الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب النكاح/صفحة واحدة
كتاب النكاح
[عدل]تعريف النكاح
[عدل]قال الزمخشري في الكشاف : النكاح الوطء ، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق له . ونظيره تسمية الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم انتهى ولا ينافي هذا كثرة ورود النكاح في القرآن بمعنى العقد . حتى قال في الكشاف إنه لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد . لأن الكثرة ليست من خواص الحقيقة ولا مخرجة للمجاز عن كونه مجازاً كما تقرر في موضعه . على أن دعوى الكلية التي ذكرها صاحب الكشاف ممنوعة فإن قوله تعالى حتى تنكح زوجاً غيره لا يصح أن يراد به العقد كما دل عليه الدليل من السنة . وذهب إليه جماهير الأمة . وكذلك ما ورد في كتاب الله من ألفاظ النكاح للمملوكات لا يكون إلا للوطء إذ لا عقد هناك .
وبالجملة فمعنى النكاح حقيقة الوطء ومجازاً العقد كما صرح به الزمخشري . وهو أقعد بمعرفة اللغة من غيره لا سيما التمييز بين المعاني الحقيقية والمجازية فإنه المرجوع إليه في ذلك دون غيره ممن صارت مؤلفاتهم الآن متداولة بين أهل هذه العصور كما لا يخفى على فطن .
يشرع لمن استطاع الباءة لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله (ﷺ) : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء والمراد بالباءة النكاح والأحاديث الواردة في الترغيب في النكاح كثيرة وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن .
ويجب على من خشي الوقوع في المعصية لأن اجتناب الحرام واجب وإذا لم يتم الاجتناب إلا بالنكاح كان واجباً ، وعلى ذلك تحمل الأحاديث المقتضية لوجوب النكاح ، كحديث أنس في الصحيحين وغيرهما : أن نفراً من أصحاب النبي (ﷺ) قال بعضهم لا أتزوج ، وقال بعضهم أصلي ولا أنام ، وقال بعضهم أصوم ولا أفطر ، فبلغ ذلك النبي (ﷺ) فقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني وأخرج أبن ماجه والترمذي من حديث الحسن عن سمرة أن النبي (ﷺ) نهى عن التبتل قال الترمذي أنه حسن غريب . قال : وروى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة ويقال كلا الحديثين صحيح انتهى . وفي سماع الحسن عن سمرة مقال معروف . وأخرج النهي عن التبتل أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أنس . وأخرج أبن ماجه من حديث عائشة أن النبي (ﷺ) قال : النكاح من سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس منى .
والتبتل غير جائز لما تقدم . وقد رد (ﷺ) التبتل على عثمان بن مظعون . وكانت المانوية والمترهبة من النصارى يتقربون إلى الله بترك النكاح . وهذا باطل لأن طريقة الأنبياء عليهم السلام التي ارتضاها الله تعالى للناس هي اصلاح الطبيعة ودفع اعوجاجها لا سلخها عن مقتضياتها .
إلا لعجز عن القيام بما لا بد منه لما ثبت في الكتاب العزيز من النهي عن مضارة النساء والأمر بمعاشرتهن بالمعروف . فمن لا يستطيع ذلك لم يجز له أن يدخل في أمر يوقعه في حرام . وعلى ذلك تحمل الأدلة الواردة في العزبة والعزلة .
أقول : الحاصل أن من كان محتاجاً إلى النكاح أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوباً للأدلة الواردة فيه . ومن لم يكن محتاجاً إليه ولا كان فعله أولى له كالحصور والعنين فقد يكون في حقه مكروهاً إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله . أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم على المعصية . وأما إذا كان في غنية بحيث لا يشتغل عن الطاعات وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة فالظاهر أنه مباح وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل فثم أدلة أخرى تقتضيها وقواعد كلية . ولو قيل أنه لا يكون في تلك الصورة مباحاً بل مكروها لما ورد في العزبة والعزله آخر الزمان لم يكن بعيداً من الصواب .
وينبغي أن تكون المرأة ودوداً لأن تواد الزوجين به تتم المصلحة المنزلية وكثرة النسل بها تتم المصلحة المدنية والملية وود المرأة لزوجها دال على صحة مزاجها وقوة طبيعتها مانع لها من أن يطمح بصرها إلى غيره باعث على تجملها بالإمتشاط وغير ذلك . وفيه تحصين فرجه ونظره .
ولوداً لحديث أنس عند أحمد ، وابن حبان وصححه أن النبي (ﷺ) قال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة وأخرج نحوه أحمد من حديث ابن عمر . وفي إسناده جرير بن عبد الله العامري وقد وثق وفيه ضعف . وأخرج نحوه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث معقل بن يسار .
بكراً لما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي (ﷺ) قال له تزوجت بكراً أم ثيباً ؟ قال : ثبياً قال: فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك .
ذات جمال فإن الطبيعة البشرية راغبة في الجمال . وكثير من الناس تغلب عليهم الطبيعة . والجمال وما يشبهه من الشباب مقصد من غلب عليه حجاب الطبيعة .
وحسب يعني مفاخر آباء المرأة فإن التزوج في الاشراف شرف وجاه .
ودين أي عفة عن المعاصي وبعدها عن الريب وتقربها إلى بارئها بالطاعات . والدين مقصد من تهذب بالفطرة فأحب أن تعاونه امرأته في دينه ، ورغب في صحبة أهل الخير .
ومال بأن يرغب في المال ويرجى مواساتها معه في مالها وأن يكون أولاده أغنياء لما يجدون من قبل أمهم . والمال والجاه مقصد من غلب عليه حجاب الرسم . ووجهه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي (ﷺ) : تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي (ﷺ) قال أن المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك .
قال في الحجة قال (ﷺ) . خير النساء اللاتي ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده .
أقول : يستحب أن تكون المرأة من كورة وقبيلة عادات نسائها صالحة . فإن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة . وعادات القوم ورسومهم غالبة على الإنسان وبمنزلة الأمر المجبول هو عليه . وبين أن نساء قريش خير النساء من جهه أنهن أحنى إنسان على ولد في صغره وأرعاه على الزوج في ماله ورقيقه ونحو ذلك . وهذان من أعظم مقاصد النكاح وبهما انتظام تدبير المنزل . وإن أنت فتشت حال الناس اليوم في بلادنا وبلاد ما وراء النهر وغيرها لم تجد أرسخ قدماً في الأخلاق الصالحة ولا أشد لزوماً لها من نساء قريش انتهى .
وتخطب الكبيرة إلى نفسها لما في صحيح مسلم : أن النبي (ﷺ) أرسل إلى أم سلمة يخطبها .
والمعتبر حصول الرضا منها لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره : الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة نحوه . وأخرج أحمد وأبو داود وأبن ماجه والدارقطني من حديث ابن عباس أن جارية بكراً أتت النبي (ﷺ) فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي (ﷺ) قال الحافظ : ورجال إسناده ثقات . وروي نحوه من حديث جابر أخرجه النسائي . ومن حديث عائشة أخرجه أيضاً النسائي . وأخرج أبن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : جاءت فتاة إلى رسول الله (ﷺ) فقالت إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شئ ورجاله رجال الصحيح . وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة .
قال في الحجة البالغة أقول : لا يجوز أيضاً أن يحكم الاولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها . ولأن حار العقد وقاره راجعان إليها . والاستئمار طلب أن تكون هي الآمرة صريحاً . والاستئذان طلب أن تأذن ولا تمنع وأدناه السكوت . وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة . كيف ولا رأي لها . قد زوج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عائشة من رسول الله (ﷺ) وهي بنت ست سنين انتهى .
لمن كان كفؤاً لحديث علي عند الترمذي أن النبي (ﷺ) قال : ثلاث لا يؤخرن : الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا ولكن ليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب . بل يحمل على أن المرأة إذا وجدت لها كفؤاً ترضى خلقه ودينه كما سيأتي ، وأخرج الحاكم من حديث ابن عمر أن النبي (ﷺ) قال العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة وحي لحي ورجل لرجل إلا حائك أو حجام وفي إسناده رجل مجهول . وقال أبو حاتم أنه كذب لا أصل له . وذكر الحفاظ أنه موضوع وقد أوضح الكلام عليه الماتن في كتابه في الموضوعات الذي سماه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ولكن رواه البزار في مسنده من طريق أخرى عن معاذ بن جبل رفعه العرب بعضها أكفاء لبعض وفيه سليمان بن أبي الجون . ويغني عن ذلك مافي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ولكن ليس فيه دلالة على المطلوب ، لأن إثبات كون البعض خيراً من بعض لايستلزم أن الأدنى غير كفؤ للأعلى . وهكذا حديث إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد اسمعيل واصطفى من كنانة قريشاً واصطفى من قريش بني هاشم فإن هذا الاصطفاء لا يدل على أن الأدنى غير كفوء للأعلى وأخرج الترمذي من حديث أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله (ﷺ) إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ، قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه قال : إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه ثلاث مرات وقد حسنه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب ونقل المناوي عن البخاري أنه لم يعده محفوظاً . وعده أبو داود في المراسيل . وأعله ابن القطان بالإرسال وضعف راويه وأبو حاتم المزني له صحبة ولا يعرف له عن النبي (ﷺ) غير هذا الحديث . وأخرج الدارقطني عن عمر أنه قال : لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء .
أقول : استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أبن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه أن فتاة جاءت إلى رسول الله (ﷺ) فقالت : إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أنه ليس إلى الآباء من أمر النساء شئ وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة . ومحل الحجة منه قولها ليرفع بي خسيسته ، فإن ذلك مشعر بأنه غير كفؤاً لها ولا يخفى أن هذا إنما هو من كلامها وإنما جعل النبي (ﷺ) الأمر إليها بكون رضاها معتبراً . فإذا لم ترض لم يصح النكاح سواء كان المعقود له كفؤاً أو غير كفؤ . وأيضاً هو زوجها بابن أخيه وابن عم المرأة كفؤ لها . واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد والنسائي وصححه وابن حبان والحاكم من حديث بريدة مرفوعاً : أن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال وبما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من حديث سمرة مرفوعاً : الحسب المال والكزم التقوى ويحتمل أن يكون المراد أن هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا كما صرح به في حديث بريدة . وأن هذا حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال وعدم اعتدادهم بالدين . فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع . وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم زوج مولاه زيد بن حارثة بزينب بنت جحش القرشية . وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية . وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالاً بأخته . وأخرج أبو داود . أن أبا هند حجم النبي (ﷺ) فقال يا بني بياضة انكحوا أبا هند وانكحوا إليه أخرجه أيضاً الحاكم وحسنه ابن حجر في التلخيص . وأخرج البخاري والنسائي وأبو داود عن عائشة : أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان ممن شهد بدراً مع النبي (ﷺ) تبنى سالماً وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى امرأة من الأنصار . قال رسول الله (ﷺ) : إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة .
