المدينة المسحورة (1946)/الليلة الثامنة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فلما كانت الليلة الثامنة قالت :

كان الصباح التالي — يا مولاي — مفرق الطريق بين عهدين للأميرة وللملك وللمملكة جميعا… لقد صبح المدينة عدو مغير من الشمال، فاجأ الحاميات المبعثرة فقضى عليها، وتدفق على المدينة تدفقاً، فخرج الفرسان للقتال والدفاع. وعندئذ لم يبق مجال لتوسلات الأميرة ورجائها، فلقد ذعرت حينما علمت بقرار أبيها، ولكنها لم تيأس من رجعته عنه لما تعلمه من إعزازه لها وتدليله إياها. ولكن هذا الحادث الذي صبح المدينة قطع الطريق على كل قول، وزحم المجال على كل رجاء، فلم يعد هناك موضع إلا للحرب التي تهدد الجميع، ولم تعد الغابة مجال رياضة ومراد نزهة إنما هي مكان للقتل والقتال، ولقعقعة السيوف وتكسر النصال. أما الفتى الراعي فلم تعد تعلم عنه شيئاً، وما عاد هو يعلم أين ١٠٤ ذهبت ، فالحرب دائرة بأقصى سرعتها ، والجيش المغير يستغل المفاجأة إلى نهايتها ، والجميع في كرب وهم ، اللهم إلا قلباً واحداً نزلت عليه هذه الحرب بردا وسلاماً ، وطمأنينة وأمنا . ذلك قلب الفتاة الراعية التي استردت منذ اليوم حبيبها وخطيبها ! ودارت رحى الحرب أيامـا ، وفوارس المدينة يدافعون كالأبطال عن مدينتهم المهددة ومملكتهم المحطمة ، ولكن المفاجأة الأولى جعلت المغيرين الكفة الراجحة ؛ وكلما مضى يوم بانت الغلبة في صفهم والهزيمة في صف المدافعين ؛ فما انقضت عشرة أيام حتى اضطر هؤلاء إلى التقهقر والاحتماء بأسوار المدينة بعد تغليق أبوابها ؛ وضرب المغيرون الحصار عليها ، وعادت الحرب تراشقا بالسهام والنبال ، حيثما أتيحت للفريقين فرصة وغفلة ولكن هذه الحال قد طالت على المدينة فامتنعت عنها الأقوات وأصبحت مهددة بالجوع إذا نفد منها المخزون ، فعم الكرب ، وزاد الهم ، وبات الملك ورجاله في أسوأ حال . . . إلا أن خاطراً واحداً كان يعزيه بعض العزاء : لقد ألهم إلهاماً أن ينهي حياة الأميرة في الغابة قبل الغارة بليلة واحدة ؛ ولو تأخر لذهبت أسيرة في قبضة المغيرين ، ولتحققت النبوءة كاملة ، فالأسر هو . ه ۱۰ الحياة التي لا حياة فيها ، وهو الموت الذي لا موت فيه : « لن تكون ميتة ولكنها لن تكون في الأحياء » . تلك هي النبوءة المحيرة تتكشف اليوم عن بديهية ظاهرة . حياة الأسر هي هذه الحياة، بلا جدال . ولقد نجت منها الأميرة ، إلا أن تتحطم الأسوار ، أو أن يرغمهم الجوع على الاستفسار ! وعندما وصل في تفكيره إلى هذا الحد اضطرب فؤاده من الخوف والقلق فما الذي يمنع أن تتحقق النبوءة التي صارت واضحة مكشوفة ، ما دام الحصار قائمة والمدينة مهددة ؟ وفى حرارة القلق أمر أن ينادي في المدينة وأن يهتف على أسوارها : - من استطاع أن يرد العدو المغير ، وينقذ المدينة من الدمار ، فله على ذلك مكافأة نادرة : سيتزوج بنت الملك ، ويصبح ولياً للعهد . - ... وانطلق المنادون يتصايحون في المدينة بهذا النداء ، و يرفعون عقيرتهم فوق الأسوار ليسمعهم من في خارج المدينة من أهل المملكة القريبين ومضت ثلاثة أيام لم يتقدم أحد لينال هذا الفوز الذي كان يبدو حاماً من الأحلام ، حتى يئس الملك من الفرج ، وكاد يأمر ۱۰۶ يفتح الابواب ، ولكن شمس اليوم الرابع أشرقت، و إذا بشاب يتقدم إلى الملك يقول : - أنا يا مولاي أتعهد بكسر الأعداء ! - النداء من أسوار لم يكن ذلك إلا الفتى الراعي ، وقد سمع المدينة ، وكان فراق الأميرة وانقطاعها قد كاد يجنه ، فظل يبحث و يسأل حتى علم بعودتها إلى قصر أبيها ، فانقطع كل رجاء له فيها وتمزق قلبه من الحسرة ، ثم ركن أخيراً إلى اليأس ، حتى سمع المنادي ، نخفق له قلبه خفقة شديدة ، واعتزم أن يموت أو يفوز بما لم يخطر له في الأحلام ، وظل يحتال ثلاثة أيام ليدخل المدينة حتى سمح له الحراس بالدخول بعد أن استوثقوا من غايته ، وجاءوا به إلى الملك ليعرض عليه حاجته ! وسر الملك سروراً عظيا بوجود هذا الشاب الشجاع ، ولكنه قال له : من أين لك أن تحاربهم وأنت وحيد ، فهل نجهز لك جيشاً ممن بقى من المدافعين ؟ قال الفتى - لا يا مولاي . لا أريد معى أحداً إلا الكوكبة التي كانت تحرس الأميرة في الغابة ، ففيها البركة والكفاية !

