرر أولاً، فكيف يقدر ثانياً؟ كأنه قال: هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً. فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً، ولا ينافي كونهليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضاً في زعمه أنالتقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فجعل ثم حالاً محذوفة لدلالة جميعاً عليها، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا عليه. ولا يلتئمهذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي فقلنا: إما يأتينكم. وقد تقدم الكلام في المأمورين بالهبوط،وعلى تقدير أن يكون هبوطاً ثانياً، فقيل يخص آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخصا بخطاب الجمع تشريفاً لهما.وقيل: يندرج في الخطاب لأن إبليس مخاطب بالإيمان بالإجماع، وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون التوكيد،وكثر مجيء هذا النحو في القرآن: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ }

{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ }

{ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ } . قال أبو العباس المهدوي: إن:هي، التي للشرط زيدت عليها ما للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما لم تدخل النون،فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدةليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أنالنون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد فيلام اليمين نحو: والله لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب سيبويه والفارسي وجماعة منالمتقدمين إلى أن ذلك لا يختص بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذفما وإثبات النون، قال سيبويه: في هذه المسألة وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء بما،انتهى كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال الشنفري:

فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفى ولا أتنعل

وقال آخر:

يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الإخوان من شيمي

وقال آخر:

زعمت تماضر أنني إما أمت تسدد أبينوها الأصاغر خلتي

والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول الشاعر:

إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلا فالله يحفظ ما تبقى وما تذر

فكما جاءت هنا زائدة بعد إن،فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم، مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني على السكون وحركبالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). {مِنّي }: متعلق بيأتينكم، وهذا شبيه بالالتفات، لأنهانتقل من الضمير الموضوع للجمع، أو المعظم نفسه، إلى الضمير الخاص بالمتكلم المفرد. وقد ذكرنا حكمة ذاك الضمير في: قلنا،عند شرح قوله:

{ وَقُلْنَا يَاءادَمُ ٱسْكُنْ }

، وحكمة هذا الانتقال هنا أن الهدى لا يكون إلا منه وحده تعالى، فناسبالضمير الخاص كونه لا هادي إلا هو تعالى، فأعطى الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره الضمير الخاص الذي لا يحتملغيره تعالى. وفي قوله: مني، إشارة إلى أن الخير كله منه، ولذلك جاء:

{ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ }

{ وَقَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء }

، فأتى بكلمة: من، الدالة على الابتداء في الأشياء، لينبه على أن ذلك صادر منهومبتدأ من جهته تعالى، وأتى بأداة الشرط في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى }، وهي تدخل على ما يتردد فيوقوعه، والذي أنبهم زمان وقوعه، وإتيان الهدى واقع لا محالة، لأنه أنبهم وقت الإتيان، أو لأنه آذن ذلك بأن توحيدالله تعالى ليس شرطاً فيه إتيان رسل منه، ولا إنزال كتب بذلك، بل لو لم يبعث رسلاً، ولا أنزل كتباً،لكان الإيمان به واجباً، وذلك لما ركب فيهم من العقل، ونصب لهم من الأدلة، ومكن لهم من الاستدلال، كما قال:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

قال معناه الزمخشري غير إنشادالشعر. {هدى}: تقدم الكلام على الهدى في قوله: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } ، ونكره لأن المقصود هو المطلق، ولم يسبق عهد فيهفيعرّف. والهدى المذكور هنا: الكتب المنزلة، أو الرسل، أوالبيان، أو القدرة على الطاعة، أو محمد رسول الله صلى الله عليهوسلم، أقوال. فمن تبع: الفاء مع ما دخلت عليه جواب لقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم }. وقال السجاوندي: الجواب محذوف تقديره فاتبعوه،انتهى. فكأنه على رأيه حذف لدلالة قوله بعده: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ }. وتظافرت نصوص المفسرين والمعربين على أن: من، فيقوله: فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا الشرط هو قوله: {فَلاَ خَوْفٌ }، فتكون الآية فيها شرطان. وحكى عن الكسائيأن قوله: {فَلاَ خَوْفٌ } جواب للشرطين جميعاً، وقد أتقنا مسألة اجتماع الشرطين في (كتاب التكميل)، ولا يتعين عندي أنتكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في قسيمه:

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ } ، فأتى بهموصولاً، ويكون قوله: {فَلاَ خَوْفٌ } جملة في موضع الخبر. وأما دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً، فإن الشروط المسوّغةلذلك موجودة هنا. وفي قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ }، تنزيل الهدى منزلة الإمام المتبع المقتدى به، فتكون حركات التابعوسكناته موافقة لمتبوعه، وهو الهدى، فحينئذ يذهب عنه الخوف والحزن. وفي إضافة الهدى إليه من تعظيم الهدى ما لا يكونفيه لو كان معزّفاً بالألف واللام، وإن كان سبيل مثل هذا أن يعود بالألف واللام نحو قوله: { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } ، والإضافة تؤدي معنى الألف واللام من التعريف، ويزيد على ذلك بمزية التعظيم والتشريف. وقرأ الأعرج: هدايبسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين، كقراءة من قرأ: ومحياي، وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ عاصم الجحدري وعبدالله بن أبي إسحاق وعيسى بن أبي عمر: هديّ، بقلب الألف ياء وإدغمها في ياء المتكلم، إذ لم يمكن كسرما قبل الياء، لأنه حرف لا يقبل الحركة، وهي لغة هذيل، يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمونها في ياء المتكلم، وقالشاعرهم:

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل قوم مصرع

{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }: قرأالجمهور بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غيرتنوين وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }، فرفعوا للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها إعمالليس، ولا يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين: أحدهما: أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً،ويمكن النزاع في صحته، وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه. والثاني: حصول التعادل بينهما، إذ تكون لا قد دخلت فيكلتا الجملتين على مبتدأ ولم تعمل فيهما. ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم، فينفي كل فردمن مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس نصاً، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر. وأماقراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال. وقدذكرنا ما في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه، إذا كان مرفوعاً منوناً، وحذف تنوينه كماقال لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون عرِّي من التنوين لأنه على نية الألف واللام، فيكون التقدير: فلا الخوف عليهم، ويكونمثل ما حكى الأخفش عن العرب: سلام عليكم، بغير تنوين. قالوا: يريدون السلام عليكم، ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصلالتعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجر مجرى ليس، وقد سمعمن ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو:

وحلت سواء القلب لا أنا باغيا سواها ولا في حبها متراخيا

وقد لحنوا أبا الطيب في قوله:

فـلا الحمـد مكسوباً ولا المـال باقيـاً

وكنىبقوله: {عَلَيْهِمْ } عن الاستيلاء والإحاطة، ونزل المعنى منزلة الجرم، ونفى كونه معتلياً مستولياً عليهم. وفي ذلك إشارة لطيفة إلىأن الخوف لا ينتفي بالكلية، ألا ترى إلى انصباب النفي على كينونة الخوف عليهم؟ ولا يلزم من كينونة استعلاء الخوفانتفاء الخوف في كل حال، ولذلك قال بعض المفسرين: ليس في قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } دليل على نفي أهواليوم القيامة وخوفها عن المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة، إلا أنها مخففة عن المطيعين. فإذا صارواإلى رحمته، فكأنهم لم يخافوا، وقدم عدم الخوف على عدم الحزن، لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاءالحزن على ما فات، ولذلك أبرزت جملته مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي، وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة فيقوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }. وفي قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن، وأن غيرهم يحزن، ولولم يشر إلى هذا المعنى لكان: ولا يحزنون، كافياً. ولذلك أورد نفي الحزن عنهم وإذهابه في قوله:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ } إلى قوله: { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ } . ومعلوم أن هذين الخبرين وما قبلهما من الخبر مختصبالذين سبقت لهم من الله الحسنى، وفي قوله:{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } ، فدل هذا كله على أنغيرهم يحزنه الفزع، ولا يذهب عنهم الحزن. وحكى عن المفسرين في تفسير هذه الجملة أقوال: أحدها: لا خوف عليهمفيما يستقبلون من العذاب ولا يحزنون عند الموت. الثاني: لا يتوقعون مكروهاً في المستقبل، ولا هم يحزنون لفوات المرغوب فيالماضي والحال. الثالث: لا خوف عليهم فيما يستقبلهم، ولا هم يحزنون فيما خلفه. الرابع: لا خوف عليهم فيما بين أيديهممن الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. الخامس: لا خوف عليهم من عقاب، ولا هم يحزنون علىفوات ثواب. السادس: إن الخوف استشعار غم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوات محبوب. السابع: لا خوف عليهم فيما بينأيديهم من الدنيا، ولا هم يحزنون على ما فاتهم منها. الثامن: لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون فيها.التاسع: أنه أشار إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن، لا خوف عليهم فيها ولا حزن. العاشر: ماقاله ابن زيد: لا خوف عليهم أمامهم، فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فأمنهم الله منه،ثم سلاهم عن الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا. الحادي عشر: لا خوف حين أطبقتالنار، ولا حزن حين ذبح الموت في صورة كبش على الصراط، فقيل لأهل الجنة والنار: خلود لا موت. الثاني عشر:لا خوف ولا حزن على الدوام. وهذه الأقوال كلها متقاربة، وظاهر الآية عموم نفي الخوف والحزن عنهم، لكن يخصبما بعد الدنيا، لأنه في دار الدنيا قد يلحق المؤمن الخوف والحزن، فلا يمكن حمل الآية على ظاهرها من العموملذلك.. {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: قسم لقوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ }، وهو أبلغ من قوله: { وَمَن لَّمْ يَتَّبِعُ هُدَايَ } ،وإن كان التقسيم اللفظي اللفظي يقتضيه، لأن نفي الشيء يكون بوجوه، منها: عدم القابلية بخلقة أو غفلة، ومنها تعمد تركالشيء، فأبرز القسيم بقوله: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } في صورة ثبوتية ليكون مزيلاً للاحتمال الذي يقتضيه النفي، ولما كان الكفر قديعني كفر النعمة وكفر المعصية بين: أن المراد هنا الشرك بقوله: {وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا }، وبآياتنا متعلق بقوله: {وَكَذَّبُواْ }، وهومن إعمال الثاني، إن قلنا: إن كفروا، يطلبه من حيث المعنى، وإن قلنا: لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتملالوجهين. والآيات هنا: الكتب المنزلة على جميع الأمم، أو معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو القرآن، أو دلائل الله فيمصنوعاته، أقوال. و{أُوْلَـٰئِكَ }: مبتدأ، {وَأَصْحَـٰبُ }: خبر عنه، والجملة خبر عن قوله: {وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، وجوزوا أن يكون أولئكبدلاً وعطف بيان، فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبراً عن الذين كفروا. وفي قوله: {أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ } دلالة علىاختصاص من كفر وكذب بالنار. فيفهم أن من اتبع الهدى هم أصحاب الجنة. وكان التقسيم يقتضي أن من اتبع الهدىلا خوف ولا حزن يلحقه، وهو صاحب الجنة، ومن كذب يلحقه الخوف والحزن، وهو صاحب النار. فكأنه حذف من الجملةالأولى شيء أثبت نظيره في الجملة الثانية، ومن الثانية شيء أثبت نظيره في الجملة الأولى، فصار نظير قوله الشاعر:

وإني لتعروني لذكرك فترة كما انتفض العصفور بلله القطر

وفي قوله: أولئك، إشارة إلى الذواتالمتصفة بالكفر والتكذيب، وكأن فيها تكريراً وتوكيداً لذكر المبتدأ السابق. والصحبة معناها: الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن ينطلق علىالملازمة، وإن كان أصلها في اللغة: أن تنطلق على مطلق الاقتران. والمراد بها هنا: الملازمة الدائمة، ولذلك أكده بقوله: {هُمْفِيهَا خَـٰلِدُونَ }. ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء في مكان آخر:

{ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ خَـٰلِدِينَ فِيهَا }

،فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب. ويحتمل أن تكون جملة مفسرة لما أنبهم في قوله: {أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ}، ففسر وبين أن هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك موضع منالإعراب. ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً للمبتدأ الذي هو: أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما مفرد، والآخر جملة، وذلكعلى مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع رفع. وقد تقدم الكلام على الخلود، وهل هو المكث زماناً لا نهايةله، أو زماناً له نهاية؟

{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ } * { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ } * { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ }[عدل]

{خَـٰلِدُونَ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّـٰىَفَٱرْهَبُونِ وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ وَلاَ}.. ابن: محذوف اللام، وقيل: الياء خلاف، وفي وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل: فعل، وقيل: فعل. فمن زعمأن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء. والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعلقولهم: البنوّة شاذ كالفتوّة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوّة دليلاً على ذلك، ولكون اللام المحذوفةواواً أكثر منها ياء. وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون، وهو جمع شاذ، إذ لم يسلمفيه بناء الواحد، فلم يقولوا: ابنون، ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع التكسير، فألحقت التاء فيفعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير، قال النابغة:

قالت بنو عامر خالو بني أسد يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام

وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً، قال يسدد:

أبينــوهـــا الأصــاغــر خلــتي

وهو شاذ أيضاً.إسرائيل: اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا أنه مركب من إسرا: وهو العبد، وإيل: اسم من أسماء اللهتعالى، فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني، فيكون مثل: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، قاله ابن عباس. وقيل: معنى إسرا: صفوة،وايل: الله تعالى، فمعناه: صفوة الله. روي ذلك عن ابن عباس وغيره، وقال بعضهم: إسرا مشتق من الأسر، وهو الشد،فكأن إسرائيل معناه: الذي شدّه الله وأتقن خلقه. وقيل: أسري بالليل مهاجراً إلى الله تعالى فسمي بذلك. وقيل: أسر جنياًكان يطفىء سرج بيت المقدس، وكان اسم الجني: إيل، فسمي إسرائيل، وكان يخدم بيت المقدس، وكان أول من يدخل، وآخرمن يخرج، قاله كعب. وقيل: أسرى بالليل هارباً من أخيه عيصو إلى خاله، في حكاية طويلة ذكروها، فأطلق ذلك عليه.وهذه أقاويل ضعاف، وفيه تصرفات للعرب بقوله: إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها، وهي قراءة الجمهور. وإسراييل بياءين بعد الألف،وهي قراءة أبي جعفر والأعشى وعيسى بن عمر. وإسرائل بهمزة بعد الألف ثم لام، وهو مروي عن ورش. وإسراءل بهمزةمفتوحة بعد الراء ولام، وإسرئل بهمزة مكسورة بعد الراء، وإسرال بألف ممالة بعدها لام خفيفة، واسرال بألف غير ممالة، قالأمية:

لا أرى من يعيشني في حياتي غير نفسي إلا بني إسرالا

وهي روايةخارجة عن نافع، وقرأ الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وغيرهم: وإسرائن بنون بدل اللام، قال الشاعر:

يقول أهل السوء لما جينا هذا ورب البيت إسرائينا

كما قالوا: سجيل، وسجين، ورفلّ، ورفنّ، وجبريل، وجبرين، أبدلتبالنون كما أبدلت النون بها في أصيلان قالوا: أصيلال، وإذا جمعته جمع تكسير قلت: أساريل، وحكي: أسارلة وأسارل. الذكر: بكسرالذال وضمها لغتان بمعنى واحد، وقال الكسائي: يكون باللسان، والذكر بالقلب فبالكسر ضده: الصمت، وبالضم ضده: النسيان، وهو بمعنى التيقظوالتنبه، ويقال: اجعله منك على ذكر. النعمة: اسم للشيء المنعم به، وكثيراً ما يجيء فعل بمعنى المفعول: كالذبح، والنقص، والرعي،والطحن، ومع ذلك لا ينقاس. أوفى، ووفى، ووفى: لغى ثلاث في معنى واحد، وتأتي أوفى بمعنى: ارتفع، قال:

ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات

والميفات: مكان مرتفع، وقال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أوفيت،وأهل نجد يقولون: وفيت بغير ألف، وقال الزجاج: وفي بالعهد، وأوفى به، قال الشاعر:

أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها

وقال ابن قتيبة: يقال وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل لاغير. وقال أبو الهيثم: وفي الشيء: تم، ووفى الكيل وأوفيته: أتممته، ووفى ريش الطائر: بلغ التمام، ودرهم واف: أي تامكامل. الرهب، والرهب، والرهب، والرهبة: الخوف، مأخوذ من الرهابة، وهو عظم الصدر يؤثر فيه الخوف. والرهب: النصل، لأنه يرهب منه،والرهبة والخشية والمخافة نظائر. التصديق: اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به، والتكذيب يقابله. أول: عند سيبويه: أفعل، وفاؤه وعينهواوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا: ددن،وققس، وببن، وبابوس. وقيل: إن بابوساً أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزةواواً، ثم بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها.وقال بعض الناس: هو أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً،ثم بالإدغام. وهذان القولان ضعيفان، ويستعمل أول استعمالين: أحدهما: أن يجري مجرى الأسماء، فيكون مصروفاً، وتليه العوامل نحو: أفكل، وإنكان معناه معنى قديم، وعلى هذا قول العرب: مما تركت له أولاً ولا آخراً، أي ما تركت له قديماً ولاحديثاً. والاستعمال الثاني: أن يجري مجرى أفعل التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها، أو مقدرة، وبالألفواللام، وبالإضافة. وقالت العرب: ابدأ بهذا أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة،والتقدير: أول الأشياء، أم لشبه القطع عن الإضافة، والتقدير: أول من كذا. والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة، والخلافإذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً،أو لا يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو. الثمن: العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة، وقال:

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أصبت بترك الحج من ثمن

أي من عوض. القليل: يقابلهالكثير، واتفقا في زنة اسم الفاعل، واختلفا في زنة الفعل، فماضي القليل فعل، وماضي الكثير فعل، وكان القياس أن يكوناسم الفاعل من قل على فاعل نحو: شذ يشذ، فهو شاذ، لكن حمل على مقابلة. ومثل قلّ فهو قليل، صحفهو صحيح. اللبس: الخلط، تقول العرب: لبست الشيء بالشيء: خلطته، والتبس به: اختلط، وقال العجاج:

لمــا لبســن الحــق بـالتجنــي

وجاءألبس بمعنى لبس. وقال آخر:

وكتيبة ألبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي

الكتم،والكتمان: الإخفاء، وضده: الإظهار، ومنه الكتم: ورق يصبغ به الشيب. الركوع: له معنيان في اللغة: أحدهما: التطامن والانحناء، وهذا قولالخليل وأبي زيد، ومنه قول لبيد:

أخبر أخبار القرون التي مضت أدبّ كأني كلما قمت راكع

والثاني: الذلة والخضوع، وهو قول المفضل والأصمعي، قال الأضبط السعدي:

لا تهين الضعيف علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه

{ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } هذا افتتاح الكلاممع اليهود والنصارى، ومناسبة الكلام معهم هنا ظاهرة، وذلك أن هذه السورة افتتحت بذكر الكتاب، وأن فيه هدى للمؤمنين، ثمأعقب ذلك بذكر الكفار المختوم عليهم بالشقاوة، ثم بذكر المنافقين، وذكر جمل من أحوالهم، ثم أمر الناس قاطبة بعبادة اللهتعالى، ثم ذكر إعجاز القرآن، إلى غير ذلك مما ذكره، ثم نبههم بذكر أصلهم آدم، وما جرى له من أكلهمن الشجرة بعد النهي عنه، وأن الحامل له على ذلك إبليس. وكانت هاتان الطائفتان: أعني اليهود والنصارى، أهل كتاب، مظهريناتباع الرسل والاقتداء بما جاء عن الله تعالى. وقد اندرج ذكرهم عموماً في قوله:

{ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ }

، فجردذكرهم هنا خصوصاً، إذ قد سبق الكلام مع المشركين والمنافقين، وبقي الكلام مع اليهود والنصارى، فتكلم معهم هنا، وذكروا مايقتضي لهم الإيمان بهذا الكتاب، كما آمنوا بكتبهم السابقة، إلى آخر الكلام معهم على ما سيأتي جملة مفصلة. وناسب الكلاممعهم قصة آدم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لأنهم بعدما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، المذكور ذلك في التوراةوالإنجيل، من الإيفاء بالعهد والإيمان بالقرآن، ظهر منهم ضد ذلك بكفرهم بالقرآن ومن جاء به، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماعما يرد عليهم من الأوامر والنواهي، نحو قوله: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ}

{ وَيَـا آدَمُ ٱسْكُنْ }

. وقد تقدم الإشارة إلىذلك، وأضافهم إلى لفظ إسرائيل، وهو يعقوب، ولم يقل: يا بني يعقوب، لما في لفظ إسرائيل من أن معناه عبدالله أو صفوة الله، وذلك على أحسن تفاسيره، فهزهم بالإضافة إليه، فكأنه قيل: يا بني عبد الله، أو يا بنيصفوة الله، فكان في ذلك تنبيه على أن يكونوا مثل أبيهم في الخير، كما تقول: يا ابن الرجل الصالح أطعالله، فتضيفه إلى ما يحركه لطاعة الله، لأن الإنسان يحب أن يقتفى أثر آبائه، وإن لم يكن بذلك محموداً، فكيفإذا كان محموداً؟ ألا ترى:

{ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أمة }

{ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا }

،وفي قوله: {مَعِىَ بَنِى إِسْرٰءيلَ } دليل على أن من انتمى إلى شخص، ولو بوسائط كثيرة، يطلق عليه أنه ابنه،وعليه

{ يا بني آدم }

ويسمى ذلك أباً. قال تعالى:

{ مّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰهِيمَ }

، وفي إضافتهم إلى إسرائيل تشريف لهم بذكرنسبتهم لهذا الأصل الطيب، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. ونقل عن أبي الفرج بن الجوزي: أنه ليسلأحد من الأنبياء غير نبينا محمد إسمان إلا يعقوب، فإنه يعقوب، وهو إسرائيل. ونقل الجوهري فيصحاحة: أن المسيح اسم علم لعيسى، لا اشتقاق له. وذكر البيهقي عن الخليل بن أحمد خمسة من الأنبياء ذو واسمين:محمد وأحمد نبينا ، وعيسى والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النون، وإلياس وذو الكفل. والمراد بقوله:{خَـٰلِدُونَ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ } من كان بحضرة رسول الله بالمدينة، وما والاها من بني إسرائيل،أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي ، أو أسلاف بني إسرائيل وقدماؤهم، أقوال ثلاثة: والأقرب الأول،لأن من مات من أسلافهم لا يقال له: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ }، إلا على ضرب بعيد منالتأويل، ولأن من آمن منهم لا يقال له: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ }،إلا بمجاز بعيد. ويحتمل قوله: اذكروا الذكر باللسان والذكر بالقلب: فعلى الأول يكون المعنى: أمرّوا النعم على ألسنتكم ولا تغفلواعنها، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب في أن لا تنسى. وعلى الثاني يكون المعنى: تنبهوا للنعم ولا تغفلوا عنشكرها. وفي النعمة المأمور بشكرها أو بحفظها أقوال: ما استودعوا من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليهوسلم، أو ما أنعم به على أسلافهم من إنجائهم من آل فرعون وإهلاك عدوهم وإيتائهم التوراة ونحو ذلك، قاله الحسنوالزجاج، أو إدراكهم مدة النبي ، أو علم التوراة، أو جميع النعم على جميع خلقه وعلى سلفهموخلفهم في جميع الأوقات على تصاريف الأحوال. وأظهر هذه الأقوال ما اختص به بنو إسرائيل من النعم لظاهر قوله: {ٱلَّتِىأَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }، ونعم الله على بني إسرائيل كثيرة، استنقذهم من بلاء فرعون وقومه، وجعلهم أنبياء وملوكاً، وأنزل عليهم الكتبالمعظمة، وظلل عليهم في التيه الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى. قال ابن عباس: أعطاهم عموداً من النور ليضء لهم بالليل،وكانت رؤوسهم لا تتشعث، وثيابهم لا تبلى. وإنما ذكروا بهذه النعم لأن في جملتها ما شهد بنبوة محمد صلى اللهعليه وسلم، وهو: التوراة والإنجيل والزبور، ولئن يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان برسول الله والقرآن، ولأن تذكير النعمالسالفة يطمع في النعم الخالقة، وذلك الطمع يمنع من إظهار المخالفة. وهذه النعم، وإن كانت على آبائهم، فهي أيضاً نعمعليهم، لأن هذه النعم حصل بها النسل، ولأن الانتساب إلى آباء شرفوا بنعم تعظيم في حق الأولاد. قال بعض العارفين:عبيد النعم كثيرون، وعبيد المنعم قليلون، فالله تعالى ذكر بني إسرائيل نعمه عليهم، ولما آل الأمر إلى أمة محمد صلىالله عليه وسلم ذكر المنعم فقال:

{ ٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ }

، فدل ذلك على فضل أمة محمد علىسائر الأمم، وفي قوله: {نِعْمَتِيَ }، نوع التفات، لأنه خروج من ضمير المتكلم المعظم نفسه في قوله: {ءايَـٰتِنَا } إلىضمير المتكلم الذي لا يشعر بذلك. وفي إضافة النعمة إليه إشارة إلى عظم قدرها وسعة برها وحسن موقعها، ويجوز فيالياء من نعمتي الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح. وأنعمت: صلة التي، والعائد محذوف، التقدير: أنعمتها عليكم. {وَأَوْفُواْبِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }. العهد: تقدم تفسيره لغة في قوله:

{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ }

، ويحتمل العهد أن يكون مضافاًإلى المعاهد وإلى المعاهد. وفي تفسير هذين العهدين أقوال: أحدها: الميثاق الذي أخذه عليهم من الإيمان به والتصديق برسله، وعهدهمما وعدهم به من الجنة. الثاني: ما أمرهم به وعهدهم ما وعدهم به، قاله ابن عباس. الثالث: ما ذكر لهمفي التوراة من صفة رسول الله ، وعهدهم ما وعدهم به من الجنة، رواه أبو صالح عنابن عباس. الرابع: أداء الفرائض وعهدهم قبولها والمجازاة عليها. الخامس: ترك الكبائر وعهدهم غفران الصغائر. السادس: إصلاح الدين وعهدهم إصلاحآخرتهم. السابع: مجاهدة النفوس وعهدهم المعونة على ذلك. الثامن: إصلاح السرائر وعهدهم إصلاح الظواهر. التاسع:

{ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ }

،قاله الحسن. العاشر:

{ وَإِذَا * أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ يكتمونه }

. الحادي عشر: الإخلاص في العباداتوعهدهم إيصالهم إلى منازل الرعايات. الثاني عشر: الإيمان به وطاعته، وعهدهم ما وعدهم عليه من حسن الثواب على الحسنات. الثالثعشر: حفظ آداب الظواهر وعهدهم في السرائر. الرابع عشر: عهد الله على لسان موسى عليه السلام لبني إسرائيل: إني باعثمن بني إسرائيل نبياً فمن اتبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به غفرت له وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، قالهالكلبي. الخامس عشر: شرط العبودية وعهدهم شرط الربوبية. السادس عشر: أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي بحفظ حرمتي، أوفبعهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربى ورؤيتي، قاله الثوري. السابع عشر: لا تفروا من الزحف أدخلكم الجنة، قالهإسماعيل بن زياد. الثامن عشر:

{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ وَبَعَثْنَا }

الآية، قاله ابن جريج، وعهدهم إدخالهمالجنة. التاسع عشر: أوامره ونواهيه ووصاياه، فيدخل في ذلك ذكر محمد الذي في التوراة، قاله الجمهور.العشرون: أوفوا بعهدي في التوكل أوف بعهدكم في كفاية المهمات، قاله أبو عثمان. الحادي والعشرون: أوفوا بعهدي في حفظ حدوديظاهراً وباطناً أوف بعهدكم بحفظ أسراركم عن مشاهدة غيري. الثاني والعشرون: عهده حفظ المعرفة وعهدنا إيصال المعرفة، قاله القشيري. الثالثوالعشرون: أوفوا بعهدي الذي قبلتم يوم أخذ الميثاق أوف بعهدكم الذي ضمنت لكم يوم التلاق. الرابع والعشرون: أوفوا بعهدي اكتفوامني بي أوف بعهدكم أرض عنكم بكم. فهذه أقوال السلف في تفسير هذين العهدين. والذي يظهر، والله أعلم، أنالمعنى طلب الإيفاء بما التزموه لله تعالى، وترتيب إنجاز ما وعدهم به عهداً على سبيل المقابلة، أو إبرازاً لما تفضلبه تعالى في صورة المشروط الملتزم به فتتوفر الدواعي على الإيفاء بعهد الله، كما قال تعالى:

{ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ }

{ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً }

، وقال رسول الله : فإن له عهداً عند الله أن يدخله الجنة . وقرأ الزهري: أوف بعهدكم مشدّداً. ويحتمل أن يراد به التكثير، وأن يكون موافقاً للمجرّد. فإن أريدبه التكثير فيكون في ذلك مبالغة على لفظ أوف، وكأنه قيل: أبالغ في إيفائكم، فضمن تعالى إعطاء الكثير على القليل،كما قال تعالى:

{ مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }

. وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيداً يغضب، يدل علىمعنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد الفعل لا يقتضي شيئاً آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول: أضربزيداً، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً، لكن إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقداختلف النحويون في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا قلت: اضرب زيداً يغضب، ضمن اضربمعنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت مناب الشرط،ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيداً، إن تضرب زيداً يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر منابها. وعلىالقول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها معنىإن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار الفارسيوالسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل. والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو. {وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ }. إياي:منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير، وإياي ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من السجاوندي، إذقدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيداً، إذ الكلام مفروغ فيقالب جملتين. ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان. وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة، وقرأابن أبي إسحاق بالياء على الأصل، قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. ومعنى ذلك أن الكلامجملتان في التقدير، وإياك نعبد، جملة واحدة، والاختصاص مستفاد عنده من تقديم المعمول على العامل. وقد تقدم الكلام معه فيذلك، وأنا لا نذهب إلى ما ذهب إليه من ذلك. والفاء في قوله: فارهبون، دخلت في جواب أمر مقدّر، والتقدير:تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما نصه: تقول: كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت:كل رجل صالح فاضرب، انتهى. قال ابن خروف: قوله كل رجل يأتيك فاضرب، بمنزلة زيداً فاضرب، إلا أن هنا معنىالشرط لأجل النكرة الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من: زيداً فاضرب، انتهى. ولا يظهر لي وجه الأحسنية التي أشارإليها ابن خروف، والذي يدل على أن هذا التركيب، أعني: زيداً فاضرب، تركيب عربي صحيح، قوله تعالى:

{ بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ }

، وقال الشاعر:

ولا تعبـد الشيطـان والله فـاعبـدا

قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في: زيداًفاضرب، تنبه: فاضرب زيداً، ثم حذف تنبه فصار: فاضرب زيداً. فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ، وإنما دخلتالفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه. وإذا تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقديروإياي ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر، وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وتنبهوافارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان:الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدّرت الفاء، فقدم المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيلالتأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به، ولايبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل بالمنفصل في نحو: ضربتك إياك، والمعنى: ارهبون أن أنزل بكم ماأنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا قول ابن عباس. وقيل معنىفارهبون: أن لا تنقضوا عهدي، وفي الأمر بالرهبة وعيد بالغ، وليس قول من زعم أن هذا الأمر معناه التهديد والتخويفوالتهويل، مثل قوله تعالى:

{ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }

، تشديد لأن هذا في الحقيقة مطلوب، واعملوا ما شئتم غير مطلوب فافترقا.وقيل: الخوف خوفان، خوف العقاب، وهو نصيب أهل الظاهر، ويزول، وخوف جلال، وهو نصيب أهل القلب، ولا يزول. وقال السلمي:الرهبة: خشية القلب من رديء خواطره. وقال سهل: {وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ }، موضع اليقين بمعرفته، {وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ }، موضع العلم السابقوموضع المكر والاستدراج. وقال القشيري: أفردوني بالخشية لانفرادي بالقدرة على الإيجاد. {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ }: ظاهره أنه أمر لبنيإسرائيل، لأن المأمورين قبل هم، وهذا معطوف على ما قبله، فظاهره اتحاد المأمور. وقيل: أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه،علماء اليهود ورؤسائهم، والظاهر الأول، ويندرج فيه كعب ومن معه. وما في قوله: {بِمَا أَنزَلْتُ } موصولة، أي بالذي أنزلت،والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط جواز الحذف فيه موجودة، والذي أنزل تعالى هو القرآن، والذي معهم هو التوراة والإنجيل. وقالقتادة: المراد {بِمَا أَنزَلْتُ }: من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وأبعد من جعل ما مصدرية، وأنالتقدير: وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام. {مُصَدّقاً }. وعلىالقول الأول يكون {لّمَا مَعَكُمْ } من تمام {مُصَدّقاً }، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية، كهي فيقوله تعالى:

{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ }

. وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله: {لّمَامَعَكُمْ }. ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية،فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير: ضارب هنداً مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا،ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصفالإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذاأريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول. والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة،والعامل فيها أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة أيضاً. {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍبِهِ }: أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفرداً مذكراً، والنكرة تطابق ما قبلها، فإن كانمفرداً كان مفرداً، وإن كان تثنية كان تثنية، وإن كان جمعاً كان جمعاً، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند أفضل امرأة،والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غيرصفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانتصفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد، قال الشاعر: أنشده الفراء:

وإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشرّ جياع

فأفرد بقوله: طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة،وقبل أفعل التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأوّل، قال الفراء: تقديره من طعم، وقال غيره: يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنىجمع، كأنه قال: فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقالبعض الناس: يكون التجوز في الجمع، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من الزيدين أفضل عالم. وهذهالنكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى،فإذا قلت: أبوك أفضل عالم، فتقديره: عندهم أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى. وجميع أحكامأفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو. وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر، أو أول حزب كفر، أو لايكن كل واحد منكم أول كافر. والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهمثانياً أو آخراً، فمفهوم الصفة هنا غير مراد. ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة، والتقدير:ولا تكونوا كافرين به، وهذا ضعيف جداً. وزعم بعضهم أن ثم محذوفاً معطوفاً تقديره: ولا تكونوا أوّل كافر به ولاآخر كافر، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش، لما فيها من الابتداءبها، وهذا شبيه بقول الشاعر:

من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع

لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً، بل أراد لافحش عندهم، لا عاجلاً، ولا آجلاً، وتأوله بعضهم على حذف مضاف،أي: ولا تكونوا مثل أول كافر به، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً مثل من لم يعرفهوهو مشرك لا كتاب له، وبعضهم على صفة محذوفة، أي أول كافر به من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهمفي هذا مظنون بهم علم، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى، التقدير: ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة،لأن كفر قريش كان مع الجهل، وهذا القول شبيه بالذي قبله. وبعضهم قدر صلة غير هذه، أي ولا تكونوا أولكافر به عند سماعكم لذكره، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه. وقيل: ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونواأول مؤمن به، لمعرفتهم به وبصفته، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به، فلما بعث كان أمرهمعلى العكس، قال تعالى:

{ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ }

، وقال القشيري: لا تسنوا الكفر سنة، فإن وزر المبتدئينفيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون. والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت، وهو القرآن، قالهابن جريج، أو على محد ، ودل عليه المعنى، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه،قاله أبو العالية، أو على النعمة على معنى الإحسان، ولذلك ذكر الضمير، قاله الزجاج، أو على الموصول في لما معكم،لأنهم إذا كفروا بما يصدقه، فقد كفروا به، والأرجح الأول، لأنه أقرب، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه، بخلاف الأقوالالثلاثة. {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً }. الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال، كما قال:

كمــا اشتــرى المسلـم إذ تنصــرا

وقال آخر:

فـإني شـريت الحلـم بعـدك بـالجهل

ولما كان المعنى على الاستبدال، جاز أن تدخل الباء على الآيات، وإنكان القياس أن تدخل على ما كان ثمناً، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به، لكن لما دخل الكلامعلى معنى الاستبدال جاز ذلك، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل، وما دخلت عليه الباء هو الزائل، بخلافما يظن بعض الناس أن قولك: بدلت أو أبدلت درهماً بدينار معناه: أخذت الدينار بدلاً عن الدرهم، والمعنى، والله أعلم:ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة. ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى، إذ كان يصيرالمعنى: أنهم هم بذلوا ثمناً قليلاً وأخذوا الآيات. قال المهدوي: ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن، وكذلك كلّ مالا عين فيه، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن، قاله الفراء. انتهى كلام المهدوي ومعناه:أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً، لكن يختلفدخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن، فلا تدخل عليه الباء، وجعلما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء، ونفس الآيات لا يشترى بها، فاحتيج إلى حذف مضاف، فقيل تقديره: بتعليم آياتي،قاله أبو العالية، وقيل: بتغيير آياتي، قاله الحسن. وقيل: بكتمان آياتي، قاله السدي. وقيل: لا يحتاج إلى حذف مضاف، بلكنى بالآيات عن الأوامر والنواهي. وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات، ما أنزل من الكتب، أوالقرآن، أو ما أوضح من الحجج والبراهين، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلىالله عليه وسلم. وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله: ثمناً قليلاً. فمن قال: إنالمضاف هو التعليم، قال: الثمن القليل هو الأجرة على التعليم، وكان ذلك ممنوعاً منه في شريعتم، أو الراتب المرصد لهمعلى التعليم، فنهوا هنه، ومن قال: هو التغيير، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لوصاروا أتباعاً لرسول الله . ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي، جعل الثمن القليل هو مايحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلو بها عن إيقاع ما أمرالله به واجتناب ما نهى عنه، ووصف الثمن بالقليل،لأن ما حصل عوضاً عن آيات الله كائناً ما كان لا يكون إلا قليلاً، وإن بلغ ما بلغ، كما قالتعالى: { قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } ، فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات، بل من الأوصاف اللازمة للثمنالمحصل بالآيات، إذ لا يكون إلا قليلاً. ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره: ثمناً قليلاً ولا كثيراً، فحذف لدلالة المعنىعليه. وقد استدل بعض أهل العلم بقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً } على نع جواز أخذ الأجرة على تعليمكتاب الله والعلم. وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح، وقد صح أنهم قالوا: يا رسول الله، إنا نأخذ علىكتاب الله أجراً، فقال: «إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله». وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرةعلى تعليم القرآن والعلم، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة، لكون ذلك عبادة بدنية، ولا دليل لذلك الذاهب فيالآية، وقد مرّ تفسيرها. {وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ }: الكلام عليه إعراباً، كالكلام على قوله: {وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ }، ويقرب معنى التقوىمن معنى الرهبة. قال صاحب المنتخب: والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصولما يتقي منه، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم، انتهىكلامه. ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا: أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب،إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصيالتي تحتم العقاب وتعينه، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك، فقيل في ذلك: {فَٱرْهَبُونِ }، وقيل في هذا:{فَٱتَّقُونِ }، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به. والأحسن أن لا يقيد ارهبون واثقونبشيء، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً، فكان المعنى: ارهبون، إنلم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي، واتقون، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً. {وَلاَ تَلْبِسُواْٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ }: أي الصدق بالكذب، قاله ابن عباس، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام، قاله مجاهد، أو التوراة بما كتبوه بأيديهمفيها من غيرها، أو بما بدلوا فيها من ذكر محمد ، قاله ابن زيد، أو الأمانة بالخيانةلأنهم ائتمنوا على إبداء ما في التوراة، فخانوا في ذلك بكتمانه وتبديله، أو الإقرار بنبوّة محمد إلى غيرهم وجحدهم أنه ما بعث إليهم، قاله أبو العالية، أو إيمان منافقي اليهود بإبطان كفرهم، أو صفة النبي صلىالله عليه وسلم بصفة الدجال. وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل للإلصاق، كقولك: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهواعن أن يخلطوا الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم،قال: كان المعنى: ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورةتدعو إلى ذلك. {وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ }: مجزوم عطفاً على تلبسوا، والمعنى: النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا:لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهياً عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن، وهوعند البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكورفي علم النحو. وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت:لا تأكل السمك وتشرب اللبن، معناه: النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهيعنه، فلذلك رجح الجزم. وقرأ عبد الله: {وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ }، وخرج على أنها جملة في موضع الحال، وقدره الزمخشري:كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع، إذا وقعت حالاً لا تدخل عليها الواو، والتقديرالإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره: وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال، لأنالحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحالإلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال: لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً، ويمكن تخريج هذهالقراءة على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبريةعطفت على جملة النهي، على من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل، وكلا التخريجينتخريج شذوذ. والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وأبو العالية،والسدّي، ومقاتل، أو الإسلام، قاله الحسن، أو يكون الحق عامًّا فيندرج فيه أمر رسول الله والقرآن،وما جاء به وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية،ومفعول تعلمون محذوف اقتصاراً، إذ المقصود: وأنتم من ذوي العلم، فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل،وقد قدروا حذفه حذف اختصار، وفيه أقاويل ستة: أحدها: وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة صلى الله عليهوسلم. الثاني: وأنتم تعلمون البعث والجزاء. الثالث: وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة. الرابع: وأنتم تعلمون الحق منالباطل. وقال الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين،قال: وهو أقبح، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه، انتهى. فكان ما قدّره هو على حذف مضاف، أي وأنتم تعلمونقبح أو تحريم اللبس والكتم، وقال ابن عطية: وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنمانهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى. ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق، كأنه قال: ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه،لأن المكتوم قد يكون حقاً وغير حق، فإذا كان حقاً وعلم أنه حق، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنباً،لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص فيأمر محمد ، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضعالحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبةفي الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله: وتكتمون. والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناهأوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءتبه الرسل، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عناللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أوباطلاً، وإنما فائدتها: أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري:لا تتوهموا، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين، فإما مبسوطة بحق، وإما مربوطة بحط، {وَلاَتَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ }، تدليس، {وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ } تلبيس، {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن حق الحق تقديس، انتهى. وفي هذه الآيةدليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى }: تقدّم الكلام على مثل هذافي أوّل السورة في قوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ }

، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم، فقيل: هي الصلاة المفروضة، وقيل:جنس الصلاة والزكاة. قيل: أراد المفروضة، وقيل: صدقة الفطر، وهو خطاب لليهود، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.قال القشيري: وأقيموا الصلاة: احفظوا أدب الحضرة، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة، وآتوا الزكاة، زكاة الهمم، كما تؤدى زكاة النعم،قال قائلهم:

كلّ شيء له زكاة تؤدّى وزكاة الجمال رحمة مثلي

{وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ}: خطاب لليهود، ويحتمل أن يراد بالركوع: الانقياد والخضوع، ويحتمل أن يراد به: الركوع المعروف في الصلاة، وأمروا بذلك وإنكان الركوع مندرجاً في الصلاة التي أمروا بإقامتها، لأنه ركوع في صلاتهم، فنبه بالأمر به، على أن ذلك مطلوب فيصلاة المسليمن. وقيل: كنى بالركوع عن الصلاة: أي وصلوا مع المصلين، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء، ويكون فيقوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلاً لم يكن فيها إيقاعها في جماعة. والراكعون: قيلالنبي وأصحابه، وقيل: أراد الجنس من الراكعين. وفي هذه الجمل، وإن كانت معطوفات بالواو التيلا تقتضي في الوضع ترتيباً ترتيب عجيب، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أوّلاًبذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذيالتزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا،فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص، وهو ما أنزلمن القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدّق لما معهم، فليس أمراً مخالفاً لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقربمن الانتقال إلى المخالف. ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم تعالى باتقائه، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبسالحق بالباطل، وعن كتمان الحق، فكان الأمر بالإيمان أمراً بترك الضلال، والنهي عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركاً للإضلال.ولما كان الضلال ناشئاً عن أمرين: إما تمويه الباطل حقاً إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع، وإما عن كتمان الدلائلإن كانت لم تبلغه، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم، ثم أمرهمبعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية، والزكاة آكد العبادات المالية. ثم ختمذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين. فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم،وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية. وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام اللهعلى سائر الكلام، وهذه الأوامر والنواهي، وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل، فإنهم هم المخاطبون بها هي عامة فيالمعنى، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا.

{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }[عدل]

{أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَـٰبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِوَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ * ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رٰجِعُونَ } الأمر: طلب إيجاد الفعل،ويطلق على الشأن، والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، فتقول: مر زيداًوإتمامه قليل، أومر زيداً، فإن تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بنفسه،والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازاً تحفظ ولايقاس عليها. البر: الصلة، وأيضاً: الطاعة. قال الراجز:

لا همّ ربّ إن بكراً دونكا يبرك الناس ويفخر ونكا

والبر: الفؤاد، وولد الثعلب والهرّ، وبرّ والده: أجله وأعظمه. يبره: على وزن فعل يفعل، ورجل بارّ،وبرّ، وبرت يمينه، وبرّ حجه: أجلها وجمع أنواعاً من الخير، والبر سعة المعروف والخير، ومنه: البر والبريّة للسعة. ويتناول كلخير، والإبرار: الغلبة، قال الشاعر:

ويبــرّون علــى الآبــي المبــر

النسيان: ضد الذكر، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم، ويطلق أيضاًعلى الترك، وضده الفعل، والفعل: نسي ينسى على فعل يفعل، ويتعدّى لواحد، وقد يعلق نسي حملاً على علم، قال الشاعر:

ومن أنتم إنا نسينا من أنتم وريحكم من أي ريح الأعاصر

وفي البيت احتمال:التلاوة: القراءة، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضاً في الذكر. والتلو: التبع، وناقة مثل: يتبعهاولده. العقل: الإدراك المانع من الخطأ، ومنه عقال البعير، يمنعه من التصرف، والمعقل: مكان يمتنع فيه، والعقل: الدّية لأن جنسهاإبل تعقل في فناء الولي، أو لأنها تمنع من قتل الجاني، والعقل: ثوب موشى، قال الشاعر:

عقلاً ورقماً تظل الطير تتبعه كأنه من دم الأجواف مدموم

والعقل: زكاة العام، قال الشاعر:

سعى عقالاً فلم يترك لنا سبدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين

ورمل عقنقل: متماسك عن الانهيار.الصبر: حبس النفس على المكروه، والفعل: صبر يصبر على فعل يفعل، وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر:

فصبرت عارفة لذلك حرّة ترسو إذا نفس الجبان تطلع

وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غيرمتعدّ. الكبيرة: من كبر يكبر، ويكون ذلك في الجرم وفي القدر، ويقال: كبر عليّ كذا، أي شق، وكبر يكبر، فهوكبير من السنّ. قال الشاعر:

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم

الخشوع: قريب من الخضوع، وأصله: اللين والسهولة، وقيل: الاستكانة والتذلل. وقال الليث: الخضوع في البدن، والخشوع في البدنوالبصر والصوت، والخشعة: الرّملة المتطامنة. وفي الحديث: كانت الكعبة خشعة على الماء . الظنّ: ترجيح أحد الجانبين، وهو الذي يعبر عنهالنحويون بالشك، وقد يطلق على التيقن. وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو،خلافاً لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء. والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى: التهمة، فيتعدى إذ ذاك لواحد،قال الفراء: الظنّ يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا يعرفون ذلك. {أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرّ } الهمزة: للاستفهام وضعاً، وشابها هناالتوبيخ والتقريع لأن المعنى: الإنكار، وعليهم توبيخهم على أن يأمر الشخص بخير، ويترك نفسه ونظيره في النهي، قول أبي الأسود:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وقول الآخر:

وابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فيقبح في العقول أن يأمرالإنسان بخير وهو لا يأتيه، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله. وفي تفسير البر هنا أقوال: الثبات على دين رسولالله وهم لا يتبعونه، أو اتباع التوراة وهم يخالفونها في جحدهم صفته. وروي عن قتادة وابنجريج والسّدي: أو على الصدقة ويبخلون، أو على الصدق وهم لا يصدّقون، أو خص أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما.وقال السلمي: أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها؟ وقال القشيري: أتحرّضون الناس على البدار وترضون بالتخلف؟وقال: أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا؟ وألفاظاً من هذا المعنى. وأتى بالمضارع في: أتأمرون، وإن كان قد وقع ذلك منهملأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع: الديمومة وكثرة التلبس بالفعل، نحو قولهم: زيد يعطي ويمنع، وعبر عنترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك، فكأنه لا يجري لهم على بال، وعلق النسيان بالأنفس توكيداً للمبالغة في الغفلة المفرطة.{وَتَنسَوْنَ }: معطوف على تأمرون، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاةالأبدية، وترك فعله حتى صار نسياً منسياً بالنسبة إليهم. {أَنفُسَكُـمْ }، والأنفس هنا: ذواتهم، وقيل: جماعتهم وأهل ملتهم، ثم قيدوقوع ذلك منهم بقوله: {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَـٰبَ }: أي أنكم مباشروا الكتاب وقارئوه، وعالمون بما انطوى عليه، فكيف امتثلتموه بالنسبةإلى غيركم؟ وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم؟ كقوله تعالى:

{ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }

. والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرهابقوله: {وَأَنتُمْ }، من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسماً مفرداً. والكتاب هنا: التوراة والإنجيل، وفيهماالنهي عن هذا الوصف الذميم، وهذا قول الجمهور. وقيل: الكتاب هنا القرآن، قالوا: ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتابإلى خطاب المؤمنين، ويكون ذلك من تلوين الخطاب، مثل قوله تعالى:

{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ } ، وفي هذاالقول بعد، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }: مذهب سيبويه والنحويين: أن أصلالكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل {أَوَ لَمْ * يَسِيرُواْ } أثم إذا ما وقع،لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على حرف العطف، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثمبعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأىأن الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا علىهذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل. فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلاتعقلون، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعدحرف العطف، ونبههم بقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }، على ن فيهم إدراكاً شريفاً يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهمبالخير ونسيان أنفسهم عنه، وإن هذه حالة من سلب العقل، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولاً،ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره، إبدأ بنفسك ثم بمن تعول. ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصللنفسه مصلحة، فكيف يحصلها لغيره؟ ألا ترى إلى قول الشاعر:

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه فليس على شيء سواه بخزان

فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره، ومنع ذلك لنفسه، كان ذلك خارجاً عن أفعالالعقلاء، خصوصاً في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله، والفوز بالنعيم السرمدي. وقد فسروا قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }بأقوال: أفلا تعقلون: أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم، أو أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصيةربكم في اتباع محمد والإيمان به، أو أفلا تنتهون، لأن العقل ينهى عن القبيح، أو أفلاترجعون، لأن العقل يراد إلى الأحسن، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه، أو إن وبال ذلك عليكم راجع، أو أفلاتمتنعون من المعاصي، أو أفلا تعقلون، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه، أو أفلا تفطنون لقبحما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل، لأن العقول تأباه وتدفعه. وشبيه بهذه الآية

{ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }

الآية. والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة،وذلك معلوم بشواهد العقل، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل، ويصير ذلك الوعظ سبباً للرغبةفي المعصية، لأنه يقال: لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية، فتكون النفس نافرةعن قبول وعظ من لم يتعظ، وأنشدوا:

مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قلبه أولاً
لاوقال عليّ كرم الله وجهه: قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك. ولا دليل في الآية لمن استدل بهاعلى أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا في قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }،ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، قالوا: التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم، وهذهمسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام. وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع، وإن كان خطاباً لبني إسرائيل، فهو عام من حيثالمعنى. وعن محمد بن واسع: بلغني أن ناساً من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم: قدكنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها. {وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ }: تقدم ذكرمعاني استفعل عند ذكر المادة في قوله تعالى:

{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

، وأن من تلك المعاني الطلب، وأن استعان معناه طلبالمعونة، وظاهر الصبر أنه يراد به ما يقع عليه في اللغة. وقال مجاهد: الصبر: الصوم، والصوم: صبر، لأنه إمساك عنالطعام، وسمي رمضان: شهر الصبر. والصلاة: هي المفروضة مع ما يتبعها من السنن والنوافل، قاله مجاهد. وقيل: الصلاة الدعاء وقدأضمروا للصبر صلة تقيده، فقيل: بالصبر على ما تكرهه نفوسكم من الطاعة والعمل، أو على أداء الفرائض، روي ذلك عنابن عباس، أو عن المعاصي، أو على ترك الرياسة، أو على الطاعات وعن الشهوات، أو على حوائجكم إلى الله، أوعلى الصلاة. ولما قدر هذا التقدير، أعني بالصبر على الصلاة، توهم بعض من تكلم على القرآن، أن الواو التي فيالصلاة هنا بمعنى على، وإنما يريد قائل هذا: أنهم أمروا بالاستعانة بالصبر على الصلاة وبالصلاة، لأن الواو بمعنى على، ويكونينظر إلى قوله:

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } وأمروا بالاستعانة بالصلاة، لأنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة ويزهدفي الدنيا، أو لما فيها من تمحيص الذنوب وترقيق القلوب، أو لما فيها من إزالة الهموم، ومنه الحديث: كان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة . وقد روي أن ابن عباس نعى إليه قثم أخوه،فقام يصلي، وتلا: {وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ }، أو لما فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، وكل هذه الوجوه ذكروها. وقدمالصبر على الصلاة، قيل: لأن تأثير الصبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، والنفي مقدمعلى الإثبات، ويظهر أنه قدم الاستعانة به على الاستعانة بالصلاة، لأنه سبق ذكر تكاليف عظيمة شاق فراقها على من ألفهاواعتادها من ذكر ما نسوه والإيفاء بما أخلفوه والإيمان بكتاب متجدد وترك أخذهم الرشا على آيات الله وتركهم إلباس الحقبالباطل وكتم الحق الذي لهم بذلك الرياسة في الدنيا والاستتباع لعوامهم وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذه أمور عظيمة، فكانت البداءةبالصبر لذلك. ولما كان عمود الإسلام هو الصلاة، وبها يتميز المسلم من الشرك، أتبع الصبر بها، إذ يحصل بها الاشتغالعن الدنيا، وبالتلاوة فيها الوقوف على ما تضمنه كتاب الله من الوعد والوعيد، والمواعظ والآداب، ومصير الخلق إلى دار الجزاء،فيرغب المشتغل بها في الآخرة، ويرغب عن الدنيا. وناهيك من عبادة تتكرر على الإنسان في اليوم والليل خمس مرات، يناجيفيها ربه ويستغفر ذنبه. وبهذا الذي ذكرناه تظهر الحكمة في أن أمروا بالاستعانة بالصبر والصلاة. ويبعد دعوى من قال: إنهخطاب للمؤمنين برسول الله ، قال: لأن من ينكره لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة. قال:ولا يبعد أن يكون الخطاب أولاً لبني إسرائيل، ثم يقع بعد الخطاب للمؤمنين، والذي يظهر أن ذلك كله خطاب لبنيإسرائيل، لأن صرف الخطاب إلى غيرهم لغير موجب، ثم يخرج عن نظم الفصاحة. {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ }: الضمير عائد علىالصلاة. هذا ظاهر الكلام، وهو القاعدة في علم العربية: أن ضمير الغائب لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، وقيل:يعود على الاستعانة، وهو المصدر المفهوم من قوله: {وَٱسْتَعِينُواْ }، فيكون مثل

{ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ }

، أي العدل أقرب،قاله البجلي. وقيل: يعود على إجابة رسول الله ، لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه، قالهالأخفش. وقيل: على العبادة التي يتضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة. وقيل: يعود على الكعبة، لأن الأمر بالصلاة إليها. وقيل: يعودعلى جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها، من قوله: {ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } إلى {وَٱسْتَعِينُواْ }. وقيل: المعنىعلى التثنية، واكتفى بعوده على أحدهما، فكأنه قال: وإنهما كقوله:

{ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا }

في بعض التأويلات،وكقوله: {وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }، وقول الشاعر:

إن شــرخ الشبــاب والشعــر الأســـود مـا لم يعـاص كـان جنونـا

فهذه سبعة أقوال فيما يعود الضمير عليه، وأظهرها ما بدأنا به أولاً، قال مؤرج في عود الضمير:لأن الصلاة أهم وأغلب، كقوله تعالى:

{ ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا }

، انتهى. يعني أن ميل أولئك الذين انصرفوا في الجمعة إلى التجارةأهم وأغلب من ميلهم إلى اللهو، فلذلك كان عود الضمير عليها، وليس يعني أن الضميرين سواء في العود، لأن العطفبالواو يخالف العطف بأو، فالأصل في العطف بالواو مطابقة الضمير لما قبله في تثنية وجمع، وأما العطف بأو فلا يعودالضمير فيه إلا على أحد ما سبق. ومعنى كبر الصلاة: ثقلها وصعوبتها على من يفعلها مثل قوله تعالى:

{ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ }

، أي شق ذلك وثقل. {إِلاَّ عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ }: استثناء مفرغ، لأن المعنى: وإنها لكبيرةعلى كل أحد إلا على الخاشعين، وهم المتواضعون المستكينون، وإنما لم تشق على الخاشعين، لأنها منطوية على أوصاف هم متحلونبها لخشوعهم من القيام لله والركوع له والسجود له والرجاء لما عنده من الثواب. فلما كان مآل أعمالهم إلى السعادةالأبدية، سهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين بأعمالهم الذين لا يرجون لها نفعاً. ويجوز في {ٱلَّذِينَ }الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك صفة مدح، فالقطع أولى بها. و{يَظُنُّونَ } معناه: يوقنون، قاله الجمهور، لأن منوصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون. وقيل معناه: الحسبان، فيحتاج إلىمصحح لهذا المعنى، وهو ما قدّروه من الحذف، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين، والصحيح هو الأول، ومثله

{ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ }

، فظنوا أنهم مواقعوها. وقال دريد:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في السائريّ المسرّد

قال ابن عطية: قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة، لكنه لا يوقع فيماقد خرج إلى الحس. لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر: أظن هذا إنساناً، وإنما نجد الاستعمال فيما لم يخرجإلى الحس، انتهى. والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدّى إلى اثنين، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعلوأنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول: ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك خلاف. مذهب سيبويه: أن أنوإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب. ومذهبأبي الحسن وأبي العباس: أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدّر، فإذا قلت: ظننت أنزيداً قائم، فتقديره: ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو. {أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا رَبّهِمْ}، الملاقاة: مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته. وقال المهدوي والماوردي وغيرهما: الملاقاة هنا، وإن كانت صيغتهاتقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم: طارقت النعل، وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن لقي يتضمنمعنى لاقي، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفهمن حيث إن مادة لقي تضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل، سواء كان مجرداً أو على فاعل، معناهواحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن يكون لواحد. وهذا يدلعلى أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد، وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن عطية: وليستكذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك. وقوله: بل فعلخلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعلمن اللقاء من باب: عاقبت اللص، حيث إن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذهالإضافة غير محضة، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال،أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول، وإضافته إليه، وإضافته إلى الرب، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة، وذلكأن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يريه، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب.وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم، فحمله بعضهم على ظاهر من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤيةالباري تعالى، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها، وقد جاءت بها السنة المتواترة، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين، وقيل ذلكعلى حذف مضاف، أي جزاء ربهم، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كمايقال لمن مات قد لقي الله، ومنه قول الشاعر:

غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه

وكنى بالملاقاة عن الموت، لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت، فهو من إطلاق المسبب، والمراد منه السبب، وذلك أن منكان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه الخشوع، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء، وهو الثواب،أي ثواب ربهم. فعلى هذا القول، والقول الأول، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح، وعلى تقدير الجزاء،أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل، يكون الظن يراد به التيقن. وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لايراد به الرؤية ولا يفيدها. ألا ترى إلى قوله تعالى:

{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ }

والمنافق لايرى ربه

{ وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَـٰقُوهُ }

؟ ويتناول الكافر والمؤمن؟ وفي الحديث: لقي الله وهو عليه غضبان إلى غير ذلك مماذكروه. وقد تكلم على ذلك أصحابنا. ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين. {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رٰجِعُونَ }: اختلف فيالضمير في إليه على من يعود، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب، وأن المعنى: وأنهم إلى ربهم راجعون،وهو أقرب ملفوظ به. وقيل: يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم. وقيل: يعود على الموت. وقيل: على الإعادة، وكلاهمايدل عليه ملاقوا. وقد تقدم شرح الرجوع، فأغنى عن إعادته هنا. وقيل: بالقول الأول، وهو أن الضمير يعود على الرب،فلا يتحقق الرجوع، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف، التقدير: إلى أمر ربهم راجعون. وقيل: المعنى بالرجوع: الموت. وقيل: راجعونبالإعادة في الآخرة، وهو قول أبي العالية. وقيل: راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضراً ولا نفعاً لغيره، كما كانوافي بدء الخلق. وقيل: راجعون، فيجزيهم بأعمالهم، وليس في قوله: وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة،وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات. قالوا: لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده.

{ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } * { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }[عدل]

{رٰجِعُونَ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِى ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ وَٱتَّقُواْيَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـٰعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }. الفضل:الزيادة، واستعماله في الخير، وفعله فعل يفعل، وأصله أن يتعدى بحرف الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قولالشاعر، وقد جمع بين الوجهين:

وجدنا نهشلاً فضلت فقيما كفضل ابن المخاض على الفصيل

وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال: فضل يفضل، كالذي قدمناه، وفضل يفضل، نحو: سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرهامن الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها، والصواب الفتح. الجزاء:القضاء عن المفضل والمكافأة، قال الراجز:

يجزيه رب العرش عني إذ جزى جنات عدن في العلاليّ العلا

والإجزاء: الإغناء. قبول الشيء: التوجه إليه، والفعل قبل يقبل، والقبل: ما واجهك، قال القطامي:

فقلت للركب لما أن علا بهم من عن يمين الحبيا نظرة قبل

الشفاعة: ضم غيره إلى وسيلته، والشفعة: ضمالملك، الشفع: الزوج، والشفاعة منه، لأن الشفاعة والمشفوع له: شفع، وقال الأحوص:

كان من لامني لأصرمها كانوا لليلى بلومهم شفعوا

وناقة شفوع: خلفها ولد. وقيل: خلفها ولد، وفي بطنها ولد. الأخذ: ضد الترك، والأخذ:القبض والإمساك، ومنه قيل للأسير: أخيذ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام، وقلّ الإتمام. العدل: الفداء، والعدل: ما يساويهقيمة وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، وبكسر العين: المساوي في الجنس والجرم. ومن العرب من يكسر العين من معنىالفدية، وواحد الأعدال بالكسر لا غير، والعدل: المقبول القول من الناس، وحكي فيه أيضاً كسر العين. وقال ثعلب: العدل: الكفيلوالرشوة، قال الشاعر:

لا يقبـل الصـرف فيهـا نهـاب العـدلا

النصر: العون، أرض منصورة: ممدودة بالمطر، قال الشاعر:

أبوك الذي أجدى علي بنصره وأمسك عني بعده كل قاتل

وقال الآخر:

إذا ودّع الشهر الحرام فودعي بلاد تميم وانصري أرض عامر

والنصر: العطاء، والانتصار: الانتقام. النجاة: التنجية من الهلكة بعدالوقوع فيها، والأصل: الإلقاء بنجوة، قال الشاعر:

ألم تر للنعمان كان بنجوة من الشر لو أن امرأ كان ناجيا

الآل: قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أنألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل من يؤولمن قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو. ولذلك قال يونس: في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصاً عنالعرب، وهذا اختيار أبي الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن الهاء تبدل همزة، كما ذكر أنالهمزة تبدل هاء في: هرقت، وهيا، وهرحت، وهياك. وقد خصوا آلاً بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن يعلم غالباً، فلايقال: آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر:

نحن آل اللَّه في بلدتنا لم نزل آلا على عهد ارم

قال الأخفش: لا يضاف آل إلا إلى الرئيس الأعظم، نحو: آل محمد ، وآلفرعون لأنه رئيسهم في الضلالة، قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة في البلدان فقالوا: آل المدينة، وآلالبصرة. وقال الكسائي: لا يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال: من أهل البصرة،ومن أهل الكوفة، انتهى قوله. وقد سمع إضافته إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر:

وانصـر علـى آل الصليـــب وعابديـه اليـوم آلك

وقال هدبة:

أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا

وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك الكسائي،وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً، كما جمع أهلفقالوا: آلون. والآل: السراب، يجمع على أفعال، قالوا: أأوال، والآل: عمود الخيمة، والآل: الشخص، والآلة: الحالة الشديدة. فرعون: لا ينصرفللعلمية والعجمة، وسيأتي الكلام عليه. سامه: كلفه العمل الشاق، قال الشاعر:

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا

وقيل معناه: يعلمونكم من السيماء، وهي العلامة، ومنه: تسويم الخيل. وقيل: يطالبونكم من مساومةالبيع. وقيل: يرسلون عليكم من إرسال الإبل للرّعي، وقال أبو عبيدة: يولونكم، يقال سامه خطة خسف: أي أولاه إياها. السوء:مصدر أساء، يقال: ساء يسوء، وهو متعد، وأساء الرجل: أي صار ذا سوء، قال الشاعر:

لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرّني أني خطرت ببالك

ومعنى ساءه: أحزنه، هذا أصله، ثم يستعمل في كلما يستقبح، ويقال: أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل: يراد قبحهما. الذبح: أصله الشق، قال الشاعر:

كأن بين فكها والفك فأرة مسك ذبحت في سك

وقال:

كأنمـا الصـاب في عينيـك مـذبوح

والذبحة: داءفي الحلق، يقال منه: ذبحه يذبحه ذبحاً، والذبح: المذبوح. الاستحياء: هنا الإبقاء حياً، واستفعل فيه بمعنى أفعل: استحياه وأحياه بمعنىواحد، نحو قولهم: أبل واستبل، أو طلب الحياء، وهو الفرج، فيكون استفعل هنا للطلب، نحو: استغفر، أي تطلب الغفران. وقدتقدم الكلام على استحيا من الحياء في قوله:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ * يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً }

النساء: اسم يقعللصغار والكبار، وهو جمع تكسير لنسوة، ونسوة على وزن فعلة، وهو جمع قلة، خلافاً لابن السرّاج، إذ زعم أن فعلةاسم جمع لا جمع تكسير، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه. والواحدة: امرأة. البلاء: الاختبار، بلاه يبلوه بلاء:اختبره، ثم صار يطلق على المكروه والشدة، يقال: أصاب فلاناً بلاء: أي شدة، وهو راجع لمعنى البلى، كأن المبتلى يؤولحاله إلى البلى، وهو الهلاك والفناء. ويقال: أبلاه بالنعمة، وبلاه بالشدة. وقد يدخل أحدهما على الآخر فيقال: بلاه بالخير، وأبلاهبالشر، قال الشاعر:

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فاستعملهما بمعنىواحد، ويبنى منه افتعل فيقال: ابتلى. {خَـٰلِدُونَ يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ }: تقدم الكلام في شرحهذا، وأعيد نداؤهم ثانياً على طريق التوكيد، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم،وتفصيلها نعمة نعمة، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم. {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ }: ثم عطفالتفضيل على النعمة، وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواودون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا هذا النحو منالعطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر:

أكر عليهم دعلجاً ولبانه إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما

دعلج: هنا اسم فرس، ولبانه: صدره، ولأبي الفتح بنجني كلام في ذلك يكشف من سر الصناعة له. {عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ }: أي عالمي زمانهم، قاله الحسن ومجاهد وقتادة وابنجريج وابن زيد وغيرهم، أو على كل العالمين، بما جعل فيهم من الأنبياء، وجعلهم ملوكاً وآتاهم ما لم يؤت أحداًمن العالمين، وذلك خاصة لهم دون غيرهم. فيكون عاماً والنعمة مخصوصة. قالوا: ويدفع هذا القول:

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ }

، أوعلى الجم الغفير من الناس، يقال: رأيت عالماً من الناس، يراد به الكثرة. وعلى كل قول من هذه الأقوال الثلاثةلا يلزم منه التفضيل على هذه الأمة، لأن من قال بالعموم خص النعمة، ولا يلزم التفضيل على كل عالم بشيءخاص التفضيل من جميع الوجوه، ومن قال بالخصوص فوجه عدم التفضيل مطلقاً ظاهر. وقال القشيري: أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهمفقال: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ }، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال:

{ قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ }

، فشتان بينمن مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه. فالأول يقتضي الثناء، والثاني يقتضي الإعجاب، انتهى. وآخره ملخص من كلامه..{وَٱتَّقُواْ يَوْمًا } أمر بالاتقاء، وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلاً للتقوى.فأمروا بالإدامة على التقوى، أو بتحصيل التقوى، إن عرض لهم خلل وانتصاب يوماً، أما على الظرف والمتقى محذوف تقديره: اتقواالعذاب يوماً، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم. وقيل معناه: جيئوامتقين، وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب يوماً على الظرف. قال القشيري: العوام خوفهم بعذابه،فقال: {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا }،

{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ }

. والخواص خوفهم بصفاته، فقال:

{ وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ }

، وما تكونفي شأن الآية. وخواص الخواص خوفهم بنفسه، فقال:

{ وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ }

. وقرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ،أي أغني، وقيل جزا، واجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم، والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزي فيه،فحذف حرف الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً. وهذا اختيارأبي عليّ، وإياه نختار. قال المهدوي: والوجهان، يعني تقديره: لا تجزي فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقالالكسائي: لا يكون المحذوف إلا لها، قال: لا يجوز أن تقول: هذا رجل قصدت، ولا رأيت رجلاً أرغب، وأنت تريدقصدت إليه وأرغب فيه، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه قوله:

فما أدري أغيرهم تناء وطول العهد أم مال أصابوا

يريد: أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أوالضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط، ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها يوممحذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: واتقوا يوماً يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة يوماً عليه، فيصير المحذوف في الإضافةنظير الملفوظ به في نحو قوله تعالى:

{ هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ }

، ونظير يوم لا تملك، لا تحتاج الجملة إلىضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف بدلاً، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر:

رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات

في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد قالت العرب: يعجبني الإكرام عندكسعد، بنية: يعجبني الإكرام إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب: أطعمونا لحماً سميناً شاة ذبحوها، أي لحم شاة. وحكى الفراءعن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنة، الدقيق عظمه، على تقديره: لو تعلمون علم الكبيرة سنة، فحذف الثانياعتماداً على الأول، ولم يجز البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه في: يعجبني القيامزيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء عن العرب. ويحسن هذاالتخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب، فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم معالتنافر، فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحداً من المعربين والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج، بل هممجمعون على أن الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل المعطوفة على {لاَّ تَجْزِى }، أيولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا يحتاج إلىإضمار هذه الرّوابط. {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } كلاهما نكرة في سياق النفي فتعم. ومعنى التنكير: أن نفساً منالأنفس لا تجزي عن نفس من الأنفس شيئاً من الأشياء، قال الزمخشري: وفيه إقناط كلي قاطع من المطامع، وهذا علىمذهبه في أن لا شفاعة. وقال بعضهم: التقدير عن نفس كافرة، فقيدها بالكفر، وفيه دلالة على أن النفس تجزي عننفس مؤمنة، وذلك بمفهوم الصفة. ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام على قوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَاشَفَـٰعَةٌ }. وقرأ أبو السرار الغنوي: لا تجزي نسمة عن نسمة، وانتصاب شيئاً على أنه مفعول به، أي لا يقضيشيئاً، أي حقاً من الحقوق، ويجوز أن يكون انتصابه على المصدر، أي: ولا تجزي شيئاً من الجزاء، قاله الأخفش، وفيهإشارة إلى القلة، كقولك: ضربت شيئاً من الضرب.. {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـٰعَةٌ }: قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولاتقبل بالتاء، وهو القياس والأكثر، ومن قرأ بالياء فهو أيضاً جاز فصيح لمجاز التأنيث، وحسنة أيضاً الفصل بين الفعل ومرفوعه.وقرأ سفيان: ولا يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل، وفي ذلك التفات وخروج من ضمير المتكلم إلى ضميرالغائب، لأن قبله: {ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ } و{إِنّى * فَضَّلْتُكُمْ }، وبناؤه للمفعول أبلغ لأنه في اللفظ أعم، وإن كان يعلمأن الذي لا يقبل هو الله تعالى. والضمير في منها عائد على نفس المتأخرة لأنها أقرب مذكور، أي لا يقبلمن النفس المستشفعة شفاعة شافع، ويجوز أن يعود الضمير على نفس الأولى، أي ولا يقبل من النفس التي لا تجزيعن نفس شيئاً شفاعة، هي بصدد أن لو شفعت لم يقبل منها، وقد يظهر ترجيح عودها إلى النفس الأولى، لأنهاهي المحدث عنها في قوله: {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ }، والنفس الثانية هي مذكورة على سبيل الفضلة لا العمدة.وظاهر قوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَـٰعَةٌ } نفي القبول ووجود الشفاعة، ويجوز أن يكون من باب:

علـى رحـب لا يهتـدى بمنــاره

نفي القبول، والمقصود نفي الشفاعة، كأنه قيل: لا شفاعة، فتقبل. وقد اختلف المفسرون في فهم هذا على ستة أقوال:الأول: أنه لفظ عام لمعنى خاص، والمراد: الذين قالوا من بني إسرائيل نحن أبناء الله، وأبناء أنبيائه، وأنهم يشفعون لناعند الله، فرد عليهم ذلك، وأويسوا منه لكفرهم، وعلى هذا تكون النفس الأولى مؤمنة، والثانية كافرة، والكافر لا تنفعه شفاعةلقوله تعالى:

{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِينَ }

. الثاني: معناه لا يجدون شفيعاً تقبل شفاعته، لعجز المشفوع فيه عنه، وهو قولالحسن. الثالث: معناه لا يجيب الشافع المشفوع فيه إلى الشفاعة، وإن كان لو شفع لشفع. الرابع: معناه حيث لم يأذنالله في الشفاعة للكفار، ولا بد من إذن من الله بتقدم الشافع بالشفاعة لقوله:

{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَـٰعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }

{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } . الخامس: معناه ليس لها شفاعة، فيكون لها قبول، وقد تقدم هذاالقول. السادس: أنه نفي عام، أي لا يقبل في غيرها، لا مؤمنة ولا كافرة، في مؤمنة ولا كافرة، قاله الزمخشري.وأجمع أهل السنة أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين، خلافاً للمعتزلة، قالوا: الكبيرة تخلد صاحبها فيالنار، وأنكروا الشفاعة، وهم على ضربين: طائفة أنكرت الشفاعة إنكاراً كلياً وقالوا: لا تقبل شفاعة أحد في أحد، واستدلوا بظواهرآيات، وخص تلك الظواهر أصحابنا بالكفار لثبوت الأحاديث الصحيحة في الشفاعة. وطائفة أنكرت الشفاعة في أهل الكبائر، قالوا: وإنما تقبلفي الصغائر. وقال في المنتخب: أجمعت الأمة على أن لمحمد شفاعة في الآخرة، واختلفوا لمن تكون.فذهبت المعتزلة إلى أنها للمستحقين الثواب، وتأثيرها في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه. وقال أصحابنا: تأثيرهافي إسقاط العذاب عن المستحقين، إما بأن لا يدخلوا النار، وإما في أن يخرجوا منها بعد دخولها ويدخلون الجنة، واتفقواعلى أنها ليست للكفار، ثم ذكر نحواً من ست أوراق في الاستدلال للطائفتين، ورد بعضهم على بعض، يوقف عليها فيذلك الكتاب. {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } العدل: الفدية، قاله ابن عباس وأبو العالية، وسميت عدلاً لأن المفدي يعدلبها: أي يساويها، أو البدل: أي رجل مكان رجل. وروي عن ابن عباس: أو حسنة مع الشرك ثلاثة أقوال. {وَلاَهُمْ يُنصَرُونَ }: أتى بالضمير مجموعاً على معنى نفس، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، كقوله تعالى:

{ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَـٰجِزِينَ }

، وأتى به مذكراً لأنه أريد بالنفوس الأشخاص كقولهم: ثلاثة أنفس، وجعل حرف النفي منسحباً على جملةاسمية ليكون الضمير مذكوراً مرتين، فيتأكد ذكر المنفي عنه النصر بذكره مرتين، وحسن الحمل على المعنى كون ذلك في آخرفاصلة، فيحصل بذلك التناسب في الفواصل، بخلاف أن لو جاء ولا تنصر، إذ كان يفوت التناسب. ويحتمل رفع هذا الضميروجهين من الإعراب. أحدهما: وهو المتبادر إلى أذهان المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر. والوجه الثاني:وهو أعمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وذلكأن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل، كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في: أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع علىالاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة فغلية. والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعليةوعطف عليها بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل، ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً، ويقوي عود الضميرإلى نفس الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى لكان مبنياً للفاعل، كقوله: لا تجزي. ومنالمفسرين من جعل الضمير في ولاهم عائداً على النفسين معاً، قال: لأن التثنية جمع قالوا، وفي معنى النصر للمفسرين هناثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه لا يمنعون من عذاب الله. الثاني: لا يجدون ناصراً ينصرهم ولا شافعاً يشفع لهم. الثالث:لا يعاونون على خلاصهم وفكاكهم من موبقات أعمالهم. وثلاثة الأقوال هذه متقاربة المعنى، وجاء النفي لهذه الجمل هنا بلا المستعملةلنفي المستقبل في الأكثر، وكذلك هذه الأشياء الأربعة هي مستقبلة، لأن هذا اليوم لم يقع بعد. وترتيب هذه الجمل فيغاية الفصاحة، وهي على حسب الواقع في الدنيا، لأن المأخوذ بحق، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص، أو لا يقضىعنه فيشفع فيه، أو لا يشفع فيه فيفدى، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه. فهذه مراتب يتلو بعضهابعضاً. فلهذا، والله أعلم، جاءت مترتبة في الذكر هكذا. ولما كان الأمر مختلفاً عند الناس في الشفاعة والفدية، فمن يغلبعليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة، جاءت هذه الجمل هنامقدماً فيها الشفاعة، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين. وبدىء هنا بالشفاعة، لأنذلك أليق بعلوّ النفس، وجاء هنا بلفظ القبول، وهناك بلفظ النفع، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء، وانتفاء ما يترتب عليه.وبدىء هنا بالقبول، لأنه أصل للشيء المترتب عليه، فأعطى المتقدم ذكر المتقدم وجوداً، وأخر هناك النفع إعطاء للمتأخر ذكر المتأخروجوداً. {وَإِذْ نَجَّيْنَـٰكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ }: تقدم الكلام على إذ في قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ }

. ومن أجاز نصب إذ هناك مفعولاً به بإضمار اذكروا وادّعى زيادتها، فقياس قوله هناك إجازته هنا، إذ لم يتقدمشيء تعطفه عليه إلا إن ادّعى مدّع أن إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم، ووقتتنجيتكم. ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة الاعتراض التي هي: {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا }. وقد قدمنا أنا لا نختارأن يكون مفعولاً به باذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرففيها إلا بإضافة اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك، فالذي نختاره أن ينتصب على الظرف،ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً يدل عليه ما قبله، تقديره: وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون، وتقدير هذا الفعلأولى من كل ما قدمناه. وخرج بقوله: أنجيناكم إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه من ضمير المتكلم الذي لا يدل علىتعظيم في قوله: {نِعْمَتِى ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ }، لأن هذا الفعل الذي هو الإنجاء من عدوّهم، هو من أعظم، أو أعظمالنعم، فناسب الأعظم نسبته للمعظم نفسه. وقرىء: أنجيناكم، والهمزة للتعدية إلى المفعول، كالتضعيف في نجيناكم. ونسبة هذه القراءة للنخعي. وذكربعضهم أنه قرأ: أنجيتكم، فيكون الضمير موافقاً للضمير في نعمتي، والمعنى: خلصتكم من آل فرعون، وجعل التخليص منهم لأنهم همالذين كانوا يباشرونهم بهذه الأفعال السيئة، وإن كان أمرهم بذلك فرعون، وآل فرعون هنا أهل مصر، قاله مقاتل، أو أهلبيته خاصة، قاله أبو عبيد، أو أتباعه على ذنبه، قاله الزجاج، ومنه:

{ وأغرقنا آل فرعون }

، وهم أتباعه على ذنبه، إذلم يكن له أب، ولا بنت، ولا ابن، ولا عم، ولا أخ، ولا عصبة، وأدخلوا آل فرعون أشد العذاب. ورويأنه قيل لرسول الله : من آلك؟ فقال: كل تقي . ويؤيد القول الثاني: لا تحل الصدقة لمحمدوآل محمد. والمراد بالآل هنا: آل عقيل، وآل عباس، وآل الحارث بن عبد المطلب ومواليهم. وورد أيضاً أن آله: أزواجهوذريته، فدل على أنه لرسول الله آل عام وآل خاص. وفرعون: علم لمن ملك العمالقة،كما قيل: قيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وتبع لمن ملك اليمن. وقال السهيلي:هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وقد اشتق منه: تفرعن الرجل، إذا تجبر وعتا، واسمه الوليد بن مصعب، قالهابن إسحاق، وأكثر المفسرين، أو فنطوس، قاله مقاتل، أو مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير، أو مغيث، ذكره بعض المفسرين،أو قابوس، وكنيته أبو مرة، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح وروي أنه منأهل اصطخر، ورد إلى مصر فصار بها ملكاً، لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية، قاله المسعودي. وقال ابن وهب: فرعون موسىهو فرعون يوسف، قالوا: وهذا غير صحيح، لأن بين دخول يوسف مصر ودخول موسى أكثر من أربعمائة سنة. والصحيح أنهغيره. وقيل: كان اسم فرعون يوسف الريان بن الوليد.. {يَسُومُونَكُمْ }: يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكايةحال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال: أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون. {يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ }: أشقه وأصعبهوانتصابه، مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال: السوم: بمعنى التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاًثانياً لسام، أي يكلفونكم، أو يولونكم سوء العذاب، أو بمعنى: الإرسال، أو الإدامة، أو التصريف، أي: يرسلونكم، أو يديمونكم، أويصرفونكم في الأعمال الشاقة، أو بمعن الرفع، أي يرفعونكم إلى سوء العذاب، أو الوسم، أي: يعلمونكم من العلامة، ومعناه: أنالأعمال الشاقة لكثرة مزاولتها تصير عليهم علامة بتأثيرها في جلودهم وملابسهم، كالحدادة والنجارة، وغير ذلك يكون وسماً لهم، والتقدير: يعلمونكمبسوء العذاب. وضعف هذا القول من جهة الاشتقاق، لأنه لو كان كذلك لكان يسمونكم، وهذا التضعيف ضعيف لأنه لم يقلإنه مأخوذ من الوسم، وإنما معناه معنى الوسم، وهو من السيمياء، والسيماءو مسوّمين في أحد تفاسيره بمعنى العلامة، وأصول هذاسين وواو وميم، وهي أصول يسومونكم، ويكون فعل المجرد بمعنى فعل، وهو مع الوسم مما اتفق معناه واختلفت أصوله: كدمت،ودمثر، وسبط، وسبطر، أو بمعنى الطلب بالزيادة من السوم في البيع، أي: يطلبونكم بازدياد الأعمال الشاقة. وعلى هذه الأقوالغير القولين الأولين يكون {سُوء ٱلْعَذَابِ } مفعولاً على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس: ينتصب سوء العذاب نصب المصدر،ثم قدره سوماً شديداً. وسوء العذاب: الأعمال القذرة، قاله السدي، أو الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك، قاله بعضهم. قال: وكانقومه جنداً ملوكاً، أو الذبح، أو الاستحياء المشار إليهما، قاله الزجاج. ورد ذلك بثبوت الواو في إبراهيم فقال: ويذبحون، فدلعلى أنه عذبهم بالذبح وبغير الذبح. وحكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً في الأعمال من البناء والتخريب والزراعة والخدمة،ومن لا يعمل فالجزية، فذوو القوّة ينحتون السواري من الجبال حتى قرحت أعناقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وطائفةينقلون له الحجارة والطين ويبنون له القصور، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة جعل عليهم الخراج ضريبةيؤدونها كل يوم. فمن غربت عليه الشمس قبل أن تؤديها غلت يده إلى عنقه شهراً. والنساء يغزلن الكتان وينسجن. وأصلنشأة بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمان ابنه يوسف بها على نبينا وعليهما السلام. {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ }: قراءةالجمهور بالتشديد، وهو أولى لظهور تكرار الفعل باعتبار متعلقاته. وقرأ الزهري وابن محيصن: يذبحون خفيفاً من ذبح المجرد اكتفاء بمطلقالفعل، وللعلم بتكريره من متعلقاته. وقرأ عبد الله: يقتلون بالتشديد مكان يذبحون، والذبح قتل، ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعلمن الفعل، نحو: قوله تعالى:

{ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ }

، وقول الشاعر:

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا

ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف لثبوتهفي إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا ضعيف. وقال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسيرلصفات العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون: في موضع الحال،من ضمير الرفع في: يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً. وفي سبب الذبح والاستحياء أقوال وحكايات مختلفة، الله أعلم بصحتها، ومعظمهايدل على خوف فرعون من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. والأبناء: الأطفال الذكور، يقال: إنه قتل أربعينألف صبي. وقيل: أراد بالأبناء: الرّجال، وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، والأول أشهر. والنساء هنا: البنات، وسموا نساء باعتبارما يؤلن إليه، أو بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهن، وقيل: أراد: النساء الكبار، والأول أشهر. {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ }:وفسر الاستحياء بالوجهين اللذين ذكرناهما عند كلامنا على المفردات، وهو أن يكون المعنى: يتركون بناتكم أحياء للخدمة، أو يفتشون أرحامنسائكم. فعلى هذا القول ظاهره أن آل فرعون هم المباشرون لذلك، ذكر أنه وكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ منتحمل منهن. وقيل: وكل بذلك القوابل. وقد قيل: إن الاستحياء هنا من الحياء الذي هو ضد القحة، ومعناه أنهم يأتونالنساء من الأعمال بما يلحقهم منه الحياء، وقدم الذبح على الاستحياء لأنه أصعب الأمور وأشقها، وهو أن يذبح ولد الرجلوالمرأة اللذين كانا يرجوان النسل منه، والذبح أشق الآلام. واستحياء النساء على القول الأول ليس بعذاب، لكنه يقع العذاب بسببهمن جهة إبقائهن خدماً وإذاقتهن حسرة ذبح الأبناء، إن أريد بالنساء الكبار، أو ذبح الإخوة، إن أريد الأطفال، وتعلق العاربهن، إذ يبقين نساء بلا رجال فيصرن مفترشات لأعدائهن. وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الآمر بالقتل بغيرحق والمباشر له شريكان في القصاص، فإن الله تعالى أغرق فرعون، وهو الآمر، وآله وهم المباشرون. وهذه مسألة يبحث فيهافي علم الفقه، وفيها خلاف بين أهل العلم. {وَفِى ذٰلِكُمْ بَلاء }: هو إشارة إلى ذبح الأبناء واستحياء النساء،وهو المصدر الدال عليه الفعل نحو قوله تعالى:

{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ } ، وهو أقرب مذكور، فيكون المراد بالبلاء:الشدة والمكروه. وقيل: يعود إلى معنى الجملة من قوله يسومونكم مع ما بعده، فيكون معنى البلاء كما تقدم. وقيل: يعودعلى التنيجة، وهو المصدر المفهوم من قوله: نجيناكم، فيكون البلاء هنا: النعمة ويكون ذلكم قد أشير به إلى أبعد مذكور،وهو أضعف من القول الذي قبله، والمتبادر إلى الذهن والأقرب في الذكر القول الأول. وفي قوله: {مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ} دليل على أن الخير والشرّ من الله تعالى، بمعنى أنه خالقهما. وفيه رد على النصارى ومن قال بقولهم: إنالخير من الله والشرّ من الشيطان ووصفه بعظيم ظاهر، لأنه إن كان ذلكم إشارة إلى التنجية من آل فرعون، فلايخفى ما في ذلك من عظم النعمة وكثرة المنة، وإن كان إشارة إلى ما بعد التنجي من السوم، أو الذبح،والاستحياء، فذلك ابتلاء عظيم شاق على النفوس، يقال إنه سخرهم فبنوا سبعة حوائط جائعة أكبادهم عارية أجسادهم، وذبح منهم أربعينألف صبي. فأي ابتلاء أعظم من هذا وكونه عظيماً هو بالنسبة للمخاطب والسامع، لا بالنسبة إلى الله تعالى، لأنه يستحيلعليه اتصافه بالاستعظام. قال القشيري: من صبر في الله على بلاء الله عوضه الله صحبة أوليائه. هؤلاء بنو إسرائيل صبرواعلى مقاساة الضرّ من فرعون وقومه، فجعل منهم أنبياء، وجعل منهم ملوكاً، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، انتهى.ولم تزل النعم تمحو آثار النقم، قال الشاعر:

نـأسوا بـأموالنــا آثــار أيــدينــا

ولما تقدم الأمر بذكر النعم مجملة فيما سبق،أمرهم بذكرها ثانية مفصلة، فبدأ منها بالتفضيل، ثم أمرهم باتقاء يوم لا خلاص فيه، لا بقاض حق، ولا شفيع، ولافدية، ولا نصر، لمن لم يذكر نعمه، ولم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه، وكان الأمر بالاتقاء مهماً هنا، لأن منأخبر بأنه فضل على العالمين ربما استنام إلى هذا التفضيل، فأعلم أنه لا بد مع ذلك من تحصيل التقوى وعدمالاتكال على مجرد التفضيل، لأن من ابتدأك بسوابق نعمه، يجب عليك أن تتقي لواحق نقمة. ثم ثنى بذكر الإنجاء الذيبه كان سبب البقاء بعد شدة اللأواء. ثم بعد ذلك ذكر تفاصيل النعماء مما نص عليه إلى قوله: { ٱهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } ، فكان تعداد الآلاء مما يوجب جميل الذكر وجليل الثناء. وسيأتي الكلام في ترتيب هذه النعم،نعمة نعمة، إن شاء الله تعالى.

{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }[عدل]

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـٰكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ وٰعَدْنَامُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ * ظَـٰلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.. الفرق: الفصل، فرق بين كذا وكذا: فصل، وفرق كذا: فصلبعضه من بعض، ومنه: الفرق في شعر الرأس، والفريق، والفرقان، والتفرق، والفرق، المفروق، كالطحن. والفرق ضده: الجمع، ونظائره: الفصل، وضده:الوصل، والشق والصدع: وضدهما اللأم، والتمييز: وضده الاختلاط. وقيل: يقال فرق في المعانى، وفرق في الأجسام، وليس بصحيح. البحر: مكانمطمئن من الأرض يجمع المياه، ويجمع في القلة على أبحر، وفي الكثرة على بحور وبحار، وأصله قيل: الشق، وقيل: السعة.فمن الأول: البحيرة، وهي التي شقت أذنها، ومن الثاني: البحيرة، المدينة المتسعة، وفرس بحر: واسع العدو، وتبحر في العلم: أياتسع، وقال:

انعق بضأنك في بقل تبحره من الأباطح وأحبسها بحلدان

وجاء استعماله فيالماء الحلو والماء الملح، قال تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } ، وجاء استعماله للملح،ويقال: هو الأصل، فيه أنشد أحمد بن يحيـى:

وقد عاد عذب الماء بحراً فزادني على مرض أن أبحر المشرب العذب

أي صار ملحاً. الغرق: معروف، والفعل منه فعل بكسر العين يفعل بالفتح، قال:

وتـــارات يــجـــمّ فيــغـــرق

والتغريق، والتعويص، والترسيب، والتغييب، بمعنى واحد. النظر: تصويب المقلة إلى المرئيّ، ويطلق على الرؤية، وتعديته بإلى، ويعلق، وإن لم يكنمن أفعال القلوب، فلينظر أيها أزكى طعاماً، ونظره وانتظره وأنظره: أخره، والنظرة: التأخير. وعد في الخير والشر، والوعد في الخير،وأوعد في الشر، والإيعاد والوعيد في الشر. موسى: اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب من مو: وهوالماء، وشاو: وهو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا في اشتقاقه،فقال مكيّ: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ماقبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نصسيبويه على أن وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية على ذلك بأن زيادة الميم أولاًأكثر من زيادة الألف آخراً، واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه نكرة، ولو كان فعلى لمينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة. الأربعون: ليس بجمع سلامة، بلهو من قبيل المفرد الذي هو اسم جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم. الليلة: مدلولها معروف،وتكسر شاذاً على فعالى، فيقال: الليالي، ونظيره: الكيكة والكياكي، كأنه جمع ليلاه وكيكاه، وأهل والأهالي. وقد شذوا في التصغير كماشذوا في التكسير، قالوا: لييله. الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: إيتخذ كهمزةإيمان إذ أصله: إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغةالفصحى إبدالها تاء وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر، فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل،أبدلت تلك الهمزة ياء وأقررتها. هذا هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا: اتمن، وأصله: ائتمن. وعلى هذاجاء: اتخذ. ومما علق بذهني من فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بنأبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدلفيه الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإنكان مبنياً على اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة، وكان رحمه الله يغرب بنقل هذهاللغة. وقد خرج الفارسي مسألة اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر الخاء، بمعنى: أخذ،قال: تعالى:

{ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }

، في قراء من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله:

وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها نسيفاً كافحوص القطاة المطوّق

فعلى قوله: التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول:اتبع، مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا:تقى، واستدل على ذلك بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقي ويتسع بحذف التاء التي هي بدل من فاءالكلمة. ورد السيرافي هذا القول وقال: لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة، كقاف تفي، وأمايتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي والسيرافي من أنهبناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر:

ولا تكثرن تخذ العشار فإنها تريد مباءات فسيحاً بناؤها

وذكر المهدوي في شرح الهداية: أن الأصل واومبدلة من همزة، ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال: أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنهابدل من واو أصلية. الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من واو أبدلت من همزة،واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله تعالى:

{ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً }

، وتارة لاثنين نحو قوله تعالى:

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ }

: بمعنى صير. العجل: معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان، وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه فيكونه يبنى على الضم إذا قطع عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد، فالتقدير: جئت زماناًبعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا بمن وحدها. عفا: بمعنى كثر، فلا يتعدى حتى عفوا، وقالوا: وبمعنى درس،فيكون لازماً متعدياً نحو: عفت الديار، ونحو: عفاها الريح، وعفا عن زيد: لم يؤاخذه بجريمته، واعفوا عن اللحى، أي اتركوهاولا تأخذوا منها شيئاً، ورجل عفوّ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين، وهو جميع شاذ، والعفاء: الشعر الكثير، قال الشاعر:

عليــه مــن عقيقتــه عفــاء

ويقال في الدعاء على الشخص: عليه العفاء، قال:

علــى آثــار مــن ذهــب العفـاء

يريد الدروس، وتأتيعفا: بمعنى سهل من قولهم: خذ ما عفا وصفا، وأخذت عفوه: أي ما سهل عليه،

{ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ }

:أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه، ومنه: خذ العفو، أي السهل على أحد الأقوال، والعافية: الحالة السهلة السمحة. الشكر: الثناء علىإسداء النعم، وفعلة: شكر يشكرشكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاسعليها، وهو قسم برأسه، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك. وكان شيخناأبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً. وقيل: الشكر: إظهارالنعمة من قولهم: شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته، والشكير: صغار الورق يظهر من أثر الماء، قال الشاعر:

وبينا الفتى يهتز للعيش ناضرا كعسلوجة يهتز منها شكيرها

وأوّل الشيب، قال الراجز:

ألان ادلاج بك العتير والرأس إذ صار له شكير ونـاقة شكور تـذر أكـثر ممـا رعت

الفرقان: مصدر فرق، وتقدّمالكلام في فرق. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ }: معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل فيإذ تلك بواسطة الحرف. وقرأ الزهري: فرّقنا بالتشديد، ويفيد التكثير لأن المسالك كانت اثني عشر مسلكاً على عدد أسباط بنيإسرائيل. ومن قرأ: فرقنا مجرداً، اكتفى بالمطلق، وفهم التكثير من تعداد الأسباط. بكم: متعلق بفرّقنا، والباء معناها: السبب، أي بسببدخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبساً، كما قال:

تــدوس بنــا الجمــاجـم والتريبــا

أي ملتبسة بنا، أو: أي جعلناه فرقاً بكم كمايفرق بين الشيئين بما توسط بينهما، وهو قريب من معنى الاستعانة، أو معناها اللام، أي فرّقنا لكم البحر، أي لأجلكم،ومعناها راجع للسبب. ويحتمل الفرق أن يكون عرضاً من ضفة إلى ضفة، ويحتمل أن يكون طولاً، ونقل كل: وعلى هذاالثاني قالوا: كان ذلك بقرب من موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة.وذكر العامري: أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين، وهي كانت طريقهم. البحر: قيل هو بحر القلزممن بحار فارس، وكان بين طرفيه أربعة فراسخ، وقيل: من بحر من بحار مصر يقال له أساف، ويعرف الآن ببحرالقلزم، قيل: وهو الصحيح، ولم يختلفوا في أن فرق البحر كان بعدد الأسباط، اثنى عشر مسلكاً. واختلفوا في عدد المفروقبهم، وعدد آل فرعون، على أقوال يضاد بعضها بعضاً، وحكوا في كيفية خروج بني إسرائيل، وتعنتهم وهم في البحر مقتحمون،وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، حكايات مطوّلة جداً لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها، فالله أعلم بالصحيح منها.{فَأَنجَيْنَـٰكُمْ }: يعني من الغرق، ومن أدراك فرعون لكم واليوم الذي وقع فيه الفرق والنجاة والغرق كان يوم عاشوراء؟ واستطردواإلى الكلام في يوم عاشوراء، وفي صومه، وهي مسألة تذكر في الفقه. وبين قوله: {فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ }، وبين قوله:{فَأَنجَيْنَـٰكُمْ } محذوف يدلّ عليه المعنى تقديره: وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم. {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ} والهمزة في أغرقنا للتعدية، ويعدى أيضاً بالتضعيف. ولم يذكر فرعون فيمن غرق، لأن وجوده معهم مستقرّ، فاكتفى بذكر الآلهنا، لأنهم هم الذين ذكروا في الآية قبل هذه، ونسب تلك الصفة القبيحة إليهم من سومهم بني إسرائيل العذاب، وذبحهمأبناءهم، واستحيائهم نساءهم، فناسب هذا إفرادهم بالغرق. وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر، منها:

{ فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ }

{ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ }

{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ ٱلْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ }

. وناسب نجاتهم من فرعونبإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين، نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح، بإلقائه وهو طفل في البحر،وخروجه منه سالماً. ولكل أمّة نصيب من نبيها. وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق، هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح، لأنالذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت، ولا دم خارج، وكان ما به الحياة { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ }

سبباً لإعدامهم من الوجود. ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة، جعله الله تعالى نكالاًلمن ادّعى الربوبية، فقال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ }

سبباً لإعدامهم من الوجود. ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدّة، جعله الله تعالى نكالاًلمن ادّعى الربوبية، فقال: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ } ، إذ على قدر الذنب يكون العقاب، ويناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدّعىوتغييبه في قعر الماء. {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }: جملة حالية، وهو من النظر: بمعنى الإبصار. والمعنى، والله أعلم: أن هذهالخوارق العظيمية من فرق البحر بكم، وإنجائكم من الغرق، ومن أعدائكم، وإهلاك أعدائكم بالغرق، وقع وأنتم تعاينون ذلك وتشاهدونه، لميصل ذلك إليكم بنقل، بل بالمشاهدة التي توجب العلم الضروري بأن ذلك خارق من عند الله تعالى على يد النبيالذي جاءكم. وقيل: وأنتم تنظرون إليهم لقرب بعض من بعض، وقيل: إلى طفوهم على وجه الماء غرقى. وقيل: إليهم وقدلفظهم البحر وهم العدد الذي لا يكاد ينحصر، لم يترك البحر في جوفه منهم واحداً. وقيل: تنظرون أي بعضكم إلىبعض وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا، فإنهم علىطريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا، فقال بها على الحيطان، فصاربها كوى، فتراءوا وتسامعوا كلام بعضهم بعضاً. وهذه الأقوال الخمسة النظر فيها بمعنى الرؤية، وقيل: النظر تجوز به عن القرب،أي وأنتم بالقرب منهم، أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم: أنت مني بمرأى ومسمع، أي قريب بحيث أراك وأسمعك،قاله ابن الأنباري. وقيل: هو من نظر البصيرة والعقل، ومعناه: وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت إليهم. وقيل:النظر هنا بمعنى العلم، لأن العلم يحصل عن النظر، فكنى به عنه، قاله الفراء، وهو معنى قول ابن عباس.{وَإِذْ وٰعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } قرأ الجمهور: واعدنا، وقرأ أبو عمرو: وعدنا بغير ألف هنا، وفي الأعراف وطه، ويحتملواعدنا: أن يكون بمعنى وعدنا، ويكون صدر من واحد، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة، فيكون الله قدوعد موسى الوحي، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات، أو يكون الوعد من الله وقبوله كان من موسى، وقبول الوعديشبه الوعد. قال القفال: ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله بمعنى يعاهده. وقيل: وعد إذا كان عن غير طلب،وواعد إذا كان عن طلب. وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ: وعدنا بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ: واعدنابالألف، وافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي. وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر، وقال أبوحاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل واحد منهما يعد صاحبه، وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوهالسابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلاً منهما متواتر، فهما في الصحة على حدّ سواء. وأكثر القراءعلى القراءة بألف، وهي قراءة مجاهد، والأعرج، وابن كثير، ونافع، والأعمش، وحمزة، والكسائي. موسى: هو موسى بن عمران بن يصهربن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن. وذكر الشريف أبو البركات محمد بن أسعد بنعلي الحوّاني النسابة: أن موسى على نبينا وعليه السلام هو: موسى بن عمران بن قاهث، وتقدّم الكلام في لفظ موسىالعلم. وأما موسى الحديدة، التي يحلق بها الشعر، فهي مؤنثة عربية مشتقة من: أسوت الشيء، إذا أصلحته، ووزنها مفعل، وأصلهاالهمز، وقيل: اشتقاقها من: أوسيت إذا حلقت، وهذا الاشتقاق أشبه بها، ولا أصل للواو في الهمز على حد. أربعين ليلة:ذو الحجة وعشر من المحرّم، أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله أبو العالية وأكثر المفسرين، وقرأ علي وعيسىبن عمر: بكسر باء أربعين شاذاً اتباعاً، ونصب أربعين على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذفمضاف التقديم تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله:

فواعديه سر حتى مالك أو النقا بينهما أسهلا

أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصبأربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوبعلى التمييز الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوزتقديم هذا النوع من التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا ضرورة، نحو:

على أنني بعدما قد مضى ثلاثون للهجر حولاً كميلا وعشريـن منهـا أصبعـاً مـن ورائنـا

ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعضالكوفيين وأبي الحسين بن الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب: ما فعلت العشرون الدرهم، وماجاء نحو: هذا مما يدل على التعريف، وذلك مذكور في علم النحو. وكان تفسير الأربعين بليلة دون يوم، لأن أوّلالشهر ليلة الهلال، ولهذا أرّخ بالليالي، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعاً لليالي، أو لأن الظلمة أقدم من الضوءبدليل

{ وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } ، أو دلالة على مواصلته الصوم ليلاً ونهاراً، لأنه لو كان التفسير باليومأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها. وهذهالمواعدة للتكلم، أو لإنزال التوراة. قال المهدوي: وكان ذلك بعد أن جاوز البحر، وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عندالله، فخرج إلى الطور في سبعين رجلاً من خيار بني إسرائيل، وصعد الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة، فقعدوا فيماذكره المفسرون عشرين يوماً وعشرة ليال، فقالوا: قد أخلفنا موعده، انتهى كلامه. وقال الزمخشري: لما دخل بنو إسرائيل مصر، بعدهلاك فرعون، ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه، وعد الله أن ينزل عليهم التوراة، وضرب له ميقاتاً، انتهى. {ثُمَّٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ }: الجمهور على إدغام الذال في التاء. وقرأ ابن كثير وحفص من السبعة: بالإظهار، ويحتمل اتخذ هنا أنتكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال: { وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } ،على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون ثم جملة محذوفة يدل عليها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلهاً، ويحتمل أن تكون مماتعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً، والأرجح القول الأوّل، إذ لو كانمما يتعدّى في هذه القصة لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد إلى اثنين بلإلى واحد في هذا الموضع، وفي: {ٱتَّخَذَ * قَوْمِ مُوسَى }، وفي: { ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ }، وفي: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ }، وفي قوله في هذه السورة أيضاً: { إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِٱتّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ }، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القولالأوّل حذف جملة من هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد أسهل من حذف الجملة. فعلىالقول الأوّل فيه ذمّ الجماعة بفعل الواحد، لأن الذي عمل العجل هو السامري، وسيأتي، إن شاء الله، الكلام فيه وفياسمه وحكاية إضلاله عند قوله تعالى:

{ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِىُّ }

، وذلك عادة العرب في لاكمها تذم وتمدح القبيلة بما صدر عنبعضها. وعلى القول الثاني فيه ذمهم بما صدر منهم، والألف واللام في العجل على القول الأول لتعريف الماهية، إذ لميتقدّم عهد فيه، وعلى القول الثاني للعهد السابق، إذ كانوا قد صنعوا عجلاً ثم اتخذوا ذلك العجل إلهاً، وكونه عجلاًظاهر في أنه صار لحماً ودماً، فيكون عجلاً حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه حقيقة، قاله الحسن. وقيل: هو مجاز، أيعجلاً في الصورة والشكل، لأن السامري صاغه على شكل العجل، وكان فيما ذكروا صائغاً، ويكون نسبة الخوار إليه مجازاً، قالهالجمهور، وسيأتي الكلام على ذلك في الأعراف، إن شاء الله. ومن أغرب ما ذهب إليه في هذا العجل أنه سميعجلاً لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى، فاتخذوه إلهاً، قاله أبو العالية، أو سمى هذا عجلاً، لقصر مدّته. {مِنبَعْدِهِ }، من: تفيد ابتداء الغاية، ويتعارض مدلولها مع مدلول ثم، لأن ثم تقتضي وقوع الاتخاذ بعد مهلة من المواعدة،ومن تقتضي ابتداء الغاية في التعدية التي تلي المواعدة، إذا الظاهر عود الضمير على موسى، ولا تتصوّر التعدية في الذات،فلا بد من حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه لفظ واعدنا، أي من بعد مواعدته، فلا بد من ارتكابالمجاز في أحد الحرفين، إلا أن قدر محذوف غير المواعدة، وهو أن يكون التقدير من بعد ذهابه إلى الطور، فيزولالتعارض، إذ المهلة تكون بين المواعدة والاتخاذ. ويبين المهلة قصة الأعراف، إذ بين المواعدة والاتخاذ هناك جمل كثيرة، وابتداء الغايةيكون عقيب الذهاب إلى الطور، فلم تتوارد المهلة والابتداء على شيء واحد، فزال التعارض. وقيل: الضمير في بعده يعود علىالذهاب، أي من بعد الذهاب، ودل على ذلك أن المواعدة تقتضي الذهاب، فيكون عائداً على غير مذكور، بل على مايفهم من سياق الكلام، نحو قوله تعالى:

{ حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ }

{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً }

أي توارت الشمس، إذ يدلعليها قوله: بالعشي، وأي فأثرن بالمكان، إذ يدل عليه

{ وَٱلْعَـٰدِيَـٰتِ }

{ فَٱلمُورِيَـٰتِ }

{ فَٱلْمُغِيرٰتِ }

، إذ هذه الأفعال لاتكون إلا في مكان فاقتضته ودلت عليه. وقيل: الضمير يعود على الانجاء، أي من بعد الانجاء، وقيل: على الهدى، أيمن بعد الهدى، وكلا هذين القولين ضعيف. {وَأَنتُمْ ظَـٰلِمُونَ }: جملة حالية، ومتعلق الظلم. قيل: ظالمون بوضع العبادة فيغير موضعها، وقيل: بتعاطي أسباب هلاكها، وقيل: برضاكم فعل السامري في اتخاذه العجل، ولم تنكروا عليه. ويحتمل أن تكون الجملةغير حال، بل إخبار من الله إنهم ظالمون: أي سجيتهم الظلم، وهو وضع الأشياء في غير محلها. وكان المعنى: ثماتخذتم العجل من بعده وكنتم ظالمين، كقوله تعالى: {ٱتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ }. وأبرز هذه الجملة في صورة ابتداء وخبر، لأنهاأبلغ وآكد من الجملة الفعلية ولموافقة الفواصل. وظاهر قوله: ثم اتخذتم العموم، وأنهم كلهم عبدوا العجل إلا هارون، وقيل: الذينعكفوا على عبادته من قوم موسى ثمانية آلاف رجل، وقيل: كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفاً، قيل: وهذاهو الصحيح، وقيل: إلا هارون والسبعين رجلاً الذين كانوا مع موسى. واتخاذ السامري العجل دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مرّواعلى قوم يعكفون على أصنام لهم وكانت على صور البقر، فقالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فهجس في نفسالسامري أن يفتنهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم العجل، وقيل: إنه كان من قوم يعبدون البقر، وكان منافقاً يظهر الإيمانبموسى، فاتخذ عجلاً من جنس ما كان يعبده، وفي اتخاذهم العجل إلهاً دليل على أنهم كانوا مجسمة أو حلولية، إذمن اعتقد تنزيه الله عن ذلك واستحالة ذلك عليه بالضرورة، تبين له بأوّل وهلة فساد دعوى أن العجل إله. وقدنقل المفسرون عن ابن عباس والسدّي وغيرهما قصصاً كثيراً مختلفاً في سبب اتخاذ العجل، وكيفية اتخاذه، وانجر مع ذلك أخباركثيرة، الله أعلم بصحتها، إذ لم يشهد بصحتها كتاب ولا حديث صحيح، فتركنا نقل ذلك على عادتنا في هذا الكتاب.{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ }: تقدّمت معاني عفا، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب، أو من بابالترك، أو من باب السهولة، والعفو والصفح متقاربان في المعنى. وقال قوم: لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب،فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى، لأن العفو إنما كان عمن بقيمنهم، وإن كان بمعنى المحو، كان عاماً لفظاً ومعنى، فإنه تعالى تاب على من قتل، وعلى من بقي، قال تعالى:

{ فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }

. وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أنيقبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له. وقالت المعتزلة: عفونا عنكم، أي بسببإتيانكم بالتوبة، وهي قتل بعضهم بعضاً: {مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } إشارة إلى اتخاذ العجل، وقيل: إلى قتلهم أنفسهم، والأوّل أظهر.{لَعَلَّكُمْ }: تقدّم الكلام في لعل في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى، فأغنى عنإعادته. {تَشْكُرُونَ }: أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم، وتظهرن النعمة بالثناء، وقالوا: الشكر باللسان، وهو الحديث بنعمة المنعم،والثناء عليه بذلك وبالقلب، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعم عليه، وبالعمل { ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شُكراً }، وبالله أي شكراًلله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو، وقال بعضهم:

وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنَى وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي

ومعنى لعلكم تشكرون: أي عفو الله عنكم، لأن العفو يقتضي الشكر، قاله الجمهور، أو تظهرون نعمة اللهعليكم في العفو، أو تعترفون بنعمتي، أو تديمون طاعتي، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال: وقال ابن عباس: الشكرطاعة الجوارح. وقال الجنيد: الشكر هو العجز عن الشكر. وقال الشبلي: التواضع تحت رؤية المنة. وقال الفضيل: أن لا تعصيالله. وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله. وقال ذو النون: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمندونك بالإحسان. قال القشيري: سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه، يشهد لذلك

{ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ * يُضَـٰعِفُ *لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }

، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى:

{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ }

، وقال لهذه الأمة:

{ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }

، انتهى كلامه. وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو، لأنالعفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلهاً هو من أعظم، أو أعظم إسداء النعم، فلذلك قال:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }. {وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ }: هو التوراة بإجماع المفسرين. {وَٱلْفُرْقَانِ }: هو التوراة، ومعناه أنه آتاهجامعاً بين كونه كتاباً وفرقاناً بين الحق والباطل، ويكون من عطف الصفات، لأن الكتاب في الحقيقة معناه: المكتوب، قاله الزجاج،واختاره الزمخشري، وبدأ بذكره ابن عطية قال: كرر المعنى لاختلاف اللفظ، ولأنه زاد معنى التفرقة بين الحق والباطل، ولفظة كتابلا تعطي ذلك، أو الواو مقحمة، أي زائدة، وهو نعت للكتاب، قال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

قاله الكسائي، وهو ضعيف، وإنما قوله، وابن الهمام، وليث: من باب عطفالصفات بعضها على بعض. ولذلك شرط، وهو أن تكون الصفات مختلفة المعاني، أو النصر، لأنه فرق بين العدوّ والولي فيالغرق والنجاة، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس، أو سائر الآيات التي أوتي موسى على نبينا وعلهالسلام من العصا واليد وغير ذلك، لأنها فرقت بين الحق والباطل، أو الفرق بين الحق والباطل، قاله أبو العالية ومجاهد،أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو البرهان الفارق بين الكفر والإيمان، قاله ابن بحر وابن زيد، أو الفرج منالكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، ومنه قوله تعالى:

{ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا }

، أي فرجاً ومخرجاً. وهذا القول راجع لمعنىالنصر أو القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد حتى آمن به،حكاه ابن الأنباري، أو القرآن على حذف مفعول، التقدير: ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقولالشاعر:

وزججــن الحـواجــب والعيـونــا

التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة، لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصيرنظير: أطعمت زيداً خبزاً ولحماً، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه يشارك المعطوف والمعطوف عليه فيالحكم السابق، إذا كان العطف بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن الحواجب والعيون، لما هومذكور في النحو. وقد جاء:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَاء }

، وذكروا جميع الآيات التي آتاها الله تعالى موسىلأنها فرقت بين الحق والباطل، أو انفراق البحر، قاله يمان وقطرب، وضعف هذا القول بسبق ذكر فرق البحر في قوله:

{ وَإِذْ فَرَقْنَا }

، وبذكر ترجية الهداية عقيب الفرقان، ولا يليق إلا بالكتاب. وأجيب بأنه، وإن سبق ذكر الانفلاق، فأعيد هناونص عليه بأنه آية لموسى مختصة به، وناسب ذكر الهداية بعد فرق البحر لأنه من الدلائل التي يستدل بها علىوجود الصانع وصدق موسى على نبينا وعليه السلام، وذلك هو الهداية، أو لأن المراد بالهداية النجاة والفوز، وبفرق البحر حصللهم ذلك فيكون قد ذكر لهم نعمة الكتاب الذي هو أصل الديانات لهم، ونعمة النجاة من أعدائهم. فهذه اثنتا عشرةمقالة للمفسرين في المراد بالفرقان هنا.. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }: ترجية لهدايتهم، وقد تقدم الكلام في لعل. وفي لفظ ابنعطية في لعل هنا، وفي قوله قيل: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، أنه توقع، والذي تقرر في النحو أنه إن كان متعلقلعل محبوباً، كانت للترجي، فإن كان محذوراً، كانت للتوقع، كقولك: لعل العدو يقدم. والشكر والهداية من المحبوبات، فينبغي أن لايعبر عن معنى لعل هنا إلا بالترجي. قال القشيري: فرقان هذه الأمة الذي اختصوا به نور في قلوبهم، يفرقون بهبين الحق والباطل: استفت قلبك، اتقوا فراسة المؤمن. المؤمن ينظر بنور الله

{ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا }

، وذلكالفرقان ما قدموه من الإحسان، انتهى كلامه. وناسب ترجي الهداية إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان، لأن الكتاب به تحصلالهداية

{ إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }

{ ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى }

{ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور }

.وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر الامتنان على بني إسرائيل فصولاً منها: فرق البحر بهم على الوجه الذي ذكرمن كونه صار اثني عشر مسلكاً على عدد الأسباط وبين كل سبط حاجز يمنعهم من الازدحام دون أن يلحقهم فيذلك استيحاش، لأنه صار في كل حاجز كوى بحيث ينظر بعضهم إلى بعض على ما نقل، وهو من أعظم الآياتالدالة على صدق موسى على نبينا وعليه السلام، وهذا الفرق هو النعمة الثالثة، لأن الأولى هي التفضيل، والثانية هي الإنجاءمن آل فرعون، والثالثة هي هذا الفرق وما ترتب عليه من إنجائهم من الغرق وإغراق أعدائهم وهم بنظرون بحيث لايشكون في هلاكهم. ثم استطرد بعد ذلك إلى ذكر النعمة الرابعة، وهي العفو عن الذنب العظيم الذي ارتكبوه من عبادةالعجل، فذكر سبب ذلك، وأنه اتفق ذلك لغيبة موسى عنهم لمناجاة ربه، وأنهم على قصر مدة غيبته انخدعوا بما فعلهالسامري هذا، ولم يطل عليهم الأمد، وخليفة موسى فيهم أخوه هارون ينهاهم فلا ينتهون، ومع هذه الزلة العظيمة عفا عنهموتاب عليهم، فأي نعمة أعظم من هذه؟ ثم ذكر النعمة الخامسة، وهي ثمرة الوعد، وهو إتيان موسى التوراة التي بهاهدايتهم، وفيها مصالح دنياهم وآخرتهم. وجاء ترتيب هذه النعم متناسقاً يأخذ بعضه بعنق بعض، وهو ترتيب زماني، وهو أحد الترتيباتالخمس التي مر ذكرها في هذا الكتاب، لأن التفضيل أمر حكمي، فهو أول ثم وقعت النعم بعده، وهي أفعال يتلوبعضها بعضاً. فأولها الإنجاء من سوء العذاب، ذبح الأبناء واستحياء النساء بإخراج موسى إياهم من مصر، بحيث لم يكن لفرعونولا لقومه عليهم تسليط بعد هذا الخروج، والإنجاء، ثم فرق البحر بهم وإرائهم عياناً هذا الخارق العظيم، ثم وعد اللهلموسى بمناجاته وذهابه إلى ذلك، ثم اتخاذهم العجل، ثم العفو عنهم، ثم إيتاء موسى التوراة. فانظر إلى حسن هذه الفصولالتي انتظمت انتظام الدرّ في أسلاكها، والزهر في أفلاكها، كل فصل منها قد ختم بمناسبة، وارتقى في ذروة الفصاحة إلىأعلى مناصبه، وارداً من الله على لسان محمد أمينه لسان من لم يتل من قبل كتاباً ولا خطه بيمينه.

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[عدل]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ *إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِٱتّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُواْإِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ *مُوسَىٰ * لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْتَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.. القوم: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرؤ، وقياسه أن لا يجمع، وشذ جمعه، قالوا:أقوام، وجمع جمعه قالوا: أقاويم فقيل يختص بالرجال. قال تعالى:

{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ }

، ولذلك قابله بقوله:

{ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء }

. وقال زهير:

أقــوم آل حصــن أم نســاء

وقال آخر:

قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت يصيبني سهمي

وقال آخر:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

وقيل: لا يختص بالرجال بل ينطلق على الرجال والنساء:

{ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ }

{ وَيٰقَوْمِ مَا لِى أدعوكم إلى النجاة }

. كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال هذا القائل: أما إذا قامت قرينة علىالتخصيص فيبطل العموم ويكون المراد ذلك الشيء المخصص. والقول الأول أصوب، ويكون اندراج النساء في القوم على سبيل الاستتباع وتغليبالرجال، والمجاز خير من الاشتراك. وسمي الرجال قوماً لأنهم يقومون بالأمور. البارىء: الخالق، برأ يبرأ: خلق، وفي الجمع بين الخالقوالبارىء في قوله:

{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَـٰلِقُ ٱلْبَارِىء ٱلْمُصَوّرُ }

، ما يدل على التباين، إلا أن حمل على التوكيد. وقد فرقبعض الناس بينهما، فقال: البارىء هو المبدع المحدث، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال. وقال بعض العلماء: برأوأنشأ وأبدع نظائر. قال المهدوي وغيره: واللفظ له، وأصله من تبرى الشيء من الشيء، وهو انفصاله منه، فالخلق قد فصلوامن العدم إلى الوجود، انتهى. وقال أميّة الخالق البارىء المصور في الأرحام ماء حتى يصير دماً. القتل: إزهاق الروح بفعلأحد، من طعن أو ضرب أو ذبح أو خنق أو ما شابه ذلك، وأما إذا كان من غير فعل فهوموت هلاك، والمقتل: المذلل، وقال امرؤ القيس:

بسهميــك فــي أعشـار قلـب مقتــل

شرحوه: بالمذلل. خير: هي أفعل التفضيل، حذفتهمزتها شذوذاً في الكلام فنقص بناؤها فانصرفت، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي للتفضيل، وقال الأحوص:

وزادني كلفاً بالحب أن منعت وحب شيء إلى الإنسان ما منعا

وقد نطقوا بالهمزة في الشعر،قال الشاعر:

بـلال خيـر النـاس وابـن الأخيـر

وتأتي خير أيضاً لا، بمعنى التفضيل، تقول: في زيد خير، تريد بذلك خصلةجميلة، ومخففاً من خير: رجل خير، أي فيه خير، ويمكن أن يكون من ذلك: فيهنّ خيرات حسان. حتى: حرف معناهالكثير، فيه الغاية، وتكون للتعليل، وإبدال حائها عيناً لغة هذيل، وسمع فيها الإمالة قليلاً، وأحكامها مستوفاة في النحو. الرؤية الأبصار،والماضي رأى، عينه همزة تحذف في مضارعه، والأمر منه وبناء أفعل، والأمر منه، واسم الفاعل، واسم المفعول، تقول: يرى وترىونرى وأرى زيداً، وأريت زيداً، وزيداً، ومر زيداً، ومرى. وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى منكذا، وفي ما أرأه وأرئه في التعجب. وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأي ما ذكرناه من الإبصارفي يقظة أو نوم أو الاعتقاد، فإن كانت رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يرآه: أيأصاب رئته، نقله صاحب كتاب الأمر. ولغة تميم إثبات الهمزة فيما حذف منه غيرهم، فيقولون: يرأى وأرئي؟ وقال بعض العرب:فجمع بين حذف الهمزة والإثبات:

ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر ومن يتمل العيش يرأى ويسمع

الجهرة: العلانية، ومنه الجهر: ضد السر، وفتح عين هذا النحو مسموع عند البصريين، مقيس عند الكوفيين، وقد تقدم شيء منذلك. ويقال: جهر الرجل الأمر: كشفه، وجهرت الركبة: أخرجت ما فيها من الحمأة وأظهرت الماء، قال:

إذا وردنا آجناً جهرنا أو حالياً من أهله عمرنا

والجهوري: العالي الصوت، وصوت جهير: عال، ووجه جهير: ظاهرالوضاءة، والأجهر: الأعمى، سمي على الضد. البعث: الإحياء، وأصله الإثارة، قال الشاعر:

أنيخها ما بدا لي ثم أبعثها كأنها كاسر في الجو فتخاء

وقال آخر:

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعاً بين عان ونشوان

وقيل: أصله الإرسال، ومنه: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }، وتأتي بمعنىالإفاقة من الغشي أو النوم،{ وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَـٰهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ }، والقدر المشترك بين هذه المعاني هو إزالة ما يمنع عنالتصرف. ظلل: فعل، وهو مشتق من الظل، والظل أصله المنفعة، والسحابة ظلة لما يحصل تحتها من الظل، ومنه قيل: السلطانظلّ الله في الأرض، قال الشاعر:

فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم

الغمام: اسم جنس بينه وبين مفرده هاء التأنيث، تقول: غمامة وغمام، نحو حمامة وحمام، وهو السحاب. وقيل: ما ابيضمن السحاب، وقال مجاهد: هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماماً لأنه يغم وجه السماء: أي يستره، ومنه: الغم والغمموالأغم والغمة والغمى والغماء، وغمّ الهلال: ستر، والنبت الغميم: هو الذي يستر ما يسامته من وجه الأرض. المنّ: مصدر مننت،أي قطعت، والمن: الإحسان، والمن: صمغة تنزل على الشجر حلوة، وفي المراد به في الآية أقوال ستأتي، إن شاء اللهتعالى. السلوى: اسم جنس، واحدها سلواة، قاله الخليل، والألف فيها للإلحاق لا للتأنيث نحو: علقى وعلقاة، إذ لو كانت للتأنيثلما أنث بالهاء، قال الشاعر:

وإني لتعروني لذكراك سلوة كما انتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي: السلوىواحدة، وجمعها سلاوي. وقال الأخفش: جمعه وواحده بلفظ واحد. وقيل: جمع لا واحد له من لفظه. وقال مؤرخ السدوسي: السلوىهو العسل بلغة كنانة، قال الشاعر:

وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وقال غيره: هو طائر. قال ابن عطية: وقد غلط الهذلي في قوله:

ألـذ مـن السلـوى إذا مـا نشورهـا

فظن السلوىالعسل. وعن هذا جوابان يبينان أن هذا ليس غلطاً: أحدهما: ما نقلناه عن مؤرج من كونه العسل بلغة كنانة، والثاني:أنه تجوز في قوله: نشورها لأجل القافية، فعبر عن الأكل بالشور، على سبيل المجاز، قالوا: واشتقاق السلوى من السلوة، لأنهلطيبه يسلي عن غيره. الطيب: فيعل من طاب يطيب، وهو اللذيذ، وتقدم الكلام في اختصاص هذا الوزن بالمعتل، إلا ماشذ، وفي تخفيف هذا النوع وبالمخفف منه سميت مدينة رسول الله طيبة. {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰلِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ * قَوْمٌ *إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ }: عدّ صاحب المنتخب هذا إنعاماً خامساً، وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعةمما تقدم من التذكير بالنعم، وذلك لأنه أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه علىما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم، وذلك هو التوبة. وإذا كان قد عدّد عليهم النعم الدنيوية، فلأن يعدد عليهمالنعم الدينية أولى. ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه، قدم ذكر ذلك، وهذا الخطاب هومحاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل. واللام في قوله: لقومه، للتبليغ، وإقبال موسى عليه بالنداء،ونداؤه بلفظ يا قوم، مشعر بالتحنن عليهم، وأنه منهم، وهم منه، ولذلك أضافهم إلى نفسه، كما يقول الرجل: يا أخي،ويا صديقي، فيكون ذلك سبباً لقبول ما يلقى إليه، بخلاف أن لو ناداه باسمه، أو بالوصف القبيح الصادر منه. وفيذلك أيضاً هزلهم لقبولهم الأمر بالتوبة، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره

{ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

. ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه، فإذا ظلمها،كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره. ويا قوم: منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها، وهذهاللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها، فتقول:يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفاً، فتقول: يا غلاماً. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها، فتقول: ياغلام، وأجاز ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا غلام، تريد: يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل

{ رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ }

{ قَالَ رَبّ ٱلسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ }

، هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلاً أو اسماً، إنكان فعلاً فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي، فلا يجيز في هذا يا ضارب، وظاهر الخطاباختصاصه بمتخذي العجل. وقيل: يجوز أن يراد به: من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم.والباء في {بِٱتّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ } سببية، واحتمال الوجهين السابقين في قوله:

{ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ }

جاء هنا، أي بعملكم العجلوعبادته، أو {بِٱتّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ * إِلَـٰهاً }. قال السلمي: عجل كل واحد نفسه، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برىءمن ظلمه. {فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ } الفاء في فتوبوا معها التسبيب، لأن الظلم سبب للتوبة، ولما كان السامريّ قدعمل لهم من حليهم عجلاً، قيل لهم: توبوا إلى بارئكم، أي منشئكم وموجدكم من العدم، إذ موجد الأعيان هو الموجدحقيقة. وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذواب من العدم، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان، فنبهوا بلفظالباري على الصانع، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة، لا الذي صنعه، مصنوع مثله، فلذلك، والله أعلم، كان ذكر الباريهنا. وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي عمرو: الاختلاس، روي ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان،وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل،ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرولم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله . ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر،وقال الشاعر:

فاليوم أشرب غير مستحقب إثماً من الله ولا واغل

وقال آخر:

رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بداهنك من المئزر

وقال آخر:

أو نهـر تيـرى فمـا تعرفكـم العرب

وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركةإعراب. قال الفارسي: أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمر وماحكاه أبو زيد من قوله تعالى:

{ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }

. وقراءة مسلمة ابن محارب:

{ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذٰلِكَ }

.وذكر أبو عمرو: أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحو، ومثل تسكين بارئكم، قراءة حمزة،

{ وَمَكْرَ ٱلسَّيّىء }

. وقرأالزهريّ: باريكم، بكسر الياء من غير همز، وروي ذلك عن نافع. ولهذه القراءة تخريجان أحدهما: أن الأصل الهمزة، وأنه منبرأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين. والثاني: أن يكون الأصل باريكم،بالياء من غير همز، ويكون مأخوذاً من قولهم: بريت القلم، إذا أصلحته، أو من البري: وهو التراب، ثم حرك حرفالعلة، وإن كان قياسه تقديراً لحركة في مثل هذا رفعاً وجراً، وقال الشاعر:

ويومـاً توافينـا الهـوى غيـر مـاضي

وقال آخر:

ولـم تختضب سمـر العـوالي بـالـدم

وقال آخر:

خبيــث الثــرى كــأبــي الأزيـــد

وهذا كله تعليل شذوذ. وقد ذكر الزمخشري في اختصاصذكر البارىء هنا كلاماً حسناً هذا نصه. فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارىء؟ قلت: البارىء هو الذيخلق الخلق بريئاً من التفاوت،

{ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ }

، ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصورالمتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة، أبرياءمن التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور، حتى عرضواأنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكرواالنعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها، انتهى كلامه. {فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }: ظاهر هذا أنهالقتل المعروف من إزهاق الروح. فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم. والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه السلام لا يكونإلا بوحي من الله تعالى، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجددعقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل، والمأمور بقتل أنفسهم عباد العجل، أو من عبد ومن لم يعبد. والمعنى: اقتلوا الذين عبدواالعجل من أهلكم، كقوله:

{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ }

، أي من أهلكم وجلدتكم، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم، ثلاثةأقوال. وقال ابن إسحاق: أمروا بأن يستسلموا للقتل، وسمي الاستسلام للتقل قتلاً على سبيل المجاز. وقيل: معنى فاقتلوا أنفسكم: ذللواأهواءكم. وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل، ومنه أيضاً قول حسان:

إن التي عاطيتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

فتلخص في قوله: {فَٱقْتُلُواْ }، ثلاثة أقوال: الأول: الأمر بقتل أنفسهم. الثاني: الاستسلام للقتل.والثالث: التذليل للأهواء. والأول هو الظاهر، وهو الذي نقله أكثر الناس. وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم، فقيل: وقعالقتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم. وقيل: قتل بعضهم بعضاً من غير تعيين قاتل ولا مقتول. وقيل: القاتلون هم الذين اعتزلوامع هارون، والمقتولون عباد العجل. وقيل: القاتلون هم الذين كانوا مع موسى في المناجاة بطور سيناء، والمقتولون من عداهم. وإذاقلنا: إن بعضهم قتل بعضاً، فاختلفوا في كيفية القتل، فقيل: اصطفوا صفين، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر، فقتل بعضهم بعضاً حتى قيللهم: كفوا، فكان ذلك شهادة للمقتول، وتوبة للقاتل، وقيل: أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك. وقيل: وقف عباد العجل صفاً،ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: احتبى عباد العجل في أفنية دورهم، أو في موضع غيره، وخرج عليهميوشع بن نون وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته، أو مد طرفه إلى قاتله، أو اتقاه بيد أو رجل،فيقولون: آمين. فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفاً. وفي رواية، قال لهم: من حل حبوته لمتقبل توبته، ولم يذكر اللعنة. وقيل: إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسلالله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم:أصبروا، فلعن الله من مد طرفه، أو حل حبوته، أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء، حتىدعا موسى وهارون، قالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، وكانتالقتلى سبعين ألفاً. انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين. وفي ذلك منالاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار. وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية، إذ جعل توبتهافي الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم المعاودة إليه. والفاء في قوله: {فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }، إن قلنا:إن التوبة هي نفس القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه الجملة بدلاً من قوله، فتوبوا، والفاءكهي في فتوبوا معها السببية. وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء للتعقيب، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل، تتمةلتوبتكم. وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون توبة وجعل القتل شرطاً في التوبة، فأطلق عليه مجازاً، كما يقال للغاصبإذا قصد التوبة: توبتك رد ما غصبت، يعني أنه لا تتم توبتك إلا به، فكذلك هنا. وتعدية التوبة بإلى معناهالانتهاء بها إلى الله، فتكون بريئة من الرياء في التوبة، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله. ولا يلتفتإلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ قد نقلنا أن منهممن قال ذلك، فليس بإجماع. وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده،يجب أن يخرج من أن يكون حياً، وما عدا ذلك إنما يسمى قتيلاً على سبيل المجاز، قال: وهذا لا يجوزأن يأمر الله به، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة،وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة، لأن ذلك منفعل الله تعالى، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحاً لمكلف آخر، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطععضواً من أعضائه، ولا يحصل الموت عقيبه، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعلصلاحاً في الأفعال المستقبلة. انتهى كلامه، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة. والكلام معهم في ذلك مذكورفي أصول الدين، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع، وليسمن شرط ذلك اعتبار حال المكلف، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره. وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتلبمن عبد العجل، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل. وقرأ قتادة فيمانقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي: قرأ قتادة: فاقتلوا أنفسكم. فأما فأقيلوا، فهو أمر من الإقالة،وكأنّ المعنى: أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت فأقيلوهابالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات. وأما فاقتالوا أنفسكم، فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهوراستقال لا اقتال. قال ابن جني: يضعف أن يكون عينها واواً كاقتادوا، ويحتمل طأن تكون ياء كأقياس، والتصريف يضعف أنيكون من الاستقالة، كما قال ابن جني، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيهافتعل بمعنى استفعل، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وذلك نحو: اعتصم واستعصم. قال السلميّ: فتوبوا إلى بارئكم. ارجعواإليه بأسراركم وقلوبكم، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها، فإنها لا تصلح لبساط الأنس. وقال الواسطي: كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم،ولهذه إلامة أشد، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل. وقال فارس: التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية. وقيل:توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم، واقتلوا أنفسكم في طاعاته، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلبالجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم، ويبقى الحق كما لم يزل. وقال بعض أهل اللطائف: التوبة بقتل النفس غير منسوخة،لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً، وهذه إلامة قتل أنفسهم في أنفسهم، وأول قدم في القصد إلى اللهالخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة،وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل، قال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

{ذٰلِكُمْ }: إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فاقتلوا، لأنه أقرب مذكور، أي القتل: {خَيْرٌ لَّكُمْ} وقال بعضهم: هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله: فتوبوا واقتلوا، فأوقع المفرد موقع التثنية، أي فالتوبة والقتل خيرلكم، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى:

{ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }

أي بين ذينك أي الفارض والبكر، وكذلك قوله:

إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل

أي:وكلا ذينك، وهذا ينبني على ما قدمناهمن أن قوله: فاقتلوا، هل هو تفسير للتوبة؟ فتكون التوبة هي القتل. فينبغي أن يكون ذلكم مفرداً أشير به إلىمفرد، وهو القتل، أو يكون القتل مغايراً للتوبة، فيتحتمل هذا الذي قاله هذه القائل، ولكن الأرجح خير، إن كانت للتفضيلفقيل: المعنى خير من العصيان والأصرار على الذنب. وقيل: خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الذي لهم، إذ الهلاك المتناهيخبر من الهلاك غير المتناهي، إذ الموت لا بد منه، فليس فيه إلا التقديم والتأخير. وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيلعلى بابه، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه، ولكن يكون علىحد قولهم: العسل أحلى من الخل. ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور. لكم: متعلق بخيرإن كان للتفضيل، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف، أي خبر كائن لكم. والتخريجان يجريان في نصبقوله: {عِندَ بَارِئِكُمْ }. والعندية هنا مجاز، إذ هي ظرف مكان وتجوّز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى.وكرر البارىء باللفظ الظاهر توكيداً، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم،فكما رأى أن إنشاءكم راجح، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح، فينبغي التسليم له في كل حال، وتلقيما يرد من قبله بالقبول والامتثال. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ }: ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم، ولا بدمن تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم. وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرفالذي هو: إذ في قوله: {وَإِذْ قَالَتْ * مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ }. وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجاً تحت قول موسى علىتقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة،هي وحرف الشرط، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه. وأما فعل الشرطوحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام الفصيح، نحو قوله:

فطلقها فلست لها بكفؤ وإن لا يعل مفرقك الحسام

التقدير: وأن لا تطلقها يعل، فإن كان غير منفي بلا، فلايجوز ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله:

سقته الرواعد من صيف وإن من خريف فلن يعدما

التقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذلك على أحد التخريجين في البيت، وكذلك حذف فعل الشرطوفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة، نحو قوله:

قالت بنات العمّ يا سلمى وإن كان عيياً معدماً قالت وإن

التقدير: وإن كان عيياً معدماً أتزوجه. وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معاً، وإبقاءالجواب، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب. وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله. ولتعليل ماذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو. وظاهر قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أنه كما قلنا: إخبار عن المأمورينبالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: معناه على الباقين، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة، وتاب على الباقين وعفا عنهم،انتهى كلامه. {إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }: تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم:

{ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }

، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ }: هذه محاورة بنيإسرائيل لموسى، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا. والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين، قاله ابن مسعود وقتادة،وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي، إن شاء الله تعالى، في مكانها في الأعراف. وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل إلامن عصمة الله، قاله ابن زيد. وقيل: الذين انفردوا مع هارون ولم يعبدوا العجل. وقال بعض من جمع في التفسير:تظافرت أقوال أئمة التفسير على أن الذين أصابتهم الصاعقة هم السبعون رجلاً الذين اختارهم موسى ومضى بهم لميقات ربه ومناجاته،وما ذكر لا يمكن مع ذكر الاختلاف في قوله: {وَإِذْ قُلْتُمْ }، لأن الظاهر أن القائل ذلك هم الذين أخذتهمالصاعقة، إلا إن كان ذلك من تلوين الخطاب، وهو هنا بعيد. وفي نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهممعه، إذ لم يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أو يا كليم الله، أو غير ذلك من الألفاظالتي تشعر بصفات التعظيم، وهي كانت عادتهم معه: يا موسى لن نصبر على طعام واحد، يا موسى اجعل لنا إلهاً،يا موسى ادع لنا ربك. وقد قال الله لهذه الأمّة لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً.. {لَننُّؤْمِنَ لَكَ }: قيل معناه: لن نصدّقك فيما جئت به من التوراة، ولم يريدوا نفي الإيمان به بدليل قولهم لك،ولم يقولوا بك نحو:

{ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }

، أي بمصدّق. وقيل معنا: لن نقرّ لك، فعبر عن الإقرار بالإيمانوعدّاه باللام، وقد جاء {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} قَال

{ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى }

، قالوا: أقررنا، فيكون المعنى: لن نقرّلك بأن التوراة من عند الله. وقيل: يجوز أن تكون اللام للعلة، أي لن نؤمن لأجل قولك بالتوراة. وقيل: يجوزأن يراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله : لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين . {حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } حتى: هنا حرف غاية، أخبروابنفي إيمانهم مستصحباً إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا الله جهرة آمنوا، والرؤية هنا: هي البصرية، وهي التي لاحجاب دونها ولا ساتر، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناماً أو علماً بالقلب. والمعنىحتى نرى الله عياناً، وهو مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية، فانتصابهاعلى حدّ قولهم: قعد القرفصاء، وفي: نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوباً بالفعل السابق يعديإلى النوع، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحالعلى تقدير الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغةلا تراد هنا. فعلى القول الأوّل تكون الجهرة من صفات الرّؤية، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين، وثم قولثالث، وهو أن يكون راجعاً لمعنى القول، أو القائلين، فيكون المعنى: وإذ قلتم كذا قولاً جهرة أو جاهرين بذلك القول،لم يسروه ولم يتكاتموا به، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغياً بالرؤية. والقول بأن الجهرة راجع لمعنىالقول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح. وقرأ ابنعباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس: جهرة، بفتح الهاء، وتحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن يكون جهرة مصدراً كالغلبة،فتكون معناها ومعنى جهرة المسكنّة الهاء سواء، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة. والثاني: أن يكون جمعاًلجاهر، كما تقول: فاسق وفسقة، فيكون انتصابه على الحال، أي جاهرين بالرؤية. قال الزمخشري: وفي هذا الكلام دليل على أنموسى عليه السلام رادّهم، وعرّفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال، وأن من استجاز علىالله الرؤية، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدةالعجل، فسلط الله عليهم الصاعقة، كما سلط على أولئك القتل، تسوية بين الكفرين، ودلالة على عظمها بعظم المحنة. اهـ. كلامه.وهو مصرّح باستحالة رؤية الله تعال بالأبصار. وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين. ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومنشاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية. فقال الكرامية: يرىفي جهة فوق وله تحت، ويرى جسماً، وقالت المشبهة: يرى على صورة، وقال أهل السنة: لا مقابلاً، ولا محاذياً، ولامتمكناً، ولا متحيزاً، ولا متلوناً، ولا على صورة ولا هيئة، ولا على اجتماع وجسمية، بل يراه المؤمنون، يعلمون أنه بخلافالمخلوقات كما علموه كذلك قبل. وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية الله تعالى، فوجب المصير إليها. وهذه المسألة منأصعب مسائل أصول الدين، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة، وليس في الآية ما يدلعلى ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه، خصوصاً ما يجر إلىمذهبه الإعتزالي، نعوذ بالله من العصبية فيما لا ينبغي. وكذلك اختلفوا في رؤية الحق نفسه، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنهلا يرى نفسه، وذهبت طائفة منهم إلى أنه يرى نفسه، وذهب الكعبي إلى أنه لا يرى نفسه ولا غيره، وهذامذهب النجار، وكل ذلك مذكور في علم أصول الدين. {فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ }: أي استولت عليكم وأحاطت بكم. وأصل الأخذ:القبض باليد. والصاعقة هنا: هل هي نار من السماء أحرقتهم، أو الموت، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو الفزعفدام حتى ماتوا، أو غشي عليهم، أو العذاب الذي يموتون منه، جو صيحة سماوية؟ أقوال، أصحها: أنها سبب الموت، لاالموت، وإن كانوا قد اختلفوا في السبب، قاله المحققون لقوله تعالى:

{ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ }

. وأجمع المفسرون على أن المدّةمن الموت أو الصعق كانت يوماً وليلة. وقيل: أصاب موسى ما أصابها، وقيل صعق ولم يمت، قالوا: وهو الصحيح، لأنهجاء، فلما أفاق في حق موسى وجاء، ثم بعثناكم في حقهم، وأكثر استعماله البعث في القرآن بعث الأموات. وقيل: غشيعليهم كهو ولم يموتوا، والصعق يطلق على غير الموت، وقال جرير:

وهل كان الفرزدق غير قرد أصابته الصواعق فاستدارا

والظاهر أن سبب أخذ الصاعقة إياهم قولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً }،إذ لم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت، وقيل: سبب أخذ الصعقة إياهم هو غير هذا القول منكفرهم بموسى، أو تكذيبهم إياه لما جاءهم بالتوراة أو عبادة العجل. وقرأ عمرو على الصعقة، واستعظم سؤال الرؤية حيث وقع،لأن رؤيته لا تحصل إلا في الآخرة، فطلبها في الدنيا هو مستنكر، أو لأن حكم الله أن يزيل التكليف عنالعبد حال ما يراه، فكان طلبها طلباً لإزالة التكليف، أو لأنه لما دلت الدلائل على صدق المدّعي كان طلب الدلائلالزائدة تعنتاً ولأن في منع الرؤية في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة للخلق، فلذلك استنكر.. {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }: جملةحالية، ومتعلق النظر: أخذ الصعقة إياكم، أي وأنتم تنظرون إلى ما حل بكم منها أو بعضكم إلى بعض كيف يخرّميتاً، أو إلى الأحياء، أو تعلمون أنها تأخذكم. فعبر بالنظر عن العلم، أو إلى آثار الصاعقة في أجسامكم بعد أنبعثتم، أو ينظر كل منكم إلى إحياء نفسه، كما وقع في قصة العزير، قالوا: حي عضواً بعد عضو، أو إلىأوائل ما كان ينزل من الصاعقة قبل الموت، أو أنتم يقابل بعضكم بعضاً من قول العرب دور آل فلان تتراءى،أي يقابل بعضها بعضاً، ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } إجابة السؤال في حصول الرؤية لهم، لكانوجهاً من قولهم: نظرت الرجل، أي انتظرته، كما قال الشاعر:

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

لكن هذا الوجه ليس بمنقول، فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله. وقد عدّصاحب المنتخب هذا إنعاماً سادساً، وذكر في كونه إنعاماً وجوهاً: منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل، ومنها ما يتعلق بهم،والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعاماً، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوابجزيل الثواب من أعظم النعم، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولاقبله. وقد قيل بكل من القولين، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني. قال بعضهم:لما أحلهم الله محل مناجاته، وأسمعهم لذيذ خطابه، اشرأبّت نفوسهم للفخر وعلوّ المنزلة، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهمبالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديباً لهم وعبرة لغيرهم، { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى ٱلاْبْصَـٰرِ }

. {ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم مّنبَعْدِ مَوْتِكُمْ }: معطوف على قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّـٰعِقَةُ }، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زماناً تتصوّرفيه المهلة والتأخير، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت، أو الغشي على الخلاف الذي مرّ. والبعث هنا: الإحياء،ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارناحتى أحياهم الله جميعاً رجلاً بعد رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. وقيل: معنى البعث الإرسال، أي أرسلناكم. رويأنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء. وقيل: معنى البعث: الإفاقة من الغشية، ويتخرّج على قول منقال إنهم صعقوا ولم يموتوا. وقيل: البعث هنا: القيام بسرعة من مصارعهم، ومنه قالوا:

{ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا }

؟وقيل معنى البعث هنا، التعليم، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم، والموت هنا ظاهرة مفارقة الروح الجسد، وهذا هو الحقيقة،وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم. ومن قال: كان ذلك غشياً وهموداً كان الموت مجازاً، قال تعالى:

{ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ }

، والذي أتاه مقدّماته سميت موتاً على سبيل المجاز، قال الشاعر:

وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولاً يبرئكم إني أنا الموت

جعل نفسه الموت لما كان سبباً للموت، وكذلك إذاحمل الموت على الجهل كان مجازاً، وقد كنى عن العلم بالحياة، وعن الجهل بالموت. قال تعالى:

{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ }

، وقال الشافعي، رحمه الله:

إنما النفس كالزجاجة والـــعلم سراج وحكمة الله زيت فإذا أبصرت فإنك حي وإذا أظلمت فإنك ميت

وقال ابن السيد:

أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميموذو الجهل ميت وهو ماش على الثرىيظنّ من الأحياء وهو عديم

ولا يدخل موسىعلى نبينا وعليه السلام في خطاب ثم {بَعَثْنَـٰكُم }، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَجَهْرَةً }، ولقوله:

{ فَلَمَّا أَفَاقَ }

، ولا يستعمل هذا في الموت. وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }: وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت. فمن زعم أنهما حقيقة قال: المعنى لعلكمتشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم، ومن جعل ذلك مجازاً عن إرسالهمأنبياء، أو إثارتهم من الغشي، أو تعليمهم بعد الجهل، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات. وقد أبعد من جعل متعلقالشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه، بعد أن لم يكن شرائع. وقيل: المعنى لعلكم تشكرون نعمةالله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. وقال في المنتخب: إنما بعثهم بعد الموت فيدار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم. أمّا أنه كلفهم، فلقوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله:

{ ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شُكراً }

، انتهى كلامه. وقال الماوردي: اختلف في بقاء تكليفمن أعيد بعد موته، ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف. فقال قوم: سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهممعتبراً بالاستدلال دون الاضطرار. وقال قوم: يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قولهتعالى:

{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ }

، وذلك حين أبوا أو يقبلوا التوراة، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها،فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار، ولم يسقط عنهم التكليف، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم. اهـ كلامه. {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ} الغمام: مفعول على إسقاط حرف الجرّ، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرد، أو مفعول به لا علىإسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منهكقولهم؟ عدّلت زيداً، أي جعلته عدلاً، فكذلك هذا معناه: جعلنا الغمام عليكم ظله، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنىأفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما وردفي الحديث: سبعة يظلهم الله في ظله ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى.وقد تقدم ذكر معاني فعل، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا، فيكونقد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام، وليس كذلك، بل المعنى، والله أعلم، ما ذكره المفسرون. وقد تقدّم تفسيرالغمام، وقيل: إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن، وهو المشار إليه بقوله: { فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ } ، وليس بغمام حقيقة، وإنما سمي غماماً لكونه يشبه الغمام. وقيل: الذين ظلّل عليهم الغمامبعض بني إسرائيل، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيهاذنباً أظلّته غمامة. وحكي أن شخصاً عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلكفقالوا: لعلك أحدثت ذنباً، فقال: لا أعلم شيئاً إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر، فقالوا له: ذلكذنبك، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم، فامتنّ الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة. والمكان الذيأظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم. وقيل: أرضبيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر، فأظلهم الله بالغمام، ووقاهم حرّ الشمس.{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ } المنّ: اسم جنس لا واحد له من لفظه. وفي المن الذي أنزله الله على بنيإسرائيل أقوال: ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج، وهو قول ابن عباس والشعبي، أو صمغة طيبةحلوة، وهو قول مجاهد؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء، وهو قول الرّبيع أبن أنس وأبي العالية؛أو عسل كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيد؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي، وهو قول وهب؛أو الزنجبيل، وهو قول السدّي، أو الترنجبين، وعليه أكثر المفسرين؛ أو عسل حامض، قاله عمرو بن عيسى؛ أو جميع مامنّ الله به عليهم في التيه وجاءهم عفواً من غير تعب، قاله الزّجاج، ودليله قوله : الكمأة من المنّ الذي منّ الله به على بني إسرائيل . وفي رواية: على موسى. وفي السلوى الذي أنزله الله على بنيإسرائيل أقوال: طائر يشبه السماني، أو هو السماني نفسه، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميلوطول رمح في السماء بعضه على بعض، قاله أبو العالية ومقاتل؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور، قاله عكرمة؛أو طير سمين مثل الحمام؛ أو العسل بلغة كنانة، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل؛وقيل: كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي. وقيل: كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها.وكان المنّ ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والسلوى بكرة وعشياً، وقيل: دائماً، وقيل: كلما أحبوا. وقدذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المنّ والسلوى، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه، وستأتي قصته في سورةالمائدة، إن شاء الله تعالى، وأنهم قالوا: من لنا من حراك الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، وقالوا: من لنا بالطعام؟ فأنزلالله عليهم المن والسلوى، وقالوا: من لنا بالماء؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر، وهذه دل عليها القرآن. وزيد في تلكالحكايات أنهم قالوا: بم نستصبح؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم، وقيل: من نار، وقالوا: من لنا باللباس؟فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب، ولا يخلق، ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. {كُلُواْ }: أمر إباحةوإذن كقوله:

{ فَٱصْطَـٰدُواْ }

{ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلاْرْضِ }

، وذلك على قول من قال: إن الأصل في الأشياء الحظر، أو دومواعلى الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة، وههنا قول محذوف، أي وقلنا: كلوا، والقول يحذف كثيراً ويبقى المقول،وذلك لفهم المعنى، ومنه: أكفرتم؟ أي فيقال: أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل، وذلك أيضاً لفهم المعنى، قال الشاعر:

لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

التقدير: قلتم نقاتلهم. {مِن طَيّبَاتِ }:من: للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش،وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف، ولا بد أن يكون قبلها مايصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى مختلف في إثباته، ولميدع إليه هنا ما يرجح ذلك. والطيبات هنا قيل: الحلال، وقيل: اللذيذ المشتهى. ومن زعم أن هذا على حذف مضاف،وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم، فقوله ضعيف، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى، فكانا بدلاً من الطيبات.وقد استنبط بعضهم من قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَـٰتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ } أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسانفي إباحة الأكل، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك، وهو قول. وقيل: يملك بالوضع فقط، وقيل: بالأخذ والتناول،وقيل: لا يملك بحال، بل ينتفع به وهو على ملك المالك. وما في قوله: {مَا رَزَقْنَـٰكُمْ } موصولة، والعائد محذوف،أي ما رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقديرضمير، ويكون يطلق المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن. {وَمَا ظَلَمُونَا } نفي أنهم لم يقع منهم ظلمالله تعالى، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لايمكن وقوعه ألبتة. قيل: المعنى وما ظلمونا بقولهم: {أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً }، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة.وقيل: وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم. وقيل: وما ظلموانا بإبائهم على موسى أنيدخلوا قرية الجبارين. وقيل: وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم، بل ظلموا أنفسهم بذلك. وقيل: وما ظلمونا بكفرالنعم، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم. وقيل: وما ظلمونا بعبادة العجل، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضاً. واتفق ابنعطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة، فقدره ابن عطية، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، قال: والمعنى وماوضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب. وقدره الزمخشري: فظلموا بأن كفرواهذه النعم، وما ظلمونا، قال: فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه، انتهى. ولا يتعين تقدير محذوف، كما زعما، لأنهقد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلهاً، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت، وغير ذلك مما لميقص هنا. فجاء قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا } جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لميصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم، لا يصل إلينا منه شيء.{وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }: لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ }

، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى:

{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَاء وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ }

، أعنيأن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه مّا، وذلك أنهلما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعةإلى ذكر من وقع به الظلم، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعاً بهم، وأحسن مواقعها أن تكونبين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيبعربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقواعلى أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعدلكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله: {وَمَا ظَلَمْنَـٰهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ }، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأنذلك من شأنهم ومن طريقتهم، ولأنها أيضاً تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسندإليه، نحو قوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً }؛ فكان المعنى: ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهممن المخالفات. ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليههنا وهو قوله: {أَنفُسِهِمْ }، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنهمن حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريًّا، وبأن التوكيد أن يتأخرعن المؤكد، وذلك أنك تقول: ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أنيكون ما بعدها منافياً لما قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيداً ولكن عمراً، فلست مضطراً لذكر العامل. فلماكان معنى قوله: {وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } في معنى: {وَلَـٰكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ }، كان ذكر العامل في المفعول ليسمضطراً إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا ولكن أنفسهم، لكان كلاماً عربياً، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لماقبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصصبني إسرائيل فصولاً منها: أمر موسى، على نبينا وعليه السلام، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذيهو عبادة العجل من دون الله، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم،وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعاً عليهم، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهموأن ذلك كان بسابق رحمته، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه، وهو رؤية الله عياناً،لأنه كان سؤال تعنت. ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم. ثم الإنعام عليهم بالبعث، وهومن الخوارق العظيمة أن يحيـى الإنسان في الدنيا بعد أن مات. ثم إسعافهم بما سألوه، إذ وقعوا في التيه، واحتاجواإلى ما يزيل ضررهم وحاجتهم من لفح الشمس، وتغذية أجسادهم بما يصلح لها، فظلل عليهم الغمام، وهذا من أعظم الأشياءوأكبر المعجزات حيث يسخر العالم العلوي للعالم السفلي على حسب اقتراحه، فكان على ما قيل: تظلهم بالنهار وتذهب بالليل حتىينوّر عليهم القمر. وأنزل عليهم المن والسلوى، وهذا من أشرف المأكول، إذ جمع بين الغذاء والدواء، بما في ذلك منالحلاوة التي في المن والدسم الذي في السلوى، وهما مقمعاً الحرارة ومثيراً القوّة للبدن. ثم الأمر لهم بتناول ذلك غيرمقيد بزمان ولا مكان، بل ذلك أمر مطلق. ثم التنصيص أن ذلك من الطيبات وبحق ما يكون ذلك من الطيبات.ثم ذكر أنه رزق منه لهم لم يتعبوا في تحصيله ولا استخراجه ولا تنميته، بل جاء رزقاً مهنأ لا تعبفيه. ثم أرداف هذه الجمل بالجملة الأخيرة، إذ هي مؤكدة لافتتاح هذه الجمل السابقة، لأنه افتتحها بالإخبار بأنهم ظلموا أنفسهم،وختمها بذلك وهو قوله: {وَلَـٰكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }. فجاءت هذه الجمل في غاية الفصاحة لفظاً والبلاغة معنى، إذ جمعتالألفاظ المختارة والمعاني الكثيرة متعلقاً أوائل أواخرها بأواخر أوائلها، مع لطف الإخبار عن نفسه. فحيث ذكر النعم صرح بأن ذلكمن عنده، فقال: ثم بعثناكم، وقال: وظللنا وأنزلنا، وحيث ذكر النقم لم ينسبها إليه تعالى فقال: فأخذتكم الصاعقة. وسر ذلكأنه موضع تعداد للنعم، فناسب نسبة ذلك إليه ليذكرهم آلاءه، ولم ينسب النقم إليه، وإن كانت منه حقيقة، لأن فينسبتها إليه تخويفاً عظيماً ربما عادل ذلك الفرح بالنعم. والمقصود: انبساط نفوسهم بذكر ما أنعم الله به عليهم، وإن كانالكلام قد انطوى على ترهيب وترغيب، فالترغيب أغلب عليه.

{ وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } * { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } * { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }[عدل]

{وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًاوَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـٰيَـٰكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْرِجْزًا مّنَ ٱلسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ }. الدخول: معروف، وفعلة: دخل يدخل، وهو مما جاء على يفعلبضم العين. وكان القياس فيه أن يفتح، لأن وسطه حرف حلق، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضاً الفتح. القرية:المدينة، من قريت: أي جمعت. سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة. وقيل: إن قلواقيل لها قرية، وإن كثرواقيل لها مدينة. وقيل: أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها، ومنه، قريت الماء في الحوض، والمقراة: الحوض،ومنه القرى: وهو الضيافة، والقرى: المجرى، والقرى: الظهر. ولغة أهل اليمن: القرية، بكسر القاف، ويجمعونها على قِرى بكسر القاف نحو:رشوة ورشا. وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف، وهو جمع على غير قياس. قيل: ولم يسمع من فعلهالمعتل اللام إلا قرية وقرى، وتروة وترى، وشهوة وشهى. الباب: معروف، وهو المكان الذي يدخل منه، وجمعه أبواب، وهو قياسمطرد، وجاء جمعه على أبوبة في قوله:

هتــاك أخبيــة ولاج أبــوبــة

لتشاكل أخبية، كما قالوا: لا دريت ولا تليت، وأصلهتلوت، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت. سجداً: جمع ساجد، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام. وقولوا: كلأمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفاً في الماضي، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو: قل وبع،أو لضمير مؤنث نحو: قلن وبعن، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو: قولي، أو ضمير الاثنين نحو: قولاً، أو ضميرالذكور نحو: قولوا، ثبتت تلك العين، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو. وقد جاء حذفها في الشعر، فجاء قوله: قلىوعشا. حطة: على وزن فعلة من الحط، وهو مصدر كالحط، وقيل: هو هيئة وحال: كالجلسة والقعدة، والحط: الإزالة، حططت عنهالخراج: أزلته عنه. والنزول: حططت. وحكى: بفناء زيد نزلت به، والنقل من علو إلى أسفل، ومنه انحطاط القدر. وقال أحمدبن يحيـى، وأبان بن تغلب، الحطة: التوبة. وأنشدوا:

فاز بالحطة التي جعل الله بها ذنب عبده مغفوراً

أي فاز بالتوبة، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف، لأن من حط عنه الذنبفقد تيب عليه. الغفر والغفران: الستر، وفعله غفر يغفر، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع. والغفيرة: المغفرة، والغفارة: السحابوما يلبس به سية القوس، وخرقة تلبس تحت الخمار، ومثله المغفر والجماء، الغفير: أي جماعة يستر بعضهم بعضاً من الكثرة.وقوله عمر لمن قال له: لم حصبت المسجد؟ هو أغفر للنخامة، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية. الخطيئة: فعيلة منالخطا، والخطأ: العدول عن القصد، يقال خطىء الشيء: أصابه بغير قصد، وأخطأ: إذا تعمد، وأما خطايا: فجمع خطية مشددة عندالفراء، كهدية وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه: أصله خطائيّ، مثل: صحائف، وزنة، فعائل، ثم أعلت الهمزةالثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها،فصار: خطآء، فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطاياً، كهداياومطايا. وعند الخليل أصله: خطابي، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي، المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابقفي قوله سيبويه. وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التيكانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة،ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمعالتي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) منتأليفنا. الإحسان والإنعام والإفضال: نظائر، أحسن الرجل: أتى بالحسن، وأحسن الشيء: أتى به حسناً: وأحسن إلى عمر وأسدي إليه خيراً.التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه، ويتعدّى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت ديناراً بدرهم: أيجعلت ديناراً عوض الدرهم، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول: بدلت زيداً ديناراً بدرهم: أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم، وقديجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى:

{ فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ }

، أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقدوهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل، والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضاداً بظاءلم تصح صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد. الرجز: العذاب، وتكسر راؤه وتضم، والضم لغة بني الصعدات، وقد قرىء بهمافي بعض المواضع، قال رؤبة:

كم رامنا من ذي عديد مبزي حتى وقينا كيده بالرجز

والرجز، بالضم: اسم صنم مشهور، والرجزاء: ناقة أصاب عجزها داء، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها، قال الشاعر:

هممت بخير ثم قصرت دونه كما ناءت الرجزاء شدّ عقالها

قيل: الرجز مشتق من الرجازة، وهي صوفتزين به الهوادج، كأنه وسمهم، قال الشاعر:

ولو ثقفاها ضرجت بدمائها كما ضرجت نضو القرام الرجائز

الاستسقاء: طلب السقي، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله:

{ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

. العصا: مؤنث،والألف منقلبة عن واو، قالوا: عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذاً، قالوا: أعص، أصله أعصوو، على فعولقياساً، قالوا: عصى، أصله عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر:

ألا إن لا تكن إبل فمعزى كائن قرون جلتها العصى

الحجر: هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس، وجمع على أحجار وحجار،وهما جمعان مقيسان فيه، وقالوا: حجارة بالتاء، واشتقوا منه، قالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جداً. الانفجار: انصداع شيءمن شيء، ومنه انفجر، والفجور: وهو الانبعاث في المعصية كالماء، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاءلها انفعل، وقد تقدّم ذكرها. اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: اثن،ولا اثنة، ولامهما محذوفة، وهي ياء، لأنه من ثنيت. العشرة، بإسكان الشين، لغة الحجاز، وبكسرها لغة تميم، والفتح فيها شاذغير معروف، وهو أوّل العقود، واشتقوا منه فقالوا: عشرهم يعشرهم، ومنه العشر والعشر، والعشر: شجر لين، والإعشار: القطع لا واحدلها، ووصل بها المفرد، قالوا: برمة أعشار. العين: لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر، والسحابة تقبل من ناحية القبلة،والمطر يمطر خمساً أو ستاً، لا يقلع، ومن له شرف في الناس، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك، وجمع علىأعين شاذ، أو عيون قياساً، وقالوا: في الأشراف من الناس: أعيان، وجاء ذلك قليلاً في العضو الباصر، قال الشاعر:

أسمــل أعيــانــاً لهــا ومــآقيــا

أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول الشاعر:

وإلـى ابـن أمّ أنـاس أرحـل نـاقتي

منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب: مفعل من الشرابيكون للمصدر والزمان والمكان، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه: كسرت ودخل، أوأعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون. العثو، والعثى: أشدّ الفساد، يقال: عثا يعثو عثواً، وعثى يعثى عثياً،وعثا يعثى عثياً: لغة شاذة، قال الشاعر:

لولا الحياء وأن رأسي قد عثا فيه المشيب لزرت أمّ القاسم

وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو، كرضي الذي أصله رضو، خلافاً لزاعمه. وعاثيعيث عيثاً ومعاثاً، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف: وهي السوسة التي تلحسه. الطعام: اسم لما يطعم، كالعطاء، اسم لمايعطي، وهو جنس. الواحد: هو الذي لا يتبعض، والذي لا يضم إليه ثان. يقال: وحديحد وحداً وحدة إذا انفرد. الدعاء:التصويت باسم المدعوّ على سبيل النداء، والفعل منه دعا يدعو دعاء. الإنبات: الهمزة فيه للنقل، وهو: الإخراج لما شأنه النمو.البقل: جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت: أي صارت ذات بقل، ومنه:الباقلاء، قاله ابن دريد. القثاء: اسم جنس واحدة قثاءة، بضم القاف وكسرها، وهو هذا المعروف. وقال الخليل: هو الخيار، ويقال:أرض مقثأة: أي كثيرة القثاء. الفوم، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم: هو الثوم، أبدلت الثاء فاء،كما قالوا، في مغفور: مغثور، وفي جدث: جدف، وفي عاثور: عافور. قال الصلت:

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها القراديس والفومان والبصل

وأنشد مؤرج لحسان:

وأنتم أناس لئام الأصول طعامكم الفوم والحوقل

يعني: الفوم والبصل، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء، قالوا في الأثافي: الأثاثي، وكلا البدلين لا ينقاس،أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء. وقال أبو مالك وجماعة: الفوم: الحنطة، ومنه قول أحيحة بن الجلاح:

قد كنت أحسبني كأغنى واحد قدم المدينة عن زراعة فوم

قيل: وهي لغة مصر، وهو اختيار المبرد.وقال الفراء: وهي لغة قديمة. وقال ابن قتيبة والزجاج: هي الحبوب التي تؤكل. وقال أبو عبيدة وابن دريد: هي السنبلة،زاد أبو عبيدة بلغة أسد. وقيل: الحبوب التي تخبز. وقيل: الخبر، تقول العرب: فوموا لنا، أي اخبزوا، واختاره ابن قتيبةقال:

تلتقم الفالح لم يفوّم تقمماً زاد على التقمم

وقال قطرب: الفوم: كل عقدةفي البصل، وكل قطعة عظيمة في اللحم، وكل لقمة كبيرة. وقيل: إنه الحمص، وهي لغة شامية، ويقال لبائعه: فامي، مغيرعن فومي للنسب، كما قالوا: شهلي ودهري. العدس: معروف، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام، وعدس: زجر للبغل. البصل: معروف. أدنى:أفعل التفضيل من الدنوّ، وهو القرب، يقال: منه دنا يدنو دنواً. وقال علي بن سليمان الأخفش: هو أفعل من الدناءة،وهي: الخسة والرداءة، خففت الهمزة بإبدالها ألفاً. وقال أبو زيد في المهموز: دنؤ الرجل، يدنأ دناءة ودناء، ودنأ يدنأ. وقالغيره: هو أفعل من الدون، أي أحط في المنزلة، وأصله أدون، فاصر وزنه: أفلع، نحو: أولى لك، هو أفعل منالويل، أصله أويل فقلب. المصر: البلد، مشتق من مصرت الشاة، أمصرها مصراً: حلبت كل شيء في ضرعها، وقيل المصر: الحدبين الأرضين، وهجر يكتبون: اشترى الدار بمصورها: أي بحدودها. وقال عديّ بن زيد:

وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا

السؤال: الطلب، ويقال: سأل يسأل سؤالاً، والسؤل: المطلوب، وسأل يسأل: علىوزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. سلهم أيّهم بذلك زعيم، قالوا: لأن السؤال سببإلى العلم فأجرى مجرى العلم. الذلة: مصدر ذلّ يذلّ ذلة وذلاً، وقيل: الذلة كأنها هيئة من الذل، كالجلسة، والذل: الخضوعوذهاب الصعوبة. المسكنة: مفعلة من السكون، ومنه سمى المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه، وقد بنى من لفظه فعل، قالوا: تمسكن،كما قالوا: تمدرع من المدرعة، وقد طعن على هذا النقل وقيل: لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرّع. باء بكذا:أي رجع، قاله الكسائي: أو اعترف، قاله أبو عبيدة، واستحق، قاله أبو روق؛ أو نزل وتمكن، قاله المبرد؛ أو تساوى،قاله الزجاج، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب، وحذفنا نحن ذلك. النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنىمفعل، كسميع من أسمع، وجمع على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراويأنه يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبىء، وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئاً. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل،كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل. وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع، قالوا:والنبي: الطريق الظاهر، قال الشاعر:

لما وردن نبياً واستتب بنا مسحنفر لخطوط المسح منسحل

قال الكسائي: النبي: الطريق، سمي به لأنه يهتدي به، قالوا: وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى. العصيان: عدمالانقياد للأمر والنهي والفعل، منه: عصى يعصي، وقد جاء العصى في معنى العصيان. أنشد بن حماد في تعليقه عن أبيالحسن بن الباذش مما أنشده الفراء:

فـي طــاعــة الـرب وعصـى الشيطــان

الاعتداء: افتعال من العدو، وقد مرّ شرحه عند قوله:

{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }

. {وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ }. القائل: هو الله تعالى، وهل ذلك على لسان موسىأو يوشع عليهما السلام، قولان: وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة علىالمصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل،إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي، نحو: دخلت في غمارالناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكرفي علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعرابالشجرة من قوله:

{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ }

، وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: {وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ }مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه. والقرية هنا بيت المقدس، في قول الجمهور، قاله ابن مسعود وابنعباس وقتادة والسدّي والربيع وغيرهم. وقيل: أريحا، قاله ابن عباس أيضاً، وهي بأرض المقدس. قال أبو زيد عمر بن شبةالنمري: كانت قاعدة ومسكن ملوك، وفيها مسجد هو بيت المقدس، وفي المسجد بيت يسمى إيليا. وقال الكواشي: أريحا قرية الجبارين،كانوا من بقايا عاد، يقال لهم: العمالقة ورأسهم: عوج بن عنق، وقيل: الرملة، قاله الضحاك؛ وقيل: ايلة، وقيل: الأردن؛ وقيل:فلسطين؛ وقيل: البلقا؛ وقيل: تدمر، وقيل: مصر؛ وقيل: قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها؛ وقيل: الشام. روي ذلكعن ابن كيسان، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة:

{ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ }

. قيل: ولا خلاف، أن المراد فيالآيتين واحد. وردّ هذا القول بقوله: فبدّل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى، لكنه مات في أرض التيه ولميدخل بيت المقدس. وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان علىلسان موسى، وهذا الجواب وهم، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله: ادخلواالأرض المقدّسة واحد، والقائل ذلك في آية المائدة قطعاً. ألا ترى إلى قوله: {ٱلْعَـٰلَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ }، وقولهم:

{ قَالُواْ يا مُوسَىٰ أَنِ * فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ }

؟ قال وهب: كانوا قد ارتكبوا ذنوباً، فقيل لهم: {أَدْخِلُواْ } الآية.وقال غيره: ملوا المنّ والسلوى، فقيل لهم: اهبطوا مصراً، وكان أوّل ما لقوا أريحا. وفي قوله: {هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ } دليلعلى أنهم قاربوها وعاينوها، لأن هذه إشارة لحاضر قريب. قيل: والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون، فإنه نقلعنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين، ولم يكن موسى معهم حين دخلوها، فإنه ماتهو وأخوه في التيه. وقيل: لم يدخلا التيه لأنه عذاب، والله لا يعذب أنبياءه. {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}: تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا }، إلا أنهناك العطف بالواو وهنا بالفاء، وهناك تقديم الرغد على الظرف، وهنا تقديم الظرف على الرغد، والمعنى فيهما واحد، إلا أنالواو هناك جاءت بمعنى الفاء، قيل: وهو المعنى الكثير فيها، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخرفي الزمان، وإن كانت قد ترد بالعكس، وهو قليل. وللمعية والزمان، وهو دون الأول، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاءفي الأعراف من قوله: {فَكُلاًّ } بالفاء، والقضية واحدة. وأما تقديم الرغد هناك فظاهر، فإنه من صفات الأكل أو الآكل،فناسب أن يكون قريباً من العامل فيه ولا يؤخر عنه، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلاً مؤثراً المنع لاجتماعهمافي المعمولية لعامل واحد، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده، ألا ترى أن قوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} وقوله: {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا }، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا، والله أعلم، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين. {وَٱدْخُلُواْٱلْبَابَ }: الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية، والباب أحد أبواب بيت المقدس، ويدعى الآن: باب حطة، قالهابن عباس؛ أو الثامن، من أبواب بيت المقدس، ويدعى باب التوبة، قاله مجاهد والسدي؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها،أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى. {سُجَّدًا }نصب على الحال من الضمير في ادخلوا، قال ابن عباس: معناه ركعاً، وعبر عن الركوع بالسجود، كما يعبر عن السجودبالركوع، قيل: لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفاً لكانوامضطرين إلى دخوله ركعاً، فلا يحتاج فيه إلى الأمر، وهذا لا يلزم، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنىأنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب. وقيل: معناه خضعاً متواضعين،واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب، ونذكر وجه اختياره لذلك. وقيل: معناه السجود المعروف من وضعالجبهة على الأرض، والمعنى: ادخلوا ساجدين شكراً لله تعالى، إذ ردهم إليها. وهذا هو ظاهر اللفظ. قال أبو عبد اللهبن أبي الفضل: وهذا بعيد، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك، فلما تعذرعلى حقيقة السجود وجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في التوبة، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعاًمستكيناً، وما ذهب إليه لا يلزم، لأن أخذ الحال مقارنة، فتعذر ذلك عنده، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروابالدخول وهم ساجدون، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون. وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا. وأما إذاجعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخياً عن الدخول، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. منذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً،وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى. وقال الزمخشري: أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب، شكراًلله وتواضعاً، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخولفي حال السجود. فالسجود ليس مأموراً به، بل هو قيد في وقوع المأمور به، وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامرنسب إسنادية، فتناقضتا، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييدياً إسنادياً، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاماً ومن حيث الإسناديكتفي، فظهر التناقض. وفي كيفية دخولهم الباب أقوال: قال ابن عباس وعكرمة: دخلوا من قبل أستاههم، وقال ابن مسعود: دخلوامقنعي رؤوسهم، وقال مجاهد: دخلوا على حروف أعينهم، وقال مقاتل: دخلوا مستلقين، وقيل: دخلوا منزحفين على ركبهم عناداً وكبراً، والذيثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم. فاضمحلت هذه التفاسير، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلىالله عليه وسلم. وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ }، حطة: مفر، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة، فاحتيج إلى تقديرمصحح للجملة، فقدر مسألتنا حطة هذا تقدير الحسن بن أبي الحسن. وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقالغيرهما: التقدير أمرك حطة. وقيل: التقدير أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيه. قال الزمخشري: والأصل النصببمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:

صبــر جميــل فكــلانــا مبتلــى

والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهوحسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:

صبـراً جميــلاً فكــلانــا مبتلــي

بالنصب. والأظهر منالتقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء منتلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:

إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة معتقة مما تجيء به التجر

روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإنقلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى.وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به،إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو:قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصاركالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظيوعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي. وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلاًإلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى. ويبعد أنيرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام. أما ما ذهب إليه أبو عبيدةمن أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عنالصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات، ولذلكاحتاج النحويون في قوله تعالى:

{ يُقَالُ لَهُ إِبْرٰهِيمُ }

إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله:

سمعــت النــاس ينتجعــون غيثــاً وجدنا في كتاب بني تميم أحق الخيل بالركض المعار

فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهمايتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا علىالجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها. واختلفت أقوال المفسرين في حطة، فقال الحسن: معناهحط عنا ذنوبنا، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب: أمروا أن يستغفروا، وقال عكرمة: معناها لا إلٰه إلا الله، وقالالضحاك: معناه وقولوا هذا الأمر الحق، وقيل: معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك، كما يقال قد حططت فيفنائك رحلي. وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير. وقد روي عن ابن عباسأنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها، قيل: والأقرب خلافه، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الأقرب أنهمأمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم والخضوع، حتى لو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، لكان الخضوع حاصلاً،لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب، وذلك لا يتوقفعلى ذكر لفظة بعينها. {يَغْفِرُ }، نافع: بالياء مضمومة، ابن عامر: بالتاء، أبو بكر من طريق الجعفي: يغفر، الباقون:نغفر. فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من بابالالتفات، لأن صدر الآية {وَإِذْ قُلْنَا } ثم قال: {يَغْفِرُ }، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائبالمفرد، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على القول الدال عليه وقولوا، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازاً لما كانسبباً للغفران، ومن قرأ بالنون، وهي قراءة باقي السبعة، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله: {وَإِذْ قُلْنَا }،وما بعده من قوله: {وَسَنَزِيدُ }، فالكلام به في أسلوب واحد، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ {خَطَـٰيَـٰكُمْ }،وأمالها الكسائي. وقرأت طائفة: تغفر بفتح التاء، قيل: كأن الحطة تكون سبب الغفران، يعني قائل هذا وهو ابن عطية، فيكونالضمير للحطة وهذا ليس بجيد، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سبباً للغفران. وقد بينا ذلك قبل، فالضمير عائد علىالمقالة المفهومة من: {وَقُولُواْ }، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز، إذ كانت سبباً للغفران. وقرأ الجحدري وقتادة: تغفر بضمالتاء وإفراد الخطيئة. وروي عن قتادة: يغفر بالياء مضمومة. وقرأ الأعمش: يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة. وقرأ الحسن: يغفر بالياءمفتوحة والجمع المسلم. وقرأ أبو حياة: تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم. وحكى الأهوازي أنه قرأ: خطأياكم بهمز الألف وسكون الألفالأخيرة. وحكى عنه أيضاً العكس. وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنهاالألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه فيقوله:

وخنــدف هــامــة هــذا العــألــم

فلأن يهمزوا هذا أولى، وهذا توجيه شذوذ. ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان: خطاياكم،أو خطياتكم، أو خطيتكم مفعولاً لم يسم فاعله، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون، كان ذلك مفعولاً، وجزمهذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى:

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }

، وذكرنا الخلاففي ذلك. وهنا تقدمت أوامر أربعة: {أَدْخِلُواْ }، {فَكُلُواْ }، {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ }، {وَقُولُواْ حِطَّةٌ }، والظاهر أنه لا يكونجواباً إلا للآخرين، وعليه المعنى، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها، وإنما يترتب علىدخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود، وبقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ } لأن فيه السؤال بحط الذنوب، وذلك لقوةالمناسبة وللمجاورة. ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ }، {وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا }،{نَّغْفِرْ }، والقصة واحدة. فرتب الغفران هناك على قولهم حطة، وعلى دخول الباب سجداً، لما تضمنه الدخول من السجود. وفيتخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع. وقرأ من الجمهور: بإظهار الراءمن نغفر عند اللام، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف. {وَسَنَزِيدُ }: هنا بالواو، وفي الأعراف {سَنَزِيدُ }، والتي فيالأعراف مختصرة. ألا ترى إلى سقوط رغداً؟ والواو من: {وَسَنَزِيدُ }، وقوله:

{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ }

، بدل، {فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ}، وإثبات ذلك هنا، وناسب الأسهاب هنا والاختصار هناك. والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم، وضده النقص. {ٱلْمُحْسِنِينَ }، قيل: الذينلم يكونوا من أهل تلك الخطيئة، وقيل: المحسنين منهم، فقيل: معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات، وقيل:معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئاً بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات، وقيل: معناه من كانمحسناً منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئاً مخطئاً نغفر له خطيئته، وكانوا على هذين الصنفين، فأعلمهم الله أنهم إذافعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجداً وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم. وقيل: المحسنون من دخل، كما أمروقال: لا إلٰه إلا الله، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم. فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي،أي كان محسناً، أو في المستقبل، أي من أحسن منهم بعد، أو في الحال، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ماأمرتم به من دخول الباب سجداً والقول حطة. وهذه الجملة معطوفة على: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـٰيَـٰكُمْ }، وليست معطوفةعلى نغفر فتكون جواباً، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراف في قوله سنزيد؟ وإن كانت من حيث المعنىلا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً. والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتبعلى شيء قبله. {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }: ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين، وأن الظالمين هم الذين بدلوا، فإنكان كلهم بدلوا، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بالعلة، وكأنه قيل: فبدّلوا، لكنه أظهره تنبيهاً على علةالتبديل، وهو الظلم، أي لولا ظلمهم ما بدلوا، والمبدّل به محذوف تقديره: فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة. {قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِيقِيلَ لَهُمْ }: ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة،فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غيرليدل، على أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذالمجرور هو الزائل، والمنصوب هو الحاصل. واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا: حطة، فقال ابن عباس وعكرمةومجاهد ووهب وابن زيد: حنطة، وقال السدّي عن أشياخه: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء، وقال أبوصالح: سنبلة، وقال السدّي ومجاهد أيضاً: هطا شمهاثاً، وقيل: حطى شمعاثاً، ومعناها في هذين القولين: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاءمثقوبة فيها شعرة. وقيل: حبة في شعيرة، وقال ابن مسعود: حنطة حمراء فيها شعير، وقيل: حنطة في شعير، رواه ابنعباس عن النبي . وقيل: حبة حنطة مقلوة في شعرة، وقيل: تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاءوالاستخفاف. وقيل: إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم. والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلمأن رسول الله فسر ذلك بأنهم قالوا: حبة في شعرة، فوجب المصير إلى هذا القول واطراحتلك الأقوال، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، فيكون بعضهم قال: كذا، وبعضهم قال:كذا، فلا يكون فيها تضاد. ومعنى الآية: أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولاً مغايراً له مشعراًباستهزائهم بما أمروا به، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم. كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله، فاستحقوا بذلك النكال.{فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا }: كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعاراً بعلية نزول الرجز. وقد أضمر ذلكفي الأعراف فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ }، لأن المضمر هو المظهر. وقرأ ابن محيصن: رجزاً بضم الراء، وقد تقدّم أنها بالغةفي الرجز. واختلفوا في الرجز هنا، فقال أبو العالية: هو غضب الله تعالى، وقال ابن زيد: طاعون أهلك منهم فيساعة سبعين ألفاً، وقال وهب: طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك بهمنهم سبعون ألفاً، وقال ابن عباس: ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً وهلك سبعون ألفاً عقوبة. والذييدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع. {مّنَ ٱلسَّمَاء }:إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهراً، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاءعليهم، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء. {بِمَا كَانُوا }، ما: مصدرية التقدير بكونهم. {يَفْسُقُونَ }. وأجاز بعضهم أن تكونبمعى الذي، وهو بعيد. وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين، وهي لغة. قال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلمالمذكور في قوله: {عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }. وفائدة التكرار التأكيد، لأن الوصف دال على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم،وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضاً. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرر الوجهين: أحدهما: أن الظلم قد يكون من الصغائر،

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا }

، ومن الكبائر:

{ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }

والفسق لا يكون إلا من الكبائر. فلما وصفهم بالظلم أوّلاًوصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر. والثاني: أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديلونزول الرجز عليهم من السماء، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا يزول التكرار.انتهى.. وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ }، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ماورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّمسدّها، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى، وفي تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، وفينقل الحديث بالمعنى. وذكروا أن في الآية سؤالات: الأول: قوله هنا، {وَإِذَا قُلْنَا }، وفي الأعراف: { وَإِذْ قِيلَ }. وأجيببأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة. الثاني: قال هنا: ادخلوا، وهناكاسكنوا. وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة. والسكنى في المتأخرة. الثالث: هنا خطاياكم، وهناك: خطيئتاكم.وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة لما لميضف ذلك إلى نفسه. الرابع: ذكر هنا: رغداً وهناك: حذف. وأجيب بالجواب قبل. الخامس: هنا قدم دخول الباب على القول،وهناك عكس. وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون. فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة، فكلفوا بقول حطة أولاً،ثم بالدخول وغير مذنبين. فاشتغاله أولاً بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب، فلما احتمل الانقسامذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ. السادس: إثبات الواو في وسنزيد هنا، وحذفها هناك. وأجيب بأنه لماتقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت أفاد توزع كل واحدعلى كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع: لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك.وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال:

{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ }

، فذكر لفظ منآخراً اليطابق آخره أوله، وهنا لم تبن القصة على التخصيص. الثامن: هنا فأنزلنا، وهناك: فأرسلنا. وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثهفي أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث بالآخر. التاسع: هنا: يفسقون، وهناك: يظلمون. وأجيب بأنهلما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا. قالبعض الناس: بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل، وهو امتناعهم عنالدخول بصفة السجود. وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعاً، والجزاءهنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة، فيفسقون يحتمل الحال، وإن كان قد وقع على ما مى منالمخالفات التي فسقوا بها، فهو مضارع وقع موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام. {وَإِذَا * ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰلِقَوْمِهِ }: هذا هو الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين. أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلىالماء، ولولا هو لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة. وأما في الدينفلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه، وعلى صدق موسى عليه السلام، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته.وقيل: مفعول استسقى محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله: { إِذِ ٱسْتَسْقَـٰهُ قَوْمُهُ }، أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذاالقول يكون المحذوف هو المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله:

(وأبيض يستسقى الغمام بِوَجْهِهِ ).

ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان يسمع من كلامهم: استسقى زيد وبه الماء، وقدثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المستسقى، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب. وذكر الله هذهالنعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان. وقد اختلف في ذلك، فقال أبو مسلم: كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا،وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث. وقال أكثر المفسرين: كان هذا الاستسقاءفي التيه حين قالوا: من لنا بكذا، إلى أن قالوا: من لنا بالماء، فأمرالله موسى بضرب الحجر. وقيل ذلك عندخروجهم من البحر الذي انفلق، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء، فسألوا أن يستسقى لهم، واللام قيلقومه لام السبب، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام، أي لقومه إذ عطشوا، أو ما كان بهذاالمعنى ومحذوف آخر: أي فأجبناه. {فَقُلْنَا ٱضْرِب بّعَصَاكَ } قالوا: وهذه العصا هي المسؤول عنها في قوله: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ } ، وكانت فيها خصائص تذكر في موضعها. قيل: كانت نبعة، وقيل: عليقي، وهو شجر له شوك، وقيل: منآس الجنة طولها عشرة أذرع، طول موسى عليه السلام، لها شعبتان يتقدان في الظلمة، وكان آدم حملها معه من الجنةإلى الأرض، فتوارثها أصاغر عن أكابر حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وذلك أنه لمااسترعاه قال له: اذهب فخذ عصاً، فذهب إلى البيت، فطارت هذه إلى يده، فأمره بردها، فأخذ غيرها، فطارت إلى يده،فتركها له. وقيل: دفعها إليه ملك من الملائكة في طريق مدين. {ٱلحِجْرِ }: قال الحسن: لم يكن حجراً معيناًبل أي حجر ضرب انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب. وروي أنهمقالوا: لو فقد موسى عصاه متنا عطشاً، فأوحى الله إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون، فكانت تطيعه فلميعتبروا. وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر، فعلى هذا تكون الألف واللام في الحجر للجنس. وقيل: إن الألفواللام للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكلسبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف خارجاً عن دوابهم، وسعة العسكر اثناعشر ميلاً. وقيل: حجر أهبطه معه آدم من الجنة، فتوارثوه حتى وقع لشعيب، فدفعه إلى موسى مع العصا. وقيل: هوالحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل، إذ رموه بالأدرة، ففز، قال له جبريل عليه السلام: بأمر الله أرفعهذا الحجر، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاة، قاله ابن عباس. وقيل: حجر أخذه من قعرالبحر خفيف مربع مثل رأس الرجل، له أربعة أوجه، ينبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل فيجدول إليه، وكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه. وقيل: كان رخاماً فيه اثنتا عشرة حفرة،تتبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه، فإذا فرغوا ضربه موسى بعصاه فذهب الماء. وقيل: حجر أخذه من جبلزبيد، طوله أربعة أذرع، قاله الضحاك. وقيل: حجر مثل رأس الشاة، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا، فيه من كلناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم، فإذا نزلوا فقرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها، قاله ابن زيد.وقيل حجر يحمله في مخلاته، أخذه، إذ قالوا: كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحيثما نزلوا ألقاهفينفجر ماء. وقيل: حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عيناً، يسقي كل يوم ستمائة ألف، قاله أبو روق، وقيل: حجرذراع في ذراع، قاله السدّي. وقيل: حجر مثل رأس الثور. وقيل: حجر كان ينفجر لهم منه الماء، لم يكونوا يحملونه،بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق، وقال مقاتل والكلبي: كانوا إذا قضواحاجتهم من الماء اندرست تلك العيون، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت. فهذه أقوال المفسرين في الحجر، وظاهرها أو ظاهرأكثرها التعارض. قال بعض من جمع في تفسير القرآن: الأليق أنِهِ الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام، فإن اللهأودع فيه حركة التنقل والسعي، أووكل به ملكاً يحمله ولا يستنكر ذلك. فقد صح أن رسول الله صلى الله عليهوسلم قال: إني لأعرف حجراً كان يسلم علي . وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غيرمعين، بل أيّ حجر وجده ضربه، فوجد مرّة مربعاً، ومرّة كذاناً، ومرة رخاماً، وكذا فيها. قال: فروى الراوي صفة ذلكالحجر الذي ضربه في تلك المنزلة قال: فيزول التغاير في الكيفيات، ويحصل التوفيق بين الروايات. وهذا الكلاك ما ترى. وظاهرالقرآن: أن الحجر ليس بمعين، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهوداً، وأن الاستسقاء لم يتكرّر، لا هو ولاالضرب ولا الانفجار، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرّض لها لفظ القرآن، فيحتمل أن يكون ذلك متكرراً، ويحتمل أنيكون ذلك مرة واحدة، والواحدة هي المتحققة. {فَٱنفَجَرَتْ }: الفاء للعطف على جملة محذوفة، التقدير: فضرب فأنفجرت، كقوله تعالى: { أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } أي فضرب فانفلق. ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتباً على ضربه، إذ لوكان يتفجر دون ضرب، لما كان للأمر فائدة، ولكان تركه عصياناً، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وماذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه،وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلقفاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه، وفيه الفاء حيث لامعطوف بالفاء موجود، قال تعالى:

{ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصّدِيقُ }

، التقدير: فأرسلوه فقال: فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جازحذفهما معاً، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف، بل هي جواب شرط محذوف،قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله:

{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }

، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلافي كلام بليغ، اهـ كلامه. وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ }،بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر، فقد تاب عليكم،وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهارقد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى، نحو قوله:

{ وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ }

، وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أنالانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن يضرب، وإذا كان مترتباً على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلاً، وإذا كانمستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكونمعناه ماضياً نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إليّ فقد أحسنت إليك، ويحتاج إلى تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعلبدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني فغفر الله لك. وأيضاً فالذي يفهممن الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال:

{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }

، وجعله جواب شرطمحذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلقعلى تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيثالمعنى، فوجب طرحه، وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ وجاء هنا:انفجرت وفي الاعراف:

{ انبجست }

، فقيل: هما سواء، انفجر وانبجس وانشق مترادفات. وقيل: بينهما فرق، وهو أن الانبجاس هو أوّل خروجالماء، والانفجار اتساعه وكثرته. وقيل: الانبجاس خروجه من الصلب، والانفجار خروجه من اللين. وقيل: الانبجاس هو الرشح، والانفجار هو السيلان،وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد، لأن الآيتين قصة واحدة. {ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ } متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء. الغايةوالضمير عائد على الحجر المضروب، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان، كما قال تعالى:

{ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلانْهَـٰرُ }

، ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب، وهوالمصدر المفهوم من الكلام قبله، وأن تكون من للسبب، أي فانفجرت بسبب الضرب، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذافي كلام الله تعالى، لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى، إذ هو أفصحالكلام. وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض، فتكون مادّته منها، وخروجه كثيراًمن حجر صغير، وخروجه بقدر حاجتهم، وخروجه عند الضرب بالعصا، وانقطاعه عند الاستغناء عنه. {ٱثْنَتَا عَشْرَةَ }: التاء فياثنتا للتأنيث، وفي ثنتا للالحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. وقرأ الجمهور: عشرة بسكون الشين. وقرأ مجاهد، وطلحة، وعيسى، ويحيـى بنوثاب، وابن أبي ليلى، ويزيد: بكسر الشين. وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو، والمشهور عنه الإسكان، وتقدّم أنها لغةتميم، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون فعلاً، يقولون في نمر: نمر. وقرأ ابن الفضل الأنصاري، والأعمش: بفتح الشين.وروي عن الأعمش: الإسكان، والكسر أيضاً. قال الزمخشري: الفتح لغة. وقال ابن عطية: هي لغة ضعيفة. وقال المهدوي: فتح الشينغير معروف، ويحتمل أن تكون لغة، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ، وعشرة في موضع خفض بالإضافة،وهو مبني لوقوعه موقع النون، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوتألفه رفعاً وانقلابها نصباً وجراً، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها، فلا يقال: اثنتا عشرتك.وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني، ولم يجعل الإنقلاب دليل الإعراب.{عَيْناً }: منصوب على التمييز، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً، وكانهذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطاً، وكان بينهم تضاغن وتنافس، فأجرى الله لكل سبط منهم عيناً يرده،لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان، وهو أنيذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره، ومنه قوله تعالى:

{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ }

، وسيأتيبيان ذلك التخصيص فيها، إن شاء الله تعالى، في موضعها، وقول الخنساء:

يذكرني طلوع الشمس صخرا وأندبه بكل مغيب شمس

اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى. قال بعض أهل اللطائف: خلق الله الحجارةوأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد، وخلق الأشجار رطبة الغصون، ليست لها قوّة الأحجار، فتؤثر فيهاتفريقاً بأجزائها ولا تفجير العيون مائها، بل الأحجار تؤثر فيها. فلما أيدت بقوة النبوّة، انفلقت بها البحار، وتفرقت بها أجزاءالأحجار، وسالت بها الأنهار،

{ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لاِوْلِى ٱلاْبْصَـٰرِ }

. {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ }: جملة استئنافتدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدّاه لمشرب غيره، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلىاثنتي عشرة عيناً، وتنبيه عليها. وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب. وكلأناس مخصوص بصفة محذوفة، أي من قومه الذين استسقى لهم. والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء. وحملهبعضهم على المشروب وهو الماء، والأول أولى، لأن دلالته على المكان بالوضع، ودلالته على الماء بالمجاز، وهو تسمية الشيء باسممكانه وإضافة المشرب إليهم، لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم، وأعاد الضمير في مشربهمعلى معنى كل لا على لفظها، ولا يجوز أن يعود على لفظها، فيقال: مشربه، لأن مراعاة المعنى هنا لازمة، لأنكل قد أضيفت إلى نكرة، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره،قال تعالى:

{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـٰمِهِمْ }

، وقال الشاعر:

وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن حللنا قيده فهو سارب

وقال:

وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفرّ منها الأنامل

وقال تعالى:

{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ }

، وتقول: كل رجلين يقولان ذلك، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظكل، وثم محذوف تقديره: مشربهم منها: أي من الاثنتي عشرة عيناً. ونص على المشرب تنبيهاً على المنفعة العظيمة التي هيسبب الحياة، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشربلهم منها أنشىء لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى، والشرب من هذه العيون، أو أمروا بالدوام على ذلك، لأن الإباحةكانت معلومة من غير هذا الأمر، والأمر بالواقع أمر بدوامه، كقولك للقائم: قم. {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ }: هو على إضمار قول،أي وقلنا لهم، وهذا الأمر أمر إباحة. قال السلمي: مشرب كل أحد حيث أنزله رائده، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا،أو قلبه فمشربه الآخرة، أو سره فمشربه الجنة، أو روحه فمشربه السلسبييل، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول:

{ وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً }

، طهرهم به عن كل ما سواه، وبدىء بالأكل لأنه المقصود أولاً، وثنى بالشرب لأن الاحتياجإليه حاصل عن الأكل، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء. {مِن رّزْقِ ٱللَّهِ }، من: لابتداء الغاية،ويحتمل أن تكون للتعبيض. ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف، أضيفا إلى الله تعالى،وهذا التفات، إذ تقدم فقلنا: اضرب، ولو جرى على نظم واحد لقال: من رزقنا، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوامسنداً إلى موسى، أي وقال موسى: {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } فلا يكون فيه التفات، ومن رزق الله متعلق بقوله: واشربوا، وهومن إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكانيكون: كلوا واشربوا منه، من رزق الله، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم، والضرورة والقليللا يحمل كلام الله عليهما. والرزق هنا هو المرزوق، وهو الطعام من المن والسلوى، والمشروب من ماء العيون. وقيل: هوالماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب، وهذا القول يكون فيه من رزق الله، يجمع فيه بينالحقيقة والمجاز، لأن الشرب من الماء حقيقة، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء، لا أن الأكل من الماءحقيقة، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول. ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفةعليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى، سواء كانتمما تسبب العبد في كسبها أم لا، واختص بالإضافة للفظ الله، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد،الجامع لسائر الأسماء

{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ }

{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ قُلِ ٱللَّهُ }

{ أمن يبدؤا ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ }

، و

{ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ }

{ أإله مَّعَ ٱلله }

؟ واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أنالرزق هو الحلال، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة، واقتضى أن يكون الرّزق مباحاً، فلو وجد رزق حراملكان الرزق مباحاً وحراماً، وأنه غير جائز. والجواب: إن الرزق هنا ليس بعادم هذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجرمن الحجر، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرّزق حلية جميع الرّزق، وفي هذه الآية دليل على جوازأكل الطيبات من الطعام، وشرب المستلذ من الشراب، والجمع بين اللونين والمطعومين، وكل ذلك بشرط الحل. وقد صح أن النبي كان يحب الحلواء والعسل، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب، وكانت تنبذ له فيه الثمرات، وجمعبين القثاء والرطب، وسقى بعض نسائه الماء. وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعاموالشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى. {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلاْرْضِ مُفْسِدِينَ }: لما أمروا بالأكل والشرب منرزق الله، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب، كان ذلك إنعاماً وإحساناً جزيلاًإليهم، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوّة الاستعلائية. نهاهم عما يمكن أن ينشأعن ذلك، وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها، وهو الفساد في الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية:معناه ولا تسعوا. وقال قتادة: ولا تسيروا. وقيل: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم، لأن كلّ سبط منكم قد جعل لهشرب معلوم. وقيل: معناه: لا تؤخروا الغذاء، فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل: معناه لا تخالطوا المفسدين. وقيل: معناه لا تتمادوافي فسادكم. وقيل: لا تطغوا، قاله ابن زيد. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. في الأرض: الجمهور على أنهاأرض التيه، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم، ويجوز أن يريد الأرضين كلها. وأل: لاستغراقالجنس. ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات،وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد. مفسدين: حال مؤكدة. قال القشيري، في قوله تعالى: {وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ } الآية أن الذيقدر على إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادراً على إروائهم بغير ماء، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، واتصال محلالاستعانة إليه، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا، نوع من المعالجة، ثمأراد أن يكون كل سبط جارياً على سننه، غير مزاحم لصاحبه، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكروحفظ الأمر وترك احتقابالوزر، فقال: {وَلاَ تَعْثَوْاْ }. والمناهل مختلفة، وكل يرد مشربه: فمشرب فرات، ومشرب أجاج، ومشرب صاف، ومشرب رنق، وسياق كلقوم يقودهم، فالنفوس ترد منا هل المنى، والقلوب ترد مشارب التقى، والأرواح ترد مناهل الكشف، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائقبالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات. انتهى كلامه ملخصاً. {وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ * مُوسَىٰ * لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ}: لما سئموا من الإقامة في التيه، والمواظبة على مأكول واحد، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها،أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم. وأكثرأهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية، قالوا: لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى، وتلك الكراهة معصية، ولأنموسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير، وبأن قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ } هو على سبيل الإنكار. والجواب،أن قولهم: {لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ } لا يدل على عدم الرضا به فقط، بل اشتهوا أشياء أخر. وأماالإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا، أو الأنفع في الآخرة. وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها،وإنما كان سؤالاً مباحاً، والدليل عليه أن قوله: {كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } من قبل هذه الآية، عند إنزال المن وتفجير العينليس بإيجاب بل هو إباحة، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: {لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ } معصية لأن منأبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها، إما بنفسه أو على لسان الرسول. ولما كان سؤال النبيأقرب للإباحة، سألوه عن ذلك، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع.ورغبة الإنسان فيما اعتاده، وإن كان خسيساً، فوق رغبة ما لم يعتده، وإن كان شريفاً، ولأن ذلك يكون سبباً لانتقالهمعن التيه الذي ملوه، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه، فأرادوا الحلول بغيره، ولأن المواظبة على طعام واحد سبب لنقصالشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك. فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصوداًللعقلاء، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية.ومما يؤكد ذلك قوله: {ٱهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } هو كالإجابة لماطلبوا. ولو كانوا عاصين في ذلك السؤاللكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ووصف الطعام بواحد، وإن كان طعامين، لأنه المنّوالسلوى اللذان رزقوهما في التيه، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدةيداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل: لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف. ويجوز أنيريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والسرف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما نريد إلا ماألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة، كالحبوب والبقول ونحوهما. ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري. وقيل: أعاد على لفظالطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه. وقيل: كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياءويسمى لوناً واحداً، قاله ابن زيد. وقيل: كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموهوملوه، ثم انقطع عنهم، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها. وقيل: أرادوا بالطعام الواحد السلوى، لأن المن كان شراباً، أوشيئاً يتحلون به، وما كانوا يعدون طعاماً إلا السلوى. وقيل: عبرعنهما بالواحد، كما عبر بالإثنين عن الواحد نحو:

{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }

، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب. وقيل: قالوا ذلك عند نزول أحدهما. وقيل: معناه لننصبر على أننا كلنا أغنياء، فلا يستعين بعضنا ببعض، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعاً واحداً، وهو كونهمذوي غنى، فلا يخدم بعضهم بعضاً، وكذلك كانوا في التيه، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعضوغنى بعض. فهذه تسعة أقوال في معنى قوله: {عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ }. {فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ }: معناه: اسأله لنا،ومتعلق الدعاء محذوف، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا. ولغة بني عامر: فادع بكسر العين، جعلوا دعا منذوات الياء، كرمى يرمي، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعو لهم، لأن إجابة الأنبياء أقربمن إجابة غيرهم، ولذلك قالوا: ربك، ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاتهوتكليمه وإتيانه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا الذي هو محسن لك، فكما أحسن إليك في أشياء، كذلك نرجو أن يحسنإلينا في إجابة دعائك. {يُخْرِجْ لَنَا }: جزمه على جواب الأمر الذي هوادع، وقد مر نظيره في

{ أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }

. وقيل: ثم محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل: جزميخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. {مِمَّا تُنبِتُ ٱلارْضُ }: مفعول يخرج محذوفومن تبعيضه: أي مأكولاً مما تنبت، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة، التقدير: ما تنبت، وما موصولة، والعائدمحذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو البقاء:لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز، إذالمنبت هو الله تعالى، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها. {مِن بَقْلِهَا }: هذا بدل منقوله: {مِمَّا تُنبِتُ ٱلارْضُ }، على إعادة حرف الجرّ، وهو فصيح في الكلام، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل.فمن على هذا التقدير تبعيضية، كهي في مما تنبت، ويتعلق بيخرج، إمّا الأولى، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي فيالعامل في البدل، هل هو العامل الأول، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني، وأجاز المهدويّ أيضاً، وابن عطية،وأبو البقاء أن تكون من في قوله: {مِن بَقْلِهَا } لبيان الجنس، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص، ثم اختلفوا، فقالأبو البقاء: موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره: مما تنبته الأرض كائناً من بقلها، وقدّم ذكر هذا الوجهقال: ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما المهدوي، وابن عطية فزعما مع قولهما: إن منفي {مِن بَقْلِهَا } بدل من قوله: مما تنبت، وذلك لأن من في قوله {مِمَّا تُنبِتُ } للتبعيض، ومن فيقوله {مِن بَقْلِهَا } على زعمهما لبيان الجنس. فقد اختلف مدلول الحرفين، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين، فلا يجوز البدل إلاأن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله: {مِمَّا تُنبِتُ ٱلارْضُ } لبيان الجنس، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل علىكونها لبيان الجنس. والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض، وأمّا أن تكون لبيان الجنس، فقد أباه أصحابناوتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك، والمراد بالبقل هنا: أطايب البقول التي يأكلها الناس، كالنعناع، والكرفس، والكرّاث، وأشباهها، قاله الزمخشري.وقرأ يحيـى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما: وقثائها بضم القاف، وقد تقدّم أنها لغة. {وَفُومِهَا }: تقدّم الكلامفيه، وللمفسرين فيه أقاويل ستة: أحدها: أنه الثوم، وبينته قراءة ابن مسعود: وثومها بالثاء، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل. الثاني:قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدّي: أنه الحنطة. الثالث: أنه الحبوب كلها. الرابع: أنه الخبز، قاله مجاهد وابن عطاء وابنزيد. الخامس: أنه الحمص. السادس: أنه السنبلة. {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا }: وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة، فذكروا، أولاً: ما هوجامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب،ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع. وثانياً القثاء، وهو بارد رطب. وثالثاً: الثوم، وهو حار يابس. ورابعاً: العدس،وهو بارد يابس. وخامساً: البصل، وهو حار رطب، وإذا طبخ صار بارداً رطباً، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة.{قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ }: الضمير في قال ظاهر عوده على موسى، ويحتمل عوده على الرب تعالى، ويؤيده {ٱهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّلَكُم مَّا سَأَلْتُمْ }، والهمزة في {أَتَسْتَبْدِلُونَ } للإنكار، والاستبدال: الاعتياض. وقرأ أبيّ: أتبدّلون، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهمإنما ذلك إلى الله تعالى، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدّلين، وكان المعنى: أتسألون تبديل. {ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰبِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ }، والذي: مفعول أتستبدلون، وهو الحاصل، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل، كما قررناه في غير مكان.هو أدنى: صلة للذي، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين، إذ لا طول في الصلة، وأدنى: خبر عن هو،وهو: أفعل التفضيل، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً، فإن وقع غير خبر مثلكونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره: أدنى من ذلك الطعام الواحد، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعدذلك، وهو قوله: {بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ }، وأفرد: {ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ } لأنه أحال به على المأكول الذي هو {مِمَّاتُنبِتُ ٱلارْضُ }، وعلى ما من قوله: {مِمَّا تُنبِتُ }، فيكون قد راعى المبدل منه، إذ لو راعى البدل لقال:أتستبدلون اللاتي هي أدنى، وقد تقدّم القول في أدنى الكسائي: أدنأ بالهمز، ووقع البعض من جمع في التفسير، وهم فينسبة هذه القراءة للكسائي، فقال: وقرأ زهير والكسائي شاذاً: أدنأ، فظن أن هذه قراءة الكسائي، وجعل زهيراً والكسائي شخصين، وإنماهو زهير الكسائي يعرف بذلك، وبالفرقبي، فهو رجل واحد. فأما تفسير: الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل: أحدها: قال الزجاج: تفاضلالأشياء بالقيم، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة، والمنّ والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطراً، واختار هذا الزمخشري،قال: أقرب منزلة وأهون مقداراً، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو أدنى المحل وقريب المنزلة، كما يعبربالعبد عن عكس ذلك فيقال: بعيد المحل بعيد المنزلة، يريدون الرفعة والعلو. انتهى كلامه، وهو من كلام الزجاج. والثاني: أنالمنّ والسلوى هو الذي منّ الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر فيالآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه. الثالث: أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة،والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها. الرابع: أن المنّ والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعبولا مشقة، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة.الخامس: أن المنّ والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحراموالشبهة، وما كان حلاً خالصاً أفضل مما يدخله الحرام والشبهة. السادس: أن المنّ والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاءونفعه. وملخص هذه الأقوال: هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه، أو اللذة، أو الكلفة،أو الحل، أو الجنس؟ أقوال ستة. وأما قراءة زهير فهي من الدناء. وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيلإن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد، وهو الخمسة،وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله: {بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ }. ومن جعل أدنى بمعنى أقرب، لأن الأدون والأدنأ يقابلهماالخير، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد، وحذف من ومعمولها بعد قوله: هو خير، لما ذكرناه في قوله: هو أدنى، منوقوع أفعل التفضيل خبراً وتقديره: منه، أي من: {ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ }. وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية،وكان الخير أفعل التفضيل، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييدبزمان، بخلاف الجملة الفعلية، فإنه كان يتعين الزمان، أو يتجوز في ذلك، إن لم يقصد التعيين، فكان الوصل بما هوحقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح، وكانت صلة ما في قوله: مما تنبت، جملة فعلية، لأن الفعل عندهم يشعربالتجدد والحدوث، والإنبات متجدد دائماً، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة. {ٱهْبِطُواْ مِصْرًا }: في الكلام حذفعلى تقدير أن القائل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ } هو موسى، وتقدير المحذوف، فدعا موسى ربه فأجابه، { قَالَ ٱهْبِطُواْ }

. وتقدّم معنى الهبوط،ويقال: هبط الوادي: حل به، وهبط منه: خرج، وكان القادم على بلد ينصبّ عليه. وقرىء اهبطوا، بضم الباء، وهما لغتان،والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصراً هنا. وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب: بغير تنوين، وبين كذلك في مصحفأبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان. فأما من صرف فإنه يعني مصراً من الأمصار غير معين، واستدلوابالأمر بدخول القرية، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار، وهذاقول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد. وقيل: هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة، بدليل: ادخلوا الأرض المقدسة.وقيل: أراد بقوله: مصراً وإن كان غير معين مصر فرعون، وهو من إطلاق النكرة، ويراد بها المعين، كما تقول: ائتنيبرجل، وأنت تعني به زيداً. قال أشهب، قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون. وأجاز من وقفنا على كلامهمن المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الإسم العلم. والمراد بقوله: { أن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } ، قالوا:وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الإسم لسكون وسطه، قاله الأخفش، أوصرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوحولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الإسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه منأنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفهبخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوزفيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله:

لم تتلفع بفضل مئزرها دعد ولم تسق دعد في العلب

وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا فيغير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً علىهند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه. وقال الحسنبن بحر: المراد بقوله مصراً، البيت المقدس، يعني أن اللفظ، وإن كان نكرة، فالمراد به معين، كما قلنا في قولمن قال: إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة. وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين، فالمراد مصر العلم، وهيدار فرعون. واستبعد بعض الناس قول من قال: إنها مصر فرعون، قال: لأنهم من مصر خرجوا، وأمروا بالهبوط إلى الأرضالمقدسة لقتال الجبارين فأبوا، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم: { ٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ }

، فماتوا جميعاً في التيه، وبقي أبناؤهم، فامتثلوا أمرالله، وهبطوا إلى الشام، وقاتلوا الجبارين، ثم عادوا إلى البيت المقدّس.ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر. انتهى كلامه. فتلخص من قراءة التنوين: أن يكونالمراد مصراً غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصراً غير معين من أمصار الشام، أو معيناً، وهوبيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال. {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ }: هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاببالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعلالأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها،وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة. وقرأإبراهيم النخعي ويحيـى بن وثاب: سألتم: بكسر السين، وهذا من تداخل اللغات، وذلك أن في سأل لغتين: إحداهما: أن تكونالعين همزة فوزنه فعل. والثانية: أن تكون العين واواً تقول: سأل يسأل، فتكون الألف منقلبة عن واو، ويدل على أنهمن الواو، وقولهم: هما يتساولان، كما تقول: يتجاوبان، وحين كسر السين توهم أنه فتحها، فأتى بالعين همزة، قال الشاعر:

إذا جئتهم وسأيلتهم وجدت بهم علة حاضره

الأصل ساءلتهم، والمعروف إبدال الهمزة ياء، فتقول: سايلتهم،فجمع بين العوض وهو الياء، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف فاعل. وقال ابنجني: يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء، كما أبدلت ألفاً في قوله:

ســألت هــذيــل رســول الله فــاحشــة

فانكسرالسين قبل الياء، ثم تنبه للهمز فهمز. والمعنى: ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى. وقيل: ماسألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ }: معنى الضرب هنا:الإلزام والقضاء عليهم، من ضرب الأمير البعث على الجيش، وكقول العرب: ضربة لازم، ويقال: ضرب الحاكم على اليد، وضرب الدهرضرباته، أي ألزم إلزاماته، وقيل: معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب. ومنه قول الفرزدق:

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك بها الكتاب المنزل

وقيل: معناه التصقت بهم، من ضربت الحائط بالطين:ألصقته به. وقيل: معناه جعلت من ضربت الطين خزفاً، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة. أما الذلة فقيل: هي هوانهم بماضرب عليهم من الجزية التي يؤدّونها عن يد وهم صاغرون، وقيل: هي ما ألزموا به من إظهار الزيّ ليعلم أنهميهود، ولا يلتبسوا بالمسلمين، وقيل: فقر النفس وشحها، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود. وأما المسكنة: فالخشوع،فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع، أو الخراج، وهو الجزية، قاله الحسن وقتادة، أو الفاقة والحاجة، قاله أبو العالية،أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية، أو الضعف، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض. واستبعد صاحبالمنتخب قول من فسر الذلة بالجزية، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم. وقيل: هو من المعجزات، لأنهأخبر عنه . فكان كما أخبر، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليهوسلم، قاله الجمهور، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق. والقائلون:

{ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ }

، ومن تابعهم منأبنائهم أقوال ثلاثة. {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ٱللَّهِ }: تقدم تفسيره باء، فعلى من قال: باء: رجع، تكون الباء للحال،أي مصحوبين بغضب، ومن قال: استحق، فالباء صلة نحو: لا يقرأن بالسور: أي استحقوا غضباً، ومن قال: نزل وتمكن أوتساووا، والباء ظرفية، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق، وعلى الثالث بنفس باء. وزعم الأخفش أن الباءفي قوله بغضب للسبب، فعلى هذا تتعلق بباء، ويكون مفعول باء محذوفاً، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم. وباءيستعمل في الخير:

{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً }

{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }

{ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء }

. وفي الشر:

{ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ٱللَّهِ }

{ أن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ }

{ فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ }

. وقد جاءاستعمال المعنيين في الحديث: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي . وقال بعض الناس: باء لا تجيء إلا في الشر. والغضب هناما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة. ويكون باؤوا في معنىيبوؤون، نحو

{ أَزِفَتِ ٱلاْزِفَةُ }

{ ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ }

. {مِنَ ٱللَّهِ } يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤوا إذا كان باء بمعنىرجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكونفي موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن،ويبعد الوجه الأول، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } الإشارة إلى المباءة بالغضب،أو المباءة. والضرب وهو مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم. {كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِٱللَّهِ }: الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى، أو التوراة، أو آيات منها، كالآيات التي فيها صفة رسولالله ، أو فيها الرّجم، أو القرآن، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل، أقوال خمسة، وإضافةالآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى. {وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ }: قتلوا يحيـى وشعيا وزكريا. وروي عن ابن مسعود قتل بنوإسرائيل سبعين نبياً، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار، وقامت سوق قتلهم في آخره. وعلى هذا يتوجه قراءة منقرأ: يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل، وهي قراءة علي. وقرأ الحسن: وتقتلون بالتاء، فيكون ذلك من الالتفات. وروي عنهبالياء كالجماعة، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانانكرتين، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة. وقرأ نافع: بهمز النبيينوالنبىء والأنبياء والنبوءة، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في:

{ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ }

إن أراد وفي

{ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىّ إِلاَّ أَن }

، في الوصل. وقرأ الجمهور بغير همز، وقد تقدّم الكلام عليه في المفردات. {بِغَيْرِٱلْحَقّ }: متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل: ويجوزأن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد، ولم يرد هذا على أن قتلالنبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق، لأن النبي معصوممن أن يأتي أمراً يستحق عليه فيه القتل، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم،أي بغير الحق عندهم، أي لم يدّعوا في قتلهم وجهاً يستحقون به القتل عندهم. وقيل: جاء ذلك على سبيل التأكيدكقوله:

{ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ }

، إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق، ولم يأت نبي قطبما يوجب قتله، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته. قال ابن عباس وغيره: لم يقتل نبيقط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر. قيل: وعرّف الحق هنا لأنه أشير بهإلى المعهود في قوله عليه السلام: لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث . وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم،أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره. {ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }، ذلك: ردعلى الأول وتكرير له، فأشير به لما أشير بذلك الأول، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين، فلا يكونتكريراً ولا توكيداً، ومعناه: أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم، فجسرهم هذاعلى ذلك، إذا المعاصي يريد الكفر.

{ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }

{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ }

، وقولهم {قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }. وقد تقدّم تفسير العصيان والاعتداء لغة، وقد فسر الاعتداءهنا أنه تجاوزهم ما حدّ الله لهم من الحق إلى الباطل. وقيل: التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء. وقيل: العصيان بنقضالعهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء. وقيل: الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة وقيل: هو الاعتداء في السبت، قال تعالى:

{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى ٱلسَّبْتِ }

. وما: في قوله{بِمَا عَصَواْ } مصدرية، أي ذلك بعصيانهم، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي، وليدل على أنالاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائماً. ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وبين علةذلك، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك، وهو كفرهم بآيات الله.. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء،ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي، وما يتعدى من الظلم. قال معنى هذا صاحب المنتخب، ويظهر أن قوله ذلكبأنهم كانوا يكفرون ويقتلون، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وأن الإشارة بقوله {ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ } إشارة إلى الكفروالقتل، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر، ويعود الاعتداء إلى القتل، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين. كما ذكرأولاً شيئين وهما: الضرب والمباءة، وقابلهما بشيئين وهما: الكفر والقتل، فجاء هذا لفاً ونشراً في المؤضعين، وذلك من محاسن الكلاموجودة تركيبه، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحملعلى التأسيس. وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولاً، منها: أنهم أمروا بدخول القريةالتي بها يتحصنون، والأكل من ثمراتها ما يشتهون، ثم كلفوا النزر من العمل والقول، وهو دخول بابها ساجدين، ونطقهم بلفظةواحدة تائبين، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة، فخالفوا في الأمرين فعلاً وقولاً، جرياً على عادتهم فيعدم الامتثال، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال. ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤالالخير لهم، وذلك بأن دعا الله لهم بالسقيا، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم، من قرع الصفا بالعصا، عيوناًيجري بها ما يكفيهم من الماء، معيناً على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط، حتىلا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق، وأمروا بالأكل منه والشرب، ثم نهوا عن الفساد، إذهو سبب لقطع الرزق. ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم، فلجوا في طلب ما كان مألوفهمإلى نبيهم فقالوا: {ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ }، وذلك جري على عادته معهم، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائداً عليهمبصلاح دينهم ودنياهم، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيهالعناء الشاق، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذيةجالبة أخلاطاً رديئة، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر، بخلاف ما رزقهم الله، إذ هو شيء واحد جيد، ينشأ عنهصحة البدن وجودة الإدراك. كان الخليل بن أحمد، رحمه الله، يستف دقيق الشعير، ويشرب عليه الماء العذب، وكان ذهنهأشرق أذهان أهل زمانه، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى. ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدنما سألوه، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومباءتهم بغضبه، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآياتالتي هي سبب الإيمان، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان، وعن قتلهم من كان سبباً لهدايتهم، وهمالأنبياء، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى، وأن الذي جرّ الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذانكانا سبقاً منهم قبل تعاطي الكفر والقتل.

إن الأمور صغيرها مما يهيج له العظيم

وقال:

والشــر تحقــره وقــد ينمــى

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ } * { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } * { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }[عدل]

هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: تاب، أو عن ياء والمضارعيهيد، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى:

{ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ }

. وسيأتي الكلام على لفظه اليهود حيث انتهينا إليها فيالقرآن، إن شاء الله تعالى. والنصارى: جمع نصران ونصرانه، مثل ندمان وندمانة. قال سيبويه وأنشد:

وكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما سجدت نصرانة لم تحنف

وأنشد الطبري:

يظل إذا دار العشي محنفا ويضحى لديه وهو نصران شامس

منع نصرانا الصرف ضرورة، وهو مصروف لأن مؤنثه على نصرانه. قال سيبويه:إلا أنه لا يستعمل في الكلام إلا بياء النسب، فيكون: كلحيان ولحياني وكأحمري. وقال الخليل: واحد النصارى نصرى، كمهرى ومهاري.قيل: وهو منسوب إلى نصرة، قرية نزل بها عيسى. وقال قتادة: نسبوا إلى ناصرة، وهي قرية نزلوها. فعلى هذا يكونمن تغييرات النسب. والصابئين: الصائبون، قيل: الخارجون من دين مشهور إلى غيره، من صبوء السن والنجم، يقال: صبأت النجوم: طلعت،وصبأت ثنية الغلام: خرجت، وصبأت على القوم بمعنى: طرأت، قال:

إذا صبأت هوادي الخيل عنا حسبت بنحرها شرق البعير

ومن قرأ بغير همز فسنتكلم على قراءته. قال الحسن والسدي: هم بين اليهود والمجوس. وقالقتادة: والكلبي: هم بين اليهود والنصارى، يحلقون أوساط رؤوسهم ويجبون مذاكيرهم. وقال الخليل: هم أشباه النصارى، قبلتهم مهب الجنوب، يقرونبنوح، ويقرؤون الزبور، ويعبدون الملائكة. وقال عبد العزيز بن يحيـى: لا عن منهم ولا أثر. وقال المغربي، عن الصابي صاحبالرسائل: هم قريب من المعتزلة، يقولون بتدبير الكواكب. وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم، ليسوا بيهود ولا نصارى. قالابن أبي نجيح: قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. وقال ابن زيد: قوم يقولون لا إلٰه إلاالله، وليس لهم عمل ولا كتاب، كانوا بالجزيرة والموصل. وروي عن الحسن وقتادة أيضاً أنهم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون الخمسللقبلة، ويقرؤون الزبور، رآهم زياد بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة. وقال ابن عباس:هم قوم من اليهود والنصارى، لا تحل مناكحتهم ولا تؤكل ذبائحهم. وقال أبو العالية: قوم من أهل الكتاب، ذبائحهم كذبائحأهل الكتاب، يقرؤون الزبر، ويخالفونهم في بقية أفعالهم. وقال الحسن والحكم: قوم كالمجوس. وقيل: قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم، وأنهافعالة. وأفتى أبو سعيد الأصطخري القادر بالله حين سأله عنهم بكفرهم. وقيل: قوم يعبدون الكواكب، ثم لهم قولان: أحدهما: أنخالق العالم هو الله، إلا أنه أمر بتعظيم الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والتعظيم والدعاء. الثاني: أنه تعالى خلق الأفلاك والكواكب،ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هيالآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله، وهذا المذهب هو المنسوب للذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم. الأجر:مصدر أجر بأجر، ويطلق على المأجور به، وهو الثواب. والأجور: جبر كسر معوج، والأجار: السطح، قال الشاعر:

تبدوا هواديها من الغبار كالجيش الصف على الإجار

الرفع: معروف، وهو أعلى الشيء، والفعل منه رفع يرفع،الطور: اسم لكل جبل، قال مجاهد وعكرمة وقتادة. أو الجبل المنبت دون غير المنبت، قاله ابن عباس والضحاك، أو الجبلالذي ناجى الله عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقال العجاج:

دانى جناحيه من الطور فر تقضي البازي إذا البازي كسر

وقال آخر:

وإن تر سلمى الجن يستأنسوا بها وإن ير سلمى صاحب الطور ينزل

وأصله الناحية، ومنه طوار الدار. وقال مجاهد: هو جنس الجبل بالسريانية. القوة: الشدّة، وهيمصدر قوي يقوى، وطيء تقول: قوي، يفتحون العين والتاء مفتوحة فتنقلب ألفاً، يقولون في بقي: بقى، وفي زهي: زها، وقديوجد ذلك في لغة غيرهم. قال علقمة بن عبدة التميمي:

زها الشوق حتى ظل إنسان عينه يفيض بمغمور من الدمع متأف

وهذه المادة قليلة، وهي أن تكون العين واللام واوين. التولي: الإعراض بعد الإقبال. لولا: للتحضيضبمنزلة هلا، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء،وبفعل محذوف عند الكسائي، وبالابتداء عند البصريين، والخبر محذوف عند جمهورهم، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في (منهج السالك) منتأليفنا، وليست جملة الجواب الخبر، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين،ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول: لولاني ولولاك ولولاه، إلى آخرها، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه، وفيموضع رفع عند الأخفش، استعير ضمير الجر للرفع، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم: ما أنا كانت، ولا أنتكانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية، وجعل من ذلك

{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ }

، فبعيد قوله عن الصواب. السبت: اسم ليوم معلوم، وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع، أو من السبات، وهوالدعة والراحة، وقال أبو الفرج بن الجوزي: هذا خطأ لا يعرف في كلام العرب سبت بمعنى استراح، والسبت: الحلق والسير،قال الشاعر:

بمقوّرة الألياط أمّا نهارها فسبت وأمّا ليلها فذميل

والسبت: النعل، لأنه يقطعكالطحن والرعي. قال ابن جريج: سمي يوم السبت لأنه قطعة زمان، قال لبيد:

وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللحوح خلود

القرد: معروف، ويجمع فعل الاسم قياساً على فعول نحو: قرد وقرود،وجسم وجسوم، وقليلاً على فعلة نحو: قرد وقردة، وحسل وحسلة. الخسىء: الصغار والطرد، والفعل: خسأ، ويكون لازماً ومتعدّياً، يقال: خسأالكلب خسوا: ذل وبعد، وخسأته: طردته وأبعدته، خسأ: كرجع رجوعاً، ورجعته رجعاً. النكال: العبرة، وأصله المنع، والنكل: القيد. وقال مقاتل:النكال: العقوبة اليد: عضو معروف أصله يدي، وقد صرّح بهذا الأصل، وقد أبدلوا ياءه همزة قالوا: قطع الله أديه: يريدونيديه، وجمعت على أفعل، قالوا: أيد، أصله: أيدي، وقد استعملت للنعمة والإحسان. وأما الأيادي فهو في الحقيقة جمع جمع، واستعمالهفي النعمة أكثر من استعماله للجارحة، كما أن استعمال الأيدي في الجارحة أكثر منه في النعمة. خلف: ظرف مكان مبهم،وهو متوسط التصرف، ويكون أيضاً وصفاً، يقال رجل خلف: بمعنى رديء، وسكت ألفاً ونطق خلفاً: أي نطقاً رديئاً. موعظة: مفعلة،من الوعظ، والوعظ: الإذكار بالخير بما يرق له القلب، وكسر عين الكلمة فيما كان على هذا الوزن وعلى مفعل هوالقياس، وقد شذ: موءلة وكلم، ذكرها النحويون جاءت مفتوحة العين. قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ } الآية.نزلت في أصحاب سلمان، وذلك أنه صحب عباداً من النصارى، فقال له أحدهم: إن زمان نبي قد أظل، فإن لحقتهفآمن به. ورأى منهم عبادة عظيمة، فلما جاء النبي ، ذكر له خبرهم وسأله عنهم، فنزلت هذهالآية، حكى هذه القصة مطوّلة ابن إسحاق والطبري والبيهقي. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في أوّل الإسلام، وقدر اللهبها أن من آمن بمحمد ، ومن بقي على يهوديته ونصرانيته وصابئيته، وهو مؤمن بالله واليوم الآخر،فله أجره، ثم نسخ ما قدر من ذلك بقوله: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }

. وردّت الشرائعكلها إلى شريعة محمد . وقال غير ابن عباس: ليست بمنسوخة، وهي فيمن ثبت على إيمانه بالنبي. وروى الواحدي، بإسناد متصل إلى مجاهد، قال: لما قص سلمان على النبي قصة أصحابه، وقال له هم في النار، قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، فنزلت إلى {يَحْزَنُونَ }، قال: فكأنما كشف عنيجبل. ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما ذكر الكفرة من أهل الكتاب، وما حل بهم من العقوبة، أخبربما للمؤمنين من الأجر العظيم، دالاً على أنه يجزي كلاً بفعله، والذين آمنوا منافقوا هذه الأمّة، أي آمنوا ظاهراً، ولهذاقرنهم بمن ذكر بعدهم، ثم بين حكم من آمن ظاهراً وباطناً، قاله سفيان الثوري أو المؤمنون بالرسول. ومن آمن: معناهمن داوم على إيمانه، وفي سائر الفرق: من دخل فيه، أو الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول: كزيد بن عمرو بننفيل، وقيس بن ساعدة، وورقة بن نوفل، ومن لحقه: كأبي ذر، وسلمان، وبحيرا. ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون المبعث، فمنهممن أدرك وتابع، ومنهم من لم يدركه، والذين هادوا كذلك، ممن لم يلحق إلا من كفر بعيسى، على نبينا وعليهالصلاة والسلام، والنصارى كذلك، والصابئين كذلك، قاله السدّي أو أصحاب سلمان، وقد سبق حديثهم، أو المؤمنون بعيسى قبل أن يبعثالرسول، قاله ابن عباس، أو المؤمنون بموسى، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى فآمنوا به وعملوا بشريعته، إلى أن جاءمحمد، قاله السدي عن أشياخه، أو مؤمنوا الأمم الخالية، أو المؤمنون بالله وملائكه وكتبه ورسله من سائر الأمم. فهذه ثمانيةأقوال في المعنى بالذين آمنوا والذين هادوا وهم اليهود. وقرأ الجمهور: هادوا بضم الدال. وقرأ أبو السماك العدوي: بفتحهامن المهاداة، قيل: أي مال بعضهم إلى بعض، فالقراءة الأولى مادتها هاء وواو ودال، أو هاء وياء ودال، والقراءة الثانيةمادتها هاء ودال وياء، ويكون فاعل من الهداية، وجاء فيه فاعل موافقة فعل، كأنه قيل: والذين هدوا، أي هدوا أنفسهمنحو: جاوزت الشيء بمعنى جزته. {وَٱلنَّصَـٰرَىٰ }: الألف للتأنيث، ولذلك منع الصرف في قوله: { ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ } ، وهذاالبناء، أعني فعالى، جاء مقصوراً جمعاً، وجاء ممدوداً مفرداً، وألفه للتأنيث أيضاً نحو: بركاء. وقرأ الجمهور: والصابئين مهموزاً، وكذا والصابئون،وتقدم معنى صبأ المهموز. وقرأ نافع: بغير همز، فيحتمل وجهين أظهرهما أن يكون من صبأ: بمعنى مال، ومنه قول الشاعر:

إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي

والوجه الآخر يكون أصله الهمز، فسهل بقلبالهمز ألفاً في الفعل وياء في الاسم، كما قال الشاعر:

إن السباع لتهدي في مرابضها والناس ليس بهاد شرهم أبداً

وقال الآخر:

وكنت أذل من وتد بقاع يشجج رأسه بالفهرواج

وقال آخر:

فــارعى فــزارة لا هنــاك المرتــع

إلا أن قلب الهمزة ألفاً يحفظ ولا يقاس عليه. وأما قلبالهمزة ياء فبابه الشعر، فلذلك كان الوجه الأول أظهر. وذكر بعض المفسرين مسائل من أحكام اليهود والنصارى. {وَٱلصَّـٰبِئِينَ }: لايدل عليها لفظ القرآن هنا، فلم يذكرها، وموضعها كتب الفقه.. {مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ }، من: مبتدأة، ويحتملأن تكون شرطية، فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة، فالخبر قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ }، ودخلت الفاء في الخبر، لأن المبتدأالموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر، وقد تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله:{مَنْ ءامَنَ } في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ، وإن الرابط محذوف تقديره: من آمن منهم، ولا يتمما قالوه إلا على تغاير الإيمانين، أعني: الذي هو صلة الذين، والذي هو صلة من، إما في التعليق، أو فيالزمان، أو في الإنشاء والاستدامة. وأما إذا لم يتغايرا، فلا يتم ذلك، لأنه يصير المعنى: إن الذين آمنوا: من آمنمنهم، ومن كانوا مؤمنين، لايقال: من آمن منهم إلا على التغاير بين الإيمانين. وذهب بعض الناس إلى أن ذلك علىالحذف، وأن التقدير: أن الذين آمنوا لهم أجرهم عند ربهم، والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن منهم، أي من الأصنافالثلاثة، فلهم أجرهم، وذلك لما لم يصلح أن يكون عنده من آمن خبراً عن الذين آمنوا، ومن بعدهم. ومن أعربمن مبتدأ، فإنما جعلها شرطية. وقد ذكرنا جواز كونها موصولة، وأعربوا أيضاً من بدلاً، فتكون منصوبة موصولة. قالوا: وهي بدلمن اسم إن وما بعده، ولا يتم ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، إذا كانت مبتدأة. والذينختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن، فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غيرالأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء في الخبر، لأن الموصول ضمن معنى الشرط، ولم يعتدبدخول إن على الموصول، وذلك جائز في كلام العرب، ولا مبالاة بمن خالف في ذلك. ومن زعم أن من آمنمعطوف على ما قبله، وحذف منه حرف العطف، التقدير: ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب، ولا حاجة تدعو إلىذلك، وقد اندرج في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالرسل، إذ البعث لا يعرف إلا من جهة الرسل. {وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً}: هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض، أو التصديق بمحمد أقوال. الثاني يروىعن ابن عباس، وقد حمل الصلة أو فعل الشرط والمعطوف علىلفظ من، فأفرد الضمير في آمن وعمل ثم قال: {فَلَهُمْأَجْرُهُمْ } إلى آخر الآية، فجمع حملاً على المعنى. وهذان الحملان لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ، وأما على إعرابمن بدلاً، فليس فيه إلا حمل على اللفظ فقط. وللحمل على اللفظ والمعنى قيود ذكرت في النحو. قال أبو محمدبن عطية: وإذا جرى ما بعد على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى، وإذا جرى ما بعدها علىالمعنى، لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ، لأن الإلباس يدخل في الكلام. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، بليجوز إذا راعيت المعنى أن تراعي اللفظ بعد ذلك. لكنّ الكوفيين يشترطون الفصل في الجمع بين هذه الحملين فيقولون: منيقومون في غير شيء، وينظر في أمورنا قومك والبصريون لا يشترطون ذلك، وهذا على ما قرر في علم العربية:

تروى الأحاديث عن كل مسامحة وإنما لمعانيها معانيها

وأجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم في موضع الخبر.وعند الأخفش والكوفيين: إن أجرهم مرفوع بالجار والمجرور. {عِندَ رَبّهِمْ }: ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل في لهم،ويحتمل أن ينتصب على الحال، والعامل فيه محذوف تقديره: كائناً عند ربهم. وقرأ الجمهور: {وَلاَ خَوْفٌ }، بالرفع والتنوين. وقرأالحسن: ولا خوف، من غير تنوين. وقد تقدم الكلام على قوله:

{ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

في آخرقصة آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأغنى عن إعادته هنا. ومناسبة ختم هذه الآية بها ظاهره، لأن مناستقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى، ولا خوف على ما يستقبل. قال القشيري: اختلاف الطرق معاتحاذ الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدق الله تعالى في إيمانه، وآمن بما أخبر به من حقه وصفاته،فاختلاف وقوع الاسم غير قادح في استحقاق الرضوان. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ }: هذا هو الإنعام العاشر، لأنه إنما أخذميثاقهم لمصلحتهم، وتقدّم الكلام في لفظة الميثاق في قوله تعالى:

{ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ }

. والميثاق: ماأودعه الله تعالى العقول من الدلائل على وجوده وقدرته وحكمته وصدق أنبيائه ورسله، أو المأخوذ على ذرية آدم في قوله:

{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ }

، أو إلزام الناس متابعة الأنبياء، أو الإيمان بمحمد ، أو العهد منهمليعملنّ بما في التوراة، فلما جاء موسى قرؤا ما فيها من التثقيل فامتنعوا من أخذها، أو قوله:

{ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }

، أقوال ستة. قال القفال: قال ميثاقكم ولم يقل مواثيقكم، لأنه أراد ميثاق كل واحد منكم، كقوله:

{ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً }

، أو لأن ما أخذه على واحد منهم، أخذه على غيره، فكان ميثاقاً واحداً، ولو جمع لاحتمل التغاير. انتهىكلامه ملخصاً. {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ }: سبب رفعه امتناعهم من دخول الأرض المقدّسة، أو من السجود، أو من أخذالتوراة والتزمها. أقوال ثلاثة. روي أن موسى لما جاء إلى بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم:خذوها والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا الله بها، كما كلمك، فصعقوا ثم أحيوا. فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا. فأمرالله تعالى الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، وأخرجالله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم ناراً بين أيديهم، فاحتاط بهم غضبه، فقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها،وإلا سقط عليكم الجبل، وغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا توبة لله، وأخذوا التوراة بالميثاق، وسجدوا على شق لأنهم كانوا يرقبونالجبل خوفاً. فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله ورحم بها، فأمروا سجودهم على شق واحد.وذكر الثعلبي أن ارتفاع الجبل فوق رؤوسهم كان مقدار قامة الرجل، ولم تدل الآية على هذا السجود الذي ذكر فيهذه القصة. والواو في قوله: ورفعنا، واو العطف: على تفسير ابن عباس، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً، فلما نقضوه بالامتناعمن قبول الكتاب رفع عليهم الطور. وأما على تفسير أبي مسلم: فإنها واو الحال، أي إن أخذ الميثاق كان فيحال رفع الطور فوقهم، نحو قوله تعالى:

{ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ }

، أي وقد كان في معزل.{خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم }: هو على إضمار القول، أي: وقلنا لكم خذوا ما آتيناكم. وقال بعض الكوفيين: لا يحتاج إلىإضمار قول، لأن أخذ الميثاق هو قول، والمعنى: وإذا أخذنا ميثاقكم بأن خذوا ما آتيناكم، وما موصول، والعائد عليه محذوف،أي: ما آتيناكموه، ويعني به الكتاب. يدل على ذلك قوله: {وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ }، وقرىء: ما آتيتكم، وهو شبه التفات،لأنه خرج من ضمير المعظم نفسه إلى غيره. ومعنى قوله: {بِقُوَّةٍ } بجدّ واجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدّي، أوبعمل، قاله مجاهد؛ أو بصدق وحق، قاله ابن زيد؛ أو بقبول، قاله ابن بحر؛ أو بطاعة، قاله أبو العالية والربيع؛أو بنية وإخلاص، أو بكثرة درس ودراية؛ أو بجدّ وعزيمة ورغبة وعمل؛ أو بقدرة. والقوة: القدرة والاستطاعة. وهذه الأقوال كلهامتقاربة المعنى، والباء للحال أو الاستعانة. {وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ }. قرأ الجمهور: به أمراً من ذكر، وقرأ أبيّ: واذكرواما فيه: أمراً من اذكر، وأصله: وإذتكروا، ثم أبدل من التاء دال، ثم أدغم الذال في الدال، إذ أكثر الإدغاميستحيل فيه الأول إلى الثاني، ويجوز في هذا أن يستحيل الثاني إلى الأول، ويدغم فيه الأول فيقال: اذكر، ويجوز الإظهارفتقول: إذ ذكر. وقرأ ابن مسعود: تذكروا، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر الذي هو خذوا. فعلى القراءتين قيل:هذا يكون أمراً بالإذكار، وعلى هذه القراءة يكون الذكر مترتباً على حصول الأخذ بقوة، أي أن تأخذوا بقوّة تذكروا مافيه. وذكر الزمخشري أنه قرىء: وتذكروا أمراً من التذكر، ولا يبعد عندي أن تكون هذه القراءة هي قراءة ابن مسعود،ووهم الذي نقلناه من كتابه تذكروا في إسقاط الواو، والذي فيه هو ما تضمنه من الثواب، قاله ابن عباس؛ أواحفظوا ما فيه ولا تنسوه وادرسوه، قاله الزجاج؛ أو ما فيه من أمر الله ونهيه وصفة محمد صلى الله عليهوسلم، أو اتعظوا به لتنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى. والذكر: قد يكون اللسان، وقد يكون بالقلب علىما سبق، وقد يكون بهما. فباللسان معناه: ادرسوا، وبالقلب معناه: تدبروا، وبهما معناه: ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر:ثمرته، وهو العمل، فمعناه: اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع. والضمير في فيه يعود على ما. وقال في المنتخب: لايحمل على نفس الذكر، لأن الذكر الذي هو ضدّ النسيان من فعل الله تعالى، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى.ادرسوا ألفاظه وتدبروا معانيه. أو أريد بالذكر: ثمرته، وهو العمل، فمعناه: اعملوا بما فيه من الأحكام والشرائع. والضمير في فيهيعود على ما. وقال في المنتخب: لا يحمل على نفس الذكر، لأن الذكر الذي هو ضدّ النسيان من فعل اللهتعالى، فكيف يجوز الأمر به؟ انتهى. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: أي رجاء أن يحصل لكم التقوى بذكر ما فيه. وقيل:معناه لعلكم تنزعون عما أنتم فيه. والذي يفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وفعلوا مقتضاه، يدل على ذلك: {ثُمَّتَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذٰلِكَ }. فهذا يدل على القبول والالتزام لما أمروا به. وفي بعض القصص أنهم قالوا، لما زالالجبل: يا موسى، سمعنا وأطعنا، ولولا الجبل ما أطعناك. وفي بعض القصص: فآمنوا كرهاً، وظاهر هذا الإلجاء. والمختار عند أهلالعلم أن الله تعالى خلق لهم الإيمان والطاعة في قلوبهم وقت السجود، حتى كان إيمانهم طوعاً لا كرهاً. {ثُمَّتَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذٰلِكَ }: أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه، وأصل التولي: أن يكون بالجسم، ثم استعمل فيالإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات، اتساعاً ومجازاً. ودخول ثم مشعر بالمهلة، ومن تشعر بابتداء الغاية. لكن بين الجملتين كلام محذوف،التقدير، والله أعلم: فأخذتم ما آتيناكم، وذكرتم ما فيه، وعملتم بمقتضاه. فلا بدّ من ارتكاب مجاز في مدلول من، وأنهلسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء. وقد علم أنهم بعدما قبلواالتوراة، تولوا عنها بأمور، فحرّفوها، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالله، وعصوا أمره. ومن ذلك ما اختص به بعضهم،وما عمله أوائلهم، وما عمله أواخرهم. ولم يزالوا في التيه، مع مشاهدتهم الأعاجيب، يخالفون موسى، ويظاهرون بالمعاصي في سكرهم، حتىخسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها، ثم فعل ساحروهمم مالا خفاء به، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله، والقرآن، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوابه عن التوراة. فالجملة معروفة، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم. فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى اللهعليه وسلم، وحالهم في كتابه ما ذكر. والإشارة بذلك في قوله: {مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } إلى قبول ما أوتوه، أوإلى أخذ الميثاق والوفاء به، ورفع الجبل، أو خروج موسى من بينهم، أو الإيمان، أقوال. {فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْوَرَحْمَتُهُ }، الفضل: الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله أبو العالية. أو الفضل: قبول التوبة، والرحمة: العفو عن الزلة، أو الفضل: التوفيقللتوبة، والرحمة: القبول. أو الفضل والرحمة، فأخبر الله عنهم. أو الفضل والرحمة: بعثة رسول الله وإدراكهملمدته. وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب، إذ صار هذا عائداً على الحاضرين. والأقوال قبله تدل على أن المخاطببه من سلف، لأنه جاء في سياق قصتهم. وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود،وما يشبهه مما يليق بالموضع. وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع الخبر. والتقدير: {فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِعَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } موجودان، {لَكُنتُم }: جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام، ولم يجىء في القرآن مثبتاًإلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى:

{ وَهَمَّ بِهَا }

، جواب: لولا قدم فإنه لا لام معه. وقدجاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر، قال الشاعر:

لولا الحياء ولولا الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر:

لولا الأمير ولولا حق طاعته لقد شربت دماً أحلى من العسل

وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيدقد أكرمتك. {مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ }: تقدّم أن الخسران: هو النقصان، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى. ويحتمل أن يكون كانهنا بمعنى: صار. قال القشيري: أخذ سبحانه ميثاق المكلفين، ولكنّ قوماً أجابوه طوعاً، لأنه تعرّف إليهم، فوحدوه، وقوماً أجابوه كرهاً،لأنه ستر عليهم، فجحدوه. ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور، ولكن عدموا نور البصيرة، فلم ينفعهمعيان البصر. قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ }، أي رجعتم إلى العصيان، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحكمه بإفضاله،لعاجلكم بالعقوبة، ولحلّ بكم عظيم المصيبة. وقال بعض أهل اللطائف: كانت نفوس بني إسرائيل، من ظلمات عصيانها، تخبط فيعشواء حالكة الجلباب، وتخطر، من غلوائها وعلوّها، في حلتي كبر وإعجاب. فلما أمروا بأخذ التوراة، ورأوا ما فيها من أثقالالتكاليف، ثارت نفوسهم الآبية، فرفع الله عليهم الجبل، فوجدوه أثقل مما كلفوه، فهان عليهم حمل التوراة معما فيها من التكليفوالنصب، إذ ذاك أهون من الهلاك، قال الشاعر:

إلى الله يدعى بالبراهين من أبى فإن لم يجب نادته بيض الصوارم

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ } اللام في لقد: هي لام توكيد، وتسمى: لام الابتداءفي نحو: لزيد قائم. ومن أحكامها: أن ما كان في حيزها لا يتقدّم عليها، إلا إذا دخلت على خبر إنعلى ما قرر في النحو. وقد صنف بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن تكون جواباً لقسممحذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد، لأن مثل هذه القصة يمكن أن يبهتوا في إنكارها، وذلك لما نال في عقبىأولئك المعتدين من مسخهم قردة، فاحتيج في ذلك إلى توكيد، وأنهم علموا ذلك حقيقة. وعلم هنا كعرف، فلذلك تعدّت إلىواحد. وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدّره بعضهم: علمتم أحكام الذين، وقدّره بعضهم: اعتداء الذين. والاعتداء كان على مانقل من أن موسى أمره الله بصوم يوم الجمعة، وعرّفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر ذلك لبني إسرائيل،وأمرهم بالتشرّع فيه، فأبوه وتعدّوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى: أن دعهم وما اختاروه. وامتحنهم فيه، بأن أمرهمبترك العمل، وحرّم عليهم فيه صيد الحيتان. فكانت تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن،وقيل: حتى تخرج خراطيمها من الماء، وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان، فلم يظهرواللسبت الآخر. فبقوا على ذلك زماناً حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت، فربط حوتاً بخزمة، وضرب له وتداً بالساحل.فلما ذهب السبت، جاء فأخذه فسمع قوم بفعله، فصنعوا مثل ما صنع، وقيل: بل حفر رجل في غير السبت حفيراًيخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت، خرج الحوت وحصل في الحفيرة، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفيرةوبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه. ففعل قوم مثل فعله. وكثر ذلك، حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق.فكان هذا من أعظم الاعتداء. وقد رويت زيادات في كيفية الاعتداء، الله أعلم بصحة ذلك. والذي يصح في ذلك هوما ذكره الله في كتابه، وما صح عن نبيه. منكم: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف تقديره: كاثنين منكم، ومن:للتبعيض. في السبت: متعلق باعتدوا، إما على إضمار يوم، أو حكم. والحامل على الاعتداء قيل: الشيطان وسوس لهم وقال: إنمانهيتم عن أخذها يوم السبت، ولم تنهوا عن حبسها، فأطاعوه، ففعلوا ذلك. وقيل: لما فعل ذلك بعضهم، ولم يعجل لهعقوبة، وتشبه به أناس منهم، وفعلوا لفعله، ظنوا أن السبت قد أبيح لهم، فتمالأ على ذلك جمع كبير، فأصابهم ماأصابهم. وقيل: أقدموا على ذلك متأولين، لأنه أمرهم بترك العمل يوم السبت، وقالوا: إنما نهانا الله عن أسباب الاكتساب التيتشغلنا عن العبادة، ولم ينهنا عن العمل اليسير. وقيل: فعل ذلك أوباشهم تحرياً وعصياناً، فعم الله الجميع بالعذاب. {فَقُلْنَالَهُمْ كُونُواْ }: أمر من الكون وليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم، لأنهم ليسواقادرين على قلب أعيانهم قردة، بل المراد منه سرعة الكون على هذا الوصف، كقوله تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، ومجازه: أنه لما أراد منهم ذلك صاروا كذلك. وظاهر القرآن مسخهم قردة. وقيل: لميمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كما قال تعالى: { كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } ، قاله مجاهد. وقيل: مسختقلوبهم حتى صارت كقلوب القردة، لا تقبل وعظاً ولا تعي زجراً، وهو محكي عن مجاهد أيضاً. والقول الأول هو قولالجمهور، ويجوز أن يبقي الله لهم فهم الإنسانية بعد صيرورتهم قردة: وروي في بعض قصصهم: أن الواحد منهم كان يأتيهالشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول له برأسه: بلى، وتسيل دموعه على خده، ولم يعرض فيهذا المسخ شيء منهم خنازير. وروي عن قتادة: أن الشباب صاروا قردة، واليوخ صاروا خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا،وهلك سائرهم. وروي في قصصهم: أن الله تعالى مسخ العاصين قردة بالليل، فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا أحداًمن الهالكين، فقالوا: إن للناس لشأناً، ففتحوا عليهم الأبواب، كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة. وقيل: إنالناجين قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار تبرياً منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار، فإذا همقردة يثب بعضهم على بعض. قال قتادة: وصاروا قردة تعاوي، لها أذناب، بعدما كانوا رجالاً ونساء. {قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ }:كلاهما خبر كان، والمعنى: أنهم يكونون قد جمعوا بين القردة والخسوء. ويجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة، ويجوز أن يكونحالاً من اسم كونوا. ومعنى خاسئين: مبعدين. وقال أبو روق: خاسرين، كأنه فسر باللازم، لأن من أبعده الله فقد خسر.وجمهور المفسرين: على أن الذين مسخهم الله لم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم ينسلوا، بل ماتوا جميعاً، وأنهم لم يعيشوا أكثرمن ثلاثة أيام. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وكان هذا في زمن داود، على نبيناوعليه أفضل الصلاة والسلام، وكانوا في قرية يقال لها: أيلة، وقيل: مدين. وروى مسلم، عن عبد الله بن مسعود، أنرسول الله قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ فقال: «الله لم يهلك قوماًأو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً، وأن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». واختار القاضي أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا،وأن القردة الموجودين الآن من نسلهم. {فَجَعَلْنَاهَا }: الضمير عائد على القرية أو على الأمة، أو على الحالة، أو علىالمسخة، أو على الحيتان، أو على العقوبة. والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من: كونوا، أي فجعلنا كينونتهمقردة خاسئين. {نَكَـٰلاً }: أي عبرة، وهو مفعول ثانٍ لجعل. {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا }: أي من القرى،والضمير للقرية، قاله عكرمة عن ابن عباس، أو لمن بعدهم من الأمم. وما خلفها: أي الذين كانوا معهم باقين، رواهالضحاك عن ابن عباس. أو ما بين يديها: أي ما دونها، وما خلفها يعني: لمن يأتي بعدهم من الأمم. والضميرللأمة، قاله السدي. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها للحيتان التي أاصبوا، قاله قتادة. أو لما بينيديها: ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها، قاله مجاهد. أو لما بين يديها ممن شاهدها، وما خلفها ممن لميشاهدها، قاله قطرب. أو ما بين يديها من ذنوب القوم، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب. أو لمابين يديها: من حضرها من الناجين، وما خلفها ممن يجيء بعدها. أو لما بين يديها من عقوبة الآخرة، وما خلفهافي دنياهم، فيذكرون بها إلى قيام الساعة. أو لما بين يديها: لما حولها من القرى، وما خلفها: وما يحدث بعدهامن القرى التي لم تكن، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين، فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. أوفي الآية تقديم وتأخير، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب، نكالاً وجزاء، لا لما بينيديها، أي لما تقدّم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت. فهذه أحد عشر قولاً. قال بعضهم: والأقرب للصواب قول من قال:ما بين يديها: من يأتي من الأمم بعدها. وما خلفها: من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة، ومن قالالضمير عائد على القرية، فالمراد أهلها. {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ }: خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير، قال تعالى: { فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا }. وقيل: أراد نكالاً لبني إسرائيل، وموعظة للمتقين من أمة محمد. قيل: المتقون أمة محمد ، قاله السدي عن أشياخه. وقيل: اللفظ عام فيكل متق من كل أمة، قاله ابن عباس. وقيل: الذين نهوا ونجوا. وقد تضمن تهذه الآيات الكريمة التسوية بينمؤمني اليهود والنصارى والصابئين، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم، وأن ذلك عند من يراهم، وأن إيمانهم في الدنيا أنتجلهم الأمن في الآخرة، فلا خوف مما يستقبل، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربهفقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة. وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمنأطاع. وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب: إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل، والأخرى تتضمن ما عوقبوا بهمن تتق الجبل فوقهم، وأخذ الميثاق، ثم توليهم بعد ذلك. فأعلمت هذه الآية بحسنى عاقبة من آمن، حتى من هذاالجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين، ترغيباً في الإيمان، وتيسيراً للدخول في أشرف الأديان، وتبييناً أن الإسلام يجبّ ما قبله، وأنطاعة الله تجلب إحسانه وفضله. وتضمن قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ } التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم، وأنه كان يجبالوفاء به، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجوا، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق،وأنه لولا أن تذاركهم بفضله ورحمته لخسروا. ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين، ومآل اعتداءالمعتدين، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية، فبيناهو يفرح بجعله من ذوي الألباب، ويمرج ملتذاً بدلال الخطاب، نسخ اسمه من ديوان الكمال، ونسخ شكله إلى أقبح مثال،هذا مع أعدله في الآخرة من النكال، والعقوبات على الجرائم جارية على المقدار، ناشئة عن إرادة الملك القهار، ليست مماتدرك بالقياس، فيخوص في تعيينها ألباب الناس، ومثل هذه العقوبة تكون تنبيهاً للغافل، عظة للعاقل.

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ ٱلنَّاظِرِينَ } * { قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } * { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ ٱلآنَ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } * { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } * { فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } * { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[عدل]

البقرة: الأنثى من هذا الحيوان المعروف، وقد يقع على الذكر. والباقر والبقير والبيقوروالباقور، قالوا: وإنما سميت بقرة لأنها تبقر الأرض، أي تشقها للحرث، ومنه سمي محمد بن علي بن الحسين بن عليبن أبي طالب: الباقر. وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء. العياذ والمعاذ: الاعتصام. الفعل منه: عاذ يعوذ.الجهل: معروف، والفعل منه: جهل يجهل، قيل: وقد جمع على أجهال، وهو شاذ. قال الشنفري:

ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى سؤولاً بأطراف الأقاويل أنمل

ويحتمل أن يكون جمع جاهل، كأصحاب: جمع صاحب. الفارض: المسنالتي انقطعت ولادتها من الكبر. يقال: فرضت وفرضت تفرض، بفتح العين في الماضي وضمها، والمصدر فروض، والفرض: القطع، قال الشاعر:

كميت بهيم اللون ليس بفارضولا بعوان ذات لون مخصف

ويقال لكل ما قدم وطال أمره: فارض،قال الشاعر:

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض له قروء كقروء الحائض

وكأنّ المسن سميت فارضاًلأنها فرضت سنها، أي قطعتها وبلغت آخرها، قال خفاف بن ندبة:

لعمري لقد أعطيت ضيفك فارضا تساق إليه ما تقوم على رجل ولم تعطه بكراً فيرضى سمينه

البكر: الصغيرة التي لم تلد من الصغر، وقال ابن قتيبة: التي ولدت ولداً واحداً. والبكر من النساء: التيلم يمسها الرجل، وقال ابن قتيبة: هي التي لم تحمل. والبكر من الأولاد: الأول، ومن الحاجات: الأولى. قال الراجز:

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد

والبكر، بفتح الباء: الفتى منالإبل، والأنثى: بكرة، وأصله من التقدم في الزمان، ومنه البكرة والباكورة. والعوان: النصف، وهي التي ولدت بطناً أو بطنين، وقيل:التي ولدت مرة. وقالت العرب: العوان لا تعلم الخمرة، ويقال: عونت المرأة، وحرب عوان، وهي التي قوتل فيها مرة بعدمرة، وجمع على فعل: قالوا عون، وهو القياس في المعتل من فعأل، ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، منه:

وفــي الأكــف الـلامعــات ســور

بين: ظرف مكان متوسط التصرف، تقول: هو بعيد بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى:

{ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ }

، ودخولها إذا كانت ظرفاً: بين ما تمكن البينية فيه، والمال بين زيد وبين عمرو، ومسموع من كلامهم،وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف، فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذذاك الجملة الإسمية والفعلية، وربماأضيفت بيناً إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين باب معقود كبير. اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون: النوع، ومنهألوان الطعام: أنواعه. وقالوا: فلان متلوّن: إذا كان لا يثبت على خلق واحد وحال واحد، ومنه: يتلوّن تلوّن الحرباء، وذلكأن الحرباء، لصفاء جسمها، أي لون قابلته ظهر عليها، فتنقلب من لون إلى لون. الصفرة: لون معروف، وقياس الفعل منهذا المصدر: صفر، فهو أصفر، وهي صفراء، كقولهم: شهب: فهو أشهب، وهي شهباء. الفقوع: أشدّ ما يكون من الصفرة وأبلغه،يقال: أصفر فاقع ووارس، وأسود حالك وحايك، وأبيض نقق ولمق، وأحمر قاني وزنجي، وأخضر ناضر ومدهام، وأزرق خطباني وأرمك رداني.السرور: لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق. وقال قوم: السرور والفرح والحبور والجذلنظائر، ونقيض السرور: الغم. الذلول: الريض الذي زالت صعوبته، يقال: دابة ذلول: بينة الذل، بكسر الذال، ورجل ذليل: بين الذلبضم الذال، والفعل: ذل يذل. الإثارة: الاستخراج والقلقلة من مكان إلى مكان، وقال امرؤ القيس:

يهيل ويذري تربها ويثيره إثارة نباش الهواجر مخمس

وقال النابغة:

يثرن الحصى حتى يباشرن تربه إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل

الحرث: مصدر حرث يحرث، وهو شق الأرض ليبذر فيها الحب، ويطلق على ما حرث وزرع،وهو مجاز في:

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ }

. والحرث: الزرع، والحرث: الكسب، والحرائث: الإبل، الواحدة حريثة. وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث،لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال: اكتسابه. المسلمة المخلصة المبرأة من العيوب، سلم له كذا: أي خلص، سلاماً وسلامة مثل:اللذاذ واللذاذة. الشية: مصدر وشى الثوب، يشيه وشياً وشية: حسنه وزينه بخطوط مختلفة الألوان، ومنه قيل للساعي في الإفساد بينالناس: واشٍ، لأنه يحسن كذبه عندهم حتى يقبل، والشية: اللمعة المخالفة للون، ومنه ثور موشى القوائم، قال الشاعر:

من وحش وجرة موشيّ أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

الآن: ظرف زمان، حضر جميعه أو بعضه، والألفواللام فيه للحضور. وقيل: زائدة، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه منقول من الفعل، يقال: آن يئين أيناً:أي حان. الدّر: الدفع، ويدرأ عنها العذاب. وقال الشاعر:

فنكــب عنهــم درء الأعـــادي

وادّار: تفاعل منه، ولمصدره حكم يخالف مصادرالأفعال التي أوّلها همزة وصل ذكر في النحو. القساوة: غلظ القلب وصلابته. يقال: قسا يقسو قسواً وقسوة وقساوة، وقسا وجساوعساً متقاربة. الشق، أن يجعل الشيء شقين، وتشقق منه. الخشية: الخوف مع تعظم المخشي. يقال: خشي يخشى. الغفلة والسهو والنسيانمتقاربة. يقال منه: غفل يغفل، ومكان غفل لم يعلم به. {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْبَقَرَةً } الآية. وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل، ولم يدروا قاتله، واختلفوا فيه وفي سبب قتله. فقال عطاءوالسدّي: كان القاتل ابن عم المقتول، وكان مسكيناً، والمقتول كثير المال. وقيل: كان أخاه، وقيل: ابن أخيه، ولا وارث لهغيره، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه. وقال عطاء أيضاً: كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بنيإسرائيل في الحسن والجمال، فقتله لينكحها. وطوّل المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم. والذي سأل موسى البيانهو القاتل، قاله أبو العالية. وقال غيره: بل اجتمع القوم فسألوا موسى، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تقدمذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرةبعد مرّة. وقوله: {وَإِذْ قَالَ } معطوف على قوله:

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ }

، وقوم موسى أتباعه وأشياه. وقرأ الجمهور: يأمركم،بضم الراء، وعن أبي عمرو: والسكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفاً، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغةالمضارع، فيحتمل أن يراد به الحال، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله فيالتوراة، أو بما أخبر موسى، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط الحرف، أي بأن تذبحوا. والحذفهنا مسوّغان: أحدهما: أنه يجوز فيه، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر، أن يحذف الحرف، كما قال:

أمـرتك الخيـر فافعـل مـا أمـرت بـه

والثاني: كونه مع إن، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس. ودلالة الكلام على أنالمأمور به أن تذبحوا بقرة، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال. وقد روى الحسن مرفوعاً، إن رسول الله قال: والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكن شددوا فشدّد الله عليهم .وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله، فاختبروا بذلك، إذ هذا من الابتلاءالعظيم، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارًّابأمّه. وقال طلحة بن مصرّف: لم تكن من بقر الدنيا، بل نزلت من السماء. وقال بعض أهل العلم: البقر سيدالحيوانات الأنسية. وقرأ: {أتتخدنا}؟ الجمهور: بالتاء، على أن الضمير هو لموسى. وقرأ عاصم الجحدري وابن محيصن بالياء، على أنالضمير لله تعالى، وهو استفهام على سبيل الإنكار. {أُنْذِرُواْ هُزُواً }، قرأ حمزة، وإسماعيل، وخلف في اختياره، والقزاز، عن عبدالوارث والمفضل، بإسكان الزاي. وقرأ حفص: بضم الزاي والواو بدل الهمز. وقرأ الباقون: بضم الزاي والهمزة، وفيه ثلاث لغات التيقرىء بها، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا }، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ، كقوله:درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزوّ، وذلك لكثرة الاستهزاءممن يكون جاهلاً، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر اللهبأن يذبحوا بقرة، بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له، إذ لو علموا أن ذلكإخبار صحيح عن الله تعالى، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر، وجوابهم هذا كفر بموسى. وقال بعض الناس: كانوا مؤمنينمصدقين، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية. والعذر لهم أنهم لما طلبوا منموسى تعيين القاتل فقال لهم: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ }، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده، فتوهموا أنموسى داعبهم، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله، أويكون أخبرهم بذلك، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء. وقيل: في الكلام محذوف تقديره:آلله أمرك أن تتخذنا هزواً؟ وقيل: هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد.{قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }، لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهمإنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه، أن يكونمن الجاهلين بالله، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به اللهإنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى. وقوله: من الجاهلين، فيه تصريح أن ثم جاهلين، واستعاذ بالله أن يكون منهم،وفيه تعريض أنهم جاهلون، وكأنه قال: أن أكون منكم، لأنهم جوّزوا على من هو معصوم من الكذب، وخصوصاً في التبليغ،عن الله أن يخبر عن الله بالكذب. قالوا: والجهل بسيط، ومركب البسيط: عام وخاص. العام: عدم العلم بشيء من المعلومات،والخاص: عدم العلم ببعض المعلومات، والمركب: أن يجهل، ويجهل أنه يجهل. فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم،فضلاً عن نبي شرف بالرسالة والتكليم، وذلك مستحيل عليه، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب. فالذي استعاذ منهموسى هو خاص، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئاً، أو المقابل لجهلهم. فقالوا: أتتخذنا هزواً لمن يخبرهمعن الله، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين. فإن ذلك جهل، أو من الجاهلين بالجواب، لا على وفق السؤال، إذ ذاك جهل،والأمر من تلقاء نفسي، وأنسبه إلى الله، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء، فإن ذلك جهل. وهذه الوجوه الستةمستحيلة على موسى. قيل: وإنما استعاذ منها بطريق الأدب، كما استعاذ نوح عليه السلام

{ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ }

، وكما في: {وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ }، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب معالله والتواضع له. {قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ }، لما قال لهم موسى: {أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْأَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ }، وعلموا أن ما أخبرهم به موسى من أمر الله إياهم بذبح البقرة كان عزيمة وطلباً، جازما قالوا له ذلك، وهذا القول أيضاً فيه تعنيت منهم وقلة طواعية، إذ لو امتثلوا فذبحوا بقرة، لكانوا قد أتوابالمأمور، ولكن شدّدوا، فشدد الله عليهم، قاله ابن عباس وأبو العالية وغيرهما. وكسر العين من ادع لغة بني عامر، وقدسبق ذكر ذلك في

{ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا }

، وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأعبد الله: سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبينلنا يعلمنا ما هي، لأن التبيين يلزمه الإعلام، والضمير في هي عائد على البقرة السابق ذكرها، وكأنهم قالوا: يبين لناما البقرة التي أمرنا بذبحها، ولم يريدوا تبيين ماهية البقرة، وإنما هو سؤال عن الوصف، فيكون على حذف مضاف، التقدير:ما صفتها؟ ولذلك أجيبوا بالوصف، وهو قوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }. وإنما سألوا على طريق التعنت، كما قدّمناه، أوعلى طريق التعجب من بقرة ميتة يضرب بها ميت فيحيا، إذ ذاك في غاية الاستغراب والخروج عن المألوف، أو علىطريق أنهم ظنوا قوله: {أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } من باب المجمل، فسألوا تبيين ذلك، إذ تبين المجمل واجب، أو علىرجاء أن ينسخ عنهم تكليف الذبح، لثقل ذلك عليهم، لكونهم لم يعلموا المعنى الذي لأجله أمروا بذلك. وتقدّم معنى قولهم:{ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ }، كيف خصوا لفظ الربّ مضافاً إلى موسى، وذلك لما علموا له عند الله من الخصوصية والمنزلةالرفيعة. وقيل: إنما سألوا موسى استرشاداً لا عناداً، إذ لو كان عناداً لكفروا به وعجلت عقوبتهم، كما عجلت في قولهم:

{ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً }

، وفي عبادتهم العجل، وفي امتناعهم من قبول التوراة، وقولهم:

{ ٱذْهَبْ أَنتَ * وَرَبُّكَ فَقَاتِلا }

. وفيالكلام حذف تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }: صفة لبقرة،والصفة إذا كانت منفية بلا، وجب تكرارها، كما قال:

وفتيـان صـدق لا ضعـاف ولا عـزل

فإن جاءت غير مكرّرة، فبابهاالشعر، ومن جعل ذلك من الوصف بالمجمل، فقدر مبتدأ محذوفاً، أي {لا * هِىَ * فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }، فقدأبعد، لأن الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أن لا حذف. {عَوَانٌ }: تفسير لما تضمنه قوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }.{بَيْنَ ذٰلِكَ }: يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه، ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد،فقيل: أشير بذلك إلى مفرد، فكأنه قيل: عوان بين ما ذكر، فصورته صورة المفرد، وهو في المعنى مثنى، لأن تثنيةاسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً حقيقة، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثني ولا يجمعولا يؤنث، قالوا: وقد أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، قال رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق

قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو كأنهما،فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك، وقال لبيد:

إن للخير وللشرّ مدى وكلا ذلك وجه وقبل

قيل: أراد وكلا ذينك، فأطلق المفرد وأراد به المثنى، فيحتمل أن تكون الآية من ذلك، فيكونأطلق ذلك ويريد به ذينك، وهذا مجمل غير الأوّل. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا، وهو أن يكون ذلك مماحذف منه المعطوف، لدلالة المعنى عليه، التقدير: عوان بين ذلك وهذا، أي بين الفارض والبكر، فيكون نظير قول الشاعر:

فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل

أي: فما كان بين الخير وباغيه، فحذفلفهم المعنى:

{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ }

أي والبرد. وإنما جعلت عواناً لأنه أكمل أحوالها، فالصغيرة ناقصة لتجاوزها حالته. {فَٱفْعَلُواْ مَاتُؤْمَرونَ }: أي من ذبح البقرة، ولا تكرروا السؤال، ولا تعنتوا في أمر ما أمرتم بذبحه. ويحتمل أن تكون هذهالجملة من قول الله، ويحتمل أن تكون من قول موسى، وهو الأظهر. حرّضهم على امتثال ما أمروا به، شفقة منه.وما موصولة، والعائد محذوف تقديره: ما تؤمرونه، وحذف الفاعل للعلم به، إذ تقدّم أن الله يأمركم، ولتناسب أواخر الآي، كماقصد تناسب الإعراب في أواخر الأبيات في قوله:

ولا بـدّ يومـاً أن تـردّ الودائـع

إذ آخر البيت الذي قبل هذاقوله:

ومــا يــدرون أيــن المصــارع

وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون المصدر بمعنى المفعول، أي مأموركم،وفيه بعد {قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } لما تعَرّفوا سنّ هذه، شرعوا في تعرف لونها، وذلككله يدل على نقص فطرهم وعقولهم، إذ قد تقدّم أمر الله لهم بذبح بقرة، وأمر المبلغ عن الله، الناصح لهم،المشفق عليهم، بقوله: {فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }، ومع ذلك لم يرتدعوا عن السؤال عن لونها، والقول في: {ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ}، وفي جزم: {يُبِينُ }، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق نظيره في الآية قبله، فأغنى عن ذكره. {قَالَإِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء }: قال الجمهور: هو اللون المعروف: ولذلك أكد بالفقوع والسرور، فهي صفراء حتى القرن والظلف،وقال الحسن وأبو عبيدة: عنى به هنا السواد، قال الشاعر:

وصفراء ليست بمصفرّة ولكن سوداء مثل الحمم

وقال سعيد بن جبير: صفراء القرن والظلف خاصة. {فَاقِـعٌ }: أي شديد الصفرة، قاله ابن عباس والحسن؛أو الخالص الصفرة، قاله قطرب، أو الصافي، قاله أبو العالية وقتادة. {لَوْنُهَا }: ذكروا في إعرابه وجوهاً: أحدها: أنا فاعلمرفوع بفاقع، وفاقع صفة للبقرة. الثاني: أنه مبتدأ وخبره فاقع. والثالث: أنه مبتدأ، و{تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ } خبر. وأنث على أحدمعنيين: أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث، كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه. والثاني: أنه يراد به المؤنث، إذ هو الصفرة، فكأنهقال: صفرتها تسر الناظرين، فحمل على المعنى كقولهم: جاءته كتابي فاحتقرها، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب الأوّل، لأن إعراب لونهامبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه الكوفيون، أو تسرّ الناظرين خبره، فيه تأنيث الخبر، ويحتاج إلى تأويل، كما قررناه. وكونلونها فاعلاً بفاقع جار على نظم الكلام، ولا يحتاج إلى تقديم، ولا تأخير، ولا تأويل، ولم يؤنث فاقعاً وإن كانصفة لمؤنث، لأنه رفع السبى، وهو مذكر فصار نحو: جاءتني امرأة حسن أبوها، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراءعلى سبيل التوكيد، لأنه يلزم المطابقة، إذ ذاك للمتبوع. ألا ترى أنك تقول أسود حالك، وسوداء حالكة، ولا يجوز سوداءحالك؟ فأمّا قوله:

وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا كأن ذكي المسك فيها يفتق

فبابهالشعر، إذا كان وجه الكلام صفراء فاقعة، وجاء {صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا }، ولم يكتف بقوله: صفراء فاقعة، لأنه أراد تأكيدنسبة الصفرة، فحكم عليها أنها صفراء، ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة، فابتدأ أوّلاً بوصف البقرة بالصفرة، ثم أكدذلك بوصف اللون بها، فكأنه قال: هي صفراء، ولونها شديد الصفرة. فقد اختلفت جهتا تعلق الصفرة لفظاً، إذ تعلقت أوّلاًبالذات، ثم ثانياً بالعرض الذي هو اللون، واختلف المتعلق أيضاً، لأن مطلق الصفرة مخالف لشديد الصفرة، ومع هذا الاختلاف الظاهرفلا يحتاج ذلك إلى التوكيد. قال الزمخشري: فإن قلت، فهلا قيل: صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟ قلت: الفائدةفيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة، وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديد الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جد جده، وجنونك جنون.اهـ كلامه. وقال وهب: إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. {تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ }: أيتبهج الناظرين إليها من سمنها ومنظرها ولونها. وهذه الجملة صفة للبقرة، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً، كقوله: لونها، وفيهتكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل، ولم يجيء باسم الفاعل، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد. ولما كان لونها منالأشياء الثابتة التي لا تتجدّد، جاء الوصف به بالاسم لا بالفعل، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله، لأنه ناشىء عنالوصف قبله، أو كالناشىء، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً، دهشت فيه الأبصار، وعجبت من حسنه البصائر، وجاء بوصف الجمعفي الناظرين، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها، متلذذة فيها بالنظر. فليست مما تعجب شخصاً دون شخص، ولذلك أدخل الألفواللام التي تدل على الاستغراق، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ بها، وإن كان النظر هنا من نظر القلب،وهو الفكر، فيكون السرور قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله، من تحسين لونها وتكميل خلقها. والضمير في تسرّعائد على البقرة، على تقدير أن تسرّ صفة، وإن كان خبراً، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقدتقدّم توجيه التأنيث، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء، فهو عائد على اللون، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ، ويسر خبراً، ويكونفاقعاً صفة تابعة لصفراء، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو:

وإنــي لأسقـي الشــرب صفــراء فاقعــاً

على قلة ذلك، ويحتملأن يكون لونها فاعلاً بفاقع، ويسر إخبار مستأنف. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولهذا كان عليكرم الله وجهه، يرغب في النعال الصفر. وقال ابن عباس: الصفرة تبسط النفس وتذهب الهم، وكان ابن عباس أيضاً يحضعلى لبس النعال الصفر. ونهى ابن الزبير ويحيـى بن أبي كثير عن لباس النعال السود، لأنها تهم. {قَالُواْ ٱدْعُلَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ }، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن وجهالاشتباه عليهم، إن كل بقرة لا تصلح عندهم أن تكون آية، لما علموا من ناقة صالح وما كان فيها منالعجائب، فظنوا أن الحيوان لا يكون آية إلا إذا كان على ذلك الأسلوب، وذلك لما نبؤا أنها آية، سألوا عنماهيتها وكيفيتها، ولذلك لم يسألوا موسى عن ذلك، بل سألوه أن يسأل الله لهم عن ذلك، إذ الله تعالى هوالعالم بالآيات، وإنما سألوا عن التعيين، وإن كان اللفظ مقتضاه الإطلاق، لأنهم لو عملوا بمطلقة لم يحصل التقصي عن الأمربيقين. انتهى كلامه. وقال غيره: لما لم يمكن التماثل من كل وجه، وحصل الاشتباه، ساغ لهم السؤال، فأخبروا بسنها، فوجدوامثلها في السن كثيراً، فسألوا عن اللون، فأخبروا بذلك، فلم يزل اللبس بذلك، فسألوا عن العمل، فأخبروا بذلك، وعن بعضأوصافها الخاص بها، فزال اللبس بتبيين السن واللون والعمل وبعض الأوصاف، إذ وجود بقر كثير على هذه الأوصاف يندر، فهذاهو السبب الذي جرأهم على تكرار السؤال: {قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ }، تقدم الكلام على هذهالجملة. {إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَـٰبَهَ عَلَيْنَا }: هذا تعليل لتكرار هذا السؤال إلى أن الحامل على استقصاء أوصاف هذه البقرة،وهو تشابهها علينا، فإنه كثير من البقر يماثلها في السن واللون. وقرأ عكرمة ويحيـى بن يعمر: إن الباقر، وقد تقدمأنه اسم جمع، قال الشاعر:

ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا خلقاً كحوض الباقر المتهدم

وقرأالجمهور: تشابه، جعلوه فعلاً ماضياً على وزن تفاعل، مسند الضمير البقر، على أن البقر مذكر. وقرأ الحسن: تشابه، بضم الهاء،جعله مضارعاً محذوف التاء، وماضيه تشابه، وفيه ضمير يعود على البقر، على أن البقر مؤنث. وقرأ الأعرج: كذلك، إلا أنهشدّد الشين، جعله مضارعاً وماضيه تشابه، أصله: تتشابه، فأدغم، وفيه ضمير يعود على البقر. وروي أيضاً عن الحسن، وقرأ محمدالمعيطي، المعروف بذي الشامة: تشبه علينا. وقرأ مجاهد: تشبه، جعله ماضياً على تفعل. وقرأ ابن مسعود: يشابه، بالياء وتشديد الشين،جعله مضارعاً من تفاعل، ولكنه أدغم التاء في الشين. وقرىء: متشبه، اسم فاعل من تشبه. وقرأ بعضهم: يتشابه، مضارع تشابه،وفيه ضمير يعود على البقر. وقرأ أبي: تشابهت. وقرأ الأعم5: متشابه ومتشابهة. وقرأ ابن أبي إسحاق: تشابهت، بتشديد الشين معكونه فعلاً ماضياً، وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنا عشر قراءة. وتوجيه هذه القراءات ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت،فقال بعض الناس: لا وجه لها. وتبيين ما قاله: إن تشديد الشين إنما يكون بإدغام التاء فيه، والماضي لا يكونفيه ناءات، فتبقى إحداهما وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت، والتاء هي تاء البقرة، وأصلهأن البقرة اشابهت علينا، ويقوي ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل، أو اشابهت أصله: تشابهت، فأدغمت التاء في الشينواجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي إسحاق القراءة، صار اللفظ: أن البقرة اشابهت، فظن السامع أن تاء البقرة هيتاء في الفعل، إذ النطق واحد، فتوهم أنه قرأ: تشابهت، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق، فإنه رأس في علمالنحو، وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو. وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العربوعلى من يستشهد بكلامهم، كالفرزدق، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب، فكيف يقرأ قراءة لا وجهلها، وإن البقر تعليل للسؤال، كما تقول: أكرم زيداً إنه عالم، فالحامل لهم على السؤال هو حصول تشابه البقر عليهم.{وَإِنَّا إِن شَاء ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }: أي لمهتدون إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو إلى ما خفي من أمرالقاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا بذبح البقرة. وفي تعليق هدايتهم بمشيئة الله إنابة وانقياد ودلالة على ندمهمعلى ترك موافقة الأمر. وقد جاء في الحديث: «ولو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد». وجواب هذا الشرط محذوفيدل عليه مضمون الجملة، أي إن شاء الله اهتدينا، وإذ حذف الجواب كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ومنفياً بلم،وقياس الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب، فكان الترتيب أن يقال في الكلام: إن زيداً لقائمإن شاء الله، أي: إن شاء الله فهو قائم، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها، ليحصل توافق رؤوس الآي،وللاهتمام بتعليق الهداية بمشيئة الله، وجاء خبر إن اسماً، لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم، وأكد بحرفي التأكيد إن واللام، ولم يأتوا بهذا الشرط إلا على سبيل الأدب مع الله تعالى، إذ أخبروا بثبوت الهداية لهم.وأكدوا تلك النسبة، ولو كان تعليقاً محضاً لما احتيج إلى تأكيد، ولكنه على قول القائل: أنا صانع كذا إن شاءالله، وهو متلبس بالصنع، فذكر إن شاء الله على طريق الأدب. قال الماتريدي: إن قوم موسى، مع غلظ أفهامهم وقلةعقولهم، كانوا أعرف بالله وأكمل توحيداً من المعتزلة، لأنهم قالوا: {وَإِنَّا إِن شَاء ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }، والمعتزلة يقولون: قد شاءالله أن يهتدوا، وهم شاؤوا أن لا يهتدوا، فغلبت مشيئتهم مشيئة الله تعالى، حيث كان الأمر على: ما شاؤوا إلاكما شاء الله تعالى، فتكون الآية حجة لنا على المعتزلة. انتهى كلامه. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } الكلامعلى هذا كالكلام على نظيره. {لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلاْرْضَ وَلاَ تَسْقِى ٱلْحَرْثَ }، لا ذلول؛ صفة للبقرة، على أنه منالوصف بالمفرد، ومن قال هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير: لا هي ذلول، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض: صفة لذلول،وهي صلة داخلة في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض، أي لا تثير فتذل، فهو من باب:

علــى لاحب لا يهتــدي بمنــاره

اللفظ نفي الذل، والمقصود نفي الإثارة، فينتفي كونها ذلولاً. ولا تسقي الحرث: نفي معادل لقوله: لا ذلول. والجملةصفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى، كما أن لا تسقي منفي من حيث المعنى أيضاً. ومعنى الكلام: أنها لم تذللبالعمل، لا في حرث، ولا في سقي، ولهذا نفي عنها إثارة الأرض وسقيها. وقال الحسن: كانت تلك البقرة وحشية، ولهذاوصفت بأنها لا تثير الأرض بالحرث، ولا يسنى عليها فتسقى. وقد ذهب قوم إلى أن قوله: تثير الأرض، فعل مثبتلفظاً ومعنى، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها، ونفى عنها سقي الحرث. وردّ هذا القول من حيث المعنى، لأنما كان يحرث لا ينتفي كونه ذلولاً. وقال بعض المفسرين: معنى تثير الأرض بغير الحرث بطراً ومرحاً، ومن عادةالبقر، إذا بطرت، تضرب بقرنها وأظلافها، فتثير تراب الأرض، وينعقد عليه الغبار، فيكون هذا المعنى من تمام قوله: لا ذلول،لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على أنها لا ذلول. قال الزمخشري: لا ذلول، صفة لبقرة بمعنى: بقرة غير ذلول، يعني:لم تذلل للحرث وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها بسقي الحروث. ولا: الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيدالأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. انتهى كلامه.ووافقه على جعل لا الثانية مزيدة صاحب المنتخب، وما ذهبا إليه ليس بشيء، لأن قوله: لا ذلول، صفة منفية بلا،وإذا كان الوصف قد نفي بلا، لزم تكرار لا النافية، لما دخلت عليه، تقول مررت برجل لا كريم ولا شجاع،وقال تعالى:

{ ذِى ثَلَـٰثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ ٱللَّهَبِ }

{ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ }

{لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ }، ولا يجوز أن تأتي بغير تكرار، لأن المستفاد منها النفي، إلا إن وردفي ضرورة الشعر، وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية، كان غير جائز لما ذكرناه من وجوب تكرار لاالنافية، وعلى ما قدراه كان نظير: جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر، كما نبهناعليه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في وضع الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه. والجملةالتي أشار إليها هي قوله: تثير الأرض، والنكرة هيقوله: لا ذلول، أو قوله: بقرة، فإن عنى بالنكرة بقرة، فقد وصفت،والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازاً حسناً، وإن عنى بالنكرة لا ذلول، فهو قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه،ولا أمعن النظر في كتابه، بل قد أجاز سيبويه في كتابه، في مواضع مجيء الحال من النكرة، وإن لم توصف،وإن كان الاتباع هو الوجه والأحسن، قال سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة، وقد يجوز نصبهعلى نصب: هذا رجل منطلقاً، يريد على الحال من النكرة، ثم قال: وهو قول عيسى، ثم قال: وزعم الخليل أنهذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله حالاً، ولم يجعله صفة، ومثل ذلك: مررت برجل قائماً، إذا جعلت المرور بهفي حال قيام، وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائماً، ومثل ذلك: عليه مائة بيضاء، والرفع الوجه، وعليه مائة ديناً،الرفع الوجه، وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررت بماء قعدة رجل، والوجه الجر، وكذلك قال سيبويه في بابما ينتصب، لأنه قبيح أن يكون صفة فقال: راقود خلا وعليك نحى سمناً، وقال في باب نعم، فإذا قلت ليعسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين، فالوجه الرفع، لأنه صفة، والنصب يجوز كنصبه، عليه مائة بيضاء، فهذه نصوص سيبويه،ولو كان ذلك غير جائز، كما قال ابن عطية، لما قاسه سيبويه، لأن غير الجائز لا يقال به فضلاً عنأن يقاس، وإن كان الاتباع للنكرة أحسن، وإنما امتنعت في هذه المسألة، لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قولالضعفاء في صناعة الإعراب، الذين لم يطلعوا على كلام الإمام. وأجاز بعض المعربين أن يكون: تثير الأرض، في موضعالحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره: لا تذل في حال إثارتها، والوجه ما بدأنا به أولاً، وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي: لا ذلول، بالفتح. قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك، أي حيث هي، وهو نفي لذلها، ولأن توصف بهفيقال: هي ذلول، ونحوه قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان، أي فيهم، أو حيث هم. انتهى كلامه. فعلى ماقدره يكون الخبر محذوفاً، ويكون قوله: تثير الأرض، صفة لاسم لا، وهي منفية من حيث المعنى، ولذلك عطف عليها جملةمنفية، وهو قوله: ولا تسقي الحرث. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز أن تكون {تُثِيرُ ٱلاْرْضَ وَلاَ تَسْقِى ٱلْحَرْثَ } خبراً،لأنه كان يتنافر هذا التركيب مع ما قبله، لأن قوله: {قَالَ * إِنَّهَا بَقَرَةٌ } يبقى كلاماً منفلتاً مما بعده،إذ لا تحصل به الإفادة إلا على تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف، ويكون محط الخبر هوقوله: {مُّسَلَّمَةٌ * وَأَنزَلْنَا فِيهَا }، لأنها صفة في اللفظ، وهي الخبر في المعنى، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنىنافياً ذلة هذه البقر، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بنى معها، ولا يجوز أن تقع هذهالجملة أعني لا ذلول، على قراءة السلمي، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر، لأنه ليس فيهاعائد على الموصوف الذي هو بقرة، إذ العائد الذي في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا، ولا يتخيل أن قوله:{لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلاْرْضَ وَلاَ تَسْقِى ٱلْحَرْثَ } على تقدير أن تثير، وما بعده خبر يكون دالاً على نفي ذلولمع الخبر عن الوجود، لأن ذلك كان يكون غير مطابق لما عليه الوجود، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى أرضهموإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة، لأنك قيدت الخبر بتقديركهحيث هي، فصلح هذا النفي، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع الخبر عنه، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص، وهو الأرضوالحرث، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا ساقية حيث تلك البقرة، كذلك تقدر ما من ذلول تثير أرضهم ولاتسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص، إما بالخبر المحذوف، وإما بتعلق الخبر المثبت. وقد انتفى وصف البقرة بذلول ومابعدها، إما بكون الجملة صفة والرابط الخبر المحذوف، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، إذ لم تشتمل على رابطيربطها بما قبلها، إذا جعلت تثير خبر ألا يقال أن الرابط هنا هو العموم، إذ البقرة فرد من أفراد اسمالجنس، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو: زيد نعم الرجل، على خلاف في ذلك، ولعل الأصح خلافه. وبابنعم باب شاذ لا يقاس عليه، لو قلت زيد لا رجل في الدار، ومررت برجل لا عاقل في الدار، وأنتتعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم، لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار، انتفى زيد فيها، وإذا قلت: لا عاقلفي الدار، انتفى العقل عن المرور به، لم يجز ذلك، فلذلك اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقيخبراً للا ذلول، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، وتدل على نفي الإثارة ونفي السقي، من حيث المعنى، لامن حيث كون الجملتين صفة للبقرة. وأما تمثيل الزمخشري بذلك، بمررت بقوم لا بخيل ولا جبان فيهم، أو حيث هم،فتمثيل صحيح، لأن الجملة الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم، إنما الرابط هذا الضمير، وكذلك ما قرره هو الرابطفيه الضمير، إذ قدره لا ذلول هناك، أي حيث هي، فهذا الضمير عائد على البقرة، وحصل به الربط كما حصلفي تمثيله بقوله: فيهم، أو: حيث هم، فتحصل من هذا الذي قررناه أن قوله تعالى: {لاَّ ذَلُولٌ } في قراءةالسلميّ يتخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير حذف خبر، والثاني: أن تكونمعترضة، وذلك على تقدير أنتكون خبر لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة الجمهور أولى، لأن الوصف بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولأنفي قراءة أبي عبد الرحمن، على أحد تخريجيها، تكون قد بدأت بالوصف بالجملة وقدّمته على الوصف بالمفرد، وذلك مخصوص بالضرورةعند بعض أصحبانا، لأن لا ذلول المنفي معها جملة ومسلمة مفرد، فقد قدّمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد، والمفعول الثانيلتسقي محذوف، لأن سقي يتعدّى إلى اثنين. وقرأ بعضهم: تسقى بضم التاء من أسقى، وهما بمعنى واحد. وقد قرىء: نسقيكمبفتح النون وضمها. مسلمة من العيوب، قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية ومقاتل، أو من الشيات والألوان، قاله مجاهد وابنزيد، أو من العمل في الحرث والسقي وسائر أنواع الاستعمال، قاله الحسن وابن قتيبة. والمعنى: أن أهلها أعفوها من ذلك،كما قال الآخر:

أومعبر الظهر ينبي عن وليته ما حجّ ربه في الدنيا ولا اعتمرا

أو من الحرام،لا غصب فيها ولا سرقة ولا غيرهما، بل هي مطهرة من ذلك، أو مسلمة القوائم والخلق، قاله عطاء الخراساني، أومسلمة من جميع ما تقدّم ذكره، لتكون خالية من العيوب، بريئة من الغصوب، مكملة الخلق، شديدة الأسر، كاملة المعاني، صالحةلأن تظهر فيها آية الله تعالى ومعجزة رسوله، قال أبو محمد بن عطية: ومسلمة، بناء مبالغة من السلامة، وقاله غيره،فقال: هي من صيغ المبالغة، لأن وزنها مفعلة من السلامة، وليس كما ذكر، لأن التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجلالمبالغة، بل هو تضعيف النقل والتعدية، يقال: سلم كذا، ثم إذا عدّيته بالتضعيف، فالتضعيف هنا كهو في قوله: فرحت زيداً،إذ أصله: فرح زيد، وكذلك هذا أصله: سلم زيد، ثم يضعف فيصير يتعدّى. فليس إذن هنا مبالغة بل هو المرادفللبناء المتعدّي بالهمزة. لاشِية فيها: أي لا بياض، قاله السدّي، أو: لا وضح، وهو الجمع بين لونين من سواد وبياض،أو لا عيب فيها، أو: لا لون يخالف لونها من سواد أو بياض، أو: لا سواد في الوجه والقوائم، وهوالشية في البقر، يقال ثور موشى، إذا كان في وجهه وقوائمه سواد. وقيل: لاشية فيها، تفسير لقوله: مسلمة، أي خلصتصفرتها عن أخلاط سائر الألوان، قاله ابن زيد. قال ابن عطية: والثور الأشيه الذي ظهر بلقه، يقال: فرس أبلق، وكبشأخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه. كل ذلك بمعنى البلقة. انتهى. وليس الأشيه مأخوذاً من الشية لاختلاف المادّتين.{قَالُواْ ٱلئَـٰنَ جِئْتَ بِٱلْحَقّ }: قرأ الجمهور: بإسكان اللام والهمزة بعده، وقرأ نافع: بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وعنهروايتان: إحداهما: حذف واو قالوا، إذ لم يعتد بنقل الحركة، إذ هو نقلٌ عارض، والرواية الأخرى: إقرار الواو اعتداداً بالنقل،واعتباراً لعارض التحريك، لأن الواو لم تحذف إلا لأجل سكون اللام بعدها. فإذا ذهب موجب الحذف عادت الواو إلى حالهامن الثبوت. وانتصاب الآن على الظرفية، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر، وهو قوله لهم: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ }إلى {لاَّ شِيَةَ فِيهَا }، والعامل فيه جئت، ولا يراد بجئت أنه كان غائباً فجاء، وإنما مجازه نطقت بالحق، فبالحقمتعلق بجئت على هذا المعنى، أو تكون الباء للتعدية، فكأنه قال: أجأت الحق، أي إن الحق كان لم يجئنا فأجأته.وهنا وصف محذوف تقديره بالحق المبين، أي الواضح الذي لم يبق معه إشكال، واحتيج إلى تقدير هذا الوصف لأنه فيكل محاورة حاورها معهم جاء بالحق، فلو لم يقدر هذا الوصف لما كان لتقييدهم مجيئه بالحق بهذا الطرف الخاص فائدة.وقد ذهب قتادة إلى أنه لا وصف محذوف هنا، وقال: كفروا بهذا القول لأن نبي الله ،وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان لا يأتيهم إلا بالحق في كل وقت، وقالوا: ومعنى بالحق: بحقيقة نعت البقرة، ومابقي فيها إشكال. {فَذَبَحُوهَا }: قبل هذه الجملة محذوف، التقدير: فطلبوها وحصلوها، أي هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة، وتحصيلهاكان بأن الله أنزلها من السماء، أو بأنها كانت وحشية فأخذوها، أو باشترائها من الشاب البارّ بأبويه. وهذا الذي تظافرتعليه أقاويل أكثر المفسرين، وذكروا في ذلك اختلافاً وقصصاً كثيراً مضطرباً أضربنا عن نقله صفحاً كعادتنا في أكثر القصص الذيينقلونه، إذ لا ينبغي أن ينقل من ذلك إلا ما صح عن الله تعالى، أو عن رسوله في قرآن أوسنّة. {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ }: كنى عن الذبح بالفعل، لأن الفعل يكنى به عن كل فعل. وكاد في الثبوتتدلّ على المقاربة. فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فمعناه نفي المقاربة، فهي كغيرها من الأفعال وجوباً ونفياً. وقد ذهب بعضالناس إلى أنها إذا أثبتت، دلت على نفي الخبر، وإذا نفيت، دلت على إثبات الخبر، مستدلاً بهذه الآية، لأن قولهتعالى: {فَذَبَحُوهَا } يدل على ذلك، والصحيح القول الأول. وأمّا الآية، فقد اختلف زمان نفي المقاربة والذبح، إذ المعنى: وماقاربوا ذبحها قبل ذلك، أي وقع الذبح بعد أن نفى مقاربته. فالمعنى أنهم تعسروا في ذبحها، ثم ذبحوها بعد ذلك.قيل: والسبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون هو: إمّا غلاء ثمنها، وإمّا خوف فضيحة القاتل، وإمّا قلة انقياد وتعنت علىالأنبياء على ما عهد منهم. واختلفوا في هذه البقرة المذبوحة: أهي التي أمروا أولاً بذبحها، وأنها معينة في الأمر الأوّل،وأنه لو وقع الذبح عليها أولاً لما وقع إلا على هذه المعينة؟ أم المأمور بها أوّلاً هي بقرة غير مخصوصة،ثم انقلبت مخصوصة بلون وصفات، فذبحوا المخصوصة؟ فكان الأمر الأول مخصوصاً لانتقال الحكم من البقرة المطلقة إلى البقرة المخصوصة، ويجوزالنسخ قبل الفعل على أن هذه البقرة المخصوصة يتناولها الأمر بذبح بقرة، فلو وقع الذبح عليها بالخطاب الأوّل، لكانوا ممتثلين،فكذلك بعد التخصيص. ثم اختلف القائلون بهذا الثاني: هل الواجب كونها بالصفة الأخيرة فقط، وهي كونها لا ذلولٌ إلى آخره؟أم ينضاف إلى هذه الأوصاف في جواب السؤالين قبل، فيجب أن يكون مع الوصف الأخير لا فارضٌ ولا بِكرٌ، وصفراءفاقعٌ لونها؟ والذي نختاره هذا الثاني، لأن الظاهر اشتراك هذه الأوصاف، لأن قوله: ما هي، وما لونها، وما هي، يدلعلى ذلك، وهذا هو الذي اشتهر في الإخبار أنها كانت بهذه الأوصاف جميعاً، وإذا كان البيان لا يتأخر عن وقتالحاجة، كان ذلك تكليفاً بعد تكليف، وذلك يدل على نسخ التسهيل بالأشق، وعلى جواز النسخ قبل الفعل. {وَإِذْ قَتَلْتُمْنَفْسًا }: معطوف على قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } . ويجوز أن يكون ترتيب وجودهما ونزولهما على حسب تلاوتهما،فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة، فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر، ثم وقع بعدذلك أمر القتيل، فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله: اضربوه ببعضها، ولا شيء يضطرنا إلى اعتقاد تقدمقتل القتيل. ثم سألوا عن تعيين قاتله، إذ كانوا قد اختلفوا في ذلك، فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة، فيكون الأمربالذبح متقدّماً في النزول، والتلاوة متأخراً في الوجود، ويكون قتل القتيل متأخراً في النزول، والتلاوة متقدّماً في الوجود، ولا إلىاعتقاد كون الأمر بالذبح وما بعده مؤخراً في النزول، متقدّماً في التلاوة، والإخبار عن قتلهم مقدّماً في النزول، متأخراً فيالتلاوة، دون تعرض لزمان وجود القصتين. وإنما حمل من حمل على خلاف الظاهر، اعتبار ما رووا من القصص الذي لايصح، إذ لم يرد به كتاب ولا سنّة، ومتى أمكن حمل الشيء على ظاهره كان أولى، إذ العدول عن الظاهرإلى غير الظاهر، إنما يكون لمرجح، ولا مرجح، بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولاً ذبح بقرة. هل يمتثلون ذلكأم لا؟ وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما تظهر فيه حكمة، لأنها طواعيةصرف، وعبودية محضة، واستسلام خالص، بخلاف ما تظهر له حكمة، فإن في العقل داعية إلى امتثاله، وحضاً على العمل به.وقال صاحب المنتخب: إن وقوع ذلك القتيل لا بدّ أن يكون متقدّماً لأمره تعالى بالذبح، فأما الإخبار عن وقوعذلك القتيل، وعن أنه لا بدّ أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة، فلا يجب أن يكون متقدّماً على الإخبار عنقصة البقرة. فقول من يقول: هذه القصة يجب أن تكون متقدمة على الأولى خطأ، لأن هذه القص في نفسها يجبأن تكون متقدّمة على الأولى في الوجود. فأما التقديم في الذكر فغير واجب، لأنه تارة يقدّم ذكر السبب على ذكرالحكم، وأخرى على العكس من ذلك، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم بذبح البقرة، فلما ذبحوها قال: {وَإِذْ قَتَلْتُمْنَفْسًا } من قبل واختلفتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه، بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة. وتقدّمت قصةالأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عكس، لما كانت قصة واحدة، ولذهب الغرض في تثنية التقريع. انتهى كلامه،وهو مبني على أن القتل وقع أولاً، ثم أمروا بعد ذلك بذبح البقرة، وليس له دليل على ذلك إلا نقلشيء من القصص التي لم تثبت في كتاب ولا سنّة. وقد بينا حمل الآيتين على أن الأمر بالذبح يكون متقدّماًوأن القتل تأخر، كحالهما في التلاوة. وقال بعض الناس: التقديم والتأخير حسن، لأن ذلك موجود في القرآن، في الجمل،وفي الكلمات، وفي كلام العرب. وأورد من ذلك جملاً، من ذلك: قصة نوح عليه السلام في إهلاك قومه، وقوله: { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا }، وفي حكم من مات عنها زوجها بالتربص بالأربعة الأشهر وعشر، وبمتاع إلى الحول، إذ الناسخ مقدّم، والمنسوخمتأخر. وذكر من تقديم الكلمات في القرآن والشعر على زعمه كثيراً، والتقديم والتأخير، ذكر أصحابنا أنه من الضرائر، فينبغي أنينزه القرآن عنه. ونسبة القتيل إلى جمع، إما لأن القاتلين جمع، وهم ورثة المقتول، وقد نقل أنهم اجتمعوا على قتله،أو لأن القاتلواحد، ونسب ذلك إليهم لوجود ذلك فيهم، على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة، إذا وجد منبعضها ما يذم به أو يمدح. {فَٱدرَأْتُمْ فِيهَا } قرأ الجمهور: بالإدغام وقرأ أبو حيوة؛ فتدارأتم، على وزن تفاعلتم،وهو الأصل، هكذا نقل بعض من جمع في التفسير. وقال ابن عطية: قرأ أبو حيوة، وأبو السوار الغنوي: {وَإِذْ قَتَلْتُمْنَفْسًا فَٱدرَأْتُمْ }، وقرأت فرقة: فتدارأتم على الأصل. انتهى كلامه. ونقل من جمع في التفسير أن أبا السوار قرأ: فدرأتم،بغير ألف قبل الراء. ويحتمل هذا التدارؤ، وهو التدافع، أن يكون حقيقة، وهو أن يدفع بعضهم بعضاً بالأيدي، لشدة الاختصام.ويحتمل المجاز، بأن يكون بعضهم طرح قتله على بعض، فدفع المطروح عليه ذلك إلى الطارح، أو بأن دف بعضهم بعضاًبالتهمة والبراءة. والضمير في: فيها عائد على النفس، وهو ظاهر، وقيل: على القتلة، فيعود على المصدر المفهوم من الفعل، وقيل:على التهمة، فيعود على ما دل عليه معنى الكلام. {وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }، ما: منصوب باسم الفاعل،وهو موصول معهود، فلذلك أتى باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت، ولم يأت بالفعل الذي هو دال على التجدد والتكرار،ولا تكرار، إذ لا تجدد فيه، لأنها قصة واحدة معروفة، فلذلك، والله أعلم، لم يأتِ بالفعل. وجاء اسم الفاعل معملاً،ولم يضف، وإن كان من حيث المعنى ماضياً، لأنه حكى ما كان مستقبلاً وقت التدارؤ، وذلك مثل ما حكى الحالفي قوله تعالى:{ وَكَلْبُهُمْ بَـٰسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } . ودخلت كان هنا ليدل على تقدم الكتمان، والعائد على ما محذوف تقديره:ما كنتم تكتمونه. والظاهر أن المعنى ما كنتم تكتمون من أمر القتيل وقاتله، وعلى هذا ذهب الجمهور. وقيل: يجوز أنيكون عاماً في القتيل وغيره، فيكون القتيل من جملة أفراده، وفي ذلك نظر، إذ ليس كل ما كتموه عن الناسأظهره الله تعالى. {فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }: جملة معطوفة على قوله: {قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَٱدرَأْتُمْ فِيهَا }. والجملة منقوله تعالى: {وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، مشعرة بأن التدارؤ لا يجدي شيئاً، إذالله تعالى مظهر ما كتم من أمر القتيل. والهاء في اضربوه عائد على النفس، على تذكير النفس، إذ فيها التأنيث،وهو الأشهر، والتذكير، أو على أو الأول هو على حذف مضاف، أي وإذ قتلتم ذا نفس، فحذف المضاف وأقيم المضافإليه مقامه، فروعي بعود الضمير مؤنثاً في قوله: {فَٱدرَأْتُمْ } فيها، وروعي المحذوف بعود الضمير عليه مذكراً في قوله: {فَقُلْنَاٱضْرِبُوهُ }، أو عائد على القتيل، أي، فقلنا: اضربوا القتيل ببعضها. الظاهر أنهم أمروا أن يضربوه بأي بعض كان، فقيل:ضربوه بلسانها، أو بفخذها اليمنى، أو بذنبها، أو بالغضروف، أو بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن، أو بالبضغة التيبين الكتفين، أو بالعجب، وهو أصل الذنب، أو بالقلب واللسان معاً، أو بعظم من عظامها، قاله أبو العالية. والباء فيببعضها للآلة، كما تقول: ضربت بالقدوم، والضمير عائد على البقرة، أي ببعض البقرة. وفي الكلام حذف يدل عليه ما بعدهوما قبله، التقدير: فضربوه فحيـي، دل على ضربوه قوله تعالى: {ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }، ودل على فحيـي قوله تعالى: {كَذٰلِكَ يُحْىِٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ }. ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في طلبها أربعينسنة، أو من يقول: إنهم أمروا بطلبها، ولم تكن في صلب ولا رحم، فلا يكون الضرب إلا بعد دفنه. قيل:على قبره، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر. وروي أنه قام وأوداجه تشخب دماً، وأخبر بقاتله فقال: قتلني ابن أخي،فقال بنو أخيه والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد معاينته، ثم مات مكانه. وفي بعض القصص أنه قال: قتلني فلانوفلان، لا بني عمه، ثم سقط ميتاً، فأخذا وقتلا، ولم يورثوا قاتلاً بعد ذلك. وقال الماوردي: كان الضرب بميت لاحياة فيه، لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به لتزول الشبهة وتتأكد الحجة.{كَذٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ }: إن كان هذا خطاباً للذين حضروا إحياء القتيل، كان ثم إضمار قول: أي وقلنا لهمكذلك يحيـي الله الموتى يوم القيامة. وقدّره المارودي خطاباً مو موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وإن كان لمنكري البعثفي زمن رسول الله ، فيكون من تلوين الخطاب. والمعنى: كما أحيـي قتيل بني إسرائيل في الدنيا،كذلك يحيـي الله الموتى يوم القيامة، وإلى هذا ذهب الطبري، والظاهر هو الأول، لانتظام الآي في نسق واحد، ولئلا يختلفخطاب {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }، وخطاب {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ }، لأن ظاهر قلوبكم أنه خطاب لبني إسرائيل. والكاف من كذلك صفةلمصدر محذوف منصوب بقوله: {فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }، أي إحياء مثل ذلك الإحياء يحيـي الله الموتى، والمماثلة إنما هي فيمطلق الإحياء لاقى كيفية الإحياء، فيكون ذلك إشارة إلى إحياء القتيل. وجعل صاحب المنتخب ذلك إشارة إلى نفس القتيل، ويحتاجفي تصحيح ذلك إلى حذف مضاف، أي مثل إحياء ذلك القتيل، يحيـي الله الموتى، فجعله إشارة إلى المصدر أولى وأقلتكلفاً. وإذا كان ذلك خطاباً لبني إسرائيل الحاضرين إحياء القتيل، فحكمه مشاهدة ذلك، وإن كانوا مؤمنين بالبعث، اطمئنان قلوبهم وانتفاءالشبهة عنهم، إذ الذي كانوا مؤمنين به بالاستدلال آمنوا به مشاهدة. {وَيُرِيكُمْ ءايَـٰتِهِ }: ظاهر هذا الكلام الاستئناف، ويجوزأن يكون معطوفاً على يحيـي، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، وهي ما أراهم من إحياء الميت، والعصا، والحجر،والغمام، والمنّ والسلوى، والسحر، والبحر، والطور، وغير ذلك. وكانوا مع ذلك أعمى الناس قلوباً، وأشد قسوة وتكذيباً لنبيهم في تلكالأوقات التي شاهدوا فيها تلك العجائب والمعجزات. وقال صاحب المنتخب: {وَيُرِيكُمْ ءايَـٰتِهِ }، وإن كانت آية واحدة، لأنها تدل علىوجود الصانع القادر على كل المقدورات، العالم بكل المعلومات، المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه الصلاة والسلام، وعلىبراءة ساحة من لم يكن قاتلاً، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل. انتهى كلامه. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}: أي لعلكم تمتنعون من عصيانه، وتعملون على قضية عقولكم، من أن من قدر على إحياء نفس واحدة، قدر علىإحياء الأنفس كلها، لعدم الاختصاص، {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وٰحِدَةٍ }، أي كخلق نفس واحدة وبعثها. وقال الزمخشري:في الأسباب والشروط حكم وفوائد، وإنما شرط ذلك لما في ذبح البقرة في من التقرب، وأداء التكليف، واكتساب الثواب، والإشعاربحسن تقديم القربة على الطلب، وما في التشديد عليهم، لتشديدهم من اللطف لهم والآخرين في ترك التشديد، والمسارعة إلى امتثالأوامر الله تعالى، وارتسامها على الفور من غير تفتيش وتكثير سؤال، ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة، والدلالة على بركة البر بالأبوين،والشفقة على الأولاد، وتجهيل الهازىء بما لا يعلم كنهه، ولا يطلع على حقيقته من كلام الحكماء. وبيان أن من حقالمتقرب إلى ربه: أن يتنوق في اختيار ما يتقرب به، وأن يختاره فتى السن غير فخم ولا ضَرعٍ، حسن اللونبريئاً من العيوب، يونق من ينظر إليه، وأن يغالي بثمنه، كما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه ضحىبنجيبة بثلاثمائة دينار، وأن الزيادة في الخطاب نسخ له، وأن النسخ قبل الفعل جائز، وإن لم يجز قبل وقت الفعلوإمكانه لأدائه إلى البدء، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت، وحصول الحياة عقيبه، وأن المؤثر هو المسبب لا الأسباب،لأن الموتين الحاصلين في الجسمين لا يعقل أن يتولد منهما حياة. انتهى كلامه، وهو حسن. وقد ذكر المفسرون أحكاماًفقهية، انتزعوها واستدلوا عليها من قصة ها القتل، ولا يظهر استنباطهم ذلك من هذه الآية. قالوا: هذه الآية دليل علىحرمان القاتل ميراث المقتول، وإن كان ممن يرثه. وأقول: لا تدل هذه الآية على ذلك، وإنما القصة، إن صحت، تدلعلى ذلك، لأن في آخرها: فما ورث قاتل بعدها ممن قتله. وروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن المسيب أنهلا ميراث له، عمداً كان أو خطأً، لا من ديته، ولا من سائر ماله. وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعيوأبو يوسف، إلا أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن كان صبياً أو مجنوناً، ورث. وقال عثمان الليثي: يرث قاتل الخطأ.وقال ابن وهب، عن مالك: لا يرث قاتل العمد من ديته، ولا من ماله. وإن قتله خطأ، يرث من مالهدون ديته. ويروى مثله عن الحسن ومجاهد والزهري، وهو قول الأوزاعي. وقال المزني، عن الشافعي: إذا قتل الباغي العادل، أوالعادل الباغي، لا يتوارثان لأنهما قاتلان. وقالوا: استدل مالك في رواية ابن القاسم وابن وهب بهذه القصة، على صحة القولبالقسامة، بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، وقال الجمهور خلافه. وقالوا في صفة البقرة استدلال لمن قال: إنشرع من قبلنا شرع لنا، وهو مذهب مالك وجماعة من الفقهاء، قالوا: في هذه الآيات أدل دليل على حصر الحيوانبصفاته، أنه إذا حصر بصفة يعرف بها جاز السلم فيه، وبه قال مالك والأوزاعي والليث والشافعي، وقال أبو حنيفة: لايجوز السلم في الحيوان. ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب خلاف الفقهاء، ولا يظهر استنباط شيء من هذا من هذهالقصة. قال القشيري: أراد الله أن يحيـي ميتهم ليفصح بالشهادة على قاتله، فأمر بقتل حيوان لهم، فجعل سبب حياة مقتولهمبقتل حيوان لهم صارت الإشارة منه، أن من أراد حياة قلبه لم يصل إليه إلا بذبح نفسه. فمن ذبح نفسهبالمجاهدات حيـي قلبه بأنوار المشاهدات، وكذلك من أراد حياة في الأبد أمات في الدنيا ذكره بالخمول. {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْمّن بَعْدِ ذٰلِكَ }، قال الزمخشري، معنى ثم قست: استبعاد القسوة بعدما ذكر ما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه، ثمأنتم تمترون. انتهى. وهو يذكر عنه أن العطف بثم يقتضي الاستبعاد، ولذلك قيل عنه في قوله: { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } . وهذا الاستبعاد لا يستفاد ن العطف بثم، وإنما يستفاد من مجيء هذه الجمل ووقوعها بعدما تقدّم مما لايقتضي وقوعها، ولأن صدور هذا الخارق العظيم الخارج عن مقدار البشر، فيه من الاعتبار والعظات ما يقتضي لين القلوب والإنابةإلى الله تعالى، والتسليم لأقضيته، فصدر مهم غير ذلك من غلظ القلوب وعدم انتفاعها، بما شاهدت، والتعنت والتكذيب، حتى نقلأنهم بعدما حيـي القتيل، وأخبر بمن قتله قالوا: كذب. والضمير في قلوبكم ضمير ورثة القتيل، قاله ابن عباس، وهم الذينقتلوه، وأنكروا قتله. وقيل: قلوب بني إسرائيل جميعاً قست بمعاصيهم وما ارتكبوه، قاله أبو العالية وغيره. وكنى بالقسوة عن نبوّالقلب عن الاعتبار، وأن المواعظ لا تجول فيها. وأتى بمن في قوله: {مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } إشعاراً بأن القسوة كانابتداؤها عقيب مشاهدة ذلك الخارق، ولكن العطف بثم يقتضي المهلة، فيتدافع معنى ثم، ومعنى من، فلا بدّ من تجوّز فيأحدهما. والتجوز في ثم أولى، لأن سجاياهم تقتضي المبادرة إلى المعاصي بحيث يشاهدون الآية العظيمة، فينحرفون إثرها إلى المعصية عناداًوتكذيباً، والإشارة بذلك قيل: إلى إحياء القتيل، وقيل: إلى كلام القتيل، وقيل: إشارة إلى ما سبق من الآيات من مسخهمقردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، قاله الزجاج. {فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ }: يريد في القسوة. وهذه جملة ابتدائيةحكم فيها بتشبيه قلوبهم بالحجارة، إذ الحجر لا يتأثر بموعظة، ويعني أن قلوبهم صلبة، لا تخلخلها الخوارق، كما أن الحجرخلق صلباً. وفي ذلك إشارة إلى أن اعتياص قلوبهم ليس لعارض، بل خلق ذلك فيها خلقاً أولياً، كما أن صلابةالحجر كذلك. والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف وفاقاً لسيبويه وجمهور النحويين، خلافاً لمن ادّعى أنها تكون اسماً في الكلام، وهوعن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير: فهي كائنة كالحجارة، خلافاً لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء،ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام في الحجارة لتعريف الجنس. وجمعت الحجارة ولم تفرد، فيقال كالحجر، فيكون أخضر،إذ دلالة المفرد على الجنس كدلالة الجمع، لأنه قوبل الجمع بالجمع، لأن قلوبهم جمع، فناسب مقابلته بالجمع، ولأن قلوبهم متفاوتةفي القسوة، كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة. فلو قيل: كالحجر، لأفهم ذلك عدم التفاوت، إذ يتوهم فيه من حيثالإفراد ذلك. {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }،أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو للابهام، أو للإباحة، أو للشك، أو للتخيير، أوللتنويع، أقوال: وذكر المفسرون مثلاً لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير. وكأن قلوبهم على قسمين: قلوب كالحجارة قسوة، وقلوب أشدّ قسوةمن الحجارة، فأجمل ذلك في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ }، ثم فصل ونوع إلى مشبه بالحجارة، وإلى أشدّ منها، إذما كان أشدّ، كان مشاركاً في مطلق القسوة، ثم امتاز بالأشدية. وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث المعنى تقتضيهالكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلاً منهما ينتصب عنه التمييز. تقول: زيد كعمرو حلماً، وهذا التمييز منتصب بعد أفعل التفضيل،منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا التمييز وتقيم ما كان مضافاً إليه مقامه. تقول: زيد أحسن وجهاً منعمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجهاً وأقمت ما كان مضافاً مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجهمبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو، وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كانالأصل ذلك، لأن المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجهأصل هذا الرفع، لأن المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا هذا، لأن ذكر مجيء التمييزمنقولاً من المبتدأ غريب، وأفرد أشدّ، وإن كانت خبراً عن جمع، لأن استعمالها هنا هو بمن، لكنها حذفت، وهو مكانحسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبراً عن المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على خبرمن قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم، فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب، ولا حاجةإلى ما أجازه الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون التقدير: أو هي أشدّ قسوة، فيصير منعطف الجمل. والثاني: أن يكون، التقدير: أو مثل أشدّ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه، ويكون الضمير في أشدّ إذ ذاكغير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة، فالضمير في أشدّ عائد على ذلكالموصوف بأشدّ المحذوف. ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة الأعمش، بنصب الدال عطفاً على، كالحجارة، قاله الزمخشري. وينبغي أن لا يصارإلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة. وأما على قراءة الرفع، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه، ولا إضمار فيه، فكانأرجح. وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في منتخبه على الزمخشري قوله: إنه معطوف على الكاف، فقال:هو على مذهب الأخفش، لا على مذهب سيبويه، لأنه لا يجيز أن يكون إسماً إلا في الشعر، ولا يجيز ذلكفي الكلام، فكيف في القرآن؟ فأولى أن يكون: أشدّ، خبر مبتدأ مضمر، أي وهي أشدّ. انتهى كلامه. وما ذهب إليهالزمخشري صحيح، ولا يريد بقوله: معطوف على الكاف، أن الكاف اسم، إنما يريد معطوفاً على الجار والمجرور، لأنه في موضعمرفوع، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور. وقوله: فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر، أي هي أشد، قد بيناأن الأولى غير هذا، لأنه تقدير لا حاجة إليه. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة ممايخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب، قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنىالأقسى، ولكن قصد وصف القسوة بالشدّة، كأنه قيل: اشتدّت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة. انتهى كلامه. ومعنى قوله: وفعل القسوةمما يخرج منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائطالمجوزة لبناء ذلك، وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة، والنقص مثبت. وفي كونه من أفعل، أومن كون، أو من مبني للمفعول خلاف. وقرأ أبو حياة: أو أشدّ قساوة، وهو مصدر لقسا أيضاً. {وَإِنَّ مِنَٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلانْهَـٰرُ }: لما شبه تعالى قلوبهم بالحجارة في القسوة، ثم ذكر أنها أشد قسوة على اختلافالناس في مفهوم، أو بين أن هذا التشبيه إنما هو بالنسبة لما علمه المخاطب من صلابة الأحجار، وأخذ يذكر جهةكون قلوبهم أشدّ قسوة: والمعنى أن قلوب هؤلاء جاسية صلبة لا تلينها المواعظ، ولا تتأثر للزواجر، وإن من الحجارة مايقبل التخلخل، وأنها متفاوتة في قبول ذلك، على حسب التقسيم الذي أشار إليه تعالى ونتكلم عليه. فقد فضلت الأحجار علىقلوبهم في أن منها ما يقبل التخلخل، وأن قلوب هؤلاء في شدّة القساوة. واختلف المفسرون في هذه الآية، فقالقوم: إن قوله: {وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ } إلى آخره، هو على سبيل المثل، بمعنى أنه لو كان الحجر ممن يعقللسقط من خشية الله تعالى، وتشقق من هيبته، وأنتم قد جعل الله فيكم العقل الذي به إدراك الأمور، والنظر فيعواقب الأشياء، ومع ذلك فقلوبكم أشدّ قسوة، وأبعد عن الخير. وقال قوم: ليس ذلك على جهة المثل: بل أخبر عنالحجارة بعينها، وقسمها لهذه الأقسام، وتبين بهذا التقسيم كون قلوبهم أشدّ قسوة من الحجارة. وقرأ الجمهور: وإنّ مشدّدة، وقرأ قتادة:وإن مخففة، وكذا في الموضعين بعد ذلك، وهي المخففة من الثقيلة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معملة، ويكون من الحجارةفي موضع خبرها، وما في موضع نصب بها، وهو اسمها، واللام لام الابتداء، أدخلت على الاسم المتأخر، والاسم إذا تأخرجاز دخول اللام عليه، نحو قوله: {وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً }، وإعمالها مخففة لا يجيزه الكوفيون، وهم محجوجون بالسماع الثابت منالعرب، وهو قولهم: إن عمرو لمنطلق، بسكون النون، إلا أنها إذا خففت لا تعمل في ضمير لا، تقول: إنك منطلق،إلا أن ورد في الشعر. والوجه الثاني: أن لا تكون معملة، بل تكون ملغاة، وما في موضع رفع بالابتداء،والخبر في الجار والمجرور قبله. واللام في لما مختلف فيها، فمنهم من ذهب إلى أنها لام الابتداء لزمت للفرق بينأن المؤكدة وإن النافية، وهو مذهب أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش الصغير. وأكثر نحاة بغداد، وبه قال: من نحاةبلادنا أبو الحسن بن الأخضر، ومنهم من ذهب إلى أنها لام اختلست للفرق، وليست لام الابتداء، وبه قال أبو عليالفارسي. ومن كبراء بلادنا ابن أبي العالية، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو. ولم يذكر المفسرون والمعربون فيإن المخففة هنا إلا هذا الوجه الثاني، وهو أنها الملغاة، وأن اللام في لما لزمت للفرق. قال المهدوي: من خففإن، فهي المخففة من الثقيلة، واللام لازمة للفرق بينها وبين إن التي بمعنى ما. وقال ابن عطية: فرق بينها وبينالنافية لام التوكيد في لما. وقال الزمخشري: وقرىء: وإن بالتخفيف، وهي إن المخففة من الثقيلة التي يلزمها اللام الفارقة، ومنه قوله تعالى: { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ }، وجعلهم إن هي المخففة من الثقيلة، هو مذهب البصريين. وأما الفراء فزعم فيماورد من ذلك أنّ إن هي النافية، واللام بمعنى إلا، فإذا قلت: إن زيد لقائم، فمعناه عنده: ما زيد إلاقائم. وأما الكسائي فزعم أنها إن وليها فعل، كانت إن نافية، واللام بمعنى إلا، وإن وليها اسم، كانت المخففة منالثقيلة. وذهب قطرب إلى أنها إذا وليها فعل، كانت بمعنى قد، والكلام على هذا المذهب في كتب النحو. وقرأالجمهور: لما بميم مخففة وهي موصولة. وقرأ طلحة بن مصرف: لما بالتشديد، قاله في الموضعين، ولعله سقطت واو، أي وفيالموضعين. قال محمد بن عطية: وهي قراءة غير متجهة، وما قاله ابن عطية من أنها غير متجهة لا يتمشى إلاإذا نقل عنه أنه يقرأ وإنّ بالتشديد، فحينئذ يعسر توجيه هذه القراءة. أما إذا قرأ بتخفيف إن، وهو المظنون بهذلك، فيظهر توجيهها بعض ظهور، إذ تكون إن نافية، وتكون لما بمنزلة إلا، كقوله تعالى:

{ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }

{ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }

{ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ الدنيا }

، في قراءة منقرأ لما بالتشديد، ويكون مما حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه، التقدير: وما من الحجارة حجر إلا يتفجر منه الأنهار،وكذلك ما فيها، كقوله تعالى:

{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }

، أي وما منا أحد إلا له مقام معلوم،

{ وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }

، أي وما من أهل الكتاب أحد، وحذف هذا المبتدأ أحسن،لدلالة المعنى عليه، إلا أنه يشكل معنى الحصر، إذ يظهر بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة، فمنها ما يتفجر منه الأنهار،ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله. وإذا حصرت، أفهم المفهوم قبله أن كل فردفرد من الأحجار فيه هذه الأوصاف كلها، أي تتفجر منه الأنهار، ويتشقق منه الماء، ويهبط من خشية الله. ولا يبعدذلك إذا حمل اللفظ على القابلية، إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع فيه، إذا أرد الله ذلك. فإذا تلخصهذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير: أن يقرأ طلحة، وإن بالتخفيف. وأما إن صح عنه أنه يقر وإن بالتشديد،فيعسر توجيه ذلك. وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية، فلا يصح قوله، ولا يثبت ذلك فيلسان العرب. ويمكن أن توجه قراءة طلحة لما بالتشديد، مع قراءة إن بالتشديد، بأن يكون اسم إن محذوفاً لفهم المعنى،كما حذف في قوله:

ولكـن زنجــيّ عظيــم المشــافــر

وفي قوله:

فليـت دفعــت الهــم عـي ساعــة

وتكون لما بمعنى حين، علىمذهب الفارسي، أو حرف وجوب لوجوب، على مذهب سيبويه. والتقدير: وإن منها منقاداً، أو ليناً، وما أشبه هذا. فإذا كانواقد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله بعضهم في لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وصاحبها، فحذف الاسم وحدهأسهل. وقرأ الجمهور: يتفجر بالياء، مضارع تفجر. وقرأ مالك بن دينار: ينفجر بالياء، مضارع انفجر، وكلاهما مطاوع. أما يتفجر فمطاوعتفجر، وأما ينفجر فمطاوع فجر مخففاً. والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة، والانفجار دونه، والمعنى: إن من الحجارة ما فيه خروق واسعةيندفق منها الماء الكثير الغمر. وقرأ أبيّ والضحاك: منها الأنهار. وقرأ الجمهور منه. فالقراءة الأولى حمل على المعنى، وقراءة الجمهورعلى اللفظ، لأن ما لها هنا لفظ ومعنى، لأن المراد به الحجارة، ولا يمكن أن يراد به مفرداً لمعنى، فيكونلفظه ومعناه واحداً، إذ ليس المعنى {وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ } للحجر الذي يتفجر منه الماء، إنما المعنى للأحجار التي يتفجرمنها الأنهار. وقد سبق الكلام على الأنهار في قوله تعالى:

{ وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ }

الآية. وقد ذهب بعضهمإلى أن الحجر الذي يتفجر منه الأنهار، هو الحجر الذي ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً. {وَإِنَّمِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَاء }، التشقق: التصدّع بطول أو بعرض، فينبع منه الماء بقلة حتى لا يكون نهراً.وقرأ الجمهور: يشقق، بتشديد الشين، وأصله يتشقق، فأدغم التاء في الشين. وقرأ الأعمش : تشقق، بالتاء والشين المخففة على الأصل،ورأيتها معزوّة لابن مصرّف. وفي النسخة التي وقفت عليها من تفسير ابن عطية. ما نصه: وقرأ ابن مصرّف: ينشقق، بالنونوقافين، والذي يقتضيه اللسان أن يكون بقاف واحدة مشدّدة، وقد يجيء الفك في شعر، فإن كان المضارع مجزوماً، جاز الفكفصيحاً، وهو هنا مرفوع، فلا يجوز الفك، إلا أنها قراءة شاذة، فيمكن أن يكون ذلك فيها، وأما أن يكون المضارعبالنون مع القافين وتشديد الأولى منهما، فلا يجوز. قال أبو حاتم: لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز تتشقق بالتاء، لأنه إذاقال: تتفجر فأنثه لتأنيث الأنهار، ولا يكون في تشقق. وقال أبو جعفر النحاس: يجوز ما أنكره أبو حاتم حملاً علىالمعنى، لأن المعنى: وإن منها للحجارة التي تشقق، وإمّا يشقق بالياء، فمحمول على اللفظ. انتهى، وهو كلام صحيح. ولم ينقلهنا أن أحداً قرأ منها الماء، فيعيد على المعنى، إنما نقل ذلك في قوله: لما يتفجر منه الأنهار، فناسب الجمعالجمع، ولأن الأنهار من حيث هي جمع، يبعد في العادة أن تخرج من حجر واحد، وإنما تخرج الأنهار من أحجار،فلذلك ناسب مراعاة المعنى هنا. وأما فيخرج منه الماء، فالماء ليس جمعاً، فلا يناسب في حمل منه على المعنى، بلأجرى يشقق، ومنه على اللفظ. {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ }، الهبوط هنا: التردّي من علو إلىأسفل. وقرأ الأعمش: يهبط، بضم الباء، وقد تقدم أنها لغة. وخشية الله: خوفه. واختلف المفسرون في تفسير هذا، فذهب قومإلى أن الخشية هنا حقيقة. واختلف هؤلاء، فقال قوم معناه: من خشية الحجارة لله تعالى، فهي مصدر مضاف للمفعول، وأنالله تعالى جعل لهذه الأحجار التي تهبط من خشية الله تعالى تمييزاً قام لها مقام الفعل المودع فيمن يعقل، واستدلعلى ذلك بأن الله تعالى وصف بعض الحجارة بالخشية، وبعضها بالإرادة، ووصف جميعها بالنطق والتحميد والتقديس والتأويب والتصدّع، وكل هذهصفات لا تصدر إلا عن أهل التمييز والمعرفة. قال تعالى:

{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ عَلَىٰ جَبَلٍ }

الآية،

{ وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ }

{ يٰجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ }

، وفي الحديث الصحيح: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وأنه بعد مبعثه ما مرّ بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وفي الحجر الأسود إنه يشهد لمن يستلمه . وفي حديث الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام وصار يعدو خلفه ويقول: «ثوبي حجر ثوبي حجر». وفي الحديثعن أحد: أن هذا جبل يحبنا ونحبه . وفي حديث حراء: لما اهتز أسكن حراء . وفي حديث: تسبيح صغار الحصى بكف رسول الله . وقد دلت هذه الجملة وأحاديث أخر على نطق الحيوانات والجمادات، وانقياد الشجر وغير ذلك.فلولا أنه تعالى أودع فيها قوة مميزة، وصفة ناطقة، وحركة اختيارية، لما صدر عنها شيء من ذلك، ولا حسن وصفهابه. وإلى هذا ذهب مجاهد وابن جريج وجماعة. وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر أضيف إلى فاعل. والمراد بالحجرالذي يهبط من خشية الله هو البرد، والمراد بخشية الله: إخافته عباده، فأطلق الخشية، وهو يريد الإخشاء، أي نزول البردبه، يخوّف الله عباده، ويزجرهم عن الكفر والمعاصي. وهذا قول متكلف، وهو مخالف للظاهر. والبرد ليس بحجارة، وإن كان قداشتدّ عند النزول، فهو ماء في الحقيقة. وقال قوم: الخشية هنا حقيقة، وهو مصدر مضاف للمفعول، وفاعله محذوف، وهو العباد.والمعنى: أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزلة من خشية عباد الله إياه. وتحقيقه: أنه لماكان المقصود منها خشية الله تعالى، صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط، فكان المعنى: لما يهبط من أجلأن يحصل لعباد الله تعالى. وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُمِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } عائد على القلوب، والمعنى: أن من القلوب قلوباً تطمئن وتسكن، وترجع إلى الله تعالى، فكنى بالهبوطعن هذا المعنى، ويريد بذلك قلوب المخلصين. وهذا تأويل بعيد جداً، لأنه بدأ بقوله: {وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ }، ثم قال:{وَإِنَّ مِنْهَا }، فظاهر الكلام التقسيم للحجارة، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل واضح، والهبوط لا يليق بالقلوب، إنما يليقبالحجارة. وليس تأويل الهبوط بأولى من تأويل الخشية إن تأوّلناها. وقد أمكن في الوجوه التي تضمنت حملها على الحقيقة، وإنكان بعض تلك الأقوال أقوى من بعض. وذهب بعضهم إلى أن الذي يهبط من خشية الله هو الجبل الذي كلمالله عليه موسى عليه السلام، إذ جعله دكاً. وذهب قوم إلى أن الخشية هنا مجاز من مجاز الاستعارة، كما استعيرتالإرادة للجدار في قوله تعالى:

{ يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ }

، وكما قال زيد الخيل:

بجمع تضل البلق في حجراته ترى الاكم منه سجداً للحوافر

وكما قال الآخر:

لما أتى خبر الزبير تضعضعت سور المدينة والجبال الخشع

أي من رأى الحجر متردّياً من علوّ إلى أسفل، تخيل فيه الخشية، فاستعارالخشية، كناية عن الانقياد لأمر الله، وأنها لا تمتنع على ما يريد الله تعالى فيها. فمن يراها يظنّ أن ذلكالانفعال السريع هو مخافة خشية الله تعالى. وهذا قول من ذهب إلى أن الحياة والنطق لا يحلان في الجمادات، وذلكممتنع عندهم. وتأوّلوا ما ورد في القرآن والحديث، مما يدل على ذلك على أن الله تعالى قرن بها ملائكة، هيالتي تسلم وتتكلم، كما ورد أن الرحم معلقة بالعرش، تنادي: اللهم صِل من وصلني، واقطع من قطعني. والأرحام ليست بجسم،ولا لها إدراك، ويستحيل أن تسجد المعاني، أو تتكلم، وإنما قرن الله تعالى بها ملكاً يقول ذلك القول. وتأوّلوا: هذاجبل يحبنا ونحبه، أي يحبه أهله ونحب أهله، كقوله تعالى:

{ واسئل القرية }

. واختيار ابن عطية، رحمه الله تعالى، أن اللهيخلق للحجارة قدراً مّا من الإدراك، تقع به الخشية والحركة. واختيار الزمخشري أن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالىوعدم امتناعها، وترتيب تقسيم هذه الحجارة ترتيب حسن جداً، وهو على حسب الترقي. فبدأ أولاً بالذي تتفجر منه الأنهار، أيخلق ذا خروق متسعة، فلم ينسب إليه في نفسه تفعل ولا فعل، أي أنها خلقت ذات خروق بحيث لا يحتاجأن يضاف إليها صدور فعل منها. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالاً يسيراً، وهو أن يصدرمنه تشقق بحيث ينبع منه الماء. ثم ترقى من هذا الحجر إلى الحجر الذي ينفعل انفعالاً عظيماً، بحيث يتحرك ويتدهدهمن علو إلى أسفل، ثم رسخ هذا الانفعال التامّ بأن ذلك هو من خشية الله تعالى، من طواعيته وانقياده لماأراد الله تعالى منه، فكنى بالخشية عن الطواعية والانقياد، لأن من خشي أطاع وانقاد. {وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: هذا فيه وعيد، وذلك أنه لما قال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ }، أفهم أنه ينشأ عن قسوةالقلوب أفعال فاسدة وأعمال قبيحة، من مخالفة الله تعالى، ومعاندة رسله، فأعقب ذلك بتهديدهم بأن الله تعالى ليس بغافل عنأعمالهم، بل هو تعالى يحصيها عليهم، وإذا لم يفعل عنها كان مجازياً عليها. والغفلة إن أريد بها السهو، فالسهو لايجوز على الله تعالى، وإن أريد بها الترك عن عمد، فذكروا أنه مما يجوز أن يوصف الله تعالى به. وعلىكلا التقديرين، فنفى الله تعالى الغفلة عنه. وانتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلاً، ولكونه لايقع منه مع إمكانه. وقد ذهب القاضي إلى أنه لا يصح أن يوصف الله تعالى بأنه ليس بغافل، قال: لأنهيوهم جواز الغفلة عليه، وليس الأمر كما ذهب إليه، لأن نفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه. ألا ترى إلىقوله تعالى:

{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }

؟ وقوله:

{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ }

، فقد نفى عنه تعالى ما لايستلزم إمكانه له. وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية. ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أنتكون ما تميمية، فدخلت الباء في خبر المبتدأ، وسوّغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل في الموجب؟ لا تقول:زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم. قال ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي ذلكدخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمدبن عطية، من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما علمناه، بل القائلون قائلان، قائل:بأن التميمية لا تدخل الباء في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه، وتبعه الزمخشري. وقائل:بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح. وقال الفرزدق:

لعمــرك مــا معـن بتــارك حقــه

وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبربالباء كثيراً. وقرأ الجمهور: تعملون بالتاء، وهو الجاري على نسق قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ }. وقرأ ابن كثير بالياء، فيحتملأن يكون الخطاب مع رسول الله ، ويحتمل أن يكون الخطاب مع بني إسرائيل، ويكون ذلك التفاتاً،إذ خرج من الخطاب في قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } إلى الغيبة في قوله: {يَعْمَلُونَ }. وحكمة هذا الالتفاتأنه أعرض عن مخاطبتهم، وأبرزهم في صورة من لا يقبل عليهم بالخطاب، وجعلهم كالغائبين عنه، لأن مخاطبة الشخص ومواجهته بالكلامإقبال من المخاطب عليه، وتأنيس له، فقطع عنهم مواجهته لهم بالخطاب، لكثرة ما صدر عنهم من المخالفات. وقد تضمنتهذه الآيات الكريمة فصولاً عظيمة، ومحاورات كثيرة، وذلك أن موسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، شافههم بأن الله تعالى يأمرهمبذبح البقرة، وذلك امتحان من الله تعالى لهم، فلم يبادروا لامتثال أمر الله تعالى، وأخرجوا ذلك مخرج الهزؤ، إذ لميفهموا سر الأمر. وكان ينبغي أن يبادروا بالامتثال، فأجابهم موسى باستعاذته بالله الذي أمره أن يكون ممن جهل، فيخبر عنالله بما لم يأمره به، فردّ عليهم بأن استعمال الهزؤ في التبليغ عن الله تعالى، وفي غيره، وهو يستعيذ منه،فرجعوا إلى قوله، وتعنتوا في البقرة، وفي أوصافها، وكان يجزئهم أن يذبحوا بقرة، إذ المأمور به بقرة مطلقة، فسألوا ماهي؟ وسألوا موسى أن يدعو الله تعالى أن يبينها لهم، إذ كان دعاؤه أقرب للإجابة من دعائهم، فأخبر عن اللهتعالى بسنها. ثم خاف من كثرة سؤالهم، ومن تعنتهم، كما جاء، إنما أهلك بني إسرائيل كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم،فبادر إلى أمرهم بأن يفعلوا ما يؤمرون، حتى قطع سؤالهم، فلم يلتفتوا إلى أمره، وسألوا أن يسأل الله تعالى ثانياًعن لونها، إذ قد أخبروا بسنها، فأخبرهم عن الله تعالى بلونها، ولم يأمرهم ثانياً أن يفعلوا ما يؤمرون به، إذعلم منهم تعنتهم، لأنهم خالفوا أمر الله أولاً في قوله: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً }، وخالفوا أمر موسىثانياً في قوله: {فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ }. فلم يكن إلا أن أبقاهم على طبيعتهم من كثرة السؤال. فسألوا ثالثاً أنيسأل الله عنها، فأخبرهم عن الله تعالى بحالها بالنسبة إلى العمل وباقي الأوصاف التي ذكرها، فحينئذ صرحوا بأن موسى جاءبالحق الواضح الذي بين أمر هذه البقرة، فالتمسوها حتى حصلوها وذبحوها امتثالاً لأمر الله تعالى، وذلك بعد ترديد كثير وبطءعظيم، وقبل ذلك ما قاربوا ذبحها، بل بقوا متطلبين أشياء ليتأخر عنهم تحصيلها وذبحها. ثم أخبر تعالى عنهم بقتلالنفس، وتدافعهم فيمن قتلها، واختلافهم في ذلك، فأمروا بأن يضربوا ذلك القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة، فضربوه فحيـي بإذن الله،وانكشف لهم سرّ أمر الله بذبح البقرة، وأنه ترتب على ذلك من الأمر المعجز الخارق، ما يحصل به العلم الضروريالدال على صدق موسى عليه السلام، وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. ثم بين تعالى أن مثل هذ الإحياء يحيـي الموتى،إذ لا فرق بين الإحياءين في مطلق الإحياء. ثم أخبر تعالى بأنه يريهم آياته، لينتج عن تلك الإراءة كونهم يصيرونمن أولي العقل، الناظرين في عواقب الأمور، المفكرين في المعاد. ثم أخبر تعالى بعد ذلك أنهم على مشاهدتهم هذا الخارقالعظيم، ورؤيتهم الآيات قبل ذلك، لم يتأثروا لذلك، بل ترتب على ذلك عكس مقتضاه من القسوة الشديدة، حتى شبه قلوبهمبالحجارة، أو هي أشد من الحجارة. ثم استطرد لذكر الحجارة بالتقسيم الذي ذكره، على أن الحجارة تفضل قلوبهم في كونبعضها يتأثر تأثيراً عظيماً، بحيث يتحرك ويتدهده، وكون بعضها يتشقق فيتأثر تأثيراً قليلاً، فينبع منه الماء، وكون بعضها خلق منفرجاًتجري منه الأنهار، وقلوبهم على سجية واحدة، لا تقبل موعظة، ولا تتأثر لذكري، ولا تنبعث لطاعة. ثم ختم ذلك بأنهتعالى لا يغفل عما اجترحوه في دار الدنيا، بل يجازيهم بذلك في الدار الأخرى. وكان افتتاح هذه الآيات بأن اللهتعالى يأمر، واختتامها بأن الله لا يغفل. فهو العالم بمن امتثل، وبمن أهمل، فيجازي ممتثل أمره بجزيل ثوابه، ومهمل أمرهبشديد عقابه.

{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } * { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } * { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } * { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } * { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } * { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[عدل]

الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب، تعالقاً قوياً، وهو أشدّ من الرجاء، لأنه لايحدث إلا عن قوة رغبة وشدّة إرادة، وإذا اشتدّ صار طمعاً، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء. يقال: طمع يطمع طمعاًوطماعة وطماعية مخففاً، كطواعية، قال الشاعر:

طمــاعيــة أن يغفــر الــذنب غــافره

واسم الفاعل: طمع وطامع، ويعدّي بالهمزة، ويقال: طامعه مطامعه،ويقال: طمع بضم الميم، كثر طعمه، وضدّ الطمع: اليأس، قال كثير:

لا خير في الحب وقفاً لا يحركه عوارض اليأس أو يرتاجه الطمع

ويقال: امرأة مطماع، أي تطمع ولا تمكن، وقد توسع في الطمع فسمى بهرزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بإطماعهم، أي أرزاقهم، وهو من وضع المصدر موضع المفعول. الكلام: هو القول الدال علىنسبة إسنادية مقصودة لذاتها، ويطلق أيضاً على الكلمة، ويعبر به أيضاً عن الخط والإشارة، وما يفهم من حال الشيء. وهليطلق على المعاني القائمة بالذهن التي يعبر عنها بالكلام؟ في ذلك خلاف، وتقاليبه الست موضوعة، وترجع إلى معنى القوة والشدة،وهي: كلم، كمل، لكم، لمك، ملك، مكل. التحريف: إمالة الشيء من حال إلى حال، والحرف: الحد المائل. التحديث: الإخبار عنحادث، ويقال منه يحدث، وأصله من الحدوث، وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالث بالباء،فيقال: حدثت زيداً عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمن معنى أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين، فيتعدى إلىثلاثة، وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى ثلاثة غير: أعلم، وأرى ونبأ، وأما حدّثفقد أنشدوا بيت الحارث بن حلزة:

أو منعتم ما تسألون فمن حدثتموه له علينا العلاء

وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة، ويحتمل أن يكون التقدير: حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج سيبويه قوله:ونبئت عبد الله، أي عن عبد الله، مع احتمال أن يكون ضمن نبئت معنى: أعلمت، لكن رجح عنده حذف حرفالجر على التضمين. وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف منه الحرف، لم يكن فيه دليلعلى إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة بنفسه، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك، إلا أن يثبت من لسان العرب. الفتح:القضاء بلغة اليمن،

{ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ }

. والأذكار: فتح على الإمام، والظفر:

{ فَقَدْ جَاءكُمُ ٱلْفَتْحُ }

. قال الكلبي: وبمعنى القصص.قال الكسائي: وبمعنى التبيين. قال الأخفش: وبمعنى المن. وأصل الفتح: خرق الشيء، والسد ضده. المحاجة: من الاحتجاج، وهو القصد للغلبة،حاجه: قصد أن يغلب. والحجة: الكلام المستقيم، مأخوذ من محجة الطريق. أسر الشيء: أخفاه، وأعلنه: أظهره. الأميّ: الذي لايقرأ في كتاب ولا يكتب، نسب إلى الأم لأنه ليس من شغل النساء أن يكتبن أو يقرأن في كتاب، أولأنه بحال ولدته أمه لم ينتقل عنها، أو نسب إلى الأمة، وهي القامة والخلقة، أو إلى الأمة، إذ هي ساذجةقبل أن تعرف المعارف. الأماني: جمع أمنية، وهي أفعولة، أصله: أمنوية، اجتمت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء،وأدغمت الياء في الياء، وهي من منى، إذا قدّر، لأن المتمني يقدر في نفسه ويحزر ما يتمناه، أو من تمنى:أي كذب. قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته. أي اختلقته. وقال عثمان: ماتمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت، أو من تمني إذا تلا، قال تعالى:

{ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِى أُمْنِيَّتِهِ }

،أي إذا تلا وقرأ، وقال الشاعر:

تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر

والتلاوة والكذب راجعان لمعنى التقدير، فالتقدير أصله، قال الشاعر:

ولا تقولن لشيء سوف أفعله حتى تبين ما يمنى لك الماني

أي يقدر، وجمعها بتشديد الياء لأنه أفاعيل. وإذا جمع على أفاعل خففت الياء، والأصل التشديد،لأن الياء الأولى في الجمع هي الواو التي كانت في المفرد التي انقلبت فيه ياء، ألا ترى أن جمع أملودأماليد؟ ويل: الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم. وأل مصنوع، ولم يجيء من هذه المادةالتي فاؤها واو وعينها ياء إلا: ويل، وويح، وويس، وويب، ولا يثني ولا يجمع. ويقال: ويله، ويجمع على ويلات. قال:

فقـالت لـك الويـلات إنك مـرجلي

وإذا أضيف ويل، فالأحسن فيه النصب، قال تعالى:

{ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }

.وزعم بعض أنه إذا أضيف لا يجوز فيه إلا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع، قال: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ }، ويجوز النصب،قال:

فـويـلاً لتيـم مـن سرابيلهـا الخضـر

والويل: معناه الفضيحة والحسرة، وقال الخليل: الويل: شدة الشر، وقال المفضل وابن عرفة: الويل:الحزن، يقال: تويل الرجل: دعا بالويل، وإنما يقال ذلك عند الحزم والمكروه. وقال غيره: الويل: الهلكة، وكل من وقع فيهلكة دعا بالويل، وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع، وقد يكون ترحماً، ومنه:

ويــل أمــه مسعــر حــرب

الأيدي: جمع يد، ويدمما حذف منه اللام، ووزنه فعل، وقد صرح بالأصل. قالوا: يدي، وقد أبدلوا من الياء الأولى همزة، قالوا: قطع اللهأدية، وأبدلوا منها أيضاً جيماً، قالوا: لا أفعل ذلك جد الدهر، يريدون يد الدهر، وهي حقيقة في الجارحة، مجاز فيغيرها. وأما الأيادي فجمع الجمع، وأكثر استعمال الأيادي في النعم، والأصل: الأيدي، استثقلنا الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وقبلهاقسمة، فانقلبت واواً، فصار الأيد. وكما قيل في ميقن موقن، ثم إنه لا يوجد في لسانهم واو ساكنة قبلها ضمةفي اسم، وإذا أدى القياس إلى ذلك، قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة قبلها كسرة، فصار الأيدي. وقد تقدم الكلامعلى اليد عند الكلام على قوله:

{ لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا }

. الكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر، ومنه:بلى من كسب سيئة، والفعل منه يجيء متعدياً إلى واحد، تقول: كسبت مالاً، وإلى اثنين تقول: كسبت زيداً مالاً. وقالابن الأعرابي؛ يقال: كسب هو نفسه وأكسب غيره، وأنشد:

فــأكسبنــي مــالاً وأكسبتــه حمــداً

المسّ: الإصابة، والمسّ: الجمع بين الشيئين علىنهاية القرب، واللمس: مثله لكن مع الإحساس، وقد يجيء المسّ مع الإحساس. وحقيقة المس واللمس باليد. ونقل من الإحساس إلىالمعاني مثل:

{ أَنّى مَسَّنِىَ ٱلشَّيْطَـٰنُ }

{ يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ }

، ومنه سمي الجنون مساً، وقيل: المسّ واللمس والجسّ متقارب،إلا أن الجسّ عام في المحسوسات، والمسّ فيما يخفى ويدق، كنبض العروق، والمسّ واللمس بظاهر البشرة، والمسّ كناية عن النكاحوعن الجنون. المعدود: اسم مفعول من عدّ، بمعنى حسب، والعدد هو الحساب. الإخلاف: عدم الإيفاء بالشيء الموعود. بلى: حرف جوابلا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى، ومعناها: ردّه، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام، أو لم يكن،وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل: هل يستطيع زيد مقاومتي؟ إذا كان منكراً لمقاومة زيد له، لما كان معناه النفي،ومما وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم:

بل سوف نبكيهم بكل مهند ونبكي نميراً بالرماح الخواطر

وقعت جواباً للذي قال له، وهو الأخطل:

ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر بقتلي أصيبت من نمير بن عامر

وبلى عندنا ثلاثي الوضع، وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف خلافاًللكوفيين. السيئة: فيعلة من ساء يسوء مساءة، إذا حزن، وهي تأنيث السيـىء، وقد تقدّم الكلام على هذا الوزن عند الكلامعلى قوله:

{ أَوْ كَصَيّبٍ }

، فأغنى عن إعادته. {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم }: ذكروا في سبب نزول هذه الآيةأقاويل: أحدها: أنها نزلت في الأنصار، وكانوا حلفاء لليهود، وبينهم جوار ورضاعة، وكانوا يودون لو أسلموا. وقيل: كان النبي صلىالله عليه وسلم والمؤمنون يودون إسلام من بحضرتهم من أبناء اليهود، لأنهم كانوا أهل كتاب وشريعة، وكانوا يغضبون لهم ويلطفونبهم طمعاً في إسلامهم. وقيل: نزلت فيمن بحضرة النبي من أبناء السبعين الذين كانوا مع موسىعليه السلام في الطور، فسمعوا كلام الله، فلم يمتثلوا أمره، وحرّفوا القول في أخبارهم لقومهم، وقالوا: سمعناه يقول إن استطعتمأن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا. وقيل: نزلت في علماء اليهود الذين يحرفون التوراة، فيجعلون الحلال حراماً،والحرام حلالاً، اتباعاً لأهوائهم. وقيل: إن النبي قال: لا يدخل علينا قصبة المدينة إلا مؤمن . قالكعب بن الأشرف ووهب بن يهوذا وأشباههما: اذهبوا وتجسسوا أخبار من آمن، وقولوا لهم آمنا، واكفروا إذا رجعتم، فنزلت. وقيل:نزلت في قوم من اليهود قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن أنه نبي، لكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلماخلوا، قال بعضهم: أتقرون بنبوّته وقد كنا قبل نستفتح به؟ فهذا هو الذي فتح الله عليهم من علمه. وقيل: نزلتفي قوم من اليهود كانوا يسمعون الوحي، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه. وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عنأن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله ، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أنيؤمنوا، لأن الطمع إنما يصح في المستقبل، والضمير في {أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } لليهود. والمعنى: استبعد إيمان اليهود، إذ قدتقدّم لأسلافهم أفاعيل، وجزى أبناؤهم عليها. فبعيد صدور الإيمان من هؤلاء، فإن قيل: كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريفحصول اليأس من إيمان الباقين؟ قيل: قال القفال: يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونهمن قوم يحرفون عناداً؟ فإنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه، والمقلدون يقبلون ذلك منهم، فلا يلتفتون إلى الحق.وقيل: إياسهممن إيمان فرقة بأعيانهم. والهمزة في أفتطعمون للاستفهام، وفيها معنى التقرير، كأنه قال: قد طمعتم في إيمان هؤلاء وحالهمما ذكر. وقيل: فيه ضرب من النكير على الرغبة في إيمان من شواهد امتناعه قائمة. واستبعد إيمانهم، لأنهم كفروا بموسى،مع ما شاهدوا من الخوارق على يديه، ولأنهم ما اعترفوا بالحق، مع علمهم، ولأنهم لا يصلحون للنظر والاستدلال. والخطاب فيأفتطعمون، للنبي خاصة. خاطبه بلفظ الجمع تعظيماً له، قاله ابن عباس ومقاتل، أو للمؤمنين، قاله أبوالعالية وقتادة، أو للأنصار، قاله النقاش، أو لرسول الله والمؤمنين، أو لجماعة من المؤمنين، أو لجماعةمن الأنصار. والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها، والتقدير: أفتطعمون، فالفاء للعطف، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت عليها. والزمخشري يزعمأن بين الهمزة والفاء فعل محذوف، ويقر الفاء على حالها، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها، وهو خلافمذهب سيبويه، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها، نحو قوله:

{ أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى ٱلْحِلْيَةِ }

{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ }

{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ }

. أن يؤمنوا معمول لتطعمون على إسقاط حرف الجر، التقدير: في أن يؤمنوا، فهو فيموضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء،وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم. {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَـٰمَ ٱللَّهِ }، الفريق:قيل: الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد ، قاله مجاهد والسدّي. وقيل: جماعة من اليهود كانوايسمعون الوحي، إذا نزل على رسول الله فيحرفونه، قصد أن يدخلوا في الدين ما ليس فيه،ويحصل التضاد في أحكامه. وقيل: كل من حرف حكماً، أو غيره، كفعلهم في آية الرجم ونحوها. وقيل: هم السبعون الذينسمعوا مع موسى عليه السلام كلام الله، ثم بدلوا بعد ذلك، وقد أنكر أن يكونوا سمعوا كلام الله تعالى. قالابن الجوزي: أنكر ذلك أهل العلم، منهم: الترمذي، صاحب النوادر، وقال: إنما خص موسى عليه السلام بالكلام وحده. وكلام اللهالذي حرفوه، قيل: هو التوراة، حرفوها بتبديل ألفاظ من تلقائهم، وهو قول الجمهور. وقيل: بالتأويل، مع بقاء لفظ التوراة، قالهابن عباس. وقيل: هو كلام الله الذي سمعوه على الطور. وقيل: ما كانوا يسمعونه من الوحي المنزل على رسول الله. وقرأ الأعمش: كلم الله، جمع كلمة، وقد يراد بالكلمة: الكلام، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقد يرادالمفردات، فيحرفون المفردات، فتتغير المركبات، وإسنادها بتغير المفردات. {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ }: التحريف الذي وقع، قيل: في صفة رسول الله صلىالله عليه وسلم، فإنهم وصفوه بغير الوصف الذي هو عليه، حتى لا تقوم عليهم به الحجة. وقيل: في صفته، وفيآية الرجم. {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي من بعد ما ضبطوه وفهموه، ولم تشتبه عليهم صحته. وما مصدرية، أيمن بعد عقلهم إياه، والضمير في عقلوه عائد على كلام الله. وقيل: ما موصولة، والضمير عائد عليها، وهو بعيد.{وَهُمْ يَعْلَمُونَ }: ومتعلق العلم محذوف، أي أنهم قد حرفوه، أو ما في تحريفه من العقاب، أو أنه الحق، أوأنهم مبطلون كاذبون. والواو في قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ }، وفي قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ }، واو الحال. ويحتمل أن يكونالعامل في الحال قوله: {أفتطعمون}؟ ويحتمل أن يكون: {ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ }. فعلى الأول يكون المعنى: أفيكون منكم طمع فيإيمان اليهود؟ وأسلافهم من عادتهم تحريف كلام الله، وهم سالكو سننهم ومتبعوهم في تضليلهم، فيكون الحال قيداً في الطمع المستبعد،أي يستبعد الطمع في إيمان هؤلاء وصفتهم هذه. وعلى الثاني يكون المعنى استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء إيمان،وقد كان أسلافهم على ما نص من تحريف كلام الله تعالى. فعلى هذا يكون الحال قيداً في أيمانهم. وعلى كلاالتقديرين، فكل منهما، أعني من: أفتطعمون، ومن يؤمنوا، مقيد بهذه الحال من حيث المعنى. وإنما الذي ذكرناه تقتضيه صناعة الإعراب.وبيان التقييد من حيث المعنى أنك إذا قلت: أتطمع أن يتبعك زيد؟ وهو متبع طريقة أبيه، فاستبعاد الطمع مقيد بهذهالحال، ومتعلق الطمع، الذي هو الاتباع المفروض وقوعه، مقيد بهذه الحال. فمحصوله أن وجود هذه الحال لا يجامع الاتباع، ولايناسب الطمع، بل إنما كان يناسب الطمع ويتوقع الاتباع، مع انتفاء هذه الحال. وأما العامل في قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ }،فقوله: {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ }، أي يقع التحريف منهم بعد تعقله وتفهمه، عالمين في تحريفه من شديد العقاب، ومع ذلك فهميقدمون على ذلك، ويجترئون عليه. والإنكار على العالم أشدّ من الإنكار على الجاهل، لأن عند العالم دواعي الطاعة، لما علممن ثوابها، وتواني المعصية لما علم من عقابها. وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ }، قوله: {عَقَلُوهُ}، والظاهر القول الأول، وهو قوله: {يُحَرّفُونَهُ }. {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا }: قرأ ابن السميفع: لاقوا،قالوا: على التكثير. ولا يظهر التكثير، إنما هو من فاعل الذي هو بمعنى الفعل المجرّد. فمعنى لاقوا، ومعنى لقوا واحد،وتقدّم شرح مفردات هذه الجملة الشرطية. ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة منبئة عن نوع من قبائح اليهود الذين كانوافي زمان رسول الله ، وكاشفة عما أكنوه من النفاق. ويحتمل أن تكون جملة حالية معطوفة علىقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ } الآية، أي كيف يطمع في إيمانهم، وقد كان من أسلافهم من يحرّف كلام الله،وهؤلاء سالكو طريقتهم، وهم في أنفسهم منافقون، يظهرون موافقتكم إذا لقوكم، وأنهم منكم وهم في الباطن كفار. فمن جمع بينهاتين الحالتين، من اقتدائهم بأسلافهم الضلاّل، ومنافقتهم للمؤمنين، لا يطمع في إيمانهم. والذين آمنوا هنا هم: أبو بكر وعمر وجماعةمن المؤمنين، قاله جمهور المفسرين. وقال بعضهم: المؤمنون هنا جماعة من اليهود آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، والضمير في لقوا الجماعةمن اليهود غير معينة باقين على دينهم، أو لجماعة منهم أسلموا ثم نافقوا، أو لليهود الذين أمرهم رؤساؤهم من بنيقريظة أن يدخلوا المدينة ويتجسسوا أخبار النبي ، قالوا: ادخلوا المدينة وأظهروا الإيمان، فإنه نهى أن يدخلالمدينة إلا مؤمن. {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } أي: وإذا انفرد بعضهم ببعض، أي الذين لم ينافقوا إلىمن نافق. وإلى، قيل: بمعنى مع، أي وإذا خلا بعضهم مع بعض، والأجود أن يضمن من خلا معنى فعل يعدّيبإلى، أي انضوى إلى بعض، أو استكان، أو ما أشبهه، لأن تضمين الأفعال أولى من تضمين الحروف. {قَالُواْ }: أيذلك البعض الخالي ببعضهم. {أَتُحَدّثُونَهُم }: أي قالوا عاتبين عليهم، أتحدّثون المؤمنين؟ {بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ }: وما موصولة، والضميرالعائد عليها محذوف تقديره: بما فتحه الله عليكم. وقد جوّزا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أيبفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول، والذي حدّثوا به هو ما تكلم به جماعة من اليهود من صفة رسول الله، قاله أبو العالية وقتادة، أو ما عذب به أسلافهم، قاله السدي. وقال مجاهد: إن رسول الله قال لبني قريظة: يا إخوة الخنازير والقرد . فقال الأحبار لأتباعهم: ما عرف هذا إلا من عندكم.وقال ابن زيد: كانوا إذا سئلوا عن شيء قالوا: في التوراة كذا وكذا، فكره ذلك أحبارهم، ونهوا في الخلوة عنه.فعلى ما قاله أبو العالية يكون الفتح بمعنى الإعلام والإذكار، أي أتحدثونهم بما أعلمكم الله من صفة نبيهم؟ ورواه الضحاكعن ابن عباس. وعلى قول السدي: يكون بمعنى الحاكم والقضاء، أي أتحدثونهم بما حكم الله به على أسلافكم وقضاء منتعذيبهم؟ وعلى قول ابن زيد يكون بمعنى: الإنزال، أي أتحدثونهم بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ وقال الكلبي: المعنى بماقضى الله عليكم، وهو راجع لمعنى الإنزال. وقيل: المعنى بما بين الله لكم من أمر محمد ،وصفته، وشريعته، وما دعاكم إليه من الإيمان به، وأخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه ونصرته. وقيل: المعنى بما منّ الله عليكممن النصر على عدوّكم، ومن تأويل كتابكم. {لِيُحَاجُّوكُم }: هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار،إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله: {أَتُحَدّثُونَهُم }، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنهاللسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكيأكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لام: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللامكي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها منكي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أناللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر، لأن المحاجة ليست علة للفتح، إنما المحاجة ناشئة عن التحديث، إلا أن تكون اللاملام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: إن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به،فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير: { فَٱلْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }. لم يلتقطوه لهذا الأمر،إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوّز، لأن الناشىء عن شيء، وإنلم يقصد، كالعلة. ولا فرق بين أن يجعلها متعلقة بقوله: أتحدثونهم، وبين: بما فتح، إلا أن جعلها متعلقة بالأول أقربوساطة، كأنه قال: أتحدثونهم فيحاجوكم. وعلى الثاني يكون أبعد، إذ يصير المعنى: فتح الله عليكم به، فحدثتموهم به، فحاجوكم. فالأولىجعله لأقرب وساطة، والضمير في {بِهِ }عائد إلى ما من قوله: {بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ }، وبهذا يبعد قول من ذهبإلى أنها مصدرية، لأن المصدرية لا يعود عليها ضمير. {عِندَ رَبّكُمْ } معمول لقوله: ليحاجوكم، والمعنى: ليحاجوكم به فيالآخرة. فكنى بقوله: {عِندَ رَبّكُمْ} عن اجتماعهم بهم في الأخرة، كما قال تعالى: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }. وقيل: معنى عند ربكم: في ربكم، أي فيكونون أحق به جعل عند بمعنى في. وقيل: هو على حذف مضاف،أي ليحاجوكم به عند ذكر ربكم. وقيل معناه: إنه جعل المحاجة في كتابكم محاجة عند الله، ألا تراك تقول هوفي كتاب الله كذا، وهو عند الله كذا، بمعنى واحد؟ وقيل: هو معمول لقوله: {بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ عِندَ رَبّكُمْ}، أي من عند ربكم ليحاجوكم، وهو بعث النبي ، وأخذ ميثاقهم بتصديقه. قال ابن أبي الفضل:وهذا القول هو الصحيح، لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدنيا. انتهى. والأولى حمل اللفظ على ظاهره من غيرتقديم ولا تأخير، إذا أمكن ذلك، وقد أمكن بجعل قوله: {عِندَ رَبّكُمْ } على بعض المعاني التي ذكرناها. وأما علىما ذهب إليه هذا الذاهب، فبعيد جداً، لأن ليحاجوكم متعلق بقوله: أتحدثونهم، وعند ربكم متعلق بقوله: بما فتح الله عليكم،فتكون قد فصلت بين قوله: عند ربكم، وبين العامل فيه الذي هو: فتح الله عليكم، بقوله: ليحاجوكم، وهو أجنبي منهما،إذ هو متعلق بقوله: أتحدثونهم على الأظهر، ويبعد أن يجيء هذا التركيب هكذا في فصيح الكلام، فكيف يجيء في كلامالله الذي هو أفصح الكلام؟. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }: ظاهره أنه مندرج تحت قول من قال: أتحدثونهم بما يكون حجةلهم عليكم؟ أفلا تعقلون فلا تحدثونهم بذلك؟ وقيل: هو خطاب من الله للمؤمنين، أي أفلا تعقلون أن هؤلاء اليهود لايؤمنون، وهم على هذه الصفات الذميمة، من اتباع أسلافهم المحرّفين كلام الله، والتقليد لهم فيما حرّفوه، وتظاهرهم بالنفاق، وغير ذلكمما نعى عليهم ارتكابه؟. {أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }: هذا توبيخ من اللهلهم، أي إذا كان علم الله محيطاً بجميع أفعالهم، وهم عالمون بذلك، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بمايعلم الله منهم خلافه، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك والأولى حمل ما يسرون وما يعلنونعلى العموم، إذ هو ظاهر اللفظ. وقيل: الذي أسرّوه الكفر، والذي أعلنوه الإيمان. وقيل: العداوة والصداقة. وقيل: قولهم لشياطينهم إنامعكم، وقولهم للمؤمنين آمنا. وقيل: صفة النبي ، وتغيير صفته إلى صفة أخرى، حتى لا تقوم عليهمالحجة. وقرأ ابن محيصن: أو لا تعلمون بالتاء، قالوا: فيكون ذلك خطاباً للمؤمنين، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السروالعلانية، ويحتمل أن يكون خطاباً لهم، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلىالغيبة، إهمالاً لهم، فيكون ذلك من باب الالتفات، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه. وقد تقدم لنا أن مثل {أَفَلاَتَعْقِلُونَ }، {أَوْ لاَ * يَعْلَمُونَ }، أن الفاء والواو وفيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنىبهمزة الاستفهام، فقدّمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. و{أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ }: يحتمل أن يكون مما سدتفيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسدالمفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعولواحد، ويجعل الثاني محذوفاً، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرّونه ويعلنونه. وظاهر هذا الاستفهامأنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك، أي بأن الله يعلم السر والعلانية، أي قد علموا ذلك، فلا يناسبهم النفاق والتكذيببما يعلمون أنه الحق. وقيل: ذلك تقريع لهم وحث على التفكر، فيعلمون بالتفكر ذلك. وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة،وفيها ما يدل على نبوّة رسول الله ، لزمهم الاعتراف بالربوبية، ودل على أن المعصية، مع علمهمبها، أقبح. وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله كان يغضي عنالمنافقين، مع أن الله أظهره على نفاقهم، وذلك رجاء أن يؤمنوا، فأغضى عنهم، حتى قبل الله منهم من قبل، وأهلكمن أهلك. واختلف، هل هذا الحكم باق، أو نسخ؟ فقال قوم: نسخ، لأنه كان يفعل ذلك ،تأليفاً للقلوب. وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، فلا حاجة إلى التأليف. وقال قوم: هو باق إلى الآن، لأن أهلالكفر أكثر من أهل الإيمان، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم، والأول هو الأشهر. وفي قوله: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَايُعْلِنُونَ }، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات، بل يعلم الكليات. {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ }: ظاهر الكلامأنها نزلت في اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه، قاله ابن عباس. وقيل: في المجوس، قاله عليّ بن أبيطالب. وقيل: في اليهود والمنافقين. وقال عكرمة والضحاك: في نصارى العرب، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة. وقيل: في قوم منأهل الكتاب، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا أمّيين. وقيل: في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول، فكتبوا كتابهم وقالوا: هذامن عند الله، فسموا: أمّيين، لجحودهم الكتاب، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئاً. والقول الأول هو الأظهر، لأن سياق الكلامإنما هو مع اليهود، فالضمير لهم. ومناسبة ارتباط هذه الآية: أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتابالله، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم، ثم بين أمر الفرقة الثانية، المنافقين، وأمر الثالثة: المجادلة، أخذ يبين أمر الفرقةالرابعة، وهي: العامة التي طريقها التقليد، وقبول ما يقول لهم. قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما ومن هؤلاء اليهود المذكورون، فالآيةمنبهة على عامتهم وأتباعهم، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم. وقرأ أبو حياة وابن أبي عبلة: أميون، بتخفيف الميم، وقدتقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، أي لا يحسنون الكتب، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها.و{لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ }: جملة في موضع الصفة، والكتاب هو التوراة. {إِلاَّ أَمَانِىَّ }: استثناء منقطع، لأن الأماني ليستمن جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو أحد فسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنهلو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيماً؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهيلغة أهل الحجاز والوجه الثاني: الاتباع على البدل بشرط التأخر، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين، والمعنى: إلا ماهم عليه من أمانيهم، وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو مايمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فنقلوهاعلى التقليد، قاله ابن عباس ومجاهد، واختاره الفراء. وقيل: معناه إلا تلاوة، أي لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون علىما يسمعونه يتلى عليهم. قال أبو مسلم: حمله على تمني القلب أولى، لقوله تعالى:

{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }

. وقرأ الجمهور: أماني، بالتشديد. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج وابن جماز، عن نافعوهارون، عن أبي عمرو: أماني بالتخفيف، جمعه على أفاعل، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد. قال أبو حاتم: كلما جاء من هذا النحو واحده مشدد، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل: أناني، وأغاني، وأماني، ونحوه. قال الأخفش هذا، كمايقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح، وقال النحاس: الحذف في المعتل أكثر، كما قال:

وهل رجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع

{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ }، إن هنا: هي النافية، بمعنى ما،وهم: مرفوع بالابتداء، وإلا يظنون: في موضع الخبر، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية، فدخلت على المبتدأ والخبر،لم يعمل عمل ما الحجازية، وقد أجاز ذلك بعضهم، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره، والصحيح أنه لا يجوز، لأنهلم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو:

إن هو مستولياً على أحد إلا على أضعف المجانين

وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما، وليس في كتابه نص على ذلك. ومعنىيظنون، قال مجاهد: يكذبون، وقال آخرون: يتحدثون، وقال آخرون: يشكون، وهو التردد بين أمرين، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما،والأولى حمله على موضوعه الأصلي، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر، إذ لا يمكن حمله على اليقين، ولا يلزم منالترجيح عندهم أن يكون ترجيحاً في نفس الأمر. وقال مقاتل: معناه ليسوا على يقين، إن كذب الرؤساء، أو صدقوا، بايعوهم.انتهى كلامه. وأتى بالخبر فعلاً مضارعاً، ولم يأت باسم الفاعل، لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئاً فشيئاً، فليسواثابتين على ظن واحد، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم. وفي هذه الآية دليل على أنالمعارف كسببية، وعلى بطلان التقليد، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز، وعلىأن القول بغير دليل باطل، وعلى أن ما تساوي وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي، وتمسكبها أيضاً منكرو القياس، وخبر الواحد، لأنهما لا يفيدان العلم. {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ } الآية. قيل: نزلتفي الذين غيروا صفة رسول الله ، وبدّلوا نعته، فجعلوه آدم سبطاً طويلاً، وكان في كتابهم علىالصفة التي هو بها، فقالوا لأصحابهم وأتباعهم: انظروا إلى صفة هذا النبي الذي يبعث في آخر الزمان، ليس يشبه نعتهذا، وكانت الأحبار من اليهود يخافون أن يذهب مأكلتهم بإبقاء صفة النبي على حالها، فلذلك غيروها.وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم، إذا آمن الناس كلهم، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوها منالتوراة، وكتبوا بأيديهم كتاباً، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا. وقيل: نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي، ولم يتبعواكتاباً، بل كتبوا بأيديهم كتاباً، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله. وقال أبو مالك:نزلت في عبد الله بن سعد بن سرح، كاتب النبي ، كان يغيره فارتد. وقد تقدم شرحويل عند الكلام على المفردات، وذكر عن عثمان، عن النبي : أنه جبل من نار جهنم، وذكرأن أبا سعيد روى: أنه واد في جهنم بين جبلين، يهوي فيه الهاوي، وذكر أن سفيان وعطاء بن يسار روياأنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار. وحكى الزهراوي وجماعة: أنه باب من أبواب جهنم. وقيل: هو صهريجفي جهنم. وقيل، عن سعيد بن جبير، إنه واد في جهنم، لو سجرت فيه جبال الدنيا لانماعت من حره، ولوصح في تفسير الويل شيء عن رسول الله ، لوجب المصير إليه. وقد تكلمت العرب في نظمهاونثرها بلفظة الويل قبل أن يجيء القرآن، ولم تطلقه على شيء من هذه التفاسير، وإنما مدلوله ما فسره أهل اللغة،وهو نكرة فيها معنى الدعاء، فلذلك جاز الابتداء بها، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً،وذكرناها في كتاب (منهج المسالك) من تأليفنا. والكتابة معروفة، ويقال أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم. والكتاب هناقيل: كتبوا أشياء اختلقوها، وأحكاماً بدلوها من التوراة حتى استقر حكماً بينهم. وقيل: كتبوا في التوراة ما يدل على خلافصفة رسول الله ، وبنوها في سفهائهم، وفي العرب، وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل،وصار سفهاؤهم، ومن يأتيهم من مشركي العرب، إذا سألوهم عن صفة رسول الله ، يقولون: ما هوهذا الموصوف عندنا في التوراة المبدلة المغيرة، ويقرؤوها عليهم ويقولون لهم: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ليشتروا بهثمناً قليلاً. بأيديهم: تأكيد يرفع توهم المجاز، لأن قولك: زيد يكتب، ظاهره أنه يباشر الكتابة، ويحتمل أن ينسب إليه علىطريقة المجاز، ويكون آمراً بذلك، كما جاء في الحديث أن رسول الله كتب، وإنما المعنى: أمربالكتابة، لأن الله تعالى قد أخبر أنه النبي الأمي، وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب. وقد قال تعالى:

{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَـٰبَ ٱلْمُبْطِلُونَ }

. ونظير هذا التأكيد {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ *وَيَقُولُونَ * بِأَفْوٰهِهِم }، وقوله:

نظـرت فلـم تنظـر بعينيك منظـراً

فهذه كلها أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولرفعالمجاز الذي كان يحتمله. وفي هذا التأكيد أيضاً تقبيح لفعلهم، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا همالذين تعاطوا ذلك بأنفسهم، واجترحوه بأيديهم. وقال ابن السرّاح: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تلقائهم، ومن عندأنفسهم، من غير أن ينزل عليهم. انتهى كلامه. ولا يدل على ما ذكر، لأن مباشرة الشيء باليد لا تقتضي الاختلاق،ولا بد من تقدير حال محذوفة يدل عليها ما بعدها، التقدير: يكتبون الكتاب بأيديهم محرّفاً، أو نحوه مما يدل علىهذا المعنى لقوله بعد ثم: {يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }، إذ لا إنكار على من يباشر الكتاب بيده إلاإذا وضعه غير موضعه، فلذلك قدرنا هذه الحال. {ثُمَّ يَقُولُونَ }: أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ماقرىء لهم، ومعمول القول هذه الجملة التي هي: {هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ }، علة في القول، وهي لام كي،وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق بـ يقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقةبالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له. {بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا }، به: متعلق بقوله: ليشتروا،والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: {هَـٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }، وهو المكتوب المحرّف. وتقدّم القول في الاشتراء فيقوله:

{ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }

. والثمن هنا: هو عرض الدنيا، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم، ووصف بالقلة لكونه فانياً،أو حراماً، أو حقيراً، أو لا يوازنه شيء، لا ثمن، ولا مثمن. وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلواوكذبوا على الله، وضموا إلى ذلك حب الدنيا. وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى.وكلاهما منكر، والجمع بينهما أنكر. وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي. {فَوَيْلٌ لَّهُمْمّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }: كتابتهم مقدمة، نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحدمنهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط. فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك. وظاهر الكسب هو ماأخذوه على تحريفهم الكتاب من الحرام، وهو الأليق بمساق الآية. وقيل: المراد بما يكسبون الأعمال السيئة، فيحتاج في كلا القولينإلى اختصاص، لأن ما يكسبون عام، والأولى أن يقيد بما ذكرناه. {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً }سبب نزول هذه الآية: أنهم زعموا أنهم وجدوا في التوراة مكتبواً أن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، إلىأن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، قالوا: إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك. روي ذلك عن ابنعباس. وقيل: إن النبي قال: اليهود من أهل النار قالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال: «كذبتملقد علمتم أنا لا نخلفكم» فنزلت هذه الآية. وروي عنهم أنهم يعذبون سبعة أيام، عدد أيام الدنيا، سبعة آلاف لكلألف يوم، ثم ينقطع العذاب. وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوماً، عدد عبادتهم العجل، وقيل: أربعين يوماً تحلة القسم. وقيل:أربعين ليلة، ثم ينادي: اخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، فنزلت هذه الآية، والضمير في: وقالوا، عائد على الذين يكتبونالكتاب. جمعوا، إلى تبديل كتاب الله وتحريفه، وأخذهم به المال الحرام، وكذبهم على أنه من عند الله، الأخبار بالكذب البحتعن مدة إقامتهم في النار. وقد تقدم أن المس هو الإصابة، أي لن تصيبنا النار إلا أياماً، استثناء مفرّغ، أيلن تمسنا النار أبداً إلا أياماً معدودة، وقد تقدم ذكر العدد في الأيام بأنها سبعة أو أربعون. وقيل: أراد بقوله:معدودة، أي قلائل يحصرها العدّ، لأنها معينة العد في نفسه. ثم أخذ في رد هذه الدعوى والأخبار الكاذبة فقال:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْدًا } أي مثل هذا الإخبار الجزم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهداً بذلك،وأنتم لم تتخذوا به عهداً، فهو كذب وافتراء. وأمر نبيه بأن يرد عليهم بهذا الاستفهام الذيبدل على إنكار ما قالوه. وهمزة الوصل من اتخذ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفهاقال: قل اتخذتم، بفتح اللام، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله: ظرف منصوب باتخذتم، وهي هنا تتعدى لواحد، ويحتمل أنتتعدى إلى اثنين، فيكون الثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف، والعهد هنا: بالميثاق والموعد، وقال ابن عباس معناه: هل قلتم لا إلٰهإلا الله، وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ فعلى التأويل الأول المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذيتدعون؟ وعلى الثاني: هل أسلفتم عند الله أعمالاً توجب ما تدعون؟. {فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِمَا لاَ تَعْلَمُونَ }: هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، كقولك: أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقدتقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنىالشرط؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري: فلن يخلف متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلفالله عهده، كأنه اختار القول الثاني من أن الشرط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية: {فَلَنْ * يَخْلُقُ ٱللَّهُ*عَهْدَهُ }، اعتراض في أثناء الكلام، كأنه يريد أن قوله: {أَمْ تَقُولُونَ } معادل لقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْدًا}، فصارت هذه الجملة، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل، جملة اعتراضية، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وكأنه يقول:أي هذين واقع؟ أإتخاذكم العهد عند الله؟ أم قولكم على الله ما لا تعلمون؟ وأخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينهعلى سبيل التقرير، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم: {عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ * يَعْلَمُونَ }، ونظيره:

{ وَإِنَّا أَوْ وَإِيَّـٰكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }

. وقد علم أيهما على هدى وأيهما هو في ضلال. وقيل: أمهنا منقطعة فيتقدر ببل والهمزة، كأنه قال: بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ وهو استفهام إنكار، لأنه قد وقعمنهم قولهم: على الله ما لا يعلمون، فأنكروا عليهم صدور هذا منهم. وفي قوله: {فَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ } دليلعلى أن الله لا يخلف وعده. واختلف في الوعيد، فذهب الجمهور إلى أنه لا يخلفه، كما لا يخلف وعده. وذهبقوم إلى جواز إخلاف إيعاده، وقالوا: خلاف الوعد قبيحد وإخلاف الوعيد حسن، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.{بَلَىٰ }: حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقاً في نفيقيام زيد. وإذا قلت: بلى، كان نقضاً لذلك النفي. فلما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ }، أجيبوا بقوله: بلىٰ، ومعناها: تمسكمالنار. والمعنى على التأبيد، وبين ذلك بالخلود. {مَن كَسَبَ سَيّئَةً } من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة،والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولاً، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمة بالذين، وهو موصول. والسيئة:الكفر والشرك، قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل: الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسر السيئة بالكبائر، لأنها هي التيتوجب النار، أي يستحق فاعلها النار إن لم تغفر له. {وَأَحَـٰطَتْ بِهِ خَطِيـئَـتُهُ }: قرأ الجمهور بالإفراد، ونافع: خطيئاتهجمع سلامة، وبعض القراء: خطاياه جمع تكسير، والمعنى أنها أخذته من جميع نواحيه. ومعنى الإحاطة به أنه يوافي على الكفروالإشراك، هذا إذا فسرت الخطيئة بالشرك. ومن فسرها بالكبيرة، فمعنى الإحاطة به أن يموت وهو مصر عليها، فيكون الخلود علىالقول الأول المراد به الإقامة، لا إلى انتهاء. وعلى القول الثاني المراد به الإقامة دهراً طويلاً، إذ مآله إلى الخروجمن النار. قال الكلبي: أوثقته ذنوبه. وقال ابن عباس: أحبطت حسناته. وقال مجاهد: غشيت قلبه. وقال مقاتل: أصرّ عليها. وقالالربيع: مات على الشرك. قال الحسن: بكل ما توعد الله عليه بالنار فهو الخطيئة المحيطة. ومن، كما تقدم، لها لفظومعنى، فحمل أولاً على اللفظ، فقال: من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، وحمل ثانياً على المعنى، وهو قوله: {فَأُوْلَـئِكَ }،إلىآخره. وأفرد سيئة لأنه كنى به عن مفرد، وهو الشرك. ومن أفرد الخطيئة أراد بها الجنس ومقابلة السيئة، لأن السيئةمفردة، ومن جمعها فلأن الكبائر كثيرة، فراعى المعنى وطابق به اللفظ. وذهب قوم إلى أن السيئة والخطيئة واحدة، وأن الخطيئةوصف للسيئة. وفرق بعضهم بينهما فقال: السيئة الكفر، والخطيئة ما دون الكفر من المعاصي، قاله مجاهد وأبو وائل والربيع بنأنس. وقيل: إن الخطيئة الشرك، والسيئة هنا ما دون الشرك من المعاصي. قال الزمخشري: وأحاطت به خطيئته تلك، واستولت عليه،كما يحيط العدو، ولم ينقص عنها بالتوبة. انتهى كلامه. وهذا من دسائسه التي ضمنها كتابه، إذ اعتقاد المعتزلة أن منأتى كبيرة، ولم يتب منها، ومات، كان خالداً في النار. وفي قوله: {أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ }: إشارةإلى أن المراد: الكفار، ويدل على ذلك قوله : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون . وقد رتب كونهم أصحاب النار على وجود أمرين: أحدهما، كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجودشرطين لا يترتب على وجود أمرين: أحدهما: كسب السيئة، والآخر: إحاطة الخطيئة. وما رتب على وجود شرطين لا يترتب علىوجود أحدهما، فدل ذلك على أن من لم يكسب سيئة، وهي الشرك، وإن أحاطت به خطيئته، وهي الكبائر، لا يكونمن أصحاب النار، ولا ممن يخلد فيها. ويعني بأصحاب النار: الذين هم أهلها حقيقة، لا من دخلها ثم خرج منها.{وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ }: لما ذكر أهل النار، وما أعد لهم منالهلاك: أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان، وما أعد لهم في الخلود في الجنان. والمراد بالذين آمنوا بأمّة محمد صلى اللهعليه وسلم، ومؤمنوا الأمم قبله، قاله ابن عباس وغيره، وهو ظاهر اللفظ، وقال ابن زيد: هو خاص بالنبي صلى اللهعليه وسلم وأمّته، وقلّ ما ذكر في القرآن آية في الوعيد، إلا وذكرت آية في الوعد. وفائدة ذلك ظهور عدلهتعالى، واعتدال رجاء المؤمن وخوفه، وكمال رحمته بوعده وحكمته بوعيده. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة استبعاد طمع المؤمنين فيإيمان من سبق من آبائه التشريف بسماع كلام الله، ثم مقابلة ذلك بعظيم التحريف، هذا على علم منهم بقبيح ماارتكبوه. وهؤلاء المطموع في إيمانهم هم أبناء أولئك المحرفين، فهم على طريقة آبائهم في الكفر، ثم قد انطووا من حيثالسريرة على مداجاة المؤمنين، بحيث إذا لقوهم أفهموهم أنهم مؤمنون، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، أنكروا عليهم ما يتكلمون بهمع المؤمنين من إخبار بشيء مما في كتبهم، وذلك مخافة أن يحتج المؤمنون عليهم بما في كتابهم، ثم أنكر تعالىعليهم ذلك بأنهم قد علموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم، فلا يناسب ذلك إلا الانقياد إلى كتاب الله، والإخبار بمافيه، واتباع ما تضمنه من الأمر، باتباع رسول الله ، والإيمان بما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراةوالإنجيل، ولكنهم كفروا عناداً وجحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً. ثم لما ذكر حال هؤلاء الذين هم من أهلالعلم، ولم ينتفعوا بعلمهم، ذكر أيضاً مقلدتهم وعوامّهم، وأنهم لا يعلمون من الكتاب إلا ألفاظاً مسموعة، وأن طريقهم في أصولدياناتهم إنما هو حسن ظنهم بعلمائهم المحرّفين المبدّلين. ثم توعد الله تعالى بالهلاك والحسرة، من حرّف كلام الله وادّعى أنهمن عند الله، لتحصيل غرض من الدنيا تافه نزر لا يبقي، فباع باقياً بفان. ثم كرّر الوعيد على مافعلوه، ثم أخبر عنهم بما صدر عنهم من الكذب البحت، بأن لبثهم في النار أياماً معدودة، وأن ذلك إخبار ليسصادراً عن عهد اتخذوه عند الله، بل قول على الله بما لا علم لهم به، ثم ردّ عليهم دعواهم تلكبقوله: {بَلَىٰ }، ثم قسم الناس إلى قسمين كافر، وهو صاحب النار، ومؤمن وهو صاحب الجنة، وأنهم اندرجوا تحت قسمالكافر، لأنهم كسبوا السيئات، وأحاطت بهم الخطيئات، وناهيك ما اقتص الله فيهم من أول السورة إلى هنا، وما يقص بعدذلك مما ارتكبوه من الكفر والمخالفات.

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } * { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }[عدل]

الولدان: الأب والأمّ، وكل منهما يطلق عليه والد، وظاهر الإطلاق الحقيقة. قال:

وذي ولــد لــم يلــده أبــوان

ويقال للأم: والد ووالدة، وقيل: الوالد للأب وحده، وثنياً تغليباً للمذكر. الإحسان: النفع بكل حسن. ذو:بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي،ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوّة، من باب خوّة، وقوّة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسمجنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوباً، إذا اقترنا وضعاً، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذورعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعاً، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطري: ذو عمرو، وذو قطري، ويعنون به صاحبهذا الإسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلىالعلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر:

وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما رجونا قدماً من ذويك الأفاضل

وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة، ولها أحكامفي النحو. القربى: مصدر كالرجعى، والألف فيه للتأنيث، وهي قرابة الرحم والصلب، قال طرفة:

وقربت بالقربى وجدك أنه متى يك أمرٌ للنكيثة أشهد

وقال أيضاً:

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على الحر من وقع الحسام المهند

اليتامى: فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفردة: يتيم، كنديم،وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام. وقال الأصمعي: اليتم في بني آدم من قبل الأب، وفي غيرهممن قبل الأم. وحكى الماوردي: إن اليتم في بني آدم يقال: من فقد الأم، والأوّل هو المعروف، وأصله الانفراد. فمعنىصبي يتيم: أي منفرد عن أبيه، وسميت الدرّة التي لا مثيل لها: يتمة لانفرادها، قاله ثعلب. وقيل: أصل اليتم: الغفلة،وسمي الصبي يتيماً، لأنه يتغافل عن بره. وقيل: أصل اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطىء عنه، قاله أبوعمرو. المساكين: جمع مسكين، وهو مشتق من السكون، فالميم زائدة، كمحضير من الحضر. وقد روي: تمسكن فلان، والأصح في اللغةتسكن، أي صار مسكيناً، وهو مرادف للفقير، وهو الذي لا شيء له. وقيل: هو الذي له أدنى شيء. الحسن والحسن،قيل: هما لغتان: كالبخل والبخل. والحسن: مصدر حسن، كالقبح مصدر قبح، مقابل حسن. القليل: اسم فاعل من قلّ، كما أنكثيراً مقابله اسم فاعل من كثر. يقال؛قل يقل قلة وقلاو قلاً، الإعراض: التولي، وقيل: التولي بالجسم، والإعراض بالقلب. والعرض: الناحية،فيمكن أن يكون قولك: أعرض زيد عن عمرو، أي صار في ناحية منه، فتكون الهمزة فيه للصيرورة. الدم: معروف، وهومحذوف اللام، وهي ياء، لقوله:

جــرى الدميــان بالخيــر اليقيــن

أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصوراً،قال:

غفلت ثم أتت تطلبه فإذا هي بعظام ودما

وقال:

ولكـن علـى أعقـابنـا يقطـر الدمـا

في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدّد الميم، قال الشاعر:

أهان دمّك فرغاً بعد عزته يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد

الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفاً، ولامعتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدالإذا كان جمعاً واحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدلنحو: واو، وقالوا: في جمع طويل: طوالوطيال. أقرّ بالشيء: اعترف به. تظاهرون: تتعاونون، كأنّ المتظاهرين يسند كل واحد منهم ظهرهإلى صاحبه، والظهر: المعين. الإثم: الذنب، جمعه آثام. الأسرى: جمع أسير، وفعلى مقيس في فعيل، بمعنى: ممات، أو موجع، كقتيلوجريح. وأما الأسارى فقيل: جمع أسير، وسمع الأسارى بفتح الهمزة، وليست بالعالية. وقيل: أسارى جمع أسرى، فيكون جمع الجمع، قالهالمفضل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى: من في اليد، والأسارى: من في الوثاق، والأسير: هو المأخوذ على سبيل القهروالغلبة. الفداء: يكسر أوله فيمد، كما قال النابغة:

مهلاً فداء لك الأقوام كلهم وما أثمروا من مال ومن ولد

ويقصر، قال:

فـدا لـك مـن رب طريفـي وتـالدي

وإذا فتح أوّله قصر، يقال: قم فدا لك أبي،قاله الجوهري. ومعنى فدى فلان فلاناً: أي أعطى عوضه. المحرّم: اسم مفعول من حرم، وهو راجع إلى معنى المنع. تقول:حرمه يحرمه، إذا منعه. الجزاء: المقابلة، ويطلق في الخير والشر. الخزي: الهوان. قال الجوهري: خزي، بالكسر، يخزى خزياً. وقال ابنالسكيت: معنى خزي: وقع في بلية، وأخزاه الله أيضاً، وخزى الرجل في نفسه يخزى خزاية، إذا استحيا، وهو خزيان، وقومخزايا، أو امرأة خزيا. الدنيا: تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذفمنها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله:

في سعـي دنيـا طـالما قـد مـدّت

والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعملاستعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفةعلى الحياة في قوله:

{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَاء }

، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمالالأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج: في (المقصور والممدود) له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميمخاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلىموضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَإِلاَّ ٱللَّهَ } الآية، هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهممن ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين، والمواظبةعلى ركني الإسلام البدني والمالي: ثم ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم. وإذ:معطوف على الظروف السابقة قبل هذا. والميثاق: هو الذي أخذه تعالى عليهم، وهم في صلب آبائهم كالذرّ، قاله: مكي، وضعفبأن الخطاب قد خصص ببني إسرائيل، وميثاق الآية فيهم، أو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسىعليه السلام وغيره من أنبيائهم، قاله ابن عطية. وقيل: هو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، بأن يعبدوه، إلى آخر الآيات.وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود: لا يعبدوا، علىالنهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً. أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بنيإسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز علىالصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدراً، أو حكمهحكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العملهو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفعولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضناكونه مصدراً حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل:لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيداً، لم يعملعلى خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أنيتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً بالمبرد وقطرب، قالوا: ويجوزأن يكون حالاً مقارنة، وحالاً مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله: {أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِىإِسْرءيلَ }، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكونأن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر،إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون،قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره بحفرها، ومن نظمها قوله:

ألا أيهـذا الزّاجـري احضـر الوغـى

أصله: مره بأن يحفرها.وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه،فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو أصحابنا. وذهب جماعة من النوحييو إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع.ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبردوالكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع، وما كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيهحذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه الرابع: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذفأن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله: {مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ }. وفي هذا الوجه مافي الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه الخامس: أن تكون محكيةبحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لاتعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا }. الوجه السادس:أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }، وهو نفي في معنى النهي أيضاً. قال الزمخشري:كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والهي، لأنه كان سورع إلىالامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن. الوجه السابع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أنمفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله: {أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ } معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جوازحذف أن المفسرة نظر. الوجه الثامن: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكرأنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء،فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء، فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب، ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذفيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب. ومع جعل الجملة مفسرة، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي،إذ تبعد حقيقة الخبر فيه. إلا الله: استثناء مفرّغ، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله، وفيه التفات. إذ خرجمن ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب. ألا ترى أنه لو جرى على نسق واحد لكان نظم الكلام لا تعبدون إلاإيانا؟ لكن في العدول إلى الاسم الظاهر من الفخامة، والدلالة على سائر الصفات، والتفرّد بالتسمية به، ما ليس في المضمر،ولأن ما جاء بعده من الأسماء، إنما هي أسماء ظاهرة، فناسب مجاورة الظاهر الظاهر. {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً } ، المعنى:الأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما وإكرامهما. وقد تضمنت آي من القرآن وأحاديث كثيرة ذلك، حتى عد العقوق من الكبائر، وناهيكاحتفالاً بهما كون الله قرن ذلك بعبادته تعالى، ومن غريب الحكايات: أن عمر رأى امرأة تطوف بأبيها على ظهرها، وقدجاءت به على ظهرها من اليمن، فقال لها: جزاك الله خيراً، لقد وفيت بحقه، فقالت: ما وفيته ولا أنصفته، لأنهكان يحملني ويود حياتي، وأنا أحمله وأود موته. واختلفوا فيما تتعلق به الباء في قوله: {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ }، وفي انتصاب إحساناًعلى وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على لا تعبدون، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل، إذ التقدير عندهذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، ويكون انتصاب إحساناً على المصدر من ذلكالمضاف المحذوف، فالعامل فيه الميثاق، لأنه به يتعلق الجار والمجرور، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني: أن يكونمتعلقاً بإحساناً، ويكون إحساناً مصدراً موضوعاً موضع فعل الأمر، كأنه قال: وأحسنوا بالوالدين. قالوا: والباء ترادف إلى في هذا الفعل،تقول: أحسنت به وإليه بمعنى واحد، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف، أي وأحسنوا ببر الوالدين، المعنى: وأحسنواإلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظاً به. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأنالمصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعهتقديم مفعول، نحو: ضربا زيداً، وليس بشيء، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولاً بأن ينحل لحرف مصدريوالفعل، أما إذا كان غير موصول، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول: ضربا زيداً، وزيداً ضرباً، سواء كان العملللفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل، لأن ذلك الفعل هو أمر، والمصدر النائب عنه أيضاً معناهالأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث: أن يكون العامل محذوفاً، ويقدر: وأحسنوا، أو ويحسنون بالوالدين، وينتصبإحساناً على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف، فتقديره: وأحسنوا، مراعاة للمعنى، لأن معنى لا تعبدون: لا تعبدوا، أو تقديره؛ويحسنون، مراعاة للفظ لا تعبدون، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع: أن يكون العامل محذوفاً،وتقديره: واستوصوا بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مفعول، قاله المهدوي: الوجه الخامس: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: ووصيناهم بالوالدين، وينتصبإحساناً على أنه مفعول من أجله، أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً منا، أي لأجل إحساننا، أي أن التوصية بهما سببها إحساننا،إما لأن من شأننا الإحسان، أو إحساناً منا للموصين، إذ يترتب لهم على امتثال ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم، أوإحساناً منا للموصى بهم. وقد جاء هذا الفعل مصرّحاً به في قوله تعالى:

{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً }

. والمختار، الوجهالثاني: لعدم الإضمار فيه، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر. {وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ }: معطوف على قوله:وبالوالدين. وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان، وتقديم المجرور على العامل اعتناء بمتعلق الحرف، وهما الوالدان، واهتماماً بأمرهما.وجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد. فبدأ بالولدين، إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم بذي القربى،لأن صلة الأرحام مؤكدة أيضاً، ولمشاركته الوالدين في القرابة، ثم باليتامى، لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء:«أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وغير ذلك من الآثار، ثم بالمساكين لما في الإحسان إليهم من الثواب. وتأخرت درجةالمساكين، لأنه يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام، ويصلح معيشته، بخلاف اليتامى، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم، وهم محتاجون إلى منينفعهم. وأول هذه التكاليف هو إفراد الله بالعبادة، ثم الإحسان إلى الوالدين، ثم إلى ذي القربى، ثم إلى اليتامى، ثمإلى المساكين. فهذه خمسة تكاليف تجمع عبادة الله، والحض على الإحسان للوالدين، والمواساة لذي القربى واليتامى والمساكين، وأفرد ذا القربى،لأنه أراد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة. {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا }: لما ذكربعد عبادة الله الإحسان لمن ذكر، وكان أكثر المطلوب فيه الفعل من الصلة والإطعام والافتقاد، أعقب بالقول الحسن، ليجمع المأخوذعليه الميثاق امتثال أمر الله تعالى في الأفعال والأقوال، فقال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا }. ولما كان القول سهل المرام،إذ هو بدل لفظ لا مال، كان متعلقه بالناس عموماً إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقولالطيب. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر: حسناً بضمهما. وقرأأبي وطلحة بن مصرّف: حسنى، على وزن فعل. وقرأ الجحدري: إحساناً. فأما قراءة الجمهور حسناً، فظاهره أنه مصدر، وأنه كانفي الأصل قولاً حسناً، أما على حذف مضاف، أي ذا حسن، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه، وقيل: يكون أيضاًصفة، لا أن أصله مصدر، بل يكون كالحلو والمرّ، فيكون الحسن والحسن لغتين، كالحزن والحزن، والعرب والعرب. وقيل: انتصب علىالمصدر من المعنى، لأن المعنى: وليحسن قولكم حسناً. وأما من قرأ: حسناً بفتحتين، فهو صفة لمصدر محذوف، أي وقولوا للناسقولاً حسناً. وأما من قرأ بضمتين، فضمة السين إتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ: حسنى، فقال ابن عطية: رده سيبويه،لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدراً، كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجهالقراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك، لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وليس على ما ذكر.أما أفعل فله استعمالات: أحدها: أن يكون بمن ظاهرة، أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال، بليبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث: أن يضاف إلى معرفة، وفي التعريفبتلك الإضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام، ويكون معرفة بهما. والثاني: بالإضافة إلىمعرفة نحو: فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل، فقول ابن عطية: لأن أفعل وفعلى لا يجيءإلا معرفة، ليس بصحيح. وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل، إذاأزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً، وليس كذلك، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدراً إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة. فلايجوز أن يعتقد في فعلى، التي مذكرها أفعل، أنها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرىوصغرى وجلى وفضلى، وما أشبه ذلك، لا ينقاس جعل شيء منها مصدراً بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس علىرأس أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل، صارت بمعنى: كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنىالتفضيل، كان أكبر بمعنى كبير، وأفضل بمعنى فاضل، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائداً إلى حسنى،لا إلى فعلى، ويكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنىالتفضيل، ويبقى مصدراً، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدراً، كالعقبى. ومعنى قوله: وهو وجه القراءة بها، أي والمصدر وجهالقراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: المصدر، كالبشرى، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كماتقول: رجع رجعى، وبشر بشرى، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدر لاينقاس. والوجه الثاني: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أيوقولوا للناس كلمة حسنى، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان: أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل، واستعمالها بغيرألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر:

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوماً كرام سراة الناس فادعينا

فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجهالثاني: أن تكون ليست للتفضيل، فيكون معنى حسنى: حسنة، أي وقولوا للناس مقالة حسنة، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته فيمعنى: حسن إخوته. وأما من قرأ: إحساناً فيكون نعتاً لمصدر محذوف، أي قولاً إحساناً، وإحساناً مصدر من أحسن الذي همزتهللصيرورة، أي قولا ذا حسن، كما تقول: أعشبت الأرض إعشاباً، أي صارت ذات عشب. واختلف المفسرون في معنى قوله: {وَقُولُواْلِلنَّاسِ حُسْنًا }، فقال ابن عباس: قولوا لهم لا إله إلا الله، ومروهم بها. وقال ابن جريج: قولوا لهم حسناًفي الإعلام بما في كتابكم من صفة رسول الله . وقال أبو العالية: قولوا لهم القول الطيب،وجاوبوهم بأحسن ما تحبون أن تجاوبوا به. وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. وقال ابن عباس أيضاً صدقاًفي أمر محمد . واختلفوا في المخاطب بقوله: وقولوا للناس حسناً، من هو؟. فالظاهر أنه منجملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: أن لا تعبدوا إلا الله، وأن تقولوا للناس حسناً. وعلى قراءة من قرأ: لايعبدون بالياء، يكون التفاتاً، إذ خرج من الغيبة إلى الخطاب. وقيل: المخاطب الأمة، والأول أقرب لتكون القصة واحدة مشتملة علىمكارم الأخلاق، ولتناسب الخطاب الذي بعد ذلك من قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ }، إلى آخر الآيات فإنه، لا يمكن أن يكونفي بني إسرائيل. وظاهر الآية يدل على أن الإحسان للوالدين، ومن عطف عليه، والقول الحسن للناس، كان واجباً على بنيإسرائيل في دينهم، لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب، وكذا ظاهر الأمر، وكأنه ذمهم على التولي عن ذلك. وروي عنقتادة أن قوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } منسوخ بآية السيف، وهذا لا يتأتى إلا إذا قلنا إن المخاطب بها هذهالأمة، ومن الناس من خصص هذا العموم بالمؤمنين، أو بالدعاء إلى الله تعالى بما في الأمر بالمعروف، فيكون تخصيصاً بحسبالمخاطب، أو بحسب الخطاب. وزعم أبو جعفر محمد بن عليّ الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره، وأنه لا حاجةإلى التخصيص. قيل: وهذا هو الأقوى. والدليل عليه، أن هارون وموسى، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، أمرا بالرفق مع فرعون،وكذلك رسول الله ، قيل له:

{ ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ }

، وقال تعالى:

{ وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ }

{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً }

{ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ }

. ومن قال: لايكون القول الحسن مع الكفار والفساق، استدل بأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم، وبقوله تعالى:

{ لاَّ يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوء مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ }

. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى }: إن كان هذا الخطاب للمؤمنين، فيكون من تلوين الخطاب.وقد تقدم الكلام على تفسير هاتين الجملتين. وإن كان هذا الخطاب لبني إسرائيل، وهو الظاهر، لأن ما قبله وما بعدهيدل عليه، فالصلاة هي التي أمروا بها في التوراة، وهم إلى الآن مستمرون عليها. وروي عن ابن عباس: أن زكاةأموالهم كانت قرباناً تهبط إليهم نار فتحملها، فكان ذلك تقبله، وما لا تفعل النار ذلك به، كان غير متقبل. وقيل:الصلاة هي هذه المفروضة علينا، والخطاب لمن يحضره رسول الله من أبناء اليهود، ويحتمل ذلك وجهين:أحدهما: أن يكون أمرهم بالصلاة والزكاة أمراً بالإسلام. والثاني: على قول من يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الإيمان والزكاة هيهذه المفروضة، وقيل: الصلاة والزكاة هنا الطاعة لله وحده. ومعنى هذا القول أنه كنى عن الطاعة لله تعالى بالصلاة والزكاةاللتين هما أعظم أركان الإسلام. {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }: ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل الذينأخذ الله عليهم الميثاق. وقيل: هو خطاب لمعاصري رسول الله من بني إسرائيل، أسند إليهم توليأسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره. والمعنى: ثم توليتم عما أخذ عليكم من الميثاق، والمعنيُّبالقليلالقليل في عدد الأشخاص. فقيل: هذا القليل هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: من آمن قديماً من أسلافهم، وحديثاًكعبد الله بن سلام وغيره. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، أي لم يبق حين عصوا وكفرآخرهم بمحمد إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى. انتهى كلامه، وهو احتمال بعيد مناللفظ، إذ الذي يتبادر إليه الفهم إنما هو استثناء أشخاص قليلين من الفاعل الذي هو الضمير في توليتم، ونصب: قليلاً،على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضاً قوم،قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدمفيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدلمن الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحلّ محلّالمبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتلّ به منتسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت فينفي نقيضه أو ضدّه، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤوّل بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلكلم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقدسيبويه في ذلك باباً في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل. وذكرمن أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، {وَلَوْ كَانَ * فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا }.

وقليـل بهـا الأصوات إلا بغـامهـا

وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ:

{ لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ }

، برفع غير، وجوّز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرّج على ذلك قول عمرو بنمعدى كرب:

وكلّ أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال: كأنه قال: وكلأخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ:

وكل خليل غيرها ضم نفسه لوصل خليل صارم أو معارز

ومما أنشده النحويون:

لدم ضائع نأت أقربوه عنه إلا الصبا وإلا الجنوب

وأنشدوا أيضاً:

وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النؤى والوتد

قالالأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقالأيضاً: وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا: عطف البيان. وقال غيره: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفةبلام الجنس. وقال المبرد: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل، وتحرير ذلك نتكلم عليهفي علم النحو، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة، لم يذهب إليه نحوي.ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف، كأنه قال: امتنع قليل أن يكون توكيداً للمضمر المرفوع المستثنى منه.ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال:إلا قليل منكم لم يتول، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب منلم يمعن في النحو. وأنتم معرضون: جملة حالية، قالوا: مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه، ومنخالف بينهما تكون الحال مبينة، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض، كما قال بعضهم؛ إن معناه: ثم توليتمعن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي . وجاءت الجملة الحالية اسمية مصدرة بأنتم، لأنها آكد.وكان الخبر اسماً، لأنه أدل على الثبوت، فكأنه قيل: وأنتم عادتكم الإعراض عن الحق والتولية عنه. وفي المواجهة بأنتم تقبيحلفعلهم وكونهم ارتكبوا ذلك الفعل القبيح الذي من شأنه أن لا يقع، كقولك: يحسن إليك زيد وأنت مسيء إليه، فكانالمعنى: أن من واثقه الله وأخذ عليه العهد في أشياء بها انتظام دينه ودنياه، جدير أن يثبت على العهد، وأنلا ينقضه، ولا يعرض عنه. وقيل: التولي والإعراض مأخوذ من سلوك الطريق، ومن ترك سلوك الطريق فله حالتان: إحداهما: أنيرجع عوده على بدئه، وذلك هو التولي، والثانية: أن يأخذ في عرض الطريق، وذلك هو الإعراض. وعلى هذا التفسير فيالتولي والإعراض لا يكون في الآية دليل على الاختلاف، إلا إن قصد أن ناساً تولوا وناساً أعرضوا، وجمع ذلك لهم،أو يتولون في وقت، ويعرضون في وقت. وقال القشيري: التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا، وأولها التوحيد، وهوإفراد الله بالعبادة والطاعة، ثم ردّك إلى مراعاة حق مثلك، إظهاراً أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله، كيف يقومبحق معبود ليس كمثله شيء؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق، فما حق تربية سيدك لك؟كيف تؤدي شكره؟ ثم ذكر عموم رحمته لذي القربى، واليتامى والمساكين، وأن يقول للناس حسناً. وحقيقة العبودية الصدق مع الحق،والرفق مع الخلق. انتهى، وبعضه مختصر. وقال بعض أهل الإشارات: الأسباب المتقرّب بها إلى الله تعالى: اعتقاد وقول وعملونية. فنبه بقوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }، على مقام التوحيد، واعتقاد ما يجب له على عباده من الطاعات والخضوعمنفرداً بذلك، ومالية محضة وهي: الزكاة، وبدنية محضة وهي: الصلاة، وبدنية ومالية وهو: برّ الوالدين والإحسان إلى اليتيم والمسكين.{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ }: الكلام على: {تَسْفِكُونَ }، كالكلام على: {لاَ تَعْبُدُونَ } إلا الله من حيثالإعراب. وقرأ الجمهور: بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي جمزة؛ كذلك، إلا أنهماضما الفاء. وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز: بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة. وقرأ ابن أبي إسحاق: كذلك، إلاأنه سكن السين وخفف الفاء، وظاهر قوله: {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ }، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدّة تصيبكم وحنق يلحقكم.وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. وأخباررسول الله أنه من أهل النار. وصح من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجأ بهافي بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل. وقال تعالى:

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }

. وقيل معناه: لا تسفكوا دماء الناس، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه، وقال:

سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

وقيل: معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك، كالارتداد والزنابعد الإحصان والمحاربة، وقتل النفس بغير حق ونحو ذلك، مما يزيل عصمة الدماء. وقيل: معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض،وإليه أشار بقوله:لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، وكان أهل دين كنفس واحدة، قاله قتادة، واختاره الزمخشري. قالابن عطية: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقاً أن لا يقتل بعضهم بعضاً، ولا ينفيه، ولا يسترقه،ولا يدعه يسترق، إلى غير ذلك من الطاعات. والخطاب في أخذنا ميثاقكم لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله، أو مع أسلافهم. {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ } معناه: لا يخرج بعضكم بعضاً، أولا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التيهي داركم، أو لا تخرجون أنفسكم، أي إخوانكم، لأنكم كنفس واحدة، أو لا تفسدوا، فيكون سبباً لإخراجكم من دياركم، كأنهيشير إلى تغريب الجاني، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين، فيكتب عليكم الجلاء. أقوال ستة. ثم أقررتم: أي بالميثاق، واعترفتمبلزومه، أو اعترفتم بقبوله، أو رضيتم به، كما قال البعيث:

ولست كليبياً إذا سيم خطة أقر كإقرار الحليلة للبعل

{وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }: أي تعلمون أن الله أخذه عليكم، وأراد على قدماء بني إسرائيل، إنكان الخطاب وارداً عليهم، وإن كان على معاصريه/ من أبنائهم، فمعناه: وأنتم تشهدون على أسلافكم بماأخذه الله عليهم من العهد، إما بالنقل المتواتر، وإما بما تتلونه من التوراة. وإن كان معنى الشهادة الحضور، فيتعين أنيكون الخطاب لأسلافهم. وقال بعض المفسرين: ثم أقررتم عائد إلى الخلف، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف؟ لأنهم عاينوا سفك دماءبعضهم بعضاً. وقال: وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة. وقيل: إن قوله وأنتمتشهدون للتأكيد، كقولك، فلان مقرّ على نفسه بكذا، أشاهد عليها. {ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ }: هذا استبعاد لماأخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان، بعد أخذ الميثاق منهم، وإقرارهم وشهادتهم. واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختارأن أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبر، وتقتلون حال. وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائماً، وهاأنا ذا قائماً. وقالت أيضاً: هذاأنا قائماً، وها هو ذا قائماً، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ، وكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر،وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال، فيماقلناه من قولهم: ها أنت ذا قائماً ونحوه. قال الزمخشري: والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون، يعني أنكم قومآخرون غير أولئك المقرّين، تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله: {تَقْتُلُونَ} بيان لقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء }. انتهى كلامه. والظاهر أن المشار إليه بقوله: {ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء }، هم المخاطبونأوّلاً، فليسوا قوماً آخرين. ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدّره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لايتأتى في نحو: ها أنا ذا قائماً ولا في ها أنتم أولاء؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير.قال ابن عطية: وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد: شيخنا، هؤلاء: رفع بالابتداء، وأنتم خبر مقدّم، وتقتلون حال،بها تم المعنى، وهي كانت المقصود، فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليهكما تقول: هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابنعطية عن شيخه، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا غرناظة، يعرف بابن الباذش، وهووالد الإمام أبي جعفر أحمد، مؤلف (كتاب الإقناع في القراءات)، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبيبكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على (كتاب الجمل والإيضاح) ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمانوعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ، وهؤلاء الخبر، إلى عكس هذا. والعامل في هذهالحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا: وهو حال منه، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعاملفيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب منهج السالك) من تأليفنا، فيطالع هناك، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاءمنادى محذوف منه حرف النداء، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرفالنداء، ونقل جوازه عن الفراء، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره، جنوحاً إلى مذهب الفراء، فيكون على هذا القول يقتلون خبراًعن أنتم. وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية،لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة،وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة، من ذلك قول رجل من طيّ:

إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً

وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ، ويقتلون الخبر،وهؤلاء تخصيص للمخاطبين، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني. وقد نص النحويون علىأن التخصيص لا يكون بالنكرات، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو: اللهم اغفر لنا، أيتهاالعصابة، أو معرّفاً بالألف واللام نحو: نحن العرب أقرى الناس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقديكون علماً، كما أنشدوا:

بنــا تمـيمــاً يكشـف الضبــاب.اهـ.

وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضميرمخاطب، كقولهم: بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي، وهو خبر عن أنتم، ويكون تقتلونصلة لهؤلاء، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو. وقرأ الجمهور:يقتلون، من قتل مخففاً. وقرأ الحسن: تقتلون من قتل مشدّداً. هكذا في بعض التفاسير، وفي تفسير المهدوي إنها قراءة أبينهيك، قال والزهري والحسن: تقتلون أنبياء الله، من قتل يعني مشدّداً، والله أعلم بصواب ذلك. {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّندِيَـٰرِهِمْ }: هذا نزل في بني قينقاع، وبني قريظة، والنضير من اليهود. كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير، والأوس والخزرجإخوان، والنضير وقريظة أيضاً أخوان، ثم افترقوا. فصارت النضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب، فيفدونأسرارهم، فعيرهم الله بذلك، قاله المهدوي. قال الزمخشر: فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذاأسر رجل من الفريقين، جمعوا له حتى يفدوه، فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟ فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرمعلينا قتالهم، ولكنا نستحي أن نذلّ حلفاءنا. {تَظَـٰهَرُونَ علَيْهِم بِٱلإِثْمِ }: قرأ بتخفيف الظاء، عاصم وحمزة والكسائي، وأصله: تتظاهرون،فحذف التاء، وهي عندنا الثانية لا الأولى، خلافاً لهشام، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة، الدالة في مثل هذاعلى الخطاب، وكثيراً جاء في القرآن حذف التاء. وقال:

تعاطسون جميعاً حول داركم فكلكم يا بني حمدان مزكوم

يريد: تتعاطسون. وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء، أي بإدغام الظاء في التاء. وقرأ أبو حيوة: تظاهرون،بضم التاء وكسر الهاء. وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما: تظهرون، بفتح التاء، والظاء والهاء مشددين دون ألف، ورويت عن أبيعمرو. وقرأ بعضهم: تتظاهرون على الأصل. فهذه خمس قراءات، ومعناها كلها التعاون والتناصر. وروى أبو العالية قال: كان بنو إسرائيلإذا استضعفوا قوماً أخرجوهم من ديارهم. عليهم بالإثم: فيه قولان: أحدهما: أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذمّ واللوم، الثاني:أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب. وفي حديث النوّاس: الإثم ما حاك في صدرك. وقيل: المعنى تظاهرونعليهم بما يوجب الإثم، وهذا من إطلاق السبب على مسببه، ولذلك سميت الخمر إثماً، كما قال:

شــربت الإثــم حـتى ضــل عقلـي

{وَٱلْعُدْوَانِ }: هو تجاوز الحدّ في الظلم. {وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـٰرَىٰ }: قراءة الجمهور بوزن فعالى، وحمزة بوزن فعلى. {تُفَـٰدُوهُمْ}: قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادي، وقرأ الباقون: من فدى. قال ابن عطية: وحسن لفظ الإتيان من حيث هوفي مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج، يعني: أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أنتحسنوا إليهم بالفداء، ومعنى تفادوهم: تفدوهم، إذ المفاعلة تكون من اثنين، ومن واحد. ففاعل بمعنى: فعل المجرد، وهو أحد معانيها.وقيل: معنى فادى: بادل أسيراً بأسير، ومعنى فدى: دفع الفداء، ويشهد للأوّل قول العباس: فاديت نفسي وفاديت عقيلاً. ومعلوم أنهما بادل أسيراً بأسير. وقيل: معنى تفدوهم بالصلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل تفادوهم: تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم منأعدائكم، ومنه قوله:

قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا

وتفدوهم: تعطوا فديتهم.وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئاً. وفاديت نفسي: أي أطلقتها بعد أن دفعتشيئاً. وفادى وفدى يتعدّيان إلى مفعولين، الثاني بحرف جر، وهو هنا به محذوف. {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ }: تقدّمت أربعةأشياء: قتل النفس، والإخراج من الديار، والتظاهر، والمفاداة، وهي محرّمة. واختص هذا القسم بتأكيد التحريم، وإن كانت كلها محرّمة، لمافي الإخراج من الديار من معرّة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت، وذلك بخلاف القتل، لأن القتل، وإنكان من حيث هو هدم البنية، أعظم، لكن فيه انقطاع الشر، وبخلاف المفاداة بها، فإنها من جريرة الإخراج من الدياروالتظاهر، لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم، ما وقعوا في قيد الأسر. وقد يكون أيضاً مما حذف فيه منكل جملة ذكر التحريم، ويكون التقدير: تقتلون أنفسكم، وهو محرّم عليكم، وكذا باقيها. وارتفاع هو على الابتداء، وهو إما ضميرالشأن، والجملة بعده خبر عنه، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً، وفيه ضمير عائد على الإخراج، إذ النية بهالتأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذاكان متحملاً ضميراً مرفوعاً. فلا يجيزون: قائم زيد، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً،فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله، وتبعهم على هذا المهدوي.ولا يجيز هذا الوجه البصريون، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها، وإذا جعلت قولهمحرّم خبراً عن هو، وإخراجهم مرفوعاً به، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عندالبصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ، ليس ضمير الشأن، بل هو عائد على الإخراج، ومحرّم خبر عنه،وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل، ومنهممن منع. وأجازه الكسائي، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل، وقدتقدّم مع الخبر. والتقدير: وإخراجهم هو محرّم عليكم، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ، أقدم معه الفصل. قال الفراء: لأنالواو ها هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين، لأنفيه أمرين لا يجوزان عندهم: أحدهما: وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة، إذ التقدير: وإخراجهم هو محرّم، فمحرّمنكرة لا تقارب المعرفة. الثاني: أن فيه تقديم الفصل، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر، أو بينما هما أصله، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو. ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوالتنتقد، وهو أنه قال: قيل في هو إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرّم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل منهو. انتهى ما نقله في هذا القول، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما؛ أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد، ولا يجيزذلك بصري ولا كوفي. أما البصري، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة، وأما الكوفي، فلأنه يجيز الجملةويجيز المفرد، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى، نحو قولك: ظننته قائماً الزيدان. والثاني:أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر، وضمير الأمر لا يعطف عليه، ولا يبدل منه، ولا يؤكد. قال ابن عطية:وقيل هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفي، وليست هنا بالتي هي عماد، ومحرم على هذا ابتداء، وإخراجهم خبر. انتهى ما نقلهفي هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر مع المبتدأ، فإعرابمحرم عندهم خبر متقدم، وإخراجهم مبتدأ، وهو المناسب للقواعد، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة، ولا مسوغ لها، ويكونالخبر معرفة، بل المستقر في لسانهم عكس هذا، إلا إن كان يرد في شعر، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابنعطية: وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جداً، إذلا موجب لتقدّم الضمير، ولا لبروزه بعد استتاره، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير، إذ على هذا القوليكون محرّم خبراً مقدّماً، وإخراجهم مبتدأ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير، إلا إذا رفع الظاهر. ولايمكن هنا أن يرفع الظاهر، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم، ثم يبقى هذا الضمير لا يدريما إعرابه، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً. قال ابن عطية: وقيل هو ضميرالإخراج، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم، ولا يتأتى على أنيكون هو ضميره، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير. وقد تقدم أن فيذلك خلافاً، منهم من أجاز ومنهم من منع. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ }: هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار.ولم يذمّهم على الفداء، بل على المناقضة، إذ أتوا ببعض الواجب، وتركوا بعضاً. وتكون المناقضة آكد في الذمّ، ولا يقالالإخراج معصية. فلم سماها كفراً؟ لأنا نقول: لعلهم صرّحوا بأن ترك الإخراج غير واجب، مع أن صريح التوراة كان دالاًعلى وجوبه. والبعض الذي آمنوا به، إن كان المراد بالكتاب التوراة، فيكون عامًّا فيما آمنوا به من أحكامها، وفداء الأسيرمن جملته. والبعض الذي كفروا به: هو قتل بعضهم بعضاً، وإخراج بعضهم من ديارهم، والمظاهرة بالإثم والعدوان، من جملة ماكفروا به من التوراة. وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أسرى قبيلتكم، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم. وقيل:إن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب، ولايفادي من وقع عليه الحرب. قال: فقال ابن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلهنّ. وقال مجاهد:معناه إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك. وقيل: المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوّة موسى، علىنبينا وعليه الصلاة والسلام، مع التكذيب بمحمد ، مع أن الحجة في أمرهما سواء، فجروا مجرى سلفهم،أن يؤمنوا ببعض، ويكفروا ببعض. قالوا: ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة، أي المفروض، والذيآمنوا به منها فداء الأسرى، والذي كفروا به باقي الأربعة. {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِيٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }: الجزاء يطلق في الخير والشر. قال:

{ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ }

، وقال:

{ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ }

. والخزي هنا: الفضيحة،والعقوبة، والقصاص فيمن قتل أو ضرب الجزية غابر الدهر، أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا، وأذرعات، أوغلبة العدوّ، أقوال خمسة. ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله، والأولى أن يكون المراد هو الذمّ العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص. وإلاّ خزي: استثناء مفرّغ،وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة، وتفصيل وذلك: أن الخبر إذا تأخر وأدخلتعليه إلاّ، فإما أن يكون هو الأوّل، أو منزلاً منزلته، أو وصفاً، إن كان الأول في المعنى، أو منزلاً منزلته،لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل، وإن كان وصفاًأجاز الفراء فيه النصب، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس: إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان، وهذا مخالفلما نقله أبو جعفر النحاس، قال: لا خلاف بين النحويين في قولك: ما زيد إلا أخوك، إنه لا يجوز إلابالرفع. قال: فإن قلت ما أنت إلا لحيتك، فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا: ما أنت إلاعيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فتضمر ناصباًنحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً. {وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰأَشَدّ ٱلّعَذَابِ }: يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النارالنار. ومعنى يردّون: يصيرون، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشدّ العذاب، أو يراد بالردّ: الرجوع إلى شيء كانوا فيه،كما قال تعالى: { فَرَدَدْنَـٰهُ إِلَىٰ أُمّهِ }، وكأنهم كانوا في الدنيا في أشدّ العذاب أيضاً، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتلوالسبي والجلاء وأنواع من العذاب. وقرأ الجمهور: يردّون بالياء، وهو مناسب لما قبله من قوله: {مَن يَفْعَلُ }. ويحتمل أنيكون التفاتاً، فيكون راجعاً إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ }، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة. وقرأ الحسن وابنهرمز باختلاف عنهما: تردّون بالتاء، وهو مناسب لقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ }. ويحتمل أن يكون التفاتاً بالنسبة إلى قوله {مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ}، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. وأشد العذاب: الخلود في النار، وأشدّيته من حيث أنه لاانقضاء له، أو أنواع عذاب جهنم، لأنها دركات مختلفة، وفيها أودية وحيات، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روحمع اليأس من التخلص، أو الأشدّية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا، أو الأشدّية بالنسبة إلى عذاب عامتهم، لأنهم الذين أضلوهمودلسوا عليهم، أقوال خمسة. {وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }: تقدّم الكلام على تفسير هذا الكلام، إذ وقع قبل {أَفَتَطْمَعُونَ}. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء، والباقون بالتاء من فوق. فبالياء ناسب يردّون قراءة الجمهور، وبالتاء تناسب قراءةتردّون بالتاء، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطباً في الآية. قيل: ويحتمل أن يكون الخطاب لأمّة محمد صلى الله عليهوسلم. فقد روي عن عمر بن الخطاب قال: إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم الذين تعنون بهذا ياأمّة محمد، وبمايجري مجراه، وهذه الآية من أوعظ الآيات، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص. {أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَوٰةَٱلدُّنْيَا بِٱلاْخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }: قال ابن عباس: نزلت في اليهود، الذين تقدّم ذكرهم أنهمآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة. وقدتقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ }، وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف، أشيرإلى ذلك الموصوف تنبيهاً على أنه هو جامع تلك الأوصاف. والذين: خبر عن أولئك، وتقدّم الكلام في قوله: {ٱشْتَرَوُاْ }،وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضاً ومعوّضاً أعياناً. فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها علىالنعيم السرمدي اشتراء، إيثاراً للعاجل الفاني على الآجل الباقي، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله، والثمن المبذول فيه مرغوب عنهعنده، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل. قال بعض أرباب المعاني: إن الدنيا: ما دنا من شهواتالقلب، والآخرة: ما اتصلت برضا الرب. فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً، تقول: جاءنيالذي قتل زيداً بالأمس، وسيتقل غداً أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل منالأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوّز أن يكونأولئك مبتدأ والذين بصلته خبراً. وفلا: يخفف خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلاً، كانفيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول، إنماهو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه. وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ، والذينمبتدأ ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين همأولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط، إلاإن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلا بدمن الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان،أو يكون زيد بدلاً من هذا، ومنطلق خبراً. وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانياً، ومنطلق خبراً عن زيد،ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضاً فلو كان هنا رابط، لما جازهذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة الذين ماضية لفظاًومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً. والتخفيف هو التسهيل، وقد حمل نفي التخفيف علىالانقطاع، وحمل أيضاً على التشديد. والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع، أو بالتقليل منه، أو في وقت، أو في كلالأوقات، لأنه نفي للماهية، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها. والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنخ نفي في المستقبل، وقد فسرالزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بنقصان الجزية، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة. ومعنى نفىالنصر: أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله. {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }: جملة إسميةمعطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسأل من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره مابعده، على حدّ قوله:

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها

ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: {فَلاَ يُخَفَّفُ}، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلبالفعل، لا اختصاصاً ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيمادخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عاماً،فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله:{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يفيد ذلك، أعني العموم. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى، أنه أخذ الميثاقعلى بني إسرائيل بإفراد العبادة، والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وبالقول الحسن للناس، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة،وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم، وأنهم أقروا والتزمواذلك. فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر، والميثاق الثاني يتضمن النواهي، لأن التكاليف الإلۤهية مبنية على الأوامر والنواهي. وكان البدء بالأوامرآكد، لأنها تتضمن أفعالاً، والنواهي تتضمن تروكاً، والأفعال أشق من التروك. وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة، وهو رأسالإيمان، إذ متعلق أشرف المتعلقات، فكان البدء به أولى. ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه، وإن كان قد تقدمأخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ }، لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات، لأنها تروك كما ذكرنا.ثم قرّعهم بمخالفة نواهي الله، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق، بل بالإثم والعدوان. ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم،بفداء من أتى إليهم منهم، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم، مع علمهم بتحريم إخراجهم، وبذكر أنهم آمنوا ببعضالكتاب وكفروا ببعض. هذا مع أنه كله حق وصدق، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض، والإيمان ببعض. ثم ذكر أن الجزاءلفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا، وأشد العذاب في الآخرة، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه، فيجازيهم على ذلك.ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة، وخالف أمر الله ونهيه، هو قد اشترى عاجلاً تافهاً بآجل جليل، وآثرفانياً مكدراً على باق صاف. وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب، ولا يجدواناصراً يدفع عنهم سوء العقاب. لقد خسروا تجارة، وبدلوا بالنعيم السرمدي ناراً وقودها الناس والحجارة. وإذا كان التخفيف قد نفى،فالرفع أولى. وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؟.