قال في الحجة البالغة : أقول : ليس في هذا الحديث أن الكفاءة غير معتبرة كيف وهي مما جبل عليه طوائف الناس وكاد يكون القدح فيها أشد من القتل . والناس على مراتبهم والشرائع لا تهمل مثل ذلك ولذلك قال عمر لأمنعن النساء إلا من أكفائهن ولكنه أراد أن لا يتبع أحد محقرات الأمور نحو قلة المال ورثاثة الحال ودمامة الجمال . أو يكون ابن أم ولد ونحو ذلك من الأسباب . بعد أن يرضى دينه وخلقه . فإن أعظم مقاصد تدبير المنزل الاصطحاب في خلق حسن . وأن يكون ذلك الاصطحاب سبباً لصلاح الدين .
وقال في المسوى في باب الكفاءة : قال الله تعالى أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون وقال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون قلت : هذه الآيات تدل على تفاوت مراتب الناس . وإن ذلك أمر ثابت فيهم ولم يرده الله تعالىفكان تقريراً . ثم اختلفوا في تحديد المعاني التي يقع بها التفاوت . فذهب أكثرهم إلى أنها أربعة : الدين والحرية والنسب والصناعة . والمراد من الدين الإسلام والعدالة . واعتبر الشافعي السلامة من العيوب المثبتة للخيار أيضاً ومعنى اعتبار الكفاءة عند أبي حنيفة أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير الكفؤ فللأولياء أن يفرقوا بينهما . وعند الشافعي أن أحد الأولياء المستوين إذا زوجها برضاها من غير كفؤ لم يصح . وفي قول يصح . ولهم الفسخ إذا زوج الأب بكراً صغيرة أو بالغة بغير رضاها وفيه القولان أيضاً انتهى .
أقول : قوله (ﷺ) من ترضون دينه وخلقه فيه دليل على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق . وقد جزم بأن اعتبار الكفاءة مختص بالدين مالك ونقل عن عمر وابن مسعود ومن التابعين عن محمد ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز . ويدل عليه قوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم واعتبر الكفاءة في النسب الجمهور . وقال أبو حنيفة قريش أكفاء بعضهم بعضاً . والعرب كذلك . وليس أحد من العرب كفؤاً لقريش كما ليس أحد من غير العرب كفؤاً للعرب . وهو وجه للشافعية .قال في الفتح . والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم . ومن عدا هؤلاء أكفاء بعضهم لبعض . قال الشافعي : ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث . وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض فإسناده ضعيف . قال في الفتح واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه فلا تحل المسلمة لكافر انتهى .
وأعلى الصنائع المعتبرة في الكفاءة في النكاح على الإطلاق العلم لحديث العلماء ورثة الأنبياء أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء وضعفه الدارقطني في العلل . قال المنذري هو مضطرب الإسناد . وقد ذكره البخاري في صحيحه بغير إسناد . والقرآن الكريم شاهد صدق على ما ذكرناه فمن ذلك قوله تعالى هل يستوي الذين يعلمون وقوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتكاثرة منها حديث خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا وقد تقدم .
وبالجملة إذا تقرر لك هذا عرفت أن المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق لا في النسب . لكن لما أخبر (ﷺ) بأن حسب أهل الدنيا المال وأخبر (ﷺ) كما ثبت في الصحيح عنه أن في أمته ثلاثاً من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة كان تزوج غير الكفوء في النسب والمال من أصعب ما ينزل بمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر . قال الماتن رحمه الله ومن هذا القبيل استثناء الفاطمية من قوله ويغتفر برضا الأعلى والولي . وجعل بنات فاطمه رضي الله عنها أعلى قدراً وأعظم شرفاً من بنات رسول الله (ﷺ) لصلبه فيا عجباً كل العجب من هذه التعصبات الغربية والتصلبات على أمر الجاهلية وإذا لم يتركها من عرف أنها من أمور الجاهلية من أهل العلم فكيف يتركها من لم يعرف ذلك . والخير كل الخير في الإنصاف والانقياد لما جاء به الشرع . ولهذا أخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن رسول الله (ﷺ) أنه قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فهذا نص في محل الخلاف . أنظر أمهات العترة الطاهرة الذين هم قدوة السادة وأسوة القادة في كل خير ودين من كن فأم أبي العترة الإمام زين العابدين على بن الحسين شهريانو بنت يزدجرد بن شهريار بن شيرويه بن خسروبرويز بن هرمز بن نوشيروان ملك الفرس . وأم الإمام موسى الكاظم أم ولد اسمها حميدة . وأم الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم أم ولد أيضاً اسمها تكتم . وأم الإمام علي بن محمد بن على المذكور الملقب بالجواد والتقي أم ولد اسمها خيزران وقيل ريحانة . وأم الإمام علي بن محمد الملقب بالهادي والعسكري أم ولد اسمها سمانة . وأم الإمام حسن بن علي الملقب بالزكي والخالص والعسكري أم ولد اسمها سوسن . وأم الإمام محمد بن حسن الملقب بالحجة والقائم والمهدي أم ولد اسمها نرجس . وهكذا كان شأن التزوج في أصحاب رسول الله (ﷺ) لم يعرج أحد منهم على الكفاءة في النسب وإنما أخذ بذلك الجهلة من الأمة لا سيما أهل القرى والقصبات من نسل العترة والصحابة رضي الله عنهم أجمعين وأكثرهم خائضون في الباطل عاطلون عن حلي العلم الموصل إلى الحق . وكان أمر الله قدراً مقدوراً .
و تخطب الصغيرة إلى وليها لما في صحيح البخاري وغيره عن عروة أن النبي (ﷺ) خطب عائشة إلى أبي بكر .
ورضا البكر صمتها لما تقدم من الأحاديث الصحيحة .
وتحرم الخطبة في العدة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثاً فلم يجعل لها رسول الله (ﷺ) سكنى ولا نفقة وقال لها رسول الله (ﷺ) إذا حللت فآذنيني فآذنته الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره . وأخرج البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى فيما عرضتم به من خطبة النساء قال : يقول إني أريد التزويج ولوددت أنه ييسر لي امرأة صالحة . وأخرج الدارقطني عن محمد بن علي الباقر عليهما السلام أنه دخل رسول الله (ﷺ) على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال لقد علمت أني رسول الله وخيرته من خلقه وموضعي من قومي وكانت تلك خطبته والحديث منقطع ، قال في الفتح : واتفق العلماء على أن المراد بهذا الحكم من مات عنها زوجها واختلفوا في المعتدة من الطلاق البائن وكذا من وقف نكاحها وأما الرجعية فقال الشافعي . لا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة فيها .
والحاصل أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات والتعريض مباح في الأولى وحرام في الأخيرة مختلف فيه في البائن .
و الخطبة على الخطبة لحديث عقبة بن عامر أن رسول الله (ﷺ) قال المؤمن أخو المؤمن فلا يحل للمؤمن ان يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر وهو في صحيح مسلم وغيره وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك . وأخرج أيضاً من حديث ابن عمر لا يخطب الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له وقد ذهب إلى تحريم ذلك الجمهور .
ويجوز له النظر إلى المخطوبة لحديث المغيرة عند أحمد والنسائي وأبن ماجه والترمذي والدارمي وابن حبان وصححه أنه خطب امرأة فقال النبي (ﷺ) انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما فأتى أبويها فأخبرهما بقول رسول الله (ﷺ) فكأنهما كرها ذلك فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها فقالت إن كان رسول الله (ﷺ) أمرك أن تنظر فانظر وإلا فإني أنشدك كأنها عظمت ذلك عليه فنظرت إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها ذكره أحمد وأهل السنن . وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال كنت عند النبي (ﷺ) فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله (ﷺ) أنظرت إليها قال لا قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً وفي الباب أحاديث .
ولا نكاح إلا بولي لحديث أبي موسى عند أحمد وأبي داود وأبن ماجه والترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه عن النبي (ﷺ) قال : لانكاح إلا بولي وحديث عائشة عند أحمد وأبي داود وأبن ماجه والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وأبي عوانة أن النبي (ﷺ) قال أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له وفي الباب أحاديث . قال الحاكم وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي (ﷺ) عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش ثم سرد تمام ثلاثين صحابياً .
أقول الأدلة الدالة على اعتبار الولي وأنه لا يكون العاقد سواه وأن العقد من المرأة لنفسها بدون إذن وليها باطل قد رويت من طريق جماعة من الصحابة فيها الصحيح والحسن وما دونهما فاعتباره متحتم . وعقد غيره مع عدم عضله باطل بنص الحديث لا فاسد على تسليم أن الفساد واسطة بين الصحة والبطلان . ولا يعارض هذه الأحاديث حديث الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن ونحوه كحديث ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر لأن المراد أنها أحق بنفسها في تعيين من تريد نكاحه إن كانت ثيباً ، والبكر يمنعها الحياء من التعيين فلا بد من استئذانها ، وليس المراد أن الثيب تزوج نفسها أو توكل من يزوجها مع وجود الولي فعقد النكاح أمر آخر . وبهذا تعلم أن لا وجه لما ذهبت إليه الظاهرية من اعتبار الولي في البكر دون الثيب والولي عند الجمهور هو الأقرب من العصبة وروي عن أبي حنيفة أن ذوي الأرحام من الأولياء .
