العقد الفريد/الجزء الأول/14
قال يزيد: إني قد حملته. قال: فأده. قال يزيد: والله ما حملته إلا لأؤديه ثم قال: يا أمير المؤمنين إن هذه الحمالة وإن عظم خطبها فحمدها والله أعظم منها ويدي مبسوطة بيدك. فابسطها لسؤالها. ثم غدا يزيد بالمال على الخزان فدفعه إليهم. فدخلوا على سليمان فأخبروه بقبض المال. فقال: وفت يمين سليمان احملوا والله علينا من رأى كحمالة تحملها كبش العراق يزيد الأصمعي قال: قدم على يزيد بن المهلب قوم من قضاعة من بني ضنة فقال رجل منهم: والله ما ندري إذا ما فاتنا طلب إليك من الذي نتطلب ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التي عودتنا أو لا فأرشدنا إلى من نذهب فأمر له بألف دينار. فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال: مالي أرى أبوابهم مهجروة وكأن بابك مجمع الأسواق حابوك أما هابوك أم شاموا الندى بيديك فاجتمعوا من الآفاق إني رأيتك للمكارم عاشقاً والمكرمات قليلة العشاق فأمر له بعشر آلاف درهم. ومر يزيد بن المهلب في طريق البصرة بأعرابية فأهدت إليه عنزاً فقبلها وقال لابنه معاوية: معاوية: ما عندك من نفقة قال: ثمانمائة درهم. قال: ادفعها إليها. قال: إنها لا تعرفك ويرضيها اليسير. قال: إن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي وإن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير. وكتب إليه رجل يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه: أما بعد فقد بعثت إليك بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقللها تجبراً ولا أستثنيك عليها ثناءً ولا أقطع لك بها رجاء والسلام. وكان ربيعة الرقى قد قدم مصر فأتى يزيد بن حاتم الأزدي فلم يعطه شيئاً فخرج وهو يقول: أراني - ولا كفران الله - راجعاً بخفي حنين من نوال ابن حاتم فسأل عنه يزيد فأخبر أنه قد خرج وقال كذا وأنشد البيت فأرسل في طلبه فأتي به فقال: كيف قلت فأنشده البيت. فقال: شغلنا عنك. ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالاً وقال: ارجع بها بدلاً من خفي حنين. فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد. بكى أهل مصر بالدموع السواجم غداة غدا منها الأغر ابن حاتم وفيها يقول: لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حاتم فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم وخرج إليه رجل من الشعراء يمدحه فلما بلغ مصر وجده قد مات فقال فيه: فما كل ما يخشى الفتى بمصيبه ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل وما كان بيني لو لقيتك سالماً وبين الغنى إلا ليال قلائل أبو دلف واسمه القاسم بن إسماعيل وفيه يقول علي بن جبلة: إنما الدنيا أبو دلف بين مبداه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره وقال فيه رجل من شعراء الكوفة: الله أجرى من الأرزاق أكثرها على العباد على كفى أبي دلف بارى الرياح فأعطى وهي جارية حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف ما خط لا كاتباه في صحيفته يوماً كما خط لا في سائر الصحف فأعطاه ثلاثين ألفاً. ومدحه آخر فقال له: يشبهه الرعد إذا الرعد رجف كأنه البرق إذا البرق خطل إن سار سار المجد أو حل وقف انظر بعينيك إلى أسنى الشرف هل ناله بقدرة أو بكلف خلق من الناس سوى أبي دلف فأعطاه خمسين ألفاً.