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } * { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } * { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ } * { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }[عدل]

قفوت الأثر: اتبعته، والأصل أن يجيء الإنسان تابعاً لقفا الذي اتبعه، ثمتوسع فيه حتى صار لمطلق الاتباع، وإن بعد زمان المتبوع، من زمان التابع. وقال أمية:

قالت لأخت له قصيه عن جنب وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد

الرسل: جمع رسول، ولا ينقاس فعل في فعول بمعنى مفعول. وتسكينعينه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة بني تميم. عيسى: اسم أعجمي علم لا يصرف للعجمة والعلمية، ووزنه عند سيبويه: فعلى،والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة، بمنزلة ياء معزى، يعني بالياء الألف، سماها ياء لكتابتهم إياها ياء. قال أبو علي: وليستللتأنيث، كالتي في ذكرى، بدلالة صرفهم له في النكرة. وذهب الحافظ أبو عمر، وعثمان بن سعيد الداني، صاحب التصانيف فيالقراءات، وعثمان بن سعيد الصيرفي وغيره، إلى أن وزنه فعلل، وردّ ذلك الأستاذ أبو الحسن بن الباذش بأن الياء والواولا يكونان أصلاً في بنات الأربع. قال بعض أصحابنا: وهذه الأسماء أعجمية، وكل أعجمي استعملته العرب، فالنحويون يتكلمون على أحكامهفي التصريف على الحدّ الذي يتكلمون فيه العربي، فيسى من هذا الباب. انتهى كلامه. ومن زعم أنه مشتق من العيس:وهو بياض يخالطه شقرة، فغير مصيب، لأن الاشتقاق العربي يدخل الأسماء الأعجمية. مريم، باللسان السرياني، معناه: الخادم، وسميت به أمعيسى، فصار علماً، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية. ومريم، باللسان العربي: من النساء، كالزير: من الرجال، وبه فسر قول رؤبة:

قلت لزير لم تصله مريمه

والزير: الذي يكثر خلطة النساء وزيارتهنّ، والياء فيه مبدلة من واو، كالريح، إذ هما من الزوروالروح، فصار هذا اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى اللسانين. ووزن مريم عند النحويين مفعل، لأن فعيلاً، بفتح الفاء، لم يثبت فيالأبنية، كما ثبت نحو: عثير وعلبب، قاله الزمخشري وغيره. وقد أثبت بعض الناس فعيلاً، وجعل منه: ضهيداً، اسم موضع، ومدين،إذا جعلنا ميمه أصلية، وضهياء مقصورة مصروفة، وهي المرأة التي لا تحيض، وقيل: التي لا ثدي لها. قال أبو عمروالشيباني: ضهياة وضهياءة، بالقصر والمد. قال الزجاج: اشتقاقها من ضأهأت: أي شابهت، لأنها أشبهت الرجل. وقال ابن جني: أما ضهيدوعثير فمصنوعان، فلا يجعلان دليلاً على إثبات فعيل. انتهى. وصحة حرف العلة في مريم على خلاف القياس نحو: مزيد. البين:الواضح، بان: وضح وظهر. أيد: فعل تأييد، أو أيد: أفعل إئياداً، وكلاهما من الأيد، وهو القوة. وقد أبدلوا في أفعلمن يائه جيماً، قالوا: أجد، أي قوي، كما أبدلوا ياء يد، قالوا: لا أفعل ذلك جدى الدهر، يريدون يد الدهر،وهو إبدال لا يطرد. والأصل في آيد أاْيد، وصححت العين كما صححت في أغيلت، وهو تصحيح شاذ إلا في فعلالتعجب، فتقول: ما أبينٰ وما أطولٰ ورآه أبو زيد مقيساً، ولو أعل على حدّ أقتت وأحدت، فألقيت حركة العين علىالفاء، وحذفت العين، لوجب أن تنقلب الفاء واواً لتحركها وانفتاح ما قبلها، كما انقلبت في أوادم جمع أدم على أفاعل،ثم تنقلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. فلما أدّى القياس إلى إعلال الفاء والعين، رفض وصححت العين. الروح، منالحيوان: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة، قاله الراغب، واختلف الناس فيه وفي النفس، أهما من المشترك أم من المتباين؟وفي ماهية النفس والروح، وقد صنف في ذلك. القدس: الطهارة، وقيل: البركة، وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام علىقوله تعالى:

{ وَنُقَدّسُ لَكَ }

، الرسول، فعول بمعنى: المفعول، أي المرسل، وهو قليل، ومنه: الحلوب، والركوب، بمعنى: المحلوب والمركوب. تهوى:تحب وتختار، ماضيه على فعل، ومصدره الهوى. غلف: جمع أغلف، كأحمر وحمر، وهو الذي لا يفقه، أو جمع غلاف، وهوالغشاء، فيكون أصله التثقيل، فخفف. اللعن: الطرد والإبعاد، يقال: شأو لعين، أي بعيد، وقال الشماخ:

ذرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين

المعرفة: العلم المتعلق بالمفردات، ويسبقه الجهل، بخلاف أصل العلم فإنه يتعلق بالنسب، وقد لايسبقه الجهل، ولذلك لم يوصف الله تعالى بالمعرفة، ووصف بالعلم. بئس: فعل جعل للذمّ، وصله فعل، وله ولنعم باب معقودفي النحو. البغي: الظلم، وأصله الفساد، من قولهم: بغى الجرح: فسد، قاله الأصمعي، وقيل: أصله شدّة الطلب، ومنه ما نبغي،وقول الراجز:

أنشد والباغي يحب الوجدان فلائصاً مختلفات الألوان

ومنه سميت الزانية بغياً، لشدّة طلبها للزنا، الإهانة: الإذلال،وهان هواناً: لم يحفل به، وهو معنى الذل، وهو كون الإنسان لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه. وراء، من الظروفالمتوسطة التصرف، وتكون بمعنى: قدام، وبمعنى: خلف، وهو الأشهر فيه. الخالص: الذي لا يشوبه شيء، يقال: خلص يخلص خلوصاً. تمنى:تفعل من المنية، وهو الشيء المشتهى، وقد يكون المتمنى باللسان بمعنى: التلاوة، ومنه: تمنى على زيد منه حاجة، وجد: مشتركبين الإصابة والعلم والغنى والحرج ويختلف بالمصادر: كالوجدان والوجد والموجدة. الحرص: شدّة الطلب. الودّ: المحبة للشيء والإيثار له، وفعله: ودّوهو على فعل يفعل، وحكى الكسائي: وددت، فعلى هذا يجوز كسر الواو، إذ يكون فعل يفعل، وفك الإدغام في قوله:

ما في قلوبهم لنا من مودة

ضرورة. عمر: التضعيف فيه للنقل، إذ هو من عمر الرجل: أي طال عمره، وعمرهالله: أطال عمره، والعمر: مدة البقاء. الألف: عشر من المئين، وقد يتجاوز فيه فيدل على الشيء الكثير، وهو من الألفة،إذ هو ما لف أنواع الأعداد، إذ العشرات مالف الآحاد، والمئون ما لف العشرات، والألف ما لف المئين. الزحزحة: الإزالةوالتنحية عن المقر. بصير: فعيل من بصر به إذا رآه، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ }، ثم يتجّوز به فيطلق علىبصر القلب، وهو العلم. بصير بكذا: أي عالم به. {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ }: تقدّم الكلام في هذه اللام،ويحتمل أن تكون للتأكيد، وأن تكون جواب قسم. ومناسبة هذا لما قبله أن إيتاء موسى الكتاب هو نعمة لهم، إذفيه أحكامهم وشرائعهم. ثم قابلوا تلك النعمة بالكفران، وذلك جرى على ما سبق من عادتهم، إذ قد أمروا بأشياء ونهواعن أشياء، فخالفوا أمر الله ونهيه، فناسب ذكر هذه الآية ما قبلها. والإيتاء: الإعطاء، فيحتمل أن يراد به: الإنزال، لأنهأنزله عليه جملة واحدة، ويحتمل أن يراد آتيناه: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك ممافيه، فيكون على حذف مضاف آتينا موسى علم الكتاب، أو فهم الكتاب. وموسى: هو نبي الله موسى بن عمران، صلىالله على نبينا وعليه وسلم. والكتاب هنا: التوراة، في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد، إذ قرن بموسى وانتصابه علىأنه مفعول ثانٍ لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي، وموسى هو الثاني عنده. {وَقَفَّيْنَا }: هذه الياءأصلها الواو، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء، كما تقول: غزيت من الغزو، والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية،إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين، لأن قفوت يتعدّى إلى واحد. تقول: قفوت زيداً، أي تبعته، فلو جاءعلى التعدية لكان: وقفيناه من بعده الرسل، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعولالأول، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً. ألا ترى إلى قوله:

{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ }

،ولكنه ضمن معنى جئنا، كأنه قال: وجئنا من بعده بالرسل، يقفو بعضهم بعضاً، ومن في: {مِن بَعْدِهِ }: لابتداء الغاية،وهو ظاهر، لأنه يحكى أن موسى لم يمت حتى نبىء يوشع. {بِٱلرُّسُلِ }: أرسل الله على أثر موسى رسلاً وهم:يوشع، وشمويل، وشمعون، وداود، وسليمان، وشعيا، وأمريا، وعزير، وحزقيل، وإلياس، وأليسع ويونس، وزكريا، ويحيـى، وغيرهم. والباء في بالرسل متعلق بقفينا،والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد، لما استفيد من القرآن وغيره أن هؤلاء بعثوا منبعده، ويحتمل أن تكون التقفية معنوية، وهي كونهم يتبعونه في العمل بالتوراة وأحكامها، ويأمرون باتباعها والبقاء على التزامها. وقرأ الجمهور:بالرسل بضم السين. وقرأ الحسن ويحيـى بن يعمر: بتسكينها، وقد تقدم أنهما لغتان، وواقهما أبو عمرو أن أضيف إلى ضميرجمع نحو: رسلهم ورسلكم ورسلنا، استثقل توالي أربع متحركات، فسكن تخفيفاً. {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ }: أضاف عيسى إلىأمه رداً على اليهود فيما أضافوه إليه. {ٱلْبَيِّنَـٰتُ }: وهي الحجج الواضحة الدالة على نبوّته، فيشمل كل معجزة أوتيها عيسىعليه السلام، وهذا هو الظاهر. وقيل: الإنجيل. وقيل: الحجج التي أقامها الله على اليهود. وقيل: إبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالمغيبات،وإحياء الموتى، وهم أربعة: سام بن نوح، والعازر، وابن العجوز، وبنت العشار، ومن الطير: الخفاش، فقيل: لم يكن من قبلعيسى، بل هو صورة، والله نفخ فيه الروح. وقيل: كان قبله، فوضع عيسى على مثاله. قالوا: وإنما اختص هذا النوعمن الطير لأنه ليس شيء من الطير أشد خلقاً منه، لأنه لحم كله. وأجمل الله ذكر الرسل، وفصل ذكر عيسى،لأن من قبله كانوا متبعين شريعة موسى، وأما عيسى فنسخ شرعه كثيراً من شرع موسى. {وَأَيَّدْنَـٰهُ }: قرأ الجمهورعلى وزن فعلناه. وقرأ مجاهد، والأعرج، وحميد، وابن محيصن، وحسين، عن أبي عمرو: أأيدناه، على وزن: أفعلناه. وتقدم الكلام علىذلك في المفردات، وفرق بعضهم بينهما فقال: أما المد فمعناه القوة، وأما القصر فالتأييد والنصر، والأصح أنهما بمعنى قويناه، وكلاهمامن الأيد، وهو القوة. {بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }: قراءة الجمهور: بضم القاف والدّال. وقرأ مجاهد: وابن كثير: بسكون الدال حيث وقع،وفيه لغة فتحها. وقرأ أبو حيوة: القدوس، بواو. والروح هنا: اسم الله الأعظم الذي كان به عيسى عليه السلام يحيـيالموتى، قاله ابن عباس، أو الإِنجيل، كما سمى الله القرآن روحاً، قال تعالى:

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا }

قاله ابن زيد، أو الروح التي نفخها تعالى في عيسى عليه السلام، أو جبريل عليه السلام، قاله قتادة والسدّي والضحاكوالربيع، ونسب هذا القول لابن عباس، قاله ابن عطية، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي لحسانبن ثابت أهج قريشاً وروح القدس معك ، ومرة قال له؛ وجبريل معك . انتهى كلامه. قالوا: ويقوي ذلك قوله تعالى: {إِذْأَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }. وقال حسان:

وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء

وتسمية جبريل بذلك،لأن الغالب على جسمه الروحانية، وكذلك سائر الملائكة، أو لأنه يحيا به الدين، كما يحيا البدن بالروح، فإنه هو المتوليلإنزال الوحي، أو لتكوينه روحاً من غير ولادة. وتأييد الله عيسى بجبريل عليهما السلام لإظهار حجته وأمر دينه، أو لدفعاليهود عنه، إذ أرادوا قتله، أو في جميع أحواله. واختار الزمخشري أن معناه: بالروح المقدسة، قال: كما يقال حاتم الجود،ورجل صدق. ووصفها بالقدس كما قال: وروح منه، فوصفه بالاختصاص والتقريب للكرامة. انتهى كلامه. وقد تقدّم معنى القدس أنه الطهارةأو البركة. وقال مجاهد والربيع: القدس من أسماء الله تعالى، كالقدّوس. قالوا: وإطلاق الرّوح على جبريل وعلى الإنجيل وعلى اسمالله الأعظم مجاز، لأن الرّوح هو الريح المتردد في مخارق الإنسان في منافذه. ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك،إلا أن كلاً منها أطلق الرّوح عليه على سبيل التشبيه، من حيث إن الرّوح سبب للحياة، فجبريل هو سبب لحياةالقلوب بالعلوم، والإنجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها، والاسم الأعظم سبب لأن يتوصل به إلى تحصيل الأغراض. والمشابهة بين جبريل والرّوحأتم، ولأن هذه التسمية فيه أظهر، ولأن المراد من أيدناه: قوّيناه وأعناه، وإسنادها إلى جبريل حقيقة، وإلى الإنجيل والاسم الأعظممجاز. ولأن اختصاص عيسى بجبريل من آكد وجوه الاختصاص، إذ لم يكن لأحد من الأنبياء مثل ذلك، لأنه هو الذيبشر مريم بولادته، وتولد عيسى بنفخه، ورباه في جميع الأحوال، وكان يسير معه حيث سار، وكان معه حيث صعد إلىالسماء. {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ٱسْتَكْبَرْتُمْ }: الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطفالجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف علىالجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلهامحذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى:

{ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا }

، فأغنى عن إعادته. والنصاب لها قولها: {ٱسْتَكْبَرْتُمْ }. والخطاب في جاءكم يجوز أن يكون عاماً لجميع بني إسرائيل،إذ كانوا على طبع واحد من سوء الأخلاق، وتكذيب الرسل، وكثرة سؤالهم لأنبيائهم، والشك والارتياب فيما أتوهم به، أو يكونعائداً إلى أسلافهم الذين فعلوا ذلك. وسياق الآيات يدل عليه أو إلى من بحضرة رسول الله من أبنائهم، لأنهم راضون بفعلهم، والراضي كالفاعل. وقد كذبوا رسول الله فيما جاء به، وسقوه السمليقتلوه، وسحروه. وبما: متعلق بقوله: جاءكم، وما موصولة، والعائد محذوف، أي لا تهواه. وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بحق، ومنههذه الآية. وأسند الهوى إلى النفس، ولم يسند إلى ضمير المخاطب، فكان يكون بما لا تهوون إشعاراً بأن النفس يسندإليها غالباً الأفعال السيئة،

{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء }

{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ }

{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ }

. استكبرتم: استفعل هنا: بمعنى تفعل، وهو أحد معاني استفعل. وفسر رسول الله الكبر بأنه سفهالحق وغمط الناس. والمعنى قيل: استكبرتم عن إجابته احتقاراً للرسول. أو استبعاداً للرسالة، وفي ذلك ما كانوا عليه من طبيعةالاستكبار الذي هو محل النقصائص ونتيجة الإعجاب. وهو نتيجة الجهل بالنفس المقارن للجهل بالخالق، وإن ذلك كان يتكرر منهم بتكررمجيء الرسل إليهم، وهو كما ذكرنا استبكار بمعنى التكبر، وهو مشعر بالتكلف والتفعل، لذلك لا أنهم يصيرون بذلك كبراء عظماء،بل يتفعلون ذلك ولا يبلغون حقيقته، لأن الكبرياء إنما هي لله تعالى، فمحال أن يتصف بها غيره حقيقة. {فَفَرِيقًاكَذَّبْتُمْ }: ظاهره أنه معطوف على قوله: استكبرتم، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرونعلى قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريحبتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن {يَكُونَ * فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } معطوفاًعلى قوله: {وَأَيَّدْنَـٰهُ }، ويكون قوله: أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول،وهذا أيضاً محتمل، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي، وثم محذوف تقديره: ففريقاً منهم كذبتم، وبدأ بالتكذيب لأنه أولما يفعلونه من الشر، ولأنه المشترك بين الفريقين: المكذب والمقتول. {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ }: وأتى بفعل القتل مضارعاً، إما لكونهحكيت أنه الحال الماضية، إن كانت أريدت فاستحضرت في النفوس، وصور حتى كأنه ملتبس به مشروع فيه، ولما فيه منمناسبة رؤوس الآي التي هي فواصل، وإما لكونه مستقبلاً، لأنهم يرومون قتل رسول الله ، ولذلك سحروهوسموه. وقال عند موته: ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري . وكان في ذلكعلى هذا الوجه تنبيه على أن عادتهم قتل أنبيائهم، لأن هذا النبي المكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وقد أمروا بالإيمانبه والنصر له، يرومون قتله. فكيف من لم يكن فيه تقدم عهد من الله؟ فقتله عندهم أولى. قال ابن عطيةعن بني إسرائيل: كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار. وروي سبعين نبياً، ثم تقوم سوقنقلهم آخر النهار. {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ }: الضمير في قالوا عائد على اليهود، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوابحضرة رسول الله ، قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات، وأعجزتهم عنمدافعة الحق المعجزات. نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية. وقرأ الجمهور: غلف، بإسكان اللام. وتقدم الكلام على سكون اللام،أهو سكون أصلي فيكون جمع أغلف؟ أم هو سكون تخفيف فيكون جمع غلاف؟ وأصله الضم، كحمار وحمر. قال ابن عطية:وهنا يشير إلى أن التخفيف من التثقيل قلما يستعمل إلا في الشعر. ونص ابن مالك على أنه يجوز التسكين فينحو: حمر جمع حمار، دون ضرورة. وقرأ ابن عباس، والأعرج، وابن هرمز، وابن محيصن، غلف: بضم اللام، وهي مروية عنأبي عمرو، وهو جمع غلاف، ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف، لأن تثقيل فعل الصحيح العين لايجوز إلا في الشعر. يقال غلفت السيف: جعلت له غلافاً. فأما من قرأ: غلف بالإسكان، فمعناه أنها مستورة عن الفهموالتمييز. وقال مجاهد: أي عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وقال الزجاج: ذوات غلف، أي عليها غلف لا تصل إليهاالموعظة. وقيل معناه: خلقت غلفاً لا تتدبر ولا تعتبر. وقيل: محجوبة عن سماع ما تقول وفهم ما تبين. ويحتمل علهذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة، حتى يسكتوا رسول الله . ويحتمل أنيكون ذلك خبراً منهم بحال قلوبهم، لأن الأول فيه ذم أنفسهم بما ليس فيها، وكانوا يدفعوا بغير ذلك، وأسباب الدفعكثيرة. وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم، أقاموا العلم مقام شيء مجسد، وجعلوا الموانع التي تمنعهم غلفاًله، ليستدل بالمحسوس على المعقول. ويحتمل أن يريدوا بذلك أنها أوعية للعلم، فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته، قالهابن عباس وقتادة والسدّي. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبنا غلف، أي مملوءة علماً، فلا تسع شيئاً، ولا تحتاج إلىعلم غيره، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره. ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبهم غلف على ما فيها مندينهم وشريعتهم، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها وقوّتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلافالذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره. وقيل: المعنى كالغلاف الخالي لا شيء فيه. {بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}: بل: للإشراب، وليس إضراباً عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنما الإضراب عن النسبة التيتضمنها قولهم: إن قلوبهم غلف، لأنها خلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه.ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هوالكفر. {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }: انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهبسيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزماناًقليلاً يؤمنون، لقوله تعالى: { ءامِنُواْ بِٱلَّذِي أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } . وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أنأصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدي إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعلالذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعاً قليلاً يؤمنون، أي المؤمن منهم قليل، وقال هذا المعنى ابن عباس وقتادة،وملخصه: أن القلة إما للنسبة للفعل الذي هو المصدر، أو للزمان، أو للمؤمن به، أو للفاعل. فبالنسبة إلى المصدر: تكونالقلة بحسب متعلقه، لأن الإيمان لا يتصف بالقلة والكثرة حقيقة. وبالنسبة إلى الزمان: تكون القلة فيه لكونه قبل مبعثه/ صلىالله عليه وسلم، قليلاً، وهو زمان الاستفتاح، ثم كفروا بعد ذلك. وبالنسبة إلى المؤمن به: تكون القلة لكونهم لم يبقلهم من ذلك إلا توحيد الله على غير وجهه، إذ هم مجسمون، وقد كذبوا بالرسول وبالتوراة. وبالنسبة للفاعل: تكون القلةلكون من آمن منهم بالرسول قليلاً. وقال الواقدي: المعنى أي لا قليلاً ولا كثيراً، يقال قل ما يفعل، أي مايفعل أصلاً. وقال ابن الأنباري: إن المعنى فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. وقال المهدوي: مذهب قتادة أن المعنى: فقليل منهممن يؤمن، وأنكره النحويون وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع قليل. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم، وماذهبوا إليه من أن قليلاً يراد به النفي صحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ}، لأن قليلاً انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: قمت قليلاً، أي قياماً قليلاً. ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيتبفعل مثبت، وجعلت قليلاً منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفعل، يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلكالمثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية. وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: أقل رجل يقولذلك، وقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد، وقليل من الرجال يقول ذلك، وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقررهذا، فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح. وأما ما ذكره المهدوي من مذهب قتادة، وإنكار النحويين ذلك، وقولهم:لو كان كذلك للزم رفع قليل. فقول قتادة صحيح، ولا يلزم ما ذكره النحويون، لأن قتادة إنما بين المعنى وشرحه،ولم يرد شرح الأعراب فيلزمه ذلك. وإنما انتصاب قليلاً عنده على الحال من الضمير في يؤمنون، والمعنى عنده: فيؤمنون قوماًقليلاً، أي في حالة قلة. وهذا معناه: فقليل منهم من يؤمن. وما في قوله: ما يؤمنون، زائدة مؤكدة، دخلت بينالمعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم. ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنهكان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى:فإيماناً قليلاً يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقتهظاهر قوله تعالى: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }. وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، وأنهم يريدون لا تثبتشيئاً، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلاً إنباتها، أي لاتنبت شيئاً، وليست ما زائدة، وقليلاً نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلاً، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لماصلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلاً، لا يدل على نفي الإنبات رأساً، وكذلك لو قلنا: ضربتضرباً قليلاً، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً. {وَلَمَّا جَاءهُمُ }: الضمير عائد على اليهود، ونزلت فيهم حين كانتغطفان تقاتلهم وتهزمهم، أو حين كانوا يلقون من العرب أذى كثيراً، أو حين حاربهم الأوس والخزرج فغلبتهم. {كِتَابٌ }: هوالقرآن، وإسناد المجيء إليه مجاز. {مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }: في موضع الصفة، وصفه بمن عند الله جدير أن يقبل، ويتبعما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم. {مُّصَدّقُ }: صفة ثانية،وقدّمت الأولى عليها، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله. لا يقال:إنه يحتمل أن يكون {مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } متعلقاً بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معموللغير أحدهما. وفي مصحف أبيّ مصدقاً، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقدأجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة. {لّمَا مَعَهُمْ }: هو التوراة والإنجيل، وتصديقه إما بكونهمامن عند الله، أو بما اشتملا عليه من ذكر بعث الرسول ونعته. {وَكَانُواْ }: يجوز أن يكون معطوفاً علىجاءهم، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب مرتباً علىالمجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا ليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولاحالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة منقوله: ولما. {مِن قَبْلُ }: أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة. {يَسْتَفْتِحُونَ }: أي يستحكمون،أو يستعلمون، أو يستنصرون، أقوال ثلاثة. يقولون، إذا دهمهم العدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجدنعته في التوراة. واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدرهنحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه، وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلىأن الفاء في قوله: {فَلَمَّا جَاءهُمُ} جواب لما الأولى، وكفروا جواب لقوله: فلما جاءهم. وهو عند نظيرقوله:

{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ }

. قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواولا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلكتقريراً للذنب وتأكيداً له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبتمن لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة فيهذا المختلف فيه، فالأولى أن كون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَـٰبٌ مّنْ عِندِ ٱللَّهِمُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ } كذبوه، ويكون التكذيب حاصلاً بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روّية، بل بادروا إلىتكذيبه. ثم قال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ }، أي يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم، أو يفتحون عليهم ويعرفونهم أننبياً يبعث قد قرب وقت بعثه، فكانوا يخبرون بذلك. {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ }: وما سبق لهم تعريفه للمشركين.{كَفَرُواْ بِهِ }: ستروه وجحدوه، وهذا أبلغ في ذمهم، إذ يكون الشيء المعورف لهم، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهمبه كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده، قال تعالى:

{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }

. وقال أبو القاسم الراغب:ما ملخصه الاستفتاح، طلب الفتح، وهو ضربان: إلهي، وهو النصرة بالوصول إلى العلوم المؤدية إلى الثواب، ومنه

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ }

، فعسى أن يأتي بالفتح. ودنيوي، وهو النصرة بالوصول إلى اللذات البدنية، ومنه

{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء }

. فمعنىيستفتحون: أي يعلمون خبره من الناس مرّة، ويستنبطون ذكره من الكتب مرة. وقيل: بطلبون من الله بذكره الظفر. وقيل: كانوايقولون إنا ننصر بمحمد على عبدة الأوثان. وكل ذلك داخل في عموم الاستفتاح. انتهى. وظاهر قوله:ما عرفوا أنه الكتاب، لأنه أتى بلفظ ما، ويحتمل أنه يراد به النبي . فإن ما قديعبر بها عن صفات من يعقل، ويجوز أن يكون المعنى: ما عرفوه من الحق، فيندرج فيه معرفة نبوّته وشريعته وكتابه،وما تضمنه. {فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ }: لما كان الكتاب جائياً من عند الله إليهم، فكذبوه وستروا ما سبقلهم عرفانه، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به. قابلهم الله بالاستهانة والطرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة،لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة.

{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ }

{ وَمَن يَلْعَنِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً }

. ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم، كأنه شيءجاءهم من أعلاهم، فجللهم بها، ثم نبه على علة اللعنة وسببها، وهي الكفر، كما قال قبل: {بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}، وأقام الظاهر مقام المضمر لهذا المعنى، فتكون الألف واللام للعهد، أو تكون للعموم، فيكون هؤلاء فرداً من أفراد العموم.قال الزمخشري: ويجوز أن تكون للجنس، ويكون فيه دخولاً أولياً. ونعني بالجنس العموم، وتخيله أنهم يدخلون فيه دخولاً أولياً ليسبشيء، لأن دلالة العلة على إفراده ليس فيها بعض الإفراد أولى من بعض، وإنما هي دلالة على كل فرد فرد،فهي دلالة متساوية. وإذا كانت دلالة متساوية، فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء. {بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ}: تقدّم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفرّاء إلى أنه بجملتهشيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلةكلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب. واختلف،أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعلبئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي فيأحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئاً شيءاشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أنيكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ماأخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضعلها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هوكفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب،أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها الرفع، وذهب سيبويه إلى أنموضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أيشيء اشتروا به أنفسهم. وعزى هذا القول، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة، إلى الكسائي. وقال الفراء والكسائي، فيمانقل عنهما: أن ما موصولة بمعنى الذي، واشتروا: صلة، وبذلك قال الفارسي، في أحد قوليه، وعزى ابن عطية هذا القولإلى سيبويه قال: فالتقدير على هذا القول: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، كقولك: بئس الرجل زيد، وما فيهذا القول موصولة. انتهى كلامه، وهو وهم على سيبويه. وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ماوبعدها في موضع رفع، على أن تكون مصدرية، التقدير: بئس اشتراؤهم. قال ابن عطية: وهذا معترض، لأن بئس لا تدخلعلى اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير. انتهى كلامه. وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أنه مرفوع ببئس،أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل بئس مضمراً والتمييز محذوفاً، لفهم المعنى. التقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض،لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف علىمذهب الجمهور، هذا الأخفش يزعم أنها اسم. والكلام على هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في علم النحو. اشتروا هنا:بمعنى باعوا، وتقدم أنه قال: شرى واشترى: بمعنى باع، هذا قول الأكثرين. وفي المنتخب إن الاشتراء هنا على بابه، لأنالمكلف، إذا خاف على نفسه من العقاب، أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، وكأنه قد اشترى نفسه بها. فهؤلاء اليهود لمااعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم، ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم، فذمهم الله عليه. قال: وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظمن الأول، يعني بالأول أن يكون بمعنى باع، وهذا الذي اختاره صاحب المنتخب، يرد عليه قوله تعالى: {بَغْيًا أَن يُنَزّلُٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ }، فدل على أن المراد ليس اشتراؤهم أنفسهم بالكفر، ظناً منهم أنهميخلصون من العقاب، بل ذلك كان على سبيل البغي والحسد، لكونه تعالى جعل ذلك في محمد ،فاتضح أن قول الجمهور أولى. {أَن يَكْفُرُواْ }: تقدم أن موضعه رفع، إما، على أن يكون مخصوصاً بالذم عندمن جعل ما قبله من قوله: {بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ } غير تام، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم، إذا تأخر،أهو مبتدأ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلاًمن الضمير في به، فيكون في موضع خبر. {بِمَا أنزَلَ ٱللَّهُ }: هو الكتاب الذي تقدّم ذكره، وهو القرآن. وفيذلك من التفخيم إن لم يحصل مضمر، بل أظهر موصولاً بالفعل الذي هو أنزل المشعر بأنه من العالم العلوي، ونسبإسناده إلى الله، ليحصل التوافق من حيث المعنى بين قوله: {كِتَـٰبٌ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } وبين قوله: {بِمَا أنزَلَ ٱللَّهُ}. ويحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل، إذ كفروا بعيسى وبمحمد صلوات الله وسلامه عليهما، والكفر بهما كفر بالتوراة. ويحتملأن يراد الجميع من قرآن وإنجيل وتوراة، لأن الكفر ببعضها كفر بكلها. {بَغِيّاً }: أي حسداً، إذ لم يكن منبني إسرائيل، قاله قتادة وأبو العالية والسدّي. وقيل: معناه ظلماً، وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيهيكفروا، أي كفرهم لأجل البغي. وقال الزمخشري: هو علة اشتروا، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا. وقيل: هو نصب علىالمصدر لا مفعول من أجله، والتقدير: بغوا بغياً، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه. {أَن يُنَزّلُ ٱللَّهُ }: أن: معالفعل بتأويل المصدر، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله، أي بغو التنزيل الله. وقيل: التقدير بغياً علىأن ينزّل الله لأن معناه حسداً على أن ينزّل الله، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي، فحذفتعلى، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن، إذا حذف حرف الجر منهما، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟وقيل: أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: بما أنزل الله، أي بتنزيل الله،فيكون مثل قول الشاعر:

أمـن ذكـر سلمى أن نـأتك تنوص

وقرأ أبو عمرو وابن كثير: جميع المضارع مخففاً من أنزل،إلا ما وقع الإجماع على تشديده، وهو في الحجر،

{ وَمَا نُنَزّلُهُ }

، إلا أن أبا عمرو شدد على أن ننزلآية في الأنعام، وابن كثير شدد

{ وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء }

، و

{ حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا }

، وشدد الباقونالمضارع حيث وقع إلا حمزة والكسائي فخففا،

{ وَيُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ }

، في آخر لقمان،

{ وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزّلُ ٱلْغَيْثَ }

، في الشورى.والهمزة والتشديد كل منهما للتعدية. وقد ذكروا مناسبات لقراآت القراء واختياراتهم ولا تصح. {مِن فَضْلِهِ }: من لابتداء الغاية، والفضلهنا الوحي والنبوة. وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش، فيكون في موضع المفعول، أي أن ينزلالله فضله. {عَلَىٰ } من يشاء. على متعلقة بينزل، والمراد بمن يشاء: محمد ، لأنهم حسدوه لمالم يكن منهم، وكان من العرب، وعز النبوة من يعقوب إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام كان في إسحاق، فختم فيعيسى، ولم يكن من ولد إسماعيل نبي غير نبينا محمد ، فختمت النبوة على غيرهم، وعدموا العزوالفضل. و{مِنْ } هنا موصولة، وقيل نكرة موصوفة. و{يَشَاء } على القول الأول: صلة، فلا موضع لها من الإعراب، وصفةعلى القول الثاني، فهي في موضع خفض، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه. {مِنْ عِبَادِهِ }: جارومجرور في موضع الحال، تقديره كائناً من عباده، وأضاف العباد إليه تشريفاً لهم، كقوله تعالى:

{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ }

{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا }

. {*فباؤوا}: أي مضوا، وتقدم معنى باؤوا. {فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ}: أي مترادف متكاثر، ويدل ذلك على تشديد الحال عليهم. وقيل: المراد بذلك: غضبان معللان بقصتين: الغضب الأول: لعبادة العجل،والثاني: لكفرهم بمحمد ، قاله ابن عباس. أو الأول: كفرهم بالإنجيل، والثاني: كفرهم بالقرآن، قاله قتادة. أوالأول: كفرهم بعيسى، والثاني: كفرهم بمحمد ، قاله الحسن وغيره، أو الأول: قولهم عزير ابن الله، وقولهميد الله مغلولة، وغير ذلك من أنواع كفرهم، والثاني: كفرهم بمحمد . {وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }: الألفواللام في الكافرين للعهد، وأقام المظهر مقام المضمر إشعاراً بعلة كون العذاب المهين لهم، إذ لو أتى، ولهم عذاب مهين،لم يكن في ذلك تنبيه على العلة، أو تكون الألف واللام للعموم، فيندرجون في الكافرين. ووصف العذاب بالإهانة، وهي الإذلال،قال تعالى:

{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

. وجاء في الصحيح، في حديث عبادة، وقد ذكر أشيائ محرّمة فقال: فمن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به فهو كفارة له . فهذا العذاب إنما هو لتكفير السيئات، أو لأنه يقتضي الخلود خلوداًلا ينقطع، أو لشدته وعظمته واختلاف أنواعه، أو لأنه جزاء على تكبرهم عن اتباع الحق. وقد احتج الخوارج بهذه الآيةعلى أن الفاسق كافر، لأنه ثبت تعذيبه، واحتج بها المرجئة على أن الفاسق لا يعذب لأنه ليس بكافر. {وَإِذَاقِيلَ لَهُمْ }: الإخبار عمن بحضرة رسول الله من اليهود، وسياق الآية يدل على أن المرادآباؤهم، لأنهم هم الذين قتلوا الأنبياء، وحسن ذلك أن الراضي بالشيء كفاعله، وأنهم جنس واحد، وأنهم متبعون لهم ومعتقدون ذلك،وأنهم يتولونهم، فهم منهم. {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ }، الجمهور: إنها لقرآن، وقال الزمخشري: مطلق فبما أنزل الله من كلكتاب. {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا }: يريدون التوراة، وما جاءهم من الرّسالات على لسان موسى، ومن بعده من أنبيائهم،وحذف الفاعل هنا للعلم به، لأنه معلوم أنه لا ينزل الكتب الإلهية إلا الله أو لجريانه في قوله: {بِمَا أَنزَلَاللَّهُ قَالُواْ }، فحذف إيجازاً إذ قد تقدم ذكره، وذمّوا على هذه المقالة لأنهم أمروا بالإيمان بكل كتاب أنزله الله،فأجابوا بأن آمنوا بمقيد، والمأمور به عام، فلم يطابق إيمانهم الأمر. {وَيَكْفُرونَ }: جملة استؤنف بها الإخبار عنهم، أوجملة حالية، العامل فيها قالوا: أي وهم يكفرون. {بِمَا وَرَاءهُ }، أي بما سواه، وبه فسر

{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ }

، و

{ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَاء ذٰلِكَ }

، أي بما بعده، قاله قتادة، أي ويكفرون بما بعد التوراة، وهو القرآن، أوبما وراءه، أي بباطن معانيها التي وراء ألفاظها، ويكون إيمانهم بظاهر لفظها. {وَهُوَ ٱلْحَقُّ }، هو: عائد على القرآن، أوعلى القرآن والإنجيل، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضاً. {مُصَدّقاً }: حال مؤكد، إذ تصديق القرآن لازم لا ينتقل. {لّمَامَعَهُمْ }: هو التوراة، أو التوراة والإنجيل، لأنهما أنزلا على بني إسرائيل، وكلاهما غير مخالف للقرآن، وفيه رد عليهم، لأنمن لم يصدق ما وافق التوراة، لم يصدق بها. وإذا دل الدليل على كون ذلك منزلاً من عند الله، وجبالإيمان به، فالإيمان ببعض دون بعض متناقض. {قُلْ }: أي قل يا محمد، وقل يا من يريد جدالهم. {فَلَمْ }:الفاء: جواب شرط مقدر، التقدير: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم {تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء ٱللَّهِ }؟ لأن الإيمان بالتوراة واستحلالقتل الأنبياء لا يجتمعان، فقولكم: إنكم آمنتم بالتوراة كذب وبهت، لا يؤمن بالقرآن من استحل محارمه. وما استفهامية حذفت ألفهالأجل لام الجر. ويقف البزيّ بالهاء فيقول: فلمه، وغيره يقف: فلم بغير هاء، ولا يجوز هذا الوقف إلا للاختبار، أولانقطاع النفس. وجاء يقتلون بصورة المضارع، والمراد الماضي، إذ المعنى: قل فلم قتلتم، وأوضح ذلك أن هؤلاء الذين بحضرة رسولالله لم يصدر منهم قتل الأنبياء، وأنه قيد بقوله {مِن قَبْلُ }، فدل على تقدم القتل.قال ابن عطية: وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلىالله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسفلاهم، بقي لهم من قتل الأنبياء جزء، وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريفعظيم لهم، وأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله أن يعظم أجلّ تعظيم، وأن ينصر، لا أن يقتل. {إِنكُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قيل: إن نافية أي ما كنتم مؤمنين، لأن من قتل أنبياء الله لا يكون مؤمناً، فأخبر تعالىأن الإيمان لا يجامع قتل الأنبياء، أي ما اتصف بالإيمان من هذه صفته. قيل: والأظهر أن إن شرطية، والجواب محذوف،التقدير: فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابهوهو: فلم تقتلون؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه. وقال ابن عطية: وإن كنتم: شرط، والجواب متقدم. ولا يتمشى قولههذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم. ومعنى مؤمنين:أي بما أنزل إليكم، أو متحققين بالإيمان صادقين فيه، أو مؤمنين بزعمكم. وأجرى هذا القول مجرى التهكم بهم والاستهزاء، كماتقول لمن بدا منه ما لا يناسبه: فعلت كذا وأنت عاقل، أي بزعمك. {وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ }: أيبالآيات البينات، وهي الواضحة المعجزة الدالة على صدقه. وقيل: التسع، وهي: العصا، والسنون، واليد، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، وفلقالبحر. وهي المعنى بقوله:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءايَـٰتٍ بَيّنَاتٍ }

. {ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَـٰلِمُونَ * وَإِذْأَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ * خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ }: تقدم تفسير هذه الجمل، وإنما كررت هنا لدعواهم أنهم يؤمنونبما أنزل عليهم، وهم كاذبون في ذلك. ألا ترى أن اتخاذ العجل ليس في التوراة؟ بل فيها أن يفرد اللهبالعبادة، ولأن عبادة غير الله أكبر المعاصي، فكرر عبادة العجل تنبيهاً على عظيم جرمهم. ولأن ذكر ذلك قبل، أعقبه تعدادالنعم بقوله:

{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ }

، و

{ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ }

. وهنا أعقبه التقريع والتوبيخ. ولأن في قصة الطورذكر توليهم عما أمروا به، من قبول التوراة وعدم رضاهم بأحكامها اختياراً، حتى ألجئوا إلى القبول اضطراراً، فدعواهم الإيمان بماأنزل إليهم غير مقبولة. ثم في قصة الطور تذييل لم يتقدم ذكره. والعرب متى أرادت التنبيه على تقبيح شيء أوتعظيمه، كررته. وفي هذا التكرار أيضاً من الفائدة تذكارهم بتعداد نعم الله عليهم ونقمه منهم، ليزدجر الأخلاف بما حل بالأسلاف.{وَٱسْمَعُواْ } أي: اقبلوا ما سمعتم، كقوله: {سَمِعَ ٱللَّهُ * لِمَنْ حمده}، أو {ٱسمعوا متدبرين لما سَمِعْتُمْ }، أو

{ ٱسمعوا وَأَطِيعُواْ }

. لأن فائدة السماع الطاعة، قاله المفضل. والمعنى في هذه الأقوال الثلاثة قريب. قال الماتريدي: معنى اسمعوا: افهموا.وقيل: اعملوا، ووجهه أن السمع يسمع به، ثم يتخيل، ثم يعقل، ثم يعمل به إن كان مما يقتضي عملاً. ولماكان السماع مبتدأ، والعمل غاية، وما بينهما وسائط، صح أن يراد بعض الوسائط، وصح أن يراد به الغاية. {قَالُواْ }:هذا من الالتفات، إذ لو جاء على الخطاب لقال: قلتم {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }: ظاهره أن كلتا الجملتين مقولة، ونطقوا بذلكمبالغة في التعنت والعصيان. ويؤيده قول ابن عباس: كانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا:

{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }

، وإذا نظروا إلىالكتاب قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا }. وقيل: القول هنا مجاز، ولم ينطقوا بشيء من الجملتين، ولكن لما لم يقبلوا شيئاً مماأمروا به، جعلوا كالناطقين بذلك. وقيل: يعبر بالقول للشيء عما يفهم به من حاله، وإن لم يكن نطق. وقيل: المعنىسمعنا بآذاننا وعصنيا بقلوبنا، وهذا راجع لما قاله الزمخشري، قال: قالوا سمعنا قولك وعصينا أمرك. فإن قلت: فكيف طابق قولهجوابهم؟ قلت: طابقه من حيث أنه قال لهم اسمعوا، وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة، فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة،انتهى كلامه. والقول الأوّل أحسن، لأنا لا نصير إلى التأويل مع إمكان حمل الشيء على ظاهره، لا سيما إذا لميقم دليل على خلافه. {وَٱشْرَبُواْ }: عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفاً على قالوا، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة،قلتم كذا وكذا وأشربتم، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهممن عبادة العجل، أو الواو للحال، أي وقد أشربوا والعامل قالوا، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقعحالاً، والقول الأول هو الظاهر. {فِى قُلُوبِهِمْ }: ذكر مكان الإشراب، كقوله:

{ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ }

. {ٱلْعِجْلَ }: هوعلى حذف مضافين، أي حب عبادة العجل من قولك: أشربت زيداً ماء، والإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صارفي اللونين، قالوا: وأشربت البياض حمرة، أي خلطتها بالحمرة، ومعناه أنه داخلهم حب عبادته، كما داخل الصبغ الثوب، وأنشدوا:

إذا ما القلب أشرب حب شيء فلا تأمل له عند انصرافاً

وقال ابن عرفة: يقالأشرب قلبه حب كذا، أي حل محل الشراب ومازجه. انتهى كلامه. وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل، لأنشرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، ولهذا قال بعضهم:

جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي فأصبح لي عن كل شغل بها شغل

وأما الطعام فقالوا: وهو مجاور لها، غير متغلغل فيها، ولا يصلإلى القلب منه إلا يسير، وقال:

تغلغل حبّ عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير

وحسن حذف ذينك المضافين، وأسند الإشراب إلى ذات العجل مبالغة كأنه بصورته أشربوه، وإن كان المعنى على ما ذكرناهمن الحذف. وقيل: معنى اشربوا: أي شدّ في قلوبهم حب العجل لشغفهم به، من أشربت البعير: إذا شددت حبلاً فيعنقه. وقيل: هو من الشرب حقيقة، وذلك أنه نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقاللهم: اشربوا، فشرب جميعهم. فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، وهذا قول يردّه في قوله: {فِى قُلُوبِهِمْ }.وروي أن الذين تبين لهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن. وبناؤه للمفعول في قوله: وأشربوا، دليل على أنذلك فعل بهم، ولا يفعله إلا الله تعالى. وقالت المعتزلة: جاء مبنياً للمفعول لفرط ولوعهم بعبادته، كما يقال: معجب برأيه،أو لأن السامري وإبليس وشياطين الأنس والجنّ دعوهم إليه، ولما كان الشرب مادّة لحياة ما تخرجه الأرض، نسب ذلك إلىالمحبة، لأنها مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال. {بِكُفْرِهِمْ }: الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عبادهالعجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوباً بكفرهم، فيكون ذلككفراً على كفر. {قُلْ } يا محمد، أو قل يا من يجالهم. {بِئْسَمَا * مَا * يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ}: تقدم الكلام في بئس، وفي المذاهب في ما، فأغنى عن إعادته. وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: بهو إيمانكم، بضمالهاء ووصلها بواو، وهي لغة، والضم في الأصل، لكن كسرت في أكثر اللغات لأجل كسرة الباء، وعني بإيمانهم الذي زعموافي قولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا }، وأضاف الأمر إلى إيمانهم على طريق التهكم، كما قال أصحاب شعيب: أصلواتك تأمركأن نترك؟ وقيل: ثم محذوف تقديره صاحب إيمانكم، وهو إبليس. وقيل: ثم صفة محذوفة التقدير إيمانكم الباطل، وأضاف: الإيمان إليهملكونه إيماناً غير صحيح، ولذلك لم يقل الإيمان، قاله بعض معاصرينا رحمهم الله. والمخصوص بالذمّ محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة،فالتقدير: بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئاًشيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئاً ما يأمركم، أي الذي يأمركم،فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئسالشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامّة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب.{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية. قال الزمخشري: تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم. انتهىكلامه. وقال ابن عطية: وقد يأتي الشرط، والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله عن عيسى عليهالسلام:

{ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ }

، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }،والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه أقام حجة لقياس بين. انتهى كلامه، وهو يؤول من حيث المعنى إلى نفي الإيمانعنهم، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين، فلا تقتلوا الأنبياء، ولا تكذبوا الرسل، ولا تكتمواالحق. وتقدير الحذف الأول أعرب وأقوى. {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً }: نزلت فيما حكاهابن الجوزي عندما قالت اليهود: إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزول هاتينالآيتين قولهم:

{ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا }

، و

{ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ }

، و

{ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ }

، الآيات، ورويمثله عن قتادة. والضمير في قل، إما للنبي ، وإما لمن ينبغي إقامة الحجة عليهم منه ومنغيره. وفسروا الدار الآخرة بالجنة، قالوا: وذلك معهود في إطلاقها على الجنة. قال تعالى:

{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً }

. ومعلوم أن ما يجعل لهؤلاء هو الجنة،

{ وَلَلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ }

.والأحسن أن يكون ذلك على حذف مضاف دل عليه المعنى، أي نعيم الدار الآخرة وحظوتها وخيرها، لأن الدار الآخرة هيموضع الإقامة بعد انقضاء الدنيا. وسميت آخرة لأنها متأخرة عن الدنيا، أو هي آخر ما يسكن. وقد تقدم الكلام علىذلك في قوله:

{ وَهُم بِٱلاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }

. ومعنى: عند الله، أي في حكم الله، كقوله تعالى: {فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱللَّهِ} أي في حكمه

{ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ }

. وقيل: المراد بالعندية هنا: المكانة والمرتبة والشرف، لا المكان. ومعنى خالصة: أي مختصةبكم، لا حظ في نعيمها لغيركم. واختلفوا في إعراب خالصة، فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، فيكون لكمإذ ذاك خبر كانت، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر،لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية، إذ قالا: ويجوز أن يكون نصبخالصة على الحال، وعند الله خبر كان. وقيل: انتصاب خالصة على أنه خبر كان، فجوز في لكم أن يتعلق بكانت،لأن كان يتعلق بها حرف الجر، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم، أعني نحوقولهم: {أَحْلَلْنَا لَكَ } إذ تقديره: لك أدعو. {مّن دُونِ ٱلنَّاسِ }: متعلق بخالصة، ودون هنا لفظ يستعمل للاختصاص،وقطع الشركة. تقول: هذا ولي دونك، وأنت تريد لا حق فيه لك معي ولا نصيب. وفي غير هذا المكان يأتيلمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو المقدار. والمراد بالناس: الجنس، وهو الظاهر لدلالة اللفظ وقوله: خالصة. وقيل: المراد النبي والمسلمون. وقيل: المراد به النبي ، قاله ابن عباس: قالوا، ويطلق الناس، ويرادبه الرجل الواحد، وهذا لا يكون إلا على مجاز وتنزيل الرجل الواحد منزلة الجماعة. {فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ }: أي سلوه باللسانفقط، وإن لم يكن بالقلب، قاله ابن عباس. أو تمنوه بقلوبكم واسألوه بألسنتكم، قاله قوم. أو فسلوه بقلوبكم على أردإالحزبين من المؤمنين أومنهم. وروي عن ابن عباس وغيره، وقرأ الجمهور: فتمنوا الموت، بضم الواو، وهي اللغة المشهورة في مثل:اخشوا القوم. ويجوز الكسر تشبيهاً لهذه الواو بواو: ولو استطعنا، كما شبهوا واو لو بواو اخشوا، فضموا، فقالوا: لو استطعنا.وقرأ ابن أبي إسحاق: فتمنوا الموت بالكسر، وحكى أبو علي الحسن بن إبراهيم بن يزداد، عن أبي عمرو، أنه قرأ:فتمنوا الموت، بفتح الواو، وحركها بالفتح طلباً للتخفيف، لأن الضمة والكسرة في الواو يثقلان. وحكى أيضاً عن أبي عمرو: واختلاسضمة الواو. {وَإِن كُنتُمْ * صَـٰدِقِينَ } في دعواكم أن الجنة لكم دون غيركم. وجواب الشرط محذوف، أي فتمنواالموت. وعلق تمنيهم على شرط مفقود، وهو كونهم صادقين، وليسوا بصادقين في أن الجنة خالصة لهم دون الناس، فلا يقعالتمني: والمقصود من ذلك التحدي وإظهار كذبهم، وذلك أن من أيقن أنه من أهل الجنة، اختار أن ينتقل إليها، وأنيخلص من المقام في دار الأكدار، وأن يصل إلى دار القرار. كما روي عمن شهد له رسول الله صلى اللهعليه وسلم بالجنة، كعثمان، وعليّ، وعمار، وحذيفة، أنهم كانوا يختارون الموت، وكذلك الصحابة كانت تختار الشهادة. وفي الحديث الصحيح أنهقال : ليتني أحيا ثم أقتل ثم أحيا فأقتل . لما علم من فضل الشهادة. وقال، لما بلغهقتل من قتل ببئر معونة: يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل . وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلمااحتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعن عمار، لما كان بصفين قال: غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه. وعن عليّ أنهكان يطوف بين الصفين بغلالة، فقال له ابنه الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بنيّ لا يبالي أبوك، أعلىالموت سقط، أم عليه سقط الموت. وكان عبد الله بن رواحة ينشد، وهو يقاتل الروم:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والـروم روم قـد دنـا عذابهـا

وفي قصتي قتل عثمان وسعيد بن جبير مايدل على اختيارهما الشهادة، وذلك أن عثمان جاءه جماعة من الصحابة فقالوا له: نقاتل عنك؟ فقال لهم: لا، وكان لهقريب من ألف عبد، فشهروا سيوفهم لما هجم عليهم، فقال: من أغمد سيفه فهو حرّ. فصبر حتى قتل. وأما سعيد،فإن الموكلين به، لما طلبه الحجاج، لما شاهدوا من لياذ السباع به وتمسحها به، قالوا: لا ندخل في إراقة دمهذا الرجل الصالح، قالوا له: طلبك ليقتلك، فاذهب حيث شئت، ونحن نكون فداء. فقال: لا والله، إني سألت ربي الشهادة،وقد رزقنيها، والله لا برحت. وروي عن النبي/ : لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهودي . وذلك أن الله أمر نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن يعلمهم أنهمن تمناه منهم مات. ففعل النبي ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه فرقاً من الله.{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }: هذا من المعجزات، لأنه إخبار بالغيب، ونظيره من الإخبار بالمغيب قوله: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ }، وظاهره أن من ادّعى أن الجنة خالصة له دون الناس ممن اندرج تحت الخطاب فيقوله: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً }، لا يمكن أن يتمنى الموت أبداً، ولذلك كان حرفالنفي هنا لن الذي قد ادّعى فيه أنه يقتضي النفي على التأييد، فيكون قوله: أبداً، على زعم من ادعى ذلكللتوكيد. وأما من ادعى أنه بمعنى لا، فيكون أبداً إذ ذاك مفيداً لاستغراق الأزمان. ويعني بالأبد هنا: ما يستقبل منزمان أعمارهم. وفي المنتخب ما نصه: وإنما قال هنا: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ }، وفي الجمعة { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ }، لأن دعواهمهنا أعظم من دعواهم هناك، لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية، لأن الثانية تراد لحصول الأولى، ولن أبلغ في النفيمن لا، فجعلها النفي الأعظم. انتهى كلامه. قال المهدوي في (كتاب التحصيل) من تأليفه: وهذه المعجزة إنما كانت على عهدالنبي ، ثم ارتفعت بوفاته . ونظير ذلك رجل يقول لقوم حدثهم بحديث: دلالةصدقي، أن أحرّك يدي ولا يقدر أحد منكم أن يحرّك يده، فيفعل ذلك، فيكون دليلاً على صدقه، ولا يبطل دلالتهأن حركوا أيديهم بعد ذلك. انتهى كلامه، وقد قاله غيره من المفسرين. قال ابن عطية: والصحيح أن هذه النازلةمن موت من تمني الموت، إنما كانت أياماً كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلىالمباهلة، انتهى كلامه. وكلا القولين، أعني قول المهدوي وابن عطية، مخالف لظاهر القرآن، لأن أبدأ ظاهره أن يستغرق مدة أعمارهم،كما بينا. وهل امتناعهم من تمني الموت، كان لعلمهم أن كل نبي عرض على قومه أمراً وتوعدهم عليه بالهلاك فردوهتكذيباً له، فإن ما توعدهم به واقع لا محالة؟ أو لعلمهم بصدق رسول الله ، وأنه لايقول على الله إلا الحق؟ أو لصرف الله إياهم عن ذلك، كما قيل في عدم معارضة القرآن بالصرفة؟ أقوال ثلاثة.والظاهر أن ذلك معلل {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ }. والذي قدمته أيديهم: تكذيبهم الأنبياء، وقتلهم إياهم، وقولهم: { أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً } ،وقولهم: { ٱجْعَلْ لَّنَا إِلَـٰهًا } ، وقولهم: { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } ، واعتداؤهم في السبت، وسائر الكبائر التي لم تصدر من أمةقبلهم ولا بعدهم. وهذا التمني الذي طلب منهم، ونفي عنهم، لم يقع أصلاً منهم، إذ لو وقع لنقل، ولتوفرت دواعيالمخالفين للإسلام على نقله. وقد تقدّمت الأقوال في تفسير التمني، والظاهر أنه لا يعني به هنا العمل القلبي، لأنهلا يطلع عليه، فلا يتحدى به، وإنما عنى به القول اللساني كقولك: ليت الأمر يكون. ألا ترى أنه يقال لقائلذلك: تمني؟ وتسمى ليت كلمة تمنّ، ولم ينقل أيضاً أنهم قالوا: تمنينا ذلك بقلوبنا، ولا جائز أن يكون امتناعهم منالإخبار أنهم تمنوا بقلوبهم، كونهم لا يصدّقون في ذلك، لأنهم قد قاولوا المسلمين بأشياء لا يصدقونهم فيها، من الافتراء علىالله، وتحريف كتابه، وغير ذلك. وقال الماتريدي ما مخلصه: أن المؤمن يقول: إن الجنة له، ومع ذلك ليس بتمني الموت.وأجاب: بأنه لم يجعل لنفسه من المنزلة عند الله من ادعاء بنوّة ومحبة من الله لهم ما جعلته اليهود، لأنجميع المؤمنين، غير الأنبياء، لا يزول عنهم خوف الخاتمة. والخاطىء منهم مفتقر إلى زمان يتدارك فيه تكفير خطئه. فلذلك لميتمن المؤمنون الموت. ولذلك كان المبشرون بالجنة يتمنونه. وذكروا في ما من قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ }، أنها تكون مصدرية، والظاهرأنها موصول، والعائد محذوف، وهي كناية عما اجترحوه من المعاصي السابقة. ونسب التقديم لليد مجازاً، والمعنى بما قدّموه، إذ كانتاليد أكثر الجوارح تصرفاً في الخير والشر. وكثر هذا الاستعمال في القرآن:{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ }

{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ }

{ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }

. وقيل: المراد اليد حقيقة هنا، والذي قدّمته أيديهم هو تغيير صفة رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وكان ذلك بكتابة أيديهم. {وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّـٰلِمينَ }: هذه جملة خبرية، ومعناها: التهديد والوعيد، وعلم الله متعلقبالظالم وغير الظالم. فالاقتصار على ذكر الظالم يدل على حصول الوعيد. وقيل: معناه مجازيهم على ظلمهم، فكنى بالعلم عن الجزاء،وعلق العلم بالوصف ليدل على العلية، والألف واللام في الظالمين للعهد، فتختص باليهود الذين تقدّم ذكرهم، أو للجنس، فتعم كلظالم. وإنما ذكر الظالمين، لأن الظلم هو تجاوز ما حدّ الله، ولا شيء أبلغ في التعدّي من ادعاء خلوص الجنةلمن لم يتلبس بشيء من مقتضاتها، وانفراده بذلك دون الناس. {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٍ }: الخطاب هنا للنبي. ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين: أحدهما الضمير، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنىعلم المتعدّية إلى اثنين، كقوله تعالى:

{ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَـٰسِقِينَ }. وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين، هو قول من وفقناعلى كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب، ويكون انتصاب أحرص على الحال، لكن لا يتمهذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة، وهو قال الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك منأصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة، فلا يجوزعنده في أحرص النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل، وهي مؤولة. بمعنى من، وقد أضيف إلى معرفة، فيجوزفيها الوجهان: أحدهما: أن يفرد مذكره، وإن كانت جارية على فرد ومثنى ومجموع، ومذكر ومؤنث. والثاني: أن يطابق ما قبلها.فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة، لكان أحارص الناس، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله: أكابرمجرميها، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد، وليسبصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة، كهذين الموضعين، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه، ولذلك منع البصريون يوسف أحسنإخوته، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل، وتأولوا ما ورد مما يشبهه، وشذ نحو قوله:

يـا رب موسـى أظلمـي وأظلمـه

يريد: أظلمنا حيث لم يضل أظلم إلى ما هو بعضه. والضمير المنصوب في ولتجدنهم عائد على اليهود الذين أخبر عنهمبأنهم لا يتمنون الموت، أو على جميع اليهود، أو على علماء بني إسرائيل أقوال ثلاثة. وأتي بصيغة أفعل من الحرصمبالغة في شدّة طلبهم للبقاء ودوام الحياة. والناس: الألف واللام للجنس فتعم، أو للعهد. إما لأن يكون المراد جماعة منالناس معروفين غلب عليهم الحرص على الحياة، أو لأن يكون المراد بذلك المجوس، أو مشركي العرب، لأن أولئك لا يوقنونببعث، فليس عندهم إلا نعيم الدنيا، أو بؤسها، ولذلك قال بعضهم:

تمتع من الدنيا فإنك فان من النشوات والنسا الحسان

وقال آخر:

إذا انقضت الدنيا وزال نعيمها فما لي في شيء سوى ذاك مطمع

{عَلَىٰ حَيَوٰةٍ }: قدروا فيه أنه على حذف مضاف، أي على طول حياة، أو على حذفصفة، أي على حياة طويلة. ولو لم يقدر حذف لصح المعنى، وهو أن يكون أحرص الناس على مطلق حياة، لأنمن كان أحرص على مطلق حياة، وهو تحققها بأدنى زمان، فلأن يكون أحرص على حياة طويلة أولى، وكانوا قد ذموابأنهم أشد الناس حرصاً على حياة، ولو ساعة واحدة. وقرأ أبي: على الحياة، بالألف واللام. قال الزمخشري ما معناه: قراءةالتنكير أبلغ من قراءة أبي، لأنه أراد حياة مخصوصة، وهي الحياة المتطاولة. انتهى. وقد بينا أنه لا يضطر إلى هذهالصفة. {وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت أفعل التفضيل، فيكون ذلك من الحمل على المعنى،لأن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف، أي وأحرص من الذين أشركوا، فحذفأحرص لدلالة أحرص الأول عليه. والذين أشركوا: المجوس، لعبادتهم النور والظلمة. وقيل: النار، أو مشركو العرب لعبادتهم الأصنام واتخاذهم آلهةمع الله أو قوم من المشركين كانوا ينكرون البعث، كما قال تعالى:

{ يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَـٰفِرَةِ * أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً نَّخِرَةً }

. وعلى هذه الأقوال يكون: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } تخصيصاً بعد تعميم، إذا قلنا: إن قوله أحرص الناسعام، ويكون في ذلك أعظم توبيخ لليهود، إذ هم أهل كتاب يرجون ثواباً ويخافون عقاباً، وهم مع ذلك أحرص ممنلا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب، فكانوا أحب الناس في البعدمنه، لأن من توقع شراً كان أنفر الناس عنه، فلما كانت الحياة سبباً في تباعد العقاب، كانوا أحرص الناس عليها.وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل، فلا بد من ذكر من، لأن أحرص الناس جرىعلى اليهود، فلو عطفت بغير من لكان معطوفاً على الناس، فيكون في المعنى: ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا، فكان أفعل يضافإلى غير ما اندرج تحته، لأن اليهود ليسوا من المشركين، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا، لا إذاقلنا: إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أنقوله: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } معطوفاً على الضمير في قوله: ولتجدنهم، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس علىحياة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة، ولا ضرورة تدعوإلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة. وهذا البحثكله على تقدير أن تكون الواو في: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } لعطف مفرد على مفرد، وأما إذا كانت لعطف الجمل،فيكون إذ ذاك منقطعاً من الدخول تحت أفعل التفضيل، ويكون ابتداء، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضاً.وتقدّم أن المعنيّ بالذين أشركوا: أهم المجوس؟ أم مشركو العرب؟ أم قوم من المشركين في الوجه الأول؟ وأما على أنيكون استئناف إخبار، فقال ابن عطية: هم المجوس، لأن تشميتهم للعاطس بلغتهم معناه: عش ألف سنة. وفي هذا القول تشبيهلبني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين. انتهى كلامه. قال الزمخشري: والذين أشركوا على هذا، أي على أنه كلام مبتدأ، مشاربهإلى اليهود، لأنهم قالوا عزير ابن الله. انتهى كلامه. فعلى هذا القول، يكون قد أخبر أن من هذه الطائفةالتي اشتدّ حرصها على الحياة من {يَوَدُّ } لو عمرألف سنة، فيكون ذلك نهاية في تمني طول الحياة، ويكون الذينأشركوا من وقوع الظاهر المشعر بالعلية موقع المضمر، إذ المعنى: ومنهم قوم يود أحدهم، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف، أيومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها، كقوله تعالى:

{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ }

{ وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ، وكقول العرب: منا ظعن ومنا أقام، وعلىأن تكون الواو في {وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } لعطف المفرد على المفرد، قالوا: ويكون قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } جملة فيموضع الحال، أي وادًّا أحدهم، قالوا: ويكون حالاً من الذين، فيكون العامل أحرص المحذوف، أو من الضمير في أشركوا، فيكونالعامل أشركوا. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب في ولتجدنهم، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادًّا أحدهم، ويجوز أنيكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة. {أَحَدِهِمْ }: أي واحد منهم، وليس أحدهنا هو الذي في قولهم ما قام أحد، لأن هذا مستعمل في النفي أو ما جرى مجراه. والفرق بينهما أنأحداً هذا أصوله همزة وحاء ودال، وأصول ذلك واو وحاء ودال. فالهمزة في أحدهم بدل من واو، ولا يراد بقوله:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي يود واحد منهم دون سائرهم، وإنما أحدهم هنا عام عموم البدل، أي هذا الحكم عليهم بودهمأن يعمروا ألف سنة، هو يتناول كل واحد واحد منهم على طريقة البدل. فكان المعنى أنك إذا نظرت إلى حرصواحد منهم، وشدّة تعلق قلبه بطول الحياة، وجدته لو عمر ألف سنة. {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ }: مفعول الودادة محذوفتقديره: يود أحدهم طول العمر. وجواب لو محذوف تقديره: لو يعمر ألف سنة لسر بذلك، فحذف مفعول يود لدلالة لويعمر عليه، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه. هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان. وذهب بعضالكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن، فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هومفعول يود، كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة. فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف، وعلى القول الأوللا يكون لقوله: {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } محل إعراب. وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول، كما ذكرنا، والترجيحبين القولين هو مذكور في علم النحو. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت: هو حكايةلودادتهم، ولو في معنى التمني، وكان القياس لو أعمر، إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله: يود أحدهم، كقولهم: حلفبالله ليفعلنّ. انتهى كلامه. وفيه بعض إبهام، وذلك أن يود فعلى قلبي، وليس فعلاً قولياً، ولا معناه معنى القول. وإذاكان كذلك، فكيف تقول هو حكاية لودادتهم؟ إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوّز، وذلك أن يجري يود مجرىيقول، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية، فكأنه قال: يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة. ولاتحتاج لو، إذا كانت للتمني، إلى جملة جوابية، لأن معناها معنى: يا ليتني أعمر، وتكون إذ ذاك الجملة في موضعمفعول على طريق الحكاية. فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال: أن تكون حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وأنتكون مصدرية، وأن تكون للمتني محكية. ومعنى ألف سنة: العمر الطويل في أبناء جنسه، فيكون ألف سنة كناية عن الزمانالطويل، ويحتمل أن يزيد ألف سنة حقيقة، وإن كان يعلم أنه لا يعيش ألف سنة، لأن التمني يقع على الجائزوالمستحيل عادة أو عقلاً، فيكون هذا معناه أنهم لشدة حرصهم في ازدياد الحياة يتعلق تمنيهم في ذلك بما لا يمكنوقوعه عادة. {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ }: الضمير من قوله: وما هو عائد على أحدهم، وهواسم ما، وبمزحزحه خبر ما فهو في موضع نصب، وذلك على لغة أهل الحجاز. وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ماورد في القرآن من ذلك، وأن يعمر فاعل بمزحزحه، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعمير. وجوّزوا أيضاً في هذاالوجه، أعني: أن يكون الضمير عائداً على أحدهم، أن يكون هو مبتدأ، وبمزحزحه خبر. وأن يعمر فاعل بمزحزحه، فتكون ماتميمية. وهذا الوجه، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية. وأجازوا أن يكون هو ضميراً عائداًعلى المصدر المفهوم من قوله: {لَوْ يُعَمَّرُ }، وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ماأو مبتدأ. وقيل: هو كناية عن التعمير، وأن يعمر بدل منه، ولا يعود هو على شيء قبله. والفرق بين هذاالقول والذي قبله، أن مفسر الضمير هنا هو البدل، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لويعمر. وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق. فهذا يفسره ماقبله، وذاك يفسره ما بعده. وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن يكون هو مبهماً، وأن يعمر موضحه. يعني: أنيكون هو لا يعود على شيء قبله، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر. وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أنيكون هو ضمير الشأن، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين، وهو أن مفسر ضمير الشأن، وهو المسمى عندهم بالمجهول، يجوزأن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو: ظننته قائماً زيد، وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهولعندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم. وكان المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد، ولذلك أعربوا في: ظننته قائماًزيد، الهاء ضمير المجهول، وهي مفعول ظننت، وقائماً المفعول الثاني، وزيد فاعل بقائم. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسرإلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر. قال ابن عطية، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد. انتهىكلامه، ويحتاج إلى تفسير، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ، فإذا قلت:ما زيد هو القائم، جوّزوا أن تقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم، وما تعميره هو بمزحزحه. ثم قدمالخبر مع العماد، فجاء: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، أي تعميره، ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن شرطالفصل عندهم أن يكون متوسطاً. وتلخص في هذا الضمير: أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أوعلى ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة، أظهرها الأول. {وَٱللَّهُ بَصِيرٌبِمَا يَعْمَلُونَ }: قرأ الجمهور يعملون بالياء، على نسق الكلام السابق. وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب بالتاء، على سبيل الالتفاتوالخروج من العيبة إلى الخطاب. وهذه الجملة تتضمن التهديد والوعيد، وأتى عنا بصفة بصير، وإن كان الله تعالى متنزهاً عنالجارحة، إعلاماً بأن علمه، بجميع الأعمال، علم إحاطة وإدراك للخفيات. وما: في بما، موصولة، والعائد محذوف، أي يعملونه. وجوّزوا فيهاأن تكون مصدرية أي بعملهم، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه تعالى محيطاً بأعمالهم السالفة والآتية لتواخي الفواصل. وقدتضمنت هذه الآيات الكريمة الامتنان على بني إسرائيل وتذكارهم بنعم الله، إذ آتى موسى التوراة المشتملة على الهدى والنور، ووالىبعده بالرسل لتجديد دين الله وشرائعه، وآتى عيسى الأمور الخارقة، من إحياء الأموات، وإبراء الأكمة والأبرص، وإيجاد المخلوق، ونفخ الروحفيه، والإنباء بالمغيبات، وغير ذلك. وأيده بمن ينزل الوحي على يديه، وهو جبريل عليه السلام. ثم مع هذه المعجزات والنعمكانوا أبعد الناس عن قبول ما يأتيهم من عند الله، وكانوا بحيث إذا جاءهم رسول بما لا يوافقهم، بادروا إلىتكذيبه، أو قتلوه، وهم غير مكترثين بما يصدر منهم من الجرائم، حتى حكي أنهم في أثر قتلهم الجماعة من الأنبياء،تقوم سوق البقل بينهم، التي هي أرذل الأسواق، فكيف بالأسواق التي تباع فيها الأشياء النفيسة؟ ثم نعى تعالى عليهم أنهمباقون على تلك العادة من تكذيب ما جاء من عند الله، وإن كانوا قبل مجيئه به يذكرون أنه يأتيهم منعند الله. فحين وافاهم ما كانوا ينتظرونه ويعرفونه، كفروا به، فختم الله عليهم باللعنة. وأن سبب طردهم عن رحمة اللههو ما سبق من كفرهم، وأن إيمانهم كان قليلاً، إذ كانوا قبل مجيء الكتاب يؤمنون بأنه سيأتي كتاب. ثم أخذفي ذكر ذمهم، أن باعوا أنفسهم النفيسة بما يترتب لهم على كفرهم بآيات الله من المآكل والرّياسات المنقضية في الزمناليسير، وأن الحامل على ذلك هو البغي والحسد، لأن اختص الله بفضله من شاء من عباده، فلم يرضوا بحكمه ولاباختياره، فباؤا بالغضب من الله، وأعد لهم في الآخرة العذاب الذي يذلهم ويهينهم. إذ كان امتناعهم من الإيمان، إنما هوللتكبر والحسد وعدم الرّضا بالقدر، فناسب ذلك أن يعذبوا العذاب الذي فيه صغار لهم وذلة وإهانة. ثم أخبر تعالىعنهم، أنهم إذا عرض عليهم الإيمان بما أنزل الله، أجابوا أنهم يؤمنون بالتوراة، وأنهم يكفروا بما سواها. هذا والكتب المنزلةمن عند الله سواء، إذ كلها حق يصدق بعضها بعضاً. فالكفر ببعضها كفر بجميعها. ثم أخبر تعالى بكذبهم في قولهم:{نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا }، وذلك بأنهم قتلوا الأنبياء، والتوراة ناطقة باتباع الأنبياء والاقتداء بهم، فقد خالف قولهم فعلهم. ثمكرر عليهم، توبيخاً لهم، أن موسى الذي أنزل عليه التوراة، وأنهم يزعمون أنهم آمنوا بها، قد جاءهم بالأشيائ الواضحة والمعجزاتالخارقة، من نجاتهم من فرعون، وفلق البحر وغير ذلك، ومع ذلك، اتخذوا من بعد ذهابه إلى مناجاة ربه إلهاً منأبعد الحيوان ذهناً وأبلدها، وهو العجل المصنوع من حليهم، المشاهد إنشاؤه وعمله، وموسى لم يمت بعد، وكتاب الله طري نزولهعليهم، لم يتقادم عهده. وكرر تعالى ذكر رفع الطور عليهم ليقبلوا ما في التوراة، وأمروا بالسمع والطاعة، فأجابوا بالعصيان. هذاوهم ملجؤن إلى الإيمان، أو كالملجئين، لأن مثل هذا المزعج العظيم من رفع جبل عليهم ليشدخوا به جدير بأن يأتيالإنسان ما أمر به، ويقبل ما كلف به من التكاليف. وتأبيهم لذلك، وعدم قبولهم، سببه أن عبادة العجل خامرت قلوبهمومازجتها، حتى لم تسمع قبولاً لشيء من الحق، والقلب إذا امتلأ بحب شيء لم يسمع سواه ولم يصغ إلى ملام،وأنشدوا:

ملأت ببعض حبك كل قلبي فإن ترد الزيادة هات قلبا

ثم ذمهم تعالىعلى ما أمرهم به إيمانهم، ولا إيمان لهم حقيقة، بل نسب ذلك إليهم، على سبيل التهكم من عبادة العجل واتخاذهإلهاً من دون الله. ثم كذبهم في دعواهم أن الجنة هي خالصة لهم، لا يدخلها أحد سواهم، فأمرهم بتمني الموت،لأن من اعتقد أنه يصير إلى سرور وحبور ولذة دائمة لا تنقضي، يؤثر الوصول إلى ذلك، وانقضاء ما هو فيهمن الذلة والنكد. وأخبر تعالى أن تمني الموت لا يقع منهم أبداً، وأن امتناعهم من ذلك هو بما قدّمت أيديهممن الجرائم، فظهر كذبهم في دعواهم بأنهم أهل الجنة. ثم أخبر ترشيحاً لما قبله من عدم تمنيهم الموت، أنهم أشدّالناس حرصاً على حياة، حتى أنهم أحرص من الذين لا يؤمنون بالدار الآخرة، ولا يرجون ثواباً، ولا يخافون عقاباً. ثمذكر أن أحدهم يودّ أن يعمر ألف سنة، ومع ذلك فتعميره، وإن طال، ليس بمنجيه من عذاب الله. ثمختم الآيات بأن الله تعالى مطلع على قبائح أفعالهم، ومجازيهم عليها. وتبين بمجموع هذه الآيات ما جبل عليه اليهود منفرط كذبهم، وتناقض أفعالهم وأقوالهم، ونقص عقولهم، وكثرة بهتهم، أعاذنا الله من ذلك، وسلك بنا أنهج المسلك.