أقول الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال إن الأولياء هم قرابة المرأة الأدنى فالأدنى الذين يلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء وكان المزوج لها غيرهم . وهذا المعنى لا يختص بالعصبات بل قد يوجد في ذوي السهام كالأخ لأم وذوي الأرحام كابن البنت . وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الأعمام ونحوهم فلا وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصبات كما أنه لا وجه لتخصيصها بمن يرث ومن زعم ذلك فعليه الدليل أو النقل بأن معنى الولي في النكاح شرعاً أو لغة هو هذا وأما ولاية السلطان فثابتة بحديث إذا تشاجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي لها فهذا الحديث وإن كان فيه مقال فهو لا يسقط به عن رتبة الاستدلال وهو يدل على حكمين ، الأول : أن تشاجر الأولياء يوجب بطلان ولا يتهم ويصيرهم كالمعدومين . الثاني : أنهم إذا عدموا كانت الولاية للسلطان وإذا تحرر لك ما ذكرناه في الأولياء فاعلم أن من غاب منهم عند حصور الكفء ورضا المكلفة به ولو في محل قريب إذا كان خارجاً عن بلد المرأة ومن يريد نكاحها فهو كالمعدوم : والسلطان ولي من لا ولي له اللهم إلا أن ترضى المرأة ومن يريد الزواج بالانتظار لقدوم الغائب . فذلك حق لهما وإن طالت المدة . وأما مع عدم الرضا فلا وجه لايجاب الانتظار ولا سيما مع حديث ثلاث لا يؤخرن إذا حانت منها الأيم إذا حضر كفؤها كما أخرجه الترمذي والحاكم . وجميع ما ذكر من تلك التقديرات بالشهر وما دونه ليس على شئ منها أثارة من علم . ومع ذلك فالقول بأن غيبة الولي الموجبة لبطلان حقه هي الغيبة التي يجوز الحكم معها على الغائب هو قول مناسب إذا صح الدليل على أنه لايجوز الحكم على الغائب إلا اذا كان في مسافة القصر فإن لم يصح دليل على ذلك فالواجب الرجوع إلى ما ذكرناه فإن قلت إذا كان ولي النكاح هو أعم من العصبات كما ذكرته فما وجهه ؟ قلت وجهه أنا وجدنا الولاية قد أطلقت في كتاب الله تعالى على ما هو أعم من القرابة والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ووجدناها قد أطلقت في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو أخص من ذلك قال (ﷺ) : السلطان ولي من لا ولي له ولا ريب أنه لم يكن المراد في الحديث مافي الآية وإلا لزم أنه لا ولاية للسلطان إلا عند عدم المؤمنين . وهو باطل ، لأنه أحدهم بل له مزية عليهم لا توجد في أفرادهم ، وإذا ثبت أنه لم يكن المراد بالولي في الحديث الأولياء المذكورين في الآية فليس بعض من يصدق عليه اسم الإيمان أولى من بعض إلا بالقرابة ، ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض ، وهذه الأولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال أو استحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث أو كولاية الصغير ، بل باعتبار أمر آخر وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به وهذا لا يختص بالعصبات كما بينا بل يوجد في غيرهم ، ولا شك أن بعض القرابة أدخل في هذا الأمر من بعض فالآباء والأبناء أولى من غيرهم ثم الأخوة لأبوين ثم الأخوة لأب أو لأم ثم أولاد البنات ثم أولاد الأخوة وأولاد الأخوات ثم الأعمام والأخوال ثم هكذا من بعد هؤلاء ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض فليأتنا بحجة وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه فلسنا ممن يعول على ذلك وبالله التوفيق
قال في الحجة : وفي اشتراط الولي في النكاح تنويه أمرهم . واستبداد النساء بالنكاح وقاحة منهن منشؤها قلة الحياء واقتصاب على الأولياء وعدم اكثرات بهم . وأيضاً يجب أن يميز النكاح من السفاح بالتشهير وأحق التشهير أن يحضر أولياؤها ولا يجوز أن يحكم في النكاح النساء خاصة لنقصان عقلهن وسوء فكرهن فكثيراً ما لا يهتدين للمصلحة ولعدم حماية الحسب منهن غالباً فربما رغبن في غير الكفء وفي ذلك عار على قومها فوجب أن يجعل للأولياء شئ من هذا الباب لتسد المفسدة ، وأيضاً فإن السنة الفاشية في الناس من قبل ضرورة أنهن عوان بأيديهم وهو قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض انتهى .
قال الشافعي : لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب ، فإن لم يكن فبعبارة الولي البعيد ، فإن لم يكن فبعبارة السلطان ، فإن زوجت نفسها أوغيرها بإذن الولي أو بغير إذنه بطل ولم يتوقف . وتأويل قوله لا تنكح المرأة إلا بأذن وليها لا يزوجها إلا وكيل الولي ويفهم تزوجيها بنفسه بالأولى ، وقال أبو حنيفة : ينعقد نكاح المرأة الحرة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد ولي بكراً كانت أو ثيباً وتأويل الحديث أنه يكره لها ذلك خشية أن تقصر في رعاية الكفاءة وغيرها أو تنسب إلى الوقاحة أو تأويله أن للولي حق الاعتراض في غير الكفء فمعنى قوله لا تنكح أي لا تستقل بنكاحها إلا بإذنه لأن له حق الاعتراض في غير الكفء . وقال محمد : ينعقد موقوفاً على إذنه كذا في المسوى .
وشاهدين لحديث عمران بن حصين عند الدارقطني والبيهقي في العلل وأحمد في رواية ابنه عبد الله عن النبي (ﷺ) قال : لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وفي إسناده عبد الله بن محرز وهو متروك . وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له وإسناده ضعيف وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي (ﷺ) قال البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة وصحح الترمذي وقفه . وهذه الأحاديث وما ورد في معناها يقوي بعضها بعضاً وقد ذهب إلى ذلك الجمهور . قال في شرح السنة أكثر أهل العلم على أن النكاح لاينعقد إلا ببينة ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضوراً حالة العقد واختلفوا في صفة الشهود قال الشافعي : لا ينعقد إلا بمشهد رجلين عدلين . وقال أبو حنيفة ، ينعقد برجل وامرأتين وبفاسقين كذا في المسوى وفي الموطأ في باب لا يحل نكاح السر مالك عن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت .
إلا أن يكون الولي عاضلاً أو غير مسلم لقوله تعالى فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ولتزوجه (ﷺ) أم حبيبة بنت أبي سفيان من غير وليها لما كان كافراً حال العقد .
ويجوز لكل واحد من الزوجين أن يوكل لعقد النكاح ولو واحداً لحديث عقبة ابن عامر عند أبي داود أن النبي (ﷺ) قال لرجل أترضى أن أزوجك فلاناً قال نعم وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلاناً قالت نعم فزوج أحدهما صاحبه الحديث وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة وأكثر أصحابه والليث وأبو ثور . وحكي في البحر عن الشافعي وزفر أنه لا يجوز . وقال في الفتح وعن مالك لو قالت المرأة لوليها زوجني بمن رأيت فزوجها من نفسه أو ممن اختار لزمها ذلك ولو لم تعلم عين الزوج . وقال الشافعي : يزوجه السلطان أو ولي آخر مثله أو أقعد منه ووافقه زفر . وأما استحباب النثار فأقول لم يصح في ذلك شئ كما أوضحه في النيل والسيل ولا بأس بنثر شئ من المأكولات فهو من جملة الإطعام المندوب إنما الشأن في الحكم بمشروعية انتهابه مع ورود الأحاديث الصحيحة بالنهي عن النهي . والظاهر أن هذا نوع منها ولم يرد ما يدل على التخصيص لا من وجه صحيح ولا حسن بل ولا ضعيف ينجبر . وأما إجابة الوليمة فأحاديث الأمر بالإجابة صحيحة ولم يأت ما يقتضي صرفها عن الوجوب نعم الولائم المشوبة بالمنكرات مع عدم القدرة على التغيير لا يجوز حضورها كما يدل عليه حديث النهي عن الجلوس على المائدة التي تدار عليها الخمر وسائر المعاصي تقاس على ذلك
فصل حكم نكاح المتعة
[عدل]ونكاح المتعة قال في الحجة رخص فيها (ﷺ) أياماً ثم نهى عنها . أما الترخيص أولاً فلملكان حاجة تدعو إليه كما ذكره ابن عباس فيمن يقدم بلدة ليس بها أهله أشار ابن عباس أنها لم تكن يومئذ استئجاراً على مجرد البضع بل كان ذلك مغموراً في ضمن حاجات من باب تدبير المنزل ، كيف والإستئجار على مجرد البضع انسلاخ عن الطبيعة الإنسانية ووقاحة يمجها الباطن السليم . وأما النهي عنها فلارتفاع تلك الحاجة في غالب الأوقات وأيضاً ففي جريان الرسم به اختلاط الأنساب لأنها عند انقضاء تلك المدة تخرج من حيزه ويكون الأمر بيدها فلا يدري ماذا تصنع وضبط العمدة في النكاح الصحيح الذي بناؤه على التأييد في غاية العسر ، فما ظنك بالمتعة وإهمال النكاح الصحيح المعتبر في الشرع فإن أكثر الراغبين في النكاح غالب داعيتهم قضاء شهوة الفرج . وأيضاً فإن من الأمر الذي يتميز به النكاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة وإن كان الأصل فيه قطع المنازعة فيها على أعين الناس انتهى .
في شرح السنة اتفق العلماء على تحريم المتعة وهو كالإجمال بين المسلمين .