أخبار معن بن زائدة
قال شراحيل بن معن بن زائدة: حج هارون الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي وكنت كثيراً ما أسايره إذ عرض له أعرابي من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وأفرط فقال له هارون: ألم أنهك عن مثل هذا في مدحك يا أخا بني أسد إذا قلت فينا فقل كقول القائل في أب هذا: بنو مطر يوم اللقاء كأنهم أسود لها في غيل خفان أشبل هم يمنعون الجار حتى كأنما لجارهم بين السماكين منزل بهاليل في الإسلام سادوا ولم يكن كأولهم في الجاهلية أول وما يستطيع الفاعلون فعالهم وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا إن أعطوا أطابوا وأجزلوا هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وأن أعطوا أطابوا وأجزلوا خالد بن عبد الله القسري وهو الذي يقول فيه الشاعر: بينما خالد بن عبد الله القسري جالس في مظلة له إذ نظر إلى أعرابي يخب به بعيره مقبلاً نحوه فقال لحاجبه: إذا قدم فلا تحجبه. فلما قدم أدخله عليه فلم وقال: أصلحك الله قل ما بيدي فما أطيق العيال إذ كثروا أناخ دهر ألقى بكلكله فأرسلوني إليك وانتظروا فقال خالد: أرسلوك وانتظروا والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرهم وأمر له بجائزة عظيمة وكسوة شريفة. عدي بن حاتم دخل عليه ابن دارة فقال: إني مدحتك قال: أمسك حتى آتيك بمالي ثم امدحني على حسبه فإني أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول لي ألف شاة وألف درهم وثلاثة أعبد وثلاث إماء وفرسي هذا حبس في سبيل الله فامدحني على حسب ما أخبرتك. فقال: تحن قلوصى في معد وإنما تلاقي الربيع في ديار بني ثعل وأبقى الليالي من عدي بن حاتم حساماً كنصل السيف سل من الخلل أبوك جواد لا يشق غباره وأنت جواد ما تعذر بالعلل قال له عدي: أمسك لا يبلغ مالي أكثر من هذا.
أصفاد الملوك على المدح
سعيد بن مسلم الباهلي قال: قدم على الرشيد أعرابي من باهلة وعليه جبة حبرة ورداء يمان قد شده على وسطه ثم ثناه على عاتقه قد عصها على فوديه وأرخى لها عذبة من خلفه. فمثل بين يدي الرشيد. فقال سعيد: يا أعرابي. خذ في شرف أمير المؤمنين. فاندفع في شعره. فقال الرشيد: يا أعرابي أسمعك مستحسناً وأنكرك متهماً فقل لنا بيتين في هذين - يعني محمداً الأمين وعبد الله المأمون ابنيه وهما عن حفافيه - فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على الوعر القردد ورجعتني عن السهل الجدد روعة الخلافة وبهر الدرجة ونفور القوافي على البديهة فأرودني تتألف لي نوافرها ويسكن روعي. قال: قد فعلت: وجعلت اعتذارك بدلاً من امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق وسهلت ميدان السباق فأنشأ يقول: بنيت لعبد الله ثم محمد ذرى قبة لإسلام فاخضر عودها هما طنباها بارك الله فيهما وأنت أمير المؤمنين عمودها فقال الرشيد: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك. قال: الهنيدة يا أمير المؤمنين. فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع. وقال مروان بن أبي حفصة: دخلت على المهدي فاستنشدني فأنشدته الشعر الذي أقول فيه: طرقتك زائرة فحي خيالها بيضاء تخلط بالحياء دلالها قادت فؤادك فاستقاد ومثلها قاد القلوب إلى الصبا فأمالها حتى انتهيت إلى قولي: شهدت من الأنفال آخر آية بتراثهم فأردتم إبطالها أوتجحدون مقالة عن ربكم جبريل بلغها النبي فقالها هل