العقد الفريد (1953)/تعريف بالكتاب ومؤلفه بقلم محمد سعيد العريان
تعريف بالكتاب و مؤلفه
يُعَدُّ کتاب «العقد» لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر، لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر : الجاحظ صاحب البيان والتبيين : سنة ۲٥٥ هـ، و ابن قتيبة صاحب دون الأخبار : سنة ٢٧٦هـ؛ والمبرّد صاحب الكامل : سنة ۲۸٥ هـ.
على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقا إلى التأليف في هذا الباب، قد اجتمع له في هذا الكتاب مالم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقا بالمنزلة العلِيَّة التي أحلَّه إياها أُدباء العربية، إذ كان مصدرًا من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يُعول عليها و يستند إليها، بحيث لا يغني غناءه كتاب في المكتبة العربية - على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب.
والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، ويوشك من ينظر فيه أن يجزم بأنه لم يغادر شيئا مما هم الباحث في علم العرب، إلا عرض له، وأعني د « علم العرب مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسية والاجماع التى تتكون منها عناصرُ الثقافة العربية العامة المهد، وأن هذا الكتاب، وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريبًا من ذلك التاريخ و اختصت بالبحث في علوم الدين » ثم تميزت باستقلالها - لا يعدم الباحث أن يجد فروعا من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه ، لعله لايجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم ،
وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه من عرضوا لهذا الباب ، هو أن ابن عبد ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقصر به مغر بيته اللحاق والسبق ؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه ، إذ كان في طبعه من المنافسة وحب القلب ما يحفزه إلى هذا المضمار ، كما سنذكره بعد .
وليس بي من حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه ، فقد تكفل بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب ، ولكن الذي يعني أن أذكره هنا ، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقة إليه و سلكه كذلك من بعده : كان يستند إلى قاعدة مقررة في « علم الأدب ، كما عرفه القدماء ، انظر إلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه : « هذا العالم - یعنی علم الأدب - لاموضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها ، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته ، وهي الإجادة في في المنظوم والمنشور على أساليب العرب و مناحيم ؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة ، من شعر عالى الطبقة ، وجع متساو في الإجادة ، و مسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة ، يستقرى منها الناظرة في الغالب معلم قوانين العربية ، مع ذكر بعض من أيام العرب ، ليفهم به ما يقع في أشعارهم منها ، وكذلك ذكر الهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة ، والمقصود بذلك كله أن لايخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغهم إذا تصفحه . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا هذا الفن قالوا : الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها ، والأخذ من كل علم بطرف،
هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب - توفي سنة ۸۰۸ هـ -. ، كان معروفا لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون ، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه و بعده : يجمعون، من أشعار العرب وأخبارها ، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل المسك ، وإلى الإجادة في في المنظوم والمنشور على أساليب العرب ومناحيهم ؛ وإذ كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى ، فقد كان ذلك مه جه في تصنيف كتابه والحشد له والتفنن فيما ينقل و يختار من أشعار العرب وأخبارها ، ومن أطراف كل علم وطرائفه .
ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار ، ورته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر ، فان كثيرآ ما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام مصادره الأولى قدرت آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب ، وبقي العقد خلقا منها لاغناء عنه ولا بديل منه ، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي و العروضی و صاحب الأخبار والقصص ، فيجد كل طلبته وغرضه ، ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع و مجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء ، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء .
على أن ابن عبدربه لم ينظر فيها جميع لكتابه من الفنون نظر المختص ، بحيث يختار مايختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد و تمحيص واختيار فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجتمع عليه صواب الرأي عند أهله ، لا ، ولكنه نظر إلى جملة ما جمع أظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها ، ويختار الخبر تمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي و النظر والاختصاص ؛ انظر إليه فيها روي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا ، نجد الصحيح والمردود والضعف والمتواتر والموضوع واقرأ له مانقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك ، تجد منه ماترف وماكر وما تصدق وما تكذب ، وما يتناقض آخره وأوله ، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز عليه ما لا يجوز ، ولكنه جامع أخبار و مؤلف نوادر ، جمع ماجمع وألف ما ألف ، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع ؛ ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده ، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة . على أن ذلك لا يعي أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص و الفن ، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل ، كما يقول أصحاب المنطق . قالب:... ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب ؛ وفي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة . يقول ابن عبد ربه في مقدمته : « وقد ألفت هذا الكتاب ، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب و محصول جوامع البيان ، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب ، وإن مالى فيه هو تأليف الاختيار ، و حسن الاختصار ، و فرش لدرر كل كتاب ؛ وما سواه فأخوذ من أفواه العلماء ، و مأنور عن الحكم. والأداء ...
وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه ، بدعونا إلى السؤال : من أين أختار ابن عبد ربه مختار انه ؟ وماهي مصادره الأولى؟... انظر إليه تجده بروی عن الشيباني والمدائی ، والأصمعي ، وأبي عبيدة ، والعتبي ، والشعي ، والسجستاني ، والجاحظ ، وابن قتية ، والميرد ، والرباشی ، والزبادي ، وابن سلام ، و این الکلی ، وغيرهم من علماء المشارقة ، وعن الحشى ، وابن وضاح ، و بقی بن مخلد ، من علماء الأندلس ؛ فأي هؤلاء لتي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة ، و أيهم نقل إليه من أخباره راوية عن راوية ؟ ...
لم يعرض أحد من ترجموا لابن عبد ربه - للحديث عن رحلة له إلى المشرق - إلا فروض نظرية استنبطها بعض المتأخرين الدلائل يستند إليها في كتاب = العقد، ولا نراها تصلح للاستدلال ؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روى من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة ، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء ، وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما ستذكره بعد : الخشی ، ویقی بن مخلد ، وابن وضاح ، وللأولين مهم رحلة إلى المشرق ورواية .
على أن كثير من كتب الشارقة و علومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه ، وكان لها عند العلماء منزلة و مكان ؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيرآ أو قليلا ما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشارقة.
وقد قدمنا القول في صدر هذا البحث أنه لم يسبق ابن عبد ربه إلى التأليف في باب الأخبار والنوادر على هذا النحو إلا ثلاثة نفر : الجاحظ، وابن قتيبة ، والبرد .
أما الجاحظ والمبرد فقد كان لها نهج في التأليف يخالف نهج العقد ، على اتفاقهما في الموضوع و الغرض ؛ فكان انتفاعه ما اطلع عليه من مؤلفاتهما في المادة لا في الطريقة وأما ابن قتيبة ، فان بينه و بين ابن عبد ربه منشا به من وجوه ، خلت بعض الباحثين على الزعم بأن صاحب العقد كان في نهجه وفي تبويه لاحقا مقلدة ، بل قد لا بعضهم في الاستنتاج فزعم أن ابن عبد ربه قد سطا على كثير من كتب ابن قتيبة فنقلها نقلا إلى عقده بحالها من غير تغير كبير ، وإنه مما يقوي هذا الزعم ، تلك الشهرة العظيمة التي كان يحظى بها ابن قتيبة عند أهل الأندلس ، حتى كانوا يتهمون من خلت مكتبته من مؤلفاته ، ولكن العقد الفريد على الرغم من ذلك غير عيون الأخبار ، وابن عبد ربه غير ابن قتيبة ، ولكل من الرجلين شخصيته المتميزة بوضوح من خلال مختاراته ، ولكل منهما مزاجه وروحه ومذهبه وجوه التي يعيش فيه و يصدر عنه ، فسواء كان هذا الزعم صحيحة أو مبالغة في الاستنتاج ، فلن يضير ذلك صاحب العقد شيئا ، ولن ينقص شيئا من قدر کتابه ، إذ كانت المادة التي اجتمع منها الكتابان ليست ملكا لأحد الرجلين ، ولا هي أثرا من إنشائه الأدبي الخالص ولكنها تراث مشترك يتوزعه أبناء العربية ما خلف آباؤهم .
... وليس معنى أنه لم يسبق ابن عبد ربه في بابه إلا دؤلاء النفر الثلاثة ، أنه لم يأخذ عن غيرهم ، ولكن الذي نعنيه أن انتفاعه بكتب هؤلاء النفر كانت أظهر دلالة على نفسها ، وإلا فقد كانت مكتبة قرطبة لهذا العهد حالة بطائفة من الكتب لم يجتمع مثلها في زمان في مكان ، فلا بد أن يكون ابن عبد ربه قد استعان منها بالكثير ، إلى جانب ما أخذ من أفواه العلماء المغاربة الذين كانت لهم رحلة إلى المشرق أذاعوا بها عالم العربية بين الشرق والغرب
للتعريف بصاحب العقد ( مجلة الثقافية - العدد 94 - 15 أكتوبر سنة 1940) : إن أمالى أبي على التالي كانت هي النواة الأولى التي بذرها أبوعلى في بلاد الأندلس من علوم المشرق وعليها تخرج مشهورو الأدباء في الأندلس ، ومنهم ابن عبد ربه ..