منسوخ فإنه لا خلاف أنه قد كان ثابتاً في الشريعة كما صرح بذلك القرآن فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ولما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال كنا نغرو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا نساء فقلنا ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل وفي الباب أحاديث . وثبت النسخ من حديث جماعة فأخرج مسلم وغيره من حديث سبرة الجهني أنه غزا مع النبي (ﷺ) فتح مكة فأذن لهم رسول الله (ﷺ) في النساء قال فلم يخرج حتى حرمها رسول الله (ﷺ) وفي لفظ من حديثه وأن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة وأخرج الترمذي عن ابن عباس إنما كانت المتعة في أول الإسلام حتى نزلت هذه الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وفي الصحيحين من حديث علي أن النبي (ﷺ) نهى عن متعة النساء يوم خيبر والأحاديث في هذا الباب كثيرة والخلاف طويل وقد استوفاه الماتن في نيل الأوطار . ورواية من روى تحريمها إلى يوم القيامة هي الحجة في هذا الباب وهذا نهي مؤبد وقع في آخر موطن من المواطن سافر فيها رسول الله (ﷺ) وتعقبه موته بعد أربعة أشهر فوجب المصير إليه ولا يعارضه ما روي عن بعض الصحابة أنهم ثبتوا على المتعة في حياته (ﷺ) وبعد موته إلى آخر أيام عمر كما زعمه صاحب ضوء النهار . فإن من النسخ المؤبد حجة على من لم يعلم واستمرار من استمر عليها إنما كان لعدم علمه بالناسخ . وأما ما صار يهول به جماعة من المتأخرين من أن تحليل المتعة قطعي وحديث تحريمها على التأبيد ظني والظني لا ينسخ القطعي ، حتى قال المقبلي أن الجمهور لم يجدوا جواباً على هذا فيقال : إن كان كون التحليل قطعياً لكونه منصوصاً عليه في الكتاب العزيز فذلك وإن كان قطعي المتن فليس بقطعي الدلالة لأمرين أحدهما : أنه يمكن حمله على الإستمتاع بالنكاح الصحيح . الثاني : أنه عموم وهو ظني الدلالة على أنه قد روى الترمذي عن ابن عباس أنه قال إنما كانت المتعة حتى نزلت هذه الآية إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم قال ابن عباس فكل فرج سواهما حرام وهذا يدل على التحريم بالقرآن فيكون ما هو قطعي المتن ناسخاً لما هو قطعي المتن ، وإن كان التحليل قطعياً لكونه قد وقع الإجماع من الجميع عليه في أول الأمر فيقال وقد وقع الإجماع أيضاً عل التحريم في الجملة عند الجميع وإنما الخلاف في التأبيد هل وقع أم لا وكون هذا التأبيد ظنياً لا يستلزم ظنية التحريم الذي وقع النسخ به . فالحاصل أن الناسخ للتحليل المجمع عليه هو التحريم المجمع عليه المقيد بقيد ظني وهو التأبيد . فالناسخ والمنسوخ قطعيان هذا على التسليم ناسخ القطعي لا يكون إلا قطعياً كما قرره جمهور أهل الأصول ، وأن كنت لا أوافقهم على ذلك .
والتحليل حرام لحديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه قال : لعن رسول الله (ﷺ) المحلل والمحلل له وصححه أيضاً ابن القطان وابن دقيق العيد وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق وطريق ثالثه أخرجها اسحق في مسنده . وأخرج أحمد وأبو داود وأبن ماجه والترمذي وصححه ابن السكن من حديث علي مثله . وخرج أبن ماجه والحاكم من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله (ﷺ) ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال : هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له وفي إسناده يحيى بن عثمان وهو ضعيف ، وقد أعل بالإرسال وأخرج أحمد والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم والترمذي في العلل من حديث أبي هريرة نحوه وحسنه البخاري وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط من حديث عمر انهم كانوا يعدون التحليل سفاحاً في عهد رسول الله (ﷺ) . قال في تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين رواه أبن ماجه بإسناد رجاله موثقون وصح عن عمر أنه قال : لا أوتي بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما . رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما وابن المنذر في الأوسط وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه سئل عن ذلك فقال كلاهما زان . والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل قد أطال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الكلام عليه وأفرده مصنفاً سماه بيان الدليل على إبطال التحليل انتهى .
أقول حديث لعن المحلل مروي من طريق جماعة من الصحابة بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن واللغن لا يكون إلا على أمر جائز في الشريعة المطهرة بل على ذنب هو من أشد الذنوب . فالتحليل غير جائز في الشرع ولو كان جائزاً لم يلعن فاعله والراضي به وإذا كان الفاعل يدل على تحريم فعله لم تبق صيغة تدل على التحريم قط ، وإذا كان هذا الفعل حراماً غير جائز في الشريعة فليس هو النكاح الذي ذكره الله في قوله حتى تنكح زوجاً غيره كما أنه لوقال لعن الله بائع الخمر لم يلزم من لفظ بائع أنه قد جاز بيعه وصار من البيع الذي أذن فيه بقوله وأحل الله البيع والأمر ظاهر . قال ابن القيم ونكاح المحلل لم يبح في ملة من الملل قط ولم يفعله أحد من الصحابة ولا أفتى به واحد منهم . ثم سل من له أدنى اطلاع على أحوال الناس كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان ، وكان بعلها منفرداً بوطئها فإذا هو والمحلل ببركة التحليل شريكان ، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء بين مرامين العشراء والحرماء ، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها ، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها ، وعناق القنا دون عناقها ، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها ، وأما هذه الأزمان التي شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين ، وشجا في حلوق المؤمنين من قبائح تشمت أعداء الدين به وتمنع كثيراً ممن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصليها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيرت منه اسمه وضمخ ، التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل ، وزعم أنه قد طيبها للتحليل ، فيالله العجب ، أي طيب أعارها هذا التيس الملعون ، وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون ، إلى غير ذلك انتهى . وقد أطال رحمه الله تعالى في تخريج أحاديث التحليل في إعلام الموقعين إطالة حسنة فليراجع .
وكذلك الشغار لثبوت النهي عنه كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله (ﷺ) نهى عن الشغار وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال نهى رسول الله (ﷺ) عن الشغار ، والشغار أن يقول الرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي ، أو زوجني أختك وأزوجك أختي وأخرج مسلم أيضاً من حديث ابن عمر أن النبي (ﷺ) قال لا شغار في الإسلام وفي الباب أحاديث . قال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز ولكن اختلفوا في صحته والجمهور على البطلان . قال الشافعي هذا النكاح باطل كنكاح المتعة . وقال أبو حنيفة جائز ولكل واحد منهما مهر مثلها انتهى .
أقول النهي عن الشغار ثابت بالأحاديث الصحيحة من طرق جماعة من الصحابة . وعلى كل حال فكون الشغار من مفسدات العقد غير مناسب لما تقرر في الأصول ، لأن النهي عن الشغار يقتضي قبحه أو تحريمه أو فساده على اختلاف الأقوال ، وإذا اقتضى ذلك وجب على كل واحد من الزوجين توفير المهر لزوجته بما استحل من فرجها ، فهو بمنزلة فساد التسمية ، وفسادها لا يستلزم فساد عقد النكاح ، والمهر ليس بشرط للعقد ، فالحكم بأن الشغار يفسد العقد غير مناسب ، لما تقرر في الأصول ، ولا موافق لقواعد الفروع ، ولو فرض أن النهي عن النكاح الذي فيه شغار لم يكن ذلك مقتضياً لفساد العقد لأن النهي ليس لذات العقد ولا لوصفه بل لأمر خارج عنه . وقد تقرر في الأصول أن ذلك لا يوجب الفساد .
ويجب على الزوج الوفاء بشرط المرأة لحديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله (ﷺ) : أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج وهو في الصحيحين وغيرهما . قلت : هو قول أكثر أهل العلم . وقالوا قوله (ﷺ) إن أحق الشروط الخ خاص في شرط المهر إذا سمى لها مالاً في الذمة أو عيناً عليه أن يوفيها ما ضمن لها ، وفي الحقوق الواجبة التي هي مقتضى العقد وأما ما سوى ذلك مثل أن يشترط في العقد للمرأة أن لايخرجها من دارها ولا ينقلها من بلدها أو لا ينكح عليها أو نحو ذلك فلا يلزمه الوفاء به وله إخراجها ونقلها وأن ينكح عليها إلا أن يكون في ذلك يمين فليزمه اليمين كذا في المسوى .
أقول : الوفاء بمطلق الشروط مشروع قال تعالى أوفوا بالعقود وقال (ﷺ) المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً وهو حديث حسن . ولكن هذا المخصص المتصل أعني قوله إلا شرطاً الخ يدل على أن ما كان من الشروط بهذه الصفة لا يجب الوفاء به ، وكما يخصص عموم أول الحديث كذلك يخصص عموم الآية . ويؤيد هذا المخصص الحديث المتفق عليه بلفظ كل شرط ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله فهو باطل ولا يعارض هذا حديث أحق الشروط الخ وهو متفق عليه ووجه عدم المعارضة أن عموم هذا الحديث مخصص بما قبله من الحديثين الدالين على أن الشروط التي تحلل الحرام أو تحرم الحلال مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لا يجب الوفاء بها سواء كانت في نكاح أو غيره لا كما قاله الجلال في ضوء النهار .
إلا أن يحل حراماً أو يحرم حلالاً فلا يحل الوفاء به كما ورد بذلك الدليل . وقد ثبت النهي عن اشتراط أمور كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي (ﷺ) نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أويبيع على بيعة أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفىء ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله (ﷺ) قال : لا يحل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى .
ويحرم على الرجل أن ينكح زانية أو مشركة لقوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله (ﷺ) في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فقرأ عليه (ﷺ) والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وأخرج أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث ابن عمر أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقته قال فجئت النبي (ﷺ) فقلت يا رسول الله ، انكح عناقاً قال فسكت عني فنزلت الآية والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي وقال لا تنكحها . وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (ﷺ) الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله قال ابن القيم أخذ بهذه الفتاوى التي لا معارض لها الإمام أحمد ومن وافقه ، وهي من محاسن مذهبه ، فإنه لم يجوز أن ينكح الرجل زوجاً تحبه ، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر انتهى . وأخرج أبن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي الله تعالى عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال : استوصوا في النساء خيراً فإنما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي (ﷺ) فقال : إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال : غربها قال : أخاف أن تتبعها نفسي قال فاستمتع بها قال المنذري ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين . قال ابن القيم عورض بهذا الحديث المتشابه الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج البغايا واختلفت مسالك المحرمين لذلك فيه فقالت طائفة المراد باللامس ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة . وقالت طائفة بل هذا في الدوام غير مؤثر ، وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام . وقالت طائفة بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما . فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حراماً فأمره حينئذ بإمساكها إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فساداً من مواقعتها بالسفاح . وقالت طائفة بل الحديث ضعيف لا يثبت . وقالت طائفة ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك فهي تعطي الليان لذلك ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة فأمره بفراقها تركاً لما يريبه إلى ما لا يريبه ، فلما أخبره بأن نفسه تتبعها وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك والله تعالى أعلم انتهى .
