الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الحدود/باب حد الزاني

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



باب حد الزاني


والزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان قال تعالى : ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا وعلى هذا اتفق المسلمون وإن كان لهم في حد الزنا اختلاف .

إن كان بكراً حراً جلد مائة جلدة لقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وفي قوله : لا تأخذكم بهما رأفة نهي عن تعطيل الحدود . وقيل نهي عن تخفيف الضرب . بحيث لا يحصل وجع معتد به وقوله : ليشهد عذابهما قيل : يجب حضور ثلاثة فما فوقهم ، وقيل : أربعة بعد شهود الزنا ، وقال أبو حنيفة الإمام والشهود إن ثبت الزنا بالشهود والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

وبعد الجلد يغرب عاماً لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما أن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله () فقال : يارسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله ، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه . نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله () قل . قال إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته وأني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله () والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة الغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد ياأنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قال فغدا عليها فاعترفت فأمر رسول الله () فرجمت قال مالك العسيف الأجير . وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي () قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه وأخرج مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله () : خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن الجمهور حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين . وقد حكي ابن المنذر أنه عمل بالتغريب الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعاً . ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة ، وغاية ما تمسكوا به عدم ذكره في بعض الأحاديث وذلك لا يستلزم العدم . واختلف من أثبت التغريب هل تغرب المرأة أم لا فقال مالك والأوزاعي : لا تغرب المرأة لأنه عورة وظاهر الأدلة عدم الفرق . قلت : والتغريب من جملة الإيذاء الذي أمر به القرآن قال : فآذوهما وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يغرب .

وإن كان ثيباً جلد كما يجلد البكر بما تقدم من الأدلة وبغيرها كرجمه () لماعز ، ورجمه () لليهودي واليهودية ، ورجمه للغامدية والكل في الصحيح .

ثم يرجم حتى يموت والرجم كان متلواً ثم نسخت تلاوته ، وأيضاً يتناوله الايذاء ، وعلى هذا أكثر أهل العلم ، وتكلموا في ترتيب هذه الدلائل مع حديث عبادة الثيب بالثيب جلد مائة والرجم وجمع علي كرم الله وجهه بين الرجم والجلد فقالوا : الجلد منسوخ فيمن وجب عليه الرجم لأن النبي () رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين ولم يجلد واحداً منهم . وقال لأنيس الأسلمي فإن اعترفت فارجمها ولم يأمر بالجلد وهذا آخر الأمرين .لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام فيكون ناسخاً لما سبق من الحدين الجلد والرجم ، ثم رجم الشيخان أبو بكر وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الرجم والجلد . قال في المسوى : في حديث عبادة ما يدل على أنه من آخر أحكام النبي () لأن لفظه خذوا عني إلخ . فيه إشارة إلى قوله تعالى أو يجعل الله لهن سبيلاً فهو متأخر عن هذه الآية ، وهذه الآية في سورة النساء وهي من آخر ما نزل . فلا تدل رواية أبي هريرة إياه على النسخ بل الظاهر عندي أنه يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد والرجم ويستحب له أن يقتصر على الرجم لاقتصار النبي () على الرجم والحكمة في ذلك أن الرجم عقوبة تأتي على النفس فأصل الرجم المطلوب حاصل به والجلد زيادة عقوبة رخص في تركها ، فهذا وجه الاقتصار على الرجم عندي والعلم عند الله تعالى .