تطمسون من السماء نجومها بأكفكم أو تسترون هلالها قال: وأنشدته أيضاً شعري الذي أقول فيه: يا بن الذي ورث النبي محمداً دون الأقارب من ذوي الأرحام الوحي بين بنى البنات وبينكم قطع الخصام فلات حين خصام ما للنساء مع الرجال فرضية نزلت بذلك سورة الأنعام إني يكون وليس ذاك بكائن لبني البنات وراثة الأعمام ظفرت بنو ساقي الحجيج بحقهم وغررتم بتوهم الأحلام قال مروان بن أبي حفصة: فلما أنشدت المهدي الشعرين قال: وجب حقك على هؤلاء - وعنده جماعة من أهل البيت - قد أمرت لك بثلاثين ألفاً وفرضت على موسى خمسة آلاف وعلى هارون مثلها وعلى علي أربعة آلاف وعلى العباس كذا وعلى فلان كذا. فحسبت سبعين ألفاً. قال: فأمر بالثلاثين ألفاً فأتي بها ثم قال: اغد على هؤلاء وخذ ما فرضت لك فأتيت موسى فأمر لي بخمسة آلاف وأتيت هارون فأمر لي بمثلها وأتيت علياً قال: قصر بي دون إخوتي فلن أقصر بنفسي فأمر لي بخمسة آلاف فأخذت من الباقين سبعين ألفاً. ودخل أعشى ربيعة على عبد الملك بن مروان وعن يمينه الوليد وعن يساره سليمان. فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة قال: مضى ما مضى وبقي ما بقي وأنشأ يقول: وما أنا في حقي ولا في خصومتي بمهتضم حقي ولا قارع سني ولا مسلم مولاي من سوء ما جنى ولا خائف مولاي من سوء ما أجني وفضلى في الأقوال والشعر أنني أقول الذي أعني وأعرف ما أعني وأن فؤادي بين جنبي عالم بما أبصرت عيني وما سمعت أذني وإني وإن فضلت مروان وابنه على الناس قد فضلت خير أب وابن العتبي قال: دخل الفرزدق على عبد الرحمن الثقفي بن أم الحكم فقال له عبد الرحمن: أبا فراس دعني من شعرك الذي لا يأتي آخره حتى ينسى أوله وقل في بيتين يعلقان أفواه الرواة وأعطيكها عطية لم يعطكها أحد قبلي. فغدا عليه وهو يقول: وأنت ابن بطحاوي قريش فإن تشأ تكن في ثقيف سيل ذي حذب غمر وأنت ابن فرع ماجد لعقيلة تلقت له الشمس المضيئة بالبدر قال: أحسنت. وأمر له بعشرة آلاف. أبو سويد قال: أخبرني الكوفي قال: اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار كان شخص إلى الكوفة فقطع به وأخذ جميع ما كان معه فأخذ بعنان دابة الفضل وقال: سأرسل بيتاً ليس في الشعر مثله يقطع أعناق البيوت الشوارد أقام الندى والبأس في كل منزل أقام به الفضل بن يحيى بن خالد قال فأمر له بمائة ألف درهم. العتبي: قال أبو الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتاً ورفعها إلى زبيدة بنت جفعر يمتدح ابنها لله درك يا عقيلة جعفر ماذا ولدت من العلا والسودد إن الخلافة قد تبين نورها للناظرين على جبين محمد فأمرت أن يملأ فمه دراً. وقال الحسن بن رجاء الكاتب: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن ابن سهل والمأمون هناك بانياً على خديجة بنت الحسن بن سهل المعروفة ببوران ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف فلاح وكان الحسن بن سهل مع المأمون يتصبح فكان الحسن يجلس للناس إلى وقت انتباهه. فلما قدم علي ابن جبلة نزل بي فقلت له قد قوي شغل الأمير. قال: إذاً لا أضيع معك. قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه. فقال: ألا ترى ما نحن فيه فقلت: لست بمشغول عن الأمر له. فقال: يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرغ له. فأعلمت علي بن جبلة. فقال في كلمة له: أعطيتني يا ولي الحق مبتدئاً عطية كافأت حمدي ولم ترني ما