في المسوى أقول : الظاهر عندي أن مبنى اختلافهم هذا ، اختلافهم في مرجع ذلك في قوله حرم ذلك فقال أحمد مرجعه نكاح الزانية والمشركة . وقال غيره مرجعه الزنا والشرك . والمراد على هذا ، أن العادة قاضية بأن الزانية لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك ، والزنا والشرك حرام على المؤمنين ، فنكاحها لا يليق بحال المؤمنين . ولا يقولون إن الحديث ناسخ ، بل يقولون أنه مبين لتأويل الآية ، ومع ذلك فلا يخلو عن بعد . في الكافي مذهب أحمد الزانية يحرم نكاحها كالمعتدة . وأما غير أحمد فقولهم جواز نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك لحديث لا ترد يد لامس . قال الواحدي : عن أبي عبيد مذهب مجاهد أن التحريم لم يكن إلا على جماعة خاصة من فقراء المهاجرين أرادوا نكاح البغايا لينفقن عليهم . ومذهب سعد أن التحريم كان عاماً ثم نسخته الرخصة . وأورد أبو عبيد على هذا الحديث أنه خلآف الكتاب والسنة المشهورة لأن الله تعالى إنما أذن في نكاح المحصنات خاصة ثم أنزل في القاذف آية اللعان ، وسن رسول الله (ﷺ) التفريق بينهما فلا يجتمعان أبداً ، فكيف يأمر بالإقامة على عاهرة لا تمتنع ممن أرادها . والحديث مرسل فإن ثبت فتأويله أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق وهذا أشبه بالنبي (ﷺ) وأحرى بحديثه .
أقول في الاستدلال بحديث لا ترد يد لامس نظر من وجهين : أحدهما : أن هذا ليس رمياً لها بالزنا البتة بل رمي بقلة الإحتياط في أمر الملامسة فيحتمل حينئذ أن لا تتورع من اللمس الحرام وتتورع من حقيقة الزنا المفضي إلى الحد والمقتضي للحبل الموجب للفضيحة الشديدة . وكم من امرأة لا تتورع من النظر واللمس المحرمين وتتورع من موجب الحد وسبب الحبل خوفاً من الفضيحة ، فلما لم يصرح بالزنا لم يوجب النبي (ﷺ) عليه الفراق وثانيهما : أن حالة الإبتداء تفارق حالة البقاء في أكثر المسائل . كالمحرم لا يبتدىء بالنكاح في حالة إحرامه ولا يضره البقاء ، فإذا جوز النبي (ﷺ) إمساكها في حالة بقاء النكاح ، من أين لكم أنه يجوز ابتداء النكاح انتهى .
والعكس وإنما قال بالعكس لأن هذا الحكم لا يختص بالرجل دون المرأة كما تفيد ذلك الآية الكريمة الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك .
أقول : هذا هو الظاهر من الآية الكريمة ودعوى أن سبب نزول الآية فيمن سأله (ﷺ) أنه يريد أن ينكح عناقاً وكانت مشركة مدفوعة بأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لا سيما والآية الكريمة قد تضمنت نكاح الزانية على حدة ونكاح المشركة على حدة وأما حديث إن امرأتي لا ترد يد لامس فالظاهر أنه كناية عن كونها زانية ، لا كما قال المقبلي أن المراد أنها ليست نفوراً من الريبة لا أنها زانية ثم استبعد أن يقول له (ﷺ) استمتع بها وقد عرف أنها زانية وأن ذلك مناف لأخلاقه الشريفة . وأقول : هذا التأويل خلاف الظاهر . والإستبعاد لا يجوز إثبات الأحكام الشرعية أو نفيها بمجرده ، فالأولى التعويل على شئ آخر ، هو أن الحديث قد اختلف في وصله وإرساله ، بل قال النسائي أنه ليس بثابت ، وهكذا لا وجه لحمل الحديث على مجرد التهمة . فإن الرجل لم يقل أنه يتهم أنها لا ترد يد لامس أو يشك أو يظن بل قال ذلك جزماً .
ومن صرح القرآن بتحريمه وهو ظاهر لقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ثم قال وأحل لكم ما وراء ذلكم .
قال في المسوى : اتفقت الأمة على أنه يحرم الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده . فالأصول هي الأمهات والجدات وإن علون . والفصول هي : البنات وبنات الأولاد وإن سفلن . وفصول أول الأصول هي : الأخوات وبنات الأخوة والأخوات وإن سفلن . وأول فصل من كل أصل بعده هي : العمات والخالات وإن علت درجتهن انتهى .
والرضاع كالنسب لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما أن النبي (ﷺ) قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم وفي لفظ من النسب وفيهما أيضاً من حديث عائشة مرفوعاً يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة . وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث علي قال : قال رسول الله (ﷺ) إن الله حرم من الرضاع ما حرم من النسب
قال أهل العلم والمحرمات من الرضاع سبع : الأم والأخت - بنص القرآن - والبنت والعمة والخالة وبنت االأخ وبنت الأخت لإن هؤلاء يحرمن من النسب فيحرمن من الرضاع . وقد وقع الخلاف هل يحرم من الرضاع ما يحرم من الصهار وقد حقق الكلام في ذلك ابن القيم في الهدي .
قال في المسوى : اتفقت الأمة على أن كل من عقد النكاح على امرأة تحرم المنكوحة على آباء الناكح وإن علوا وعلى أبنائه وأبناء أولاده من النسب والرضاع جميعاً وإن سفلو تحريماً مؤبداً بمجرد العقد . ويحرم على الناكح أمهات المنكوحة وجداتها من الرضاع والنسب جميعاً تحريماً مؤبداً بمجرد العقد . فإن دخل بالمنكوحة حرمت عليه بناتها وبنات أولادها من النسب والرضاع جميعاً . وإن فارقها قبل أن يدخل بها جاز له نكاح بناتها . واتفقوا على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب في المناكح . فإذا أرضعت المرأة رضيعاً يحرم على الرضيع وعلى أولاده من أقارب المرضعة كل من يحرم على ولدها من النسب . ولا تحرم المرضعة على أبي الرضيع ولا على أخيه ولا تحرم عليك أم أختك إذا لم تكن أمك ولا زوجة أبيك ويتصور هذا في الرضاع ولا يتصور في النسب ليس لك أم أخت إلا وهي أم لك أو زوجة لأبيك . وكذلك لا تحرم عليك أم نافلتك إذا لم تكن ابنتك أو زوجة ابنك . ولا جدة ولدك إذا لم تكن أمك أو أم زوجتك . ولا أخت ولدك إذا لم تكن ابنتك أو ربيبتك . وحرمة الرضاع تكون بالرجال كما تكون بالنساء وهو قول أكثر أهل العلم انتهى .
والجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : نهى النبي (ﷺ) أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها وفي لفظ لهما نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وفي الباب أحاديث . وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن عامة أهل العلم وقال : لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك . وقال ابن المنذر : لست أعلم في منع ذلك اختلاف اليوم . وقد حكى الإجماع أيضاً الشافعي والقرطبي وابن عبد البر . قلت اتفقت الأمة على أنه يحرم عليه أن يجمع بين الأختين وبين الأمة وبنت أخيها وبنت الخالة وبنت أختها من النسب والرضاع جميعاً . وجملته أن كل امرأتين من أهل النسب لو قدرت أحداهما ذكراً حرمت الأخرى عليه فالجمع بينهما حرام . ولا بأس بالجمع بين المرأة وزوجة أبيها أو زوجة ابنها لأنه نسب بينهما كذا في المسوى .
و يحرم ما زاد على العدد المباح للحر والعبد لحديث قيس بن الحرث قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي (ﷺ) فذكرت ذلك له فقال : اختر منهن أربعاً أخرجه أبو داود وأبن ماجه وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة . وقال ابن عبد البر ليس له إلا حديث واحد ولم يأت من وجه صحيح ويؤيده ما سيأتي فيمن أسلم وعنده أكثر من أربع .
وأما الاستدلال بقوله تعالى مثنى وثلاث ورباع ففيه ما أوضحه الماتن في شرح المنتقى وفي حاشية الشفاء . وقد قيل أنه لا خلاف في تحريم الزيادة على الأربع وفيه نظر كما أوضحه هنالك .
أقول : قال الماتن رحمه الله تعالى في كتابه السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار . أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل مثنى وثلاث ورباع فغير صحيح كما أوضحته في شرحي للمنتقي ولكن الإستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحرث وحديث غبلان الثقفي وحديث نوفل ابن معاوية وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الإعتماد عليه وإن كان في كل أحد منها مقال لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه . وقد حكى الاجماع صاحب فتح الباري والمهدي في البحر . والنقل عن الظاهرية لم يصح فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبمهم . وأيضاً قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير تصحيح بعض هذه الأحاديث وأطلت المقال في ذلك فليرجع إليه انتهى .