{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } * { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } * { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ } * { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[عدل]

جبريل: اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلىالله عليه وسلم، وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف، للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله، ومنذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي،ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً. وقال المهدوي: ومن قال: جبر، مثل: عبد وإيل، اسم من أسماء الله،جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزح، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح، لأنهإما أن يلحظ فيه معنى الإضافة، فيلزم الصرف في الثاني، وإجراء الأول بوجوه الإعراب، أو لا يلحظ، فيركبه تركيب المزج.فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والأضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة، ولا البناء دليل على أنهليس من تركيب المزج. وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرةلغة. قالوا: جبريل: كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص. وقال ورقة بن نوفل:

وجبريل يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل

وقال عمران بن حطان:

والروج جبريل منهم لا كفاء له وكان جبريل عند الله مأموناً

وقال حسان:

وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء

وكذلك إلا أن الجيم مفتوحة، وبهاقراءة الحسن وابن كثير وابن محيصن. قال الفراء: لا أحبها، لأنه ليس في الكلام فعليل، وما قاله ليس بشيء، لأنما أدخلته العرب في كلامها على قسمين: منه ما تلحقه بأبنية كلامها، كلجام، ومنه ما لا تلحقه بها، كابريسم. فجبريل،بفتح الجيم، من هذا القبيل. وقيل: جبريل مثل شمويل، وهو طائر. وجبرئيل كعنتر يس، وهي لغة: تميم، وقيس، وكثير منأهل نجد. حكاها الفراء، واختارها الزجاج وقال: هي أجود اللغات. وقال حسان:

شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها

وقال جرير:

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد وبجبرئيل وكذبوا ميكال

وهي قراءة الأعمش وحمزة والكسائي وحماد بن أبي زياد، عن أبي بكر، عن عاصم. ورواها الكسائي،عن عاصم، وكذلك. إلا أنه بغير ياء بعد الهمزة، وهي رواية يحيـى بن آدم، عن أبي بكر، عن عاصم. وتروىعن يحيـى بن يعمر، وكذلك. إلا أن اللام مشدّدة، وهي قراءة أبان، عن عاصم ويحيـى بن يعمر. وجبرائيل وجبراييل، وقرأبهما ابن عباس وعكرمة. وجبرالُ وجبرائل بالياء والقصر، وبها قرأ طلحة. وجبراييل بألف بعد الراء، بعدها يا آن، أولاهما مكسورة،وقرأ بها الأعمش وابن يعمر أيضاً. وجبرين وجبرين، وهذه لغة أسد. وجبرائين. قال أبو جعفر النحاس: جمع جبريل جمع التكسيرعلى جباريل على اللغة العالية. إذن: به علم به، وآذنه: أعلمه. آذنتكم على سواء: أعلمتكم. ثم يطلق على التمكين. إذنلي في كذا: أي مكنني منه. وعلى الاختيار فعلته بإذنك: أي باختيارك. ميكائيل: الكلام فيه كالكلام في جبريل، أعني منمنع الصرف. وبعد قول من ذهب إلى أنه مشتق من ملكوت الله، أو ذهب إلى أن معنى ميكا: عبد، وايل:اسم من أسماء الله تعالى، وقد تصرفت فيه العرب. قالوا: ميكال، كمفعال، وبها قرأ أبو عمرو وحفص، وهي لغة الحجاز.وقال الشاعر:

ويوم بدر لقيناكم لنا مدد فيه مع النصر ميكال وجبريل

وكذلك. إلاأن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ لقنبل، وكذلك. إلا أنه بياء بعد الهمزة، وبها قرأ حمزة والكسائيوابن عامر وأبو بكر، وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي. وميكييل كميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن، وكذلك. إلا أنه لا ياءبعد الهمزة. وقرىء بها: وميكاييل بياءين بعد الألف، أولاهما مكسورة، وبها قرأ الأعم5. نبذ الشيء، ينبذه نبذاً: طرحه وألقاه. الظهر:معروف، وجمع فعل الاسم غير المعتل العين على فعول قياس: كظهور، وعلى فعلان: كظهران، وهو مشتق من الظهور. تقول: ظهرالشيء ظهوراً، إذا بدا. تلا يتلو: تبع. وتلا القرآن: قرأه وتلا عليه كذب، قاله أبو مسلم. وقال أيضاً: تلاعنه صدف،فإذا لم يذكر الصلتين احتمل الأمرين. سليمان: اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية. والعجمة، ونظيره من الأعجمية، في أن فيآخره ألفاً ونوناً: هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون: كعثمان، لأن يادة الألف والنون موقوفةعلى الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية. السحر: مصدر سحر يسحر سحراً، ولا يوجد مصدر لفعل يفعلعلى وزن فعل إلا سحر وفعل، قاله بعض أهل العلم. قال الجوهري: كل ما لطف ودق فهو سحر. يقال سحره:أبدى له أمراً يدق عليه ويخفى. انتهى. وقال:

أداء عـراني مـن حبـائك أم سحـر

ويقال سحره: خدعه، ومنه قول امرىءالقيس:

أرانا موضعين لأمر عيب ونسحر بالطعام وبالشراب

أي نعلل ونخدع. وسيأتي الكلام علىمدلول السحر في الآية. بابل: اسم أعجمي، اسم أرض، وسيأتي تعيينها. هاروت وماروت: اسمان أعجميان، وسيأتي الكلام على مدلولهما، ويجمعانعلى: هو اريت ومواريت، ويقال: هوارته وموارته، ومثل ذلك: طالوت وجالوت. الفتنة: الابتلاء والاختبار. فتن يفتن فتوناً وفتنة. المرء: الرجل،والأفصح فتح الميم مطلقاً، وحكي الضم مطلقاً، وحكي اتباع حركة الميم لحركة الإعراب فتقول: قام المرء: بضم الميم، ورأيت المرء:بفتح الميم، ومررت بالمرء: بكسر الميم، ومؤنثه المرأة. وقد جاء جمعه بالواو والنون، قالوا: المرؤوون. الضرر والنفع معروفان، ويقال: ضرّيضر، بضم الضاد، وهو قياس المضعف المتعدي ومصدره: الضرّ والضرّ والضرر، ويقال: ضار يضير، قال:

يقول أناس لا يضيرك نابها بلى كل ما شف النفوس يضيرها

ويقال: نفع ينفع نفعاً. ورأيت في شرح الموجز،الذي للرماني في النحو، وهو تأليف رجل يقال له الأهوازي، وليس بأبي على الأهوازي المقري، أنه لا يقال منه اسممفعول نحو منفوع، والقياس النحوي يقتضيه. الخلاق، في اللغة: النصيب، قاله الزجاج. قال: لكنه أكثر ما يستعمل في الخير، قال:

يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا السرابيل من قطر وأغلال

والخلاق: القدر، قالالشاعر:

فما لك بيت لدى الشامخات وما لك في غالب من خلاق

مثوبة: مفعلةمن الثواب، نقلت حركة الواو إلى الثاء، ويقال مثوبة. وكان قياسه الإعلال فتقول: مثابة، ولكنهم صححوه كما صححوا في الأعلاممكورة، ونظيرهما في الوزن من الصحيح: مقبره ومقبره. {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ }: أجمع أهل التفسير أن اليهودقالوا: جبريل عدوّنا، واختلف في كيفية ذلك، وهل كان سبب النزول محاورتهم مع النبي ، أو محاورتهممع عمر؟ وملخص العداوة: أن ذلك لكونه يأتي بالهلاك والخسف والحدب، ولو كان ميكال صاحب محمد لاتبعناه، لأنه يأتي بالخصبوالسلم، ولكونه دافع عن بخت نصّر حين أردنا قتله، فخرب بيت المقدس وأهلكنا، ولكونه يطلع محمداً على سرنا. والخطاب بقوله: قل للنبي ، ومعمول القول: الجملة بعدو من هنا شرطية. وقال الراغب: العداوة،التجاوز ومنافاة الالتئام. فبالقلب يقال العداوة، وبالمشي يقال العدو، وبالإخلال في العدل يقال العدوان، وبالمكان أو النسب يقال قوم عدي،أي غرباء. {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ }: ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بدأن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز. وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ}، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عودالضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لاوجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير. والضمير في فإنه عائد على جبريل، والضمير في نزله عائد على القرآن لدلالةالمعنى عليه. ألا ترى إلى قوله: {مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }؟ وهذه كلها من صفات القرآن. ولقوله:{بِإِذُنِ ٱللَّهِ }، أي فإن جبريل نزل القرآن على قلبك بإذن الله. وقيل: الضمير في فإنه عائد على الله، وفينزله عائد على جبريل، التقدير: فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك. وفي كل من هذين التقديرين إضمار يعود علىما يدل عليه سياق المعنى. لكن التقدير الأول أولى، لما ذكرناه، وليكون موافقاً لقوله:

{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ }

، وينظر للتقدير الثاني قراءة من قرأ: نزل بالتشديد، والروح بالنصب. ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كانعدواً لجبريل، فعداوته لا وجه لها، لأنه هو الذي نزل بالقرآن المصدق للكتب، والهادي والمبشر، كمن آمن. ومن كان هذهالمثابة فينبغي أن يحب ويشكر، إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله، أو من كانعدوًّا لجبريل، فسبب عداوته أنه نزل القرآن المصدّق لكتابهم، والملزم لهم اتباعك، وهم لا يريدون ذلك، ولذلك حرّفوا ما فيكتبهم من صفاتك، ومن أخذ العهود عليهم فيها، بأن يتبعوك. والفرق بين كل واحد من هذين التقديرين: أن التقدير الأولموجب لعدم العداوة، والتقدير الثاني كأنه كالعذر لهم في العداوة كقولك: إن عاداك زيد، فقد آذيته وأسأت إليه. {عَلَىٰقَلْبِكَ }: أتى بلفظ على، لأن القرآن مستعل على القلب، إذ القلب سامع له ومطيع، يمتثل ما أمر به، ويجتنبما نهى عنه. وكانت أبلع من إلى، لأن إلى تدل على الانتهاء فقط، وعلى تدل على الاستعلاء. وما استعلى علىالشيء يضمن الانتهاء إليه. وخص القلب، ولم يأت عليك، لأن القلب هو محل العقل والعلم وتلقي الواردات، أو لأنه صحيفتهالتي يرقم فيها، وخزانته التي يحفظ فيها، أو لأنه سلطان الجسد. وفي الحديث: إن في الجسد مضغة . ثم قال أخيراً: ألا وهي القلب . أو لأن القلب خيار الشيء وأشرفه، أو لأنه بيت الله، أو لأنه كنى به عن العقل إطلاقاًللمحل على الحال به، أو عن الجملة الإنسانية، إذ قد ذكر الإنزال عليه في أماكن:

{ مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ }

{ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ }

، أو يكون إطلاقاً لبعض الشيء على كله، أقوال سبعة. وأضاف القلب إلى الكافالتي للخطاب، ولم يضفه إلى ياء المتكلم، وإن كان نظم الكلام يقتضيه ظاهراً، لأن قوله: {مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ }،هو معمول لقول مضمر، التقدير: قل يا محمد قال الله من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك. وإلى هذانحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله تعالى، كأنه قيل: ما تكلمت به من قولي: {مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَفَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ }، وكلامه فيه تثبيج. وقال ابن عطية: يحسن في كلام العرب أن يحرز اللفظ الذي يقولهالمأمور بالقول، ويحسن أن يقصد المعنى بقوله، فيسرده مخاطبة له، كما تقول: قل لقومك لا يهينوك، فكذلك هذه الآية، ونحومن هذا قول الفرزدق:

ألم تر أني يوم جوّ سويقة دعوت فنادتني هنيدة ماليا

فأحرز المعنى، ونكب عن نداء هنيدة مالك. انتهى كلامه، وهو تخريج حسن، ويكون إذ ذاك الجملة الشرطية معمولة للفظ: قل،لا لقول: مضمر، وهو ظاهر الكلام {بِإِذُنِ ٱللَّهِ }: أي بأمر الله، اختاره في المنتخب ومنه:

{ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }

{ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }

. وقد صرح بذلك في:

{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ }

،أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، قاله ابن عطية؛ أو باختياره، قاله الماوردي، أو بتيسيره وتسهيله، قاله الزمخشري. {مُصَدّقاًلّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }: انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في نزله، إن كان يعود على القرآن، وإن عادعلى جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآنمصدقاً. والثاني: أن يكون حالاً من جبريل. وما: في الموصولة، وعنى بها الكتب التي أنزل الله على الأمم قبل إنزاله،أو التوراة والإنجيل. والهاء: في بين يديه يحتمل أن تكون عائدة على القرآن، ويحتمل أن تعود على جبريل. فالمعنى مصدقاًلما بين يديه من الرسل والكتب. {وَهُدًى وَبُشْرَىٰ }: معطوفان على مصدّقاً، فهما حالان، فيكون من وضع المصدر موضعاسم الفاعل كأنه قال: وهادياً ومبشراً، أو من باب المبالغة، كأنه لما حصل به الهدى والبشرى، جعل نفس الهدى والبشرى.والألف في بشرى للتأنيث، كهي في رجعى، وهو مصدر. وقد تقدّم الكلام على المعنى في قوله:

{ وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ }

في أوائل هذه السورة، والمعنى: أنه وصف القرآن بتصديقه لما تقدّمه من الكتب الإلهية، وأنه هدى، إذ فيه بيانما وقع التكليف به من أعمال القلوب والجوارح، وأنه بشرى لمن حصل له الهدى. فصار هذا الترتيب اللفظي في هذهالأحوال، لكون مدلولاتها ترتبت ترتيباً وجودياً. فالأول: كونه مصدّقاً للكتب، وذلك لأن الكتب كلها من ينبوع واحد. والثاني: أن الهدايةحصلت به بعد نزوله على هذه الحال من التصديق. والثالث: أنه بشرى لمن حصلت له به الهداية. وقال الراغب: وهدىمن الضلالة وبشرى بالجنة. {لِلْمُؤْمِنِينَ }: خص الهدى والبشرى بالمؤمنين، لأن غير المؤمنين لا يكون لهم هدى به ولا بشرى،كما قال:

{ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }

، ولأن المؤمنين هم المبشرون،

{ فَبَشّرْ عِبَادِى }

{ يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ }

. ودلت هذهالآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره، حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة. ودلتعلى ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة الرفيعة عند الله تعالى، قالوا: وهذه الآية تعلقت بها الباطنية، وقالوا:إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول. وردّ عليهم: بأنه معجزة ظاهرة بنظمه، وأن الله سماه وحياً وكتاباً وعربياً، وأن جبريلنزل به، والملهم لا يحتاج إلى جبريل. {مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ }: العداوة بين الله والعبد لا تكون حقيقة،وعداوة العبد لله تعالى مجاز، ومعناها: مخالفة الأمر، وعداوة الله للعبد، مجازاته على مخالفته. {وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَعَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ }. أكد بقوله: وملائكته، أمر جبريل، إذ اليهود قد أخبرت أنه عدوهم من الملائكة، لكونه يأتي بالهلاك والعذاب،فرد عليهم في الآية السابقة، بأنه أتى بأصل الخيور كلها، وهو القرآن الجامع لتلك الصفات الشريفة، من موافقته لكتبهم، وكونههدى وبشرى، فكانت تجب محبته. وردّ عليهم في هذه الآية، بأن قرنه باسمه تعالى مندرجاً تحت عموم ملائكته، ثم ثانياًتحت عموم رسله، لأن الرسل تشمل الملائكة وغيرهم ممن أرسل من بني آدم، ثم ثالثاً بالتنصيص على ذكره مجرداً معمن يدّعون أنهم يحبونه، وهو ميكال، فصار مذكوراً في هذه الآية ثلاث مرار، كل ذلك رد على اليهود وذم لهم،وتنويه بجبريل. ودلت الآية على أن الله تعالى عدوّ لمن عادى الله وملائكته ورسله وجبريل وميكال. ولا يدل ذلك علىأن المراد من جع عداوة الجميع، فالله تعالى عدوّه، وإنما المعنى أن من عادى واحداً ممن ذكر، فالله عدوه، إذمعاداة واحد ممن ذكر معاداة للجميع. وقد أجمع المسلمون على أن من أبغض رسولاً أو ملكاً فقد كفر. فقال بعضالناس: الواو هنا بمعنى أو، وليست للجمع. وقال بعضهم: الواو للتفصيل، ولا يراد أيضاً أن يكون عدواً لجميع الملائكة، ولالجميع الرسل، بل هذ من باب التعليق على الجنس بصورة الجمع، كقولك: إن كلمت الرجال فأنت طالق، لا يريد بذلكإن كلمت كل الرجال، ولا أقل ما ينطلق عليه الجمع، وإنما علق بالجنس، وإن كان بصورة الجمع، فلو كلمت رجلاًواحداً طلقت، فكذلك هذا الجمع في الملائكة والرسل. فالمعنى أن من عادى الله، أو ملكاً من ملائكته، أو رسولاً منرسله، فالله عدوّ له. وقال الماتريدي: يحتمل أن يكون الافتتاح باسم الله، على سبيل التعظيم لمن ذكر بعده، كقولهتعالى:

{ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }

، وخص جبريل وميكال بالذكر تشريفاً لهما وتفضيلاً. وقد ذكرنا عن أستاذنا أبي جعفر أحمد بنإبراهيم بن الزبير، قدس الله روحه، أنه كان يسمي لنا هذا النوع بالتجريد، وهو أن يكون الشيء مندرجاً تحت عموم،ثم تفرده بالذكر، وذلك لمعنى مختص به دون أفراد ذلك العام. فجبريل وميكال جعلاً كأنهما من جنس آخر، ونزل التغايرفي الوصف كالتغاير في الجنس، فعطف. وهذا النوع من العطف، أعني عطف الخاص على العام، على سبيل التفضيل، هو منالأحكام التي انفردت بها الواو، فلا يجوز ذلك في غيرها من حروف العطف. وقيل: خصا بالذكر، لأن اليهود ذكرهما، ونزلتالآية بسببهما. فلو لم يذكرا، لكان لليهود تعلق بأن يقولوا: لم نعاد الله؟ ولا جميع ملائكته؟ وقيل: خصاً بالذكر دفعاًلإشكال: أن الموجب للكفر عداوة جميع الملائكة، لا واحد منهم. فكأنه قيل: أو واحد منهم. وجاء هذا الترتيب في غايةالحسن، فابتدىء بذكر الله، ثم بذكر الوسائط التي بينه وبين الرسل، ثم بذكر الوسائط التي بين الملائكة وبين المرسل إليهم.فهذا ترتيب بحسب الوحي. ولا يدل تقديم الملائكة في الذكر على تفضيلهم على رسل بني آدم، لأن الترتيب الذي ذكرناههو ترتيب بالنسبة إلى الوسائط، لا بالنسبة إلى التفضيل. ويأتي قول الزمخشري: بأن الملائكة أشرف من الأنبياء، إن شاء الله،قالوا: واختصاص جبريل وميكال بالذكر يدل على كونهما أشرف من جميع الملائكة. وقالوا: جبريل أفضل من ميكال، لأنه قدم فيالذكر، ولأنه ينزل بالوحي والعلم، وهو مادة الأرواح. وميكال ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أشرف من غذاءالأشباح، انتهى. ويحتاج تفضيل جبريل على ميكائيل إلى نص جلي واضح، والتقدم في الذكر لا يدل على التفضيل، إذ يحتملأن يكون ذلك من باب الترقي. ومن: في قوله: {مَن كَانَ عَدُوّا } شرطية. واختلف في الجواب فقيل: هو محذوف،تقديره: فهو كافر، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب: {فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ }، وأتى باسم الله ظاهراً، ولم يأتبأنه عدوّ لاحتمال أن يفهم أن الضمير عائد على اسم الشرط فينقلب المعنى، أو عائد على أقرب مذكور، وهو ميكال،فأظهر الاسم لزوال اللبس، أو للتعظيم والتفخيم، لأن العرب إذا فخمت شيئاً كررته بالاسم الذي تقدم له:

{ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ }

{ إِنَّ ٱللَّهَ * لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ }

، وقول الشاعر:

لا أرى الموت يسبـق الموت شيـئا

وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط، تحتاج إلىرابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو: الكافرين، أوقع الظاهر موقع الضمير لتواخي أواخر الآي، ولينص علىعلة العداوة، وهي الكفر، إذ من عادى من تقدّم ذكره، أو واحداً منهم، فهو كافر. أو يراد بالكافرين العموم، فيكونالرابط العموم، إذ الكفر يكون بأنواع، وهؤلاء الكفار بهذا الشيء الخاص فرد من أفراد العموم، فيحصل الربط بذلك. وقال الزمخشري:عدوّ للكافرين، أراد عدوّ لهم، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر. وإذا كانت عداوةالأنبياء كفراً، فما بال الملائكة؟ وهم أشرف. والمعنى: من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدّ العقاب. انتهى كلامه. وهذا مذهب المعتزلةيذهبون إلى أن الملائكة أفضل من خواص بني آدم. ودل كلام الزمخشري على أن الظاهر وقع موقع الضمير، وأنه لميلحظ فيه العموم، وقال ابن عطية: وجاءت العبارة بعموم الكافرين، لأن عود الضمير على من يشكل، سواء أفردته أو جمعته،ولو لم يبال بالإشكال. وقلنا: المعنى يدل السامع على المقصد للزم تعيين قوم بعداوة الله لهم. ويحتمل أن الله قدعلم أن بعضهم يؤمن، فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله للمآل. وروي أن عمر نطق بهذه الآية مجاوباً لبعضاليهود في قوله: ذلك عدوّنا، يعني جبريل، فنزلت على لسان عمر. قال ابن عطية: وهذا الخبر ضعيف. {وَلَقَدْ أَنزَلْنَاإِلَيْكَ ءايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ }: سبب نزولها، فيما ذكر الطبراني، أن ابن صوريا قال للنبي : ما جئتبآية بينة، فنزلت. وقال الزمخشري: قال ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها، فنزلت انتهى. ومناسبةهذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه لما ذكر تعالى جملاً من قبائح اليهود وذمهم على ذلك، وكان فيما ذكر منذلك معاداتهم لجبريل، فناسب ذلك إنكارهم لما نزل به جبريل، فأخبر الله تعالى بأن الرسول عليه السلام أنزل عليه آياتبينات، وأنه لا يجحد نزولها إلا كل فاسق، وذلك لوضوحها. والآيات البينات، أي القرآن، أو المعجزات المقرونة بالتحدّي، أو الأخبارعما خفي وأخفي في الكتب السالفة، أو الشرائع، أو الفرائض، أو مجموع كل ما تقدّم، أقوال خمسة. والظاهر مطلق مايدل عليه آيات بينات غير معين شيء منها، وعبر عن وصولها إلى رسول الله بالإنزال، لأنذلك كان من علوّ إلى ما دونه. {وما يكفر بها إلا الفاسقون}: المراد بالفاسقين هنا: الكافرون، لأن كفر آياتالله تعالى هو من باب فسق العقائد، فليس من باب فسق الأفعال. وقال الحسن: إذا استعمل الفسق في شيء منالمعاصي، وقع على أعظمه من كفر أو غيره. انتهى. وناسب قوله: بينات لفظ الكفر، وهو التغطية، لأن البين لا يقعفيه إلباس، فعدم الإيمان به ليس لشبهة لأنه بين، وإنما هو تغطية وستر لما هو واضح بين. وستر الواضح لايقع إلا من متمرد في فسقه، والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، لأن سياق الآيات يدل على أنذلك لليهود. وكنى بالفسق هنا عن الكفر، لأن الفسق: خروج الإنسان عما حدّ له. وقد تقدّم قول الحسن أنه يدلعلى أعظم ما يطلق عليه، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا المبالغ في كفره، المنتهي فيه إلى أقصى غاية. وإلاالفاسقون: استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد،وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيداً، علىمراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون. {أَوْ كُلَّمَا عَـٰهَدُواْ عَهْدًا }: نزلتفي مالك بن الصيف، قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ، ولاميثاق. وقيل في اليهود: عاهدوا على أنه إن خرج لنؤمنن به ولنكوننّ معه على مشركي العرب، فلما بعث كفروا به.وقال عطاء: هي العهود بينه وبين اليهود نقضوها، كفعل قريظة والنضير. قال تعالى:

{ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ }

. وقرأالجمهور: أو كلما، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل: هي زائدة، قاله الأخفش. وقيل: هي أو الساكنة الواو، وحركتبالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل: واو العطف، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين:أن الأصل تقديم هذه الواو، والفاء، وثم، على همزة الاستفهام، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وإن الزمخشري يذهبإلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟

{ وَكُلَّمَا عَـٰهَدُواْ }

.وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى (بالتكميل لشرح التسهيل). والمرادبهذا الاستفهام: الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها، فصار ذلك عادة لهم وسجية. فينبغي أن لا يكترثبأمرهم، وأن لا يصعب ذلك، فهي تسلية للرسول ، إذ كفروا بما أنزل عليه، لأن ما كانديدناً للشخص وخلقاً، لا ينبغي أن يحتفل بأمره. وقرأ أبو السمال العدوي وغيره: أو كلما بسكون الواو، وخرّج ذلك الزمخشريعلى أن يكون للعطف على الفاسقين، وقدّره: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا، أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة. وخرجهالمهدوي وغيره على أن أو للخروج من كلام إلى غيره، بمنزلة أم المنقطعة، فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهداً، كقولالرجل للرجل، لأعاقبنك، فيقول له: أو يحسن الله رأيك، أي بل يحسن رأيك، وهذا التخريج هو على رأي الكوفيين، إذيكون أو عندهم بمنزلة بل. وأنشدوا شاهداً على هذه الدعوى قول الشاعر:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح

وقد جاء أو بمعنى الواو في قوله:

مـن بيـن ملجـم مهـره أو سـافع

وقوله:

صـدور رمـاح أشـرعت أو سـلاسـل

يريد: وشافع وسلاسل. وقد قيل في ذلك: في قوله خطيئة، أو إثماً، أنالمعنى: وإنما فيحتمل أن تخرّج هذه القراءة الشاذة على أن تكون أو بمعنى الواو، كأنه قيل: وكلما عاهدوا عهداً. وقرأالحسن وأبو رجاء: أو كلما عوهدوا على البناء للمفعول، وهي قراءة تخالف رسم المصحف. وانتصاب عهداً على أنه مصدر علىغيرالصدر، أي معاهدة، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهداً. وقرىء: عهدوا، فيكون عهداً مصدراً،وقد تقدم. ما المراد بالعهد في سبب النزول، فأغنى عن إعادته. {نَّبَذَهُ }: طرحه، أو نقضه، أو ترك العملبه، أو اعتزله، أو رماه. أقوال خمسة، وهي متقاربة المعنى. ونسبة النبذ إلى العهد مجاز، لأن العهد معنى، والنبذ حقيقة،إنما هو في المتجسدات:

{ فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِى ٱلْيَمّ }

{ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً }

، فنبذ خاتمه، فنبذالناس خواتيمهم،

{ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَاء }

. {فَرِيقٌ مّنْهُمُ }: الفريق اسم جنس لا واحد له، يقع على القليل والكثير. وقرأعبد الله: نقضه فريق منهم، وهي قراءة تخالف سواد المصحف، فالأولى حملها على التفسير. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }:يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، وهو الظاهر، فيكون أكثرهم مبتدأ، ولا يؤمنون خبر عنه، والضمير في أكثرهم عائدعلى من عاد عليه الضمير في عاهدوا، وهم اليهود. ومعنى هذا الإضراب هو: انتقال من خبر إلى خبر، ويكون الأكثرعلى هذا واقعاً على ما يقع عليه الفريق، كأنه أعم، لأن من نبذ العهد مندرج تحت من لم يؤمن، فكأنهقال: بل الفريق الذي نبذ العهد، وغير ذلك الفريق، محكوم عليه بأنه لا يؤمن. وقيل: يحتمل أن يكون من بابعطف المفردات، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق، أي نبذه فريق منهم، بل أكثرهم، يكون قوله: لا يؤمنون، جملة حالية، العاملفيها نبذه، وصاحب الحال هو أكثرهم. ولما كان الفريق ينطلق على القليل والكثير، وأسند النبذ إليه، كان فيما يتبادر إليهالذهن أنه يحتمل أن يكون النابذون قليلاً، فبين أن النابذين هم الأكثر، وصار ذكر الأكثر دليلاً على أن الفريق هنالا يراد به اليسير منهم، فكان هذا إضراباً عما يحتمله لفظ الفريق من دلالته على القليل. والضمير في أكثرهم عائدعلى الفريق، أو على جميع بني إسرائيل. وعلى كلا الاحتمالين، ذكر الأكثر محكوماً عليه بالنبذ، أو بعدم الإيمان، لأن بعضهمآمن، ومن آمن فما نبذ العهد. وأجمع المسلمون على أن من كفر بآية من كتاب الله، أو نقض عهد اللهالذي أخذه على عباده في كتبه، فهو كافر. {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ }: الضمير في جاءهم عائد على بني إسرائيل، أوعلى علمائهم، والرسول، محمد ، أو عيسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أو معناه الرسالة، فيكونمصدراً، كما فسروا بذلك قوله:

لقد كذب الواشون ما بحت عنده بليلي ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة، أقوالثلاثة. والظاهر الأول، لأن الكلام مع اليهود إنما سيق بالنسبة إلى محمد . ألا ترى إلى قوله:{قُلْ } قل، و {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ }، {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ }، فصار ذلك كالالتفات، إذ هو خروج منخطاب إلى اسم غائب، ووصف بقوله: {مّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدّقٌ }: تفخيماً لشأنه، إذ الرسول على قدر المرسل. ثم وصفأيضاً بكونه مصدّقاً لما معهم، قالوا: وتصديقه أنه خلق على الوصف الذي ذكر في التوراة، أو تصديقه على قواعد التوحيدوأصول الدين وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو تصديقه: إخباره بأن الذي معهم هو كلام الله، وأنه المنزل على موسى، أوتصديقه: إظهار ما سألوا عنه من غوامض التوراة، أقوال أربعة. وإذا فسر بعيسى، فتصديقه هو بالتوراة، وإذا فسر بالرسالة، فنسبةالمجيء والتصديق إلى الرسالة على سبيل التوسع والمجاز. وقرأ ابن أبي عبلة: مصدّقاً بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرةكونها قد وصفت بقوله:

{ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }

. {لّمَا مَعَهُمْ }: هو التوراة. وقيل: جميع ما أنزل إليهم من الكتب،كزبور داود، وصحف الأنبياء التي يؤمنون بها. {نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ }: الكتاب الذي أوتوه هو التوراة،وهو مفعول ثانٍ لأتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدّم القول في ذلك. {كِتَـٰبِ ٱللَّهِ }:هو مفعول بنبذ. فقيل: كتاب الله هو التوراة. ومعنى نبذهم له: اطراح أحكامه، أو اطراح ما فيه من صفة رسولالله ، إذ الكفر ببعض، كفر بالجميع. وقيل: الإنجيل، ونبذهم له: اطراحه بالكلية. وقيل: القرآن، وهذا أظهر،إذ الكلام مع الرسول. فصار المعنى: أنه يصدّق ما بين أيديهم من التوراة، وهم بالعكس، يكذبون ما جاء به منالقرآن ويطرحونه. وأضاف الكتاب إلى الله تعظيماً له، كما أضاف الرسول إليه بالوصف السابق، فصار ذلك غاية في ذمهم، إذجاءهم من عند الله بكتابه الصدّق لكتابهم، وهو شاهد بالرسول والكتاب، فنبذوه {وَرَاء ظُهُورِهِمْ }، وهذا مثل يضرب لمن أعرضعن الشيء جملة. تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:

تميم بن مرّ لا تكونن حاجتي بظهر ولا يعيا عليك جوابها

وقالت العرب ذلك، لأن ما جعل وراء الظهر فلا يمكن النظر إليه، ومنه:

{ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً }

. وقال في المنتخب: النبذ والطرح والإلقاء متقاربة، لكن النبذ أكثر ما يقال فيما يئس، والطرح أكثرما يقال في المبسوط وما يجري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه ملاقاة بين شيئين. {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }: جملةحالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ، وهو تشبيه لمن يعلم بمن يجهل، لأن الجاهل بالشيء لا يحفل بهولا يعتد به، لأنه لا شعور له بما فيه من المنفعة. ومتعلق العلم محذوف، أي كأنهم لا يعلمون أنه كتابالله، لا يداخلهم فيه شك لثبوت ذلك عندهم وتحققه، وإنما نبذوه على سبيل المكابرة والعناد. وقال الشعبي: هو بين أيديهميقرأونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه. انتهىكلامه. وقول الشعبي وسفيان يدل على أن كتاب الله هو التوراة. وقال الماوردي: كأنهم لا يعلمون ما أمروا به مناتباع محمد . وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أنه نبي صادق. وقيل: معناه كأنهم لا يعلمون أنالقرآن والتوراة والإنجيل كتب الله، وأن كل واحد منها حق، والعمل به واجب. {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِسُلَيْمَـٰنَ }، معنى تبعوا: أي اقتدوا به إماماً، أو فضلوا، لأن من اتبع شيئاً فضله، أو قصد واو الضمير فيواتبعوا لليهود، فقال ابن زيد والسدّي: يعود على من كان في عهد سليمان. وقال ابن عباس: في عهد رسول الله. وقيل: يعود على جميع اليهود. والجملة من قوله: واتبعوا، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله:ولما جاءهم إلى آخرها، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع، وهذا هو الظاهر، لا أنهامعطوفة على قوله: نبذه فريق منهم، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول،بخلاف نبذ كتاب الله، فإنه مترتب على مجيء الرسول. وتتلو: تتبع، قاله ابن عباس، أو تدعي، أو تقرأ، أو تحدث،قاله عطاء، أو تروي، قاله يمان، أو تعمل، أو تكذب، قاله أبو مسلم. وهي أقوال متقاربة. وما موصولة، صلتها تتلو،وهو مضارع في معنى الماضي، أي ما تلت. وقال الكوفيون: المعنى: ما كانت تتلو، لا يريدون أن صلة ما محذوفة،وهي كانت وتتلو، في موضع الخبر، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي، كما أنك إذا قلت: كان زيد يقوم،هو إخبار بقيام زيد، وهو ماض لدلالة كان عليه. والشياطين: ظاهره أنهم شياطين الجن، لأنه إذا أطلق الشيطان، تبادر الذهنإلى أنه من الجان. وقيل: المراد شياطين الإنس. وقرأ الحسن والضحاك: الشياطون، بالرفع بالواو، هو شاذ، فاسه على قول العرب:بستان فلان حوله بساتون، رواه الأصمعي. قالوا: والصحيح أن هذا الجن فاحش. وقال أبو البقاء: شبه فيه الياء قبل النونبياء جمع الصحيح، وهو قريب من الغلط. وقال السجاوندي: خطأه الخازربجي. على ملك: متعلق بتتلو، وتلا يتعدى بعلى إذاكان متعلقها يتلى عليه لقوله: يتلى على زيد القرآن، وليس الملك هنا بهذا المعنى، لأنه ليس شخصاً يتلى عليه، فلذلكزعم بعض النحويين أن على تكون بمعن في، أي تتلو في ملك سليمان. وقال أصحابنا: لا تكون على في معنىفي، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول، فعديت بعلى لأن تقول: تعدى بها، قال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا } ومعنى: {عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ }، أي شرعه ونبوّته وحاله. وقيل: على عهده، وفي زمانه، وهو قريب. وقيل: علىكرسي سليمان بعد وفاته، لأنه كان من آلات ملكه. وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر، قالوا: وهو الأشهر والأظهر على مانقل في أسباب النزول، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف. وقيل: الذي تلته هو الكذب الذيتضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيماً لشأن ما يتلونه، لأن الذي كان معه: منالمعجزات، وإظهار الخوارق، وتسخير الجن والإِنس، وتقريب المتباعدات، وتأليف الخواطر، وتكليم العجماوات، كان أمراً عظيماً. والساحر يدّعي أشياء من هذاالنوع: من تسخير الجن، وبلوغ الآمال، والتأثير في الخواطر، بل ويدّعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحرفي قوله تعالى: {يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ }، أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر. وقد ذكر المفسرونفي كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصاً كثيرة، الله أعلم به، ولم تتعرض الآية الكريمة، ولا الحديث المسندالصحيح لشيء منه، فلذلك لم نذكره. {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ }: تنزيه لسليمان عن الكفر، أي ليس ما اختلقته الجنمن نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان، لأنه كفر، ومن نبأه الله تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر، فضلاًعن الكفر. وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه، لأنّ النبي لا يمكن أنيقع منه الكفر، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفراً، إذ يحتمل أنهم نسبواإليه الكفر مع السحر. وروي أن رسول الله لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود:انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء، وما كان إلا ساحراً. ولم يتقدّم في الآيات أن أحداً نسب سليمان إلىالكفر، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدّم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به. {وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ }: كفرهم،إما بتعليم السحر، وإما تعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك. واستعمال لكن هنا حسن،لأنها بين نفي وإثبات. وقرىء: ولكنّ بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو. وقرىء: بتخفيف النونورفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي. وإذا خففت، فهل يجوز إعمالها؟ مسألة خلاف الجمهور علىالمنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها، ونقل ذلك غيره عن الأخفش، والصحيح المنع. وقال الكسائي والفراء:الاختيار، التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلىواو معها. كبل: فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل، لأن بل لا تدخل عليها الواو، فإذا كانت لكن مشدّدةعملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة، وهي مسألة خلاف الجمهورعلى أن لكنّ تكون عاطفة. وذهب يونس إلى أنها لبيست من حروف العطف، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك منلسان العرب، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ }

. وأما إذا جاءت بعدها الجملة، فتارة تكون بالواو، وتارة لا يكون معها الواو، كما قالزهير:

إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره لكن وقائعه في الحرب تنتظر

وأما ما يوجد في كتب النحويينمن قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما ضربت زيداً لكن عمراً، وما مررت بزيد لكن عمرو، فهو من تمثيلهم،لا أنه مسموع منا لعرب. ومن غريب ما قيل في لكن: إنها مركبة من كلم ثلاث: لا للنفي، والكاف للخطاب،وأن التي للإثبات والتحقيق، وأن الهمزة حذفت للاستثقال، وهذا قول فاسد، والصحيح أنها بسيطة. {يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ }: الضميرفي يعلمون اختلف في من يعود عليه، فالظاهر أنه يعود على الشياطين، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم، وهو اختيار الزمخشري. وعلىهذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا. قالوا: أو خبراً ثانياً. وقيل: حال من الشياطين. ورد بأنلكن لا تعمل في الحال، وقيل: بدل من كفروا، بدل الفعل من الفعل، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى.والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم. وقيل: الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين. على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليهضمير اتبعوا، فيكون المعنى: يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس، فالناس معلمون للمتبعين. وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين.واختلف في حقيقة السحر على أقوال: الأول: أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات، كالطيران وقطعالمسافات في ليلة. الثاني: أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها، ويدل عليه،

{ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ }

. وفي الحديث، حين سحر لبيد بن الأعصم رسول الله : يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله . وهو قول المعتزلة: يرون أن السحر ليست له حقيقة، ووافقهم أبو إسحاق الاسترأباذي من الشافعية. الثالث: أنه أمر يأخذبالعين على جهة الحيلة، ومنه:

{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ }

، كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقاً، فسجروا تحتها ناراً،فحميت الحبال والعصي، فتحركت وسعت. ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء، يبين كثير منها في الكتاب المسمى (بكشف الدّكوالشعوذة وإيضاح الشك)، وفي كتاب (إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل). وفي الحديث، حين انشق القمر نصفين بمكة، قال أبوجهل: اصبروا حتى يأتي أهل البوادي، فإن لم يخبروا بذلك، كان محمد قد سحر أعيننا، فأتوا فأخبروا بذلك، فقال: ماهذا إلا سحر عظيم. الرابع: أنه نوع من خدمة الجن، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيآتها، فلطف ودقوخفي. الخامس: أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق، وتتخذ منها أرمدة ومداد، ويتلى عليها أسماء وعزائم، ثم تستعمل فيما يحتاجإليها م السحر. السادس: أن أصله طلسمات وقلفطريات، تبنى على تأثير خصائص الكواكب، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون، أواستخدام الشياطين لتسهيل ما عسر. السابع: أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر. قال بعض معاصرينا: هذه الأقوال كلها التي قالوهافي حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدّك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادلوالصرع، وما يجري مجرى ذلك. انتهى كلامه. ولا يشك في أن السحر كان موجوداً، لنطق القرآن والحديث الصحيح به. وأمافي زماننا الآن، فكلما وقفنا عليه في الكتب، فهو كذب وافتراء، لا يترت بعليه شيء، ولا يصح منه شيء ألبتة.وكذلك العزائم وضرب المندل، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء، يصدّقون بهذه الأشياء، ويصغون إلى سماعها. وقد رأيت بعض منينتمي إلى العلم، إذا أفلس، وضع كتباً وذكر فيها أشياء من رأسه، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة. وقد أطلق اسمالسحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة، لأن فيه قلب الصديق عدواً، والحبيب بغيضاً. كما أطلق على حسن التوسلباللفظ الرائق العذب، لما فيه من الاستمالة، وسمي: سحراً حلالاً. وقد روي أن من البيان لسحراً، وقال:

وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المنحرز

وظاهر قوله: {يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ }: أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم.وقيل: المعنى يدلونهم على تلك الكتب، فأطلق على الدلالة تعليماً، تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق،تضر وتنفع، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك، وهذا أيضاً تسمية للمسبب بالسبب. وقيل: يعلمون معناه يعلمون، أييعلمونهم بما يتعلمون به السحر، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم. وأماحكم السحر، فما كان منه يعظم به غير الله من الكواكب والشياطين، وإضافة ما يحدثه الله إليها، فهو كفر إجماعاً،لا يحل تعلمه ولا العمل به. وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء. وأما إذا كان لايعلم منه شيء من ذلك، بل يحتمل، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به. وما كان من نوع التحيلوالتخييل والدّك والشعبذة، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس، فلا ينبغي تعلمه، لأنه من باب الباطل. وإن قصدبذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم، فلا بأس بتعلمه، أو اللهو واللعب، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره.روي: لست من دد ولا دد مني. وأما سحر البيان، فما أريد به تأليف القلوب على الخير، فهو السحر الحلال،أو ستر الحق، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به. وأما حكم الساحر حدًّا وتوبة، فقد تعرض المفسرون لذلك، ولم تتعرضإليه الآية، وهي مسألة موضوعها علم الفقه، فتذكر فيه. {وَمَا أَنَزلَ }: ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب، وأنهمعطوف على قوله: السخر، وظاهر العطف التغاير، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً. وقيل: هو معطوف على ما تتلوالشياطين، أي {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ * ٱلشَّيـٰطِينِ }، و

{ ٱلَّذِى أَنزَلَ }

، وظاهره أن ما علموه الناس، أو ما اتبعوه هومنزل. واختلف في هذا المنزل الذي علم، أو الذي اتبع فقيل: علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من الله للناس،من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كانمؤمناً، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر، وهذا اختيار الزمخشري. وقال مجاهد وغيره: المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرءوزوجه، وهو دون السحر. وقيل: السحر ليعلم على جهة التحذير منه، والنهي عنه، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريفيسير بمبادئه. وقيل: ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان، والمعنى: افتراء على ملك سليمان، وافتراء على ما أنزلعلى الملكين، وهو اختيار أبي مسلم، وأنكر أن يكون الملكان نازلاً عليهما السحر، قال: لأنه كفر، والملائكة معصومون، ولأنه لايليق بالله إنزاله، ولا يضاف إليه، لأن الله يبطله، وإنما المنزل على الملكين الشرع، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك. وقيل:ما حرف نفي، والجملة معطوفة على {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ }، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكال بالسحر،فنفى الله ذلك. {عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ }: قراءة الجمهور بفتح اللام، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة، وقد تقدّم الكلام علىالملك في قوله تعالى:

{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ }

، فقيل: هما جبريل وميكال، كما ذكرناه في هذا القول الأخير. وقيل: ملكانغيرهما وهما: هاروت وماروت. وقيل: ملكان غيرهما، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال، إن شاء الله. وقرأ ابنعباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن ابزي: الملكين، بكسر اللام، فقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل، لأنالملائكة لا تعلم الناس السحر. وقال الحسن: هما علجان ببابل العراق. وقال أبو الأسود: هما هاروت وماروت، وهذا موافق لقولالحسن. وقال ابن أبزي: هما داود وسليمان، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام. وقيل: هما شيطانان. فعلى قول ابن أبزي تكونما نافية، وعلى سائر الأقوال، في هذه القراءة، تكون ما موصولة. ومعنى الإنزال: القذف في قلوبهما. وقد ذكر المفسرون،في قراءة من قرأ: الملكين بفتح اللام، قصصاً كثيراً، تتضمن: أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمرالله به، وأن الله تعالى بكتهم، بأن قال لهم: اختاروا ملكين للهبوط إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت، وركب فيهما الشهوة،فحكما بين الناس، وافتتنا بامرأة، تسمى بالعربية الزهرة، وبالفارسية ميذخت، فطلباها وامتنعت، إلا أن يعبدا صنماً، ويشربا الخمر ويقتلا. فخافاعلى مرهما، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به، فصعدت ونسيت ما تنزل به، فمسخت. وأنهما تشفعا بإدريسإلى الله تعالى، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما ببابل يعذبان. وذكروا في كيفية عذابهما اختلافاً. وهذاكله لا يصح منه شيء. والملائكة معصومون،

{ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

{ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ }

{ يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }

. ولا يصح أن رسول الله كان يلعنالزهرة ولا ابن عمر. وقيل: سبب إنزال الملكين: أن السحرة كثروا في ذلك الزمان، وادعوا النبوّة، وتحدّوا الناس بالسخر. فجاءليعلما الناس السحر، فيتمكنوا من معاوضة السحر، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوّة، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان، ويعرض بينهماالالتباس. فجاء الإيضاح الماهيتين، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء الله وأوليائه كان مباحاً، أو مندوباً، فبعثا لذلك،ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء الله. أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشرعلى مثله، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة. وقيل: أنزلا على إدريس، لأن الملائكة لا يكونون رسلاً لكافة الناس، ولا بد منرسول من البشر. {بِبَابِلَ }: قال ابن مسعود: هي في سواد الكوفة. وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأسالعين. وقيل: هي جبل دماوند. وقيل: هي بالمغرب. وقيل: في أرض غير معلومة، فيها هاروت وماروت، وسميت ببابل، قال الخليل:لتبلبل الألسنة حين أراد الله أن يخالف بينها، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل، فلم يدر أحد ما يقول الآخر،ثم فرّقتهم الريح في البلاد. وقيل: لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ. {هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ }: قرأ الجمهور: بفتح التاء،وهما بدل من الملكين، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما. وقيل: بدل منالناس، فتكون الفتحة علامة للنصب، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين. وقيل: هما قبيلتان من الشياطين، فعلى هذا يكونان بدلاًمن الشياطين، وتك ن الفتحة علامة للنصب، على قراءة من نصب الشياطين. وأما من رفع الشياطين، فانتصابهما على الذم، كأنهقال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين، كما قال الشاعر:

أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع

وهذا على قراءة الملكين، بفتح اللام. وأما من قرأ بكسرها، فيكونان بدلاً من الملكين،إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنافي رفع الشياطين ونصبه. وقرأ الحسن والزهري: هاروت وماروت بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف، أي هما هاروت وماروت،إن كانا ملكين. وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين، الأول أو الثاني، على قراءة من رفعه، إن كانا شيطانين. وتقدّملنا القول في هاروت وماروت، وأنهما أعجميان. وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت، وهو الكسر، وقوله خطأ، بدليل منعهمالصرف لهما، ولو كانا، كما زعم، لانصرفا، كما انصرف جاموس إذا سميت به. واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلادسحراً. {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ }: قرأ الجمهور: بالتشديد، من علم على بابها من التعليم. وقالت طائفة: هو هنابمعنى يعلمان التضعيف، والهمزة بمعنى واحد، فهو من باب الإعلام، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف. وما يعلمان: من أعلم قال:لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراءةأبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه، وفيالثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيدذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطواأن يكون بعدها نكرة، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في (كتاب منهج السالك) منتأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. {حَتَّىٰ يَقُولاَ} حتى هنا: حرف غاية، والمعنى انتفاءتعليمهما، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ }. وقال أبو البقاء: حتى هنابمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في (التسهيل) وأنشد عليهفي غيره:

ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليل

قال: يريدإلا أن تجود، وما في {إِنَّمَا } كافة، لإن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء. وقد أجاز بعض النحويين عملإن مع وجود ما، نحو: إنما زيداً قائم. {نَحْنُ فِتْنَةٌ }: أي ابتلاء واختبار. {فَلاَ تَكْفُرْ }: قال عليرضي الله عنه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه، كأنهما يقولان: لا تفعل كذا، كما لو سأل سائلعن صفة الزنا، أو القتل، فأخبر بصفته ليجتنبه. فكان المعنى في يعلمان: يعلمان. وقال الزمخشري: فلا تكفر: فلا تتعلم، معتقداًأنه حق فتكفر. وحكى المهدوي: أن قولهما {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ }، فلا تكفر استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققاضلاله. وقال في (المنتخب) قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } توكيد لقبول الشرع والتمسك به، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف. وقيل:فلا تكفر، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه. وقيل:فلا تفعله لتعمل به. وهذا على قول من قال: تعلمه جائز والعمل به كفر. وقيل: فلا تكفر بتعليم السحر، وهذاعلى قول من قال: إن تعلمه كفر. وقيل: فلا تكفر بنا، وهذا على قول: إن الملكين نزلا من السماء بالسحر،وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافراً، ومن تركه كان مؤمناً، كما جاء في نهر طالوت، وقد تقدم ماحكاه المهدوي إن قولهما: فلا تكفر، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل النصيحة. وقوله: حتى يقولا مطلقاً في القول، وأقلما يتحقق بالمرة الواحدة، فقيل مرة، وقيل سبع مرات، وقيل تسع مرات، وقيل ثلاث. ويحتاج ذلك إلى صحة نقل، وإنلم يوجد، فيكون محتملاً، والمتحقق المرة الواحدة. واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما، فقال مجاهد: هاروت وماروت لا يصلإليهما أحد، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة، فيتعلمان منهما ما يفرّقان به بين المرء وزوجه. والظاهر أنهاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله: {وَمَا يُعَلّمَانِ }. وقد ذكر المفسرون قصصاً فيما يعرض من المحاورة بين الملكينوبين من جاء ليتعلم منهما، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور. فاختلفوا في الإيمان الذييخرج منه، أيرى فارساً مقنعاً بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء؟ أو نوراً خرج من رماد يسطع حتى يدخلالسماء؟ أو طائراً خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان. وهذا كله شيء لا يصحالبتة، فلذلك لخصنا منه شيئاً، وإن كان لا يصح، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه. {فَيَتَعَلَّمُونَ }: قاله الفراء،واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفرّاء أيضاً: هو عطف على{يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ }، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا }. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو عليوغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم من الملكين خاصة، والضمير في منهما راجع إليهما، لأنقوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبرعن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أنّ فيتعلمونليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب

{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ }

، لأن كفر من نهيأن يكفر في الآية، ليس سبباً لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراضمن اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: {وَلَـٰكِنَّٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا }، لأن قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدّم.وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلهاعطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان، والضميرالذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملاً على المعنى،كما قال تعالى:

{ فما منكم من أحد عنه حاجزين }

. وهذا العطف، وإن كانعلى منفي،، فلذلك المنفي هو موجب في المعنى، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحنفتنة فلا تكفر. وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضاً: الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكريعلمان، بما في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجودفي النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخلعليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجوداً في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لامنفية. وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص. وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته،لأنه كان مولعاً بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلامالمهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير: فيأبون فيتعلمون، أويعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية، أو معطوفاًعلى يعلمون الناس، أو معطوفاً على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى. فتلك أقوال ستة، أقر بهاإلى اللفظ هذا القول الأخير. {مِنْهُمَا }: الضمير في الظاهر عائد على الملكين، أي فيتعلمون من الملكين، سواء قرىءبفتح اللام، أو كسرها. وقيل: يعود على السحر، وعلى الذي أنزل على الملكين، وقيل: عائد على الفتنة والكفر، الذي هومصدر مفهوم من قوله: {فَلاَ تَكْفُرْ }، وهذا قول أبي مسلم، والتقدير عنده: فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقونبه بين المرء وزوجه. {مَا يُفَرّقُونَ بِهِ }: ما موصولة، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة، ولا يجوز أن تكون مصدرية،لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور، والذي يفرق به هو السحر. وعنيبالتفريق: تفريق الألفة والمحبة، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان، أو تفريق الدين، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتداً، فيكونذلك مفرقاً بينهما. {بَيْنَ ٱلْمَرْء }: قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز. وقرأ الحسن والزهري وقتادة: المر بغيرهمز مخففاً. وقرأ ابن أبي إسحاق: المرء بضم الميم والهمزة. وقرأ الأشهب العقيلي: المرء بكسر الميم والهمز، ورويت عن الحسن.وقرأ الزهري أيضاً: المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأمّا فتح الميم وكسرها وضمها فلغات، وأما المر بكسر الراءفوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء، وحذف الهمزة، وأما تشديدها بعد الحذف، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد، كما رويعن عاصم: مستطرّ بتشديد الراء في الوقف، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فأقرها على تشديدها فيه. {وَزَوْجِهِ }: ظاهره أنهيريد به امرأة الرجل. وقيل الزوج هنا: الأقارب والإخوان، وهم الصنف الملائم للإنسان، ومنه { من كل زوج بهيج }

{ ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوٰجَهُمْ }

. {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ }: الضمير الذي هو: هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضميرفيتعلمون. وقيل: على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا. وقيل: على الشياطين. وبضارين: في موضع نصب على أن ما حجازية،أو في موضع رفع على أن ما تميمية. والضمير في به عائد على ما في قوله: {مَا يُفَرّقُونَ }. وقرأالجمهور: بإثبات النون في بضارين. وقرأ الأعمش: بحذفها، وخرّج ذلك على وجهين: أحدهما: أنها حذفت تخفيفاً، وإن كان اسم الفاعلفي صلة الألف واللام. والثاني: أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هوبه، كما قال:

هما أخوا في الحرب مـن لا أخا له

وكما قال:

كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي

وهذااختيار الزمخشري، ثم استشكل ذلك، لأن أحداً مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال: فإن قلت:كيف يضاف إلى أحد، وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور. انتهى. وهذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصلبين المضاف والمضاف إليه بالظرف، والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه، لأنهمشغول بعامل جر، فهو المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعل حرف الجر جزءاً من المجرور، فهذا ليس بشيء، لأنه مؤثرفيه. وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأول، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها. فمن النثر قولالعرب، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، يريدون: ثنتان ومائتان. {مّنْ أَحَدٍ }، من زائدة، واحد: مفعول بضارين. ومنتزاد في المعفول، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربتمن رجل، وما ضرب زيد من رجل. وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل، لأنالمعنى: وما يضرون من أحد. {إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ }: مستثنى مفرغ من الأحوال، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعلفي قوله: {بِضَارّينَ }، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو: {مّنْ أَحَدٍ }، ويحتمل أن يكون حالاً منبه، أي السحر المفرق به، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرف المحذوف. والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناهاعند الكلام على المفردات. فقال الحسن: الإذن هنا: هو التخلية بين المسحور وضرر السحر. وقال الأصم: العلم. وقال غيره: الخلق،ويضاف إلى إذنه كقوله:

{ كُنْ فَيَكُونُ }

وقيل: الأمر، قيل: والإذن حقيقة فيه، واستبعد ذلك، لأن الله لا يأمربالسحر، ولأنه ذمّهم على ذلك. وأوّل معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة. كافراً فإن هذا حكم شرعي، وذلك لايكون إلا بأمر الله. وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر، لكن ذلك لا يضر إلابإذن الله، لأنه ربما أحدث الله عنده شيئاً، وربما لم يحدث. {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ }: لما ذكرأنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما، ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك، بل هوأيضاً يضر من تعلمه. ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصلبه النفع، نفى النفع عنه بالكلية، وأتى بلفظ لا، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل. والظاهر أن {وَلاَ يَنفَعُهُمْ } معطوفعلى {يَضُرُّهُمْ }، وكلا الفعلين صلة لما، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم علىإضمار هو، أي وهو لا ينفعهم، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، فتكون جملة حالية، وهذا ضعيف. وقد قيل:الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة. وقيل: هو في الدنيا والآخرة، فإن تعلمه، إن كان غير مباح، فهو يجر إلى العملبه، وإلى التنكيل به، إذا عثر عليه، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فلمايترتب عليه من العقاب. {وَلَقَدْ عَلِمُواْ }: الضمير عائد قيل: على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام، وكانواحاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه، ولما أخرجوه بعد موته قالوا: والله ما هذامن عمل سليمان ولا من دخائزه. وقيل: عائد على من بحضرة رسول الله من اليهود. وقيل:عائد على اليهود قاطبة، أي علموا ذلك في التوراة. وقيل: عائد على علماء اليهود. وقيل: عائد على الشياطين. وقيل: علىالملكين، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر: فلا تكفر، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة. وأتى بضمير الجمععلى قول من يرى ذلك. وعلم: هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين، وعلقت عن الجملة، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعولواحد، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت. والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. واللام في: {لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ }هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق، وأجازوا حذفها، وهي باقية على منع العمل،وخرجوا على ذلك.

إنـي وجـدت مـلاك الشيمة الأدب

يريد لملاك الشيمة. ومن هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء. والجملة من قوله:{مَا لَهُ فِى ٱلاْخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ } في موضع الخبر. واللام في لقد للقسم. هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين. وجملة{وَلَقَدْ عَلِمُواْ } مقسم عليها التقدير: والله لقد علموا. والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها. وأجاز الفراء أن تكون الجملتانمقسماً عليهما، وتكون من للشرط، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: اللام في {لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } هيالتي يوطأ بها القسم مثل:

{ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ }

، ومن في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط وجواب القسم ماله فيالآخرة من خلاق. انتهى كلامه. فاشتراه في القول الأول صلة، وفي هذا القول خبر عن من، ويكون إذ ذاك جوابالشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم، لأنه اجتمع قسم وشرط، ولم يتقدّمهما ذو خبر، فكان الجواب للسابق، وهو القسم، ولذلككان فعل الشرط ماضياً في اللفظ. هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه. وفي كلا القولين يكون: لمن اشتراه، في موضعنصب: بيعلموا. وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط، وقال هذا ليس موضع شرط، ولم ينقل عنهتوجيه، كونه ليس موضع شرط. وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى، لأن الاشتراءقد وقع، وجعله شرطاً لا يصح، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى.فلما كان كذلك، كان ليس موضع شرط. والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر، أو الكفر، أو كتابهم الذي باعوهبالسحر، أو القرآن، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر، أقوال أربعة. والخلاق: النصيب، قاله مجاهد، أو الدين، قاله الحسن؛ أو القوام،قاله ابن عباس، أو الخلاص، أو القدر، قاله قتادة؛ أقوال خمسة. {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ }: تقدّم القولفي بئس، وفي ما الواقعة بعدها، ومعناه: ذمّ ما باعوا به أنفسهم. والضمير في به عائد على السحر، أو الكفر.والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره: على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر، أو الكفر. والضمير في: شروا، ويعلمون، باتفاق لليهود.فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان، وفي زمانه، أو الملكينبفتح اللام، أو بكسرها، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم. وإن اتحد المسند إليه، أوّل العلم الثاني بالعقل، لأن العلممن ثمرته، فلما انتفى الأصل، نفى ثمرته. أو بالعمل، لأنه من ثمرة العلم، فلما انتفت الثمرة، جعل ما ينشأ عنهمنفياً، أو أوّل متعلق العلم، وهو المحذوف، أي علموا ضرره في الآخرة، ولم يعلموا نفعه في الدنيا. أو علموا نفيالثواب، ولم يعلموا استحقاق العذاب. وجواب لو محذوف تقديره: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }. ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم. {وَلَوْ أَنَّهُمْءامَنُواْ وٱتَّقَوْا }: قد تقدّم الكلام في لو وأقسامها، وهي هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، ويأتي الكلام علىجوابها إن شاء الله. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ } تمنياً لإيمانهم، على سبيل المجاز، عنإرادة الله، إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدىء: {لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ }، انتهى. فعلى هذالا يكون للجواب لازم، لأنها قد تجاب إذا كانت للتمني بالفاء، كما يجاب ليت. إلا أن الزمخشري دس في كلامههذا، ويحرجه مذهبه الاعتزالي، حيث جعل التمني كناية عن إرادة الله، فيكون المعنى: إن الله أراد إيمانهم، فلم يقع مراده،وهذا هو عين مذهب الاعتزال، والطائفة الذين سموا أنفسهم عدلية:

قالوا يريد ولا يكون مراده عدلوا ولكن عن طريق المعرفه

وأنهم آمنوا، يتقدّر بمصدر كأنه قيل: ولو إيمانهم، وهو مرفوع. فقال سيبويه: هو مرفوعبالابتداء، أي ولو إيمانهم ثابت. وقال المبرد: هو مرفوع على الفاعلية، أي ولو ثبت إيمانهم. ففي كل من المذهبين حذفللمسند، وإبقاء المسند إليه. والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو، والضمير في أنهم لليهود، أو الذين يعلمون السحر، قولان.والإيمان والتقوى: الإيمان التام، والتقوى الجامعة لضروبها، أو الإيمان بمحمد وبما جاء به، وتقوى الكفر والسحر، قولان متقاربان. {لَمَثُوبَةٌ}: اللام لام الابتداء، لا الواقعة في جواب لو، وجواب لو محذوف لفهم المعنى، أي لا ثيبوا، ثم ابتدأ علىطريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وترتبه عليهما، هذا قول الأخفش، أعني أن الجواب محذوف. وقيل: اللامهي الواقعة في جواب لو، والجواب: هو قوله: {لَمَثُوبَةٌ }، أي الجملة الإسمية. والأول اختيار الراغب، والثاني اختيار الزمخشري. قال:أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في لجواب، لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصبإلى الرفع في: سلام عليكم لذلك، انتهى كلامه. ومختاره غير مختار، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائيةجواباً للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه. ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، وليس مثل سلام عليكم، لثبوت رفع سلامعليكم من لسان العرب. ووجه من أجاز ذلك قوله: بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال، فصلح لذلك من حيث وقوعهللمضي. وقد تكلمنا على هذه المسألة في (كتاب التكميل) من تأليفنا، بأشبع من هذا. وقرأ الجمهور: لمثوبة بضم الثاء، كالمشورة.وقرأ قتادة وأبو السمال وعبد الله بن بريدة: بسكون الثاء، كمشورة. ومعنى قوله: لمثوبة، أي لثواب، وهو الجزاء والأجر علىالإيمان والتقوى بأنواع الإحسان. وقيل: لمثوبة: لرجعة إلى الله خير. {مِنْ عِندِ ٱللَّهِ }: هذا الجار والمجرور في موضعالصفة، أي كائنة من عند الله. وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة. وفي وصف المثوبة بكونها من عندالله، تفخيموتعظيم لها، ولمناسبة الإيمان والتقوى. لذلك، كان المعنى: أن الذي آمنتم به واتقيتم محارمه، هو الذي ثوابكم منه على ذلك،فهو المتكفل بذلك لكم. واكتفى بالتنكير في ذلك، إذ المعنى لشيء من الثواب.

قليلـك لا يقــال لــه قليــل

{خَيْرٌ }خبر لقوله: لمثوبة، وليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية. فهي كقوله: {أفمن يلقى في النار خيروخير مستقرّا.

فشـــركمـــا لخيــركمــا الفـــداء

{لو كانوا يعلمون}: جواب لو محذوف: التقدير: لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً، ويعنيسبب المثوبة، وهو الإيمان والتقوى. ولذلك قدّره بعضهم لآمنوا، لأن من كان ذا علم وبصيرة، لم يخف عليه الحق، فهويسارع إلى اتباعه، ولا الباطل، فهو يبالغ في اجتنابه. ومفعول يعلمون محذوف اقتصاراً، فالمعنى: لو كانوا من ذوي العلم، أواختصاراً، فقدره بعضهم: لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك، وقدره بعضهم: لو كانوا يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى.وقيل: العلم هنا كناية عن العمل، أي لو بعلمهم، ولما انتقت ثمرة العلم الذي هو العمل، جعل العلم هنا كنايةعن العمل، أي لو كانوا يعلمون بعلمهم، ولما انتفت ثمرة العلم الذي هو العمل، جعل العلم منتفياً. وقد تضمنتهذه الآيات الشريفة ما كان عليه اليهود من خبث السريرة، وعدم التوفيق والطواعية لأنبياء الله، ونصب المعاداة لهم، حتى انتهىذلك إلى عداوتهم من لا يلحقه ضرر عداوتهم، وهو من لا ينبغي أن يعادى، لأنه السفير بين الله وبين خلقه،وهو جبريل. أتى بالقرآن المصدّق لكتابهم، والمشتمل على الهدى والبشارة لمن آمن به، فكان ينبغي المبادرة إلى ولائه ومحبته. ثمأعقب ذلك بأن من كان عدوًّا لله، أي مخالفاً لأمره وملائكته ورسله، أي مبغضاً لهم، فالله عدوّه، أي معامله بمايناسب فعله القبيح. ثم التفت إلى رسوله بالخطاب، فأخبره بأنه أنزل عليه آيات واضحات، وأنها لوضوحها، لا يكفر بها إلامتمرد في فسقه. ثم أخذ يسليه بأن عادة هؤلاء نكث عهودهم، فلا تبال بمن طريقته هذه، وأنهم سلكوا هذه الطريقةمعك، إذ أتيتهم من عند الله تعالى بالرسالة، فنبذوا كتابه تعالى وراء ظهورهم، بحيث صاروا لا ينظرون فيه، ولا يلتفتونلما انطوى عليه من التبشير بك، وإلزامهم اتباعك، حتى كأنهم لم يطلعوا على الكتاب، ولا سبق لهم بك علم منه.ثم ذكر من مخازيهم أنهم تركوا كتاب الله واتبعوا ما ألقت إليهم الشياطين من كتب السحر على عهد سليمان. ثمنزه نبيه سليمان عن الكفر، وأن الشياطين هم الذين كفروا. ثم استطرد في أخبار هاروت وماروت، وأنهما لا يعلمان أحداًحتى ينصحاه بأنهما جعلا ابتلاءً واختباراً، وأنهما لمبالغتهما في النصيحة ينهيان عن الكفر. ثم ذكر أن قصارى ما يتعلمون منهماهو تفريق بين المرء وزوجه. ثم ذكر أن ضرر ذلك لا يكون إلا بإذن من الله تعالى، لأنه تعالى هوالضار النافع. ثم أثبت أن ما يتعلمون هو ضرر لملابسة ومتعلمه. ثم أخبر أنهم قد علموا بحقيقة الضرر، وإن متعاطيذلك لا نصيب له في الآخرة. ثم بالغ في ذم ما باعوا به أنفسهم، إذ ما تعوضوه مآله إلى الخسران.ثم ختم ذلك بما لو سلكوه، وهو الإيمان والتقوى، لحصل لهم من الله الثواب الجزيل على ذلك، وأن جميعما اجترموه من المآتم، واكتسبوه من الجرائم، يعفي على آثاره جرّ ذيل الإيمان، ويبدّل بالإساءة جميل الإحسان. ولما كانت الآياتالسابقة فيها ما يتضمن الوعيد من قوله: {فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ }، وقوله: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقُونَ }، وذكرنبذ العهود، ونبذ كتاب الله، واتباع الشياطين، وتعلم ما يضر ولا ينفع، والإخبار عنهم بأنهم علموا أنه لا نصيب لهمفي الآخرة، أتبع ذلك بآية تتضمن الوعد الجميل لمن آمن واتقى. فجمعت هذه الآيات بين الوعيد والوعد، والترغيب والترهيب، والإنذاروالتبشير، وصار فيها استطراد من شيء إلى شيء، وإخبار بمغيب بعد مغيب، متناسقاً تناسق اللآلىء في عقودها، متضحة اتضاح الدراريفي مطالع سعودها، معلمة صدق من أتى بها، وهو ما قرأ الكتب، ولا دارس، ولا رحل، ولا عاشر الأحبار، ولامارس

{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ }

صلى الله عليهوأوصل أزكى تحية إليه.

تابع تفسير البحر المحيط