شمت برقك حتى نلت ريقه كأنما كنت بالجدوى تبادرني عرض رجل لابن طوق وقد خرج متنزهاً في الرحبة فناوله رقعة فيها جميع حاجته فأخذها فإذا فيها: فقال: والله لأصدقن ظنك. فأعطاه حتى أغناه. عرض دعبل بن علي الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني وهو راكب في حراقة له في دجلة فأشار إليه برقعة فأمر بأخذها فإذا فيها: عجبت لحراقة بن الحسين كيف تسير ولا تغرق وبحران: من تحتها واحد وآخر من فوقها مطبق وأعجب من ذاك عيدانها إذا مسها كيف لا تورق فأمر له بخمسة آلاف درهم وجارية وفرس. وخرج عبد الله بن طاهر فتلقاه دعبل برقعة فيها: طلعت قناتك بالسعادة فوقها معقودة بلواء ملك مقبل تهتز فوق طريدتين كأنما تهفو يقص لها جناحاً أجدل ربح البخيل على احتيال عرضه بندى يديك ووجهك المتهلل لو كان يعلم أن نيلك عاجل ما فاض منه جدول في جدول فأمر له بخمسة آلاف. ووقف رجل من الشعراء إلى عبد الله بن طاهر فأنشده: وأضرب للهام يوم الوغى وأطعم في الزمن الماحل أشار إليك جميع الأنام إشارة غرقى إلى ساحل فأمر له بخمسين ألف درهم. أحمد بن مطير قال: أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً كنت مدحت بها بعض الولاة وهي: له يوم بؤس فيه للناس أبؤس ويوم نعيم فيه للناس أنعم فيقطر يوم الجود من كفه الندى ويقطر يوم البؤس من كفه الدم فلو أن يوم البؤس لم يثن كفه عن الناس لم يصبح على الأرض محرم ولو أن يوم الجود فرغ كفه لبذل الندى ما كان بالأرض معدم فقال لي عبد الله: كم أعطاك قلت خمسة آلاف قال: فقبلتها قلت: نعم قال لي: أخطأت ما ثمن هذه إلا مائة ألف. ودخل حماد عجرد على أبي جعفر بعد موت أبي العباس أخيه فأنشده: أتوك بعد أبي العباس إذ بانا يا أكرم الناس أعراقاً وعيدانا لو مج عود على قوم عصارته لمج عودك فينا الشهد والبانا فأمر له بخمسة آلاف درهم. جاء موسى شهوات إلى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان فقال: إن هنا جارية تعشقتها وأبوا أن ينقصوني عن مائتى دينار. فقال: بورك فيه. فذهب إلى سعيد بن خالد بن أسيد وأمه عائشة بنت طلحة الطلحات فدعا بمطرف خز فبسطه وعقد في كل ركن من أركانه مائة دينار وقال لموسى: خذ المطرف بما فيه فأخذه ثم غدا عليه فأنشده: أبا خالد أعني سعيد بن خالد أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد عميد الندى ما عاش يرضى به الندى فإن مات لم يرض الندى بعميد دعوه دعوه إنكم قد رقدتم وما هو عن أحسابكم برقود العتبي: سمعت عمي ينشد لأبي العباس الزبيري: وكل خليفة وولي عهد لكم يا آل مروان الفداء إمارتكم شفاء حيث كانت وبعض إمارة الأقوام داء فأنتم تحسنون إذا ملكتم وبعض القوم إن ملكوا أساءوا أأجعلكم وغيركم سواء وبينكم وبينهم الهواء هم أرض لأرجلكم وأنتم لأيديهم وأرجلهم سماء فقلت له: كم أعطي عليها قال: عشرين ألفاً. الأصمعي قال: حدثني رؤبة قال: دخلت على أبي مسلم صاحب الدعوة فلما أبصرني نادى: يا رؤبة فأجبته: لبيك إذ دعوتني لبيكا أحمد رباً ساقني إليكا الحمد والنعمة في يديكا قال: بل في يدي الله تعالى. قلت له: وأنت إذا أنعمت أجدت. ثم قلت: يأذن لي الأمير في الإنشاد قال: نعم فأنشدته: ما زال يأتي الملك من أقطاره وعن يمينه وعن يساره مشمراً لا يصطلى بناره حتى أقر الملك في قراره فقال: يا رؤية إنك أتيتنا وقد شف المال واستنفده الإنفاق وقد أمرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة ومنك العود وعلينا المعول والدهر أطرق مستتب فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة. قال رؤبة: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أكثر من الذي أفادني من ماله. ودخل نصيب بن رباح على هشام فأنشده: إذا استبق العلا سبقتهم يمينك عفواً ثم صلت شمالك فقال هشام: بلغت غاية المدح فسلني. فقال: يا أمير المؤمنين يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة قال: لا بد أن تفعل قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسدها فلو أنفقها أمير المؤمنين بشيء يجعله لها قال: فأقطعها أرضاً وأمر لها بحلي وكسوة فنفقت السوداء. الرياشي عن الأصمعي قال: مدح نصيب بن رباح عبد الله بن جعفر فأمر له بمال كثير وكسوة شريفة ورواحل موقرة براً وتمراً. فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود قال: أما لئن كان عبداً إن شعره في لحر ولئن كان أسود إن ثناءه لأبيض وإنما أخذ مالاً يفنى وثياباً تبلى ورواحل تنضى وأعطى مديحاً يروى وثناء يبقى. وذكروا عن أبي النجم العجلي أنه أنشد هشاماً شعره الذي يقول فيه: الحمد لله الوهوب المجزل وهو من أجود شعره حتى انتهى إلى قوله: والشمس في الجو كعين الأحول وكان هشام أحول فأغضبه ذلك فأمر به فطرد. فأمل أبو النجم رجعته فكان يأوي إلى المسجد. فأرق هشام ذات ليلة فقال لحاجبه: ابغنى رجلاً عربياً فصيحاً يحدثني وينشدني. فطلب له ما سأل فوجد أبا النجم فأتى به. فلما دخل عليه قال: أين تكون منذ أقصيناك قال: حيث ألفاني رسولك. قال: فمن كان أب النجم أبا مثواك قال: رجلين أتغدى عند أحدهما وأتعشى عند الآخر. قال: فما لك من الولد قال: ابنتان. قال: أزوجتهما قال: زوجت إحداهما. قال: فبم أوصيتها ليلة أهديتها قال: قلت لها: سبي الحماة وابهتي عليها وإن أبت فازدلفي إليها ثم اقرعي بالعود مرفقيها وجددي الخلف به عليها قال: هل أوصيتها بعد هذا قال: نعم: أوصيت من برة قلباً برا بالكلب خيراً والحماة شرا لا تسأمي خنقاً لها وجرا والحي عميهم بشر طرا وإن كسوك ذهباً ودرا حتى يروا حلو الحياة مرا قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب ولا ولدي كولده. قال: فما حال الأخرى قال: هي ظلامة التي أقول فيها: كان ظلامة أخت شيبان يتيمة ووالداها حيان الرأس قمل كله وصئبان وليس في الرجلين إلا خطيان فهي التي يذعر منها الشيطان قال هشام لحاجبة: ما فعلت بالدنانير التي أمرتك بقبضها قال: هي عندي وهمس خمسمائة أبو عبيدة قال: حدثني يونس بن حبيب قال: لما استخلف مروان بن محمد دخل الشعراء يهنئونه بالخلافة فتقدم إليه طريح بن إسماعيل الثقفي خال الوليد بن يزيد فقال: الحمد الله الذي أنعم بك على الإسلام إماماً وجعلك لأحكام دينه قوماً ولأمة محمد المصطفى جنة ونظاماً ثم أنشده شعره الذي يقول فيه: تسوء عداك في سداد ونعمة خلافتنا تسعين عاماً وأشهرا فقال مروان: كم الأشهر قال: وفاء المائة يا أمير المؤمنين تبلغ فيها أعلى درجة وأسعد عاقبة في النصرة والتمكين. فأمر له بمائة ألف درهم. ثم تقدم إليه ذو الرمة متحانياً كبرة قد انحلت عمامته منحدرة على وجهه فوقف يسويها. فقيل له: تقدم. قال: إني أجل أمير المؤمنين أن أخطب بشرفه مادحاً بلوثة عمامتي فقال مروان: ما أملت أنه قد أبقت لنا منك مي ولا صيدح في كلامك إمتاعاً. قال: بلى والله يا أمير المؤمنين أرد