ولما كانت هذه هي الفرصة الأخيرة أمام الملك ، فقد أجاب طلبه ، ودعا له ولجماعته بالنصر المؤزر ، وارتفعت أكف الجميع بالدعاء ، وتعالت أصواتهم بالهتاف ، وهم يشيعونهم إلى الأبواب ۱۰۷ - وانطلق الفتى – يا مولاي - بجماعته الصغيرة ،وقلبه يطفح بشراً ، ونفسه واثقة من الغلبة ، فهو يندفع بألف عزم وعزم و يخيل إليه أن في مكنته دك الجبال ، وتبديل الأحوال - . . . وسرى هذا الشعور إلى نفوس رفاقه، فانقلبوا أسوداً هائجة تذود عن العرين المهدد ، فلما ترامى إلى المغيرين نبأ هذه الكوكبة الصغيرة الخارجة لقتالهم هزئوا وسخروا، وأقبلوا عليهم غير مكترثين بهم يحسبونهم صيداً سهلا . ولكن لم تمض دقائق حتى عاموا : أي أبطال يقاتلون . فلقد تصرع منهم عشرات الفرسان في الميدان ، فأفاقوا ، وبدءوا ينظرون إلى خصومهم القلائل نظرة جديدة ، ويحملون عليهم حملة صادقة . . . ولكن الفتى راح يصول ويجول و يصرخ و يهدر ، ويقتل ويجندل ، والغبار ثائر والمعركة فائرة ، حتى أطاح منهم الرءوس وشتت الجموع ، وألقى الرعب في القلوب ، وهو يهدر في ثورة واندفاع ، وكأنما هو غائب عن الوجود . . حتى أقبل الليل ۱۰۸ فتحاجز الفريقان ، وعاد الفتى بفرسانه إلى المدينة لم يتخلف منهم سوى اثنين صرعا في الميدان ؛ فاستقبلته المدينة كلها بالفرح إذ كان المراقبون على الأسوار يراقبون المعركة و يعلمون الملك بسيرها طول النهار . فلما لقيه استقبله مرحباً وضمه إلى صدره مشجعاً . وأصبح الصباح فبرز الفارس وجماعته ، و برز له من المغير بن شجعانهم وفرسانهم ، فما زال يكرر وقائع اليوم الأول ويزيد حتى أوشك المغيرون على الهزيمة . لولا تشددهم بكثرة العدد وخوف الفضيحة . فما أمسى المساء حتي بادروا بالاحتجاز . وكان يوم ثالث ورابع وخامس ، ثم رجحت الكفة نهائياً و نوى المغيرون الفرار ، فتماسكوا حتى جن الليل ، ثم أقلعوا مولين الأدبار . فما أصبح الصباح حتى كانوا قد أبعدوا إلى الشمال ، فانطلقت في المدينة الزغاريد ، وعلت الأهازيج ، وراح أهل المدينة يتعانقون في الطرقات ، ويتبادلون التهانيء في بشر وانشراح . ولم يبق إلا أن يفى الملك بما وعد ، وأن ينال الفتى حامه البعيد واستقر الرأى على أن يتم ذلك بعد ثلاثة أيام ، وأن يهيأ استقبال حافل رائع للبطل المنقذ ، فيبيت هذه الليالى خارج المدينة حتى . تأخذ زينتها وتستعد لاستقباله ، فإذا كان اليوم الرابع دخلها مع طلعة الشمس كما دخلها أول مرة ، حيث يذهب إلى القصر الملكي فتستقبله كذلك الأميرة . . . ... ۱۰۹ ومضى الفتى يحلم - يا مولاي - حلمه السعيد البعيد ،ومضت المدينة تتهيأ لاستقباله ، والأميرة تكاد تطير من الفرح بعريسها البطل ، وبحبيبها القديم . ولم يحس الجميع أن هناك قلباً