ويكفي إقراره وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الاستثباث لأن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة . فمن أوجب تكرار الأقراب في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه ولا دليل ههنا ، بيد من أوجب تربيع الإقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار ، ولم يثبت عن النبي () أنه أمره أو أمر غيره بأن يكرر الاقرار ، ولا ثبت عنه () أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات ، وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول لقصد التثبت في أمره ولهذا قال له () أبك جنون ووقع منه () السؤال لقوم ماعز عن عقله وقد اكتفى () بالإقرار مرة واحدة . كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله () واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها وثبت عنه () أنه رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة كما في صحيح مسلم وغيره ، وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أن النبي () رجم رجلاً أقر مرة واحدة ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه وفي رواية أنه عفا عنه ، والحديث في سنن النسائي والترمذي ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار ، فلو كان الإقرار أربع مرات شرطاً في حد الزاني لما وقع منه () المخالفة له في عدة قضايا ، فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبساً في ثوب العقل وعدمه والصحو والسكر ونحو ذلك ، وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة على من كان معروفاً بحصة العقل ونحوه . وأما اعتبار كون الشهود أربعة فذلك لمزيد الإحتياط في الحدود لكونها تسقط بالشبهة ولا وجه للإحتياط بعد الإقرار ، فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة بخلاف شهادة الشهود عليه وهذا أمر واضح . وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم . وحكاه صاحب البحر عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي ، وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار .

أقول : هذه المسألة من المعارك والحق أن الإقرار الذي يستباح به الجلد والرجم لا يشترط فيه أن يكون على مرة ، وقد ثبت عنه () أنه رجم وأمر بالرجم وجلد بمجرد الإقزاز مرة واحدة كما ثبت ذلك في عدة أحاديث ، وأما سكوته () في مثل قضية ماعز حتى أقر أربعاً فليس فيها أن ذلك شرط ، بل غاية ما فيها أن الامام إذا تثبت في بعض الأحوال حتى يقع الإقرار مرات كان له ذلك . وقد بسط الماتن المسألة في شرح المنتقى فليرجع إليه فالمقام حقيق بالتحقيق .

وأما الشهادة فلا بد من أربعة ولا أعلم في ذلك خلافاً وقد دل على هذا الكتاب والسنة . قال في المسوى : يثبت الزنا بالإقرار وبأربعة شهداء قال الله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا قلت : على هذا أهل العلم .

ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج لقوله () لماعز : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت فقال : لا يارسول الله قال : أفنكتها ؟ لا يكنى قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس . وأخرج أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة قال : جاء الأسلمي رسول الله () يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال : أنكتها قال : نعم . قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم الحديث وفي إسناده ابن الهضهاض قال البخاري : حديثه في أهل الحجار ليس يعرف إلا هذا الواحد . وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا والقصة معروفة .

ويسقط الحد بالشبهات المحتملة لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله () : ادرؤا الحدود على المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطيء في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة أخرجه الترمذي وقد رواه الترمذي أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن عائشة ، وقد أعل الحديث بالوقف . وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ ادفعوا الحدود ماوجدتم لها مدفعاً وقد روى من حديث علي مرفوعاً ادرؤا الحدود بالشبهات وروي نحوه عن عمر وابن مسعود بإسناد صحيح . وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه ويقويه ، ومما يؤيد ذلك قوله () لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها يعني امرأة العجلاني كما في الصحيحين من حديث ابن عباس .

وبالرجوع عن الإقرار لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي أن ماعزاً لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله () فقال : هلا تركتموه قال الترمذي : إنه حديث حسن وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة انتهى . ورجال إسناده ثقات . وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله () فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله () غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله () وأخبرناه قال : فهلا تركتموه وجئتموني به وقد أخرج البخاري ومسلم طرفاً من هذا الحديث ، وفي الباب روايات . وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنيفة ، وهو مروي عن مالك في قول له . وقد ذهب ابن أبي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أن لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار .

وبكون المرأة عذراء أو رتقاء وبكون الرجل محجوباً أو عنيناً لكون المانع موجوداً فتبطل به الشهادة أو الاقرار لأنه قد علم كذب ذلك قطعاً . وقد روي أنه () بعث علياً لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية فذهب فوجده يغتسل في ماء فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله فرآه مجبوباً فتركه ورجع إلى النبي () وأخبره بذلك ، والقصة مشهورة وهذا معناه قلت وقد أخرج مسلم وغيره ما حكاه الماتن ، وذكره جمع من أهل السير .

