الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الطلاق/باب الحضانة
الأولى بالطفل أمه ما لم تنكح لحديث عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وحجري له حواء ، وثديي له سقاء ، وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال : أنت أحق به ما لم تنكحي أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والبيهقي ، والحاكم وصححه . وقد وقع الإجماع على أن الأم أولى بالطفل من الأب . وحكى ابن المنذر الاجماع على أن حقها يبطل بالنكاح ، وقد روي عن عثمان أنه لا يبطل بالكناح ، وإليه ذهب الحسن البصري ، وابن حزم ، واحتجوا ببقاء ابن أم سلمة في كفالتها بعد أن تزوجت بالنبي (ﷺ) . ويجاب عن ذلك بأن مجرد البقاء مع المنازع لا يحتج به لاحتمال أنه لم يبق له قريب غيرها . واحتجوا أيضا بما سيأتي في حديث ابنة حمزة فإن النبي (ﷺ) قضى بأن الحق لخالتها ، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقد قال : الخالة بمنزلة الأم . ويجاب عن هذا بأنه لا يدفع النص الوارد في الأم، ويمكن أن يقال أن هذا يكون دليلاً على ما ذهبت إليه الحنفية من أن النكاح إذا كان لمن هو رحم للصغير فلا يبطل به الحق ، ويكون حديث ابنة حمزة مقيداً لقوله (ﷺ) ما لم تنكحي ثم الخالة أولى بعد الأم ممن عداها . لحديث البراء بن عازب في الصحيحين وغيرهما أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد فقال علي : أنا أحق بها هي ابنة عمي ، وقال جعفر : بنت عمي وخالتها تحتى . وقال زيد : ابنة أخي فقضى بها رسول الله (ﷺ) لخالتها وقال : الخالة بمنزلة الأم والمراد بقول زيد ابنة أخي أن حمزة قد كان النبي (ﷺ) آخى بينهما . ووجه الإستدلال بهذا الحديث أنه قد ثبت بالإجماع أن الأم أقدم الحواضن فمقتضى التشبيه أن تكون الخالة أقدم من غيرها من غير فرق بين الأب وغيره . وقد قيل أن الأب أقدم منها إجماعاً ، وليس ذلك بصحيح والخلاف معروف والحديث يحج من خالفه . قال في المسوى : إذا فارق الرجل امرأته وبينهما ولد صغير فالأم وأم الأم أولى بالحضانة من الأب لرواية مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : كانت عند عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار فولدت له عاصم بن عمر ثم أنه فارقها فجاء عمر بن الخطاب قباء فوجد ابنه عاصماً يلعب بفناء المسجد فأخذ بعضده فوضعه بين يديه على الدابة فأدركته جدة الغلام فنازعته إياه حتى أتيا أبا بكر الصديق فقال عمر : ابني وقالت المرأة : ابني فقال : أبو بكر خل بينها وبينه قال : فما راجعه عمر الكلام .
ثم الأب وإن لم يرد بذلك بدليل يخصه لكنه قد استفيد من مثل قوله (ﷺ) للأم أنت أحق به ما لم تنكحي فإن هذا يدل على ثبوت أصل الحق للأب بعد الأم ومن هو بمنزلتها وهي الخالة ، وكذلك إثبات التخيير بينه وبين الأم في الكفالة ، فإنه يفيد إثبات حق له في الجملة . وقال في المسوى : روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله (ﷺ) خير غلاماً بين أبيه وأمه ثم طبق بين الحديث والأثر بأن المولود إذا كان دون سبع سنين فالأم أولى به وإذا بلغ سبع سنين وعقل عقل مثله خير بين الأبوين سواء كان ذكراً أوأنثى فأيهما اختاره يكون عنده . وأخذ هذا النوع من التطبيق من قضاء علي رضي الله تعالى عنه فإنه خير صبياً كان ابن سبع سنين ، أو ثمان سنين بين الأم والعم ، وقال لأخيه الصغير منه وهذا أيضاً لو قد بلغ هذا لخيرته . وقال أبو حنيفة : الأم أحق بالغلام حتى يأكل ويلبس وحده ، وبالجارية حتى تحيض ثم بعد ذلك الأب أحق بهما .