وقال في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار حديث قيس بن الحرث . وفي رواية الحرث بن قيس في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد ضعفه غير واحد من الأئمة . قال أبو القاسم البغوي ولا أعلم للحارث بن قيس حديثاً غير هذا . وقال أبوعمر النمري ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح . وفي معنى هذا الحديث حديث غيلان الثقفي وهو عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي (ﷺ) أن يختار منهن أربعاً رواه أحمد وأبن ماجه والترمذي وحكم أبو حاتم وأبو زرعة بأن المرسل أصح . وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة . قال فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة . وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه . قال الحافظ ولا يفيد ذلك شيئاً. فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه بالبصرة وعلى تقدير أنهم سمعوا بغيرها فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة ، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها . اتفق على ذلك أهل العلم كابن المديني والبخاري وابن أبي حاتم ويعقوب ابن شيبة وغيرهم . وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح والعمل عليه وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده . وقال ابن عبد البر طرقه كلها معلولة . وقد أطال الدارقطني في العلل تخريج طرقه . ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهري مرسلاً ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك . وقد وافق معمراً على وصله بحر بن كميز السقاء عن الزهري ولكنه ضعيف . وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ويحيى ضعيف . وفي الباب عن نوفل بن معاوية عند الشافعي أنه أسلم وتحته خمس نسوة فقال له النبي (ﷺ) أمسك أربعاً وفارق الأخرى وفي إسناده رجل مجهول ، لأن الشافعي قال حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحرث عن نوفل بن معاوية قال أسلمت فذكره . وفي الباب أيضاً عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقي . وقوله اختر منهن أربعاً استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع . وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعاً ولعل وجهه قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل تسع ، وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة . وحكي أيضاً عن القاسم بن إبراهيم . وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه . وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية وقوم مجاهيل . وأجابوا عن حديث قيس بن الحرث المذكور بما فيه من المقال المتقدم . وأجابوا عن حديث غيلان الثقفي بما تقدم فيه من المقال . وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول . قالوا ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفى فيه بمثل ذلك ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله (ﷺ) قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة . وقد قال تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ولم يقم عليه دليل . وأما قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع فالوا وفيه للجمع لا للتخيير . وأيضاً لفظ مثنى معدول له عن اثنين اثنين وهو يدل على تناول ما كان متصفاً من الأعداد بصفة الاثنينية وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي اثنين اثنين وهكذا ثلاث ورباع ، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد . فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها ، فإنه لا شك أنه يصح لغة وعرفاً أن يقول الرجل لألف رجل عنده جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم . فكأن الله سجانه قال لكل فرد من الناس : انكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها . وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره فتنتهض بمجموعها للاحتجاج وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن مقال . ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة كما صرح به الخطابي فلا يجوز الإقدام على شئ منها إلا بدليل . وأيضاً هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع ، كما صرح بذلك في البحر ، وقال في الفتح : اتفق العلماء على أن من خصائصه (ﷺ) الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن . وقد ذكر الحافظ في الفتح والتلخيص الحكمة في تكثير نسائه (ﷺ) فليراجع ذلك انتهى . وقال في تفسيره فتح القدير وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه أما لو كان مطلقاً كما يقال اقتسموا الدراهم ويراد بها ما كسبوه فليس المعنى هكذا . والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول . على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي . ومعلموم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى وهم مائة ألف كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله تعالى اقتلوا المشركين أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحوها ومعنى قوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً هذا ما تقتضي لغة العرب ، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه . ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة فإنه وإن كان خطاباً للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد . فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرأن . وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور فهذا جهل بالمعنى العربي . ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره وذلك ليس بمراد من النظم القرآني . وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وأبن ماجه والدارقطني عن ابن عمر إن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي (ﷺ) اختر منهن وفي لفظ أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق . وعن نوفل بن معاوية الديلي قال أسلمت وعندي خمس نسوة فقال رسول الله (ﷺ) أمسك أربعاً وفارق الآخرى أخرجه الشافعي في مسنده . وأخرج أبن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحرث الأسدي قال أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي (ﷺ) فأخبرته فقال اختر منهن أربعاً وخل سائرهن ففعلت وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي .
وعن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله (ﷺ) على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين انتهى كلامه . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين رواه الدارقطني . قال الماتن رحمه الله في نيل الأوطار قد تمسك بهذا من قال أنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين ، وهو مروي عن علي وزيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية . ولا يخفى أن قول الصحابي لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته ، نعم لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلاً عند القائلين بحجية الأجماع ، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم أنه يجوز له أن ينكح أربعاً كالحر حكى ذلك عنهم صاحب البحر . فالأولى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة ، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما أنتهى .
ويوضح ذلك ما حرره الماتن رحمه الله تعالى في وبل الغمام حاشية شفاء الأوام وعبارته هكذا : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم أن العدل في الإعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثراً يحتاج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد ، فإن كان مجيء القوم مثلاً اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة وكانوا الوفا مؤلفة فقلت جاءني القوم مثنى أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين حتى تكاملوا ، فإن قلت مثنى وثلاث ورباع أفاد ذلك أن القوم جاءك تارة اثنين اثنين وتارة ثلاثة ثلاثة وتارة أربعة أربعة فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم فإنه يستفاد منها أصلاً ، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثراً تشق الإحاطة به ومثل هذا إذا قلت نكحت النساء مثنى فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين وليس فيه دليل على أن كل دفعه من الدفعات لم يدل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى كما أنه لا دليل في قولك جاءني القوم مثنى أنه لم يصل الإثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الإثنان الأولان . إذا تقرر هذا فقوله تعالى مثنى وثلاث ورباع يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين كما قدمنا في مجيء القوم وليس فيه أيضاً دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا فهذا . مقام الاستفادة منه فليتفضل بها علينا . وابن عباس إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة . وأما القعقعة بدعوى الإجماع من المصنف وأمثاله فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة . وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ والعمراني والقاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول وجماعة من الشيعة وثلة من محققي المتأخرين وخالفه أيضاً القرآن الكريم كما بيناه ، وخالفه أيضاً فعل رسول الله (ﷺ) كما صح ذلك تواتراً من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات وما آتاكم الرسول فخذوه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير وأما حديث أمره (ﷺ) لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة بأن يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن كما أخرجه الترمذي وابن ماجة وابن حبان ، فهو وإن كان له طرق فقد قال ابن عبد البر كلها معلولة وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى ومثل هذا لا ينتهض للنقل عن الدليل القرآني والفعل المصطفوي الذي مات (ﷺ) عليه والبراءة الأصلية ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة أو جاءنا بدليل في معناه فجزاه الله خيراً فليس بين أحد وبين الحق عداوة وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير كما نفعله في كثير من الأبحاث وإذا حاك في صدره شئ فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب . فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ الله ملكتك لقيل وقال ، ولا سيما في مثل مواطن تجبن عنها كثير من الرجال فإنك لا تسأل يوم القيامة عن الذي ترتضيه منك العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود . وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ومن ورد البحر استقل السواقيا انتهى واندفع بهذا ما في المسوى من قوله قلت : اتفقت الأمة على أن الحر يجوز له أن ينكح أربع حرائر ولا يجوز له أن ينكح أكثر من أربع . قال الشافعي انتهى الله تعالى بالحرائر إلى أربع تحريماً لأن يجمع أحد غير النبي (ﷺ) بين أكثر من أربع . وأما العبد فأكثر الأمة على أنه لا ينكح أكثر من امرأتين وفي الآية ما يدل على أنها في الأحرار وهو قوله أو ما ملكت أيمانكم وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار انتهى وأما العدد الذي يحل للعبد فقد حكى البيهقي وابن أبي شيبة أنه أجمع الصحابة على أنه لا ينكح العبد أكثر من اثنتين ، وكذلك حكى اجماع الصحابة الشافعي وروى الدارقطني عن عمر أنه قال : ينكح العبد امرأتين ويطلق يطليقتين . وسيأتي ما ورد في طلاق الأمة والعدة في باب العدة فمن قال بأن إجماع الصحابة حجة كفاه إجماعهم ، ومن لم يقل بحجية إجماعهم أجاز للعبد ما يجوز للحر من العدد . وقد أوضح الماتن حكم الإجماع في أول حاشية الشفاء .
فصل مسائل متعددة في النكاح
[عدل]واذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل لحديث جابر عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم وصححاه قال : قال رسول الله (ﷺ) من تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر وأخرجه أيضاً أبن ماجه من حديث ابن عمر قال الترمذي لا يصح إنما هو عن جابر . وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر أيضاً وفي إسناده مندل بن علي وهو ضعيف . وقد ذهب إلى عدم صحة عقد العبد بغير إذن مولاه الجمهور وقال مالك أن العقد نافذ ولسيده فسخه . ورد بأن العاهر الزاني والزنا باطل وفي رواية من حديث جابر بلفظ باطل .
وإذا عتقت الأمة ملكت أمر نفسها وخيرت في زوجها لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره أن بريرة خيرها النبي (ﷺ) وكان زوجها عبداً وكذا في صحيح البخاري من حديث ابن عباس . وفي حديث آخر لعائشة عند أحمد وأهل السنن أن زوج بريرة كان حراً وقد اختلفت الروايات في ذلك . وقد اختلف أهل العلم في ثبوت الخيار إذا كان الزوج حراً . فذهب الجمهور إلى أنه يثبت وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة وقد وقع في بعض الروايات أن النبي (ﷺ) لبريرة ملكت نفسك فاختاري فإن هذا يفيد أنه لا فرق بين الحر والعبد . والحاصل أن الاختلاف في كون زوجها حراً أو عبداً لا يقدح في ذلك لأن ملكها لأمر نفسها يقتضي عدم الفرق . ولكن دعوى أن تمكينها لزوجها بعد علمها بالعتق وثبوت الخيار مبطل لخيارها لا دليل عليها وتركه (ﷺ) لاستفصال بريرة أو زوجها عن ذلك يفيد أنه غير مبطل ولو كان مبطلاً لم يتركه .
ويجوز فسخ النكاح بالعيب لحديث كعب بن زيد أو زيد بن كعب أن رسول الله (ﷺ) تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها ووضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضاً فانحاز عن الفراش ثم قال خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئاً أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وابن عدي والبيهقي . وأخرجه من حديث كعب بن عجرة الحاكم في المستدرك . وأخرجه أبو نعيم في الطب والبيهقي من حديث ابن عمر وفي الحديث اضطراب . وروى مالك في الموطأ والدارقطني وسعيد بن منصور والشافعي وابن أبي شيبة عن عمر أنه قال ايما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلما مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره ورجال إسناده ثقات . وفي الباب عن على عند سعيد بن منصور وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن النكاح يفسخ بالعيوب وإن اختلفوا في تفاصيل ذلك . وروي عن على وعمر وابن عباس أنها لا ترد النساء إلا بالعيوب الثلاثة المذكورة والرابع الداء في الفرج . وذهب بعض أهل العلم إلى أن المرأة ترد بكل عيب ترد به الجارية في البيع . ورجحه ابن القيم واحتج له في الهدي بالقياس على البيع . وذهب البعض إلى أن المرأة ترد الزوج بتلك الثلاثة وبالجب والعنة . والخلاف في هذا البحث طويل .
أقول اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية ، أن عقد النكاح لازم تثبت به أحكام الزوجية من جواز الوطء ووجوب النفقة ونحوها وثبوت الميراث وسائر الأحكام . وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق والموت . فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الأسباب فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية . وما ذكروه من العيوب لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة ولم يثبت شئ منها . وأما قوله (ﷺ) إلحقي بأهلك فالصيغة صيغة طلاق . وعلى فرض الاحتمال فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح . والأصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه . ومن أعجب ما يتعجب منه تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض لا لمجرد دليل فسبحان الله وبحمده .