وتحرم الشفاعة في الحدود لما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر عن النبي () قال: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره وفي الصحيحين من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي () له : أتشفع في حد من حدود الله وفي لفظ لا أراك تشفع في حد من حدود الله وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الحاكم وابن الجارود أن النبي () قال له لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه : هلا كان قبل أن تأتيني به وفي الباب أحاديث .

ويحفر للمرجوم إلى الصدر لكونه () أمر بأن يحفر للغامدية إلى صدرها وهو في صحيح مسلم وغيره أنه حفر لماعز حفرة ثم أمر به فرجم كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز . وأخرجها أحمد وزاد فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه اعترف رجل بالزنا فقال له رسول الله () : أحصنت قال نعم فأمر برجمه ، فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ وقد ثبت في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال : لما أمرنا رسول الله () أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ويؤيد هذا ما وقع في حديث غيره أنه هرب كما تقدم ، ولكن ترك الحفر له لا ينافي ثبوت مشروعية الحفر قال ابن القيم : بعد تخريج حديث ماعز المتقدم بألفاظ وكل هذه الألفاظ صحيحة ، وفي بعضها أنه أمر فحفرت له حفيرة ذكرها مسلم وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر . وإن كان مسلم روي له في الصحيح فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم قد تكلما فيه ، وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية فسرى إلى ماعز والله تعالى أعلم انتهى .

أقول : وجمع بين الحديثين بأنه فد كان حفر له حفرة صغيرة ثم خرج منها ورجموه وهو قائم كما تدل عليه رواية أبي سعيد وأما الحفر للمرأة فثابت ، وقد اختلف في مشروعيته والحق أنه مشروع .

ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره أن النبي () جاءته امرأة من غامد من الأزد فقال طهرني يارسول الله فقال : ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال : وما ذاك قالت : إني حبلى من الزنا قال : أنت ؟ قالت : نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي () فقال : قد وضعت الغامدية فقال : إذن لا نرجمها وندع ولدها صغير السن ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله قال فارجمها وأخرج مسلم وغيره من حديث عمران ابن حصين أن امرأة جهينة أتت النبي () وهي حبلى من الزنا فقالت : يارسول الله أصبت حداً فأقمه علي فدعا نبي الله () وليها فقال : أحسن إليها فإذا وضعت فأتني ففعل فأمر بها رسول الله () فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت الحديث . وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم . وقد اختلفت الروايات ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة وفي بعضها أن النبي صلى الله تعالى عليها وآله وسلم أخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك فرجمت وقد جمع بينهما مجموعات .

ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه لحديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها . فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله () وكان ذلك الرجل مسلماً فقال : اضربوه حده . قالوا يا رسول الله : إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال : خذوا له عثكالاً فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة قال : ففعلوا وراه أحمد وابن ماجة والشافعي والبيهقي ورواه الدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري . ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار . وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه وإسناد الحديث حسن . وقد أخرج مسلم وغيره من حديث علي قال : إن أمة لرسول الله () زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت أن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي () فقال : أحسنت اتركها حتى تماثل وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول بأن المريض إذا كان مرضه مرجواً أمهل كما في الحديث الآخر وإن كان مأيوساً جلد كما في الحديث الأول . وقد حكى في البحر الإجماع على أنه تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو ، فإن كان مأيوساً فقال أصحاب الشافعي : أنه يضرب بعثكول إن احتمله .

ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكراً وكذلك المفعول به إذاً كان مختاراً لحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي قال : قال رسول الله () من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قال ابن حجر : رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافاً . وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي () قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أولم يحصنا وإسناده ضعيف . قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله () أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال : اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى . وأخرج البيهقي عن علي أنه رجم لوطياً قال الشافعي : وبهذا نأخذ نرجم اللوطي محصناً كان أو غير محصن . وأخرج البيهقي أيضاً عن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله () عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولاً علي ابن أبي طالب قال : هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أنه نحرقه بالنار ، فاجتمع أصحاب رسول الله () على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية يرجم . وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضاً أنه سئل عن حد اللوطي فقال : ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منسكاً ثم يتبع الحجارة وقد إختلف أهل العلم في عقوبة اللواط بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر ، فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكراً سواء كان فاعلاً أو مفعولاً به وإليه ذهب الشافعي . وحكى صاحب شفاء الأوام إجماع الصحابة على القتل . وحكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحق أنه يرجم محصناً كان أو غير محصن . وروي عن النخعي أنه قال لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي . وقال المنذري حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك . وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني . وقال الشافعي في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصناً رجم وإلا جلد وغرب . وحد المفعول به الجلد والتغريب وفي قول كالفاعل ، وفي قول يقتل الفاعل والمفعول به . وقال أبو حنيفة : يعزر باللواط ولا يجلد ولا يرجم .

أقول : قد صح عن النبي () الأمر بقتل الفاعل والمفعول به . وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير فرق بين بكر وثيب ، ووقع ذلك في عصرهم مرات ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرىء مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين ، وكان في ذلك الزمن الحق مقبول من كل من جاء به كائناً من كان ، فإن اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزاني ، فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل سواء كان محصناً أو غير محصن ، وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي .

ويعزر من نكح بهيمة لكون الحديث المروي عن ابن عباس أن النبي () قال : من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقد روي الترمذي وأبو داود من حديث أبي رزين عن ابن عباس أنه قال : من أتى بهيمة فلا حد عليه وقال : أنه أصح من الحديث الأول . قال : والعمل على هذا عند أهل العلم . وقد روى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل ولكن في إسناده عبد الغفار . قال ابن عدي : أنه رجع عنه وذكر أنهم كانوا لقنوه ، وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر . ووقع الخلاف بين أهل العلم فقيل : يحد الزاني وقيل : يعزر فقط إذ ليس بزنا وقيل يقتل . ووجه ما ذكرنا من التعزير أنه فعل محرماً مجمعاً عليه فاستحق العقوبة بالتعزير وهذا أقل ما يفعل به .

والحاصل : أن من وقع على بهيمة فقد ورد ما يدل على أنه يقتل ولكن لم يثبت ثبوتاً تقوم به الحجة ، ولا وقع من الصحابة مثل ما وقع في اللواط ، وفي النفس شئ من دخوله تحت أدلة الزنا العامة فالظاهر التعزير فقط من غير فرق بين بكر وثيب .

ويجلد المملوك نصف جلد الحر لقوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر . وقد أخرج عبد الله بن أحمد في المسند من حديث علي قال : أرسلني رسول الله () إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد فوجدتها في دمها فأخبرت بذلك رسول الله () ، فقال : إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين وهو في صحيح مسلم كما تقدم بدون ذكر الخمسين . وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش المخزومي قال : أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وذهب ابن عباس إلى أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكاً بقوله تعالى : فإذا أحصن الآية وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا الإسلام . قلت الإحصان في كلام العرب المنع ويقع في القرآن والسنة على الإسلام والحرية والعفاف والتزوج لأن الإسلام يمنعه عما لا يباح له وكذلك الحرية والعفاف والتزوج ، وقوله تعالى والمحصنات من النساء أراد المزوجات . وقوله تعالى : أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم أراد به الحرائر . وقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات أراد العفاف . وقوله تعالى : محصنين غير مسافحين أراد المتزوجين . وقوله تعالى : فإذا أحصن أي تزوجن وعلى هذا أهل العلم .

ويحده سيده أو الإمام لعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد ، ولحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي () قال : إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فليجدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحل من شعر وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه جماعة من السلف . قال الشافعي : للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان . وقال أبو حنيفة : يرفعه المولى إلى السلطان ولا يقيمه بنفسه

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الحدود
باب حد الزاني | باب السرقة | باب حد القذف | باب حد الشرب | بيان أن المعاصي التي لا توجب حداً يجب فيها التعزيز | باب حد المحارب | باب من يستحق القتل حداً