و ظاهر كلام الأستاذ العميد صريح في أن ابن عبد ربه كان لاحقا لأني على التالى وأنه من تلاميذه ، وأن كتاب و الأمالى ، أسبق من = العقد الفريده ، وأنه أول ما نقل إلى المغاربة من علم المشرق...
وأرى هذا كله خطأ لا يستند إلى دليل من التاريخ ، فقد كان مقدم أبي على التقالي إلى الأندلس بعد وفاة ابن عبد ربه بسنتين و أشهر (توفي ابن عبد ربه بقرطبة سنة ۳۲۸ ، وكان مقدم أبي على الغالى في إمارة عبد الرحمن الناصر مدينة ۳۳۰ ) ، وكان تأليف كتابه الأمالى مقدمة بستين ، إذ كان هذا الكتاب هو مجموعة محاضراته في جامع قرطبة
فاذا أضفنا إلى ذلك أن ابن عبد ربه قد فرغ من تأليف كتابه « العقد، في سنة ۳۲۲ على مانرجه ، وقدرنا المدة التي أملى فيها أبو على محاضراته في جامع الزهراء قبل أن يجمعها في كتاب ببضع سنين ، كان لنا من ذلك برهان لا ينفع بأن العقد الفريد كان أسبق من الأمالى بضع عشرة سنة ؛ فلا وجه هناك للقول بأن ابن عبد ربه كان من تلاميذ أي على ، وبأن كتابه على منهاجه
وأما قوله إن كتاب الأمالى كان النواة الأولى من على المشارقة في الأندلس ، فينقضه ما كان معروفا قبل ذلك في الأندلس من كتب القوم، حتی روی این كثير في تاريخه : أن أهل المغرب كانوا يتهمون من لم يكن في بيته من مؤلفات ابن قتيبة شيء ( توفي ابن قتيبة سنة ۲۷۹ ، وكان مولد أني على سنة ۲۸۸ )، وكان للمغاربة من العناية بتحصيل على المشرق والتبكير إليه مادة المستنصر إلى أن برسل وراء النسخة الأولى من كتاب الأغاني لأبي الفرج فيشترها الف دينار
أضف إلى ذلك أن رحلة المغاربة إلى الشرق كانت متصلة لطلب العلم منذ أوائل القرن الثالث ، فلا يمكن مع هذا أن يكون على أبي على جديدا على أهل الأندلس في أواسط القرن الرابع ، وأن يكون نواة وقدوة ومنشئ مدرستي تخرج عليها مثل ابن عبد ربه مؤلف العقد
ويتحدث ابن عبد ربه في مقدمته عن « تأليف الاختيار وحسن الاختصار ، فأى معنی لما يذكر من حسن الاختصار ، في هذا المقام و أثرا، یعنى حسن الاختصار في المجموع ، ؟ أو في كل خبر على حدته ؟ أعني : هل كان ابن عبد ربه روى الخير بحروفه كما سمعه أو قرأه من غير اختصار فيه وإنما كان يختصر في جملة ما يروى من الأخبار بحيث لا يثبت منها إلا ما تدعو الحاجة إليه ؟ أو كان يختصر الخير نفسه فيحذف من حروفه ما يحذف وينقص ما ينقص ذهاب إلى الاقتصاد في التعبير عن المعنى الذي ينقله ؟...
أقول : هذا کتاب العقد بين أيدينا ، وقد نظرت فيه طويلا ، و عاودت النظر مرات فيدا لي من طول المراجعة أمر لابد من التنبيه إليه : ذلك أن بعض دواعی ابن عبد ربه في تبويب كتابه ، كانت تقتضيه أن يثبت الخبر مرات في أبواب متفرقة ، لصلاحيته للدلالة في أكثر من موضوع واحد ؛ فاذا أنت حققت النظر في هذه الأخبار الكرة فقل أن تجد منها خبر آ مروا في موضعين بحروفه على وجه واحد ، فثمة الحذف والزيادة والإبدال وليس هناك من سبب - في انری - لهذا الاختلاف في رواية خير واحد في كتاب واحد المؤلف واحد ، إلا أن يكون المؤلف لك من حرية التصرف في رواية هذه الأخبار ما يسمح له أن يرويها بلغته ، ويؤديها على الوجه البياني الذي يراه ، فهو روها بالحذف والاختصار حينا ، وبالبسط والزيادة حينا آخر ؛ ... فهل كان ذلك بعض ما يعنيه ابن عبد ربه به « حسن الاختصار »:...