ويقر من أنكحة الكفار إذا أسلموا ما يوافق الشرع لحديث الضحاك بن فيروز عن أبيه عند أحمد وأهل السنن والشافعي والدارقطني والبيهقي وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان قال أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي (ﷺ) أن أطلق إحداهما وأخرج أحمد وأبن ماجه والترمذي والشافعي وابن حبان والحاكم وصححاه عن ابن عمر قال أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي (ﷺ) أن يختار منهن أربعاً وقد أعل الحديث بأن بالمغازي أن امرأة من الأنصار كانت عند رجل بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة فقدم زوجها وهي في العدة فاستقر على النكاح انتهى .
أقول إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس لمنزلة الطلاق إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها مع تجديد العقد .
فالحاصل أن المرأة المسلمة إن حاضت بعد إسلامها ثم طهرت كان لها ان تتزوج بمن شاءت . فإذا تزوجت لم يبق للأول عليها سبيل إذا أسلم وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الأول ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض هذا ما تقتضيه الأدلة وإن خالف أقوال الناس . وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين فإنه إذا عاد المرتد إلى الإسلام كان حكمه حكم إسلام من كان باقياً على الكفر
فصل المهر واجب وتكره المغالاة
[عدل]المهر واجب وبه يتحقق التمييز بين النكاح والسفاح وهو قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فلذلك ابقى النبي (ﷺ) وجوب المهر كما كان . ودليل وجوبه أنه (ﷺ) لم يسوغ نكاحاً بدون مهر أصلاً . وفي الكتاب العزيز وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وقوله فلا تأخذوا منه شيئاً . وقال وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض الآية وقال تعالى ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن وقد أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس أن النبي (ﷺ) منع علياً أن يدخل بفاطمة عليهما السلام حتى يعطيها شيئاً ولما قال ما عندي شئ قال فأين درعك الحطمية فأعطاه إياها وحديث سهل بن سعد الآتي قريباً من أعظم الأدلة على وجوب المهر .
وتكره المغالاة فيه لحديث عائشة عند الطبراني في الأوسط أن رسول الله (ﷺ) قال : إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة وفي إسناده ضعف . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي (ﷺ) فقال له إني تزوجت امرأة من الأنصار فقال له النبي (ﷺ) هل نظرت إليها فإن في عيون الأنصار شيئاً قال قد نظرت إليها قال على كم تزوجتها قال على أربع أواق فقال له النبي (ﷺ) على أربع أواق كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال فبعث بعثاً إلى بني عبس بعث ذلك الرجل فيهم وأخرج أبو داود والحاكم وصححه من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله (ﷺ) خير الصداق أيسره وعن عائشة أنه كان صداق النبي (ﷺ) لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشاً أي نصفاً وهو في صحيح مسلم وغيره . قال في الحجة ولم يضبط النبي (ﷺ) المهر بحد لا يزيد ولا ينقص إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة والرغبات لها مراتب شتى . ولهم في المشاحة طبقات فلا يمكن تحديده عليهم كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ولذلك قال التمس ولو خاتماً من حديد غير أنه سن في صداق أزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً . وقال عمر رضي الله تعالى عنه لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله (ﷺ) انتهى .
ويصح ولو خاتماً من حديد أو تعليم قرآن لما أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه من حديث عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله (ﷺ) : أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين فقالت : نعم فأجازه وأخرج أحمد وأبو داود من حديث جابر أن رسول الله (ﷺ) قال : لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يديه طعاماً كانت له حلالاً وفي إسناده ضعف . وأخرج الدارقطني في حديث لأبي سعيد في المهر قال ولو على سواك من أراك وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد أن النبي (ﷺ) جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياماً طويلاً فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله (ﷺ) هل عندك من شئ تصدقها قال ما عندي إلا إزاري هذا فقال له النبي (ﷺ) إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً فقال ما أجد شيئاً قال التمس ولو خاتماً من حديد فالتمس فلم يجد شيئاً فقال له النبي (ﷺ) هل معك من القرآن شئ قال نعم سورة كذا وسورة كذا لسور سماها فقال له النبي (ﷺ) قد زوجتكها بما معك من القرآن ولا يعارض ما ذكر حديث لا مهر أقل من عشرة دراهم عند الدارقطني من حديث جابر لأن في إسناده مبشر بن عبيد وحجاج بن أرطأة وهما ضعيفان . قال ابن القيم وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النكاح بما قل من مهر ولو خاتماً من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله أن تبتغوا بأموالكم وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير بأثر لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق وأين النكاح من اللصوصية وأين استباحة الفرج به إلى قطع اليد في السرقة. وقد تقدم مراراً أن أصح الناس قياساً أهل الحديث وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد انتهى .
أقول الحاصل أن الأدلة قد دلت على أنه يصح أن يكون المهر قليلاً بدون تقييد وكذلك حديث المرأة التي تزوجت بنعلين وأقرها رسول الله (ﷺ) وكذلك حديث أنه (ﷺ) قال لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقاً ملء يديه طعاماً كانت حلالاً وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف تزوج امرأة على وزن نواة من ذهب يدل على عدم التقييد بحد في جانب القلة . والأحاديث المذكورة هي في الأمهات . فالأول متفق عليه ، والثاني أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه ، والثالث أخرجه أحمد وأبو داود ، والرابع أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة . فهذه الأحاديث تدل على أنه لا حد للمهر في جانب القلة بل إذا كان له قيمة صح أن يكون مهراً . وأما في جانب الكثرة فكذلك أيضاً لا حد له ولذلك ذكر الله القنطار وكانت مهور زوجاته صلى الله عليه وآله وسلم لكل واحدة اثنتا عشرة أوقية ونصف عن خمسمائة درهم فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذا فعليه الدليل الصحيح ولا ريب أن المغالاة في المهور مكروهة كما تقدم .
ومن تزوج امرأة ولم يسم لها صداقاً فلها مهر نسائها إذا دخل بها لحديث علقمة عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان قال أتى عبد الله يعني ابن مسعود في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقاً ولم يكن دخل بها قال فاختلفوا إليه فقال أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي (ﷺ) قضى في بروع ابنه واشق بمثل ما قضى وفي أعلام الموقعين سئل رسول الله (ﷺ) عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً حتى مات فقضى لها على صداق نسائها وعليها العدة ولها الميراث ذكره أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره . قال ابن القيم وهذه فتوى لا معارض لها فلا سبيل إلى العدول عنها انتهى .
ويستحب تقديم شئ من المهر قبل الدخول لحديث ابن عباس المتقدم قريباً . وأخرج أبو داود وابن ماجة من حديث عائشة قالت أمرني رسول الله (ﷺ) أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئاً ولا يعارض هذا حديث ابن عباس فإن غاية ما فيه أنه يدل على أن تقدمة شيء من المهر قبل الدخول غير واجبة ولا ينفي كونها مستحبة .
وعليه شإحسان العشرة لقوله تعالى وعاشروهن بالمعروف وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها فاستوصوا بالنساء وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديثه أيضاً قال قال رسول الله (ﷺ) أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم وأخرج الترمذي وصححه من حديث عائشة قالت قال رسول الله (ﷺ) خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي وقال في الحجة البالغة : الإنسان إذا أراد استيفاء مقاصد المنزل منها لا بد أن يجاوز عن محقرات الأمور ويكظم الغيظ فيما يجده خلاف هواه إلا ما يكون من باب الغيرة المحمودة وتداركاً لجور ونحو ذلك . والواجب الأصلى هو المعاشرة بالمعروف وبينها النبي (ﷺ) بالرزق والكسوة وحسن المعاملة ولا يمكن في الشرائع المستندة إلى الوحي أن يعين جنس القوت وقدره مثلاً فإنه لا يكاد يتفق أهل الأرض على شئ واحد ولذلك إنما أمر أمراً مطلقاً . قال في المسوى إذا أعسر الزوج بنفقة امرأته فهل يثبت لها حق الخروج من النكاح قال الشافعي : لها الخروج عن النكاح . وقال أبو حنيفة : ليس لها ذلك ، وكذلك الخلاف في الإعسار بالصداق إلا أن عند الشافعي في الإعسار بالنفقة إذا رضيت مرة ثم بدا لها فلها الخروج وفي الإعسار بالصداق إذا رضيت مرة سقط حقها انتهى .
وعليها الطاعة لقوله تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (ﷺ) إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع النبي (ﷺ) فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال استوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن لكم من نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون إلا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن وفي الباب أحادث كثيرة . واما ان عليها خدمته في بيته أم لا ؟ فأقول : ايجاب ذلك عليها غير ظاهر ولكن قد كان نساء الصحابة يعملن الأعمال التي تصلح المعيشة بل ويعملن من الأعمال الخارجة عن ذلك ما هو متبالغ في المشقة ، ولم يسمع أن امرأة امتنعت من ذلك وقالت هذا ليس علي أو لست ممن يعمل هذه الأعمال لكوني بمكان من الشرف أو بمحل من الجمال . فقد صح في الصحيحين وغيرهما أن الرحى أثرت في يد البتول والقربة اثرت في نحرها ولا شرف كشرفها رضي الله عنها وأرضاها فمن زعمت أنه لا يجب عليها إلا تمكين زوجها من الوطء وأرادت الرجوع بأجرة عملها لم تحل اجابتها إلى ذلك . إنما الأشكال إذا امتنعت من المباشرة للأعمال ابتداء قائلة هذا لا يجب علي فإجبارها على ذلك يحتاج إلى دليل . فإن صح الأمر منه (ﷺ) للبتول بخدمة زوجها كان ذلك صالحاً للتمسك به على إجبار الممتنعة . وأما استدلال القائلين بعدم الوجوب بقوله تعالى نساؤكم حرث لكم ونحو ذلك فليس مما يفيد المطلوب وكان يكفيهم أن يقولوا لم نقف على دليل يدل على الوجوب ولا يثبت مثل هذا الحكم الشاق بدون ذلك ومجرد تقريره (ﷺ) لنسائه ونساء المسلمين على العمل في بيوت الأزواج غايته الجواز لا الوجوب .