أقول : الحق أن الحضانة للأم ثم للخالة للدليل الذي قدمنا ولا حضانة للأب ولا لغيره من الرجال والنساء إلا بعد بلوغ الصبي سن التمييز ، فإن بلغ إليه ثبت تخييره بين الأم والأب ، وإذا عد ما كان أمره إلى أوليائه إن وجدوا ، وإلا كان إلى قرابته الذين ليسوا بأولياء ، ويقدم الأقرب فالأقرب ولكن ليس هذا الدليل اقتضى ذلك ، بل لأن حضانة الصبي وكفالة أمره لا بد منه ، والقرابة أولى به من الأجانب بلا ريب ، وبعض القرابة أولى من بعض فأحقهم به بعد عدم من وردت النصوص بثبوت حضانته هو الأولياء لكون ولاية النظر في مصالحه إليهم ومع عدمهم تكون حضانته إلى الاقرب فالأقرب هذا ما يقتضيه النظر الصحيح ومن رام الوقوف على جميع العلل التي علل بها المختلفون في التقديم والتأخير في باب الحضانة فعليه بالهدي لابن القيم ، ولكنه لم يترجح لدي إلا ما ذكرته ههنا وذكره الماتن . وقد يقال : إن حديث أنت أحق به ما لم تنكحي يفيد ثبوت أصل الحق في الحضانة للأب بعد الأم ومن هو بمنزلتها وهي الخالة فتكون أهل الحضانة الأم ثم الخالة ثم الأب .
ثم يعين الحاكم من القرابه من رأى فيه صلاحاً لأنه إذا عدمت الأم والخالة والأب فالصبي محتاج إلى من يحضنه بالضرورة . والقرابة أشفق به فيعين الحاكم من يقوم به منهم ممن يرى فيه صلاحاً للصبي . وقد أخرج عبد الرزاق عن عكرمة قال : إن امرأة عمر بن الخطاب خاصمته إلى أبي بكر في ولد عليها فقال أبو بكر : هي أعطف وألطف وأرحم وأحنى ، وهي أحق بولدها ما لم تتزوج . فهذه الأوصاف تفيد أن أبا بكر جعل العلة العطف واللطف والرحمة والحنو .
وبعد بلوغ سن الاستقلال يخير الصبي بين أبيه وأمه لحديث أبي هريرة عند أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي أن النبي (ﷺ) خير غلاماً بين أبيه وأمه وفي لفظ أن امرأة جاءت فقالت : يا رسول الله ، إن زوجي يريد أن يذهب بإبني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال رسول الله (ﷺ) : استهما عليه . قال زوجها : من يحاقني في ولدي فقال النبي (ﷺ) : هذا أبوك ، وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به أخرجه أهل السنن ، وابن أبي شيبة ، وصححه الترمذي ، وابن حبان ، وابن القطان ، وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وأبن ماجه ، والدارقطني من حديث عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم فجاء بابن صغير له لم يبلغ قال : فأجلس النبي (ﷺ) الأب ههنا والأم ههنا ثم خيره وقال : اللهم اهده فذهب إلى أبيه قال ابن القيم : الحضانة قضي فيها خمس قضايا : إحداها : قضى بابنة حمزة لخالتها وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقال : الخالة بمنزلة الأم فتضمن هذا القضاء أن الخالة قائمة مقام الأم في الإستحقاق وإن تزوجها لا يسقط حضانتها إذا كانت جارية . القضية الثانية : أن رجلاً جاء بابن له صغير لم يبلغ فاختصم فيه هو وأمه ولم يسلم فأجلس رسول الله (ﷺ) الأب ههنا وأجلس الأم ههنا ثم خير الصبي وقال : اللهم اهده فذهب إلى أمه ذكره أحمد . القضية الثالثة : أن رافع بن سنان أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي (ﷺ) وقالت فطيم أو شبيهه وقال رافع ابنتي فقال رسول الله (ﷺ) : اقعد ناحية وقال لها اقعدي ناحية فأقعد الصبية بينهما ثم قال : ادعواها فمالت إلى أمها فقال النبي (ﷺ) : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها ذكره أحمد . القضية الرابعة : جاءته امرأة فقالت إن زوجي يريد أن يذهب بابني الخ ذكره أبو داود . القضية الخامسة : جاءته (ﷺ) امرأة فقالت يا رسول الله : ان ابني هذا كان بطني له وعاء الخ ذكره أبو داود فعلي . هذه القضايا الخمس تدور الحضانة وبالله التوفيق .
فإن لم يوجد من له في ذلك حق بنص الشرع أكفله من كان له في كفالته مصلحة لكونه محتاجاً إلى ذلك فكانت المصلحة معتبرة في بدنه كما اعتبرت في ماله وقد دلت على ذلك الأدلة الواردة في أموال اليتامى من الكتاب والسنة