يتمزق ونفساً تتحرق ، وأن هناك إنسانة تحس لذع الجمر ولدغة الأفعى - وعذاب الجحيم . تلك الفتاة الراعية – يا مولاى - التي كانت مولهة بابن عمها الراعي ، والتي أمست وأصبحت فإذا آمالها التي عاشت بها ، وأحلامها التي داعبتها ، وحياتها كلها التي أقامتها ، تتحطم وتتناثر في عنف وقسوة دون أن يشعر بها أحد من الناس ، فالجميع منصرفون إلى الاستعداد لليوم العظيم الذي سيقضى عليها القضاء الأخير . ماذا تصنع وهى وحيدة فريدة أمام التيار الجارف الذي لا يحس بوجودها ، ولا يعني بآلامها ، ولا يفكر فيها أقل تفكير تصرخ ؟ تولول ؟ تنطلق كالمجنونة تنادي في كل مكان : أيها الناس اسمعوا . إن هنا مخلوقة آدمية تدوسونها كالنال . . ولكن - .. ما فائدة هذا كله ، ولن يسمع لها أحد ولن ينظر إليها أحد ، وصوتها مهما علا سيغرق في ضجة الهزج والهتاف ! أو مضت في خاطرها فكرة كما تومض الشعلة المضيئة من بعيد : إن الموقف العصيب ليس له إلا شخصية واحدة تسيطر عليه وترد تياره الرهيب . الساحرة ! تيتى . ربة الشعاب والوهاد . ومسخرة المردة والشياطين . . تيتى هي التي توقف هذا التيار . وراحت تنبش في أرض الكوخ فتستخرج الصرة بعد الصرة فلقد كان لها من تلك الصرر نصيب ، حينما كان الفتى يلهيها بالذهب عن الخطر المحيق . وقبل أن يخيم على الصحراء الظلام ، كانت فتاة وحيدة تركض مدفوعة بقوة رهيبة، لاتهاب الليل الزاحف، ولا الأشباح في الجبال . ودخلت الفتاة الشعب وقد خير الظلام ، فانطلقت تجرى ، وقد خامرها الرعب وهز كيانها الخوف ، ولكنها تجرى وتجرى حتى تصل إلى الكهف، فترتمى إليه لاهثة آيسة من النجاة، ويقع نظرها على الساحرة العجوز فتفزع وترتاع ، وتبادر بالقاء صرر النقود إليها وهي تلهث في ارتياع . . وفتحت الساحرة فمها فانطلق منه فحيح مبحوح :

– من القادمة في الظلام. بلا سلام ولا كلام ؟

قالت الفتاة وهي ترتعش :

– فتاة مسكينة هجرها الحبيب وخانها الزمان. جاءت إليك تطلب رد حبيبها إليها، والانتقام ممن بغوا عليها.

عندئذ قهقهت العجوز قهقهة فظيعة كأنها عزيف الجان، وقالت للفتاة المسكينة :

– خذي نقودك فما بي إليها حاجة. اليوم يومي فاتركي اللجاجة. هيا اتبعيني إلى المدينة، أيتها المهجورة المسكينة.

ثم أخذت تحجل وترقص ونردد : آن الأوان، ودار الزمان ثم صرخت صرخة منكرة رعيبة مديدة :

الانتقام… وانطلقت تعدو والفتاة وراءها حتى صارتا على أبواب المدينة.

وأدرك شهر زاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

***


Public domain هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأن مدة حماية حقوق المؤلف قد انقضت بموجب أحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
مصر
مصر