.... ولقد يكون هذا الخلاف في رواية خبر واحد نتيجة لازمة لاختلاف الرواة الذين ينقل عنهم ، أو نتيجة لازمة لاختلاف الكتب التي ينظر فيها و يقتبس منها ، ولكن كيف يكون التعليل حين يكون راوی الخبر في الموضعين واحدة ، والكتاب المنقول عنه واحدة كذلك؟...
أظن أنه يحق لى بازاء مثل ذلك أن أزعم بأن ابن عبد ربه لم يكن ينظر إلى شروط الرواية تلك النظرة المتحرجة التي تفرض على مثله في هذا المقام أن يلزم جانب الحرص في المحافظة على تص ما يرويه بحروفه ، وأنه كان يجيز لنفسه أن يتصرف في رواية بعض الأخبار تصرف يؤدى بها معناها دون حروفها ، وأحب ذلك يصلح تعليلا لانفراد ابن عبد ربه في بعض ما ورد في كتابه من نصوص تخالف ما أجمع عليه رواتها في مختلف كتب الأخبار والنوادر ، وأحسبه كذلك سية في التزمه صاحب العقد ونبه إليه في مقدمته وهو حذف الأسانيد فيها روی من أخباره .
فاذا صح ذلك ، كان العقد إلى جانب ماقدمنا من التعريف بمزاياه ، مرجعا لغويا يمكن الاستناد إليه في شيء من التطورات اللغوية لبعض معاني العربية بين الشرق والغرب .
أن بعض هذا الاختلاف في رواية بعض الأخبار قد يكون مرجعه رواة الكتاب نفيه وكتبه وناخه ، ولكن ذلك إذا صح في قليلها لايصح في ساترها ؛ وقد نبهنا في هامش هذه الطبعة إلى كثير من أنواع هذا الاختلاف ، فليرجع إليها من شاء للنظر والاستدلال .
بقي أن نسأل : لماذا قصر ابن عبد ربه كتابه على أخبار المشارقة وهو من هو علما وتحصلا ومعرفة بآداب قومه ، وقرطبة هي ماهي في ذلك العصر الزاهر في الأدب و العلم والفن والسياسة ؟...
تعليل ذلك سهل میسور لمن يعرف تاريخ ذلك العصر في قرطبة و بغداد حاضرني البلاد العربية في الغرب والشرق.
لقد كان فرار عبد الرحمن الداخل این معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية في المشرق ، محاولة جريئة لإقامة حكومة أموية في المغرب بازاء الحكومة العباسية في بغداد ؛ ولقد حالف النوفيق عبد الرحمن الداخل فتم له كثير مما أراد ، وأقام عرشا لبني أمية في الأندلس يتوارثه بنوه سيدا عن سيد ، كلهم يحرص على النهوض دولته إلى المنزلة التي يجعلها تناظر بغداد ، فمن ذلك كانت المنافسة بين الدولتين في الشرق والغرب دائبة لاني ، وكانت الوفود لاتغتأ ساعية بين الحاضر تین ، فلا يظهر جديد في بغداد حتی یکون أؤه في فرطة ، ولا ينجم نجم في قرطبة حتى يذيع خبره في بغداد ، واخذت المنافسة بين الدولتين مظهرة عالميا يبدو أثره فيما كان من اهتمام المغاربة بالرحلة إلى الشرق التزود من معارفه ، وفيما كان من تطلع المشارقة إلى الأندلس ليعرفوا كل جديد من خبره وما أحدث علماؤه وأدباؤه في مختلف فروع المعرفة . على أن المغاربة مع ما كان فيهم من اعتداد بأنهم وعصبية لبلادهم لم یکن منکور آ لديهم أن عالم العربية في المشرق كله ، منه نشأ وفيه ماورها ، فكانت إليه أنظارهم ، وإليه حجهم وقبلتهم ، ولایم تمام العالم منهم - عند الرؤساء وعند العامة - إلا أن يكون عليه مشرقيا.
وكما نشاهد في مصر لعهدنا من يزيد في الفضل بكثرة ماروی من علم الأوربين وما يقص من مشاهداته لديهم ومايروى من أخبارهم - كان هنالك في ذلك العهد .......