منه قراحاً والأحسن امتداحاً. ثم تقدم فأنشد شعراً يقول فيه: فقلت لها سيري أمامك سيد تفرع من مروان أو من محمد فقال له: ما فعلت مي فقال: طويت غدائرها ببرد بلى ومحا الترب محاسن الخد فالتفت مروان إلى العباس بن الوليد فقال: أما ترى القوافي تنثال انثيالاً يعطى بكل من سمى من آبائي الربيع حاجب المنصور قال: قلت يوماً للمنصور: إن الشعراء ببابك وهم كثيرون طالت أيامهم ونفدت نفقاتهم. قال: أخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام وقل لهم: من مدحني منكم فلا يصفني بالأسد فإنما هو كلب من الكلاب ولا بالحية فإنما هي دويبة منتنة تأكل التراب ولا بالجبل فإنما هو حجر أصم ولا بالبحر فإنما هو غطامط لجب ومن ليس في شعره هذا فليدخل ومن كان في شعره هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فإنه قال له: أنا له يا ربيع فأدخلني. فأدخله فلما مثل بين يديه قال المنصور يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره هات يا بن هرمة. فأنشده قصيدته التي يقول فيها: له لحظات عن حفافى سريره إذا كرها فيها عذاب ونائل لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا أسود من كوم التراب القبائل إذا ما أبي شيئاً مضى كالذي أبى وإذا قال إني فاعل فهو فاعل فقال: حسبك هاهنا بلغت هذا عين الشعر قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم. فقمت إليه وقبلت رأسه وأطرافه ثم خرجت فلما كدت أن أخفى على عينيه سمعته يقول: يا إبراهيم. فأقبلت إليه فزعاً فقلت: لبيك فداك أبي وأمي. قال: احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها. فقلت: بأبي وأمي أنت أحفظها حتى أوافيك بها على الصراط بخاتم الجهبذ. هي النفس ما حملتها تتحمل وكان في يد المتوكل جوهرتان. فأعطاه التي في يمينه فأطرق متفكراً في شيء يقوله ليأخذ التي في يساره. فقال: مالك مفكراً إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى خذها لا بورك لك فيها. فأنشأ يقول: بسر من رى إمام عدل تغرف من بحره البحار يرجى ويخشى لكل أمر كأنه جنة ونار الملك فيه وفي بنيه ما اختلف الليل والنهار يداه في الجود ضرتان عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئاً إلا أتت مثله اليسار وقال آخر في الهول: إذا سألت الندى عن كل مكرمة لم تلف نسبتها إلا إلى الهول لو زاحم الشمس ألفى الشمس مظلمة أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل أمضى من الدهر إن نابته نائبة وعند أعدائه أمضى من السيل فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة بن علي وابن ذي يزن فأمر له بعشر آلاف درهم. ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فأنشدته: إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فقال لها: لا تقولي غلام ولكن قولي: همام. ثم قال: أي النساء أحب إليك أنزلك عندها قال: ومن نساؤك أيها الأمير قال أم الجلاس بنت المهلب بنت سعيد بن العاص الأموية وهند بنت أسماء من خارجة الفزارية وهند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكية. قالت: القيسية أحب إلي. فلما كان من الغد دخلت عليه. قال: يا غلام أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير أحسبها أدما. قال قائل: إنما أمر لك بشاء قالت: الأمير أكرم من ذلك. فجعلها إبلاً إناثا على استحياء وإنما كان أمر لها بشاء أولاً.