ومن كان له زوجان فصاعداً عدل بينهن في القسمة وما تدعو الحاجة إليه لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال : إسناده على شرط الشيخين وصححه الترمذي عن النبي (ﷺ) قال : من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الآخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً وقد كان رسول الله (ﷺ) يقسم بين نسائه فكن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها كما في الصحيح . وأخرج أهل السنن وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عائشة قالت : كان رسول الله (ﷺ) يقسم فيعدل ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك قال في الحجة البالغة : والظاهر أن ذلك منه (ﷺ) كان تبرعاً وإحساناً من غير وجوب عليه لقوله تعالى: ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء وأما في غيره فموضع تأمل واجتهاد . ولكن جمهور الفقهاء أوجبوا القسم واختلفوا في القرعة . أقول : وفيه أن قوله فلم يعدل مجمل لا يدري أي عدل أريد به انتهى .
أقول واما الأمة المعقود عليها عقد نكاح فيصدق عليها أنها زوجة ويصدق عليها أنها امرأه فيكون الوعيد الوارد فيمن له زوجتان أو امرأتان شاملاً لهما . فالقول بأن الأمة لا تستحق إلا نصف الحرة في القسمة محتاج إلى دليل ولم يصح في المرفوع شئ والموقوف على الصحابة وكذلك المرسلات ليس فيها حجة .
وأما الكلام حال الجماع فقد استدل بعض أهل العلم على كراهة الكلام حال الجماع بالقياس على كراهته حال قضاء الحاجة فإن كان ذلك يجامع الاستخباث . فباطل فإن حالة الجماع حالة مستلذة لا حالة مستخبثة وفي المكالمة حالته نوع من إحسان العشرة بل فيه لذة ظاهرة كما قال بعض الشعراء :
ويعجبني منك حال الجماع……….لين الكلام وضعف النظر
وإن كان الجامع شيئاً آخر فما هو ؟ فإن النبي (ﷺ) قد شرع الملاعبة والمداعبة ، ووقت الجماع أولى بذلك من غيره .
وإذا سافر أقرع بينهن دفعاً لوحر الصدر لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أن النبي (ﷺ) كان إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها .
وللمرأة أن تهب نوبتها أو تصالح الزوج على إسقاطها لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان النبي (ﷺ) يقسم لعائشة يومها ويوم سودة وفي الصحيحين عن تفسير قوله تعالى : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير قالت : هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول له : امسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة علي والقسم لي .
ويقيم عند الجديدة البكر سبعاً والثيب ثلاثاً لأن البكر الرغبة فيها أتم والحاجة إلى تأليف قلبها أكثر فجعل قدرها السبع وقدر الثيب الثلاث لحديث أم سلمة عند مسلم وغيره أن النبي (ﷺ) لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام وفي الصحيحين من حديث أنس قال من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم وفي الباب أحاديث ولا يجوز العزل يشير إلى كراهة العزل من غير تحريم . قال في المسوى : اختلف أهل العلم في العزل فرخص فيه غير واحد من الصحابة والتابعين وكرهه جمع منهم ولا شك أن تركه أولى وبالجملة . فدليله حديث جذامة بنت وهب الأسدية أنهم سألوا رسول الله (ﷺ) عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي أخرجه مسلم وغيره . وأخرج أحمد وابن ماجة عن عمر قال : نهى رسول الله (ﷺ) عن أن نعزل عن الحرة إلا بإذنها وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال . وأخرج عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها وقد استدل من جوز العزل بحديث جابر في مسلم وغيره قال كنا نعزل على عهد رسول الله (ﷺ) والقرآن ينزل وفي رواية فبلغه ذلك فلم ينهنا وغايته أن جابراً لم يعلم بالنهي وقد علمه غيره وأما ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي (ﷺ) قال لما سألوه عن العزل ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة فقد قيل إن معناه النهي وقيل إن معناه ليس عليكم أن تتركوا وغايته الاحتمال ولا يصلح للاستدلال . وأخرج أحمد والترمذي والنسائي بإسناد رجاله ثقات قال قال رسول الله (ﷺ) في العزل أنت تخلقه أنت ترزقه أقرره قراره فإنما ذلك القدر وأخرج أحمد ومسلم من حديث أسامة بن زيد أن رجلاً جاء إلى النبي (ﷺ) فقال إني أعزل عن امرأتي فقال له رسول الله (ﷺ) لم تفعل ذلك فقال أشفق على ولدها فقال رسول الله (ﷺ) لو كان ضاراً ضر فارس والروم وقد حكى ابن عبد البر الاجماع على أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها وتعقب بأن الشافعية تقول أنه لا حق للمرأة في الجماع .
أقول : وفي حديث أبي سعيد الذي أخرجه أهل السنن قال : قيل للنبي (ﷺ) زعموا أن العزل هو المؤودة الصغرى فقال : كذبت يهود لو أراد الله أن يخلق لم تستطع أن تصرفه وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة وجابر . ويمكن الجمع بحمل الأحاديث القاضية بالمنع على مجرد الكراهة فقط من دون تحريم .
ولا يجوز إتيان المرأة في دبرها لحديث أبي هريرة عند أحمد وأهل السنن والبزار قال : قال رسول الله (ﷺ) ملعون من أتى امرأة في دبرها وفي إسناده الحرث بن مخلد لا يعرف حاله . وأخرج أحمد والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة أن رسول الله (ﷺ) قال من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد وفي إسناده أبو تميمة عنه . قال البخاري لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة . وقال البزار هذا حديث منكر . وفي إسناده أيضاً حكيم بن الاثرم . قال البزار لا يحتج به وما تفرد به فليس بشئ . وأخرج أحمد وابن ماجة من حديث خزيمة بن ثابت أن النبي (ﷺ) نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها وفي إسناده عمر بن أحيحة وهو مجهول . وفي الباب عن علي بن أبي طالب عند أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة أن النبي (ﷺ) قال : لا تأتوا النساء في إعجازهن . أو قال في أدبارهن ورجال إسناده ثقات . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد والنسائي أن النبي (ﷺ) قال في الذي يأتي إمرأته في دبرها هو اللوطية الصغري وفي الباب أحاديث وبعضها يقوي بعضاً . وحكي عن بعض أهل العلم الجواز واستدلوا بقوله تعالى فاتوا حرثكم أنى شئتم والبحث طويل لا يتسع المقام لبسطه .
أقول : كان اليهود يضيقون في هيئة المباشرة من غير حكم سماوي . وكان الأنصار ومن وليهم يأخذون سنتهم . وكانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت هذه الآية أي أقبل وأدبر ما كان في صمام واحد وذلك لأنه لا شئ تتعلق به المصلحة المدنية والملية والإنسان أعرف بمصلحة خاصة نفسه وإنما كان ذلك من تعمقات اليهود فكان من حقه أن ينسخ . قال في أعلام الموقعين وسألته (ﷺ) امرأة من الأنصار عن وطء المرأة في قبلها من ناحية دبرها فتلا عليها قوله تعالى نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم صماماً واحداً ذكره أحمد . وسأله (ﷺ) عمر فقال يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك ؟ قال : حولت رحلى البارحة فلم يرد عليه شيئاً فأوحى الله تعالى إلى رسوله نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم أقبل وأدبر واتق الحيضة والدبر ذكره أحمد والترمذي . وهذا هو الذي أباحه الله تعالى ورسوله وهو الوطء من الدبر لا في الدبر انتهى .
أقول : هذه النصوص المذكورة فيها مقالات لأئمة الحديث ولكن لها طرق عن جماعة من الصحابة وهي منتهضة بمجموعها على فرض أن معنى قوله تعالى أنى شئتم أين شئتم فإن كل ما في هذه الأحاديث من المقالات لا يبلغ بواحد منها إلى حد السقوط عن درجة الاعتبار . وقد استوفي الماتن رحمه الله البحث في النيل . واستوفاه الجلال في ضوء النهار وساق الأدلة برصانة ومتانة رحمه الله . وأعظم ما يستشكل في المقام ما صح عن ابن عمر من طرق أنه قرأ نساؤكم حرث لكم فقال تدري يا نافع فيم أنزلت هذه الآية قال لا قال في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فوجد من ذلك وجداً شديداً فأنزل الله سبحانه نساؤكم حرث لكم لكنه قد وهمه حبر الأمة ابن عباس في ذلك كما في سنن أبي داود
فصل الولد للفراش ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه
[عدل]الولد للفراش وللعاهر الحجر ولا عبرة لشبهه بغير صاحبه لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله (ﷺ) الولد للفراش وللعاهر الحجر وفيهما أيضاً من حديث عائشة قالت اختصم سعد ابن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله (ﷺ) فقال سعد يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلى شبهه وقال عبد بن زمعة هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي فنظر رسول الله (ﷺ) إلى شبهه فرأى شبهاً بيناً بعتبة وقال هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة .
وإذا اشترك ثلاثة في وطء أمة طهر ملكها كل واحد منهم فيه فجاءت بولد وادعوه جميعاً فيقرع بينهم ومن استحقه بالقرعة فعليه للآخرين ثلثا الدية لما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي من حديث زيد بن أرقم قال : أتى علي وهو باليمن بثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد فسأل اثنين وقال اتقران لهذا بالولد قالا لا . ثم سأل اثنين أتقران لهذا بالولد قالا لا . فجعل كلما سأل اثنين اتقران لهذا بالولد قالا لا . فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية . فذكر ذلك للنبي (ﷺ) فضحك حتى بدت نواجذه وأخرجه النسائي وأبو داود موقوفاً على علي بإسناد أجود من الأول لأن في الإسناد الأول يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالأجلح وقد وثقه يحيى بن معين والعجلي وضعفه النسائي بما لا يوجب ضعفاً . وقد أخذ بالقرعة مطلقاً مالك والشافعي وأحمد . والجمهور حكي ذلك عنهم ابن رسلان في كتاب العتق من شرح السنن وقد ورد العمل بها في مواضع هذا منها .
أقول القرعة قد صح الدليل باعتبارها كما أوضحت ذلك في ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي . وأوضحه الماتن في شرح المنتقى فإذا اعوز الأمر ولم يمكن التعيين بسبب من الأسباب الراجعة إلى ثبوت الفراش أو البينة أو نحوهما فإنه يرجع إلى القرعة فقد اعتبرها (ﷺ) في الإلحاق مع الاختلاف واعتبرها في تعيين من يعتق كما في حديث من أوصى بعتق ستة أعبد فأقرع بينهم واعتق اثنين وأرق أربعة بعد أن جزأهم ثلاثة أجزاء وأعتق الجزء الذي وقعت عليه القرعة . وورد أيضاً غير ذلك .
فالحاصل أن القرعة معتبرة شرعاً في غير باب