... وفي ذلك العهد كان ابن عبد ربه ، وكأني به وقد رأى المنزلة التي ينزلها علماء المشارقة من نفوس قومه ، والمكان المرموق الذي تحتله مؤلفاتهم وكتبهم ؛ حتى كان شأن ابن قتيبة وكنبه عندهم ما قدمنا كأني به وقد رأى ذلك ، فدبر أمرآ ، وأحكم خط واتخذ طريقة ؛ ثم خرج على الناس بكتابه يقول : ها أنا ذا ، وها هم أولا. !
وكان علماء الأندلس برحلون إلى المشرق ، فرحل المشرق إلى الأندلس في کتاب ابن عبد ربه ...!
ذلك وجه الرأي فيما أحسب لاقتصار کتاب ابن عبد ربه على أخبار المشارقة الأقليلا منه ، لا أرى لذلك وجها سواه .
ورحل كتاب ابن عبد ربه إلى المشرق تسبقه شهرته ، ووقع في يد الصاحب بن عباد فأقبل عليه مشوقا ملهوفا يلتمس فيه علم مالم يعلم ، فما هو إلا أن نظر فيه حتى طواه وهو يقول أسفا : و هذه بضاعتنا ردت إلينا !... ثم دار الزمان و جئت الحوادث في آثار العرب فخذهم بالسنين و نقص من الأموال والأنفس والثمرات ، وتبعثرت المكتبة الحرية يحات بعد امتلاء ، ولكن على المشارقة ظل محفوظ بين دقي کتاب ابن عبد ربه المغربي الأندلسي القرطی...!
هذا، وقد كان كتاب العقد من بعد، مرجعا له خطره و مقداره عند كثير من علماء المشارقة ، فنقل عنه القلقشندى في صبح الأعشى ، والنويرى في نهاية الأرب ، والأبشی في المستطرف ، والبغدادي في خزانة الأدب ، وابن خلدون في المقدمة ، وغير هؤلاء كثير حتى قل أن يخلو كتاب من كتب النوادر بعد إلا كان العقد مرجمة و خزانة عليه ولو أني ذهبت أستقصى أسامي الكتب التي سطا أصحابها على العقد فاحملوا من خزائنه ما أغناهم وذهب بصيتهم وشهرتهم كل مذهب - الأعياني البحث وانقطع بي دون الاستقصاء
ولكن هذا الكتاب على ما قدمت من وصفه و من خبره و احتفال العلماء به ، لم يسلم من عبث الأيام ، وعدا عليه ما عدا على كثير من تراثنا العربي في الشرق والغرب ، فلم يصل إلينا إلا بعد ما تناولته أيدي العابثين بالمسخ والنشويه والحذف والزيادة ، حتى أوشك - ما دخل عليه - أن يفقد قيمته العلمية عند أهل البحث والنظر .
وكانت أولي طبعاته في مصر سنة ۱۲۹۳ ه ، ومن هذه الطبعة كل الطبعات التالية فهي صورة منها ما فيها من الغلط والتحريف والحشو و النقص ، ولم يحاول أحد منذ ذلك التاريخ أن ينظر في هذه الموسوعة العربية نظر العالم المحقق فيخرجها لقراء العربية في صورة أدى إلى الكمال : بلى ، قد حاول هذه المحاولة غير واحد من أهل التحقيق ثم ارتدوا جميعا على أعقابهم ، ومن هؤلاء من يعد رأسا في الآداب العربية ، منهم الأساتذة الأعلام أصحاب د مختار العقد » : المرحوم محمد الخضري بك ، و عبد الخالق عمر بك ، وعبد العزيز خليل بك ، وعبدالحكيم محمد انظر إليهم يقولون في مقدمة المختار بعد كلام في وصف العقد
«... غير أنا رأينا فيه ثلاثة عيوب كادت تذهب بحسنه و تمحو الأثر من استفادة . الناس به : أما الأول فتحریف یکاد المعنى يضيع بسبه في كثير من مواضعه ، حتى سمعنا من أديب كبير أن إصلاح العقد الفريد مما ليس في مكة إنسان ، و يبين لك هذا أن تنظر إلى مثل هذه الجملة : «والفرح في أهلك، ثم تعلم أنها حرفت عن : والقدح في الملك ، وحينئذ يظهر لك صعوبة هذا الإصلاح حقيقية ... الخ.
قلت : ولو أن الأمر اقتصر على مثل عبارة « الفرح في أهلك، والقدح في الملك » لكان الأمر أهون ما قدروا ...