كتاب الجمانة في الوفود
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأجواد والأصفاد على مراتبهم ومنازلهم وما جروا عليه وما ندبوا إليه من الأخلاق الجميلة والأفعال الجزيلة ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي ﷺ وعلى الخلفاء والملوك فإنها مقامات فضل ومشاهد حفل يتخير لها الكلام وتستهذب الألفاظ وتستجزل المعاني. ولا بد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته ينزعون وعن رأيه يصدرون فهو واحد يعدل قبيلة ولسان يعرب عن ألسنة. وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي النبي ﷺ أو خليفته أو بين يدي ملك جبار في رغبة أو رهبة فهو يوطد لقومه مرة ويتحفظ ممن أمامه أخرى أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة أو مستبقياً غريبة من غرائب الفطنة أم تظن القوم قدموه لفضل هذه الخطة إلا وهو عندهم في غاية الحذلقة واللسن ومجمع الشعر والخطابة. ألا ترى أن قيس بن عاصم المنقري لما وفد على النبي ﷺ بسط له رداءه وقال: هذا سيد الوبر. ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر: تحية من ألبسته منك نعمة إذا زار عن شحط بلادك سلما وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما وفود العرب على كسرى ابن القطامي عن الكلبي قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثنى فارس ولا غيرها. فقال كسرى - وأخذته عزة الملك - يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم ونظرت في حال من يقدم علي من وفود الأمم فوجدت الروم لها حظ في اجتمع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها وأن لها ديناً يبين حلالها وحرامها ويرد سفيهها ويقيم جاهلها ورأيت الهند نحواً من ذلك في حكمتها وطبها مع كثرة أنهار بلادها وثمارها وعجيب صناعاتها وطيب أشجارها ودقيق حسابها وكثرة عددها وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها في آلة الحرب وصناعة الحديد وفروسيتها وهمتها وأن لها ملكاً يجمعها والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة مع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطيرة الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ولهوها ولذتها فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها وإن قرى أحدهم ضيفاً عدها مكرمة وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك أشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا وإن لها مع ذلك آثاراً ولبوساً وقرى وحصوناً وأموراً تشبه بعض أمور الناس - يعني اليمن. ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس. قال النعمان: أصلح الله الملك حق لأمة منها أن يسموا فضلها ويعظم خطبها وتعلو درجتها إلا أن عندي جواباً في كل ما نطق به الملك وفي غير رد عليه ولا تكذيب له فإن أمنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قل فأنت آمن. قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن رجوا وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائه. فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيلهم ومهادهم الأرض وسقوفهم السماء وجبنتهم السيوف وعدتهم الصبر إذ غيرها من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور. وأما حسن وجوهها وألوانها فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة والصين المنحفة والترك المشوهة والروم المقشرة. وأما أنسابها وأحسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنياً فلا ينسبه ولا يعرفه وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أباً فأباً حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيل ونساؤهم أعف النساء ولباسهم أفضل اللباس ومعادنهم الذهب والفضة وحجارة جبلهم الجزع ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر. وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلداً محرماً وبيتاً محجوجاً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بأذى. وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة فهي ولث وعقدة لا يحلها إلى خروج نفسه. وإن أحدهم ليرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما خفر من جواره وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك: يئدون أولادهم فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج. أما قولك: إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها فما تركوا ما دونها إلا احتقاراً له فعمدوا إلى أجلها وأفضلها فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحوماً وأطيبها لحوماً وأرقها ألباناً وأقلها غائلة وأحلاها مضغة وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعه فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفاً وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم فيلقون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمتهم وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف بالعسف. وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جد الملك الذي أتاه عند غلبة الحبش له على ملك متسق وأمر مجتمع فأتاه مسلوباً طريداً مستصرخاً.