وسمعت من لا أتهم أن المرحوم الأستاذ المرصفي ، شيخ أدباء الجيل ، هم مرة أن يقرأ العقد لتلاميذه ثم نكص ، إشفاقا من مشقة تصحيحه ، فاذا كان هذا الخبر صحيحة ، ولا أحمد به بعيدا من الصحة ، فان فيه الدلالة على مقدار ما عبثت الأيام بأصول هذا الكتاب ، وما يعترض سبيل تصحيحه من أهوال ....
قلت : إن في النسخة التي بين أيدينا اليوم من العقد ما فيها من المسخ والتحريف والنقص والزيادة . أما المسخ والتحريف خسى الإشارة إلى نوعهما فيما ذكرت قبل من قول أصحاب «مختار العقد» ؛ وأما النقص فان مواضعه ظاهرة في هذه الطبعة بما زيد فيها من العبارات والحروف بين العلامتين []، وأما الزيادة حسب القارئ منها مثل واحد أنه إليه : فقد كانت وفاة ابن عبد ربه مؤلف العقد على التحقيق سنة ۳۲۸ ۵ ؛ فين أين له أن يترجم في أخبار الخلفاء وتواريخهم للراضي والمتقي ، والمستكفي ، والمطيع ، وكلهم بعد وفاة ابن عبد ربه ؟
ذلك هو العقد الفريد كما كان ، وها هو ذا اليوم بين يدى قارته ، لا أزعم أني بلغت به كل ما أردت ، ولكني بذلت له كل ما طقت ؛ وحسبي أن أجد بين يدى قراء العربية اليوم نسخة من هذه الموسوعة الجامعة أقرب إلى الكمال والصحة ، لأشعر بالرضا إلى مابذلت من جهد وما أنفقت من عافية ، ولا أحاول أن أصف على أكثر مما يصف نفسه ؛ ولى من حسن تقدير القراء فيا أحسنت وواسع مغفرتهم فما قصرت ما يمنعني من استجداء الثناء أو تقديم المعاذير : والله حسي !
وإذ كان العقد على ماقدمت من قيمته لكل باحث ، كان لابد لعام نفعه أن يكون له فهارس ترشد إلى أبوابه و تهدى إلى مسالكه ، فعنيت بأن أقيم فهارسه إلى خمسة أنواع :
١ – فهرس الموضوعات ، وقد جعلته ملحقة بكل جزء من أجزائه
٢ – فهرس الأعلام ، ويشمل كل ما يضم العقد بين دفتيه من الأسماء و الگی ، من غير التفات إلى مراتهم العلمية .
٣ – فهرس القوافي .
٤ – فهرس القبائل والطون والأماكن والبلدان والطوائف
٥ – فهرس أنصاف الأبيات
وهذه الفهارس الأربعة الأخيرة ملحقة بالجزء الأخير من الكتاب ، مرتبة على حروف الهجاء .
وأحسب أنه كان يسعي أن أجعل للأمثال فهرسة سادسة، لولا أني رأيتها بمجموعة في کتاب واحد من جواهر العقد ، بحيث لا يصعب على القارئ أن يهدي منها إلى ما يريد من غير أحتاج إلى فهرس يهدي إليها .
وقد ارتضيت أن أجعل الكتاب في ثمان مجلدات ، إذ كان العقد - على أنه كتاب العالم والأديب والمؤرخ - ما لا يستغني عنه طالب القصص والنوادر ، وملتمس الفكاهات والملح ، و متبع الأخبار و الطرف ؛ ومثل هذا الكتاب الذي يلتمس للرياضة واللهو ، ينبغي أن يخق محمله ، ليسهل على صاحبه في السفر و الحضر ، وفي الحديقة والمنزل ..
... وبقي أمر لابد من التيه إليه ، ذلك أني آثرت تسمية الكتاب بالاسم الشائع الذي يعرفه به أكثر قراء العربية اليوم في مختلف أقطارها ، وهو : العقد الفريد، وإنما سماه مؤلفه «العقد»، فقط ، فاستحدث المتأخرون هذه الصفة « الفريد». وفق إلى هذا الرأي المستشرق الألماني بروكلمان (Brockelmann ) ، وتابعه بعض الباحثين من كتاب العربية ويرجح الأستاذ جبرائيل سلمان جبور في كتابه ( ابن عبد ربه و عقده ) أن زيادة الفريده في اسم الكتاب وقعت فيما بين سنی ٦٥٢ - ٨٥٠هـ، وقد استند في رأيه ذلك إلى دلائل حقيقة بالتقدير والنظر، فمن شاء فليرجع إليها ثمة (ص ٢٩ - ۳۱) فان في ذكرها هنالك غناء وكفاية.